المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب   وهو حاشية الطيبي على الكشاف   للإمام - فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) - جـ ١٥

[الطيبي]

فهرس الكتاب

فتوح الغيب

في الكشف عن قناع الريب

وهو حاشية الطيبي على الكشاف

للإمام شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي

المتوفى سنة 743 هـ رحمه الله تعالى

الجزء الخامس عشر

تفسير السور من الذاريات إلى نهاية الحاقة

ص: 4

‌سورة الذاريات

مكية، وهي ستون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلاتِ وقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وإنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} 1 - 6]

{وَالذَّارِيَاتِ} الرياح، لأنها تذرو التراب وغيره. قال الله تعالى:{تَذْرُوهُ الرِّيحُ} ، وقرئ بإدغام التاء في الذال، {فَالْحَامِلاتِ وقْرًا} السحاب، لأنها تحمل المطر. وقرئ:(وقرا) بفتح الواو على تسمية المحمول بالمصدر. أو على إيقاعه موقع حملا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الذاريات

مكية، وهي ستون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (وقرئ بإدغام التاء في الذال) أبو عمرو وحمزة.

قوله: ("وقرًا" بفتح للواو) هي شاذة. الجوهري: الوقر بالفتح: الثقل في الأذن، وبالكسر: الحمل.

قوله: (أو على إيقاعه موقع حملًا) فيكون مفعولًا مطلقًا لا من لفظه، وعلى الأول مفعولًا به.

ص: 5

{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} الفلك. ومعنى {يُسْرًا} : جريا ذا يسر، أي: ذا سهولة، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} الملائكة، لأنها تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها. أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك. وعن مجاهد: تتولى تقسيم أمر العباد: جبريل للغلظة، وميكائيل للرحمة، وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل للنفخ.

وعن علي رضي الله عنه أنه قال وهو على المنبر: سلوني قبل أن لا تسألوني، ولن تسألوا بعدي مثلي، فقام ابن الكواء فقال: ما الذاريات ذروا؟ قال: الرياح. قال: فالحاملات وقرا؟ قال: السحاب. قال: فالجاريات يسرا؟ قال: الفلك. قال: فالمقسمات أمرًا؟ قال: الملائكة. وكذا عن ابن عباس.

وعن الحسن: "المقسمات": السحاب، يقسم الله بها أرزاق العباد، وقد حملت على الكواكب السبعة، ويجوز أن يراد: الرياح لا غير؛ لأنها تنشئ السحاب وتقله وتصرفه، وتجري في الجو جريا سهلا، وتقسم الأمطار بتصريف السحاب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو تفعل التقسيم مأمورة) جعل أمرًا حالًا وأضمر المفعول به؛ ليكون على وزان يمنع ويعطي، وعلى الأول أمرًا مفعولًا به على العموم، والأمر بمعنى الشأن.

قوله: (وقد حملت على الكواكب السبعة)، قلت: هذا القول مردود، وقد ورد في النهي عن أمثال هذا الكلام أحاديث صحيحة عن الثقات، ولم يذكره أيضًا أحد من المفسرين مثل الواحدي ومحيي السنة وصاحب "التيسير" و"المطلع" والكواشي والقاضي. وقال الزجاج: المفسرون جميعًا يقولون بقول علي رضي الله عنه، وأما الإمام فقال بعد ما نقل

ص: 6

فإن قلت: ما معنى الفاء على التفسيرين؟

قلت: أما على الأول؛ فمعنى التعقيب فيها أنه تعالى أقسم بالرياح، فبالسحاب الذي تسوقه، فبالفلك التي تجريها بهبوبها، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق بإذن الله من الأمطار وتجارات البحر ومنافعه.

وأما على الثاني: فلأنها تبتدئ بالهبوب، فتذرو التراب والحصباء، فتنقل السحاب، فتجري في الجو باسطة له، فتقسم المطر.

{إنَّمَا تُوعَدُونَ} جواب القسم، وما موصولة أو مصدرية، والوعود: البعث. ووعد صادق: كعيشة راضية. والدين: الجزاء. والواقع: الحاصل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قول علي رضي الله عنه: الأقرب أن تحمل هذه الصفات الأربع على الرياح؛ فالذاريات: هي التي تنشئ السحاب. والحاملات: هي التي تحملها، والجاريات: هي التي تجري بها، والمقسمات: هي التي تفرق الأمطار على الأقطار، ولم يذكر هذا القول أصلًا، والعجب كيف ذهل مع ديانته عن هذا النقل؟ ! وسيجيء الكلام فيه في النازعات مستوفى.

قوله: (ما معنى الفاء على التفسيرين؟ ) أحدهما: أن يراد بالمذكورات الذوات المختلفة، وثانيهما: أن يراد صفات الرياح لا غير. قال القاضي: إن حملت الذاريات فالحاملات فالجاريات فالمقسمات على ذوات مختلفة، فالفاء لترتب الإقسام بها، باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة، وإلا فالفاء لترتب الأفعال، إذ الريح مثلًا تذرو الأبخرة إلى الجو حتى تنعقد سحابًا فتحمله فتجري به باسطة له إلى حيث يقسم المطر.

ص: 7

[{والسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ * إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} 7 - 9]

{الحُبُكِ} الطرائق، مثل حبك الرمل والماء: إذا ضربته الريح، وكذلك حبك الشعر: آثار تثنيه وتكسره. قال زهير:

مكلل بأصول النجم تنسجه .... ريح خريق لضاحي مائه حبك

والدرع محبوكة: لأن حلقها مطرق طرائق. ويقال: إن خلقة السماء كذلك. وعن الحسن: حبكها: نجومها. والمعنى: أنها تزينها كما تزين الموشى طرائق الوشي. وقيل: حبكها: صفاتها وإحكامها، من قولهم: فرس محبوك المعاقم؛ أي محكمها. وإذا أجاد الحائك الحياكة قالوا: ما أحسن حبكه، وهو جمع حباك، كمثال ومثل، أو حبيكة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قال زهير) يصف بركة مزينة لظهور النجم فيها، لصفائها وسعة أرجائها:

حتى استغاثت بماء لا رشاء له .... من الأباطح في حافاتها البرك

مكلل بأصول النجم ينسجه .... ريح خريق لضاحي مائه حبك

مكلل: أي ملبس إكليلًا، سحاب مكلل: أي ملمع بالبرق، وقيل: هو الذي حوله قطع من الغيم، خريق: بالخاء المعجمة: باردة شديدة الهبوب، ضاحية كل شيء: ناحيته البارزة، مكان ضاح؛ أي: بارز.

قوله: (لأن خلقها مطرق طرائق) قال القاضي: هي الطرائق المحسوسة، أي: بالنجوم والمجرة، أو المعقولة التي يسلكها النظار، ويتوصل بها إلى المعارف.

قوله: (محبوك المعاقم) الجوهري: المعاقم من الخيل: المفاصل، واحدها معقم.

ص: 8

كطريقة وطرق. وقرئ: (الحبك) بوزن القفل. و (الحبك)، بوزن السلك. و (الحبك)، بوزن الجبل. و (الحبك) بوزن البرق. و (الحبك) بوزن النعم. و (الحبك) بوزن الإبل.

{إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} قولهم في الرسول: ساحر وشاعر ومجنون، وفي القرآن: شعر وسخر وأساطير الأولين. وعن الضحاك: قول الكفرة لا يكون مستويا، إنما هو متناقض مختلف. وعن قتادة: منكم مصدق ومكذب، ومقر ومنكر.

{يُؤْفَكُ عَنْهُ} الضمير للقرآن أو الرسول، أي: يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "الحبك") القراءات، نسبها ابن جني إلى الحسن، وقال: جميعها: طرائق الغيم، وأثر حسن الصنعة فيه.

قال الزجاج: الحبك في اللغة: ما أجيد عمله، وكل ما تراه من الطرائق في الماء وفي الرمل إذا أصابته الريح، واحداها حباك مثل: مثال ومثل، أو حبيكة مثل: طريقة وطرق

قوله: (قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم: ساحر وشاعر ومجنون، وفي القرآن: شعر وسحر وأساطير)

قال القاضي: ولعل النكتة في هذا القسم؛ تشبيه أقوالهم في اختلافها وتباين أغراضها، بطرائق السموات في تباعدها واختلاف غاياتها.

قوله: (الضمير للقرآن أو الرسول) يعني: في {عَنْهُ} ، وما دل عليه قوله:{لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} وتفسيره قولهم في الرسول: ساحر وشاعر ومجنون وفي القرآن: شعر وسحر وأساطير.

قوله: (أي يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه)، الانتصاف:

ص: 9

كقوله: لا يهلك على الله إلا هالك. وقيل: يصرف عنه من صرف في سابق علم الله، أي: علم فيما لم يزل أنه مأفوك عن الحق لا يرعوي. ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين: أقسم بالذاريات على أن وقوع أمر القيامة حق، ثم أقسم بالسماء على أنهم في قول مختلف في وقوعه، فمنهم شاك، ومنهم جاحد. ثم قال: يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك.

ووجه آخر: وهو أن يرجع الضمير إلى {قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} ، وعن مثله في قوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنما دل النظم على هذا، لأن قوله:{يُصْرَفُ عَنْهُ} ، دال على من صرف، كأنك قلت: لا يثبت الصرف في الحقيقة إلا لهذا، وكل صرف دونه كلا صرف.

الراغب: رجل مأفوك: مصروف عن الحق إلى الباطل، وأفك يؤفك؛ صرف عقله، ورجل مأفوك العقل، وقيل:{يُؤْفَكُ} كلام مبتدأ، وفيه تعجب، وقال صاحب "التيسير": يصرف عن الإيمان من صرف عن كل خير وسعادة.

وقلت: يصرف عن القرآن من ثبت له الصرف الحقيقي، وذلك من إطلاق "صرف" وجعله بمنزلة يمنع ويعطي.

قوله: (لا يهلك على الله إلا هالك) وعن بعضهم: أي: لا يحرم من رحمة الرحمن الرحيم إلا من كان هالكًا في غاية ليس وراءها وراء.

المغرب: يقال: هلك الشيء في يده: إذا تغير صنعه، وهلك على يده: إذا استهلكه؛ كأنه قاسه على قولهم: قتل فلان على يد فلان، ومات في يده، ولا يقال: مات على يده.

قوله: (ويجوز أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين) عطف على قوله: الضمير

ص: 10

ينهون عن أكل وعن شرب

أي: يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب، وحقيقته: يصدر تناهيهم في السمن عنهما، وكذلك يصدر إفكهم عن القول المختلف.

وقرأ سعيد بن جبير: (يؤفك عنه من أفك) على البناء للفاعل، أي: من أفك الناس عنه؛ وهم قريش، وذلك أن الحي كانوا يبعثون الرجل ذا العقل والرأي ليسأل عن رسول الله، فيقولون له: احذره، فيرجع فيخبرهم. وعن زيد بن علي:(يأفك عنه من أفك)، أي: يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه. وعنه أيضا: (يأفك عنه من أفك)، أي: يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب. وقرئ: (يؤفن عنه من أفن) أي: يحرمه من حرم، من أفن الضرع: إذا نهكه حلبا.

[{قُتِلَ الخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} 10 - 14]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للقرآن وينصره الكلام السابق، وهو قوله:{وإنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} ، واللاحق وهو قوله:{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} .

قوله: (ينهون عن أكب وعن شرب)، تمامه:

مثل المها يرتعن في خصب

جمل ناه: إذا كان غريقًا في السمن. والضمير في قوله: ينهون يعود إلى الجماعة، ومن ظن أنه يعود إلى النوق أخطأ، فإنه لو كان كذلك لقال: ينهين.

قوله: (من هو أفاك كذاب) هذه المبالغة إنما يقيدها مقام مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: لا يصرف الناس عن مثل هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق إلا من هو مبالغ في الكذب، متناه فيه، وهو نحو قوله السابق: لا يهلك على الله إلا هالك، أي هالك، أي هالك!

ص: 11

{قُتِلَ الخَرَّاصُونَ} دعاء عليهم، كقوله تعالى:{قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] وأصله الدعاء بالقتل والهلاك، ثم جرى مجرى: لعن وقبح. والخراصون: الكذابون المقدرون ما لا يصح، وهم أصحاب القول المختلف، واللام إشارة إليهم، كأنه قيل: قتل هؤلاء الخراصون. وقرئ: (قتل الخراصين) أي: قتل الله. {فِي غَمْرَةٍ} : في جهل يغمرهم؛ {سَاهُونَ} : غافلون عما أمروا به {يَسْأَلُونَ} فيقولون: {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي: متى يوم الجزاء. وقرئ بكسر الهمزة وهي لغة.

فإن قلت: كيف وقع أيان ظرفا لليوم، وإنما تقع الأحيان ظروفا للحدثان؟

قلت: معناه: أيان وقوع يوم الدين.

فإن قلت: فبم انتصب اليوم الواقع في الجواب؟

قلت: بفعل مضمر دل عليه السؤال، أي: يقع يوم هم على النار يفتنون، ويجوز أن يكون مفتوحا لإضافته إلى غير متمكن وهي الجملة.

فإن قلت: فما محله مفتوحا؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (واللام إشارة إليهم) أي: التعريف في الخراصون للعهد الخارجي التقديري لما يعرف من قوله: {إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} جماعة كذابون خراصون.

قوله: (كيف وقع أيان ظرفًا لليوم) أي: أيان يسأل بها عن الحدث، كما تقول: أيان المجيء؟ أيان القدوم؟ فيجاب: يوم الجمعة، أو شهر كذا.

قوله: (لإضافته إلى غير متمكن) قال الزجاج: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ} لفظة نصب، ومعناه معنى الرفع، لأنه مضاف إلى جملة، تقول يعجبني يوم أنت قائم ويوم أنت تقوم.

ص: 12

قلت: يجوز أن يكون محله نصبا بالمضمر الذي هو يقع؛ ورفعا على: هو يوم هم على النار يفتنون. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع، {يُفْتَنُونَ}: يحرقون ويعذبون. ومنه الفتين: وهي الحرة؛ لأن حجارتها كأنها محرقة.

{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} في محل الحال، أي: مقولا لهم هذا القول {هَذَا} مبتدأ، و {الَّذي} خبره، أي: هذا العذاب هو الذي {ُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} ، ويجوز أن يكون هذا بدلا من فتنتكم؛ أي: ذوقوا هذا العذاب.

[{إنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ والْمَحْرُومِ} 15 - 19]

{آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} قابلين لكل ما أعطاهم راضين به، يعني أنه ليس فيما آتاهم إلا ما هو ملتقى بالقبول مرضي غير مسخوط، لأن جميعه حسن طيب. ومنه قوله تعالى:{وَيَاخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] أي: يقبلها ويرضاها، {ُحْسِنِينَ} قد أحسنوا أعمالهم، وتفسير إحسانهم ما بعده. {مَا} مزيدة. والمعنى: كانوا يهجعون في طائفة قليلة من الليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هو يوم هم على النار يفتنون) ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف، أي: يوم هم على النار يفتنون وقت وقوع يوم الدين.

قوله: (وهي الحرة) الحرة: أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنها احترقت بالنار.

قوله: (قابلين لكل ما أعطاهم راضين به) فسر الأخذ بالقبول والرضى، لأن لفظ الأخذ فيه دلالة على أن المطلوب مرغوب فيه، وفيه تلويح إلى ما ورد عن الصادق المصدوق أن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: "يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في

ص: 13

إن جعلت {قَلِيلًا} ظرفًا، ولك أن تجعله صفة للمصدر، أي: كانوا يهجعون هجوعا قليلا. ويجوز أن تكون {مَا} مصدرية أو موصولة؛ على: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، أو ما يهجعون فيه، وارتفاعه بـ {قَلِيلًا} على الفاعلية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى يا ربنا وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا"، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي سعيد الخدري.

شبه حلول الرضوان على السعداء وقابليتهم إياه، وهو معقول بإعطاء ما يتناولون باليد، وهو محسوس، مبالغة في الحصول، وتصويرًا لحالة الأخذ والإعطاء، وإبرازه في صورة اسم الفاعل، للدلالة على الدوام والاستمرار، رزقنا الله حلول رضوانه بفضله وكرمه، لأنا لسنا من المحسنين، الذين كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للسائل والمحروم.

قوله: (ويجوز أن تكون {مَا} مصدرية أو موصولة)، الانتصاف: جعلها مصدرية يوجب أن يكون {قَلِيلًا} واقعًا على الهجوع؛ لأنه فاعله.

وقوله: (من الليل)، لا يكون صفة للقليل، ولا بيانًا له، ولا من صلة المصدر لتقدمه عليه، ولا كذلك على أنها موصولة، فإن {قَلِيلًا} حينئذ واقع على الليل، كأنه قال: قليلًا المقدار الذي كانوا يهجعونه من الليل، فلا مانع أن يكون {مِنَ الَّليْلِ} بيانًا للقليل وهذا أيضًا ذكره الزجاج، ومنع الزمخشري نصب {قَلِيلًا} بـ {يَهْجَعُونَ} ، لأنه لا يتقدم معمول "ما" بعد النفي عليه.

ص: 14

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإنصاف: ويفسده من حيث المعنى أن طلب قيام جميع الليل غير مستثنى عنه وقت الهجوع، ولم يرد به الشرع، وقال الزجاج: المعنى: كانوا يهجعون قليلًا من الليل، أي: ينامون قليلًا منه، وجائز أن تكون "ما" مؤكدة لغوًا، وجائز أن تكون مع ما بعدها مصدرًا، المعنى: قليلًا من الليل هجوعهم.

وقال أبو البقاء: {كَانُوا قَلِيلًا} في خبر "كان" وجهان: أحدهما: {مَا يَهْجَعُونَ} ، وفي {مَا} على هذا وجهان. أحدهما: هي زائدة، أي كانوا يهجعون قليلًا، و {قَلِيلًا}: نعت لظرف أو مصدر، أي: زمنًا قليلًا، أو هجوعهم قليلًا، والثاني:"ما" نافية، ذكره بعض النحويين، ورد لأن النفي لا يتقدم عليه ما في حيزه، والثاني: أن {قَلِيلًا} خبر "كان"، و {مَا} مصدرية، أي: كانو قليلًا هجوعهم، كما نقول: كانوا يقل هجوعهم، ويجوز على هذا أن يكون {مَا يَهْجَعُونَ} بدلًا من اسم كان بدل الاشتمال، و {مِّنَ اللَّيْلِ} لا يجوز أن يتعلق بـ {يَهْجَعُونَ} على هذا لما فيه من تقديم معمول المصدر عليه، وإنما هو منصوب على التبيين ومتعلق بفعل محذوف يفسره {يَهْجَعُونَ}. وقال بعضهم: تم الكلام عند قوله {قَلِيلًا} ، ثم استأنف فقال:{مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} ، وفيه بعد لأنك إن جعلت {مَا} نافية فسد لما ذكرنا، وإن جعلتها مصدرية لم يكن فيه مدح لأن الناس يهجعون في الليل.

الانتصاف: قال الزمخشري: وفي الآية مبالغات، لفظ الهجوع وهو القليل من النوم، وقوله:{قَلِيلًا} ، وقوله:{مِّنَ اللَّيْلِ} ، ومنها زيادة "ما" المؤكدة في بعض الوجوه، وفي الأخير نظر، فإن "ما"

ص: 15

وفيه مبالغات: لفظ الهجوع، وهو الغرار من النوم. قال:

قد حصت البيضة رأسي فما .... أطعم نوما غير تهجاع

وقوله: {قَلِيلًا} و {مِّنَ اللَّيْلِ} لأن الليل وقت السبات والراحة، وزيادة {مَا} المؤكدة لذلك. وصفهم بأنهم يحيون الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. وقوله:{هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرين، فكأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه.

فإن قلت: هل يجوز أن تكون {مَا} نافية كما قال بعضهم، وأن يكون المعنى: أنهم لا يهجعون من الليل قليلا، ويحيونه كله؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تؤكد الهجوع وتحققه لا أنها تجعله معنى القلة.

الإنصاف: بل تؤكد ما سبقها، وقو قوله: قليلًا، أو تحقق أن الهجوع قليل ومحقق أنه قليل.

وقلت: الظاهر أنها تؤكد المضمون؛ لأن الإشارة بقوله: "لذلك" جميع ما سبق، مما يعطيه معنى الهجوع من قلة النوم، ولفظ قليل مما وضع له، وتخصيص ذكر الليل من إرادة الراحة.

قوله: (وهو الغرار)، الجوهري: الغرار: النوم القليل.

الراغب: الغرة: غفلة مع غفوة.

قوله: (قد حصت البيضة) البيت، الحص، أي: زال شعر رأسي باعتياد لبس المغفر، البيت لأبي قيس بن الأسلت وبعده:

أسعى على جل بني مالك .... كل امرئ في شأنه ساع

ص: 16

قلت: لا، لأن "ما" النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. تقول: زيدا لم أضرب، ولا تقول: زيدا ما ضربت.

السائل: الذي يستجدي، {والْمَحْرُومِ} الذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان" قالوا: فما هو؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تقول: زيدًا لم أضرب، ولا تقول: زيدًا ما ضربت) قال شارح "الهادي": يجوز تقديم منصوب الأفعال الناقصة الواجبة على اسمها بلا خاف، لأنها أفعال متصرفة واجبة، قال تعالى:{وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 177] وهو دليل جواز تقديم الخبر، وأما ما أوله "ما" النافية وهي: ما زال، وما برح، وما فتئ، فمنع البصريون تقديم خبرها عليها، لأن النفي كالاستفهام له صدر الكلام، فلا يتقدم ما في حيزه عليه، وأجاز الكوفيون وابن كيسان؛ لأن الكلام إيجاب لدخول حرف النفي على الأفعال التي معناها النفي، ويجوز ذلك مع: لم ولا ولن؛ لأن لن ولم كالجزء من الفعل لاختصاصهما به، وأما "لا" فإنها كثيرة التصرف، تدخل على المعرفة والنكرة ويتخطاها العامل، وتعمل فيما بعدها، كقولك: خرجت بلا زاد، وعوقبت بلا جرم، فتعمل فيما قبلها، وقال أيضًا:"لا أفعل" نقيض "أفعل غدًا"، فكما جاز: زيدًا أرى غدًا، أو أراه، جاز: زيدًا لا أرى، ولا أراه، و"لم أفعل" نقيض:"سوف أفعل"، فكما جاز: أخاك سوف أزور، وسوف أزوره، جاز: أخاك لن أزور، ولن أزوره.

قوله: (ليس المسكين) عن البخاري ومسلم وأبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي

ص: 17

قال: "الذي لا يجد ولا يتصدق عليه" وقيل: الذي لا ينمى له مال. وقيل: المحارف الذي لا يكاد يكسب.

[{وفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 20 - 21]

{وفِي الأَرْضِ آيَاتٌ} تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره، حيث هي مدحوة كالبساط لما فوقها، كما قال:{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا} [طه: 53]، وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها والماشين في مناكبها، وهي مجزأة؛ فمن سهل وجبل وبر وبحر، وقطع متجاورات؛ من صلبة ورخوة، وعذاة وسبخة؛ وهي كالطروقة تلقح بألوان النبات وأنواع الأشجار بالثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح تسقى بماء واحد،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يجد غنًى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس".

قوله: (لا ينمى له مال) يحتمل أن يتمسك به الشافعي، أي: له مال، ولكن لا ينمى، وأبو حنيفة: ليس له مال حتى ينمة، نحوه قوله:{وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18].

قوله: (المحارف)، الجوهري: رجل محارف بفتح الراء: أي محدود محروم، وهو خلاف قولك: مبارك، ورجل محارف: أي منقوص الحظ لا ينمو له مال.

قوله: (وعذاه)، الأساس: أودية ذات عذوات، وهي الأرضون الطيبة التربة الكريمة النبات.

قوله: (وهي كالطروقة)، الجوهري: الطروقة الفحل: أنثاه، ويقال: ناقة طروقة الفحل: التي بلغت أن يضربها الفحل.

ص: 18

{وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد: 4]، وكلها موافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم ومصالحهم في صحتهم واعتلالهم، وما فيها من العيون المتفجرة والمعادن المفتنة والدواب المنبثة في برها وبحرها المختلفة الصور والأشكال والأفعال: من الوحشي والإنسي والهوام، وغير ذلك.

{لِّلْمُوقِنِينَ} الموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة، فهم نظارون بعيون باصرة، وأفهام نافذة، كلما رأوا آية عرفوا وجه تأملها فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، وإيقانا إلى إيقانهم.

{وفِي أَنفُسِكُمْ} في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال، وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطر وبدائع الخلق: ما تتحير فيه الأذهان، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول وخصت به من أصناف المعاني، وبالألسن، والنطق، ومخارج الحروف، وما في تركيبها وترتيبها ولطائفها: من الآيات الساطعة والبينات القاطعة على حكمة المدبر، دع الأسماع والأبصار والأطراف وسائر الجوارح وتأتيها لما خلقت له، وما سوي في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني؛ فإنه إذا جسا شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ الذل، فتبارك الله أحسن الخالقين.

[{وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ومَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ والأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} 22 - 23]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وخصت به) عطف على ركز، والضمير في "به" راجع إلى "ما"، و "من أصناف المعاني" بيان ما خصت، و "بالألسن" عطف على "القلوب".

قوله: (جسا) أي: يبس، لأنه إذا يبس صلب، وسيجيء إن شاء الله بيان نظم الآيات عند قوله تعالى:{وفِي مُوسَى إذْ أَرْسَلْنَاهُ} .

ص: 19

{وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} هو المطر؛ لأنه سبب الأقوات. وعن سعيد بن جبير: هو الثلج وكل عين دائمة منه. وعن الحسن: أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقكم، ولكنكم تحرمونه لخطاياكم.

{ومَا تُوعَدُونَ} الجنة: هي على ظهر السماء السابعة تحت العرش، أو أراد: أن ما ترزقونه في الدنيا وما توعدون به في العقبى كله مكتوب في السماء.

قرئ: (مثل ما) بالرفع صفة للحق، أي: حق مثل نطقكم، وبالنصب على: إنه لحق حقا مثل نطقكم. ويجوز أن يكون فتحا لإضافته إلى غير متمكن، و"ما" مزيدة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ("مثل ما" بالرفع) أبو بكر وحمزة والكسائي، والباقون: بالنصب، قال أبو البقاء: الرفع على أنه نعت لـ"حق"، أو خبر ثان، أو على أنهما خبر واحد، مثل: حلو حامض، و"ما" زائدة على الأوجه الثلاثة، والفتح فيه وجهان أحدهما: وهو مغرب، وفيه أوجه، إما هو حال الضمير في حق، أو على إضمار أغنى، أو على أنه مرفوع الموضع، ولكنه فتح كما فتح الظرف في قوله:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] على قول الأخفش، و"ما" على هذه الأوجه زائدة أيضًا، والوجه الثاني: هو مبني، وفيه وجهان، أحدهما: أنه ركب مع "ما" كخمسة عشر، و"ما" على هذا يجوز أن تكون زائدة، وأن تكون نكرة موصوفة،

ص: 20

بنص الخليل، وهذا كقول الناس: إن هذا لحق، كما أنك ترى وتسمع، ومثل ما أنك ها هنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والثاني: أن تكون بنيت لأنها أضيفت إلى مبهم، وفيها نفسها إبهام كقوله:{وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66]، فتكون "ما" على هذا إما زائدة، وإما بمعنى شيء.

وأما "إنكم"، فيجوز أن يكون موضعها جرًا بالإضافة إذا جعلت "ما" زائدة، وأن تكون بدلًا منها إذا كانت بمعنى شيء، ويجوز أن تكون في موضع نصب بإضمار: أعني، أو رفع على تقدير: هو أنكم.

وقال الواحدي: ومن نصب جعل "مثل" مع "ما" بمنزلة شيء واحد، ذكر ذلك المازني وأبو علي، قال: ومثله قول حميد:

وويحًا لمن لم يدر ما هن ويحها

فبنى "ويح" مع "ما" ولم يلحقه التنوين.

قوله: (ومثل ما أنك هاهنا) قال الواحدي: شبه الله تعالى تحقق ما أخبر عنه بتحقق نطق الآدمي ووجوده، أي: أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة.

ص: 21

وهذا الضمير إشارة إلى ما ذكر من أمر الآيات والرزق وأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ أو إلى ما توعدون. وعن الأصمعي: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع. قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن. فقال: اتل علي، فتلوت {وَالذَّارِيَاتِ} فلما بلغت قوله تعالى:{وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر، فسلم علي واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا! ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ والأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ} ، فصاح وقال: يا سبحان الله! من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ ! لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤوه إلى اليمين؟ ! قالها ثلاثًا وخرجت معها نفسه.

[{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ * إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَاكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وجْهَهَا وقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إنَّهُ هُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ} 24 - 30]

{هَلْ أَتَاكَ} تفخيم للحديث وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله، وإنما عرفه بالوحي. والضيف للواحد والجماعة كالزور والصوم؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: إنما خص النطق دون سائر الأعمال الضرورية لكونه أبين وأظهر، ومن الاحتمال أبعد، وفيه إيماء إلى استجلاب رأس الشكر، قال: إنما جعل الحمد رأس الشكر؛ لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها أشبع لها من الاعتقاد وآداب الجوارح، لأن النطق يفصح عن كل خفي، ويجلي كل مشتبه.

ص: 22

لأنه في الأصل مصدر: ضافه. وكانوا اثني عشر ملكا وقيل: تسعة عاشرهم جبريل وقيل: ثلاثة: جبريل، وميكائيل، وملك معهما. وجعلهم ضيفا؛ لأنهم كانوا في صورة الضيف: حيث أضافهم إبراهيم. أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك. وإكرامهم: أن إبراهيم خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجل لهم القرى، أو أنهم في أنفسهم مكرمون. قال الله تعالى:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]

{إذْ دَخَلُوا} نصب بـ {المُكْرَمِينَ} إذا فسر بإكرام إبراهيم لهم؛ وإلا فبما في {ضَيْفِ} من معنى الفعل. أو بإضمار: اذكر.

{سَلامًا} مصدر ساد مسد الفعل مستغنى به عنه. وأصله: نسلم عليكم سلامًا، وأما {سَلامٌ} فمعدول به إلى الرفع على الابتداء. وخبره محذوف، معناه: عليكم سلام، للدلالة على ثبات السلام، كأنه قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به، أخذًا بأدب الله تعالى. وهذا أيضًا من إكرامه لهم. وقرئا مرفوعين، وقرئ:(سلامًا قال سلمًا)، والسلم: السلام. وقرئ: (سلامًا قال سلم).

{قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام، أو أراد أنهم ليسوا من معارفه أو من جنس الناس الذين عهدهم، كما لو أبصر العرب قومًا من الخزر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئا مرفوعين، وقرئ: "سلامًا") المشهورة: بالنصب، والرفع: شاذة، حمزة والكسائي:"قال سلم" بكسر السين وإسكان اللام، والباقون: بفتح السين واللام وألف بعدها.

قوله: (من الجرز) عن بعضهم: جيل من الناس، وهم الغز والأتراك.

ص: 23

أو رأى لهم حالًا وشكلًا خلاف حال الناس وشكلهم، أو كان هذا سؤالًا لهم، كأنه قال: أنتم قوم منكرون، فعرفوني من أنتم؟

{فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ} فذهب إليهم في خفية من ضيوفه؛ ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادره بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذرا من أن يكفه ويعذره.

قال قتادة: كان عامة مال نبي الله إبراهيم: البقر {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} . والهمزة في {أَلا تَاكُلُونَ} للإنكار: أنكر عليهم ترك الأكل. أو حثهم عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو كان هذا سؤالًا لهم) عطف على قوله: "أنكرهم للسلام الذي هو علم الإسلام"، يعني: أنه عليه السلام إما أن أنكرهم بقلبه، وقال في نفسه: هؤلاء قوم منكرون، أو كان هذا سؤالًا لهم، وقال بلسانه: أنتم قوم منكرون؟ ، وذلك أنه عليه السلام، كان بين أظهر قوم كفار، ما عهد منهم السلام الذي هو تحية للمسلمين، فلما سمع منهم أنكرهم.

نحوه ما روينا في "الصحيحين" أن موسى عليه السلام لما سلم عليه الخضر عليه السلام قال: أنى بأرضك السلام! أو بأرضي السلام؟ ! أو أراد أنهم ليسوا من معارفه، أو من جنس الناس الذين عهدهم، أو رأى لهم شكلًا خلاف شكل الناس، روى الواحدي: عن ابن عباس قال في نفسه: هؤلاء قوم لا نعرفهم.

قوله: ({فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ}: فذهب إليهم في خفية)، الراغب: الروغ: الميل على سبيل الاحتيال، ومنه راغ الثعلب يروغ روغانًا، وطريق رائغ إذا لم يكن مستقيمًا، كأنه يراوغ، وراغ فلان إلى فلان: مال نحوه لأمر يريد منه بالاحتيال، قال تعالى:{فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَاكُلُونَ} [الصافات: 91]، {فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93]، أي: احتال، وحقيقته طلب بضرب من الروغان، ونبه بـ"على" على معنى الاستعلاء.

ص: 24

{فَأَوْجَسَ} فأضمر. وإنما خافهم لأنهم لم يتحرموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءًا. وعن ابن عباس: وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب. وعن عون بن شداد: مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه.

{بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي يبلغ ويعلم. وعن الحسن، عليم: نبي، والمبشر به إسحاق، وهو أكثر الأقاويل وأصحها؛ لأن الصفة صفة سارة لا هاجر، وهي امرأة إبراهيم وهو بعلها. وعن مجاهد: هو إسماعيل.

{فِي صَرَّةٍ} في صيحة، من: صر الجندب، وصر القلم والباب، ومحله النصب على الحال، أي: فجاءت صارة. قال الحسن: أقبلت إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم، لأنها وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء، وقيل: فأخذت في صرة، كما تقول: أقبل يشتمني. وقيل: صرتها قولها: أوه! وقيل: يا ويلتا! وعن عكرمة: رنتها.

{فَصَكَّتْ} فلطمت ببسط يديها. وقيل: فضربت بأطراف أصابعها جبهتها؛ فعل المتعجب.

{عَجُوزٌ} أنا عجوز، فكيف ألد؟ !

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لم يتحرموا بطعامه) أي: لم يدخلوا في حرمة بأكل طعامه، الأساس: تحرم فلان بفلان، إذا عاشره ومالحه، وتأكدت الحرمة بينهما، وتحرمت بطعامك، ومجالستك، أي: حرم عليك مني بسببها ما كان لك أخذه.

قوله: (فقام يدرج) الأساس درج الشيخ والصبي درجانًا، وهو مشيهما.

قوله: (الجندب) الجوهري: الجندب: ضرب من الجراد.

قوله: (وجدت حرارة الدم) قال صاحب "المطلع": أي دم الحيض، كما قال تعالى:{فَضَحِكَتْ} .

ص: 25

{كَذَلِكِ} مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به، {قَالَ رَبُّكِ} أي إنما نخبرك عن الله، والله قادر على ما تستبعدين. وروي أن جبريل قال لها: انظري إلى سقف بيتك، فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة.

[{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المُرْسَلُونَ * قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَمَا وجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ * وتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العَذَابَ الأَلِيمَ} 31 - 37]

لما علم أنهم ملائكة، وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله رسلًا في بعض الأمور {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ} أي: فما شأنكم وما طلبكم؟

{إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} إلى قوم لوط.

{حِجَارَةً مِّن طِينٍ} يريد: السجيل، وهو طين طبخ كما يطبخ الآجر، حتى صار في صلابة الحجارة، {مُسَوَّمَةً} معلمة، من السومة، وهي العلامة على كل واحد منها اسم من يهلك به. وقيل: أعلمت بأنها من حجارة العذاب. وقيل: بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا. سماهم مسرفين، كما سماهم عادين، لإسرافهم وعدوانهم في عملهم: حيث لم يقنعوا بما أبيح لهم.

الضمير في {فِيهَا} للقرية، ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة. وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد، وأنهما صفتا مدح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفيه دليل على أن الإيمان والإسلام واحد) قال القاضي: وهو ضعيف، لأن ذلك لا يقتضي إلا صدق المؤمن والمسلم على من اتبعه، وذلك لا يقضي اتحاد مفهوميهما لجواز صدق المفهومات المختلفة على ذات واحدة.

ص: 26

قيل: هم لوط وابنتاه. وقيل: كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر. وعن قتادة: لو كان فيها أكثر من ذلك لأنجاهم، ليعلموا أن الإيمان محفوظ لا ضيعة على أهله عند الله.

{آيَةً} علامة يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم. قال ابن جريح: هي صخر منضود فيها. وقيل: ماء أسود منتن.

[{وفِي مُوسَى إذْ أَرْسَلْنَاهُ إلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ وهُوَ مُلِيمٌ} 38 - 40]

{وفِي مُوسَى} عطف على {وفِي الأَرْضِ آيَاتٌ} أو على قوله: {وتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} على معنى: وجعلنا في موسى آية، كقوله:

علفتها تبنًا وماءً باردا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: قوله: "وأنهما صفتا مدح" عطف تفسيري، ومعناه: أن ذكر المؤمنين والمسلمين هاهنا لمجرد المدح، وأن الثاني عين الأول لوقوعهما مقابلين لذكر الكافرين، فقيل أولًا: إلى قوم مجرمين، ثم للمسرفين، والثاني عين الأول وضعًا للمظهر موضع الضمير، المعنى: أردنا إخراج من كان فيها من المطيعين الكاملين في الإيمان، فما وجدنا غير بيت منهم، فقيل: من المسلمين، ولو لم يكن الإسلام داخلًا في مفهوم الإيمان لما صح استثناء بيت من المسلمين من قوله:{فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ} .

قوله: ({وفِي مُوسَى} عطف على {وفِي الأَرْضِ آيَاتٌ}) إشارة إلى بيان نظم الآيات، وذلك أنه تعالى لما ذم الخراصين الأفاكين، ووصفهم لما به أوقعوا أنفسهم في تلك الورطات، وهو أنهم في غمرات الجهل، وسكرات السهو، يتورطون فيما لا يعنيهم من السؤال عن أيان

ص: 27

{فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} فازور وأعرض، كقوله تعالى:{وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [فصلت: 51]، وقيل: فتولى بما كان يتقوى به من جنوده وملكه. وقرئ: (بركنه)، بضم الكاف. {وقَالَ سَاحِرٌ} أي هو ساحر.

{مُلِيمٌ} آت بما يلام عليه من كفره وعناده، والجملة مع الواو حال من الضمير في {فَأَخَذْنَاهُ} .

فإن قلت: كيف وصف نبي الله يونس صلوات الله عليه، بما وصف به فرعون في قوله تعالى:{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142]؟

قلت: موجبات اللوم تختلف وعلى حسب اختلافها تختلف مقادير اللوم، فراكب الكبيرة ملوم على مقدارها، وكذلك مقترف الصغيرة. ألا ترى إلى قوله تعالى:{وَعَصَوْا رُسُلَهُ} [هود: 59]، {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ} [طه: 121] لأن الكبيرة والصغيرة يجمعهما اسم العصيان، كما يجمعهما اسم القبيح والسيئة.

[{وفِي عَادٍ إذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} 41 - 42]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الساعة، مع إنكار مجيئها والامتناع من الاستعداد لها، وأوعدهم على ذلك بقوله:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} وجعله مخلصًا إلى ذكر أضدادهم، وذكر ما به فازوا إلى النعيم المقيم، من أخذ التأهب للمعاد، والتهيؤ لاستعداد زاد يوم التناد، أتى بعد ذلك بدليل للآفاق والأنفس، تنبيهًا لهم، وإيقاظًا من سنة الغفلة، وعطف عليه قصة موسى وفرعون اتعاظًا وتخويفًا، وأما قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام، فمعترضتان بين المعطوف والمعطوف عليه، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من تكذيبهم، ووعدًا له بإهلاك أعدائه الأفاكين كما أهلك قوم لوط.

قوله: ({فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} فازور وأعرض) قال بعضهم: أي حرف ركنه وهو منكبه، والباء للتعدية، وحذف المفعول لأنك تقول: تولى عنه، أي: أعرض عنه.

ص: 28

{العَقِيمَ} التي لا خبر فيها من إنشاء مطر أو إلقاح شجر، وهي ريح الهلاك.

واختلف فيها: فعن علي رضي الله عنه: النكباء. وعن ابن عباس: الدبور. وعن ابن المسيب: الجنوب. الرميم: كل ما رم أي: بلي وتفتت من عظم أو نبات أو غير ذلك.

[{وفِي ثَمُودَ إذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وهُمْ يَنظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ ومَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} 43 - 45]

{حَتَّى حِينٍ} تفسيره قوله: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} فاستكبروا عن امتثاله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من إنشاء مطر أو إلقاح شجر) إيذان بأن {العَقِيمَ} هاهنا مستعار للمعنى المذكور على سبيل التبعية، شبه ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر أو إلقاح شجر، لما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحمل، ثم قيل: العقيم، وأريد به ذلك المعنى بقرينة وصف الريح به.

الراغب: أصل العقم: اليبس المانع من قبول الأثر، تقول عقمت مفاصله، وداء عقام: لا يقبل البرء، والعقيم من النساء التي لا تقبل ماء الفحل، يقال: عقمت الرحم، وريح عقيم، يصح أن يكون بمعنى الفاعل، وهي التي لا تلقح سحابًا ولا شجرًا، وأن يكون بمعنى المفعول كالعجوز العقيم، وهي التي لا تقبل أثر الخير، وإذا لم تقبل ولم تتأثر لم تعط ولم تؤثر، ويوم عقيم: لا فرح فيه.

قوله: (النكباء) الجوهري: النكباء: الريح الناكبة التي تنكب عن مهاب الرياح، أي: تتجنب، من تنكبه، أي تجنبه، والدبور: الريح التي تقابل الصبا.

قوله: ({حَتَّى حِينٍ} تفسيره) أي: في موضع آخر، تفسيره قوله:{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65]، وفي الكبير: قال بعضهم: المراد هو ما أمهلهم الله تعالى أيامًا بعد عقرهم

ص: 29

وقرئ: (الصعقة) وهي المرة من مصدر صعقتهم الصاعقة، والصاعقة: النازلة نفسها، {وهُمْ يَنظُرُونَ} كانت نهارا يعاينونها.

وروي أن العمالقة كانوا معهم في الوادي ينظرون إليهم وما ضرتهم، {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ} كقوله تعالى:{فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} بالعنكبوت: 37] وقيل: هو من قولهم: ما يقوم به، إذا عجز عن دفعه. {مُنتَصِرِينَ} ممتنعين من العذاب.

[{وقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 46]

{وقَوْمَ} قرئ بالجر على معنى: وفي قوم نوح، وتقويه قراءة عبد الله:(وفي قوم نوح). وبالنصب على معنى: وأهلكنا قوم نوح؛ لأم ما قبله يدل عليه. أو واذكر قوم نوح.

[{والسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وإنَّا لَمُوسِعُونَ * والأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ} 47 - 48]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الناقة، وكانت لهم في تلك الأيام أنواع من الآيات، كتغيير ألوانهم واسوداد وجوههم، وهو ضعيف؛ لأن ترتب قوله:{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} بالفاء دليل على أن العتو كان بعد قوله: {تَمَتَّعُوا} . فإذن الظاهر هو ما قدر الله تعالى للناس من الآجال، فما من أحد إلا وهم ممهل مدة الأجل، يقال له: تمتع إلى آخر أجلك، فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين، وإلا ما لك في الآخرة من نصيب.

قوله: (وقرئ: "الصعقة")، الكسائي وحده.

قوله: ({وقَوْمَ} قرئ بالجر) أبو عمرو وحمزة والكسائي، والباقون بالنصب.

ص: 30

{بِأَيْدٍ} بقوة. والأيد والآد. القوة. وقد آد يئيد وهو أيد.

{وإنَّا لَمُوسِعُونَ} : لقادرون؛ من الوسع: وهو الطاقة. والموسع: القوي على الإنفاق.

وعن الحسن: لموسعون الرزق بالمطر. وقيل: جعلنا بينها وبين الأرض سعة {فَنِعْمَ المَاهِدُونَ} فنعم الماهدون نحن.

[{ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 49]

{ومِن كُلِّ شَيْءٍ} أي من كل شيء من الحيوان {خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ذكرًا وأنثى. وعن الحسن: السماء والأرض، والليل والنهار،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({وإنَّا لَمُوسِعُونَ}: لقادرون؛ من الوسع) اعتبر الوسع في القدرة والجود والمكان.

الراغب: ويستعمل في الأمكنة، وفي الحال وفي الفعل، كالقدرة والجود ونحو ذلك، ففي المكان قوله تعال:{إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56] وفي الحال قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] و {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، والوسع من القدرة ما يفضل عن قدر المكلف، قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] تنبيهًا على أنه يكلف عبده دوين ما ينوء به المكلف قدرته، وأما قوله تعالى:{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247]، {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130] فعبارة عن سعة علمه وقدرته. وقوله: {وإنَّا لَمُوسِعُونَ} فإشارة إلى نحو قوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].

وقلت: أراد أن قوله تعالى: {وإنَّا لَمُوسِعُونَ} تكميل لمعنى قوله: {والسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} إن فسر الأيد بالقوة، ليضم مع صفة القدرة، صفة الكرم، أو تتميم إن فسر بالإنعام، كما فرع قوله:{ثُمَّ هَدَى} على قوله: {أَعْطَى} ، ألا ترى إلى قرينتها:{والأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ}

ص: 31

والشمس والقمر، والبر والبحر، والموت والحياة؛ فعدد أشياء وقال: كا اثنين منها زوج، والله تعالى فرد لا مثل له.

{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي فعلنا ذلك كله من بناء السماء، وفرش الأرض، وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه.

[{فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * ولا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} 50 - 51]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كيف فرع {المَاهِدُونَ} على {فَرَشْنَاهَا} مزيدًا لإرادة الامتنان، فالمناسب إذن تفسير الحسن: لموسعون الرزق بالمطر، كقوله تعالى:{وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ومَا تُوعَدُونَ} .

قوله: (كل اثنين منها زوج والله تعالى فرد) قال أبو سعيد الخراز: أظهر معنى الربوبية والوحدانية، بأن خلق الأزواج لتخلص له الفردانية.

الراغب: يقال لكل من القرينتين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج، ولكل قرينتين فيها وفي غيرها: زوج، كالخف والنعل، ولكل ما يقرن بآخر مماثلًا له أو مضادًا: زوج، قال تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} [طه: 131] أي أشباهًا وأقرانًا. وقوله تعالى: {ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} تنبيه على أن كل ما في العالم، فإنه زوج من حيث أن له ضدًا ما، أو مثلًا ما، أو تركيبًا ما، بل لا ينفك بوجه من تركيب، وإنما قال:{زَوْجَيْنِ} ليؤذن بأن الشيء وإن لم يكن له ضد ولا مثل فإنه لا ينفك من تركيب، وذلك زوجان،

ص: 32

{فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ} أي إلى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه، ووحدوه ولا تشركوا به شيئا، وكرر قوله:{إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك، ليعلم أن الإيمان لا ينفع غلا مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، وأنه لا يفوز عند الله إلا الجامع بينهما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} [طه: 53] أي: أنواعًا متشابهة.

قوله: (ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل)، الانتصاف: حمل الزمخشري الآية على ما لم تحتمل، وليس في الآية إلا النهي عن التقصير والأمر بالمبادرة، وفائدة التكرار: التنبيه على أنه لا تنفع العبادة مع الإشراك، إذ حكم المشرك حكم الجاحد المعطل، أو المأمور به في الأول الطاعة الموظفة بعد الإيمان، فتوعد تاركها بالوعيد المعروف دون الخلود، فيكون وعيدًا مختلفًا لا تكرارًا.

وقلت: الآية من باب قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] بل دل الأول على الأمر بالاعتصام بالتوحيد، والثاني على النهي عن الإشراك، كقولنا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

روى محيي السنة عن سهل بن عبد الله: ففروا مما سوى الله إلى الله، وروى السلمي عن محمد بن حامد: حقيقة الفرار إلى الله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وألجأت ظهري إليك"، وقال أيضًا:"أعوذ بك"، وهذا غاية الفرار منه إليه.

ص: 33

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الواسطي: لن يصل إلى الله تعالى إلا من يفر من نفسه.

وأما قضية النظم فلما قلنا: إن قوله: {وفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وفِي أَنفُسِكُمْ} ، {وفِي مُوسَى} ، تعريض بالمكذبين الخراصين، فكان في قصص الأنبياء وإهلاك المعاندين تخويف شديد.

وفي قوله: {والسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} تذكير لشدة سطوته وكمال قدرته، فلما فرغ من ذلك، أمر حبيبه صلوات الله عليه وسلامه بأن يقول لقومه: إذا ظهر لكم شدة قهرة وكمال سطوته، وما فعل بالأمم المكذبة، وعرفتم كل ذلك، وإنه إذا أخذ لا يبقي ولا يذر، ففروا إلى الله من الله، واتركوا العناد، وخافوا سوء مغبة تكذيبكم، يدل عليه قوله:{إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} وتكريره إظهارًا للنصيحة وأنه النذير العريان، وقوله بعد ذلك:{مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ} وإن شئت علقت الفاء، في {فَفِرُّوا} بقوله:{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وعليه ظاهر كلام المصنف، ولكن تقرير ذلك أنه تعالى لما أظهر القهارية بإهلاك الأمم الماضية، وبين الفردانية بقوله:{ومِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ، ونبه على ذلك بقوله:{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ورتب عليه: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ} ، ووضع الاسم الجامع موضع الضمير، يعني: إذا تفكرتم واعتبرتم وتذكرتم، وتبين لكم أنه هو القهار الصمد، وإليه المرجع والملجأ فلوذوا إليه وتوكلوا عليه، ولا تشركوا به شيئًا، والعبادة من لوازم ذلك، ولذلك عقبه بقوله:{ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، وحين لم يكن ينجع في المشركين تلك المواعظ والتخويف والتذكير، رجع عودًا إلى بدء، بقوله:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} إلى آخره، مسليًا لحبيبه صلوات الله عليه، وجعل التخلص إلى المقصود من الخلق قوله:{وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} .

ص: 34

ألا ترى إلى قوله تعالى: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] والمعنى: قل يا محمد: ففروا إلى الله.

[{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 52 - 53]

{كَذَلِكَ} الأمر، أي مثل ذلك، وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحرًا ومجنونًا، ثم فسر ما أجمل بقوله:{مَا أَتَى} ، ولا يصح أن تكون الكاف منصوبة بـ {أَتَى}؛ لأن "ما" النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. ولو قيل: لم يأت، لكان صحيحًا، على معنى: مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلا قالوا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ألا ترى إلى قوله: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] الآية، قد ذكرنا في موضعه أن الآية دالة على خلاف ما قصد به، وأن المعنى:{يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} حينئذ، أو كسبها في إيمانها خيرًا حينئذ لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا من قبل، فهو من حذف إحدى القرينتين من اللف لدلالة النشر عليه.

قوله: (وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم يعني: المشار إليه ما في الذهن على الإبهام، وهو الأمر، لمجيء تفسيره، وهو قوله:{مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} .

قوله: (على معنى: مثل ذلك الإتيان لم يأت) متعلق بقوله: "لو قيل: لم يأت، لكان صحيحًا"، فإن قلت: لم أوثر في التنزيل "ما" على "لم"؟

ص: 35

{أَتَوَاصَوْا بِهِ} الضمير للقول، يعني: أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعًا متفقين عليه؟ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي: لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد، بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان، والطغيان هو الحامل عليه.

[{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ * وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} 54 - 55]

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة فلم يجيبوا، وعرفت عنهم العناد واللجاج، فلا لوم عليك في إعراضك بعدما بلغت الرسالة، وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة، ولا تدع التذكير والموعظة بأيام الله {وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} أي: تؤثر في الذين عرف الله منهم أنهم يدخلون في الإيمان. أو يزيد الداخلين فيه إيمانًا.

وروي أنه لما نزلت {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} حزن رسول الله واشتد ذلك على أصحابه، ورأوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر، فأنزل الله:{وذَكِّرْ} .

[{ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 56]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: ليؤذن بانفصال ما صدر بها على ما قبله واتصاله بقوله: {وفِي مُوسَى إذْ أَرْسَلْنَاهُ إلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} إلى آخر القصص، فلما وسط بينهما الحديث في بيان الآيات الدالة على التوحيد، ونفي الشرك والفرار إلى تعالى عما سواه، جيء بقوله الآمر كذلك فصلًا للخطاب، ليتخلص منه إلى ما سبق له الكلام، ولو أتى بـ"لم" لاختل النظم، وأما الكلام في بيان الفرق بين "ما" و "لم" فقد سبق.

قوله: (أي: لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا) يعني الإضراب بقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ، يستدعي أن يفسر {أَتَوَاصَوْا بِهِ} بما يصح الإضراب عنه به، وذك بأن يجعل الاستفهام لإنكار أنهم لو توافقوا على أن قالوا جميعًا لرسلهم: ساحر أو مجنون في زمان واحد، وإثبات أنهم إنما قالوه لطغيانهم.

ص: 36

أي: وما خلقت الجن والإنس إلا لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إياها.

فإن قلت: لو كان مريدا للعبادة منهم لكانوا كلهم عبادًا؟

قلت: إنما أراد منهم أن يعبدوه مختارين للعبادة، لا مضطرين إليها، لأنه خلقهم ممكنين، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدًا لها، ولو أرادها على القسر والإلجاء لوجدت من جميعهم.

[{مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ومَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} 57 - 58]

يريد: أن شأني مع عبادي ليس كشأن السادة مع عبيدهم، فإن ملاك العبيد إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، فإما مجهز في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لو كان مريدًا للعبادة منهم لكانوا كلهم عبادًا)، الانتصاف: من عادته إذا رأى ظاهرًا يوافق معتقده، أورد مذهب أهل السنة سؤالًا، وأورد معتقده جوابًا، والجواب الذي ذكره لا يصح، فإن السؤال مقدماته عقلية قطعية، والظاهر إذا خالف القطع وجب رده إلى الأدلة القطعية، وظاهري الآية دليل لأهل السنة، لأنها سيقت لبيان عظمة الله، وأن شأنه مع عبيده لا يقاس بغيره، فإن عبيد الخلق مطلوبون بالخدمة تكسبهم للسادة، وبواسطة كسب العبيد تدر أرزاق سادتهم، والله تعالى لا يطلب من عباده رزقًا ولا طعامًا، بل يطلب منهم العبادة لا غير، وزائد على ذلك أنه هو الذي يرزقهم، فحاصله: وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي.

وقلت: أما مقتضى النظم فإن الكلام وارد على تحريض رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بعث به من التذكير والتفادي عن التواني فيه، لأنه لما نزلت:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 37

تجارة ليفيء ربحًا، أو مرتب في فلاحة ليغتل أرضًا، أو مسلم في حرفة لينتفع بأجرته، أو محتطب أو محتش، أو طابخ أو خابز، وما أشبه ذلك من الأعمال والمهن التي هي تصرف في أسباب المعيشة وأبواب الرزق، فأما مالك ملك العبيد وقال لهم: اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، ولا أريد ان أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم، وأنا غني عنكم وعن مرافقكم، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي، فما هو إلا أنا وحدي، {المَتِينُ} الشديد القوة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فأنزل الله: {وذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} أي: لا تدع التذكير والموعظة، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وحجة على المعاندين، فإنك ما بعثت إلا للدعوة: وما خلق الجن والإنس إلا لأن يؤمروا بالعبادة لأنهم مكلفون امتحانًا وابتلًا.

قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أما الإرادة فكما تعلقت بالعبادة تعلقت بما يخالفها، لقوله تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} .

ويؤيد هذا التأويل ما روينا عن محيي السنة عن علي رضي الله عنه: أنه قال: {إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} : إلا لآمرهم أن يعبدوني.

قوله: (من الأعمال والمهن)، الجوهري: المهنة _بالفتح_: الخدمة، والماهن: الخادم.

قوله: (وعن مرافقكم)، الجوهري: المرفق من الأمر: ما انتفعت به.

قوله: (من عندي) متعلق بمتفضل، أي: أنا متفضل عليكم من عندي، ذلك من غير سابقة منكم، كما هو دأب السادات.

قوله: ({المَتِينُ} الشديد القوة)، الراغب: المتنان: مكتنفًا الصلب، وبه شبه المتن من الأرض، ومتنته: ضربت متنه، فصار متينًا، ومنه قيل: حبل متين، فإن الله تعالى: ذو القوة المتين.

ص: 38

قرئ بالرفع صفة لـ {ذُو} ، وبالجر صفة للقوة على تأويل الاقتدار، والمعنى في وصفه بالقوة والمتانة: انه القادر البليغ الاقتدار على كل شيء، وقرئ:(الرازق) وفي قراءة النبي: (إني أنا الرازق).

[{فَإنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} 59 - 60]

الذنوب: الدلو العظيمة، وهذا تمثيل، أصله في السقاة يتقسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب. قال:

لنا ذنوب ولكم ذنوب .... فإن أبيتم فلنا القليب

ولما قال عمرو بن شأس:

وفي كل حي قد خبطت بنعمة .... فحق لشأس من نداك ذنوب

قال الملك: نعم وأذنبة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ بالرفع) أي: {المَتِينُ} ، وهي المشهورة، وبالجر: شاذ.

قوله: (وفي كل حي) البيت، خبطت مستعار لإفاضة النعمة.

الأساس: وخبط في قومه: إذا نفعهم. الجوهري: خبطت الرجل: إذا أنعمت عليه من غير معرفة، وأنشد البيت. شأس هو أخو علقمة، مدح الحارث الغساني بقصيدة فيها البيت، وكان عنده أسيرًا فلما سمع الحارث قوله:

فحق لشأس من نداك ذنوب

ص: 39

والمعنى: فإن الذين ظلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب من أهل مكة لهم نصيب من عذاب الله، مثل نصيب أصحابهم ونظرائهم من القرون.

وعن قتادة: سجلا من عذاب الله مثل سجل أصحابهم، {مِن يَوْمِهِمُ} من يوم القيامة. وقيل: من يوم بدر.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة {وَالذَّارِيَاتِ} أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: نعم وأذنبة، وأمر بإطلاقه وإطلاق جميع أسرى بني تميم.

تمت السورة

حامدًا الله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* * *

ص: 40

‌سورة الطور

مكية، وهي تسع وأربعون، وقيل: ثمان وأربعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{وَالطُّورِ * وكِتَابٍ مَّسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ * والْبَيْتِ المَعْمُورِ * والسَّقْفِ المَرْفُوعِ * والْبَحْرِ المَسْجُورِ * إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وتَسِيرُ الجِبَالُ سَيْرًا} 1 - 10]

الطور: الجبل الذي كلم الله عليه موسى وهو بمدين. والكتاب المسطور في الرق المنشور - والرق: الصحيفة. وقيل: الجلد الذي يكتب فيه - الكتاب الذي تكتب فيه الأعمال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الطور

مكية وهي تسع وأربعون آية، وقيل: ثمان وأربعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (الكتاب الذي تكتب فيه الأعمال)، خبر للموصوف والصفة، وهي قوله:"والكتاب المسطور في الرق المنشور"، وما بينهما تفسير للرق، قد اعترض بينهما، وعن بعضهم:"والكتاب" مبتدأ، "والمسطور" خبر له، والأول أقرب.

ص: 41

قال الله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13] وقيل: هو ما كتبه الله لموسى وهو يسمع صرير القلم. وقيل: اللوح المحفوظ. وقيل: القرآن، ونكر لأنه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب، كقوله تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7].

{والْبَيْتِ المَعْمُورِ} الضراح في السماء الرابعة. وعمرانه: كثرة غاشيته من الملائكة. وقيل: الكعبة لكونها معمورة بالحجاج والعمار والمجاورين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ونكر لأنه كتاب مخصوص)، يعني قيل:"كتاب" نكرة، وهو أعرف المعارف وأشهرها ليدل على اختصاصه من جنس الكتب بأمر تميز به من سائرها. قال في قوله:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] نفسًا خاصة من بين النفوس، وهي نفس آدم عليه السلام، كأنه قيل: وواحدة من النفوس. وقريب منه ما سيجيء بعيد هذا؛ أن المتقين في جنات ونعيم، أي: في جنات مخصوصة بهم، خلقت لهم خاصة.

وأنشد ابن جني:

أمير المؤمنين على صراط .... إذا اعوج الموارد مستقيم

وقال هذا كقوله: أمير المؤمنين على الصراط المستقيم، لا فرق بينهما، وعليه قوله تعالى:{صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 68] أي: هديناهم من نعمتنا عليهم، ونظرنا لهم صراطًا مستقيمًا.

قوله: (الضراح في السماء الرابعة)، النهاية: الضراح: بيت في السماء حيال الكعبة، ويروى: الضريح، وهو البيت المعمور؛ من المضارحة، وهي المقابلة والمضارعة، وبالصاد المهملة مصحف.

ص: 42

{والسَّقْفِ المَرْفُوعِ} السماء، {والْبَحْرِ المَسْجُورِ} المملوء. وقيل: الموقد، من قوله تعالى:{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6].

وروي أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلها نار تسجر بها نار جهنم.

وعن علي رضي الله عنه أنه سأل يهوديًا: أين موضع النار في كتابكم؟ قال: في البحر. قال علي: ما أراه إلا صادقًا، لقوله تعالى:{والْبَحْرِ المَسْجُورِ} .

{لَوَاقِعٌ} لنازل.

قال جبير بن مطعم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلمه في الأسارى فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور، فلما بلغ {إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} أسلمت خوفًا من أن ينزل العذاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي الصحيحين في حديث الإسراء: أن البيت المعمور في السماء السابعة.

قوله: (ما أراه إلا صادقًا)، قلت: ومصداقه أيضًا ما رويناه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تركب البحر إلا حاجًا أو معتمرًا أو غازيًا في سبيل الله، فإن تحت البحر نارًا، وتحت النار بحرًا". أخرجه أبو داود، وفي هذا الحديث إشارة إلى أن راكبه متعرض للآفات المهلكة والفتن المغرقة، إحداها وراء الأخرى، وفيه: أن اختيار ذلك لغرض من الأغراض الفانية سفه وجهل، لأن فيه تلف النفس، وبذل النفس لا يحمد إلا فيما يقرب العبد إلى الله.

ص: 43

{تَمُورُ السَّمَاءُ} تضطرب وتجيء وتذهب. وقيل: المور: تحرك في تموج، وهو الشيء يتردد في عرض، كالداغصة في الركبة.

[{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 11 - 16]

غلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب. ومنه قوله تعالى: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 45]، {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] الدع: الدفع العنيف،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومار الشيء: تردد في عرض)، الأساس: الدم يمور على وجه الأرض إذا انصب وتردد عرضًا.

الراغب: المور: الجريان السريع: يقال: مار يمور مورًا، ومار الدم على وجهه، والمور: الترب المتردد به الريح، والناقة تمور في سيرها، وهي موارة.

قوله: (كالداغصة)، الأساس: سمن حتى كأنه داغصه، وهي العظم الذي يموج في الركبة الداغصة، بالغين المعجمة والصاد المهملة.

قوله: (غلب الخوض في الاندفاع في الباطل، الخوض في الأصل: الشروع في الماء والمرور فيه، ومستعار في الأمور.

ص: 44

وذلك أن خزنة النار يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى النار دفعًا على وجوههم، وزخا في أقفيتهم. وقرأ زيد بن علي:(يدعون) من الدعاء، أي يقال لهم: هلموا إلى النار، وادخلوا النار {دَعًا} مدعوعين، يقال لهم: هذه النار.

{أَفَسِحْرٌ هَذَا} يعني كنتم تقولون للوحي: هذا سحر، أفسحر هذا؟ يريد: أهذا المصداق أيضًا سحر؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى.

{أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ} كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، يعني: أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميًا عن الخبر، وهذا تقريع وتهكم، {سَوَاءٌ} خبر محذوف، أي: سواء عليكم الأمران: الصبر وعدمه.

فإن قلت: لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله: {إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روي عن المصنف أنه قال: "الخوض" في المعاني من الغالبة، فإنه يصلح للخوض في كل شيء، إلا أنه غلب في الباطل، ونظيره في الأسماء الغالبة: دابة، غلبت في ذوات الأربع، والقوم: في الرجال.

قوله: (مدعوعين)، الأساس: دع اليتيم: دفعه بجفوة، ودعدع المكيال: حركه حتى يكتنز. و {دّعًّا} على هذه القراءة: حال، وعلى الأول: مفعول مطلق.

قوله: (أهذا المصداق أيضًا سحر؟ ) قيل: المصداق هو الشيء الذي يعرف به الصدق، والعذاب في الآخرة، وغير ذلك من أحوال القيامة، مما يعد من مصداق قول الأنبياء عليهم السلام.

قوله: (ودخلت الفاء لهذا المعنى)، عن بعضهم أي: تعقبت للمقدر، وهو: هذا سحر؟ !

وقلت: هذه الفاء تقتضي معطوفًا عليه، وهو مقدر دل عليه مضمون قوله:{هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} فدخلت الهمزة بين المعطوفين لمزيد من التقريع والتهكم، فإنه لما قيل:

ص: 45

قلت: لأن الصبر غنما يكون له مزية على الجزع، لنفعه في العاقبة بأن يجازي عليه الصابر جزاء الخير، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع.

[{إنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ ونَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ووَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ * كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} 17 - 20]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} عقب بقوله: {أَفَسِحْرٌ هَذَا} يعني: هذا المصداق أيضًا سحر؟ ! أي: كنتم تقولون للقرآن الذي أنذركم هذه النار: هذا سحر، فتقولون: سحر هذا أيضًا! ! فالمشار إليه بهذا: النار، وذكر لأنه في تأويل المصداق، أو الخبر مذكر وقدم الخبر لإفادة الاختصاص تتميمًا للتقريع، ثم قرر المعنى بقوله:{أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ} أي: هذا أيضًا لا تبصرون، كما كنتم لا تبصرون ما يدل على هذا، وقلتم:{إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15]، و"أم" في ظاهر كلام المصنف منقطعة حيث قال:"أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميًا عن الخبر"، أي: بل أنتم عمي عن المخبر عنه، وهذا تقريع وتهكم.

وفي "التفسير الكبير": هل لأمرنا شك، أم هل في بصركم خلل، أي: لا واحد منهما ثابت، فجعلها معادلة.

وقال صاحب "الكشف": {أَفَسِحْرٌ هَذَا} ، كلام تام من مبتدأ وخبر، ثم قال:{أَمْ أَنتُمْ} ، أي: بل أنتم {لا تُبْصِرُونَ} .

قوله: (لأن الصبر)، أي: إنما علل استواء الصبر وعدمه بقوله: {إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ

ص: 46

{فِي جَنَّاتٍ ونَعِيمٍ} في أية جنات وأي نعيم! ! بمعنى الكمال في الصفة. أو في جنات ونعيم مخصوصة بالمتقين، خلقت لهم خاصة. وقرئ:{فَاكِهِينَ} و (فكهين) و (فاكهون)؛ من نصبه حالًا جعل الظرف مستقرًا، ومن رفعه خبرًا جعل الظرف لغوًا، أي: متلذذين {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} .

فإن قلت: علام عطف قوله: {ووَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} ؟

قلت: على قوله: {فِي جَنَّاتٍ} ، أو على {آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} على أن تجعل (ما) مصدرية؛ والمعنى: فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم. ويجوز أن تكون الواو للحال و"قد" بعدها مضمرة. يقال لهم: {كُلُوا واشْرَبُوا} أكلًا وشربًا {هَنِيئًا} أو طعامًا وشرابًا هنيئًا، وهو الذي لا تنغيص فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تَعْمَلُونَ} لأن قوله: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} دل على تناهي العذاب، وأنه بلغ إلى أن الصبر والجزع لا ينفعان البتة. كقوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] فإنه دل على تصميمهم على الكفر، وعدم ارعوائهم.

قوله: (جعل الظرف مستقرًا)، يعني:{فِي جَنَّاتٍ} خبر لـ {إِنَّ} ، و {فَاكِهِينَ} حال من ضمير الاستقرار، إذا قرئ منصوبًا، وإذا قرئ مرفوعًا كان هو الخبر، و {فِي جَنَّاتٍ} متعلق به، فالظرف لغو.

قوله: (على أن تجعل "ما" مصدرية)، أي: إذا عطف {ووَقَاهُمْ} على {آتَاهُمْ} لا يجوز أن تكون ما موصولة، لفقدان العائد من الجملة المعطوفة، إذ التقدير: فاكهين بالذي آتاهم الله إياه، وبالذي وقاهم ربهم عذاب الجحيم، وليس في الجملة الثانية عائد إلى الموصول؛ لأن "وقاهم" أخذ كلا مفعوليه، بخلاف {آتَاهُمْ} .

ص: 47

ويجوز أن يكون مثله في قوله:

هنيئًا مريئًا غير داء مخامر .... لعزة من أعراضنا ما استحلت

أعني: صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل، مرتفعًا به ما استحلت كما يرتفع بالفعل، كأنه قيل: هنأ عزة المستحل من أعراضنا، وكذلك معنى {هَنِيئًا} هاهنا: هنأكم الأكل والشرب. أو هنأكم ما كنتم تعلمون؛ أي: جزاء ما كنتم تعلمون. والباء مزيدة كما في {كَفَى بِاللهِ} [الرعد: 43] والباء متعلقة بـ {كُلُوا واشْرَبُوا} إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب. وقرئ: (بعيس عين).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز أن يكون مثله)، أي: لا يكون {هَنِيئًا} صفة مصدر محذوف، بل يكون من المصادر التي حذف عاملها، وأقيمت مقامه، وفاعله الأكل، أو {بِمَا كُنتُمْ} ، على أن الباء زائدة كما في البيت، لأن "ما استحلت" فال "هنيئًا مريئًا"، والهنيء والمريء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغًا لا تنغص فيه.

وقال أبو البقاء في قوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]: مصدر جاء على "فعيل"، وهو نعت لمصدر محذوف، أي: أكلًا هنيئًا، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الهاء في {فَكُلُوهُ} ، أي: مهنأ.

قوله: (والباء متعلقة بـ {كُلُوا واشْرَبُوا} ، أي: هناكم الأكل والشرب بسبب عملكم.

قوله: (وقرئ: "بعيس عين")، قال ابن جني: وهي قراءة عبد الله وإبراهيم، المرأة العيساء: البيضاء، ومثله: جمل أعيس، وناقة عيساء.

ص: 48

[{والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ومَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ ولَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَاسًا لاَّ لَغْوٌ فِيهَا ولا تَاثِيمٌ * ويَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} 21 - 24]

{والَّذِينَ آمَنُوا} معطوف على "حور العين" أي: قرناهم بالحور وبالذين آمنوا، أي: بالرفقاء والجلساء منهم، كقوله تعالى:{إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] فيتمتعون تارة بملاعبة الحور، وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين.

(وأتبعناهم ذرياتهم) قال رسول الله: "إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه" ثم تلا هذه الآية. فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، ومزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم. ثم قال:{بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي: بسبب إيمان عظيم رفيع المحل -وهو إيمان الآباء- ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها، تفضلًا عليهم وعلى آبائهم، لنتم سرورهم، ونكمل نعيمهم.

فإن قلت: ما معنى تنكير الإيمان؟

قلت: معناه: الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بسبب إيمان عظيم رفيع المحل -وهو إيمان الآباء_ ألحقنا بدرجاتهم)، روينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل" عن علي رضي الله عنه عن خديجة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية.

قوله: (الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة)، تكرير لما علم من قوله: "عظيم

ص: 49

ويجوز أن يراد: إيمان الذرية الداني المحل، كأنه قال: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم.

وقرئ: (وأتبعتهم ذريتهم)، {واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم} ، و (ذرياتهم)، وقرئ:(ذرياتهم) بكسر الذال. ووجه آخر، وهو أن يكون {والَّذِينَ آمَنُوا} مبتدأ، خبره:{بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ، وما بينهما اعتراض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المحل" هذا المعنى، فيكون السؤال مستدركًا، لعله سأل ليجيب بما يعلم منه، هذا مع شيء آخر، وهو أن التنكير يحتمل التقليل أيضًا نحوه مر في أول البقرة: "هل لهذه الفواتح محل من الإعراب، بعد ما علم إعرابها من وجه"؟ فأجاب بمثل هذا الجواب.

قوله: (بشيء من الإيمان)، والتنكير حينئذ للتقليل والتحقير، فوازن اعتبار التنكير في "إيمان" هاهنا بسبب الاحتمالين وزان الحاجبين في قول الشاعر:

له حاجب في كل أمر يشينه وليس له عن طالب العرف حاجب

قوله: ("وأتبعتهم ذريتهم"، {واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم})، "وأتبعناهم" بقطع الألف وإسكان التاء وألف بعد النون: أبو عمرو، والباقون: بالوصل وفتح التاء والعين بالتوحيد، وفتح التاء والعين وتاء ساكنة بعد العين. وقرأ أبو عمرو وابن عامر:"ذرياتهم بإيمان" الجمع، وضم ابن عامر التاء، وكسرها أبو عمرو، والباقون بالتوحيد وفتح التاء.

قوله: (ووجه آخر، وهو: أن يكون {والَّذِينَ آمَنُوا} مبتدأ، خبره: {بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ})

ص: 50

{ومَا أَلَتْنَاهُم} وما نقصناهم. يعني: وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا من الثواب والتفضل، وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء. وقيل معناه: وما نقصناهم من ثوابهم شيئًا نعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم، إنما ألحقناهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو عطف على قوله: " {والَّذِينَ آمَنُوا}، معطوف على (حور عين"، والتقدير: والذين آمنوا ألحقنا بهم ذريتهم بسبب إيمانهم. وقال أبو البقاء: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ} وهو الخبر، ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير: وأكرمنا الذين. وكذا عن صاحب "الكشف"، وقال: أزيدًا مررت به؟ أجزت زيدًا؟ والباء في {بِإيمَانٍ} حال، إما من الفاعل أو المفعول أو منهما جميعًا.

وقلت: على أن يكون {الَّذِينَ آمَنُوا} مرفوعًا على الابتداء، تكون الآيات بأسرها معطوفة على جملة:{إنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} ، ويكون هؤلاء غير المتقين من عوام المؤمنين، ومن يتصل بهم ليشمل طوائف المؤمنين أجمعين، وعلى تقدير النصب يحتمل أن يكونوا أولئك، كرر ليناط به أمر آخر وهو إلحاق ذرياتهم إلى درجاتهم، كرامة لهم لتقر به أعينهم، وتكون صلة الموصول علة للإلحاق.

قوله: ({ومَا أَلَتْنَاهُم} ، ابن كثير: بكسر اللام، والباقون: بفتحها، قال الزجاج:"ما ألتناهم": ما نقصناهم، يقال: ألته يألته ألتًا، ويقال: لاته يليته ليتًا: نقصه وصرفه عن الشيء.

ص: 51

بهم على سبيل التفضل. قرئ: {أَلَتْنَاهُم} وهو من بابين: منك ألت يألت، ومن: ألات يليت، كأمات يميت. و (آلتناهم)، من: آلت يؤلت، كآمن يؤمن. و (لتناهم)، من: لات يليت. و (ولتناهم)، من: ولت يلت. ومعناهن واحد.

{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي: مرهون، كأن نفس العبد رهن عند الله بالعمل الصالح الذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحًا فكها وخلصها، وإلا أوبقها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال ابن جني: قرأ الأعرج: "آلتناهم" على: أفعلناهم، وقرأ عبد الله وأبي:"وما لتناهم"، وابن عباس كان يقول: و"أتناهم": نقصناهم، يقال ألته يألته ألتًا، وقالوا: ولته يلته: إذا صرفه عن شيء يريده، وقالوا: ألته يألته باليمين: إذا غلظ عليه بها، وآلته يؤلته: إذا قلده إياها.

قوله: (فإن عمل صالحًا فكهًا وخلصها وإلا أوبقها)، ونظيره ما رويناه عن مسلم والترمذي عن أبي مالك الأشعري:"كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها".

وفي "مسند أحمد بن حنبل" عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال لكعب بن عجرة: "إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به، يا كعب بن عجرة، الناس غاديان؛ فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها".

الرهن: ما يوضع وثيقة للدين، والرهان مثله، وقد يستعمل الثاني فيما فيه الإخطار، وأصلهما مصدران، يقال رهنت رهنًا، وراهنته رهانًا، فهو رهين ومرهون.

ص: 52

{وأَمْدَدْنَاهُم} وزدناهم في وقت بعد وقت.

{يَتَنَازَعُونَ} يتعاطون ويتعاورون، وهم وجلساؤهم من أقربائهم وإخوانهم، {كَاسًا}: خمرًا، {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا}: في شربها، {ولا تَاثِيمٌ} أي: لا يتكلمون في أثناء الشرب بسقط الحديث، وما لا طائل تحته، كفعل المتنادمين في الدنيا على الشراب، في سفههم وعربدتهم، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله، أي: ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف من الكذب والشتم والفواحش، وإنما يتكلمون بالحكم والكلام الحسن متلذذين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قلت: كيف اتصال {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} بما قبله؟

قلت: هو متصل به على وجه التتميم، إن فسرت الآيات من قوله:{إنَّ المُتَّقِينَ} بجملتها باتصال الثواب والجزاء إليهم تفضلًا، فإنه لما قيل:"وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا من الثواب، وما نقصناهم من ثواب عملهم من شيء"، كما قال؛ علم أنهم فكوا رقابهم عما كانت مرهونة به من الكسب، فقيل:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} أي حالهم كيت وكيت، وغيرهم غير مفكوك بما كسبت، ونحوه قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} ، أو يقال: هو استئناف، فإنه لما قيل: ما نقصناهم من ثوابهم شيئًا تعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم على سبيل التفضل، قيل: لم كان الإلحاق تفضلًا؟ فقيل: لأن كل امرئ بما كسب رهين، وهؤلاء لم يكن لهم عمل يلحقوا بهم بسببه، فألحقوا بهم تفضلًا.

أو يقال: إنه لما قيل: {بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ، يعني بسبب إيمان الآباء ألحقنا بهم الذريات كرامة للآباء لا لشيء آخر، ودل على الاختصاص تقديم {بِإيمَانٍ} على {أَلْحَقْنَا} ، قيل: لم اختص الإلحاق بإيمان الآباء؟ قيل: لأن كل امرئ بما كسب رهين، وهؤلاء لم يكن لهم كسب، فلم يكن سبب الفك إلا ذلك التفضل لا يفارق الوجوه.

ص: 53

بذلك، لأن عقولهم ثابتة غير زائلة، وهم حكماء علماء. وقرئ:{اَّ لَغْوٌ فِيهَا ولا تَاثِيمٌ} .

{غِلْمَانٌ لَّهُمْ} أي: مملوكون لهم مخصوصون بهم، {مَّكْنُونٌ} في الصدف، لأنه رطبًا أحسن وأصفى. أو مخزون لأنه لا يخزن إلا الثمين الغالي القيمة. وقيل لقتادة: هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب"، وعنه عليه الصلاة والسلام:"إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف ببابه: لبيك لبيك".

[{وأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ووَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إنَّهُ هُوَ البَرُّ الرَّحِيمُ} 25 - 28]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا} ، كلهم سوى ابن كثير وابن عامر.

قوله: (لأنه رطبًا أحسن وأصفى)، "رطبًا" حال من الضمير في "أحسن"، قال صاحب "اللباب": في قوله: هذا يسرًا أطيب منه رطبًا، الأصح أن العامل في "يسرًا":"أطيب"، وعمله في الأول عمل الفعل الصريح، ولهذا تقدمه، وفي الثاني عمل المعنى، وقال في تفسيره:"يسرًا": حال من الفاعل المستكن في "أطيب"، واسم التفضيل يعمل في الضمير المستكن فيه عمل الفعل من غير خلاف، فكذا يعمل فيما هو حال عنه، "ورطبًا" حال من الضمير المجرور المتصل بـ"من"، وإنما عمل فيه "أفعل" باعتبار أنه تضمن الزيادة، فلذا جيء بـ"من"، فليس هذا كعمل فعله، لأن فعله لا يعدى بـ"من"، وإنما هو كعمل المعنى في الظرف.

ص: 54

{يَتَسَاءَلُونَ} يتحادثون ويسأل بعضهم بعضًا عن أحواله وأعماله، وما استوجب به نيل ما عند الله، {مُشْفِقِينَ} أرقاء القلوب من خشية الله. وقرئ:(ووقانا) بالتشديد.

{عَذَابَ السَّمُومِ} : عذاب النار ووهجها ولفحها. والسموم: الريح الحارة التي تدخل المسام. فسميت بها نار جهنم لأنها بهذه الصفة، {مِن قَبْلُ} من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه، يعنون في الدنيا، {نَدْعُوهُ}: نعبده ونسأله الوقاية، {إنَّهُ هُوَ البَرُّ}: المحسن، {الرَّحِيمُ}: العظيم الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب. وقرئ: {أَنَّهُ} بالفتح، بمعنى: لأنه.

[{فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولا مَجْنُونٍ} 29]

{فَذَكِّرْ} فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم، ولا يثبطنك قولهم: كاهن أو مجنون، ولا تبال به فإنه قول باطل متناقض؛ لأن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى على عقله. وما أنت بحمد الله وإنعامه عليك بصدق النبوة ورجاجة العقل أحد هذين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "أنه" بالفتح)، نافع والكسائي.

قوله: (وما أنت بحمد الله) أشار به إلى أن "نعمة ربك" حال متقدم على عاملها، وهو "كاهن أو مجنون"، والباء الزائدة لا تمنع من العمل، والحال معمول العامل المنفي، كذا صرح في سورة النون. المعنى: ما أنت بكاهن كاذب منعمًا عليك، بل أنت بحمد الله نبي صادق منعمًا عليك، ولا أنت بمجنون منعمًا عليك، بل أنت لحصافة العقل والشهامة بمكان.

فإنك إذا قلت: الفعل المنفي بقيد مخصوص لزم منه إثبات فعل مضاد له، مقيدًا بذلك القيد، نحو قوله:

ص: 55

[{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإنِّي مَعَكُم مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَامُرُهُمْ أَحْلامُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إن كَانُوا صَادِقِينَ * أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَاتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * أَمْ لَهُ البَنَاتُ ولَكُمُ البَنُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ * أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ المَكِيدُونَ * أَمْ لَهُمْ إلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 30 - 43]

وقرئ: (تتربص به ريب المنون) على البناء للمفعول. وريب المنون: ما يقلق النفوس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على لا حب يهتدى بمناره

على أحد وجهيه وهو أن يكون هناك منار، لكن لا يهتدى به، بل يضل لسببه لعمهه.

ويمكن أن يكون {بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} قسمًا اعترضت بين اسم "ما" وخبره، ونظيره في الإقسام بالنعمة قوله تعالى:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [القصص: 17]. أي: أقسم بإنعامك علي بالمغفرة.

قوله: (وريب المنون: ما يقلق النفوس) إلى آخره، فيه أن "المنون" بمعنى الدهر،

ص: 56

ويشخص بها من حوادث الدهر. قال:

أمن المنون وريبه تتوجع

وقيل: المنون: الموت، وهو في الأصل فعول؛ من منه: إذا قطعه؛ لأن الموت قطوع؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الواحدي: ينتظر به حدثان الموت وحوادث الدهر، المنون يكون بمعنى الدهر وبمعنى المنية.

قوله: (ويشخص بها). يقال للرجل إذا ورد عليه أمر أقلقه: شخص به.

قوله: (أمن المنون) وتمامه:

والدهر ليس بمعتب من يجزع

بمعتب: بمرضي، الأساس: استعتبه: استرضاه، وفي معناه قول القائل:

عن الدهر فاصفح إنه غير معتب .... وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع

قوله: (وقيل: المنون: الموت)، الراغب: رابني كذا وأرابني، فالريب أن يتوهم بالشيء أمرًا ما، فينكشف عما يتوهمه، ولهذا قال تعالى:{لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] والإرابة أن: يتوهم فيه أمرًا فلا ينكشف عما يتوهمه، قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، وريب الدهر: صروفه، وإنما قيل:"ريب" لما يتوهم فيه من المنكر.

وقوله: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ} ، سماه ريبًا لأنه يشكك في كونه، بل من حيث تشكك في

ص: 57

ولذلك سميت: شعوب، قالوا: ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء؛ زهير والنابغة.

{مِّنَ المُتَرَبِّصِينَ} أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي.

{أَحْلامُهُم} عقولهم وألبابهم. ومنه قولهم: أحلام عاد. والمعنى: أتأمرون أحلامهم بهذا التناقض في القول، وهو قولهم: كاهن وشاعر، مع قولهم: مجنون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقت حصوله، فالإنسان أبدًا في ريب المنون من جهة وقته، لا من جهة كونه، ولهذا قال الشاعر:

الناس قد علموا أن لا بقاء لهم .... لو أنهم عملوا مقدار ما علموا

والريبة اسم من الريب، قال تعالى:{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 110] أي: يدل على دغل وقلة يقين منهم.

قوله: (ولذلك سميت: شعوب)، الضمير للموت وأنث بتأويل المنية. الجوهري: سميت المنية شعوب، لأنها تفرق، وهي معرفة لا يدخلها الألف واللام.

قوله: (أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض [في القول]، وهو قولهم: كاهن وشاعر، مع قولهم: مجنون)، يريد: أن "أم" في هذه الآيات منقطعة، والهمزة فيها للتقريع والتوبيخ، وبل في {أَمْ تَامُرُهُمْ} إضراب عن جميع ما حكي عن القوم من الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر أولًا، فذكر {فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ ولا مَجْنُونٍ} ، ردًا لقولهم: هو كاهن أو مجنون تسليًا له وتثبيتًا، ثم ترقى إلى قولهم:{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ} يعني: دعوا عن القول بأنه كاهن أو مجنون، بل هو شاعر نتربص به ريب المنون، لأن الشعراء كانوا عندهم أعظم حالًا من الكاهن،

ص: 58

وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهي.

{أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} : مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق لهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: ننتظر به نوائب الزمان، فيهلك كما هلك امرؤ القيس وعنترة، وزهيرهم وغيرهم، فأضرب الله تعالى عن جميع ذلك بقوله:{أَمْ تَامُرُهُمْ أَحْلامُهُم} فنسبهم إلى السفه والجهل، والقول بالتناقض، ثم ترقى إلى قوله:{أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي: ليسوا بجاهلين، أي أنهم أرباب النهى والأحلام، بل طغيانهم ومجاوزتهم الحد في العناد هو الذي حملهم على ذلك القول بالتناقض.

وأما قوله: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} فهو متصل بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} أي ليس بكاهن ولا شاعر، بل هو مفتر على الله، مختلق من تلقاء نفسه، فرد بما يناسبه من قوله:{بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ} لأنه أجمع من نسبتهم إلى السفه والطغيان، أي أنهم ممن حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون البتة، وهم من الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، ثم بنى الكلام على نسبتهم الافتراء والتقول إليه، دفعًا للتهمة وإزالة للشبهة، وقال:{فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إن كَانُوا صَادِقِينَ} في أنه تقول وافتراء.

ولما فرغ من ذلك النوع من الإضرابات، وهو طعنهم في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، عقبه بنوع آخر منها، وهو ما اشتمل على الرد فيما لزم منه الطعن في جلال الله وعلو كبريائه، من إثبات الشريك واتخاذ الولد، وترك الناس سدى، والطعن في رسله وهو قوله:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} إلى آخره، مزيدًا للتسلي والتثبيت لرسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: كما طعنوا فيك طعنوا في خالقهم، ألا ترى كيف ختم السورة بقوله:{واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ؟ !

قوله: (وكانت قريش يدعون أهل الأحلام)، روي عن الجاحظ أنه قال: لا يكمل عقل الإنسان إلا بالمسافرة والمخالطة وزيارة البلاد المختلفة، ومصاحبة الأخلاق المتباينة، وقريش

ص: 59

فإن قلت: ما معنى كون الأحلام آمرة؟

قلت: هو مجاز لأدائها إلى ذلك، كقوله تعالى:{أَصَلَاتُكَ تَامُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [هود: 87].

وقرئ: (بل هم قوم طاغون).

{تَقَوَّلَهُ} : اختلقه من تلقاء نفسه، {بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ} فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذا المطاعن، مع علمهم ببطلان قولهم، وانه ليس بمتقول لعجز العرب عنه، وما محمد إلا واحد من العرب. وقرئ (بحديث مثله) على الإضافة، والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعناه: أن مثل محمد في فصاحته ليس بمعوز في العرب، وإن قدر محمد على نظمه كان مثله قادرًا عليه، فليأتوا بحديث ذلك المثل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في أماكنهم لا يفعلون شيئًا من هذا، وهم أعقل من الكل، وما كان ذلك إلا أن جميع العالم يأتونهم ويخالطونهم، فيحصل غرضهم بدون مشقة.

قوله: (كقوله: {أَصَلَاتُكَ})، أي: كما قال قوم شعيب: {أَصَلَاتُكَ تَامُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ} ، قال: جاز الصلاة أن تكون آمرة على طريق المجاز، كما كانت ناهية في قوله:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} كذا، لما كان مؤدى عقولهم السخيفة، ذلك القول بالتناقض جعلت آمرة على الاستعارة المكنية.

قوله: (وقرئ: "بل هم قوم طاغون")، قال ابن جني: قرأها مجاهد، وقراءة الجماعة:{أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ، هذا هو الموضع الذي يقول أصحابنا فيه: إن "أم" المنقطعة بمعنى "بل" للترك والتحول، لأن بعد "بل" متيقن وبعد "أم" مشكوك فيه مسؤول عنه.

قوله: (ليس بمعوز في العرب)، الأساس: هذا شيء معوز: عزيز لا يوجد.

ص: 60

{أَمْ خُلِقُوا} أم أحدثوا وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم، {مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} من غير مقدر، {أَمْ هُمُ} الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق، {بَل لاَّ يُوقِنُونَ} أي: إذا سئلوا: من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، وهم شاكون فيما يقولون، لا يوقنون. وقيل: أخلقوا من أجل لا شيء من جزاء ولا حساب؟ وقيل: أخلقوا من غير أب وأم؟

{أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ} الرزق حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا؟ أو: أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ "أم هم المسيطرون": الأرباب الغالبون، حتى يدبروا أمر التربوية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم؟ وقرئ {المُصَيْطِرُونَ} بالصاد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ("المسيطرون" الأرباب الغالبون)، الراغب: يقال: سيطر فلان على كذا، وتسيطر عليه: إذا قام عليه قيام سطر، واستعمال المسيطر هاهنا كاستعمال القائم في قوله عز وجل:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وإلى هذا المعنى أشار المصنف: "ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم".

قوله: (وقرئ: {المُصَيْطِرُونَ} بالصاد) قنبل وحفص وهشام: بالسين، وحمزة بخلاف:، وابن خلاد: بين الصاد والزاي، والباقون: باضاد خاصة. قال الزجاج: "المسيطرون": الأرباب المتسلطون، يقال: تسيطر علينا بالسين والصاد، والأصل السين.

وقال أبو علي: ليس هذا البناء بناء تحقير، لكن الياء في مثل الواو في حوقل، فكما تقول: حوقل، كذلك مسيطر ومبيطر، لإلحاقهما جميعًا بمدحرج ومسرهف.

ص: 61

{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} منصوب إلى السماء يستمعون، صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب، حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم، وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون؟

{بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: حوقل الشيخ حوقلة: إذا كبر وفتر عن الجماع، سرعفت الصبي: إذا أحسنت غذاءه، وكذلك سرهفته.

قوله: (حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم)، قلت: هذا التأويل إن كان ينظر إلى قوله: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ} لكن لا يلتئم مع قوله: {أَمْ لَهُ البَنَاتُ ولَكُمُ البَنُونَ} ، والأوفق لتأليف النظم ما قاله الواحدي: المعنى: أم لهم مرقى ومصعد إلى السماء يستمعون أن ما هم عليه حق، فليأت مستمعهم بحجة واضحة على تلك الدعوى؟

وبيان ذلك أن الكلام من لدن قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} إلى آخر: {أَمْ لَهُ البَنَاتُ ولَكُمُ البَنُونَ} في الإلهيات مدمج فيها أمر النبوات، فقوله:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} معناه ما نقل الواحدي عن الزجاج: أم خلقوا باطلًا لا يحاسبون ولا يؤمرون، وعن ابن كيسان: هم خلقوا عبثًا، وتركوا سدى، لا يؤمرون ولا ينهون، ثم ترقى إلى قوله، {أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ} يعني: أن السماوات والأرض ليسا من خلقهم، حتى يكون خلقهما باطلًا وعبثًا، {بَل لاَّ يُوقِنُونَ} أنا خلقناهم بالحق، كقوله تعالى:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] أي: خلقناهما مساكن المكلفين وأدلة على المعرفة ووجوب الطاعة، ثم أضرب عنه إلى بيان ما هو تأسيس العبادة بقوله:{أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} أي: مفاتيحه بالرسالة يضعونها حيث شاؤوا، ثم إلى ما هو أعلى منه، بقوله:{أَمْ هُمُ المُصَيْطِرُونَ} أي: الأرباب المتسلطون، فلا يكونون تحت أمر الله ونهيه وطاعة رسوله

ص: 62

المغرم: أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه، أي: لزمهم مغرم ثقيل فدحهم فزهدهم ذلك في اتباعك؟

{أَمْ عِندَهُمُ الغَيْبُ} : أي اللوح المحفوظ {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ما فيه حتى يقولوا لا نبعث، وإن بعثنا لم نعذب، {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} وهم كيدهم في دار الندوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يفعلون ما شاؤوا، ثم إلى قوله:{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} ومعناه ما عليه كلام الواحدي، أي: يستمعون الوحي فيعلمون أن ما هم عليه حق وصدق، وما عليه غيرهم باطل وزور، ثم أضرب عنه بقوله:{أَمْ لَهُ البَنَاتُ ولَكُمُ البَنُونَ} يعني: قد كشف من محضكم وتبين من صدقكم وحقكم هذه الهناة، وهي نسبتكم إلى الله عز وجل ما هو منزه عنه، وجعلتم له أدون الجنسين، وما إن نسب إلى بعضكم ظل وجهه مسودًا وهو كظيم، والله أعلم.

قوله: (المغرم: أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه)، الراغب: المغرم: ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية، يقال: غرم كذا غرمًا ومغرمًا وأغرم فلان غرامة، قال تعال:{فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} .

قوله: (فدحهم) أي: أثقلهم، فدحه الدين: أثقله. الراغب: الثقل والخفة متقابلان، فكل ما يترجح على ما يوزن به أو يقدر به، يقال: هو ثقيل، وأصله في الأحسام، ثم يقال في المعاني: نحو أثقله الغرم والوزو، قال تعالى:{فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} .

قوله: ({الغَيْبُ} أي: اللوح المحفوظ)، يريد: أن الغيب بمعنى الغائب.

ص: 63

{فَالَّذِينَ كَفَرُوا} إشارة إليهم، أو أريد بهم كل من كفر بالله {هُمُ المَكِيدُونَ} هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم، ويحيق بهم مكرهم. وذلك أنهم قتلوا يوم بدر. أو المغلوبون في الكيد، من كايدته فكدته.

[{وإن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ولا هُمْ يُنصَرُونَ * وإنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 44 - 47]

الكسف: القطعة، وهو جواب قولهم:{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء: 92] يريد: أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({فَالَّذِينَ كَفَرُوا} إشارة إليهم) فيكون من وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل على كفرهم، والدلالة على أنه الموجب للدمار، فالتعريف فيه للعهد، وعلى أن يراد بهم كل من كفر للجنس، فقوله:"أو المغلوبون في الكيد"، عطف على قوله:"هم الذين يعود عليهم وبال كيدهم" على طريقة النشر لإرادة أن التعريف إما للعهد أو الجنس.

قوله: (الكسف: القطعة)، الراغب: كسوف الشمس والقمر: استتارهما بعارض، وبه شبه كسوف الوجه والحال، فقيل: هو كاسف الوجه، وكاسف الحال، والكسفة: قطعة من السحاب والقطن، ونحو ذلك من الأجسام المتخلخلة الحائلة، وجمعها كسف. قال تعالى:{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الإسراء: 92] قال أبو زيد: كسفت الثوب أكسفه كسفًا، قطعته قطعًا.

قوله: (وهو جواب قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ})، قال في ذلك المقام: "لما بين إعجاز القرآن وانضمت إليه المعجزات الأخر والبينات، ولزمتهم الحجة وغلبوا، أخذوا يتعللون باقتراح

ص: 64

لو أسقطناه عليهم لقالوا: هذا سحاب مركوم بعضه فوق بعض يمطرنا، ولم يصدقوا أنه كسف ساقط للعذاب. وقرئ:{حَتَّى يُلاقُوا} و (يلقوا)، (يصعقون): يموتون. وقرئ: {يُصْعَقُونَ} . يقال: صعقه فصعق، وذلك عند النفخة الأولى نفخة الصعق.

{وإنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} وإن لهؤلاء الظلمة {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} دون يوم القيامة: وهو القتل ببدر، والقحط سبع سنين، وعذاب القبر. وفي مصحف عبد الله:(دون ذلك قريبا).

[{واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * ومِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وإدْبَارَ النُّجُومِ} 48 - 49]

{لِحُكْمِ رَبِّكَ} بإمهالهم وما يلحقك فيه من المشقة والكلفة، {فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} مثل، أي: بحيث نراك ونكلؤك. وجمع العين، لأن الضمير بلفظ ضمير الجماعة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآيات، فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة، فقالوا: لن نؤمن لرقيك حتى تفجر

" إلى آخر الآيات، وجيء هاهنا بجواب بعض الاقتراحات على سبيل التلميح ليؤذن بأنهم محجوجون مبهوتون، وأن طعنهم ذلك ليس إلا للعناد والمكابرة، ومن ثم رتب عليه قوله:{فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا} بالفاء.

قوله: (وقرئ: {يُصْعَقُونَ})، عاصم وابن عامر، والباقون: بفتح الياء، قال أبو البقاء: الفتح ماضيه: صعق، وقرئ بالضم ماضيه: أصعق، وقيل: صعق مثل سعد.

قوله: (مثل) يعني: أن قوله تعالى: {فَإنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} استعارة تمثيلية شبهت حالة كلائه وحفظه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحالة من يراقب الشيء بعينيه ويحفظه.

قوله: (لأ الضمير بلفظ [يضمر] الجماعة)، يعني: راعى المناسبة بين الجمعين، أعني العين وضمير الجماعة، وحين أفرد الضمير أفرد العين في قوله:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]،

ص: 65

ألا ترى إلى قوله تعالى" {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]. وقرئ: (بأعينا) بالإدغام. {حِينَ تَقُومُ} من أي مكان قمت. وقيل: من منامك، {وإدْبَارَ النُّجُومِ}: وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل. وقرئ: (وأدبار النجوم) بالفتح، بمعنى في أعقاب النجوم وآثارها إذا غربت، والمراد الأمر بقول: سبحان الله وبحمده في هذه الأوقات. وقيل: التسبيح: الصلاة إذا قام من نومه، ومن الليل: صلاة العشاءين، وأدبار النجوم: صلاة الفجر.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الطور كان حقًا على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويمكن أن يقال: أن ذلك امتنان على الكليم في كلاءته وحفظه من العدو في بدء حالة وتربيته في حال الطفولية، كما قال:"ولتربى ويحسن إليك، وأنا راعيك وراقبك، كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به"، فناسب الإفراد وهذا تعليل لتصبير الحبيب على مكائد أعداء الدين، كما قال:{أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ المَكِيدُونَ} وتثبيته على مشاق التكاليف والعبادات، ألا ترى كيف عطف {وسَبِّحْ} على {واصْبِرْ} عطف الخاص على العام فناسبه الجمعان.

قوله: (سبحان الله وبحمده)، أي أسبح الله وألتبس بحمده، أي: وبحمده أسبح،

الراغب: ومعنى نسبح بحمدك، أي نسبحك والحمد لك، أو نسبحك بأن نحمدك، والباء على الأول حال، وعلى الثاني صلة.

تمت السورة

حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 66

‌سورة {وَالنَّجْمِ}

مكية إحدى وستون، وقيل: ثنتان وستون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى * ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَاوَى * إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ البَصَرُ ومَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} 1 - 18].

النجم: الثريا، وهو اسم غالب لها. قال: إذا طلع النجم عشاء، ابتغى الراعي كساءً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة {وَالنَّجْمِ}

مكية، وهي إحدى وستون آية، وقيل: ثنتان وستون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (إذا طلع النجم عشاء، ابتغى الراعي كساء)، قال ابن قتيبة الدينوري: الثريا: انتهاء الحمل، وجاءت مصغرًا، ولم يتكلم بها إلا كذلك، نحو حميًا الكأس، وأصلها من الثروة، وهي كثرة العدد، وطلوعها ليلة عشرة تخلو من آيار، وسقوطها

ص: 67

أو جنس النجوم. قال:

فباتت تعد النجم في مستحيرة

يريد: النجوم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليلة عشرة من تشرين، تظهر من أول الليل في المشرق عند ابتداء البرد، وإذا توسطت السماء مع غروب الشمس يكون غاية شدة البرد.

قوله: (فباتت تعد النجم في مستحيرة)، تمامه:

سريع بأيدي الآكلين جمودها

أنشده الزجاج وقال: يصف قدرًا كثيرة الدسم، ومعنى تعد النجم، أي: من صفاء دسمها ترى النجوم فيه، والمستحيرة: القدر، فقال: يجمد على الأيدي الدسم من كثرته، واستشهد به الزجاج لصحة إطلاق النجم على النجوم.

وقال ابن قتيبة: النجم في البيت الثريا، لأن الثريا في الشتاء تصير في كبد السماء، فترى حينئذ في الماء وفي المرآة، وفي كل شيء له صفاء، ويناسب هذا القول قوله: جمودها لأن الدسم يجمد في البرد. أوله:

قريت الكلابي الذي يبتغي القرى .... وأمك إذ تحدي علينا قعودها

أي: ضفت الكلابي وأمك.

ص: 68

{إذَا هَوَى} إذا غرب أو انتثر يوم القيامة، أو: النجم: الذي يرجم به، {إذَا هَوَى}: إذا انقض. أو: النجم من نجوم القرآن، وقد نزل منجمًا في عشرين سنة، {إذَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({إذَا هَوَى} : إذا غرب وانتثر، وفي "المقتبس" قال الجنزي: فاوضت جار الله في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى} ما العامل في إذًا؟ فقال: العامل فيه: ما تعلق به الواو، فقلت: كيف يعمل فعل الحال في المستقبل؟ وهذا لأن معناه أقسم الآن، وليس معناه أقسم بعد هذا؟ فرجع فقال: والعامل فيه مصدر محذوف، تقديره: وهوي النجم إذا هوى. فعرضته على زين المشايخ فلم يستحسن قوله الثاني.

والوجه: أن "إذا" قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد، ونحوه: آتيك إذا احمر البسر، أي: وقت احمراره، فقد عري عن معنى الاستقبال، لأنه وقت الغنية عنه، بقوله: آتيك. قال عبد القاهر: إخبار الله بالمتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع، إذا لا خلف فيه فحرى المستقبل مجرى المحقق الماضي.

الراغب: قيل: أراد بالنجم الكوكب، وإنما خص الهوى دون الطلوع، فإن لفظ النجم دل على طلوعه، وقيل: أراد بذلك القرآن المنجم المنزل قدرًا فقدرًا، وفسر على الوجهين قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} .

ص: 69

هَوَى}: إذا نزل. أو: النبات {إذَا هَوَى} : إذا سقط على الأرض.

وعن عروة بن الزبير: أن عتبة بن أبي لهب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعن بعضهم: نبه بالطلوع والهوي على أنه مخلوق، والله خالقه، كما قال إبراهيم:{لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ} [الأنعام: 76]، أي: ذلك من أمارات الحدوث.

وقلت: كأنه أقسم بذلك لما فيه من الدلالة على وجود محدثه.

قوله: (وعن عروة بن الزبير أن عتبة بن أبي لهب) هذا الحديث موضوع، رواه بعض الشيعة، وأتى به محمد بن حماد المعروف بالدولابي في كتاب "الذرية الطاهرة"،

ص: 70

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وذلك أن ابن عبد البر وابن الأثير صاحبي "الاستيعاب" و"جامع الأصول" ذكرا أن عتبة ابن أبي لهب أسلم هو وأخوه معتب يوم فتح مكة، كانا قد هربا، فبعث العباس فأتى بهما فأسلما، وسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لهما، وشهدا معه حنينًا والطائف.

روى عن ابن عباس حديث المملوكين: "أطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون".

ص: 71

وكانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام، فقال: لآتين محمدًا فلأوذينه؛ فأتاه فقال: يا محمد، هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليه ابنته وطلقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك"، وكان أبو طالب حاضرًا، فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه، فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلًا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة، فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة، فإني أخاف على ابني دعوة محمد، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم؛ وأحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم، حتى ضرب عتبة فقتله. وقال حسان:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وروي عن عتبة بن خراش، أخرجه الإمام الشافعي رضي الله عنه في "مسنده".

قوله: (فوجم لها) النهاية: وجم يجم وجومًا، والواجم: الذي أسكته الهم، وعلته الكآبة، والضمير في "لها" للكلمة أو الدعوة.

قوله: (ما كان أغناك)"ما" للتعجب، و"كان" زائدة.

قوله: (وقال حسان) ذكر هذا صاحب "الذرية الطاهرة" في كتابه، في ضمن

ص: 72

من يرجع العام إلى أهله .... فما أكيل السبع بالراجع

{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، والخطاب لقريش، وهو جواب القسم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبيات، ونسبه إلى حسان:

سائل بني الأشعر إن جئتهم .... ما كان أنباء أبي الواسع

لا أوسع الله له قبره .... بل طبق الله على القاطع

رحم الله نبر جده جده .... ويدعو إلى نور له ساطع

أسبل بالحجر لتكذيبه .... دون قريش نهزة القادع

واستوجب الدعوة منه بما .... بين للناظر والسامع

أن سلط الله به كلبه .... يمشي هوينًا مشية الخادع

حتى أتاه وسط أصحابه .... وقد علتهم سنة الهاجع

والتقم الرأس بيافوخه .... والنحر منه فغرة الجائع

استلموه وهو يدعو له .... بالسبب الأدنى وبالجامع

والليث يعلوه بأنيابه .... منعفرًا وسط دم ناقع

لا يرفع الرحمن مصروعكم .... ولا يوهن قوة الصارع

وكان فيه لكم عبرة .... للسيد المتبوع والتابع

من يرجع العام إلى رحله .... فما أكيل السبع بالراجع

من عاد فالليث له عائد .... أعظم به من خبر شائع

وأثر الصنعة ظاهر في هذه الأبيات.

ص: 73

والضلال: نقيض الهدى، والغي: نقيض الرشد، أي: هو مهتد راشد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي، وما أتاكم به من القرآن ليس بمنطق يصدر عن هواه ورأيه، وإنما هو وحي من عند الله يوحى إليه.

ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء، ويجاب بأن الله تعالى إذا سوغ لهم الاجتهاد وما يستند إليه كله وحيا لا نطقا عن الهوى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والغي: نقيض الرشد) الراغب: الغي جهل من اعتقاد فاسد، وذلك أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقد لا صالحًا ولا فاسدًا، وقد يكون من اعتقاد شيء فاسد، وهذا الثاني يقال له: غي.

قوله: (ويحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء قال القاضي: واحتج بها من ال يرى الاجتهاد له، وأجيب عنه بأنه: إذا أوحي إليه بأن يجتهد، كان اجتهاده وما يسند إليه وحيًا، وفيه نظر؛ لأن ذلك حينئذ بالوحي.

وقلت: هاهنا بحث لا بد منه، وهو أن هذه الآية واردة في أمر التنزيل، وليس فيها لمستدل أن يستدل بشيء من أمر الاجتهاد، لا نفيًا ولا إثباتًا، لأن الضمير في {إِنْ هُوَ} للقرآن؛ بدليل من فسر النجم بنجوم القرآن، وهي من الأيمان الحسنة، نحوه قوله:

وثناياك إنها إغريض.

وينصره قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى} وفي الآيات معنى قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ

ص: 74

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 20 - 27] فقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى} جواب القسم، وقد تقرر أن الجملة القسمية يتلقى بها المنكر المصر، أي: ما ضل صاحبكم وما مسه الجن، ولا استهواه، وما غوى، وليس بينه وبين الغواية تعلق، أي: ليس بشاعر والشعراء يتبعهم الغاوون، وما ينطق عن الهوى كالكاهن، فقوله:{إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى} كالتكملة للبيان، فكأنه قيل: ما هذا القرآن إلا وحي، ليس بقول مجنون، ولا بقول شاعر، ولا بقول كاهن، كقوله تعالى:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 41] فقال أولًا: ما ضل وما غوى ماضيين، ثم قفاه بقوله:{ومَا يَنطِقُ} مستقبله، إيذانًا بأنه صلوات الله عليه في صغره حين اعتزلكم وما تعبدون، ما ضل قط، وما غوى في كبيرة، حين اختلى بغار حراء، فكيف ينطق بالهوى الآن وهو رسول من عند الله أمين على خلقه رحمة للعالمين، بشيرًا ونذيرًا.

وإلى هذا المعنى ينظر ما رويناه عن البخاري ومسلم عن ابن عباس عن أبي سفيان حين سأله هرقل وقال: سألتكم هل كنتم تتهمونه بالكذب، قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن: لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.

وقال جعفر بن محمد: كيف ينطق عن الهوى من هو ناطق بإظهار التوحيد، وإتمام الشريعة، وإيجاب الأمر والنهي، بل ما نطق إلا بأمر، ولا سكت إلا بأمر.

فإذا تقرر أن الآية ساكنة عن حديث الاجتهاد، فلنبين ثبوته بالنصوص الواردة فيه: منها ما روينا عن الترمذي وأبي داود عن المقدام بن معدي كرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حرام فحرموه".

ص: 75

{شَدِيدُ القُوَى} ملك شديد قواه، والإضافة غير حقيقية، لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، وهو جبريل عليه السلام، ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي رواية: "وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله؛ ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه".

وعن أحمد بن حنبل ومسلم وابن ماجة عن طلحة بن عبيد الله، قال: مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال:"ما يصنع هؤلاء"؟ قالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر مع الأنثى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أظن يغني ذلك شيئًا"، فأخبروا بذلك، فتركوه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إن كان ينفعهم فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله بشيء فخذوا به، فإني لا أكذب عليه"، وفي رواية أحمد:"إذا كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنكم به، وإذا كان شيئًا من أمر دينكم فإلي".

وفي رواية أخرى: "والظن يخطئ ويصيب"، والله أعلم

قوله: ({شَدِيدُ القُوَى} ملك شديد قواه) الراغب: قال تعالى {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} يعني به جهل جبريل عليه السلام، ووصفه بالقوة عند ذي العرش، فأفرد اللفظ ونكره تنبيهًا على أنه إذا اعتبر بالملأ الأعلى فقوته إلى حد ما، وقوله:{عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى} فإنه وصف القوة بلفظ الجمع، وعرفها تعريف الجنس، تنبيهًا أنه إذا اعتبر بهذا العالم، وبالذين يعلمهم ويفيدهم هو كثير القوى عظيم القدرة.

ص: 76

الماء الأسود، وحملها على جناحه، ورفعها إلى السماء ثم قلبها؛ وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين؛ وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في أوحى من رجعة الطرف، ورأى إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب الأرض المقدسة، فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل بالهند.

{ذُو مِرَّةٍ} : ذو حصافة في عقله ورأيه، ومتانة في دينه، {فَاسْتَوَى} فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي، وكان ينزل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في أوحى من رجعة الطرف) أي: أسرع.

قوله: ({ذُو مِرَّةٍ}: ذو حصافة في عقله)، الراغب: المرور: المضي والاجتياز بالشيء، قال تعالى:{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] وأمررت الحبل: إذا فتلته، والمرير والممر: المفتول، ومنه فلان ذو مرة، كأنه محكم الفتل.

وروي عن ابن عباس: {ذُو مِرَّةٍ} : ذو منظر حسن، قال الطبري: هو الصواب، يعني صحة الجسم وسلامته من الآفات، وإذا كان كذلك، كان قويًا، ومنه الحديث:"ولا ذي مرة سوى". وعن سعيد بن المسيب: ذي حكمة، لأن كلام الحكماء متين.

قوله: ({فَاسْتَوَى} فاستقام على صورة نفسه الحقيقية)، عن بعضهم: استوى، أي: ارتفع إلى السماء بعد أن علمه. وعن الحسن: أن الأفق أفق المغرب.

ص: 77

في صورة دحية، وذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها، فاستوى له في الأفق الأعلى وهو أفق الشمس فملأ الأفق. وقيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في الأرض، ومرة في السماء.

{ثُمَّ دَنَا} من رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَتَدَلَّى} فتعلق عليه في الهواء، ومنه: تدلت الثمرة، ودلى رجليه من السرير، والدوالي: الثمر المعلق. قال:

تدلى عليها بين سب وخيطة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أبو البقاء: {وَهُوَ} مبتدأ، {بِالأُفُقِ} خبره، والجملة حال من فاعل "استوى"، وقيل: هو معطوف على فاعل {فَاسْتَوَى} ، وهو ضعيف، إذ لو كان كذلك لقال: استوى هو، وعلى هذا يكون المعنى: فاستويا بالأفق، يعني محمدًا وجبريل صلوات الله عليهما.

قوله: (ما رآه أحد من الأنبياء) الحديث من رواية الترمذي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنهما في حديث من أخبر أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية، لكنه رأى جبريل، لم يره في صورته إلا مرتين، مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في أجياد له ست مئة جناح قد سد الأفق.

قوله: ({ثُمَّ دَنَا} من رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَتَدَلَّى}) فتعلق في الهواء، أي: جبريل على محمد صلوات الله عليهما، يعني أرد الدنو فتدلى.

قوله: (تدلى عليها بين سب وخيطة) أنشد الجوهري، تمامه لأبي ذؤيب:

بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها

ص: 78

ويقال: هو مثل القرلى، إن رأى خيرًا تدلى، وإن لم يره تولى.

{قَابَ قَوْسَيْنِ} مقدار قوسين عربيتين: والقاب والقيب؛ والقاد والقيد، والقيس:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والخيطة في الوتد.

قال أبو عمرو: وهو حبل لطيف يتخد من السلب، وهو لحاء شجر يعمل منه الحبال، والسب: الحبل، في لغة هذيل، والوكف: النطع، والجرداء: الصخرة الملساء، يصف مشتار العسل، والضمير في عليها للعسل.

قوله: (هو مثل القرلى) قرلى _بكسر القاف والراء المهملة_ ليس له ذكر في الأصول، وفي الحاشية: هو طائر يصيد السمك، وإحدى رجليه أطول.

قوله: (مقدار قوسين عربيتين) وفي "التيسير": كانت عظماء العرب، إذا أرادوا تأكيد عهد وتوثيق عقد لا ينقض، أحضر المتعاقدان قوسيهما، فجمعا بينهما، وقبضا عليهما، ونزاعهما جميعًا ورميا عنهما سهمًا واحدًا، يشير بذلك إلى الاتحاد الكلي، وكان بعد ذلك رضا أحدهما رضا الآخر، وسخط أحدهما سخط الآخر، فكأنهما قالا: أكدنا المحبة وأبرمنا القربة.

ص: 79

المقدار. وقرأ زيد بن علي: (قاد)، وقرئ:(قيد) و (قدر). وقد جاء التقدير بالقوس والرمح، والسوط والذراع والباع والخطوة والشبر والفتر والأصبع، ومنه:" لا صلاة إلى أن ترتفع الشمس مقدار رمحين".

وفي الحديث: "لقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها"، والقد: السوط. ويقال: بينهما خطوات يسيرة. وقال:

وقد جعلتني من حزيمة أصبعا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي "معالم التنزيل": قال مجاهد: معناه: حيث الوتر من القوس.

وهي إشارة إلى تأكيد العرب، وأصله أن الحليفين كانا إذا أرادا عقد الصفاء أخرجا بقوسيهما وألصقا بينهما، يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد منهما صاحبه.

قوله: (الفتر) الجوهري: الفتر ما بين طرفي السبابة والإبهام إذا فتحهما،

قوله: (لقاب قوس أحدكم) روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة سنة، واقرؤوا إن شئتم: {وظِلٍّ مَّمْدُودٍ}، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب". أخرجه البخاري ومسلم والترمذي.

قوله: (وقد جعلتني من حزيمة أصبعًا) أوله:

فأدرك إبقاء العرادة ظلعها

البيت لأبي الأسود، حزيمة _بالحاء المهملة وبفتحها وكسر الزاي_: اسم قبيلة،

ص: 80

فإن قلت: كيف تقدير قوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ} ؟

قلت: تقديره: فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله:

وقد جعلتني من حزيمة أصبعا

أي: ذا مقدار مسافة أصبع.

{أَوْ أَدْنَى} أي على تقديركم، كقوله تعالى:{أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147].

{إِلَى عَبْدِهِ} إلى عبد الله، وإن لم يجر لا سمه عز وجل ذكر، لأنه لا يلبس؛ كقوله:

{عَلَى ظَهْرِهَا} [فاطر: 45].

{مَا أَوْحَى} تفخيم للوحي الذي أوحي إليه: أوحي إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عرادة: اسم فرس، وظلع: وجع الرجل، ومعنى أبقاها: أن من عادة عتاق الخيل أن لا يعطي ما عنده من العدو، بل يبقي شيئًا منه بعد شيء، لوقت الحاجة إليه، ومفعول إبقاء محذوف، أي: ذخيرتها.

يقول: أوصلتني عرادة إلى العدو الذي هو حزيمة، وبقي بيني وبينه قدر مسافة أصبع، عرض لما ادخرت من العدو الظلع، ففات مني وهرب.

قوله: (قيل: أوحي إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها)، وروينا عن مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فاستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك".

ص: 81

{مَا كَذَبَ} فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، أي: ما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({مَا كَذَبَ} فؤاد محمد صلوات الله عليه ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام واعلم أن السلف والخلف اختلفوا في أنه: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لا؟

روينا عن مسلم والترمذي عن ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرتين، وفي رواية الترمذي قال: رأى محمد صلوات الله عليه ربه تعالى. قال عكرمة: قلت: أليس الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ؟ [الأنعام: 103] قال: ويحك، ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين. وفي أخرى له:{ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى} ؛ {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} ، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}. قال ابن عباس: قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم.

وفي أخرى له: {مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى} ، قال: رآه بقلبه. وعن مسلم والترمذي عن عبد الله بن شقيق قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أسأله: هل رأيت ربك؟ ، قال أبو ذر: قد سألته فقال: "نور، أنى أراه؟ ! "

وزاد الإمام أحمد بن حنبل: "نوراني أراه"، يعني: على طريق الإيجاب.

وعن الترمذي عن الشعبي قال: لقي ابن عباس كعبًا بعرفة، فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم، فقال كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى صلوات الله عليهما، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين، قال مسروق: فدخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: هل رأى محمد صلوات الله عليه ربه تعالى؟

ص: 82

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فقالت: لقد تكلمت بشيء قف له شعري، قلت: رويدًا، ثم قرأت:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} ، فقالت: أين يذهب بك إنما هو جبريل، من أخبرك أن محمدًا رأى ربه، أو كتم شيئًا مما أمر به، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، فقد أعظم الفرية.

وعن البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب

الحديث. وفي "شرح صحيح مسلم" للإمام المتقن أفضل المتأخرين، محيي الدين النواوي رحمه الله: "قال القاضي عياض: اختلف السلف والخلف: هل رأى نبينا صلوات الله عليه ربه ليلة الإسراء؟ فأنكرته عائشة، وهو المشهور عن ابن مسعود، وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين، وروي عن ابن عباس أنه رأى بعينه، ومثله عن أبي ذر وكعب والحسن، وكان يحلف على ذلك، وحكي مثله عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل.

وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أنه رآه، ووقف بعض مشايخنا، وقال: ليس عليه دليل واضح، ولكنه جائز.

ورؤية الله تعالى في الدنيا جائزة، واختلفوا أن نبينا صلوات الله عليه هل كلم ربه سبحانه وتعالى ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟ فحكي عن الأشعري وقوم من المتكلمين أنه كلمه، وعزى بعضهم إلى جعفر بن محمد وابن مسعود وابن عباس، وكذلك اختلفوا في قوله:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} ، فالأكثرون على أن هذا الدنو والتدلي مقسم ما بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس والحسن ومحمد بن كعب وجعفر بن محمد وغيرهم أنه دنو من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، أو من الله تعالى، والدنو والتدلي على هذا متأول، ليس على وجهه.

قال جعفر بن محمد: الدنو من الله لا حد له، ومن العباد بالحدود، فدنوه صلوات الله عليه وسلامه من ربه عز وجل قربه منه، وظهور عظيم منزلته لديه، وإشراق أنوار معرفته

ص: 83

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليه واطلاعه على أسرار ملكوته وغيبه، بما لم يطلع عليه سواه، والدنو من الله تعالى إظهار ذلك واتصال عظيم بره وفضله إليه، و {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} على هذا عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من نبينا صلوات الله عليه وسلامه، ومن الله إجابة الرغبة وإبانة المنزلة، ونحوه في قوله صلوات الله عليه حكاية عن ربه:"من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا". هذا آخر كلام عياض.

وأما صاحب "التحرير" فإنه اختار إثبات الرؤية، قال: والحجج في هذه المسألة، وإن كانت كثيرة، لكنا لا نتمسك إلا بالأقوى، منها: حديث ابن عباس: أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلوات الله عليهم!

والأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة، والمرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة: هل رأى محمد صلوات الله عليه ربه؟ فأخبره أنه رآه، ولا يقدح في هذا حديث عائشة، لأن عائشة رضي الله عنها لم تخبر أنها سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لم أر ربي"، وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة، لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ} [الشورى: 51] الآية، ولقوله:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، والصحابي إذا قال قولًا وخالفه غيره منهم، لم يكن قوله حجة، وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها، فإنها ليست مما يدرك بالعقل، ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسماع، ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه بالظن والاجتهاد.

وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت شيئًا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي. في هذا كلام صاحب "التحرير".

ص: 84

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فقال الشيخ محيي الدين رحمه الله: "الحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء، وإثبات هذا ليس إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا مما لا ينبغي أن يشكك فيه، ثم إن عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث، ولو كان معها حديث لذكرته، وإنما اعتمدت على الاستنباط من الآيات. أما احتجاجها بقوله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} فجوابه أن الإدراك هو الإحاطة، والله تعالى لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وبقوله:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} الآية، فجوابه أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، أو أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة.

وقال ابن عباس: وعلى هذا معنى {نَزْلَةً أُخْرَى} ، تعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت له عرجات في تلك الليلة لاستحطاط عدد الصلوات، وكل عرجة: نزلة" تم كلامه.

وفي "التفسير الكبير": واعلم أن من ينكر جواز رؤية الله يلزمه أن ينكر رؤية جبريل، وفيه إنكار الرسالة، وهو كفر. ثم إن النصوص وردت أن محمدًا صلوات الله عليه رأى ربه بفؤاده، وجعل بصره في فؤاده، أو رآه ببصره وجعل فؤاده في بصره، وكيف لا؟ ومذهب أهل السنة: الرؤية بالإراءة، لا بقدر العبد، فإذا حصل من طريق القلب كان معرفة الله، والله تعالى قادر على أن يحصل العلم بخلق مدرك للعلوم في البصر، كما قدر أن يحصله بخلق مدرك للعلوم في القلب. والمسألة مختلف فيها بين الصحابة، واختلاف الوقوع مما ينبئ عن الاتفاق على الجواز، والله أعلم.

ص: 85

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما اقتضاء النظم فإن مجرى الكلام إلى قوله: {وهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} ، من أمر الوحي، وتلقيه من الملك، ودفع شبه الخصوم، ومن قوله:{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} إلى قوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} على أمر العروج إلى الجناب الأقدس، والضمير في:{أَوْحَى} لله تعالى، و {عَبْدِهِ} من إقامة المظهر موضع المضمر، لتصحيح نسبة القرب، وتحقيق معنى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]. ولا يخفى على كل ذي لب إباء مقام {مَا أَوْحَى} الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله ما أوحى، إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المناغاة بين المتسارين، وما ينطوي عنده بساط الوهم، ولا يطيقه نطاق الفهم كله، وكلمة {ثُمَّ} على هذا منزلة على التراخي بين المرتبتين، والفرق بين الوحيين؛ وحي بواسطة وتعليم، وآخر بغير واسطة لجهة التكريم، فيحصل عنده الترقي من مقام {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] إلى مخدع {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} .

وروى السلمي عن جعفر بن محمد: أدناه منه حتى كان منه كقاب قوسين، والدنو من الله لا حد له، والدنو من العبد بالحدود، {فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قال: بلا واسطة فيما بينه وبينه، سرًا إلى قلبه لا يعلم به أحد سواه، بلا واسطة إلا في العقبى حتى يعطيه الشفاعة لأمته.

{فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} أي كان ما كان وجرى ما جرى.

وذكر الشيخ أبو القاسم القشيري في "مفاتيح الحجج": أخبر الله تعالى بقوله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} أنه صلوات الله عليه بلغ من الرتبة والمنزلة القدر الأعلى مما لا يفهمه الخلق، ثم قال:{أَوْ أَدْنَى} ، أي: فوق ذلك.

قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس الله سره: {مَا زَاغَ البَصَرُ} إخبار عن حاله صلوات الله عليه بوصف خاص، فكان {مَا زَاغَ البَصَرُ} حاله في طرف

ص: 86

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإعراض، وفي طرف الإقبال تلقى ما ورد عليه في مقام قاب قوسين بالروح والقلب، {ومَا طَغَى} حاله من الفرار من حياء إلى مطاوي الانكسار لئلا تنبسط النفس فيطغى، وقال: فيه وجه آخر ألطف منه: أنه {مَا زَاغَ البَصَرُ} حيث لم يتخلف عن البصيرة ولم يتقاصر، و"ما طغى" لم يسبق البصيرة فيتجاوز حده، ويتعدى مقامه، فلم يزل صلوات الله عليه مستحلس حجاله، في خفارة أدب حاله، حتى خرق حجب السماوات فانصبت إليه أقسام القرب انصبابًا، وانقشعت عنه حجب الحجب حجابًا حجابًا، حتى استقام على صراط {مَا زَاغَ البَصَرُ ومَا طَغَى} ، فمر كالبرق الخاطف، إلى مخدع الوصل واللطائف، وهذا غاية الأدب، ونهاية الأرب.

وقال أبو العباس بن عطاء: لم يره بطغيان يميل، بل رآه على شرط اعتدال القوى.

وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاهد نفسه، ولا إلى مشاهدتها، وإنما كان مشاهدًا بكليته لربه، يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل.

وعن "حقائق": السلمي، قال الصادق: لما قرب الحبيب من الحبيب بغاية القرب، نالته غاية الهيبة، فلاطفه بغاية اللطف، لأنه لا يحتمل غاية الهيبة إلا غاية اللطف، وذلك قوله:{فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} أي: كان ما كان، وجرى ما جرى، قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيبه، وألطف له إلطاف الحبيب لحبيبه، وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه، فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحدًا.

وقال جعفر: لا يعلم ما رأى إلا الذي رأى، والذي رئي صار الحبيب إلى الحبيب قريبًا وله نجيًا وبه أنيسًا، {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} .

ص: 87

قال فؤاده لما رآه: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبًا، لأنه عرفه، يعني: أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه، ولم يشك في أن ما رآه حق، وقرئ:(ما كذب) أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته.

{أَفَتُمَارُونَهُ} من المراء وهو الملاحاة والمجادلة، واشتقاقه من مري الناقة، كأن كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه، وقرئ:(أفتمرونه) أفتغلبونه في المراء، من ماريته فمريته. ولما فيه من معنى الغلبة عدي ب"على"، كما تقول: غلبته على كذا: وقيل: (أفتمرونه): أفتجحدونه. وأنشدوا:

لئن هجرت أخا صدق ومكرمة .... لقد مريت أخا ما كان يمريكا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال السلمي: {مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى} : البصر، وهو مشاهدة ربه كفاحًا ببصره وقلبه.

وقال ابن عطاء: ما اعتقد القلب خلاف ما رأته العين، وليس كل من رأى شيئًا مكن فؤاده من إدراكه، إذ العيان قد يظهر فيضطرب السر عن حمل الوارد عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم محمول فيها فؤاده وعقله وحسه ونظره، وهذا يدل على صدق طويته وحمله فيما شوهد به.

قوله: (وقرئ: "ما كذب") قرأها هشام، والباقون: بتخفيفها.

قوله: (من مري الناقة) مريت الناقة مريًا: إذا مسحت ضرعها لتدر، وأمرت الناقة، إذا: در لبنها.

قوله: (وقرئ: ("أفتمرونه") حمزة والكسائي، والباقون:{أَفَتُمَارُونَهُ} .

قوله: (لئن هجرت أخا صدق) البيت، يقول: لئن هجرتني، وأنا ذو صدق ومكرمة، لقد جحدت حق أخ وفي ما كان يجحد حقك.?

ص: 88

وقالوا: يقال: مريته حقه: إذا جحدته، وتعديته ب"على" لا تصح إلا على مذهب التضمين.

{نَزْلَةً أُخْرَى} مرة أخرى من النزول، نصبت النزلة نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل، فكانت في حكمها، أي نزل عليه جبريل عليه السلام نزلة أخرى في صورة نفسه، فرآه عليها، وذلك ليلة المعراج.

قيل في سدرة المنتهى: هي شجرة نبق في السماء السابعة عن يمين العرش ثمرها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيول، تنبع من أصلها الأنهار التي ذكرها الله في كتابه، يسير الراكب في ظلها سبعين عامًا لا يقطعها. والمنتهى: بمعنى موضع الانتهاء، أو الانتهاء، كأنها في منتهى الجنة وآخرها. وقيل: لم يجاوزها أحد، وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم، ولا يعلم أحد ما وراءها. وقيل: تنتهي إليها أرواح الشهداء.

{جَنَّةُ المَاوَى} : الجنة التي يصير إليها المتقون، عن الحسن. وقيل: تأوي إليها أرواح الشهداء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فكانت في حكمها) أي: فكانت النزلة في حكم المرء، الفاء نتيجة التعليل، لتفسير {نَزْلَةً أُخْرَى} بـ"مرة أخرى".

قال أبو البقاء: المرة في الأصل: مصدر: مر يمر، ثم استعمل ظرفًا اتساعًا، وهذا يدل على قوة شبه الزمان بالفعل.

قوله: (ثمرها كقلال هجر) في حديث المعراج عن البخاري ومسلم والنسائي عن أنس: "ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشاها من أمر الله ما غشى، تغيرت، فما أحد يستطيع أن ينعتها من حسنها".

ص: 89

وقرأ علي وابن الزبير وجماعة (جنة المأوى)، أي: ستره بظلاله ودخل فيه. وعن عائشة: أنها أنكرته وقالت: من قرأ به فأجنه الله.

{مَا يَغْشَى} تعظيم وتكثير لما يغشاها، فقد علم بهذه العبارة أن ما يغشاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله: أشياء لا يكتنهها النعت ولا يحيط بها الوصف.

وقد قيل: يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت على كل ورقة من ورقها ملكًا قائمًا يسبح الله". وعنه عليه الصلاة والسلام: "يغشاها رفرف من طير خضر". وعن ابن مسعود وغيره: يغشاها فراش من ذهب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (جنة المأوى"، أي: سترة بظلاله، ودخل فيه)، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، سترة المأوى ودخل هو فيه، قال أبو البقاء: ويقرأ: "جنة" على أنه فعل، وهو شاذ، والمستعمل: أجنة.

وقلت: ولهذا قالت أم المؤمنين: من قرأ به فأجنه الله تعالى، أي جعله مجنونًا، أو جعله في الجنن، أي: القبر، تقول العرب: أجن الله جبلتك، وأجنه الله، فهو مجنون، من الشواذ.

قوله: : (رفرف)، النهاية: الرفرف: البساط، وقيل: ما كان من الديباج وغيره رقيقًا حسن الصنعة، ثم اتسع فيه.

قوله: (يغشاها فراش من ذهب) عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها، فيقبض منها، قال: ويغشى السدرة ما يغشى، قال: فراش من ذهب، أخرجه مسلم والترمذي والنسائي. قوله:(يغشاها فراش من ذهب) عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها، فيقبض منها، قال: ويغشى السدرة ما يغشى، قال: فراش من ذهب، أخرجه مسلم والترمذي والنسائي.

ص: 90

{مَا زَاغَ} بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم {ومَا طَغَى} أي أثبت ما رأى إثباتًا مستيقنًا صحيحًا، من غير أن يزيغ بصره عنه أو يتجاوزه، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها، {ومَا طَغَى}: وما جاوز ما أمر برؤيته.

{لَقَدْ رَأَى} والله لقد رأى {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} الآيات التي هي كبراها وعظماها، يعني: حين رقي به إلى السماء فأري عجائب الملكوت.

[{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ والْعُزَّى * ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إنْ هِيَ إلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ ومَا تَهْوَى الأَنفُسُ ولَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى} 19 - 23].

اللات والعزى ومناة: أصنام كانت لهم، وهي مؤنثات؛ فاللات كانت لثقيف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (رأى {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ}، الآيات التي كبراها)، قال أبو البقاء:{الكُبْرَى} هي مفعول {رَأَى} ، وقيل: هو نعت لـ {آيَاتِ رَبِّهِ} ، والمفعول محذوف، أي: شيئًا من آيات ربه الكبرى.

الانتصاف: {الكُبْرَى} صفة لـ {آيَاتِ رَبِّهِ} لا مفعول به، ويكون المرئي محذوفًا تعظيمًا له، ولأن في الآيات ما لم يره، وفيها ما رآه، وعلى الأول يكون مقتضاه أنه رأى الآيات الكبرى كلها على الشمول، فإن آيات الله لا يحيط بها أحد.

فإن قلت: علم أريد به الخصوص، قلت: فقد رجع إلى الأول بعد تكلف.

الإنصاف: ويجوز أن تكون {الكُبْرَى} مفردًا مفعولًا وجعل الإسراء وما رأى فيه من العجائب كالشيء الواحد، فلا يرد عليه سؤال صاحب "الانتصاف"، وعلى هذا أول الزمخشري قوله:{لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى} الآية الكبرى من آياتنا.

قوله: (اللات والعزى ومناة: أصنام)، قال الزجاج: فلما قص هذه الأقاصيص،

ص: 91

بالطائف. وقيل: كانت بنخلة تعبدها قريش، وهي فعله من لوى؛ لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة. أو يلتوون عليها: أي يطوفون. وقرئ (اللات) بالتشديد، وزعموا أنه سمي برجل كان يلت عده السمن بالزيت ويطعمه الحاج. وعن مجاهد:

كان رجل يلت السويق بالطائف، وكانوا يعكفون على قبره، فجعلوه وثنًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قيل لهم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ والْعُزَّى} أي: اخبرنا عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله، هل لها من هذه القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة شيء؟ !

قلت: ونظير الآيات في هذا المعنى قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33] إذ المعنى: أفالله الذي هو قائم رقيب على كل نفس صالحة وطالحة بما كسبتن يعلم خيره وشره، كمن ليس كذلك! ! أو لم يوحدوه وجعلوا له شركاء! ؟ إلى قوله:{أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول، من غير أن يكون لذلك حقيقة، وهو معنى قوله:{إنْ هِيَ إلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} ويمكن أن يقال: إنه تعالى لما رد طعن المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى} وفي ما أنزل إليه بقوله: {إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى} وقرر المعنى الثاني بقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} إلى آخرها، حتى بلغ به الغاية القصوى، أخذ يبين ضلالتهم بقوله:{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ والْعُزَّى} إلى آخر الآيات، ووبخهم على غوايتهم، حيث جعلوا لله شركاء إناثًا، وسموها بأسامي لا حقيقة لها، أي: هذه الضلالة والغواية التي بلغت غايتها، ولذلك التفت من المخاطبة ناعيًا عليهم إلى الغيبة على الضلالة بعد مجيء الآيات البينات بقوله:{إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ ومَا تَهْوَى الأَنفُسُ ولَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى} . والظاهر أن الواو للحال، وقد دخلت على الجملة القسمية مقررة لجهة الإشكال، ولهذا قال الواحدي: هذا التعجب من حالهم، حيث لم يتركوا عبادتها مع وضوح البيان، والله أعلم.

ص: 92

و"العزى" كانت لغطفان وهي سمرة، وأصلها تأنيث الأعز. وبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول:

يا عز كفرانك لا سبحانك .... إني رأيت الله أهانك

ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: " تلك العزى ولن تعبد أبدًا".

ومناة: صخرة كانت لهذيل وخزاعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لثقيف. وقرئ: (ومناءة) وكأنها سميت مناة؛ لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها، أي: تراق، ومناءة، مفعلة من النوء، كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها.

و{الأُخْرَى} ذم، وهي المتأخرة الوضيعة المقدار، كقوله تعالى:{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 39] أي: وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (و {الأُخْرَى} ذم وهي) إلى آخره، الانتصاف:"أخرى": تأنيث "آخر"؛ أفعل، ولا شك أنه في الأصل من التأخر الوجودي، إلا أن العرب عدلت به عن التأخر الوجودي، إلى استعماله حيث يذكر مغايرًا لما تقدم لا غير، وسلبت دلالتها عن المعنى الأصلي، بخلاف آخر وآخرة، فإشعارهما بالتقدم الوجودي ثابت، ومن ثم قالوا: ربيع الآخر، جمادة الآخرة، بكسر الخاء ليدل على التأخير الوجودي، وهذا البحث حرره ابن الحاجب، وهو الحق، فحينئذ يكون الإشعار يتغاير في الذكر مع مراعاة الفواصل.

الإنصاف: إنما حمل الزمخشري على القول الأول قوله إنه رأى "أخرى" إذا كانت تأنيث "آخر" _بفتح الخاء_ يستدعي مشاركة "ما"، فجعلت قرينة لها في الوصف المذكور لما سبقه، وها هنا مناة ثالثة، وليست اللات والعزى موصوفين بكون كل واحد منهما ثالثة، فامتنع أن يقال الأخرى بهذا المعنى، فلذلك عدل الزمخشري.

ص: 93

ويجوز أن تكون الأولية والتقديم عندهم للات والعزى. كانوا يقولون: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدوهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى مع وأدهم البنات، فقيل لهم:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنثَى} ، ويجوز أن يراد: أن اللات والعزى ومناة إناث، وقد جعلتموهن لله شركاء، ومن شأنكم أن تحتقروا الإناث، وتستنكفوا من أن يولدن لكم وينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادًا لله وتسمونهن آلهه؟ ! {قِسْمَةٌ ضِيزَى} جائزة، من ضازه يضيزه إذا ضامه، والأصل: ضوزى، ففعل بها ما فعل بـ"بيض"؛ لتسلم الياء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والظاهر أن صاحب "الانتصاف" لم يفهم عنه هذا المعنى، وقد كشف عن المعنى القاضي حيث قال:{الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} : صفتان للتوكيد، كقوله:{يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38]، أو {الأُخْرَى} من التأخر في الرتبة.

وذلك أنه لما عطف عليهما، علم أنها ثالثتهما، فجيء بالثالثة توكيدًا، فالأخرى؛ إما توكيد مثلها، أو تجعل بمعنى أخرى من التأخر الوجودي، فتصير حينئذ مثل "ثم" في أن يذهب بها إلى التراخي بحسب الزمان حقيقة، أو المرتبة مجازًا، فقول المصنف:"والأخرى ذم" من القبيل الثاني، وقوله:"الأولية والتقدم عندهم للات" من القبيل الأول.

قوله: (ويجوز أن يراد أن)، الفرق بين هذا الوجه وما سبق، أن الإنكار على الأول زاد عن قولهم: إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، مع استنكافهم عن البنات، فأنكر عليهم قولهم حال استنكافهم، ألا ترى كيف أوقع قوله:"مع وأدهم البنات" حالًا من فاعل "يقولون"؟ ! وعلى الثاني: الإنكار وارد على فعلهم، فإنهم لما عبدوها وهي إناث جعلوها شركاء لله تعالى في العبادة، فأنكر عليهم ذلك الفعل، ولذلك قال: "جعلتموهن لله شركاء

" إلى آخره.

قوله: (والأصل: ضوزى، ففعل بها ما فعل بـ"بيض")، الجوهري: هو فعلى مثل: طوبى وحبلى، وإنما كسروا الضاد لتسلم الياء، لأنه ليس في كلام العرب فعلى صفة، وإنما

ص: 94

وقرئ: (ضئزى) من: ضأزه، بالهمز. و (ضيزى) بفتح الضاد. {هِيَ} ضمير الأصنام، أي ما هي {إِلاَّ أَسْمَاءٌ} ليس تحتها في الحقيقة مسميات، لأنكم تدعون الإلهية لما هو أبعد شيء منها وأشده منافاة لها. ونحوه قوله تعالى:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] أو ضمير الأسماء وهي قولهم: اللات والعزى ومناة، وهم يقصدون بها أسماء الآلهة، يعني: ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتموها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هو من بناء الأسماء كالشعرى والدلفى. وجمع الأبيض بيض، وأصله بيض _بضم الباء_، وإنما أبدلوا من الضمة كسرة ليصح البناء.

قال الزجاج: أجمعوا أن أصل ضيزى، ضوزى، نقلت من "فعلى" إلى "فعلى"، كأبيض إلى بيض وأصله بوض، كأحمر وحمر، فنقلت الضمة إلى الكسرة وهم لا يعرفون في الكلام فعلى صفة، بل فعلى بالفتح نحو سكرى وعصبى، وبالضم؛ نحو: حبلى وفضلى، ولذلك قالوا: مشية حيكى، وهي مشية يحيك فيها صاحبها: أي يتبختر، فحيكى عندهم: فعلى بضم الفاء بضم الفاء أيضًا.

قوله: (وقرئي: "ضئزى" من: ضأزة، بالهمز) ابن كثير: ضئزى بالهمز، والباقون بغير همز.

قوله: (يعني: ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتموها) وقال أبو البقاء: يجب أن يكون المعنى: ذوات أسماء، لقوله:{سَمَّيْتُمُوهَا} ، لأن لفظ الاسم لا يسمى. والمصنف ذهب إلى أن هذه التسمية تسمية ليس لها مسميات يستحق أن يسمى بها، لأن الإله ينبغي أن يكون

ص: 95

بهواكم وشهوتكم، ليس لكم من الله على صحة تسميتها برهان تتعلقون به. ومعنى {سَمَّيْتُمُوهَا} سميتم بها، يقال: سميته زيدًا، وسميته بزيد. {إن يَتَّبِعُونَ} -وقرئ بالتاء- {إلاَّ الظَّنَّ} إلا توهم أن ما هم عليه حق، وأن آلهتهم شفعاؤهم، وما تشتهيه أنفسهم، ويتركون ما جاءهم من الهدى والدليل على أن دينهم باطل.

[{أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولَى} 24 - 25].

{أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى} هي أم المنقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار، أي: ليس للإنسان ما تمنى، والمراد طمعهم في شفاعة الآلهة، وهو تمن على الله في غاية البعد، وقيل: هو قولهم: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50] وقيل: هو قول الوليد بن المغيرة {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77] وقيل: هو تمني بعضهم أن يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم.

{فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولَى} أي هو مالكها، فهو يعطي منهما من يشاء ويمنع من يشاء، وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منهما.

[{وكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلاَّ مِنْ بَعْدِ أَن يَاذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ ويَرْضَى} 26].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خالقًا رازقًا عالمًا مثيبًا ومعاقبًا، وإليه الإشارة بقوله:"سميتموها بهواكم وشهوتكم". وفي "الكبير": وقيل: أي قلتم عزى ولا عزة لها، وقلتم: إنها آلهة، وليست بآلهة.

قوله: (والدليل على أن دينهم باطل) عطف تفسيري على الهدى، وإنما جعله دليلًا وسلطانًا على بطلان دينهم لأنه مجلوب لقوله:{مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [يوسف: 40]. أي: ما لهم من دليل قط، ما يتبعون إلا شهوات الأنفس، والحال أن جاءهم دليل قاطع وسلطان قاهر على بطلان ما هو عليه، فيكون قوله:{ولَقَدْ جَاءَهُم} حالًا مقررة لجهة الإشكال.

ص: 96

يعني: أن أمر الشفاعة ضيق، وذلك أن الملائكة مع قربتهم وزلفاهم وكثرتهم واغتصاص السموات بجموعهم لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئًا قط ولم تنفع، إلا إذا شفعوا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة له ويرضاه ويراه أهلًا لأن يشفع له، فكيف تشفع الأصنام إليه لعبدتهم؟ !

[{إنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ المَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنثَى * ومَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا * فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ولَمْ يُرِدْ إلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} 27 - 30].

{لَيُسَمُّونَ المَلائِكَةَ} أي كل واحد منهم {تَسْمِيَةَ الأُنثَى} لنهم إذا قالوا: الملائكة بنات الله، فقد سموا كل واحد منهم بنتًا، وهي تسمية الأنثى {بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي: بذلك وبما يقولون. وفي قراءة أبي: (بها)، أي: بالملائكة، أو التسمية. {لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} يعني: إنما يدرك الحق الذي هو حقيقة الشيء وما هو عليه بالعلم والتيقن، لا بالظن والتوهم. {فَأَعْرِضْ} عن دعوة من رأيته معرضًا عن ذكر الله وعن الآخرة ولم يرد إلا الدنيا، ولا تتهالك على إسلامه، ثم قال:{إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} أي: إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب، وأنت لا تعلم، فخفض على نفسك ولا تتعبها، فإنك لا تهدي من أحببت، وما عليك إلا البلاغ. وقوله تعالى:{ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ} اعتراض، أو فأعرض عنه ولا تقابله، إن ربك هو أعلم بالضال والمهتدي، وهو مجازيهما بما يستحقان من الجزاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إنما يدرك الحق) قال القاضي: الحق الذي هو حقيقة الشيء؛ لا يدرك إلا بالعلم، والظن لا اعتبار له في المعارف الحقيقية، وإنما العبرة به في العمليات وما يكون وصلة إليها.

ص: 97

[{ولِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ والْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ إنَّ رَبَّكَ واسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وإذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 31 - 32].

قرئ: {لِيَجْزِيَ} و (لنجزي)، بالياء والنون فيهما. ومعناه: أن الله عز وجل إنما خلق العالم وسوى هذا الملكوت لهذا الغرض: وهو أن يجازي المحسن من المكلفين والمسيء منهم. ويجوز أن يتعلق بقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} لأن نتيجة العلم بالضال والمهتدي جزاؤهما. {بِمَا عَمِلُوا} بعقاب ما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ: {لِيَجْزِيَ}، و"لنجزي") والمشهورة: "يجزي" بالياء فيهما.

قوله: (ويجوز أن يتعلق بقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ}): أي {لِيَجْزِيَ} إما تعليل لقوله: {ولِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ} وإما لقوله: {هُوَ أَعْلَمُ} المعنى: أن قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} و {بِمَنِ اهْتَدَى} ، ليجزي كل واحد منهما بما يستحقه، فيكون قوله:{ولِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ} على هذا معترضة، توكيدًا لما تضمن الكلام من معنى القدرة والمنعة، يعني هو عالم كامل العلم، قادر تام القدرة، يعلم أحوال المكلفين فيجازيهم، لا يمنعه أحد مما يريده، لأن كل شيء تحت قهره وسلطانه.

قال الواحدي: "لله ملك السموات والأرض": إخبار عن قدرته وسعة ملكه، وهو معترض، أي: إذا كان أعلم بهم جازى كلًا بما يستحقه، وإنما يقدر على المجازاة إذا كان كثير الملك. تم كلامه.

وكان هذا من توارد الخاطر، وعلى الأول متصل بقوله:{فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ولَمْ يُرِدْ إلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: فأعرض عن دعوة من تدعوه إلى لقاء ربه والدار الآخرة وهو

ص: 98

عملوا من السوء. و {بِالحُسْنَى} بالمثوبة الحسنى وهي الجنة. أو بسبب ما عملوا من السوء وبسبب الأعمال الحسنى.

{كَبَائِرَ الإثْمِ} أي الكبائر من الإثم؛ لأن الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر، والكبائر: الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة. وقيل: التي يكبر عقابها بالإضافة إلى ثواب صاحبها، {والْفَوَاحِشَ} ما فحش من الكبائر، كأنه قال: والفواحش منها خاصة: وقرئ: (كبير الإثم) أي: النوع الكبير منه، وقيل: هو الشرك بالله. واللمم: ما قل وصغر. ومنه: اللمم: المس من الجنون، واللوثة منه. وألم بالمكان: إذا قل فيه لبثه. وألم بالطعام: قل منه أكله: ومنه:

لقاء أخلاء الصفاء لمام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقول: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} ، والحال أن الله سبحانه وتعالى إنما خلق العالم وسوى هذا الملكوت ليجزي المحسن والمسيء، ويكون قوله:{ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ} تعريضًا بهم، وبظنهم الباطل أنهم يتركون سدى، ويزعمون أن السماوات والأرض وما بينهما خلق عبثًا، وقوله:{إنَّ رَبَّكَ} الآية، على هذا اعتراض وتوكيد للتهديد والوعيد.

قوله: (لأن الإثم جنس يشتمل على كبائر وصغائر) إلى آخره، الانتصاف: أطال الزمخشري الكلام في هذه الآية على معتقدين فاسدين؛ أحدهما وجوب تعذيب مرتكب الكبيرة إن لم يتب، والثاني: وجوب تكفير صغائر مجتنب الكبائر مع عدم التوبة، وله أن يعذب بالصغائر مع اجتناب الكبائر وليس في الآية ما يخالف ذلك فلا حاجة إلى الإطالة.

قوله: (كأنه قال: والفواحش منها خاصة) يريد أنه من أسلوب قوله: {وَمَلَائِكَتِهِ

وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98].

قوله: (لقاء أخلاء الصفاء لمام) تمامه:

وكل وصال الغانيات ذمام

ص: 99

والمراد الصغائر من الذنوب. ولا يخلو قوله تعالى: {إلاَّ اللَّمَمَ} من أن يكون استثناء منقطعًا أو صفة، كقوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ} [الأنبياء: 22] كأنه قيل: كبائر الإثم غير اللمم، وآلهة غير الله.

وعن أبي سعيد الخدري: اللمم هي النظرة، والغمزة، والقبلة. وعن السدي: الخطرة من الذنب، وعن الكلبي: كل ذنب لم يذكر الله عليه حدًا ولا عذابًا. وعن عطاء: عادة النفس، الحين بعد الحين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي "ديوان الأدب": فلان يزورنا لمامًا، أي: في الأحايين. الجوهري: يقال: بئر ذمة، قليلة الماء وجمعها: ذمام.

قوله: (أو صفة كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ}) قيل: فيه نظر، لأن {كَبَائِرَ الإثْمِ} معرفة، و"غير اللمم" نكرة، اللهم إلا أن يحمل على الجنس نحو قوله:{الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ، وإذا حمل الصفة يكون مثل قول الشاعر:

. إلا الفرقدان

لأن {كَبَائِرَ الإثْمِ} ليس جمعًا منكورًا.

قوله: (عادة النفس الحين) وفي "التيسير": وقيل: اللمم أن لا يصر على ما ارتكبه، بل يبادر بالتوبة عنه، من قولهم: ما يأتينا فلان إلا لمامًا: أي زيارة لا لبث معها، يعني في الحين، أي لا يدوم عليه ولا يعتاده. وروينا عن الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن تغفر اللهم تغفر جمًا، ،أي عبد لك لا ألما".

ص: 100

{إنَّ رَبَّكَ واسِعُ المَغْفِرَةِ} حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، والكبائر بالتوبة.

{فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} فلا تنسبوها إلى زكاء العمل، وزيادة الخير، وعمل الطاعات، أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصي، ولا تثنوا عليها واهضموها، فقد علم الله الزكي منكم والتقي أولا وآخرا، قبل أن يخرجكم من صلب آدم، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم.

وقيل: كان ناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا، فنزلت، وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء، فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح من الله وبتوفيقه وتأييده، ولم يقصد به التمدح، لم يكن من المزكين أنفسهم، لأن المسرة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر.

{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وأَعْطَى قَلِيلًا وأَكْدَى * أَعِندَهُ عِلْمُ الغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّا بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وإبْرَاهِيمَ الَّذِي وفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى * وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى * وأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى * وأَنَّ إلَى رَبِّكَ المُنتَهَى * وأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأَبْكَى * وأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وأَحْيَا * وأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إذَا تُمْنَى * وأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى * وأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وأَقْنَى * وأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وأَطْغَى * والْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} 33 - 54].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فأما من اعتقد أن عمله من العمل الصالح) روينا عن مسلم عن أبي ذر قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن".

ص: 101

{وأَكْدَى} قطع عطيته وأمسك، وأصله: إكداء الحافر، وهو أن تلقاه كدية:

وهي صلابة كالصخرة فيمسك عن الحفر، ونحوه: أجبل الحافر، ثم استعير فقيل: أجبل الشاعر: إذا أفحم.

روي أن عثمان رضي الله عنه كان يعطي ماله في الخير، فقال له عبد الله بن سعد ابن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شيء، فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه، فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء. فنزلت.

ومعنى {تَوَلَّى} ترك المركز يوم أحد، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل.

{فَهُوَ يَرَى} فهو يعلم أن ما قاله له أخوه من احتمال أوزاره حق، {وفَّى} قرئ مخففا ومشددا، والتشديد مبالغة في الوفاء. أو بمعنى: وفر وأتم، كقوله تعالى:{فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] وإطلاقه ليتناول كل وفاء وتوفية، من ذلك: تبليغه الرسالة، واستقلاله بأعباء النبوة، والصبر على ذبح ولده، وعلى نار نمرذ، وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم، وأنه كان يخرج كل يوم فيمشى فرسخا يرتاد ضيفاً،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أجبل الحافر) الجوهري: أجبل القوم: إذا حفروا فبلغوا المكان الصلب، وأكدى الحافر: إذا بلغ الأرض الصلبة فلا يمكنه أن يحفر.

قوله: ({فَهُوَ يَرَى} فهو يعلم) قال أبو البقاء: {فَهُوَ يَرَى} جملة اسمية واقعة موقع الفعلية، والأصل: أعنده علم الغيب فيرى؟ ولو جاء على ذلك لكان نصبًا على جواب الاستفهام.

قوله: ({وَفَّى} قرئ مخففًا ومشددًا)، المشددة: هي المشهورة.

ص: 102

فإن وافقه أكرمه، وإلا نوى الصوم. وعن الحسن: ما أمره الله بشيء إلا وفى به. وعن الهذيل بن شرحبيل: كان بين نوح وبين إبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة غيره، ويقتل بأبيه وابنه وعمه وخاله، والزواج بامرأته، والعبد بسيده؛ فأول من خالفهم إبراهيم. وعن عطاء ابن السائب: عهد أن لا يسأل مخلوقا، فلما قذف في النار قال له جبريل وميكائيل: ألك حاجة؟ فقال: أما إليكما فلا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار، وهي صلاة الضحى". وروي: ألا أخبركم سمى الله خليله {الَّذِي وفَّى} ؟ كان يقول إذا أصبح وأمسى: ) {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ} إلى {حِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17 - 18] وقيل: وفي سهام الإسلام: وهي ثلاثون: عشرة في التوبة {التَّائِبُونَ ..... } [التوبة: 112]، وعشرة في الأحزاب: {إنَّ المُسْلِمِينَ

} [الأحزاب: 33] وعشرة في المؤمنين {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ .... } [المؤمنون: 1 - 10] وقرئ: (في صحف)، بالتخفيف.

{أَلاَّ تَزِرُ} "أن" مخفقة من الثقيلة. والمعنى: أنه لا تزر، والضمير ضمير الشأن، ومحل "أن" وما بعدها: الجر، بدلا من "ما في صحف موسى". أو الرفع على: هو أن لا تزر، كأن قائلا قال: وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل: أن لا تزر.

{إلاَّ مَا سَعَى} إلا سعيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فإن وافقه أكرمه) قال: يقال: وافقت فلانًا يصلي، ووفقته أي: وجدته.

قوله: ({إلاَّ مَا سَعَى} إلا سعيه). الراغب، السعي: المشي السريع، وهو دون العدو، ويستعمل في الجد في الأمر، خيرًا كان أو شرًا، قال تعالى:{وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} ، وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة، وخص المسعاة بطلب المكرمة.

ص: 103

فإن قلت: أما صح في الأخبار: الصدقة عن الميت، والحج عنه، وله الإضعاف؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أما صح في الأخبار: الصدقة عن الميت) تلخيصه: أن التركيب، أي: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، يفيد بما فيه من أداة الحصر، وتعقيبه لقوله:{أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} اختصاص الإنسان بثواب ما عمل هو بنفسه لنفسه، وانتفائه بسعي غيره، وأنه لا يجزى من سعيه إلا مقدار ما عمله لا يزاد عليه، وهو على خلاف الأقوال الواردة في الصدقة والحج، والآيات الصادرة في مضاعفة الثواب.

وأما الأخبار الواردة في الصدقة فكثيرة، منها: ما روينا عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال:"تعم".

"افتلتت نفسها": أي: ماتت فجأة، كأن نفسها أخذت فلتة، وأما في الحج فكذلك، منها ما روي في البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس، قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أختي نذرت لأن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كان عليها دين أكنت قاضيه"؟ قال: نعم، قال:"حق الله أحق بالقضاء".

وأما الآيات الدالة على مضاعفة الثواب فلا تخفى كثرتها، وأجاب أن سعي الغير إنما لم ينفعه إذا لم يوجد له سعي قط، فإذا وجد له سعي بأن يكون مؤمنًا صالحًا، كان سعي الغير تابعًا لسعيه، كأنه سعي نفسه.

ص: 104

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويمكن أن يقال: إن عقله الإيمان وصله قوية، روينا عن البخاري ومسلم عن النعمان ابن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

وعن البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، ثم شبك بين أصابعه. فإذا سعى أحد في الإيمان والصلاح فكأنه سعى في شد عضد أخيه، وسد ثلمته، فكأن سعيه سعيه.

وقلت: ما أحسن هذا المعنى لو اطرد في الصوم والصلاة وقراءة القرآن، لعل الظاهر أن الآية عامة خصصت في صور معدودة، وعن أحمد بن حنبل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مئة بدونه، وأن هشامًا ابنه نحر حصته خمسين، وأن عمر أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك". وذكر صاحب "الروضة" في "الأذكار": المشهور من مذهب الشافعي إلى أنها تصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه:"اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان"، والله أعلم.

أما بيان النظم، فإن قوله:{أَمْ لَمْ يُنَبَّا بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} تنبيه لمن خوطب بقوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وأَعْطَى قَلِيلًا وأَكْدَى} على خطئه في إمساكه عن البر، وقبول قول أخيه أنا أتحمل ذنوبك كلها، ولذلك جعل قوله:{أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} تمهيدًا لقوله: {وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} .

ص: 105

قلت: فيه جوابان؟ ؛ أحدهما: أن سعي غيره لما ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه، وهو أن يكون مؤمنا صالحا، وكذلك الإضعاف، كان سعي غيره كأنه سعي نفسه، لكونه تابعا له وقائما بقيامه. والثاني: أن سعي غيره لا ينفعه إذا عمله لنفسه، ولكن إذا نواه به فهو بحكم الشرع كالنائب عنه، والوكيل القائم مقامه.

{ثُمَّ يُجْزَاهُ} ثم يجزى العبد سعيه، يقال: جزاء الله عمله وجزاه على عمله، بحذف الجار وإيصال الفعل. ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسره بقوله:{الجَزَاءَ الأَوْفَى} أو أبدله عنه، كقوله تعالى:{وأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3]، {وأَنَّ إلَى رَبِّكَ} قرئ بالفتح على معنى: أن هذا كله في الصحف، وبالكسر على الابتداء، وكذلك ما بعده. والمنتهى: مصدر بمعنى الانتهاء، أي: ينتهي إليه الخلق ويرجعون إليه، كقوله تعالى {وإلَى اللَّهِ المَصِيرُ} [فاطر: 18].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ثم يجزى العبد سعيه) قال السجاوندي: الجزاء مصدر، والمفعول الثاني الضمير المنصوب، والأول مرفوع مستكين، قال:

إن أجز علقمة بن سيف سعيه .... لا أجزه ببلاء يوم واحد

أي: ثم يجزى هو سعيه، وقال أبو البقاء:{الجَزَاءَ الأَوْفَى} هو مفعول {يُجْزَاهُ} ، وليس بمصدر لأنه وصفه بالأوفى، وذلك من صفة المجزى به، لا من صفة الفعل.

وقال صاحب "الكشف": جعلت الهاء في {يُجْزَاهُ} مصدرًا، لم يكن {الجَزَاءَ الأَوْفَى} مصدرًا، لأن فعلًا واحدًا لا ينصب مصدرين، بل يكون التقدير: المجزى الأوفى، كالصيد بمعنى المصيد.

قوله: ({وأَنَّ إلَى رَبِّكَ}، قرئ بالفتح): الجماعة كلهم.

ص: 106

{أَضْحَكَ وأَبْكَى} خلق قوتي الضحك والبكاء.

{إذَا تُمْنَى} إذا تدفق في الرحم، يقال: منى وأمنى. وعن الأخفش: تخلق، من منى الماني، أي قدر المقدر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (خلق قوتي الضحك والبكاء) الانتصاف: وخلق أيضًا فعلي الضحك والبكاء على قواعد السنة، وعليه دلت الآية، غير متأثرة لتحريفه.

وقلت: المراد من {أَضْحَكَ وأَبْكَى} خلق السرور والحزن، أو ما يسر ويحزن من الأعمال الصالحة والطالحة، ولذلك قرنهما بقوله:{أَمَاتَ وأَحْيَا} .

قال الواحدي: {وأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأَبْكَى} ، هذا يدل على أن ما يعمله الإنسان فبقضائه وخلقه، حتى الضحك والبكاء.

قال الكلبي: أضحك أهل الجنة، وأبكى أهل النار. الراغب: بكى يبكي بكاء وبكى، فالممدود سيلان الدمع عن الحزن وعوامل، يقال إذا كان الصوت أغلب كالرغاء والثغاء. والمقصور، يقال إذا كان الحزن أغلب، و"بكى" يقال في الحزن وإسالة الدمع معًا ومنفردًا، وقوله تعالى:{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} [التوبة: 82] إشارة إلى الفرح والترح.

قوله: (من منى الماني) أي: مأخوذ منه؛ بفتح الميم والنون، وفي نسخة: "من مني الماني بسكون النون. الراغب: المنى كالقفا: القدر، يقال: منى لك الماني، أي: قدر لك المقدر، ومنه المنى الذي يوزن به فيما قيل، والمني: الذي قدر منه الحيوان، قال تعالى:{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} أي: تقدر بالعزة الإلهية ما لم يكن منه.

ص: 107

قرئ {النَّشْأَةَ} و (النشاءة) بالمد. وقال: {عَلَيْهِ} لأنها واجبة عليه في الحكمة، ليجازي على الإحسان والإساءة.

{وأَقْنَى} وأعطى القنية وهي المال الذي تأثلته، وعزمت أن لا نخرجه من يدك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: {النَّشْأَةَ} و"النشاءة" بالمد) ابن كثير وأبو عمرو والباقون بالقصر.

قوله: (وقال: {عَلَيْهِ} لأنها واجبة في الحكمة)، وعند أهل السنة كالواجبة بحسب الوعد. الانتصاف: معنى {عَلَيْهِ} ههنا: أن أمر النشأة الثانية تدور على قدرته تعالى وإرادته، تقول: دارت قضية فلان على يدي، أي: أنا المشيد بها، ويقول المحدثون: هذا الحديث يدور على فلان.

قوله: (تأثلته) أي: اتخذته أصلًا. الراغب: الغنى: يقال على ضربين؛ أحدهما ارتفاع الحاجات، وليس ذلك إلا لله عز وجل، كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] والثاني: قلة الحاجات كقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] ومنه الحديث: "الغنى عنى النفس"، والثالث: كثرة القنيات بحسب ضروب الناس، قال تعالى:{يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] أي: لهم غنى النفس ويحسبهم الجاهل أن لهم القنيات لما فيهم من التعفف والتلطف، وهذا المعنى هو المعني بقول الشاعر:

قد يكثر المال والإنسان مفتقر

ص: 108

{الشِّعْرَى} مرزم الجوزاء: وهي التي تطلع وراءها، وتسمى كلب الجبار، وهما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقال: أغنى عنه كذا، إذا كفاه، قال تعالى:{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} [المسد: 2] والغانية: المستغنية بزوجها عن الزينة، وقيل: المستغنية بحسنها عن التزين، وغنى في مكان كذا، إذا طال مقامه فيه مستغنيًا به عن غيره، يقال: يغني وغنى أغنية وغناء وتغنى، وقيل: تغنى بمعنى استغنى، وحمل الحديث:"من لم يتغن بالقرآن" على ذلك.

قوله: (مرزم الجوزاء) قال ابن قتيبة في "كتاب الأنواء": يد الجوزاء: كوكبان أزهران في أحدهما حمرة، والآخر، هو مرزم الجوزاء، وبحيال يديها كوكبان نورهما نحو نور اليدين، وقال أبو زيد:

لما استتمت إلى جوزاء أكرعها

يريد رجليها.

وفيها الشعرى العبور، ومزرم الشعرى، وهي التي ذكرها الله عز وجل في كتابه {وأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} ، فإن قومًا عبدوها وفتنوا بها. وكان أبو كبشة الذي كان المشركون ينسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه أول من عبدها، وقال: قطعت السماء عرضًا ولم يقطعها غيرها، وخالف قريشًا، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى عبادة الله عز وجل، وترك أوثانهم سموه به، أي: هو شبهه، ومثله في الخلاف، وشعريان: أحدهما التي ذكرت في الجوزاء، وهي التي تسمى بالعبور، والشعرى الأخرى، هي الغميصاء من الذراع المبسوطة في نجوم الأسد، لا في الجوزاء، وزعم العرب أن سهيلًا والشعريين كانت مجتمعة، فانحدر سهيل نحو اليمين، وتبعه العبور، فعبرت المجرة، وأقامت الغميصاء فبكت لفقد سهيل فغمصت عينها فهي أقل نورًا من العبور، والغمص مثل الرمص، والشعرى العبور: نجم كبير يزهر.

ص: 109

شعريان؛ الغميصاء والعبور. وكانت خزاعة تعبدها، سن لهم ذلك أبو كشبه رجل من أشرافهم، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو كبشة، تشبيها له به، لمخالفته إياهم في دينهم، يريد: أنه رب معبودهم هذا.

عاد الأولى: قوم هود، وعاد الأخرى: إرم. وقيل: الأولى: القدماء؛ لأنهم أول الأمم هلاكا بعد قوم نوح، أو المتقدمون في الدنيا الأشراف. وقرئ:(عادًا لولى)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال ذو الرمة: يذكر طلوعها أول الليل وفي الشتاء:

إذا أمست الشعرى العبور كأنها .... مهاة علت من رمل يبرين رابيا

انتهى كلام ابن قتيبة.

وعن بعضهم: الجبار: اسم الجوزاء، والكلب: اسم الشعرى، لأنه يتبع الجوزاء كما يتبع الكلب الصائد.

قوله: (وقيل: الأولى: القدماء) سلك بالأولى ما سلكه بالأخرى في قوله: {ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} فسرها تارة بالتقدم الزماني حيث قال: "أول الأمم هلاكًا بعد قوم نوح"، وأخرى بالتقدم الرتبي، وإليه الإشارة بقوله:"أو المتقدمون في الدنيا الأشراف".

قوله: (وقرئ: "عادًا لولى" نافع وأبو عمرو: بضم اللام بحركة الهمزة، وإدغام التنوين فيها، وأتى قالون بعد ضمه اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو، والباقون: يكسرون التنوين ويسكنون اللام، ويحققون الهمزة بعدها.

ص: 110

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال صاحب "الكشف": من قال في الأحمر: لحمر، بفتح اللام وإسقاط همزة الوصل، قال هاهنا: لولى بضم اللام المنقول إليها من الهمزة، وحرك اللام وحذف ألف الوصل، فيقرأ: عادًا لولى، فيدغم التنوين في اللام، ولابد من ذلك، ومن قال: في الأحمر: الحمر بفتح اللام ولا يحذف همزة الوصل، ادعاء منه بأن اللام وإن تحركت، وهي في تقدير السكون، لأن حركتها حركة الهمزة المحذوفة المقدرة، قال هاهنا:"ألولى"، فإذا وصلها بـ"عاد"، قال: عادًا لأولى، فلا يدغم التنوين في اللام لأن اللام في تقدير السكون، والساكن لا يدغم في الساكن.

قال الزجاج: "الأولى" بإثبات الهمزة: أجود اللغات، وبعدها:"لولى" بضم اللام وطرح الهمزة، والقياس إذا تحركت اللام أن تسقط ألف الوصل، لأن ألف الوصل إنما اجتلبت لسكون اللام، لكنه جاز ثبوتها، لأن ألف لام المعرفة لا تسقط مع ألف الاستفهام،

فخالف ألف الوصل، ومن العرب من يقول:"لولى" يريد "الولى"، فيطرح الهمزة ليجري اللام، وقرئ "عادًا لولى" على هذه اللغة وأدغم التنوين في اللام. والأكثر:{عَادًا الأُولَى}

ص: 111

بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة أولى، ونقل ضمتها إلى لام التعريف.

{وثمودًا} ، وقرئ {وثَمُودَا} ، {أَظْلَمَ وأَطْغَى} لأنهم كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكون به حراك، وينفرون عنه حتى كانوا يحذرون صبيانهم أن يسمعوا منه، وما أثر فيهم دعاؤه قريبا من ألف سنة. {والْمُؤْتَفِكَةَ} والقرى التي ائتفكت بأهلها، أي: انقلبت، وهم قوم لوط، يقال: أفكه فائتفك. وقرئ: (المؤتفكات).

{أَهْوَى} رفعها إلى السماء على جناح جبريل، ثم أهواها إلى الأرض، أي: أسقطها.

{مَا غَشَّى} تهويل وتعظيم لما صب عليها من العذاب، وأمطر عليها من الصخر المنضود.

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [55 - 58].

{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} تتشكك،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بكسر التنوين، ولأبي علي كلام على الزجااج في "الإغفال".

قوله: (وقرئ: {وثَمُودَا}) عاصم وحمزة: يقفان بغير ألف، والباقون: بالتنوين ويقفون بالألف. وعن بعضهم: "ثمود": نصب نسق على {عَادًا} ، ولا يجوز أن ينصب بقوله:{فَمَا أَبْقَى} لأن ما بعد الفاء لا يعمل في ما قبلها، لا تقول: زيدًا فضربت، وأكثر النحويين ينصب ما قبل الفاء بما بعدها.

وقال أبو البقاء: {وثَمُودَا} منصوب بفعل مضمر، أي: وأهلك ثمود، ولا يعمل فيه ما أبقى لأجل حرف النفي، وكذلك "قوم نوح"، ويجوز أن يعطف على {عَادًا} .?

ص: 112

والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو للإنسان على الإطلاق، وقد عدد نعما ونقما وسماها كلها آلاء، من قبل ما في نقمه من المزاجر والمواعظ للمعتبرين.

{هَذَا} القرآن {نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى} أي: إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي أنذر بها من قبلكم. أو هذا الرسول منذر من المنذرين الأولين، وقال {الأُولَى} على تأويل الجماعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو للإنسان)، الثاني أظهر لقوله تعالى في الرحمن:{فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} على أن الخطاب إذا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهم المرادون أيضًا؛ لأن الخطاب إما من باب الإلهاب والتهييج، أو لأنه هو الرئيس والقدوة، وهم المرؤوسون.

قوله: (وقد عدد نعمًا ونقمًا وسمى كلها آلاء)، اعلم أنه تعالى جعل الكلام على نمطين، وكل نمط مشتمل على نعم ونقم، أما النمط الأول فمن قوله: والنجم إلى قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} من النعم التي دونها كل نعم، ومن قوله:{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ والْعُزَّى} إلى قوله: {أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى} مشتمل على النقم التي دونها كل نقم، أما النمط الثاني فابتداؤه من قوله:{أَمْ لَمْ يُنَبَّا بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} إلى قوله: {وأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} في بيان النعم الجسيمة، ومن قوله:{وأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} إلى قوله: {فَغَشَّاهَا} من النقم.

قوله: ({هَذَا} القرآن {نَذِيرٌ}) إلى قوله: (أو هذا الرسول)، يعني: في بيان {نَذِيرٌ} ، بقوله:{مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى} بعد ذكر قوله: {مَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وإبْرَاهِيمَ الَّذِي وفَّى} إشعار بأن المشار إليه بقوله: {هَذَا} هو القرآن أو الرسول.

قوله: (من المنذرين الأولين) فإن قلت: كيف أعتبر معنى التأخر في الزمان، ثم المرتبة في "مناة الثالثة الأخرى"؟ وكذا في {عَادًا الأُولَى} فيهما، وخص هذا الموضع بالتقدم الزماني؟

قلت: استدعى ذلك احتمال التحقير في الأولى والتعظيم في الثانية، وهاهنا ليس المراد سوى التقدم في الزمان لأنه على وزان {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} إلى قوله:{وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 9] فلا يدخل في المعنى إرادة التعظيم.?

ص: 113

{أَزِفَتِ الآزِفَةُ} قربت الموصوفة بالقرب؛ من قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]، {لَيْسَ لَهَا} نفس {كَاشِفَةٌ} أي مبينة متى تقوم، أي مبينة متى تقوم، كقوله تعالى:{لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إلَا هُوَ} [الأعراف: 187] أو ليس لها نفس كاشفة، أي: قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله، غير أنه لا يكشفها. أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير، وقيل: الكاشفة مصدر بمعنى الكشف، كالعافية. وقرأ طلحة:(ليس لها مما يدعون من دون الله كاشفة، وهي على الظالمين ساءت الغاشية).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} : قربت الموصوفة بالقرب)، الراغب: دنت القيامة، وأزف وأفد يتقاربان، لكن أزف يقال اعتبارًا بضيق وقتها، ويقال: أزف الشخوص، والأزف ضيق الوقت، وسميت به لقرب كونها، وعلى ذلك عبر عنها بالساعة، وقيل:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، فعبر عنها بلفظ الماضي، لقربها وضيق وقتها.

قوله: (أوليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير) يعني: لو وقعت الآن لم يردها لوقتها أد إلا الله، وعلى الوجه الثاني: روى محيي السنة عن قتادة وعطاء والضحاك: معناه: إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يرد عنهم أحد.

قوله: (وهي على الظالمين ساءت الغاشية) إلى هنا قراءة طلحة، قال ابن جني: هذا جار مجرى قولهم: زيد نعم الرجل، لأن ساء بمعنى بئس، والغاشية هنا جنس، والعائد منها إلى "هي" ضمير يتجرد ويمتاز من معنى الجماعة، كقولهم: زيد قام بنو محمد، إذا كان محمد أباهم، فكأنه قال: زيد قام في جملة القوم، كما أن قولك: زيد نعم الرجل، العائد عليه في المعنى ذكر يخصه من جملة الرجال.

ص: 114

{أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وتَضْحَكُونَ ولا تَبْكُونَ * وأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ واعْبُدُوا} [59 - 62].

{أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ} وهو القرآن، {تَعْجَبُونَ} إنكارا، {وتَضْحَكُونَ} استهزاء {ولا تَبْكُونَ} ، والبكاء والخشوع حق عليكم.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لم ير ضاحكا بعد نزولها. وقرئ: (تعجبون تضحكون)، بغير واو. {وأَنتُمْ سَامِدُونَ} شامخون مبرطمون. وقيل: لاهون لاعبون. وقال بعضهم لجاريته: اسمدي لنا، أي: غني لنا {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ واعْبُدُوا} ، ولا تعبدوا الآلهة.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مبرطمون) الجوهري: البرطمة: الانتفاخ من الغضب، وتبرطم الرجل: تغضب من كلام.

الراغب: السامد: اللاهي الرافع رأسه، من سمد البعير في سيره. سئل ابن عباس عن السمود، قال: البرطمة وهي رفع الرأس تكبرًا، أي: رافعون رؤوسهم تكبرًا.

تمت السورة

حامدًا الله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* * *

ص: 115

‌سورة القمر

مكية، وهي خمس وخمسون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشَقَّ القَمَرُ * وإن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وكَذَّبُوا واتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} [1 - 3].

انشقاق القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته النيرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة القمر

مكية وهي خمس وخمسون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (انشقاق القمر من آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البخاري ومسلم والترمذي عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر. زاد الترمذي: فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وانشَقَّ القَمَرُ} إلى قوله: {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} .

وعن الترمذي عن جبير بن مطعم: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين، فقالت قريش: سحر محمد أعيننا، فقال بعضهم: لئن كان سخرنا، لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.

ص: 116

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية، فانشق القمر مرتين. وكذا عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم، قال ابن عباس: انفلق فلقتين؛ فلقة ذهبت، وفلقة بقيت. وقال ابن مسعود: رأيت حراء بين فلقتي القمر. وعن بعض الناس: أن معناه: ينشق يوم القيامة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال رزين العبدري: فكانوا يتلقون الركبان فيخبرونهم بأنهم قد رأوه، فيكذبونهم.

وحديث انشقاق القمر قد رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر، وروى الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" عن ابن مسعود، قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر.

وأما أبو إسحاق الزجاج؛ فقد أسند عشرين حديثًا إلا واحدًا في تفسيره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في انشقاق القمر.

قوله: (وعن بعض الناس: أن معناه: ينشق يوم القيامة) قال الواحدي: هو عثمان بن عطاء عن أبيه، وقال الزجاج: وزعم قوم عندوا عن القصد، وما عليه أهل العلم، أن تأويله أن القمر ينشق يوم القيامة، والأمر بين اللفظ بقوله:{وإن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} فكيف يكون هذا يوم القيامة؟ !

وقال القاضي: دل قوله: {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} ، أي: مطرد على أنهم رأوا قبله آيات أخرى

ص: 117

وقوله {وإن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} يرده، وكفى به رادا، وفي قراءة حذيفة (وقد انشق القمر) أي: اقتربت الساعة، وقد حصل من آيات اقترابها أن القمر قد انشق، كما تقول: أقبل الأمير وقد جاء المبشر بقدومه. وعن حذيفة أنه خطب بالمدائن ثم قال: ألا إن الساعة قد اقتربت؛ وإن القمر قد انشق على عهد نبيكم.

{مُّسْتَمِرٌّ} : دائم مطرد، وكل شيء قد انقادت طريقته ودامت حاله، قيل فيه: قد استمر. لما رأوا تتابع المعجزات وترادف الآيات قالوا: هذا سحر مستمر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مترادفة، ومعجزات سابقة. وفي "الكبير": قوله انشقاق القمر منتظر بعيد، لأن من منع ذلك، وهو الفلسفي المخذول، يمنعه في الماضي والمستقبل، ومن يجوز لا يحتاج إلى التأويل، وإنما ذهب الذاهب، لأن الانشقاق أمر هائل، ولو وقع لعم وجه الأرض، وبلغ مبلغ التواتر.

والجواب: أن الموافق فقد نقله، وبلغ مبلغ التواتر، وأما المخالف فربما ذهل، أو حسب أنه نحو الخسوف، والقرآن أولى دليل وأقوى شاهد، وإمكانه لا شك فيه، وقد أخبر عنه الصادق، فيجب اعتقاد وقوعه، وأما امتناع الخرق والالتئام فحديث اللئام.

قوله: (وفي قراءة حذيفة: "وقد انشق القمر") قال ابن جني: هذا يجري مجرى الموافقة على إسقاط العذر، ورفع التشكك، أي: قد كان انشقاق القمر، فتوقعوا قرب الساعة، أي: إذا كان انشقاقه من أشراطها وأحد أدلة قربها، فقد توكد الأمر في وقوعها، وذلك أن "قد" إنما هي جواب وقوع كان متوقعًا، يقول القائل: انظر أقام زيد؟ وهل قام زيد؟ وأرجو أن لا يتأخر زيد، فيقول المجيب: قد قام، أي: قد وقع ما كان متوقعًا.

ص: 118

وقيل: مستمر: قوي محكم، من قولهم: استمر مريره. وقيل: هو من استمر الشيء. إذا اشتدت مرارته، أي: مستبشع عندنا، مر على لهواتنا، لا نقدر أن نسيغه كما لا يساغ المر الممقر. وقيل: مستمر: مارا، ذاهب يزول ولا يبقى، تمنية لأنفسهم وتعليلا. وقرئ:(وإن يروا).

{واتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} وما زين لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره.

{وكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} . أي: كل أمر لابد أن يصير إلى غاية يستقر عليها، وإن أمر محمد سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق أو باطل، وسيظهر لهم عاقبته. أو وكل أمر من أمرهم وأمره مستقر، أي: سيثبت ويستقر على حالة خذلان أو نصرة في الدنيا، وشقاوة أو سعادة في الآخرة، وقرئ بفتح القاف، يعني: كل أمر ذو مستقر أي: ذو استقرار. أو ذو موضع استقرار أو زمان استقرار. وعن أبي جعفر: (مستقرا)، بكسر القاف والجر، عطفا على الساعة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (المر الممقر)، الجوهري: مقر الشيء بالكسر يمقر مقرًا أي: صار مرًا فهو مقر، والمقر أيضًا: الصبر، وأمقر الشيء أي: صار مرًا.

قوله: (ولا يبقى، تمنية) الجوهري: والأمنية واحدة الأماني، تقول منه: تمنيت الشيء ومنيت غيري تمنية؛ نصبه تمييزًا من قول الكفار، أو مفعولًا له.

قوله: ({مُّسْتَقِرٌّ}) بكسر القاف: السبعة.

قوله: (لا بد وأن يصير) ورد في بعض النسخ بالواو، وفي بعضها بغير واو، وقد وقع في كلام المتأخرين كثيرًا بالواو، وقد قيل: إنه لا يجوز وقوعها بين الاسم والخبر، وقيل: إنها زائدة، ويمكن أن يقال: إن الخبر محذوف، و"أن يصير" معطوف عليه، تقديره:"كل أمر لا بدله من الانتهاء وأن يصير إلى غاية".

ص: 119

أي اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله.

[{ولَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِ يَقُولُ الكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} 4 - 8].

{مِّنَ الأَنبَاءِ} من القرآن المودع أنباء القرون الخالية، أو أنباء الآخرة وما وصف من عذاب الكفار.

{مُزْدَجَرٌ} ازدجار أو موضع ازدجار. والمعنى: هو في نفسه موضع الازدجار ومظنة له، كقوله تعالى:{لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] أي: هو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: اقتربت الساعة واقترب كل أمر مستقر) عن بعضهم: هو عطف قوله: {وكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} بأسره على قوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} ، وهو عطف مفرد، وهو المضاف والمضاف إليه الموصوف على مفرد هو الساعة، فالعطف لتتميم المعنى، فيكون قوله:{وانشَقَّ القَمَرُ} بعضًا من هذه الأمور المستقرة ذكر لتخصيصه، وأنه من أعظم الأمور، فيجوز أن يكون من باب قوله: {وَمَلَائِكَتِهِ

وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98]، إذا قدر: واقترب كل أمر مستقر قبله، أو من باب عطف {سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، إذا قدر بعده، وأما توسيط قوله:{وإن يَرَوْا آيَةً} إلى آخره، فللاستطراد لذكر انشقاق القمر توبيخًا أو تقريعًا، {وكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} على أن يكون جملة برأسها، كان تذييلًا للكلام السابق، ولذلك عم الحكم بقوله:"كل أمر لابد وأن يصير إلى غاية يستقر عليها".

قوله: (هو في نفسه موضع الازدجار) و"في" فيه تجريدية، نحو قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. الراغب: مزدجر، أي: طرد ومنع عن ارتكاب المأثم، واستعمال الزجر فيهم لصياحهم بالمطرود، نحو أن يقال: اغرب، وتنح، ووراءك.

ص: 120

أسوة. وقرئ: (مزجر) بقلب تاء الافتعال زايا، وإدغام الزاي فيها.

{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} بدل من {مَا} أو على: هو حكمة. وقرئ بالنصب حالا من (مَا).

فإن قلت: إن كانت {مَا} موصوفة ساغ لك أن تنصب حكمة حالا، فكيف تعمل إن كانت موصوفة وهو الظاهر؟

قلت: تخصصها الصفة؛ فيحسن نصب الحال عنها.

{فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} نفي أو إنكار. و"ما" منصوبة، أي: فأي غناء تغني النذر {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} لعلمك أن الإنذار لا يعني فيهم، نصب {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} بـ {يَخْرُجُونَ} ، أو بإضمار: اذكر. وقرئ بإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة عنها، والداعي إسرافيل أو جبريل، كقوله تعالى:{يَوْمَ يُنَادِ المُنَادِ} [ق: 41}.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} لعلمك أن الإنذار لا يغني فيهم) إشارة إلى ربط الآيات، وأن هذه الفاء نتيجة للكلام السابق، وفي مدخولها معنى المتاركة والمواعدة، وذلك أنه تعالى لما أخبر عن المعاندين أنه بلغ إعراضهم وتمردهم، بحيث إن يروا آية يقولوا: سحر مستمر وكرر المعنى بقوله: {وكَذَّبُوا واتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} لأن الإعراض وقولهم: سحر مستمر، تكذيب ومتابعة للهوى، ثم جاء بقوله:{ولَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ} جملة قسمية حالًا مقررة لجهة الإشكال، أي: يكذبون، والحال أنه جاءتهم حكمة بالغة، ثم سجل عنادهم بقوله:{فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} ، قال:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} ، أي بعد أن استعلمت حالهم وأنهم لا يؤمنون البتة، فتول عنهم وأعرض عن الإنذار، لأن الإنذار إنما يفيد إذا انتفع به المنذر.

ص: 121

{إلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ} : منكر فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد بمثله وهو هول يوم القيامة. وقرئ: (نكر) بالتخفيف؛ و (نكر) بالتخفيف؛ و (نكر) بمعنى: أنكر.

{خُاشَّعًا} حال من الخارجين فعل للأبصار، وذكر كما نقول: يخشع أبصارهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "نكر" بالتخفيف) ابن كثير، والباقون: بضمها. قال أبو البقاء: {نُكُرٍ} بضم النون والكاف، وبإسكان الكاف، وهو صفة بمعنى: منكر.

قوله: ("ونكر" بمعنى: أنكر) قال ابن جني: قرأ مجاهد والجحدري وأبو قلابة: "إلى شيء نكر"، جهل، يقال: قد أنكرت الشيء فهو منكر، ونكرته فهو منكور، مثله: مررت بصبي يضرب؛ وصف بالفعل.

قوله: (خاشعًا) أبو عمرو وحمزة والكسائي: "خاشعًا" بفتح الخاء وألف بعدها، والباقون: بضم الخاء وفتح الشين مشددة.

قوله: (حال من الخارجين) قال أبو البقاء: {خُشَّعًا} حال، وفي العامل وجهان: أحدهما: {يَدْعُ} ، أي: يدعوهم الداعي، وصاحب الحال الضمير المحذوف، و {أَبْصَارُهُمْ} مرفوع بـ {خُشَّعًا} ، وجاز أن يعمل الجمع لأنه مكسر، والثاني: العامل {يَخْرُجُونَ} .

وقرئ: "خاشعًا"، والتقدير: فريقًا خاشعًا، ولم يؤنث، لأن تأنيث الفاعل تأنيث الجمع، وليس بحقيقي، ويجوز أن ينتصب "خاشعًا" مفعولًا به لـ {يَدْعُ} ، و {يَخْرُجُونَ} على هذا: حال من أصحاب الأبصار.

ص: 122

وقرئ {خَاشِعَةً) على: تخشع أبصارهم. {خُشَّعًا} ، على: يخشعن أبصارهم، وهي لغة من يقول: أكلونى البراغيث وهم طيء. ويجوز أن يكون في {خُشَّعًا} ضميرهم، وتقع {أَبْصَارُهُمْ} بدلا عنه.

وقرئ: (خشع أبصارهم)، على الابتداء والخبر، ومحل النصب على الحال. كقوله:

وجدته حاضراه الجود والكرم

وخشوع الأبصار: كناية عن الذلة والانخزال، لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما. وقرئ:(يخرجون)، {مِنَ الأَجْدَاثِ} من القبور. {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} الجراد: مثل في الكثرة والتموج. يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "خاشعة") قال الزجاج: قرأها ابن مسعود، ولك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد، نحو خاشعًا أبصارهم، ولك التوحيد والتأنيث نحو: خاشعة أبصارهم، ولك الجمع نحو:{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} .

قوله: (وهي لغة من يقول: أكلوني البراغيث) وقال صاحب "التقريب": وفيه نظر، لأنه لا حاجة إلى البناء عليه، لجواز "جاء رجل قعود غلمانه"، يريد ما قاله أبو البقاء: جاز أن يعمل الجمع لأنه مكسر.

قوله: (وجدته حاضراه الجود والكرم)، أوله:

جئت الذي كنت أرجو فضل نائله

ص: 123

جاؤوا كالجراد، وكالدبا منتشر في كل مكان لكثرته.

{مُهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِ} مسرعين مادي أعناقهم إليه. وقيل: ناظرين إليه لا يقلعون بأبصارهم. قال:

تعبدني نمر بن سعد وقد رأى .... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع.

[{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وقَالُوا مَجْنُونٌ وازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ ودُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * ولَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي ونُذُرِ * ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} 9 - 17].

{قَبْلَهُمْ} قبل أهل مكة، {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} يعني نوحاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"حاضراه" مبتدأ، و"الجود والكرم" مبتدأ وخبر، ومحل الجملة نصب على الحال.

قوله: (كالدبا) الدبا: الجراد الصغار، قبل أن يطير.

قوله: ({مُهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِ} مسرعين)، قال أبو البقاء:{مُهْطِعِينَ} حال عند قوم من الضمير في {مُّنتَشِرٌ} ، وهو بعيد لأن الضمير في المنتشر للجراد، وإنما هو حال من {يَخْرُجُونَ} .

الراغب: هطع الرجل ببصره: إذا صوبه، وبعير مهطع: إذا صوب عنقه، قال تعالى:{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} [إبراهيم: 43].

قوله: (تعبدني نمر بن سعد) البيت، يقول: نمر بن سعد عبدًا، وكان قبل هذا مطيعًا لي، وناظرًا إلي.

ص: 124

فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {فَكَذَّبُوا} بعد قوله: {كَذَّبَتْ} ؟

قلت: معناه: كذبوا فكذبوا عبدنا أي: كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب. أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا، أي: لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا: كذبوا نوحا؛ لأنه من جملة الرسل.

{مَجْنُونٌ} هو مجنون. {وازْدُجِرَ} وانتهروه بالشتم والضرب والوعيد بالرجم في قولهم: {لَتَكُونَنَّ مِنَ المَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116]، وقيل: هو من جملة قيلهم، أي:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا)، والفاعل الأول تعقيب، وعلى هذا للتسبيب.

الانتصاف: ومضى سؤال في قوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا} إلى قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} [سبأ: 45] وأجاب الزمخشري: "إنه كقول القائل: أقدم فلان على الكفر فكر"، وأقول: إن الأول مطلق والثاني مقيد، وليس بتكرار، وهو كقوله:{فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} فإن تعاطيه وهو نفس "عقر"، لكنه ذكره من جهة عمومه، ثم من ناحية خصوصها امتهانًا.

وقلت: ومثله أيضًا قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] ولا شك أن ما سلكه المصنف أولًا فن بليغ يذهب إليه، نحو ما جاء في الحديث:"والأمثل فالأمثل".، وفي قولهم: وجاء القوم الأفضل فالأفضل، والأكرم فالأكرم، واستدعاه المقام لاستمرار تكذيبهم له، قومًا بعد قوم، مدة ألف سنة إلا خمسين عامًا، فوجب المصير إليه بخلاف تلك الأمثلة.

قوله: (وقيل: هو من جملة قيلهم) فيكون تتميمًا للمعنى الأول، كقوله تعالى:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] وعلى الأول تكميل، لأن و {وازْدُجِرَ} حينئذ

ص: 125

قالوا: هو مجنون، وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه وطارت بقلبه.

قرئ: {أَنِّي} بمعنى: فدعا بأني مغلوب، و (إني): على إرادة القول، فدعا فقال: إني مغلوب غلبني قومي، فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس من إجابتهم لي.

{فَانتَصِرْ} : فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم، وإنما دعا بذلك بعد ما طم عليه الأمر وبلغ السيل الزبى، فقد روي: أن الواحد من أمته كان يلقاه فيخنقنه حتى يخر مغشيا عليه، فيفيق وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

وقرئ {فَفَتَحْنَا} مخففا ومشددا، وكذلك {وفَجَّرْنَا} . {مُّنْهَمِرٍ} منصب في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوما.

{وفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تنفجر، وهو أبلغ من قولك: وفجرنا عيون الأرض، ونظيره في النظم:{واشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْبًا} [مريم: 4].

{فَالْتَقَى المَاءُ} يعنى مياه السماء والأرض. وقرئ: (الماءان)، أي: النوعان من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خارج عن حيز القول، عطف على "قالوا" ذلك القول، وما اكتفوا به، بل ضموا إليه هذا الفعل، ولهذا قال:"وانتهروه بالشتم والضرب".

قوله: (وبلغ السيل الزبى) قال الميداني: وهي جمع زبيبة، وهي حفرة تحفر للأسد في الرابية إذا أرادوا صيده، لا يعلوها الماء، فإذا بلغ إليها السيل كان جارفًا مجحفًا يضرب لما جاوز الحد.

قوله: (قرئ: {فَفَتَحْنَا} مخففًا ومشددًا) ابن عامر: بالتشديد، والباقون: بالتخفيف.

قوله: (ونظيره في النظم: {وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْبًا} [مريم: 4])، قال صاحب "المفتاح": إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس، إذ وزان اشتعل شيب رأسي،

ص: 126

الماء السماوي والأرضي. ونحوه قولك: عندي تمران، تريد: ضربان من التمر: برني ومعقلي. قال:

لنا إبلان فيهما ما علمتم

وقرأ الحسن (الماوان) بقلب الهمزة واوا، كقولهم: علباوان.

{عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} : على حال قدرها الله كيف شاء. وقيل: على حال جاءت مقدرة مستوية: وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء. وقيل: على أمر قدر في اللوح أنه يكون، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان.

{عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ ودُسُرٍ} أراد السفينة، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

واشتعل رأسي شيبًا، وزان اشتعل النار في بيتي، واشتعل بيتي نارًا، وإليه الإشارة بقوله:"وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر".

قوله: (لنا إبلان فيهما ما علمتم)، تمامه:

فعن أيها ما شئتم فتنكبوا

"ما علمتم" أي: من قرى الأضياف وصلة ذوي الفاقة إبلان، أي: طائفتان، أو قطعتان، فتنكبوا: اعتمدوا.

الجوهري: نكب على قوله نكابة: إذا كان منكبًا لهم يعتمدون عليه، وهو رأس العرفاء. ويروى: فعلى أيهما فعلى عن تنكبوا مضمن معنى تفحصوا.

قوله: (علباوان)، الجوهري: العلباء: عصب العنق، وهما علباوان بينهما منبت العرف، وإن شئت قلت: علباآن لأنها همزة ملحقة، وإن شئت شبهتها بهمزة التأنيث التي في حمراء، وبالأصيلة التي في كساء، والجمع: العلابي.

ص: 127

فتنوب منابها وتودي مؤداها. بحيث لا يفصل بينها وبينها. ونحوه:

......... ولكن .... قميصي مسرودة من حديد

أراد: ولكن قميصي درع، وكذلك:

ولو في عيون النازيات بأكرع

أراد: ولو في عيون الجراد. ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة، أو بين الدرع والجراد وهاتين الصفتين: لم يصح، وهذا من فصيح الكلام وبديعه.

والدسر: جمع دسار: وهو المسمار، فعال، من دسره؛ إذا دفعه؛ لأنه يدسر به منفذه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولو في عيون النازيات بأكرع) الجوهري: التنزي: التوثب والتسرع. الأكرع: أرجلهن، أي: الواثبات بسوق وأرجل دقيقة، وألحق الشارح قبله:

وإني لأستوفي حقوقي جاهدًا

قوله: (وهذا من فصيح الكلام وبديعه) وهو من الكنايات التي المطلوب بها نفس الموصوف، كما تقول في الكناية عن الإنسان: إنه حي مستوي القامة عريض الأظفار، وفيه حصول المطلوب مع التصوير، هاهنا صور إيحاءهم بشيء عمل من المسامير القوية، والأخشاب الرصينة. وأكثر ما يقع هذا في كلام الجبابرة تهاونًا بالمطلوب، كقوله تعالى:{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} [الرعد: 17].

وأنشد ابن جني بيت "الكتاب" في وصف سفينة:

أما النهار ففي قيد وسلسلة .... والليل في جوف منحوت من الساج

أي: السفينة.

قوله: (فعال، من: دسره؛ إذا دفعه)، الراغب: الدسر: الدفع الشديد بعنف، يقال:

ص: 128

{جَزَاءً} مفعول له، لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده، أي فعلنا ذلك جزاء، {لِّمَن كَانَ كُفِرَ} وهو نوح عليه السلام، وجعله مكفورا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نعمة من الله ورحمة. قال الله تعالى: ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فكان نوح عليه السلام نعمة مكفورة، ومن هذا المعنى ما يحكى أن رجلا قال للرشيد: الحمد لله عليك، فقال: ما معنى هذا الكلام؟ قال: أنت نعمة حمدت الله عليها.

ويجوز أن يكون على تقدير حذف الجار وإيصال الفعل. وقرأ قتادة: (كفر)، أي: جزاء للكافرين. وقرأ الحسن (جزاء) بالكسر: أي مجازاة.

الضمير في {تَّرَكْنَاهَا} للسفينة. أو للفعلة، أي: جعلناها آية يعتبر بها. وعن قتادة: أبقاها الله بأرض الجزيرة- وقيل: على "الجودي"- دهرا طويلا، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة. والمذكر: المعتبر. وقرئ: (مذتكر) على الأصل، و (مذكر)، بقلب التاء ذالا وإدغام الذال فيها، وهذا نحو:(مزجر). والنذر: جمع نذير وهو الإنذار {ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أي سهلناه للادكار والاتعاظ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية، وصرفنا فيه من الوعيد والوعيد {فَهَلْ مِن} متعظ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دسره بالرمح، ورجل مدسر، كقولك: مطعن. وروي: ليس في العنبر زكاة، إنما هو شيء دسره البحر.

قوله: (على تقدير حذف الجار وإيصال الفعل) والكفر على هذا ضد الإيمان، والأصل: لمن كان كفر به، ثم حذف الجار فبقي المفعول، ولما بني الفعل للمفعول انقلب المجرور مرفوعًا والبارز مستكنًا.

قوله: (بأن شحناه) أي: ملأناه، الجوهري: شحنت السفينة: ملأتها، قال الله تعالى:{فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119] عبر عن تكرير المواعظ والوعد والوعيد بالتيسير،

ص: 129

وقيل: ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر، من يسر ناقته للسفر: إذا رحلها ويسر فرسه للغزو: إذا أسرجه وألجمه. قال:

وقمت إليه باللجام ميسرا .... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع

ويروى: أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل لا يتلوها أهلها إلا نظرا ولا يحفظونها ظاهرا كما القرآن.

[{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي ونُذُرِ * إنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي ونُذُرِ * ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا واحِدًا نَّتَّبِعُهُ إنَّا إذًًا لَّفِي ضَلالٍ وسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} 18 - 25].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأن الإنسان مجبول من الطبائع المختلفة، كلها داعية إلى الشهوات والركون إلى السفليات، واستئصال تلك العروق الضاربة من قعر الطبيعة لا يستتب ولا يتيسر إلا بتكرير المواعظ والقوارع، ألا ترى إلى سورة الرحمن وتكرير {فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟

قوله: (وقمت إليه باللجام)، البيت، يجزيني، أي: يكفيني، يقول: قمت إلى فرسي متهيئًا باللجام للدفاع أو القتال، ثم قال: هنالك أي: في ذلك الوقت، يكفيني ما أعانيه، وما أعامل به من إيثار اللين والتضمير والتعليف، قيل: كان البدوي يقف على فرسه ناقة أو ناقتين، يسقيه لبنها، فهو يقول: هنالك يجزيني هذا الفرس.

قوله: (كما القرآن)"ما" كافة، أي: كما هو القرآن.

ص: 130

{ونُذُرِ} وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أو إنذار أتى في تعذيبهم لمن بعدهم.

{فِي يَوْمِ نَحْسٍ} في يوم شؤم. وقرئ: (في يوم نحس) كقوله: {فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} [فصلت: 16].

{مُّسْتَمِرٌّ} قد استمر عليهم ودام حتى أهلكهم. أو استمر عليهم جميعا كبيرهم وصغيرهم، حتى لم يبق منهم نسمة، وكان في أربعاء في آخر الشهر لا تدور. ويجوز أن يريد بالمستمر: الشديد المرارة والبشاعة.

{تَنزِعُ النَّاسَ} تقلعهم عن أماكنهم، وكانوا يصطفون آخذين أيديهم بأيدي بعض، ويتدخلون في الشعاب، ويحفرون الحفر فيندسون فيها، فتنزعهم وتكبهم وتدق رقابهم.

{كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} يعني: أنهم كانوا يتساقطون على الأرض أمواتا وهم جثث طوال عظام، كأنهم أعجاز نخل، وهي: أصولها بلا فروع، {مُّنقَعِرٍ}: منقلع عن مغارسه. وقيل: شبهوا بأعجاز النخل، لأن الريح كانت تقطع رؤوسهم فتبقي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو استمر عليهم جميعًا)، يعني الاستمرار، إما بحسب الزمان، يعني دام عليهم ذلك أزمنة ممتدة حتى أهلكهم، وإما بحسب الأشخاص كما قال: استمر عليهم جميعًا، والأول أظهر وأوفق لما في حم السجدة:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [فصلت: 16] ويؤيده قوله: {ولَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} قال: قد استقر عليهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة، وكان أول تلك الأيام يوم الأربعاء، فذكر هاهنا بدايتها، ودل على البواقي بمستمر، وهناك ذكر البداية والنهاية.

قوله: (في أربعاء في آخر الشهر لا تدور) أي: استمر عليهم الأربعاء لا يرجع لهم، أي: دام الشؤم عن الواحدي، قال ابن عباس: كانوا يتشاءمون بذلك اليوم.

قوله: (منقلع عن مغارسه). الراغب: قعر الشيء: نهاية أسفله، وقوله تعال: {كَأَنَّهُمْ

ص: 131

أجسادا بلا رؤوس. وذكر صفة {نَخْلٍ} على اللفظ، ولو حملها على المعنى لأنث، كما قال:{أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7].

{أَبَشَرًا مِّنَّا واحِدًا} نصب بفعل مضمر يفسره: {نَّتَّبِعُهُ} وقرئ: (أبشر منا واحد) على الابتداء. و {نَّتَّبِعُهُ} : خبره، والأول أوجه الاستفهام. كأن يقول: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق، و"سعر" ونيران، جمع سعير، فعكسوا عليه فقالوا: إن اتبعناك كنا إذن كما تقول. وقيل: الضلال: الخطأ والبعد عن الصواب. والسعر: الجنون. يقال: ناقة مسعورة. قال:

كأن بها سعرا إذا العيس هزها .... ذميل وإرخاء من السير متعب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} أي: ذاهب في قعر الأرض، قال بعضهم: انقعرت الشجرة: انقلعت من قعرها، وقيل: معنى انقعرت: ذهبت في قعر الأرض، وإنما أراد تعالى أن هؤلاء اجتثوا، كما اجتثت النخل الذاهب في قعر الأرض، فلم يبق لهم رسم ولا أثر، وقصعة قعيرة: لها قعر، وقعر فلان في كلامه: إذا أخرج الكلام من قعر حلقه، وهذا كما يقال: شدق في كلامه، إذا أخرج من شدقه.

قوله: (فعكسوا) أي: عكسوا في جوابه، أي: المعنى الذي أورده في الخطاب، أوردوه في الجواب، وردوه به من غير اعتقاد منهم، لأن الضلال الذي هو مقابل للهدى، والسعر من السعير، إنما يستعملها الأنبياء في إنذاراتهم مع القوم، كما جاء في آخر هذه السورة:{إنَّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ} لا يعتقدونهما، ولذلك قال: كنا إذن كما تقول، وهو قريب من القول بالموجب.

قوله: (كأن بها سعرًا)، الضمير في "هزها" راجع إلى العيس، وهي الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة، وفاعل هزها: ذميل، الذميل والإرخاء: ضربان

ص: 132

فإن قلت: كيف أنكروا أن يتبعوا بشرا منهم واحدا؟

قلت: قالوا: أبشرا؛ إنكارا لأن يتبعوا مثلهم في الجنسية، وطلبوا أن يكون من جنس أعلى من جنس البشر وهم الملائكة، وهم الملائكة، وقالوا:{مِّنَّا} لأنه إذا كان منهم كانت المماثلة أقوى، وقالوا:{واحِدًا} إنكارا لأن تتبع الأمة رجلا واحدا. أو أرادوا واحدا من أفنانهم ليس بأشرفهم وأفضلهم، ويدل عليه قولهم:{أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} أي: أنزل عليه الوحي من بيننا، وفينا من هو أحق منه بالاختبار للنبوة؟

{أَشِرٌ} بطر متكبر، حمله بطره وشطارته وطلبه التعظم علينا على ادعاء ذلك.

[{سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الكَذَّابُ الأَشِرُ * إنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ واصْطَبِرْ * ونَبِّئْهُمْ أَنَّ المَاءَ قِسْمَةٌ بَينَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ * فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي ونُذُرِ * إنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ المُحْتَظِرِ * ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} 26 - 32}.

{سَيَعْلَمُونَ غَدًا} عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة {مَّنِ الكَذَّابُ الأَشِرُ} أصالح أم من كذبه؟ وقرئ:(ستعلمون) بالتاء، على حكاية ما قال لهم صالح مجيبا لهم. أو هو كلام الله تعالى على سبيل الالتفات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من السير، يقول: إذا هز العيس هذان النوعان من السير ترى فتى حينئذ في مثل الجنون.

قوله: ("ستعلمون") أي: بالتاء الفوقانية: ابن عامر وحمزة.

قوله: (أو هو كلام الله على سبيل الالتفات) أي: قال سبحانه وتعالى لصالح عليه السلام: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} عند نزول العذاب بهم {مَّنِ الكَذَّابُ الأَشِرُ} ، مسليًا لصالح فخاطبهم به صالح ـ_بالتاء الفوقانية_ وتحريره: أنه تعالى لما حكى المقالة التي جرت بين نوح وقومه، وهي قوله:{أَبَشَرًا مِّنَّا} ، إلى قوله:{بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} وجوابه عليه السلام:

ص: 133

وقرئ: (الأشر) بضم الشين، كقولهم: حدث وحدث، وحذر وحذر، وأخوات لها. وقرئ:(الأشر) وهو الأبلغ في الشرارة. والأخير والأشر: أصل قولهم: هو خير منه وشر منه، وهو أصل مرفوض، وقد حكى ابن الأنباري قول العرب: هو أخير وأشر، وما أخيره وما أشره.

{مُرْسِلُوا النَّاقَةِ} باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا، {فِتْنَةً لَّهُمْ} امتحانا لهم وابتلاء {فَارْتَقِبْهُمْ} فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون {واصْطَبِرْ} على أذاهم ولا تعجل حتى يأتيك أمري.

{قِسْمَةٌ بَينَهُمْ} مقسوم بينهم: لها شرب يوم ولهم شرب يوم. وإنما قال: {بَينَهُمْ} تغليباً للعقلاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الكَذَّابُ الأَشِرُ} كان من الظاهر أن يقال: أجابهم بما أوحينا إليه أن يجيب به، وهو {سَيَعْلَمُونَ} ، بالياء التحتانية، فعدل إلى التاء نقلًا للمعنى لا اللفظ، ثم حكى الله تعالى لفظه، وفي جعله من الالتفات بعد.

قوله: ({مُّحْتَضَرٌ} محضور لهم أو للناقة). قال الواحدي: أي يحضر القوم يومًا، وتحضر الناقة يومًا، وحضر واحتضر واحد.

الراغب: الحضر خلاف البدو، والحضارة _بفتح الحاء وكسرها_ الكون بالخضر، كالبداوة، ثم جعل ذلك اسمًا لشهادة مكان أو إنسان أو غير ذلك، قال تعالى:{وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98] وذلك من باب الكناية: أي يحضرني الجن، وكني عن المجنون بالمحتضر، وكذلك كني عمن حضره الموت بالمحتضر، وذلك لما نبه عليه قوله:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وقوله: وشرب محتضر، أي: يحضره أصحابه

ص: 134

{مُّحْتَضَرٌ} محضور لهم أو للناقة. وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها.

{صَاحِبَهُمْ} قدار بن سالف أحيمر ثمود، {فَتَعَاطَى} فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له، فأحدث العقر بالناقة. وقيل: فتعاطى الناقة فعقرها، أو فتعاطى السيف.

{صَيْحَةً واحِدَةً} : صيحة جبريل، والهشيم: الشجر اليابس المتهشم المتكسر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتجارة حاضرة، أي: نقدًا.

قوله: (أحيمر ثمود) عطف بيان لـ"قدار". أنشد الزجاج لزهير يصف حربًا:

فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد، ثم ترضع فتفطم

قوله: ({فَتَعَاطَى} فاجترأ على تعاطي الأمر) فأحدث العقر بالناقة، إنما حمله على هذا التفسير اتحاد معنى {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} ، كما ذكره صاحب "الانتصاف" قبيل هذا.

ص: 135

{المُحْتَظِرِ} : الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به ييبس بطول الزمان، وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم. وقرأ الحسن بفتح الظاء وهو موضع الاحتظار، أي: الحظيرة.

[{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ * ولَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * ولَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي ونُذُرِ * ولَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي ونُذُرِ * ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} 33 - 40].

{حَاصِبًا} ريحا تحصبهم بالحجارة، أي ترميهم، {بِسَحَرٍ} بقطع من الليل، وهو السدس الأخير منه. وقيل: هما سحران، فالسحر الأعلى قبل انصداع الفجر، والآخر عند انصداعه، وأنشد:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الذي يعمل الحظيرة وما يحتظر به) قال الواحدي: المحتظر: الذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها من برد الريح، يقال: احتظر على نعمه الشجر، وضع بعضها فوق بعض.

وقال الزجاج: كانوا كالهشيم الذي يجمعه صاحب الحظيرة.

الراغب، الحظر: جمع الشيء في حظيرة، والمحظور: الممنوع، والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة، وقد جاء فلان بالحظر الرطب، أي: الكذب المستبشع.

قوله: ({بِسِحْرٍ}: بقطع من الليل) الراغب: السحر والسحرة: اختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار، وجعل اسمًا لذلك الوقت، يقال: لقيته بأعلى السحرين، والمسحر: الخارج سحرًا، والسحور: اسم الطعام المأكول سحرًا، والتسحر: أكله.

ص: 136

مرت بأعلى السحرين تذال

وصرف لأنه نكرة. ويقال: لقيته سحر، إذا لقيته في سحر يومه.

{نِعْمَةً} إنعاما، مفعول له {مَن شَكَرَ} نعمة الله بإيمانه وطاعته.

{ولَقَدْ أَنذَرَهُم} لوط عليه السلام {بَطْشَتَنَا} أخذتنا بالعذاب، {فَتَمَارَوْا} فكذبوا {بِالنُّذُرِ} متشاكين {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} فمسحناها وجعلناها كسائر الوجه، لا يرى لها شق.

روي أنهم لما عالجوا باب لوط عليه السلام ليدخلوا، قالت الملائكة: خلهم يدخلوا، {إنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إلَيْكَ} [هود: 81] فصفقهم جبريل عليه السلام بجناحه صفقة، فتركهم يترددون لا يهتدون إلى الباب، حتى أخرجهم لوط، {فَذُوقُوا} فقلت لهم: ذوقوا على ألسنة الملائكة {بُكْرَةً} أول النهار وباكره، كقوله:{مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73]، و {مُصْبِحِينَ} [الحجر: 83]. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما: (بكرة) غير منصرفة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مرت بأعلى السحرين تذأل) أي: تسرع، يصف حمر الوحش، الذألان: مشي الذئب، والذؤالة: علم للذئب، كثعالة: الثعلب.

الراغب: قيل: السحر سحران؛ الأعلى قبل انصداع الفجر، والآخر عند انصداعه.

قوله: (وصرف لأنه نكرة ويقال: لقيته في سحر يومه) أي: لا ينصرف، قال ابن الحاجب: سحر: يستعمل معرفة ونكرة، فالنكرة منصرف، والمعرفة غير منصرف، وليس فيه ما يمنعه الصرف، إلا أن تقدر العلمية مع العدل، ولو قيل: إنه مبني لتتضمنه معنى الألف واللام يبعد عن الصواب، كما أن أمس على لغة أهل الحجاز مبني لتضمنه معنى الألف واللام، ولا يكون علمًا على هذا، لأن العلم إنما يكون علمًا بالقصد لا بتقدير حرف التعريف.

ص: 137

تقول: أتيته بكرة وغدوة بالتنوين، إذا أردت التنكير، وبكرة وغدوة إذا عرفت وقصدت بكرة نهارك وغدوته.

{عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} ثابت قد استقر عليهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة.

فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله: {فَذُوقُوا عَذَابِي ونُذُرِ * ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} ؟

قلت: فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكارا واتعاظا، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا، إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقمقع لهم الشن تارات؛ لئلا يغلبهم السهو، ولا تستولي عليهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وبكرة وغدوة إذا عرفت)، قال ابن الحاجب: وضعوا لأوقات أعلامًا كما وضعوا للمعاني الموجودة، وإن لم تكن الأوقات شيئًا موجودًا، أجراها مجرى الأمور الموجودة، والدليل على أنه علم: سير على فرسه غدوة، فغدوة غير منصرف، وإن لم يكن علمًا لوجب صرفه إذ ليس فيه إلا التأنيث اللفظي، والتأنيث اللفظي بالتاء لا يمنع إلا مع العلمية، وقد يستعمل نكرة، فيعرف باللام كغيره.

قوله: (وأن يقرع لهم العصا مرات) مضى تفسيره في أول البقرة.

قوله: (ويقعقع الشن تارات) الشن: القربة الخلق، وقيل في المثل: لا يقعقع بالشنان قال النابغة:

كأنك من جمال بني أقيش .... يقعقع خلف رجليه بشن

أي: كأنك جمل من جمال هذه القبيلة، أي: إنك جبان في الحرب لا تقدر على الطعان، ولا تقرب إلى الحرب، بل عنها كما ينفر الجمل من صوت الشن وعن قعقعته.

ص: 138

الغفلة، وهكذا حكم التكرير، كقوله:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن، وقوله:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} عند كل آية أوردها في سورة {وَالْمُرْسَلاتِ} ، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان.

[{ولَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} 41 - 42]

{النُّذُرِ} موسى وهرون وغيرهما من الأنبياء، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون، أو جمع نذير {بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} بالآيات التسع {أَخْذَ عَزِيزٍ} لا يغالب {مُّقْتَدِرٍ} لا يعجزه شيء.

[{أكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ والسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} 43 - 46].

{أكُفَّارُكُمْ} يا أهل مكة {خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ} الكفار المعدودين: قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، أي أهم خير قوة وآلة ومكانة في الدنيا. أو أقل كفرا وعنادا يعني: أنا كفاركم مثل أولئك بل شر منهم {أَمْ} أنزلت عليكم يا أهل مكة {بَرَاءَةٌ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون) يعني إنما جمع النذر في قوله: {ولَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} والمنذر موسى وهارون، لأنهما أتيا بما يأتي به المنذرون من الآيات والمعجزات، وجميع ما يفتقر إليه المرسلون بأبلغ وجه وأتمه، كأنهما المرسلون، أو أن يكون جمع نذير باعتبار الآيات التسع، فإن كل واحد منها نذير كقوله:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] أي: إنذار على حدة.

قال الواحدي: يجوز أن يكون جمع نذير، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى، وذلك قوله:{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} .

قوله: (أو أقل كفرًا وعنادًا يعني)، إن معنى الزيادة في قوله:{خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ} إذا

ص: 139

في الكتب المتقدمة: أن من كفر منكم وكذب الرسل كان آمنا من عذاب الله، فأمنتم بتلك البراءة؟ {نَحْنُ جَمِيعٌ} جماعة أمرنا مجتمع {مُّنتَصِرٌ} ممتنع لا نرام ولا نضام.

وعن أبي جهل أنه ضرب فرسه يوم بدر، فتقدم في الصف وقال: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه، فنزلت:{سَيُهْزَمُ الجَمْعُ} عرف تأويلها {ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ} أي الأدبار، كما قال:

كلوا في بعض بطونكم تعفوا

وقرئ: (الأدبار)، {أَدْهَى} أشد وأفظع.

والداهية: الأمر المنكر الذي لا يهتدي لدوائه {وَأَمَرُّ} من الهزيمة والقتل. والأسر. وقرئ: (سنهزم الجمع).

[{إنَّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * ومَا أَمْرُنَا إلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} 47 - 50].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اعتبر من جانب أولئك الكفرة، كان التقدير: أهم خير قوة وآلة؟ وإذا اعتبر من جانب كفار مكة قيل: أقل كفرًا، بل شر منهم.

قوله: (قال عمر: أي جمع يهزم) في هذه الرواية نظر لأن همزة الإنكار في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} دل على أن المنهزمين من هم.

ص: 140

{فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ} في هلاك ونيران، أو في ضلال عن الحق في الدنيا، ونيران في الآخرة.

{مَسَّ سَقَرَ} كقولك: وجد مس الحمى، وذاق طعم الضرب، لأن النار إذا أصابتهم بحرها ولفحتهم بإيلامها، فكأنها تمسهم مسا بذلك، كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي ويؤلم. و {ذُوقُوا}: على إرادة القول. و {سَقَرَ} : علم لجهنم، من سقرته النار وصقرته: إذا لوحته. قال ذو الرمة:

إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها .... بأفنان مربوع الصريمة معبل

وعدم صرفها للتعريف والتأنيث. {كُلَّ شَيْءٍ} بالرفع. والقدر والقدر والقدر: التقدير، وقرئ بهما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فكأنها تمسهم مسًا بذلك، كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي) يريد: إن {مَسَّ سَقَرَ} استعارة مكنية، ويجوز أن يكون استعارة للإصابة مصرحة، وأشار إليه بذلك الحر واللفح.

قوله: (إذا ذابت الشمس) البيت، ذابت الشمس: اشتد حرها، ويقال: ذاب لعاب الشمس، فيكون إسناد الذوبان إلى الشمس مجازًا، والمربوع: الذي أتى عليه مطر الربيع، والصريمة: الرمل المنقطعة من الرمال، المعبل: جماعة الشجر ذي العبل، والعبل: ورق الأرطى، والأفنان: الغصون، الواحد فنن، والصقرات: شدة وقع الشمس، يصف الظبي، يقول: إذا اشتد الحر عليه أتقى منه بأفنان الشجر واستظل به.

قوله: (والقدر والقدر) بسكون الدال: شاذة وبالتحريك: المشهورة، و"كل شيء" بالرفع: شاذة.

قال البقاء: {كُلَّ شَيْءٍ} بالنصب العامل فيه محذوف، و {بِقَدَرٍ} حال من الهاء أو

ص: 141

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من {كُلَّ} ، أي: مقدرًا، ويقرأ بالرفع على الابتداء، و {خَلَقْنَاهُ} نعت لـ {كُلَّ} أو لـ {شَيْءٍ} ، و {بِقَدَرٍ} خبره وإنما كان النصب أقوى لدلالته على عموم الخلق، والرفع لا يدل على عمومه، بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر.

وذهب ابن الحاجب إلى أن "كل شيء" مبتدأ، و {خَلَقْنَاهُ} خبره، و {بِقَدَرٍ} حال، والمجموع خبر "إن"، فيفيد المعنى المقصود من الآية، لكن لا يأمن من أن يغلط بعض فيجعل {خَلَقْنَاهُ} صفة لـ"كل شيء"، و {بِقَدَرٍ} خبرًا له، فيكون التقدير: كل شيء مخلوق لنا بقدر، فيفيد غير المقصود، لأنه يوهم وجود شيء ليس بقدر، لأنه غير مخلوق له، فكان النصب أولى لما فيه النصوصية على المقصود.

الانتصاف: ما مهده النحاة اختيار رفع "كل"، ولم يقرأ بها أحد من السبعة، لأن الكلام مع الرفع جملة واحدة، ومع النصب جملتان، فالرفع أخصر، ولا مقتضى للنصب ها هنا من الأمور الستة؛ من الأمر والنهي إلى آخرها، وإنما وقع إجماع السبعة على النصب، لأنه لو رفع لكانت {خَلَقْنَاهُ}: صفة لـ {شَيْءٍ} ، و {بِقَدَرٍ}: خبرًا عن "كل شيء"، المقيد بالصفة، ومعناة: أن كل شيء مخلوق لنا بقدر، فيفهم ذلك أن مخلوقًا ما يضاف إلى غير الله ليس بقدر، وعلى النصب يصير الكلام: إنا خلقنا كل شيء {بِقَدَرٍ} ، فيفيد عموم نسبة كل مخلوق إلى الله تعالى، وهذه الفائدة لا توازيها الفائدة اللفظية مع ما فيها من نقص المعنى، لا جرم اجتمعت السبعة عليها. ولما كان الزمخشري يرى أن أفعال العباد مخلوقة لهم، استروح إلى قراءة الرفع وإن كانت شاذة، وإجماع المتواترة حجة عليه.

وأما بيان النظم فهو ما عليه قول الزجاج: المعنى: ما خلقناه فمقدور مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، والآيات من قوله:{إنَّ المُجْرِمِينَ} ، إنما نزلت في القدرية،

ص: 142

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونصب {كُلَّ شَيْءٍ} بفعل مضمر أي: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، ويدل عليه:{وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} هذا هو المعنى المقصود الذي نص عليه ابن الحاجب، ويؤيده ما روينا، عن الإمام أحمد بن حنبل ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة، قال: جاء مشرك قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت:{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .

وتحريره والله الموفق للصواب: أنه تعالى افتتح هذه السور الكريمة ببيان تكذيب المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الآيات الباهرة المتوالية، مثل انشقاق القمر وغيره، يدل عليه قوله تعالى:{وإن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ويَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} ، وأشار إلى أن تكذيبهم لم يكن إلا لمجرد متابعة الهوى، وتسويل الشيطان، ثم قص أحوال الأمم وتكذيبهم الأنبياء، ووخامة عاقبتهم وسوء خاتمة أمرهم، مهددًا أو مسليًا، ثم عاد إلى التقريع، والإجمال بعد التفصيل، قائلًا: أكفاركم خير من أولئكم الكفار المعدودين، يعني: أنتم أشد قوة ومكانة، أم هم؟ ثم أضرب عنه بقوله:{أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} يعني: يا أهل مكة، أنزلت براءة لكم في الزبر المتقدمة أن من كفر منكم وكذب الرسل ليس له أسوة بالأمم السالفة في الدمار والهلاك؟ أم تزعمون أنكم يد واحدة على من يخالفكم؟ فتنتصرون ممن عاداكم؟ وليس كذلك، لأن سنة الله جارية بالانتصار من المكذبين، والانتقام للمرسلين، وعن قريب سنفرغ لكم ونجعل يدكم الواحدة أيادي ونهزم جمعكم، ونستأصل شأفتكم، والموعد الأكبر الساعة، والساعة أدهى وأمر.

ولما تضمنت الآيات معنى ادعاء القدرة والقوى لأنفسهم، والوعيد بالإهلاك عاجلًا وآجلًا، والوعد للمؤمنين بالانتصار منهم، جيء بقوله:{إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، توكيدًا للوعد والوعيد، يعني: أن هذا الوعد حق، وصدق الموعد والموعود مثبت في اللوح، مقدر

ص: 143

أي: خلقنا كل شيء مقدرا محكما مرتبا على حسبب ما اقتضته الحكمة. أو مقدرا مكتوبا في اللوح، معلوما قبل كونه، قد علمنا وزمانه.

{ومَا أَمْرُنَا إلاَّ واحِدَةٌ} إلا كلمة واحدة سريعة التكوين {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} أراد قوله: كن: يعني أنه إذا أراد تكوين شيء لم يلبث كونه.

[{ولَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} 51 - 53].

{أَشْيَاعَكُمْ} أشباهكم في الكفر من الأمم، {فِي الزُّبُرِ} في دواوين الحفظة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عند الله، لا يزيد ولا ينقص، وذلك على الله يسير، {ومَا أَمْرُنَا إلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} ، ثم عم التهديد في جميع ما صدر عن المشركين من أعمالهم بقوله:{وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} كما قال: "كل ما هو كائن مسطور في اللوح"، وبهذا ظهر أن القدر كالأساس، والقضاء كالبناء عليه، وعليه كلام الراغب قال: القضاء من الله أخص من القدر، لأ، الفصل بين التقدير والقدر: هو التقدير، والقضاء: هو التفصيل والقطع، وقد ذكر بعض العلماء أن القدر بمنزلة المد للكيل. ولهذا لما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما لما أراد الفرار من الطاعون بالشام: أتفر من القضاء؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله، تنبيهًا على أن القدر ما لم يكن قضاء فمرجو أن يدفعه الله، فإذا قضى فلا مدفع له، ويشهد بذلك قوله تعالى:{وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21]{كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]. وقد استقصينا القول في آخر سورة يونس عليه السلام، وفي فاطر. وحديث عمر وأبي عبيدة مختصر من "صحيح البخاري" عن ابن عباس.

قوله: (أو مقدرًا مكتوبًا) أي: القدر بمعنى التقدير، فهو إما أن يحمل على المقدر المسوى بأمثلة الحكمة، كما قال تعالى:{أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ} [عبس: 18] أي: صوره وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة، وإما على الحكم المبرم الذي هو مقارن للقضاء.

ص: 144

{وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ} من الأعمال، ومن كل ما هو كائن {مُّسْتَطَرٌ} مسطور في اللوح.

[{المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ ونَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} 54 - 55].

{ونَهَرٍ} وأنهار، اكتفى باسم الجنس. وقيل: هو السعة والضياء من النهار. وقرئ: بسكون الهاء (نهر) جمع نهر، كأسد وأسد.

{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} في مكان مرضي. وقرئ (في مقاعد صدق)، {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} مقربين عند مليك مبهم أمره في الملك والاقتدار، فلا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته، فأي منزلة أكرم من تلك المنزلة وأجمع للغبطة كلها والسعادة بأسرها.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة القمر في كل غب بعثه الله يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عند مليك: مبهم أمره في الملك والاقتدار) يعني جيء بهما منكرين للإطلاق، وقال جعفر الصادق: مدح المكان بالصدق، فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق، هو المقعد الذي يصدق الله فيه مواعيد أوليائه بأن يتيح لهم النظر إلى وجهه الكريم.

قوله: (في كل غب) أي: يقرؤه يومًا ويتركه يومًا.

تمت السورة

حامدًا الله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* * *

ص: 145

‌سورة الرحمن

مكية وقيل: مدنية، وقيل: فيها مكي ومدني

وهي ست وسبعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ * الشَّمْسُ والْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * والسَّمَاءَ رَفَعَهَا ووَضَعَ المِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ * وأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ ولا تُخْسِرُوا المِيزَانَ * والأَرْضَ وضَعَهَا لِلأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ والنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ * والْحَبُّ ذُو العَصْفِ والرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 1 - 13].

عدد الله عز وعلا آلاءه، فأراد أن يقدم أول شيء، ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه، وهي نعمة الدين، فقدم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها وأقصى مراقيها، وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، لأنه أعظم وحي الله رتبه، وأعلاه منزلة، وأحسنه في أبواب الدين أثرا، وهو سنام الكتب السماوية ومصداقها والعيار عليها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الرحمن

مكية، وقيل: فيها مدني ومكي، وهي ست وسبعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (والعيار عليها) عن بعضهم: العيار: مصدر: عاير المكاييل؛ إذا عدلها، والمعدل

ص: 146

وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره، ثم أتبعه إياه، ليعلم أنه إنما خلقه للدين، وليحيط علما بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله، وكأن الغرض في إنشائه كان مقدما عليه وسابقا له، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان، وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.

{الرَّحْمَنُ} مبتدأ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يكون حفيظًا على المعدل ومهيمنًا عليه، ولهذا قالوا: هو عيار على كذا، أي: القرآن عيار على سائر الكتب كلها، ومصدقها ومهيمن عليها ليكون مستويًا.

قوله: (وأخر ذكر خلق الإنسان) أي: أخر ما هو مقدم في الوجود، وقدم ما هو مؤخر عنه، ليؤذن بأن المقصود الأولي من خلق الإنسان تعليم ما به يرشد إلى ما خلق له من العبادة، كقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وخص القرآن بالذكر لأنه أعظم وحي الله رتبة، وأعلاه منزلة، وأجمع لما يراد بالهداية من الكتب السماوية، إذ هو بإعجازه، واشتماله على مكارم الأخلاق، مصدق لنفسه ومصداق لها، ودل اختصاص ذكر الرحمن، على أنه من جلائل النعم وعظائمها، ولهذا السر صدرت السورة براعة للاستهلال، لاشتمالها على النعم الأخروية والدنيوية، وإنما أردف الإنسان ذكر البيان، لينبه على أن اختصاصه بتلك النعمة السنية من بين سائر الحيوان، لتميزه وتعبيره عما في ضميره بالنطق لإفهام الغير، فالنبي إذا تلقى الوحي يجب عليه التبليغ، ثم تعليم الشرائع وبيان ما أجمل.

وأما قوله: "وما خلق الإنسان لأجله، وكان الغرض من إنشائه كان مقدمًا عليه"، فينظر إلى قولهم: إن الغايات والكمالات سابقة في التقدم، لاحقة في الوجود، نحوه ما روينا عن الترمذي عن أبي هريرة حين قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم متى وجبت لك النبوة؟ قال: "وآدم بين

ص: 147

{بِحُسْبَانٍ} بحساب معلوم وتقدير سوي، يجريان في بروجهما، ومنازلهما، وفي ذلك منافع للناس عظيمة: منها علم السنين والحساب.

{والنَّجْمُ} والنبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول، {والشَّجَرُ} الذي له ساق. وسجودهما: انقيادهما الله فيما خلقا له، وأنهما لا يمتنعان، تشبيها بالساجد من المكلفين في انقياده.

فإن قلت: كيف اتصلت هاتان الجملتان بـ {الرَّحْمَنُ} ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الروح والجسد"، وزاد رزين: "وآدم منجدل في طينته بين الروح والجسد.

قوله: ({بِحُسْبَانٍ}: بحساب معلوم)، قال الزجاج:{الشَّمْسُ والْقَمَرُ} مرفوعان بالابتداء، و {بِحُسْبَانٍ} يدل على الخبر، أي: الشمس والقمر يجريان بحسبان، أي: دالان على عدد الشهوز والسنين وجميع الأوقات.

قوله: (كيف اتصلت هاتان الجملتان بـ"الرحمن") يريد أن هاتين الجملتين مثل الجملة السابقة في كونها أخبارًا مترادفة لـ {الرَّحْمَنُ} ، وكل منها مشتمل على راجع إلى المبتدأ، فأين الراجع فيهما؟ كما قال القاضي: وكان حق النظم فيهما أن يقال: أجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر، وأجاب: بأن الوصل المعنوي أغنى عن اللفظ، والفائدة الإيذان بأن المسخر والمسجود له لا يشارك معه فيهما أحد، فلا يذهب الوهم إلى الغير.

ص: 148

قلت: استغني فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي، لما علم أن الحسبان حسبانه، والسجود له لا لغيره، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه، والنجم والشجر يسجدان له.

فإن قلت: كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول، ثم جيء به بعد؟

قلت: بكت بتلك الجمل الأول، واردة على سنن التعديد، لتكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تفريغ الذين أنكروا الرحمن وآلاءه، كما يبكت منكرا أيادي المنغم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال الذي قدمته، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بكت بتلك الجمل الأول) يعني: أن الكفار كانوا مقرين بأنه عز وجل خالق السماوات والأرض، وأنه مولى النعم جلائلها ودقائقها، فعدل من مقتضى العطف والانتظام في سلك التأليف بحرف النسق إلى أسلوب التعديد، للإيذان بأن النعم غير متناهية، وغير داخلة تحت الضبط والإحصاء، وإنما يعد بعضها عدًا فذكر منها ما هو في أعلى مراتبها، وأقصى مراقيها اكتفاءً به، وبعد التنبيه على هذه الدقيقة، رجع إلى مقتضى الظاهر من عطف الشيء على ما يضمه المفكرة بجامع العقل، أو الوهم، أو الخيال، على منهاج الترصيع، نحو:{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 25 - 26]، وإليه الإشارة بقوله:"ثم رد الكلام إلى منهاجه، بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله".

الانتصاف: خصت الجمل الأول بكونها تبكيتًا للإنسان لالتصاق معانيها به، لأنه مذكور فيها نطقًا وإضمارًا، ومحذوفًا مرادًا؛ نطقًا في قوله:{خَلَقَ الإنسَانَ} ، مضمرًا في:{عَلَّمَهُ البَيَانَ} محذوفًا مدلولًا عليه في: {عَلَّمَ القُرْآنَ} ، فإنه المفعول الثاني، وقوله: الشمس والقمر والنجم والشجر، فليس فيه ذكر للإنسان ذكر البتة.

ص: 149

فإن قلت: أي تناسب بين هاتين الجملتين، حتى وسط بينهما العاطف؟

قلت: إن الشمس والقمر سماويان، والنجم والشجر أرضيان، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل، وأن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين، وأن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود النجم والشجر.

وقبل {عَلَّمَ القُرْآنَ} جعله علامة وآية. وعن ابن عباس رضي الله عنه: الإنسان آدم. وعنه أيضا: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن مجاهد: النجم: نجوم السماء.

{والسَّمَاءَ رَفَعَهَا} خلقها مرفوعة مسموكة، حيث جعلها منشأ أحكامه، ومصدر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({والسَّمَاءَ رَفَعَهَا}: خلقها مرفوعة)، قال ابن جني: هو عطف على قوله: {يَسْجُدَانِ} وحدها، وهي جملة من فعل وفاعل، نحو قولك: قام زيد وعمرًا ضربته، أي: وضربت عمرًا. ومضى تقريره في الفتح.

وقال صاحب "الكاشف": {والسَّمَاءَ رَفَعَهَا} جاء بالنصب عن الأئمة، لأنك إذا قلت: زيد لقيته، وعمرًا كلمته، نختار نصب عمرًا، وإذا أريد الحمل على لقيته فمعك جملتان؛ صغرى وكبرى، أي لقيته، وزيدًا لقيته، هذا مذهب سيبويه، واعترض عليه أنه لو عطف على محل لقيته كان التقدير: عمرًا كلمته؟ ويؤول المعنى إلى معنى: زيد كلمت عمرًا، وهو فاسد، إذ لا عائد في الجملة إلى زيد. وأجاب أبو علي أن المعطوف على الشيء لا يعتبر فيه حال ذلك الشيء وتلا باب قولهم:

متقلدًا سيفًا ورمحا

وزعم أن الإعراب لم يظهر في موضغ لقيته وما لا يظهر إلى اللفظ كان كالمطرح، وفزع إلى باب التسمية بباب ودار، وأنهما مصروفان بخلاف قدم وفخذ.

ص: 150

قضاياه، ومتنزل أوامره ونواهيه، ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبيائه ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه.

{ووَضَعَ المِيزَانَ} وفي قراءة عبد الله: (وخفض الميزان). وأراد به كل ما توزن به الأشياء، وتعرف مقاديرها؛ من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس، أي خلقة موضوعا مخفوضا على الأرض: حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم، وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم.

{أَلاَّ تَطْغَوْا} : لئلا تطغوا. أو هي (أن) المفسرة. وقرأ عبد الله: (لا تطغوا) بغير (أن) على إرادة القول.

{وأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ} : وقوموا وزنكم بالعدل، {ولا تُخْسِرُوا المِيزَانَ} ولا تنقصوه؛ أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: الظاهر أن يعطف على جملة قوله: {الشَّمْسُ والْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} ليؤذن بأن الأصل أجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر، فعدل إلى معنى دوام التسخير والانقياد في الجملتين الأوليين، ومعنى التوكيد في الأخيرة، فدل الاختلاف في الأخبار المتوالية لـ {الرَّحْمَنُ} على معان تبهر ذا اللب.

قوله: (ونبه بذلك) أي: برفع السماء المنبئ عن هذه المعاني.

قوله: (حيث علق به أحكام عباده)، قال أولًا:"حيث جعلها منشأ أحكامه"، ليشير به إلى تعليل وصف السماء بالرفع، وقال ثانيًا:"حيث علق به أحكام عباده" تعليلًا لوصف الميزان بالخفض والوضع، فالمعنى: أنزل من السماء الكتاب وأمر فيه بالقسط والحكم بالعدل في كل شيء، والتجافي عن الجور، وجعل معياره في الأرض الموازين ليقوموا فيه بالقسط ظاهرًا وباطنًا، ولهذا السر وصف الميزان بالقسط في قوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء: 47]?

ص: 151

وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان. وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه. وقرئ:(والسماء) بالرفع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كأنها عين القسط وذاته، ووضع القسط موضع الميزان في حديث أبي موسى:"يحفظ القسط ويرفعه"، بدليل حديث أبي هريرة:"وبيده الميزان، يخفض ويرفع" أي الميزان، وروى الأول مسلم، والثاني متفق عليه.

وجمع بينه وبين الكتاب في قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وفيه دليل على أن قوله:{أَلاَّ تَطْغَوْا} حمله على التعليل أرجح من التفسير، ولأن فيه إجراء "مجرى "وصى" المؤول بالقول، لاستقامة تفسير {أَلاَّ تَطْغَوْا} لـ "وضع"، وبهذا يظهر معنى قوله: بالعدل قامت السموات والأرض.

قوله: (كرر لفظ الميزان) أي: أقيم المظهران مقام المضمرين في الموضعين، فقوله:"تشديدًا للتوصية" معناه: قيل أولًا: {ووَضَعَ المِيزَانَ} امتنانًا وتوصية في شأنه، ثم عقب:{أَلاَّ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ} وكان من الظاهر أن "ألا تطغوا" فيه، أي في حقه وشأنه، فوضع موضعه الميزان، تشديدًا للتوصية بشأن الميزان.

قوله: (تقوية للأمر باستعماله) معناه: أنه أمر أولًا بقوله: {وأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ} ، ثم عقب بالنهي عن ضده في قوله:{ولا تُخْسِرُوا المِيزَانَ} وأقيم المظهر مقام المضمر بقوله: للأمر باستعمال القسط فيه.

ص: 152

(ولا تخسروا) بفتح التاء وضم السين وكسرها وفتحها. يقال: خسر الميزان يخسره ويخسره، وأما الفتح فعلى أن الأصل: ولا تخسروا في الميزان، فحذف الجار وأوصل الفعل. و {وضَعَهَا} خفضها مدحوة على الماء. {لِلأَنَامِ} للخلق، وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة. وعن الحسن: الإنس والجن، فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها.

{فَاكِهَةٌ} : ضروب مما يتفكه به، و {الأَكْمَامِ} كل ما يكم، أي: يغطي من ليفة وسعفة وكفراء، وكله منتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره وجماره وجذوعه.

وقيل: الأكمام أوعية الثمر، الواحد: كم، بكسر الكاف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: في قوله تعالى: {وأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ ولا تُخْسِرُوا المِيزَانَ} يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة في الوزن وترك الحيف فيما يتعاطاه بالوزن، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى تعاطي ما لا يكون به في القيامة خاسرًا، فيكون ممن قال فيهم:{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8]، وكلا المعنيين متلازمان، وكل خسران ذكره الله في القرآن فهو على المعنى الأخير، دون الخسران المتعلق بالمقتنيات الدنيوية والتجارات البشرية.

قوله: ({وضَعَهَا}: خفضها مدحوة)، الراغب: أعم من الحط، ومنه الموضع، ويقال: ذلك في الحمل والحمل، وقوله:{والأَرْضَ وضَعَهَا لِلأَنَامِ} والوضع: عبارة عن الإيجاد والخلق، ووضعت الحمل فهو موضوع، ووضعت المرأة الحمل، ووضع البيت بناؤه، قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] ووضع الكتاب إبراز أعمال العباد، والوضع في السير استعارة، والوضعية: الحطيطة من رأس المال، وقد وضع الرجل في تجارته، ورجل بين الضعة، في مقابلة رفيع بين الرفعة.

قوله: (وسعفه) وهو غصن النخل، والكفر: بضم الكاف وفتح الفاء وتشديد الراء: كم

ص: 153

{العَصْفِ} ورق الزرع، وقيل: التين، {والرَّيْحَانُ} الرزق وهو اللب، أراد فيها ما يتلذذ به من الفواكه، والجامع بين التلذذ والتغذي وهو ثمر النخل، وما يتغذى به وهو الحب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النخل، لأنه يستر ما في جوفه، والجمار: شحم لنخل، وعن بعضهم: الأصل كفراه بالتخفيف، وهو ما يغطي القنو، وهو الشمراخ، من كفره: إذا ستره.

قوله: ({والرَّيْحَانُ} الرزق وهو اللب)، يعني: الريحان يطلق على الرزق، والمراد هاهنا اللب.

النهاية: الريحان الرزق والراحة، وكل نبت طيب الريح من أنواع المشموم، فبالرزق سمي الولد ريحانًا.

الراغب: الريحان: ما له رائحة، وروي:"الولد ريحان"، وذلك كنحو ما قال الشاعر:

يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلد

وقيل: الريحان الرزق، ثم يقال للحب المأكول: ريحان، في قوله تعالى:{والْحَبُّ ذُو العَصْفِ والرَّيْحَانُ} ، وقيل لأعرابي: إلى أين؟ فقال: أطلب من ريحان الله، أي: من رزقه، ومنه سمي حملًا على "ذو"، كأنه قيل: والحب ذو العصف وهو التبن رزقًا للدواب، وذو الريحان، أي: اللب، رزقًا للناس كقوله تعالى:{فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَاكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} [السجدة: 27]، فدل عطف "والنخل" على "فاكهة" بأنه أشرف أنواع الفواكه، لأنه جامع بين التلذذ والتغذي، ثم عطف عليه الحب، وبين أنه أيضًا جامع بين رزق الناس والأنعام.

ص: 154

وقرئ: (والريحان)، بالكسر. ومعناه: والحب ذو العصف الذي هو علف الأنعام، والريحان الذي هو مطعم الناس. وبالضم على: وذو الريحان، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: معناه: وفيها الريحان الذي يشم، وفي مصاحف أهل الشام، (والحب ذا العصف والريحان)، أي: وخلق الحب والريحان، أو وأخص الحب والريحان. ويجوز أن يراد: وذا الريحان، فيحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه.

والخطاب في {رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} للثقلين بدلالة "الأنام" عليهما، وقوله {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} .

[{خَلَقَ الإنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وخَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 14 - 16].

الصلصال: الطين اليابس، له صلصلة. والفخار: الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف.

فإن قلت: قد اختلف التنزيل في هذا، وذلك قوله عز وجل:{مِّنْ حَمَأٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26، 28، 33]، {مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11] {مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59].

قلت: هو متفق في المعنى، ومفيد أنه خلقه من تراب: جعله طينا، ثم حمإ مسنونا، ثم صلصالا.

{الجَانَّ} أبو الجن. وقيل: هو إبليس. والمارج: اللهب الصافي الذي لا دخان فيه. وقيل: المختلط بسواد النار، من مرج الشيء: إذا اضطرب واختلط.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ: "والريحان" بالكسر) ابن عامر: "والحب ذو العصف والريحان" بالنصب في الثلاثة، وحمزة والكسائي:"والريحان" بالكسر، وما عداه: بالرفع، والباقون: برفع الثلاثة.

قوله: (أو: وأخص الحب والريحان) أي: هو منصوب بمضمر إما بفعل خاص أو على الاختصاص.

ص: 155

فإن قلت: فما معنى قوله: {مِّن نَّارٍ} قلت: هو بيان لمارج، كأنه قيل: من صاف من نار، أو مختلط من نار، أو أراد من نار مخصوصة، كقوله تعالى:{فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14].

{رَبُّ المَشْرِقَيْنِ ورَبُّ المَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 17 - 18].

قرئ: (رب المشرقين ورب المغربين) بالجر بدلا من {رَبِّكُمَا} ، وأراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما.

[{مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 19 - 23].

{مَرَجَ البَحْرَيْنِ} أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين، لا فصل بين الماءين في مرأى العين. {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حاجز من قدرة الله تعالى، {لاَّ يَبْغِيَانِ} لا يتجاوزان حديهما، ولا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كأنه قيل: من صاف من نار، أو مختلط من نار) هذا الوجهان مبنيان على تفسيره المارج تارة باللهب الصافي، وأخرى بالمختلط بسواد النار، وعلى التقديرين جرد من النار، إما اللهب الصافي أو المختلط أو التنكير في نار للنوع أي: المعلوم في عرف الشرع، ولهذا استشهد بقوله:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14].

قوله: ({بَرْزَخٌ}: حاجز من قدرة الله)، الراغب: البرزخ: الحاجز، والحد بين الشيئين، والبرزخ أيضًا: الحائل بين الإنسان وبين بلوغ المنازل في الآخرة، وذلك إشارة إلى العقبة المذكورة في قوله تعالى:{فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11]، وقال تعالى:{وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] وتلك العقبة، موانع من أحوال لا يصل إليها إلا الصالحون.

ص: 156

قرئ: (يخرج) و {يَخْرُجُ} من: أخرج وخرج. و (يخرج) أي: الله عز وجل (اللؤلؤ والمرجان) بالنصب. و (نخرج) بالنون. واللؤلؤ: الدر. والمرجان: هذا الخرز الأحمر وهو البسد. وقيل: اللؤلؤ: كبار الدر، والمرجان: صغاره.

فإن قلت: لم قال {مِنْهُمَا} وإنما يخرجان من الملح؟

قلت: لما التقيا وصارا كالشيء الواحد: جاز أن يقال: يخرجان منهما، كما يقال: يخرجان من البحر، ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه. وتقول: خرجت من البلد، وإنما خرجت من محلة من محاله، بل من دار واحدة من دوره. وقيل: لا يخرجان إلا من ملتقى الملح والعذب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ("يخرج" و {يَخْرُجُ}) نافع وأبو عمرو: "يخرج" بضم الياء وفتح الراء، والباقون: بفتحها.

قوله: (لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال خرج منهما، كقوله تعالى:{خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 15 - 16] والقمر في السماء الدنيا.

الانتصاف: مثله {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ} [الزخرف: 31]، وإنما يخرج من بعضه، يقال: فلان من أهل ديار مصر، وهو من محلة واحدة منها.

قوله: (وقيل: لا يخرجان إلا من ملتقى العذب والملح)، الانتصاف: هذا القول ترده المشاهدة، والأول أصح.

ص: 157

[{ولَهُ الجَوَارِ المُنشَآتُ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 24 - 25].

{الجَوَارِ} السفن. وقرئ: (الجوار) بحذف الياء ورفع الراء، ونحوه:

بها ثنايا أربع حسان .... وأربع فكلها ثمان

[المُنشَآتُ} المرفوعات الشرع وقرئ بكسر الشين: وهي الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن. والأعلام: جمع علم، وهو الجبل الطويل.

[{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويَبْقَى وجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 26 - 28].

{عَلَيْهَا} على الأرض، {وجْهُ رَبِّكَ} ذاته، والوجه يعبر به عن الجملة والذات، ومساكين مكة يقولون: أين وجه عربي ينقذني من الهوان؟ ! .

و{ذُو الجَلالِ والإكْرَامِ} صفة الوجه. وقرأ عبد الله: (ذي) على: صفة ربك. ومعناه: الذي يحله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فكلها ثمان) يعني: أجرى النون في "ثماني" مجرى حرف الإعراب، نحو: الجوار.

قوله: (الشرع) جمع الشراع، الجوهري: الشراع شراع السفينة.

قوله: (وقرئ بكسر الشين)، قال صاحب "المطلع": أسند الإنشاء إلى السفن مجازًا، وإن كان الفعل لأصحابها، لأنها مجال الشرع.

قوله: (و {ذُو الجَلالِ والإكْرَامِ} صفة الوجه) والصفتان لله تعالى، إما باعتبار أنه يجله الموحدون، أو باعتبار أنه يجل المخلصين الموحدين، والأول إما مقول للبعض دون البعض، فهو المراد من قوله:"الذي يجله الموحدون"، أو أنه في نفسه تعالى كذلك؛ سواء يجله أحد أو

ص: 158

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا، وهو المراد قوله:"الذي يقال له: ما أجلك"، وإلى الثاني أشار بقوله:"أو من عنده الجلال والإكرام"، فاعتبر فيه معنى المضاف، أي: ذو النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".

قال الشيخ محيي الدين النواوي: سبحات وجهه بضم السين والباء: نوره وجلاله وبهاؤه، والمراد الحجاب المانع من رؤيته، سمي النور حجابًا لأنه يمنع من الإدراك لشعاعه، والمراد بالوجه الذات، "ومن" لبيان الجنس، والمعنى: أنه لو زال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نورًا، وتجلى لخلقه لأحرق جلا ذاته جميع مخلوقاته، والمراد بـ"ما انتهى إليه بصره من خلقه": جميع المخلوقات، لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات.

وفي "شرح المظهري": الضمير في "إليه" يعود إلى الوجه، وفي "بصره" إلى الموصول، و"من" بيان "ما" و"بصره" فاعل. انتهى.

والموصول مع الصلة مفعول أحرقت، يعني: لو رفع حجابه لاحترقت خلقه، لأنه لا طاقة لهم أن ينظروا إلى ذاته في الدنيا.

الراغب: ولما كان الوجه أول ما يستقبلك، وأشرف ما في ظاهر البدن، استعمل في مستقبل كل شيء، وفي أشرفه ومبدئه، فقيل: وجه كذا، ووجه النهار، ويقال للقصد: وجه،

ص: 159

أو الذي يقال له: ما أجلك وأكرمك! أو: من عنده الجلال والإكرام للمخلصين من عباده، وهذه الصفة من عظيم صفات الله؛ ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وللمقصد جهة ووجهة، وهي حيث ما يتوجه، و"لكل وجهة هو موليها" إشارة إلى الشريعة، ووجهت الشيء: أرسلته في جهة واحدة، فتوجه، وفلان وجيه: ذو جاه، وأحمق ما يتوجه بفتح الياء وحذف يه عنه، أي: لا يستقيم في أمر من الأمور لحمقه، وأحمق ما يتوجه به: كناية عن الجهل بالتغوط. وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] قيل: أريد بها الجارحة واستعير للمذهب والطريق، نحو: فعلت كذا بيدي، وقيل: أريد بالإقامة تحري الاستقامة، وبالوجه التوجه، أي: أخلصوا العبادة لله في الصلاة، وعليه قوله تعالى:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22] وربما يعبر به عن الذات، كما في قوله تعالى:{ويَبْقَى وجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] وقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} [الروم: 38] و {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان: 9] قيل: أريد بالوجه التوجه إلى الله بالأعمال الصالحة، وقوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] قيل: الوجه في كل هذا زيادة.

وروي أنه قيل ذلك لأبي على الرضا، فقال: سبحان الله، لقد قالوا عظيمًا! إنما أعني الوجه الذي يؤتى منه، ومعناه: كل شيء من أعمال العباد هالك وباطل، إلا ما أريد به الإخلاص.

قوله: (ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام) رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه أحمد بن حنبل عن ربيعة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 160

وعنه عليه الصلاة والسلام: أنه مر برجل وهو يصلي ويقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال:"قد استجيب لك".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النهاية: ألظوا: الزموا واثبتوا عليه، وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم، ويقال: ألظ بالشيء، يلظ إلظاظًا، إذا لزمه وثابر عليه.

قال حجة الإسلام: لا جلال ولا كمال وو له، ولا كرامة ولا مكرمة إلا وهي صادرة منه، فالجلال في ذاته، والمكرمة فائضة منه على خلقه، وفنون إكرامه خلعة لا تكاد تحصى وتتناهى، وعليه دل قوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70].

قوله: (مر برجل وهو يصلي ويقول) روينا عن أبي داود والترمذي والنسائي عن أنس أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يصلي ثم دعا فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، المنان بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"أتدرون بما دعا"؟ ، قالوا الله ورسوله أعلم، قال:"والذي نفسي بيده؛ لقد دعا الله باسمه الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى".

الراغب: الجلالة: عظم القدر، والجلال بغير الهاء: التناهي في ذلك، وخص بوصف الله تعالى، فقيل: ذو الجلال والإكرام، ولم يستعمل في غيره، والجليل: العظيم القدر، ووصفه تعالى بذلك، إما لخلقه الأشياء العظيمة المستدل بها عليه، أو لأنه يجل عن الإحاطة، وموضوعه للجسم العظيم الغليظ، ولمراعاة معنى الغلظة فيه، قوبل بالدقيق، وقوبل العظيم بالصغير، فقيل: جليل ودقيق، وعظيم وصغير، وقيل للبعير: جليل، وللشاة: دقيق، لاعتبار أحدهما بالآخر.

ص: 161

فإن قلت: ما النعمة في ذلك؟

قلت: أعظم النعمة؛ وهي مجيء وقت الجزاء عقيب ذلك.

[{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 29 - 30].

{يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} كل من أهل السموات والأرض مفتقرون إليه، فيسأله أهل السموات ما يتعلق بدينهم، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم.

{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} أي: كل وقت وحين يحدث أمورا، ويجدد أحوالا، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلك أنه تلاها فقيل له: وما ذلك الشأن؟ فقال: "من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين"، وعن ابن عيينة: الدهر عند الله تعالى يومان، أحدهما: اليوم الذي هو مدة عمر الدنيا، فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع. والآخر: يوم القيامة، فشأنه فيه الجزاء والحساب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فقيل: ما أجلني ولا أدقني، أي: ما أعطاني بعيرًا ولا شاة، ثم صار مثلًا في كل صغير وكبير، وخص الجلالة بالناقة الجسيمة، والجلة بالمسان منها.

قوله: (ما النعمة في ذلك؟ ) ذلك إشارة إلى مجموع قوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويَبْقَى وجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرَامِ} يعني: أنه تعالى رتب بالفاء قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} على تلك الآية تأنيبًا وتوبيخًا على كفرانهم هذه النعمة السنية، كقوله:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] أي: ينكر رزقكم، فأي نعمة في بقاء الحق بعد إفناء الخلق، وأجاب بأن المراد من الآية ملزوم معناها، لأنها كناية عن مجيء وقت الجزاء، وهو من أجل النعم، كما سبق في قوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون: 15] ولذلك خص الوصفين بالذكر يعني: الجلال والإكرام، لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب.

ص: 162

وقيل نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئا.

وسأل بعض الملوك وزيره عنها فاستمهله إلى الغد وذهب كئيبا يفكر فيها، فقال غلام له أسود: يا مولاي، أخبرني ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي، فأخبره فقال له: أنا أفسرها للملك فأعلمه، فقال: أيها الملك شأن الله أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويشفي سقيما، ويسقم سليما، ويبتلي معافى، ويعافى مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا، ويغني فقيرا؛ فقال الأمير: أحسنت، وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة، فقال: يا مولاي هذا من شأن الله! .

وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له: أشكلت على ثلاث آيات، دعوتك لتكشفها لي: قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] وقد صح أن الندم توبة، وقوله تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} ، وقد صح أن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقوله تعالى:{وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قلت: لم لم يقل: كل شيء فان {ويَبْقَى وجْهُ رَبِّكَ} كقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]؟

قلت: قد سبق أن قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} مرتب على الآية السابقة، فوجب تخصيصه بالعقلاء، ثم بالثقلين، أي: الجن والإنس، ومن ثم حسن جعل الضمير في {عَلَيْهَا} للأرض، لأنهما ثقلا الأرض.

فإن قلت: كيف أفرد الضمير في قوله: {وجْهُ رَبِّكَ} ، وثناه في:{رَبِّكُمَا} ، والمخاطب واحد؟

قلت: اقتضى الأول تعميم الخطاب لكل من يصلح للخطاب لعظم الأمر وفخامته، ويندرج فيه الثقلان أوليًا، ولا كذلك اثنان فتركه على ظاهره.

ص: 163

فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة. ويكون توبة في هذه الأمة؛ لأن الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم، وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله، وأما قوله:{وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} فمعناه: ليس له إلا ما سعى عدلا، ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا، وأما قوله:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتديها، فقام عبد الله وقبل رأسه وسوغ خراجه.

[{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 31 - 32].

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} مستعار من قول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك، يريد: سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك، حتى لا يكون لي شغل سواه، والمراد: التوفر على النكاية فيه والانتقام منه، ويجوز أن يراد: ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها، وتنتهي عند ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فما بال الأضعاف) إشارة إلى ما ورد في الحديث: "من هم بحسنه فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، فإن هم بها وعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة"، الحديث أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس.

قوله: (إلا ما سعى عدلًا)، "عدلًا": نصب ظرفًا وكذا "فضلًا"، أي: في عدل الله وفضله، كقولك: هذا سائغ شرعًا.

قوله: (وسوغ خراجه) أي: سهل وعين، من: ساغ الشراب يسوغ سوغًا، أي: سهل مدخله في الحلق.

قوله: (ويجوز أن يراد: ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها) قال الزجاج: الفراغ في اللغة على

ص: 164

شؤون الخلق التي أرادها بقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} ، فلا يبقى إلا شأن واحد، وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل، وقرئ:(سيفرغ لكم)، أي: الله تعالى، (سأفرغ لكم) و (سنفرغ) بالنون مفتوحا ومكسورا وفتح الراء، و (سيفرغ) بالياء مفتوحا ومضموما مع فتح الراء، وفي قراءة أبي:(سنفرغ إليكم)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ضربين: أحدهما: الفراغ من شغل، والآخر القصد لشيء، تقول: قدر فرغت مما كنت فيه، أي: زال شغلي به، وتقول: سأتفرغ لفلان، أي: سأجعله قصدي.

وقلت: الوجه الأول في الكتاب محمول على مجرد القصد، فهو كناية عن التوفر على النكاية، ثم استعير هذه العبارة للخالق عز شأنه، لذلك المعنى، وإليه أشار بقوله:" {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} مستعار من قول الرجل لم يتهدده: سأفرغ لك"، والوجه الثاني منزل على الفراغ من الشغل، لكن على سبيل التمثيل، شبه تدبيره تعالى أمر الآخرة من الاخذ في الجزاء، وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين، بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي، والإماتة والإحياء، والمنع والإعطاء، وأنه لا يشغله شأن عن شأن بحال من إذا كان في شغل يشغله عن شغل آخر، إذا فرغ من ذلك الشغل شرع في آخر، وقد ألم به صاحب "المفتاح" حيث قال: الفراغ الخلاص عن المهام، والله عز وجل لا يشغله شأن عن شأن، وقع مستعارًا للأخذ في الجزاء وحده. وهو المراد من قوله:"فجعل ذلك فراغًا لهم على طريق المثل".

قوله: ("سيفرغ لكم") حمزة والكسائي: بالياء، والباقون: بالنون.

ص: 165

بمعنى: سنقصد إليكم، والثقلان: الإنس والجن، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض.

[{يَا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ ونُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 33 - 36].

{يَا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنسِ} كالترجمة لقوله: {أَيُّهَا الثَّقَلانِ} ، {إنِ اسْتَطَعْتُمْ} أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي، فافعلوا، ثم قال: لا تقدرون على النفوذ {إلاَّ بِسُلْطَانٍ} يعني بقوة وقهر وغلبة، وأنى لكم ذلك؟ ونحوه:{ومَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ ولا فِي السَّمَاءِ} [العنكبوت: 22].

وروي: أن الملائكة عليهم السلام تنزل فتحيط بجميع الخلائق، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا، فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به.

قرئ: {شُوَاظٌ} و"نحاس" كلاهما بالضم والكسر؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (سميا بذلك لأنهما ثقلًا على الأرض) عن بعضهم: جعلت الأرض كالحمولة والجن والإنس شبهًا بثقل الدابة، وفي الحديث:"تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي"، سماها بذلك لأن الدين يعمر بهما، كالأرض، تعمر بالإنس والجن.

قوله: ({شُوَاظٌ} و"نحاس" كلاهما بالضم والكسر) ابن كثير: بكسر الشين، والباقون: بضمها. و"نحاس" بالخفض: ابن كثير وأبو عمرو، والباقون: بالرفع.

قال صاحب "الكشف": من رفع "نحاس" عطفه على {شُوَاظٌ} ، ومن جر لم يجز له حمله،

ص: 166

والشواظ: اللهب الخالص. والنحاس: الدخان؛ وأنشد:

تضيء كضوء سراج السليط .... لم يجعل الله فيه نحاسا.

وقيل: الصقر المذاب، يصب على رؤوسهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر. وقرئ: {ونُحَاسٌ} مرفوعا، عطفا على {نَّارٍ}. وقرئ:(ونحس) جمع نحاس، وهو الدخان، نحو لحاف ولحف. وقرئ:(ونحس) أي: ونقتل العذاب. وقرئ: (نرسل عليكما شواظا من نار ونحاسا)، {فَلا تَنتَصِرَانِ} فلا تمتنعان.

[{فَإذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ ورْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إنسٌ ولا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 37 - 40}.

{ورْدَةً} : حمراء {كَالدِّهَانِ} كدهن الزيت، كما قال:{كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8]، وهو دردي الزيت، وهو جمع دهن، أو اسم ما يدهن به، كالخزام والإدام. قال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على قوله: {مِّن نَّارٍ} ، لأن شواظًا لا تكون من النحاس، فيقدر: شواظ من نار وشيء من نحاس، فحذف الموصوف لدلالة ما قبله عليه.

قوله: (وقرئ: "نحس") قال ابن جني: قرأ ابن أبي بكرة: "ونحس" بفتح النون وضم الحاء وتشديد السين، أي: نقتل بالعذاب، يقال: حس القوم يحسهم حسًا: إذا استأصلهم، قال الله تعالى:{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي: تقتلونهم قتلًا ذريعًا.

ص: 167

كأنهما مزادتا متعجل .... فريان لما تدهنا بدهان

وقيل: الدهان: الأديم الأحمر.

وقرأ عمرو بن عبيد (وردة) بالرفع، بمعنى: فحصلت سماء وردة، وهو من الكلام الذي يسمى بالتجريد، كقوله:

فلئن بقيت لأرحلن بغزوة .... تحوي الغنائم أو يموت كريم

{إنسٌ} بعض من الإنس، {جَانٌّ} أربد به: ولا جن: أي: ولا بعض من الجن، فوضع الجان الذي هو أبو الجن موضع الجن، كما يقال: هاشم، ويراد ولده.

وإنما وحد ضمير الإنس في قوله: {عَن ذَنْبِهِ} لكونه في معنى البعض. والمعنى: لا يسألون لأنهم يعرفون بسيما المجرمين، وهي سواد الوجوه وزُرقة العيون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كأنهما مزادتا متعجل) البيت، أي: كأن عينيه في انسكاب الدموع مزادتان خرزهما متعجل فما أحكم خرزهما، فهما يكفان ماء.

قوله: (وهو من الكلام الذي يسمى التجريد) وهو: أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها لكمالها فيه، جرد هاهنا من السماء شيئًا يسمى وردة، وهي هي، كما جرد الشاعر من نفسه صفة الكرم وجعلها بمنزلة شخص لكمالها فيه، وعلى المشهور تشبيه محض، أي: كانت السماء كالوردة.

قوله: (وحد ضمير الإنس في قوله: {عَن ذَنبِهِ} لكونه في معنى البعض)، قيل: هذا إضمار عن غير مذكور، والذنب يدل على المذنب لا يسأل عن ذنب المذنب إنس ولا جان، أي: لا

ص: 168

فإن قلت: هذا خلاف قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92].

وقوله: {وقِفُوهُمْ إنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24].

قلت: ذلك يوم طويل وفيه مواطن، فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر: قال قتادة: قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. وقيل: لا يسأل عن ذنبه ليعلم من جهته، ولكن يسأل سؤال توبيخ. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد (ولا جان) فرارا من التقاء الساكنين، وإن كان على حده.

[{يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي والأَقْدَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا المُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان} 41 - 45].

{فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي والأَقْدَامِ} عن الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره، وقيل تسحبهم الملائكة؛ تارة تأخذ بالنواصي، وتارة تأخذ بالأقدام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يؤخذ أحد بذنب غيره. وقال صاحب "الإيجاز": لا يسأل عن ذنبه، لا يسأل أحد عن ذنب أحد، والظاهر أن التقدير: لا يسأل إنس ولا جان عن ذنب واحد منهما، لأن المراد البعض المجرم مهم خاصة، يدل عليه الاستئناف بقوله:{يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} ، فمعنى السؤال لا يسأل أحد عن أنه مذنب، أم لا، لأن سيماهم وهي سواد الوجوه وزرقة العيون دال على ذلك.

قوله: (وإن كان على حده) وحده: أن يكون الأول حرف لين والآخر مدغمًا.

ص: 169

{حَمِيمٍ آنٍ} ماء حار قد انتهى حره ونضجه، أي: يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم. وقيل: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم. وقيل: إن واديا من أدوية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال، فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم؛ ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقا جديدا. وقرئ:(يطوفون) من التطويف، و (يطوفون)، أي: يتطوفون، و (يطافون). وفي قراءة عبد الله:(هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان تصليان، لا تموتان فيها ولا تحييان، يطوفون بينها). ونعمة الله فيها ذكره من هول العذاب: نجاة الناجي منه برحمته وفضله، وما في الإنذار به من اللطف.

[{ولِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إسْتَبْرَقٍ وجَنَى الجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 46 - 55].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ونعمة الله فيما ذكره من هول العذاب: نجاة الناجي منه)، قال الراغب في "غرة التأويل": أن الله تعالى منعم على عباده نعمتين: نعمة الدنيا ونعمة الدين، وأعظمهما في الأخرى، واجتهاد الإنسان رهبة مما يؤلمه أكثر من اجتهاده رغبة فيما ينعمه، فالترهيب زجر عن المعاصي، وبعث على الطاعات، وهو سبب النفع الدائم، فأية نعمة أكبر إذن من التخويف بالضرر المؤدي إلى أشرف النعم، فكما جاز أن يقول عند ذكر ما خوفنا فيه مما يصرفنا عن معصيته إلى

ص: 170

{مَقَامَ رَبِّهِ} موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ} [المطففين: 6] ونحوه: {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم: 14] ويجوز أن يراد بمقام ربه: أن الله قائم عليه؛ أي: حافظ مهيمن، من قوله تعالى:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]، فهو يراقب ذلك فلا يخسر على معصيته، وقيل: هو مقحم، كما تقول: أخاف جانب فلان، وفعلت هذا لمكانك. وأنشد:

ذعرت به القطا ونفيت عنه .... مقام الذئب كالرجل اللعين

يريد: ونفيت عنه الذئب.

فإن قلت: لم قال: {جَنَّتَانِ} ؟

قلت: الخطاب للثقلين؛ فكأنه قيل: لكل خائفين منكما جنتان؛ جنة للخائف الإنسي، وجنة للخائف الجني. ويجوز أن يقال: جنة لفعل الطاعات، وجنة لترك المعاصي؛ لأن التكليف دائر عليهما، وأن يقال: جنة يثاب بها، وأخرى تضم إليها على وجه التفصيل، كقوله تعالى:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وزِيَادَةٌ} [يونس: 26].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طاعته التي تكسبنا نعيم جنته، لأن هذا أشوق إلى تلك الكرامة من وصف ما أعد فيها من النعمة.

قوله: (فهو يراقب)، متصل بقوله:"إن الله قائم عليه".

قوله: (ونفيت عنه)، قبله:

وماء قد وردت لوصل أروى .... عليه الطير كالورق اللجين

ذعرت به القطا ونفيت عنه .... مقام الذئب كالرجل اللعين

مضى شرحه في سورة السجدة.

ص: 171

خص الأفنان بالذكر- وهي الغصنة التي تتشعب من فروع الشجرة- لأنها هي التي تورق وتثمر، فمنها تمتد الظلال، ومنها تجتني الثمار.

وقيل: الأفنان: ألوان النعم؛ ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. وقال:

ومن كل أفنان اللذاذة والصبا .... لهوت به والعيش أخضر ناصر

{عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل. وقيل: تجريان من جبل من مسك. وعن الحسن: تجريان بالماء الزلال: إحداهما التسنيم، والأخرى: السلسبيل.

{زَوْجَانِ} : صنفان. قيل: صنف معروف، وصنف غريب.

{مُتَّكِئِينَ} نصب على المدح للخائفين، أو حال منهم، لأن "من خافي" في معنى الجمع، {بَطَائِنُهَا مِنْ إسْتَبْرَقٍ} من ديباج ثخين، وإذا كانت البطائن من الاستبرق، فما ظنك بالظهائر؟ وقيل: ظهائرها من سندس. وقيل: من نور، {دَانٍ} قريب يناله القائم والقاعد والنائم. وقرئ:(وجنى) بكسر الجيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهي الغصنة) بكسر الغين المعجمة وفتح الصاد المهملة؛ جمع غصن.

قوله: (تجتنى الثمار)، الراغب: جنيت الثمرة واجتنيتها، والجنى والجني: المجتنى من الثمر والعسل، وأكثر ما يستعمل الجني فيها كان غضًا، قال تعالى:{تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 35] وأجنى الشجر: أدرك ثمره، والأرض: كثر جناها، واستعير من ذلك جنى فلان جناية، كما استعير اجترم.

قوله: (إحداهما التسنيم)، الجوهري: هو اسم ماء في الجنة، سمي بذلك لأنه يجري فوق الغرف والقصور.

ص: 172

[{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ اليَاقُوتُ والْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 56 - 61].

{فِيهِنَّ} في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين، والعينين والفاكهة والفرش والجنى. أو في الجنتين، لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس، {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} نساء قصرن أبصارهن على أزواجهن: لا ينظرن إلى غيرهم. لم يطمث الإنسيات منهن أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن، وهذا دليل على أن الجن يطمثون كما يطمث الإنس وقرئ:(لم يطمثهن) بضم الميم. قيل: هن في صفاء الياقوت، وبياض المرجان.

وصغار الدر أنصع بياضا. قيل: إن الحوراء تلبس سبعين حلة، فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهذا دليل على أن الجن يطمثون)، الانتصاف: يشير بذلك إلى الرد على من زعم أن الجن المؤمنين لا ثواب لهم، وإنما جزاؤهم ترك العقوبة، وجعلهم ترابًا.

ووجهه أن الخطاب بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} للجن والإنسان للامتنان عليهم، بحور موصوفات تارة بـ {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} ، وأخرى بـ {مَّقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ} ، وبكونهن {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ} ، فالواجب أن يرد كل بما يناسبه.

قوله: (وقرئ: "لم يطمثهن" بضم الميم)، الكيائي، روى الواحدي عن الفراء: الطمث: الافتضاض، وهو النكاح بالتدمية.

قوله: (وصغار الدر أنصع بياضًا)، جواب عن سؤال مقدر، تقديره: لم عدل عن

ص: 173

{هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ} في العمل {إلاَّ الإحْسَانُ} في الثوب؟ وعن محمد بن الحنفية: هي مسجلة للبر والفاجر. أي: مرسلة، يعني: أن كل من أحسن أحسن إليه، وكل من أساء أسئ إليه.

[{وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَاكِهَةٌ ونَخْلٌ ورُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} 62 - 69].

[مِن دُونِهِمَا} ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين، {جَنَّتَانِ} لمن دونهم من أصحاب اليمين.

{مُدْهَامَّتَانِ} قد ادهامتا من شدة الخضرة، {نَضَّاخَتَانِ} فوارتان بالماء. والنضخ أكثر من النضح، لأن النضح -غير معجمية- مثل الرش.

فإن قلت: لم عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها؟

قلت: اختصاصا لهم وبيانا لفضلهما، كأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران، كقوله تعالى:{وجِبْرِيلَ ومِيكَالَ} [البقرة: 98] أو لأن النخل ثمرة فاكهة وطعام، والرمان فاكهة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اللؤلؤ والدر إلى المرجان، وهو أشرف من المرجان؟ وجوابه: القصد هاهنا إلى صفاء اللون لوقوعه مقارنًا للياقوت، وهو أنصع الجواهر حمرة، فينبغي أن يكون هذا أنصع اللآلئ بياضًا.

قوله: (مسجلة للبر والفاجر) أي مرسلة، يعني: مطلقة غير مقيدة، الجوهري عن الأصمعي: لم يشترط فيها بر دون فاجر، يقال: أسجلت الكلام، أي: أرسلته.

قوله: (قد ادهامتا من شدة الخضرة) الراغب: الدهمة: سواد الليل، ويعبر بها عن سواد الفرس، وقد يعبر بها عن الخضرة الكاملة اللون، ويعبر عن الدهمة بالخضرة إذا لم تكن كاملة اللون، وذلك لتقاربهما باللون.

ص: 174

ودواء فلم يخلصا للتفكه. ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا: لم يحنث، وخالفه صاحباه.

[{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكْرَامِ} 70 - 78].

{خَيْرَاتٌ} : خيرات: فخخفت، كقوله عليه السلام:"هينون لينون"، وأما خير الذي هو بمعنى أخير، فلا يقال فيه: خيرون ولا خيرات. وقرئ: (خيرات) على الأصل. والمعنى: فاضلات الأخلاق، حسان الخلق.

{مَّقْصُورَاتٌ} قصرن في خدورهن، يقال: امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة: مخدرة، وقيل: إن الخيمة من خيامهن درة مجوفة.

{قَبْلَهُمْ} قبل أصحاب الجنتين، دل عليهم ذكر الجنتين، {مُتَّكِئِينَ} نصب على الاختصاص والرفرف: ضرب من البسط. وقيل: البسط، وقيل: الوسائد، وقيل: كل ثوب عريض رفرف. ويقال لأطراف البسط وفضول الفسطاط: رفارف، ورفرف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ("خيرات" على الأصل)، الراغب: الخير: الفاضل المختص بالخير، فإنه خيار، ويقال: ناقة خيار وجمل خيار، ويقال: رجل خير وامرأة خيرة، وهذا خير الرجال، وهذه خيرة النساء، والمراد بذلك المختارات، أي: فيهن مختارات لا رذل فيهن.

قوله: (والرفرف: ضرب من البسط)، الراغب: الرفرف: ضرب من الثياب مشبه

ص: 175

السحاب: هيدبه، والعبقري: منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه بلد الجن؛ فينسبون إليه كل شيء عجيب. وقرئ:(رفارف خضر) بضمتين. (وعباقري)، كمدائني: نسبة إلى عباقر في اسم البلد: وروى أبو حاتم: (عباقري)، بفتح القاف ومنع الصرف، وهذا لا وجه لصحته.

فإن قلت: كيف تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل: {وَمِن دُونِهِمَا} ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالرياض، وقيل: الرفرف: طرف الفسطاط، والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد.

قوله: (هيدبه)، الجوهري: هيدب السحاب، ما تهدب منه إذا أراد الودق كأنه خيوط.

قوله: ("عباقري" بفتح القاف ومنع الصرف، وهذا لا وجه لصحته)، قال الزجاج: هذه القراءة لا مخرج لها، لأن الجمع الذي بعد ألفه حرفان، لا يجوز أن يكون فيه مثل عباقري، لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب، فلو جمعت عبقري تجمعه عباقرة، نحو: مهلبي ومهالبة، ولا تقول: مهالبي.

وقال ابن جني: أما ترك صرف عباقري فشاذ في القياس، ولا يستنكر شذوذه مع استعماله، وإذا كان قد جاء عنهم عناكيب، كان عباقري أسهل منه، للتشديد على أنه في آخر الكلمة كـ"زرابي". وفي "النهاية" قيل: إن عبقر قرية يسكنها الجن فيها يزعمون، فكلما رأوا شيئًا فائقًا غريبًا، مما يصعب عمله ويدق، أو شيئًا عظيمًا في نفسه نسبوه إليها، ثم اتسع فسموا به السيد الكبير. وفي الحديث:"فلم أر عبقريًا يفري فرية"، يريد عمر رضي الله عنه.

ص: 176

قلت: {مُدْهَامَّتَانِ} دون {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} و {نَضَّاخَتَانِ} دون {تَجْرِيَانِ} ، {فَاكِهَةٌ} دون {كُلِّ فَاكِهَةٍ}. وكذلك صفة الحور والمتكأ. وقرئ:(ذو الجلال) صفة للاسم.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الرحمن أدى شكر ما أنعم الله عليه".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({مُدْهَامَّتَانِ} دون {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ})، بيان لكيفية تقاصر الجنتين الأخريين عن الأوليين، وفي "المطلع": الأوليان للمقربين، وهامتان لأصحاب اليمين. قال ابن عباس.

وروينا عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه الدارمي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أي ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن".

قوله: (وقرئ: "ذو الجلال")، ابن عامر.

تمت السورة

حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* * *

ص: 177

‌سورة الواقعة

مكية، وهي سبع وتسعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{إذَا وقَعَتِ الوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ * إذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًا * وبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثًا * وكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} 1 - 7].

{وقَعَتِ الوَاقِعَةُ} كقولك: كانت الكائنة، وحدثت الحادثة، والمراد: القيامة؛ وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة، فكأنه قيل: إذا وقعت التي لابد من وقوعها، ووقوع الأمر: نزوله. يقال: وقع ما كنت أتوقعه، أي نزل ما كنت أترقب نزوله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الواقعة

مكية وهي ست وتسعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (ووقوع الأمر: نزوله)، الراغب: الوقوع: ثبوت الشيء وسقوطه، يقال: وقع الطائر وقوعًا، والواقعة لا تقال إلا في الشدة والمكروه، وأكثر ما جاء في التنزيل من لفظ وقع، جاء في العذاب والشدائد، قوله تعالى:{وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 85] أي: وجب العذاب الذي وعدوا لظلمهم وقوله: {وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وقع هنا

ص: 178

فإن قلت: بم انتصب إذن؟ قلت: بـ "ليس"؛ كقولك: يوم الجمعة ليس لي شغل، أو بمحذوف؛ يعني: إذا وقعت كارن كيت وكيت: أو بإضمار اذكر.

{كَاذِبَةٌ} نفس كاذبة، أي: لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله، وتكذب في تكذيب الغيب؛ لأن كل نفس حينئذ مؤمنة صادقية مصدقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات، كقوله تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [غافر: 84]، {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} [الشعراء: 201]، {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَاتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الحج: 55] واللام مثلها في قوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] أو ليس لها نفس تكذبها وتقول لها: لم تكوني، كما لها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تأكيدًا للوجوب والإيقاع، يقال في الإسقاط، وفي شن الحرب، ويكنى عن الحرب بالواقعة، وكل سقوط شديد يعبر عنه بذلك، وعنه استعير الوقيعة في الإنسان، والتوقيع: أثر الدبر بظهر البعير، وأثر الكتابة في لكتاب، ومنه استعير التوقيع في القصص.

قوله: (وتكذب في تكذيب الغيب)، أي: لا يكون في القيامة نفس تنسب إلى الكذب، وتسمى كاذبة لأجل تكذيبها للغيب، كما في الدنيا، وهو المراد بقوله:"وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات"، لأن كل من يكذب الحق فهو كاذب، لأنه يقول بخلاف ما هو كائن.

قوله: (واللام مثلها في قوله تعالى: {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}) أي: وقت حياتي، المعنى في الوقت الذي كنت حيًا، قال صاحب "التقريب: ": هو لام التاريخ.

قوله: (أو ليس لها نفس تكذبها وتقول لها: لم تكوني)، هذا يحتمل أن يكون صادرًا عن اللسان، وأن يكون قد فعل ما يلابس التكذيب، وإن صدق باللسان. قال في "الفائق" في قوله:"كذب، عليك الحج": "كذب" كلمة جرت مجرى المثل في كلامهم، وهي في معنى الأمر، كأنه يريد أن يكذب ها هنا، تمثيل لإرادة: اترك ما سولت إليك نفسك من التواني في

ص: 179

اليوم نفوس كثيرة يكذبنها، يقلن لها: لن تكوني. أو هي من قولهم: كذبت فلانا نفسه في الخطب العظيم: إذا شجعته على مباشرته وقالت له: إنك تطيقه وما فوقه، فتعرض

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحج، ثم استأنف بقوله: اقصد الحج، فشبه إيجاب الحج عليه بسبب تهيؤ أسبابه ووجوب استطاعته، ثم تقاعده عنه، كأنه يقول: لم يجب عليك الحج، فقيل: كذب، عليك الحج، على سبيل التأكيد، كذلك من يباشر ما ينافي الرجوع إلى الله، ويتمادى في الغفلة والاشتغال بالدنيا مع ظهور الدلائل الساطعة على مجيء القيامة، كأنه يقول لها: لن تكوني.

قوله: (أو هي من قولهم: كذبت فلانًا نفسه في الخطب العظيم: إذا شجعته) وإنما خص في الدنيا لمن لتماديهم في العناد أو في الغفلة، ولأن بانتفاء نفي غير المؤكد في الآخرة، ينتفي المؤكد بالطريق الأولى، بخلاف إثبات نفي المؤكد في الدنيا، فإنه لا ينتفي غير المؤكد.

وقال في "الفائق": المراد بالكذب الترغيب والبعث، من قولهم: كذبته نفسه، إذا منته الأماني وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون، وذلك ما يرغب الرجل في الأمور، وبعثه على التعرض لها. ويقولون في عكس ذلك: صدقته، إذا ثبطته، وخيلت إليه المعجزة والنكد في الطلب، وهو من باب التجريد؛ جرد من نفسه شخصًا وهو يحاوره، كقول القائل:

أقول لها وقد جشأت وجاشت .... مكانك تحمدي أو تستريحي

وأنشد الميداني للبيد:

واكذب النفس إذا حدثتها .... إن صدق النفس يزري بالأمل

أي: لا تحدث نفسك بأنك لا تظفر، فإن ذلك يثبطك.

ص: 180

له ولا تبال به، وعلى معنى: إنها وقعة لا تطاق شدة وفظاعة، وأن نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور، وتزين له احتمالها وإطاقتها، لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذل. ألا ترى إلى قوله تعالى:{كَالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ} [القارعة: 4] والفراش مثل في الضعف. وقيل {كَاذِبَةٌ} مصدر؛ كالعاقبة، بمعنى التكذيب، من قولك: حمل على قرنه فما كذب، أي: فما جبن وما تثبط. وحقيقته: فما كذب نفسه فيما حدثته به من إطاقته له وإقدامه عليه. قال زهير:

إذا .... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (حمل على قرنه فما كذب، أي: فما جبن)، وقال الزجاج:{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} ، أي: لا يردها شيء، كما تقول: قد حمل فلان فما كذب، أي: لا يرد حملته شيء، وهو مصدر جبن ونكل، ومعناه: كذب الظن به، أو جعل حملته كاذبة غير صادقة.

قوله: (إذا ما الليث كذب عن أقرانه صدقًا)، صدره:

ليث بعثر يصطاد الرجال

يمدح شجاعًا، وعثر: اسم موضع، أي: إذا جبن الشجاع عن قرنه بسل هو وأقدم غير مبال ولا مكترث، وقال أبو علي: الكذب ضرب من القول، فكما جاز أن يتسع في القول في غير نطق نحو:

قد قالت الأنساع للبطن الحق

جاز في الكذب أن يجعل في غير نطق، نحو:

كذب القراطف والقروف

فيكون ذلك انتفاءً لها، كما إذا أخبر عن الشيء على خلاف ما هو به، كان انتفاء للصدق

ص: 181

أي: إذا وقعت لم يكن لها رجعة ولا ارتداد، {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} على: هي خافضة رافعة، ترفع أقواما وتضع آخرين: إما وصفا لها بالشدة؛ لأن الواقعات العظام كذلك؛ يرتفع فيها ناس إلى مراتب، ويتضع ناس، وإما لأن الاشقياء يحطون إلى الدركات، والسعداء يرفعون إلى الدرجات؛ وإما أنها تزلزل الأشياء وتزيلها عن مقارها، فتخفض بعضا وترفع بعضا؛ حيث تسقط السماء كسفا، وتنتثر الكواكب وتنكدر، وتسير الجبال، فتمر في الجو مر السحاب. وقرئ. (خافضة رافعة) بالنصب على الحال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فيه، وقيل في قول الأعرابي، وقد نظر إلى جمل نضو: كذب عليك القت وانوى، معناه: أن القت والنوى ذكرًا لأنك تسمن بهما فقد كذبا عليك، فعليك بهما، فإنك تسمن بهما، ثم اختار أنهما كلمة جرت مجرى المثل.

وحاصل الوجوه: أن {كَاذِبَةٌ} إما أنها صفة موصوف محذوف، أو هي محمولة على الواقعة مجازًا، والأول على وجوه:

أحدها: أن المعنى ليس هناك نفس تصير كاذبة بتكذيبها الله عز وجل أن لا بعث ولا إعادة، كما في الدنيا، وعليه ورد الحديث القدسي:"كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك"، إلى قوله:"ولن يعيدني كما بدأني".

وثانيها: ليس هناك نفس تكذب نفس الساعة، بأن تقول لها: لن تكوني، إما قولًا أو فعلًا، كما كانت تفعل الدنيا.

وثالثها: لا تكذب النفس الشخص حينئذ وتمنيه الأباطيل، وإليه أشار بقوله:"لا نفس حينئذ تحدث صاحبها بما تحدث به. والثاني: وهو أن يكون الضمير في {كَاذِبَةٌ} راجعًا إلى الواقعة، ويراد بالكذب الكذب بالفعل دون القول، كما قال: "أي إذا وقعت لم يكن لها رجعة"، ويروى "راجعة"، وهو من قول الزجاج، أي: لا يردها شيء كما تقول: حمل فلان فما كذب.

قوله: (وقرئ: "خافضة رافعة" بالنصب على الحال)، قال ابن جني: وهي قراءة الحسن

ص: 182

{رُجَّتِ} حركت تحريكا شديدا، حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء، {وبُسَّتِ الجِبَالُ} وفتت حتى تعود كالسويق، أو سيقت؛ من بس الغنم: إذا ساقها. كقوله: {وسُيِّرَتِ الجِبَالُ} [النبأ: 20].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

واليزيدي والثقفي، وهذا منصوب على الحال، وقوله:{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} حال أخرى قبلها، أي: إذا وقعت الواقعة صادقة الوعد خافضة رافعة، مثله: مررت بزيد جالسًا متكئًا ضاحكًا، كما لك أن تأتي للمبتدأ من الأخبار بما شئت، كذلك الأحوال، لأن الحال ضرب من الخبر. ويجوز أن يكون قوله {إذَا رُجَّتِ} خبرًا عن {إذَا} الأولى، ونظيره إذا تزورني إذا يقوم زيد، أي وقت زيارتك إياي وقت قيام زيد، وجاز لـ"إذا" أن تفارق الظرفية وترتفع بالابتداء، كما جاز لها أن تخرج بحرف الجر عن الظرفية كقول زهير:

حتى إذا ألقت يدًا في كافر .... وأجن عورات الثغور ظلامها

الضمير في "ألقت" للشمس، أي: بدأت في المغيب، والكافر: الليل لتغطيته الأشياء بظلمته، وعورات الثغور: المواضع التي تؤتي المخافة، وقوله تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} [يونس: 22] فـ {إذَا} مجرور عند أبي الحسن بـ {حَتَّى} ، وذلك مخرج من الظرفية.

قوله: (حتى تعود كالسويق) الأساس: بست الجبال: فتت كالدقيق والسويق، ومنه

ص: 183

{مُّنْبَثًا} متفرقا. وقرئ بالتاء أي: منقطعا. وقرئ: (رجت)، و (بست) أي: ارتجت وذهبت. وفي كلام بنت الخس: عينها هاج، وصلاها راج. وهي تمشي وتفاج.

فإن قلت: بم انتصب {إذَا رُجَّتِ} ؟

قلت: هو بدل من {إذا وقعت} . ويجوز أن ينتصب بـ {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} . أي: تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال، لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض، {أَزْوَاجًا} أصنافا، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض، أو يذكر بعضها على بعض: أزواج.

[{فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ * وأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ} 8 - 9]

{فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ} الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم، {وأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ} الذين يؤتونها بشمائلهم، أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية، من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قيل للسويق الملتوت: البسيسة، وقيل: البسيسة هي أن يلت السويق أو الدقيق أو الأقط المطحون بالسمن أو الزيت.

قوله: (وفي كلام بنت الخس) بالخاء المعجمة مضمومة والسين المهملة. الأساس: تقول: أين بنت الخس من فصاحة قس، وكلاهما من إياد، وفي حاشية "الصحاح": قال أبو محمد الأسود: هي بنت الخس من العماليق الإيادية. تصف ناقة. عين هائجة، أي: غائرة، والصلا: ما عن يمين الذنب وشماله، وهما صلوان، ورج فارتج، أي. حرك فتحرك، وتفاجت الناقة: إذا فرجت بين رجليها.

ص: 184

قولك: فلان مني باليمين، وفلان مني بالشمال: إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة؛ وذلك لتيمنهم بالميامن، وتشاؤمهم بالشمائل، ولتفاؤلهم بالسانح وتطيرهم من البارح، ولذلك اشتقوا لليمين الاسم من اليمن، وسموا الشمائل الشؤمى.

وقيل: أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة: أصحاب اليمين والشؤم؛ لأن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم، والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. وقيل: يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال.

[{والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وأَبَارِيقَ وكَاسٍ مِّن مَّعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنهَا ولَا يُنْزِفُونَ * وفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * ولَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ولا تَاثِيمًا * إلاَّ قِيلًا سَلامًا سَلامًا} 10 - 26].

{والسَّابِقُونَ} المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه، وشقوا الغبار في طلب مرضاة الله عز وجل، وقيل: الناس ثلاثة؛ فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا؛ فهذا السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة، ثم رجع بتوبة، فهذا صاحب اليمين، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه، ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا، فهذا صاحب الشمال.

{مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ} ؟ ! {مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ} ؟ تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة. والمعنى: أي شيء هم؟ {والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} ، يريد: والسابقون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فرجل ابتكر) الفاء تفصيلية في قوله تعالى: {فَأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ} والمفصل: {وكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} ، والواو للحال و"قد" مقدرة، والعامل الفعل السابق، ويجوز أن تكون حالًا مقدرة لقوله:{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} .

قوله: (تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاء) قال القاضي: والجملتان

ص: 185

من عرفت حالهم وبلغك وصفهم، كقوله: و"عبد الله عبد الله". وقول أبي النجم:

وشعري شعري ....

كأنه قال: وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وبراعته. وقد جعل {السَّابِقُونَ} تأكيدا. {أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} خبرا، وليس بذاك. ووقف بعضهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاستفهاميتان خبران لما قبلهما، بإقامة الظاهر مقام الضمير، ومعناهما: التعجب من حال الفريقين.

قوله: (وشعري شعري)، تمامه:

أنا أبو النجم وشعري شعري .... لله دري ما أجن صدري

تنام عيني وفؤادي يسري .... مع العفاريت بأرض قفر

إنما أوقع "أبو النجم" خبرًا لتضمنه نوع وصفية الكمال واشتهاره به، كما أطلق اسمه بادرت الصفة في الذهن، وهو المراد من قوله:"من عرفت حالهم وبلغك وصفهم"، المعنى: أنا ذلك المعروف الموصوف بالكمال، وشعري هو المشهور في الفصاحة والبلاغة.

وقدر صاحب "المرشد": والسابقون إلى طاعة الله هو السابقون إلى رحمته. وروينا عن الإمام أحمد بن حنبل عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون من السابقون إلى ظل الله عز وجل يوم القيامة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم".

قوله: (وليس بذاك) أي: بذاك القول الذي يعول عليه، لأنه يفوت تلك المبالغة

ص: 186

على: {وَالسَّابِقُونَ} ، وابتدأ {السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} والصواب أن يوقف على الثاني، لأنه تمام الجملة، وهو في مقابلة {مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ} ، {مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ} .

{المُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش، وأعليت مراتبهم. وقرئ:(في جنة النعيم)، والثلة: الأمة من الناس الكثيرة. قال:

وجاءت إليهم ثلة خندقية .... بجيش كثير من السيل مزبد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التي سبقت في جعل الخبر نفس المبتدأ، أو تلك المقابلة التي بينه وبين أصحاب الميمنة، استئناف جملة أخرى على تقدير سؤال سائل عند {أُوْلَئِكَ} .

قوله: (وهو في مقابلة {مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ}) وكان ينبغي أن يقال: السابقون، إلا أنه أريد أن يصفهم بوصف لا يكتنه كنهه، والفرق: أن الجملتين واردتان على التعجب، أي: ما عرفت حالهم؟ أي شيء هم؟ فاعرفها وتعجب منها، وأما الأخيرة فمعناها أنك عرفت حالهم وصفتهم ومزبتهم، فلا يحتاج إلى التقرير، فعلى هذا المراد بالمقابلة التضاد، فالمقابلة حينئذ باعتبار المعنى، بحسب التقدم والتأخر والأسلوب من باب استيفاء أقسام الشيء، لأن الناس من بين سابق ومقتصد وظالم، كقوله تعالى:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] وهذا مانع آخر من جعل {أُوْلَئِكَ} خبرًا، و {السَّابِقُون} تأكيدًا، وأنت إذا استنشقت جل فقرات هذه السورة الكريمة، من مفتتحها إلى مختتمها شممت منها رائحة مثلثات كأنها:

أذيف عليها المسك حتى كأنها .... لطيمة تفتق فارها

قوله: (وجاءت إليهم ثلة) البيت، خندفية: منسوب إلى خندف؛ امرأة إلياس من

ص: 187

وقوله عز وجل: {وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} كفى به دليلا على الكثرة، وهي من الثل وهو الكسر، كما أن الأمة من الأمم وهو الشج، كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم. والمعنى: أن السابقين من الأولين كثير، وهم الأمم من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم {وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم {مِّنَ الأَوَّلِينَ} من متقدمي هذه الأمة، و {مِّنَ الآخِرِينَ} من متأخريها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:"الثلثان جميعا من أمتي".

فإن قلت {وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 14]، ثم قال:" {وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 40]؟ "

قلت: هذا من السابقين، وذلك في أصحاب اليمين؛ وأنهم يتكاثرون من الأولين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مضمر، واسمها ليلى، نسب ولد إلياس إليها وهي أمهم، والتيار: الموج، مزبد: كثير الزبد، والمراد: كثرة الجيش.

قوله: (كفى به دليلًا على الكثرة) يعني: وقوع "قليل" في مقابل {ثُلَّةٌ} دليل على كثرة المقابل: يعرض بقول الزجاج: ويجوز أن تكون الثلة بمعنى: قليل، أي قليل من الأولين، وقليل من الآخرين، لأن اشتقاق الثلة من القطعة، فالثلة نحو الفرقة والفئة والقطعة.

الراغب: الثلة: قطعة مجتمعة من الصوف، ولذلك قيل للغنم: ثلة، ولاعتبار الاجتماع قيل:{ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} ، أي: جماعة، وثللت كذا: تناولت ثلة منه، وثل عرشه أسقط ثلة منه.

قوله: (كيف قال: {وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ}) يعني: ذكرت أن الثلة هي الأمة الكثيرة، وتمسكت بقوله:{وقَلِيلٌ} ، فكيف قال أولًا:{وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} ، فوصفهم بالقلة، ثم قال:{وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} ، فوصفهم بالكثرة؟ وأجاب: أن ذلك في قوم، وهذا في قوم، ولما ورد الحديث مخالفًا لهذا التأويل رده لأن قضية هذا الخبر:"فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه"،

ص: 188

والآخرين جميعا. فإن قلت: فقد روي أنها لما نزلت شق ذلك على المسلمين، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى نزلت {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 39 - 40].

قلت: لا يصح لأمرين، أحدهما: أن هذه الآية واردة في السابقين ورودا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فوجب أن تكون الجماعة واحدة، أي: كانت الجماعة قليلة فسأل أن يزيل عنهم القلة، ويكسوهم الكثرة.

قوله: (هذا لا يصح لأمرين) وقلت: صح، ورواه الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي هريرة: ولما نزلت: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} ، شق ذلك على المسلمين، فنزلت:{ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} ، فقال:"أنتم ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، وتقاسمونهم النصف الثاني"، وورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين لا يرد مقتضى هذا الحديث، فإنه صلوات الله عليه حين أخبر الصحابة بهذه الآية حسبوا أن الخطاب من جميع هذه الأمم، فشق ذلك عليهم، فنزلت الآية الثالثة ليعلم أن

ص: 189

ظاهرا، وكذلك الثانية في أصحاب اليمين. ألا ترى كيف عطف أصحاب اليمين ووعدهم، على السابقين ووعدهم. والثاني: أن النسخ في الأخبار غير جائز، وعن الحسن رضي الله عنه: سابقوا الأمم أكثر من سابقي أمتنا، وتابعوا الأمم مثل تابعي هذه الأمة. وثلة: خير مبتدأ محذوف، أي: هم ثلة.

{مَّوْضُونَةٍ} مرمولة بالذهب، مشبكة بالدر والياقوت، قد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع. قال الأعشى:

ومن نسج داود موضونة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأولى فيهم وفي أمثالهم من المقربين والتابعين لهم بإحسان، والثانية في من يلحق بهم من أصحاب اليمين، واندفع بهذا أيضًا لزوم النسخ في الأخبار، لأن السياق في الشفاعة على طريق التدرج لمزيد السرور والتبجح.

ويؤيده ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة في نحو من أربعين، فقال:"أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا نعم: قال: "أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: نعم، "قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة"، الحديث.

قوله: (مرمولة بالذهب) الجوهري: رملت الحصير، أي: سففته، وأرملته: مثله، قال: سفيفة من خوص، نسيجة من خوص، وقد سففت الخوص أسفه بالضم سفًا، وأسففته أيضًا: نسجته.

قوله: (ومن نسج دواود موضونة) أنشد الزجاج تمامه:

تساق مع الحي عيرًا فعيرا

ص: 190

وقيل: متواصلة، أدنى بعضها من بعض. {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {عَلَى} ، وهو العامل فيها، أي: استقروا متكئين. {مُتَقَابِلِينَ} لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض. وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب.

{مُّخَلَّدُونَ} مبقون أبدا على شكل الولدان وحد الوصافة لا يتحولون عنه. وقيل: مقرطون، والخلدة: القرط. وقيل: هم أولاد أهل الدنيا: لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها، ولا سيئات فيعاقبوا عليها، روي عن علي رضي الله عنه وعن الحسن، وفي الحديث:"أولاد الكفار خدام أهل الجنة".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: عير القوم: سيدهم، وقولهم:"عير بعير، والزيادة عشرة".

قوله: ({مُتَّكِئِينَ} حال) أبو البقاء: في {ثُلَّةٌ} وجهان؛ أحدهما: هو مبتدأ، والخبر {عَلَى سُرُرٍ} ، والثاني: هو خبر، أي: هم ثلة، و {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {عَلَى} ، و {مُتَقَابِلِينَ} حال من الضمير في {مُتَّكِئِينَ} ، ويطوف يجوز أن يكون مستأنفًا، وأن يكون حالًا.

وقلت: قول المصنف وأبو البقاء: {مُتَّكِئِينَ} حال من الضمير في {عَلَى} معناه: حال من {عَلَى} في {عَلَى سُرُرٍ} لأن قوله: {عَلَيْهَا} كما ظن، لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمة، وقد مر فيه كلام في سورة المؤمن.

قوله: (وحد الوصافة لا يتحولون عنه) الجوهري: الوصيف: الخادم غلامًا كان أو جارية، يقال: وصف الغلام إذا بلغ حد الخدمة، فهو وصيف بين الوصافة.

قوله: (وفي الحديث: "أولاد الكفار خدام أهل الجنة")، قلت: هذا لم يصح، وورد

ص: 191

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما يدفعه، روينا عن البخاري وأبي داود والنسائي عن عائشة، قالت: توفي صبي، فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم: أولا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار، فخلق لهذه أهلًا ولهذه أهلًا"؟ وفي رواية:"خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم".

وعن أبي داود عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ فقال: "من آبائهم"، فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟ ! قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، قلت: يا رسول الله، فذراري المشركين؟ فقال:"من آبائهم"، فقلت: بلا عمل؟ ! قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، وقلت: من قوله "من آبائهم" اتصالية، كقوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ

ص: 192

الأكواب: أوان بلا عرى وخراطيم، والأباريق: ذوات الخراطيم.

{لا يُصَدَّعُونَ عَنهَا ولَا يُنْزِفُونَ} أي: بسببها، وحقيقته: لا يصدر صداعهم عنها، أو لا يفرقون عنها. وقرأ مجاهد:(لا يصدعون)، بمعنى: لا يتصدعون لا يتفرقون، كقوله:{يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43]، و (يصدعون)، أي: لا يصدع بعضهم بعضا، لا يفرقونهم {يَتَخَيَّرُونَ} يأخذون خيرة وأفضله، {يَشْتَهُونَ} يتمنون. وقرئ:{ولَحْمِ طَيْرٍ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بَعْضٍ} [التوبة: 67]، وقال الخطابي: أي إنهم كفار يلحقون في الكفر بآبائهم، لأن الله قد علم أنهم لو بقوا أحياء حتى يكبروا، لكانوا يعملون عمل الكفار، ويدل عليه قوله صلوات الله عليه، قال:"الله أعلم بما كانوا عاملين"، في جواب عائشة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا عمل؟ !

وقال ابن المبارك: فيه أن كل مولود من البشر، إنما يولد على فطرته التي جبل عليها من السعادة والشقاوة، وعلى ما سبق له من قدر الله، وتقدم من مشيئته فيه من كفر أو إيمان، فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه، وخلق له، وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لفطرته في السعادة والشقاوة، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين نصرانيين أو يهوديين، فيحملانه لشقاوته على اعتقاد دين اليهود والنصارى. أو يعلمانه اليهودية والنصرانية، أو يموت قبل أن يعقل فيصف الدين، فهو محكوم له بحكم والديه، وتبع لهما في حكم الشرع.

قوله: (لا يفرقونهم) أي: لا يفرقون عنهم، فحذف الجار وأوصل.

ص: 193

قرئ: {وحُورٌ عِينٌ} بالرفع، على: فيها حور عين، كبيت الكتاب:

إلا رواكد جمرهن هباء

ومشجج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ: {وحُورٌ عِينٌ} بالرفع) حمزة والكسائي: بكسرهما، والباقون: برفعهما.

قال الزجاج: الرفع أحسنهما لأن المعنى: يطوق عليهم ولدان مخلدون بهذه الأشياء، ولم حور عين، ومثله ما يدل على المعنى، قول الشاعر:

بادت وغير أيهن مع البلى .... إلا رواكد جمرهن هباء

ومشجج أما سواء قذاله .... فبدا وغيب ساره المعزاء

لأنه لما قال: "إلا رواكد" فحمل "ومشجج" على المعنى، أي: هناك مشجج، ومن قرأ بالرفع كره الخفض؛ لأنه عطف على قوله:{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ .... بِأَكْوَابٍ} ، فقالوا: الحور العين ليس مما يطاف به، ولكنه مخفوض على معنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بها، وكذلك ينعمون بلحم طير، وكذلك ينعمون بحور عين. وقد قرئت: "وحورًا عينًا) بالنصب على الحمل على المعنى أيضًا، لأن المعنى يعطون هذه الأشياء، ويعطون حورًا عينًا، إلا أن هذه القراءة تخالف المصحف الذي هو الإمام. وأهل العلم يكرهون القراءة بما يخالف الإمام. وقال ابن جني: وهي قراءة أبي بن كعب وابن مسعود.

ص: 194

أو للعطف على {ولْدَانٌ} ، وبالجر: عطفا على جنات النعيم، كأنه قال: هم في جنات النعيم، وفاكهة ولحم وحور، أو على أكواب، لأن معنى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ} {بِأَكْوَابٍ} ينعمون بأكواب، وبالنصب على: ويؤتون حورا. {جَزَاءً} مفعول له، أي: يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم.

{سَلامًا سَلامًا} إما بدل من {قِيلًا} بدليل قوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إلاَّ سَلامًا}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما معنى البيتين فقوله: بادت، أي: هلكت، آيهن: علامتهن، والرواكد: أحجار الأثفية، وهبا الرماد يهبو: إذا اختلط بالتراب، ومشجح: الوتد قد شج رأسه من الدق، وساره: بقيته، والمعز: الصلابة من الأرض، وأرض معزاء: بينة المعز، وعطف مشجج على رواكد من حيث المعنى، أي: وفيها مشجج، وكان ينبغي أي يقول: مشججًا، لأن الرواكد منصوب، يقول: لم يبق من آثار منازل الأحبة سوى أحجار الأثافي، ورماده المختلط بالتراب، ووتد الخباء المكسور الرأس المتغير بطول بقائه في الأرض.

قوله: ({سَلامًا سَلامًا} إما بدل من {قِيلًا}) قال الزجاج: {سَلامًا} منصوب من جهتين: أحدهما: أنه نعت من {قِيلًا} ، أي: لا يسمعون فيها إلا قيلًا قيلًا، يسلم من اللغو والإثم، وثانيهما: انه منصوب على المصدر، أي: لا يسمعون فيها إلا أن يقول بعض لبعض سلامًا، نحو قوله تعالى:{تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [إبراهيم: 23].

وقال أبو البقاء: هو استثناء منقطع، و {سَلامًا} بدل أو صفة، وقيل: هو مفعول، وقيل: هو مصدر.

وقلت: الأحسن أن يكون من باب الإبدال من غير الجنس، نحو قوله:

وبلدة ليس بها أنيس .... إلا اليعافير وإلا العيس

ص: 195

[مريم: 62] وإما مفعول به لـ {قِيلًا} ، بمعنى: لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا: سلاما سلاما. والمعنى: أنهم يفشون السلام بينهم، فيسلمون سلاما بعد سلام. وقرئ:(سلام سلام) على الحكاية.

[{وأَصْحَابُ اليَمِينِ مَا أَصْحَابُ اليَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وظِلٍّ مَّمْدُودٍ * ومَاءٍ مَّسْكُوبٍ * وفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ * وفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إنَّا أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لأَصْحَابِ اليَمِينِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} 27 - 40].

{سِدْرٍ} السدر: شجر النبق. والمخضود: الذي لا شوك له، كأنما خضد شوكه.

وعن مجاهد: الموقر الذي تثني أغصانه كثرة حمله، من خضد الغصن: إذا ثناه وهو رطب. والطلح: شجر الموز. وقيل: هو شجر أم غيلان، وله نوار كثير طيب الرائحة.

وعن السدي: شجر يشبه طلح الدنيا، ولكن له ثمر أحلى من العسل.

وعن علي رضي الله عنه أنه قرأ: (وطلع)، وما شأن الطلح؟ وقرأ قوله: {لَّهَا طَلْعٌ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويؤيده قوله في موضع آخر: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62].

قوله: (فيسلمون سلامًا بعد سلام) يعني: التثنية في {سَلامًا سَلامًا} للتكرير، نحو: لبيك وسعديك.

قوله: (الموقر) الجوهري: أوقرت النخلة: إذا كثر حملها، يقال: نخلة موقرة وموقرة، وحطي موقر، وهو على غير القياس، لأن الفعل ليس للنخلة، وإنما قيل: موقر _بكسر القاف_ على قياس: امرأة حامل، لأن حمل الشجر مشبه بحمل النساء، فأما موقر _بالفتح_ فشاذ.

قوله: (قرأ: "وطلع" وما شأن الطلح؟ ) أي: لا يليق الطلح بهذا الموضع، ثم قرأ استشهادًا لما اختاره من القراءة، قوله:{لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 10] فقيل له: أتحوِّل القراءة

ص: 196

نَّضِيدٌ} [ق: 10] فقيل له: أو تحولها؟ فقال: أي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول. وعن ابن عباس ونحوه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أو الكلمة أو الآية؟ فقال: آيات القرآن لا تهاج اليوم، أي: استقر كل آية في مكانها، فلا ينبغي أن تحول.

وفيه: لولا استقرارها وثبوتها في المصاحف وصدور الناس لجاز هذه الرواية، وأمثالها مما يجب أن ترد أبلغ رد، لأنه تعالى صان هذا الكتاب المجيد من مثل هذه التحريفات، وقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] والعجب من المصنف كيف رد الحديث في قوله: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} [الواقعة: 13 - 14]! وقبل هذا؟

قال الزجاج: جاز أن يعني به الطلح، لأن له نورًا طيب الرائحة جدًا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا، كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا.

وقلت: والله أعلم، إن النظم يقتضي أن يحمل قوله:{فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وظِلٍّ مَّمْدُودٍ} على معنى التظليل وتكاثف الأشجار على سبيل الترقي، لأن ذكر الفواكه مستغنى عنه بقوله:{وفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ} ، وليقابل قوله:{وأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وحَمِيمٍ * وظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} قوله: {وأَصْحَابُ اليَمِينِ مَا أَصْحَابُ اليَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وظِلٍّ مَّمْدُودٍ * ومَاءٍ مَّسْكُوبٍ} فإذن لا مدخل لحديث الطلع في معنى الظل وما يتصل به! .

ص: 197

والمنضود: الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه؛ فليست له ساق بارزة.

{وظِلٍّ مَّمْدُودٍ} ممتد منبسط لا يتقلص، كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.

{مَّسْكُوبٍ} يسكب لهم أين شاؤوا وكيف شاؤوا، لا يتعنون فيه. وقيل: دائم الجرية لا ينقطع. وقيل: مصبوب يجري على الأرض في غير أخدود.

{لا مَقْطُوعَةٍ} هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا، {ولا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وينصر هذا التأويل ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والدارمي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها، اقرؤوا إن شئتهم: {وظِلٍّ مَّمْدُودٍ}، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب".

وفي رواية الترمذي: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها، هي شجرة الخلد".

الراغب: السدر: شجر قليل الغناء عند الأكل، ولذلك قال:{وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 16]، وقد يخضد ويستظل به، فجعل ذلك مثلًا لظل الجنة في قوله:{سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} لكثرة غنائه في الاستظلال به، وقوله تعالى:{إذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16] فأشار إلى مكان اختص النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالإفاضة الإلاهية والآلاء الربوبية.

قوله: (لا يتعنون فيه) قال الزجاج: يعني بـ {مَاءٍ مَّسْكُوبٍ} : أنه ماء لا يتعبون فيه، ينسكب لهم كما يحبون.

ص: 198

مَمْنُوعَةٍ} لا تمنع عن متناولها بوجه، ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا وقرئ:(فاكهة كثيرة)، بالرفع على: وهناك فاكهة، كقوله:{وحُورٌ عِينٌ} .

{وفُرُشٍ} جمع فراش. وقرئ: (وفرش) بالتخفيف. {مرفوعة} نضدت حتى ارتفعت، أو مرفوعة على الأسرة، وقيل: هي النساء، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش. {مرفوعة} على الأرائك. قال الله تعالى {هُمْ وأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: 56]، ويدل عليه قوله تعالى:{إنَّا أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً} ، وعلى التفسير الأول أضمر "لهن"، لأن ذكر الفرش وهي المضاجع دل عليهن.

{أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً} [الواقعة: 35]، أي: ابتدأنا خلقهن: ابتداء جديدا من غير ولادة، فإما أن يراد: اللاتي ابتدئ انشاؤهن؛ أو اللاتي أعيد إنشاؤهن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا يحظر عليها)، الأساس: حظر عليه كذا: حيل بينه وبينه، وهذا محظور: غير مباح.

قوله: (وعلى التفسير الأول أضمر "لهن") لأن المراد بالفرش: الفرش الحقيقية، وفي قوله:"أضمر لهن" إيهام، لأنه يحتمل أن يراد أضمر للنساء ضميرًا، وأضمر لفظة لهن.

قال صاحب "التقريب": فالتقدير: أنشأناهن لهن، لأن ذكر الفرش دل عليهن، ويمكن أن يقال: إن إضمار لهن في القرينة الأولى أنسب، لأن الضمير في {أَنشَانَاهُنَّ} للنساء قطعًا، وهو القرينة للإضمار، ولتأويل الفرش بالنساء لأنه إذا لم يفسر الفرش بالنساء أو لم يقدر هناك ضمير النساء لم يبق بين القرينتين ارتباط العلة والمعلول، لأن قوله:{إنَّا أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً} علة لارتفاعهن على الأرائك والسرر، ولأن {أَنشَانَاهُنَّ} للأزواج لا للفرش، كأنه قيل: وأصحاب اليمين مستقرين في فرش مرفوعة لزوجاتهم كالأسرة والأرائك، لأنا أنشأناهن إنشاءً. ولهذا قال في التفسير الثاني:"وقيل: هي النساء، ويدل عليه؛ {إنَّا أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً} ".

وقال أبو البقاء: {إنَّا أَنشَانَاهُنَّ} الضمير للفرش، لأن المراد بها النساء، ويكون قوله:

ص: 199

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أم سلمة رضي الله عنها سألته عن قول الله تعالى {إنَّا أَنشَانَاهُنَّ} فقال: "يا أم سلمة هن اللواتي فبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا، جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا" فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: واوجعاه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس هناك وجع".

وقالت عجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: "إن الجنة لا تدخلها العجائز"، فولت وهي تبكي، فقال عليه الصلاة والسلام: أخبروها أنها ليست يومئذ بعجوز" وقرأ الآية " {عُرُبًا} .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"لأصحاب اليمين" مظهرًا، أقيم المضمر، إما للإشعار بالعيلة أو أعيد للطول.

قوله (عجائز شمطًا) الحديث من رواية الترمذي عن انس في قوله: {إنَّا أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً} ، إن المنشآت اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشًا رمصًا.

الجوهري: الرمص بالتحريك: وسخ يجتمع في المؤق، فإن سال فهو غمص، وإن جمد فهو رمص.

قوله: (واوجعاه) الهاء تظهر في الوقف ولا تحرك، وفي الوصل تحذف.

قوله: (فقالت عجوز) روى صاحب "الجامع" عن رزين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 200

وقرئ: (عربا) بالتخفيف، جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل.

{أَتْرَابًا} مستويات في السن؛ بنات ثلاث وثلاثين، وأزواجهن أيضا كذلك.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل أهل الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين". واللام في {لأَصْحَابِ اليَمِينِ} من صلة "أنشأنا" و"جعلنا"

[{وأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وحَمِيمٍ (42) وظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ ولا كَرِيمٍ * إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الحِنثِ العَظِيمِ * وكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ إنَّ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ المُكَذِّبُونَ * لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا البُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} 41 - 56].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال لامرأة عجوز: "إنه لا يدخل الجنة عجوز"، فقالت: وما لهن؟ فقال لها: "أما تقرئين: {إنَّا أَنشَانَاهُنَّ إنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} ".

قوله: (وقرئ: "عربًا" بالتخفيف) أبو بكر وحمزة، والباقون: بضم الراء.

قوله: (مستويات في السن) الراغب: تشبيهًا في التساوي والتماثل بالترائب، التي هي ضلوع الصدر، أو لوقوعهن معًا على الأرض.

قوله: (يدخل أهل الجنة الجنة جردًا مردًا) عن الترمذي عن معاذ قال: "يدخل أهل الجنة جردًا مردًا مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين.

قال صاحب "الجامع": الجرد: جمع أجرد وهو الذي لا شعر عليه.

ص: 201

{فِي سَمُومٍ} في حر نار ينفذ في المسام، {وحَمِيمٍ} وما حار متناه في الحرارة، {وظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ} من دخان أسود بهيم، {لا بَارِدٍ ولا كَرِيمٍ} نفي لصفتي الظل عنه، يريد: أنه ظل، ولكن لا كسائر الظلال: سماه ظلا، ثم نفس عنه برد الظل وروحه ونفعه لمن يأوي إليه من أذى الحر، وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه.

والمعنى: أنه ظل حار ضار، إلا أن للنفي في نحو هذا شأنا ليس للإثبات. وفيه تهكم بأصحاب المشأمة، وأنهم لا يستأهلون الظل الباردة الكريم، الذي هو لأضدادهم في الجنة. وقرئ:(لا بارد ولا كريم) بالرفع، أي: لا هو كذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وذلك كرمه) أي: كرم الظل، قال في الشعراء:"والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه". الراغب: كل شيء يشرف في بابه، فإنه يوصف بالكرم و"كرم الظل": ما ذكره، وهو برده من روحه ونفعه لمن يأوي إليه من أذى الحر.

قال في "الكبير": الأقوى أن يقال: إن الظل يطلب لأم يرجع إلى الحس، وهو برودته، ولأمر يرجع إلى العقل، وهو كرامته، كأنه قيل: لا برد ولا كرامة.

قوله: (إلا أن للنفي في نحو هذا شأنًا ليس للإثبات) يعني: كان من حق الظاهر أن يقال: وظل حار ضار، فعدل إلى قوله:{وَظِلٍّ} ، ليتبادر منه إلى الذهن أولًا الظل المتعارف فيطمع السامع، فإذا نفى عنه ما هو المطلوب من الظل، وهو البرد والاسترواح، جاءت السخرية والتهكم والتعريض بأن الذي يستأهل الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء، فيكون أشجى لحلوقهم وأشد لحسرتهم.

قوله: (أي: لا هو كذلك) أي: إذا قرئا بالرفع كانا خبرين لمبتدأ محذوف، فيكون عطف جملة على جملة، فيقوى الاهتمام بما قصد بهما.

ص: 202

و"الحنث" الذنب العظيم. ومنه قولهم الغلام الحنث، أي: الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم. ومنه: حنث في يمينه، خلاف: بر فيها. ويقال: تحنث، إذا تأثم وتحرج.

{أَوَ آبَاؤُنَا} دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف.

فإن قلت: كيف حسن العطف على المضمر في {لَمَبْعُوثُونَ} في غير تأكيد بنحن؟

قلت: حسن للفاصل الذي هو الهمزة، كما حسن في قوله تعالى:{مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] لفصل [لا) المؤكدة للنفي. وقرئ: (أو آباؤنا)، وقرئ:(لمجمعون)، {إلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم، والإضافة بمعنى من، كخاتم فضة. والميقات: ما وقت به الشيء، أي: حد. ومنه مواقيت الإحرام: وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة محرما.

{أَيُّهَا الضَّالُّونَ} عن الهدى {المُكَذِّبُونَ} بالبعث، وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم. {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ}:{مِن} الأولى لابتداء الغاية، والثانية لبيان الشجر وتفسيره. وأنث ضمير الشجر على المعنى، وذكره على اللفظ في قوله:{مِنْهَا} و {عَلَيْهِ} ومن قرأ {مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ} فقد جعل الضميرين للشجرة، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم، لأنه تفسيرها وهي في معناه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "أو آباؤنا") قالون وابن عامر: بإسكان الواو، والباقون: بفتحها، فيكون عطفًا على محل اسم "إن" بعد مضي الخبر.

قوله: (وأنث ضمير الشجر على المعنى، وذكره على اللفظ في قوله {مِنْهَا} و {عَلَيْهِ} ، الانتصاف: لو أعاده على الشجر باعتبار كونه مأكولًا؛ لكونه قاله: {لآكِلُونَ

فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ} أي: على أكلهم لكان أحسن.

ص: 203

{شُرْبَ الهِيمِ} قرئ: بالحركات الثلاث، فالفتح والضم مصدران. وعن جعفر الصادق رضي الله عنه:"أيام أكل وشرب" بفتح الشين، وأما المكسور فبمعنى المشروب، أي: ما يشربه الهيم؛ وهي الإبل التي بها الهيام، وهو داء تشرب منه فلا تروى: جمع أهيم وهيماء. قال ذو الرمة.

فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد .... صداها ولا يقضي عليها هيامها.

وقال: الهيم: الرمال. ووجهه أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء، وهو الرمل الذي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({شُرْبَ الهِيمِ}، قرئ: بالحركات الثلاث)؛ بالضم: نافع وعاصم، وبالفتح: الباقون، وبالكسر: شاذ.

قال الزجاج: فالشرب بالفتح المصدر، وبالضم: الاسم، وقيل: مصدر أيضًا.

قوله: (أيام أكل وشرب) روينا عن أبي داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب"، وروى مختصرًا منه مسلم عن نبيشة الهذلي.

قوله: (فأصبحت كالهيماء) البيت، صداها: عطشها، ولا يقضى عليها، أي: لا يقتلها العطش.

قوله: (وقيل: الهيم: الرمال) فعلى هذا تقديره: فشاربون مشروب الهيم، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي: الهيم المشروب.

فإن قلت: أي مناسبة في جعل الهيم مشروبًا؟

ص: 204

لا يتماسك، جمع على فعل كسحاب وسحب، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض. والمعنى: أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل؛ فإذا ملؤا منه البطون يسلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم.

فإن قلت: كيف صح عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات متفقة، وصفتان متفقتان، فكارن عطفا للشيء على نفسه؟

قلت: ليستا بمتفقتين، من حيث إن كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء: أمر عجيب أيضا، فكانتا صفتين مختلفتين.

النزل: الرزق الذي يعد للنازل تكرمه له، وفيه تهكم، كما في قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران] وكقول أبي الشعر الضبي:

وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا .... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

وقرئ: (نزلهم) بالتخفيف.

[{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَالِقُونَ *

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: لما اعتبر معنى السيلان فيه كالمائع، جعل مشروبًا تهكمًا، ألا ترى كيف قال:"هو الرمل الذي لا يتماسك".

قوله: (ما فعل بجمع أبيض) الجوهري: جمع الأبيض: بيض، وأصله: بيض بضم الباء، نحو أحمر حمر، وإنما أبدلوا من الضم كسرة لتصح الياء.

قوله: (وكنا إذا الجبار) البيت، الجبار: الذي لا يقبل موعظة، والعاتي: على ربه أيضًا.

قوله: (ضافنا)، أي: نزل ضيفًا، يقول: إذا الملك الجبار ضافنا، جعلنا نزله من الرماح والسيوف، وفيه تهكم.

ص: 205

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ ومَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ ونُنشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} 57 - 62].

{فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} تخصيص على التصديق؛ إما بالخلق لأنهم وإن كانوا مصدقين به، إلا أنهم لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق، فكأنهم مكذبون به. وإما بالبعث؛ لأن من خلق أولا لم يمتنع عليه أن يخلق ثانيا.

{مَّا تُمْنُونَ} ما تمنونه، أي: تقذفونه في الأرحام من النطف، وقرأ أبو السمال بفتح التاء، يقال: أمنى النطفة ومناها. قال الله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ إذَا تُمْنَى} [النجم: 46].

{تَخْلُقُونَهُ} تقدرونه وتصورونه. {قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ المَوْتَ} تقديرا وقسمناه عليكم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإما بالبعث) يعني قوله: {فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} مطلق لم يقيد بماذا يصدقون، فيحتمل أن يقيد بما يدل عليه قوله:{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أو بما قبله وهو قولهم: {أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا} والذي يرجح تقدير الخلف شيئان؛ أحدهما: قرب الدليل، ثم التفصيل بقوله:{أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} وثانيها: أن قوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} إلى آخر الآيات نوع آخر من الرد على منكري الحشر، فإن قوله:{إنَّ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ} إثبات البعث بطريق إثبات النص القاطع والوعد الصادق، وقوله:{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} إلى قوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} إثبات له بحسب البرهان الباهر، ألا ترى كيف فصل ذلك بقوله:{ولَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى} و {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] و {أَفَرَأَيْتُم} [الواقعة: 68] و {أَفَرَأَيْتُم} [الواقعة: 71].

قوله: {مَّا تُمْنُونَ} ما تمنونه، أي: تقذفونه في الأرحام)، اعلم أن الإمام بين في البقرة وجه الاستدلال بهذه الأنواع المذكورة وأحسن فيها كل الحسن، وأما وجه الاستدلال بهذه الآية، فأن يقال: إن المني إنما يحصل من فضله الهضم، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء، ولهذا تشترك الأعضاء بالتذاذ الوقاع لحصول الانحلال عنها كلها، ثم إن الله سبحانه وتعالى سلط قوة الشهوة على البنية حتى إنها تجمع تلك الأجزاء الطلية، فالحاصل أن تلك الأجزاء كانت متفرقة جدًا، أولًا في أطراف العالم، ثم إنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان، فتفرقت في أطراف بدنه، ثم جمعها الله في أوعية المني، فأخرجها ماءً دافقًا إلى قرار

ص: 206

قسمة الرزق، على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا، فاختلف أعماركم من قصير وطويل ومتوسط. وقرئ:(قدرنا) بالتخفيف.

سبقته على الشيء: إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه، فمعنى قوله {ومَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ}: إنا قادرون على ذلك لا تغلبونني عليه، و {أَمْثَالَكُمْ} جمع مثل: أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق، وعلى أن ننشئكم في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها، يعني: إنا نقدر على الأمرين جميعا: على خلق ما يماثلكم، وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم؟ ! .

ويجوز أن تكون {أَمْثَالَكُمْ} جمع مثل، أي: على أن نبدل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها؛ في خلقكم وأخلاقكم، وننشئكم في صفات لا تعلمونها.

قرئ: {النَّشْأَةَ} و (النشاءة). وفي هذا دليل على صحة القياس حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرحم، فإذا كان قادرًا على جمع هذه الأجزاء المتفرقة، وتكوين الحيوان منها، فإذا افترقت بالموت مرة أخرى لم يمتنع عليه جمعها وتكوينها مرة أخرى؟ ! هذا تقرير هذه الحجة.

قوله: (ويجوز أن تكون {أَمْثَالَكُمْ} جمع مثل) عطف على قوله: " {أَمْثَالَكُمْ} جمع مثل" اعلم أنه قد سبق غير مرة أن التبديل: التغيير، فيجوز تبديل الذات وتبديل الصفات، وأن المثل بمعنى النظير وبمعنى الصفة، فالتفسير الأول مبني على تبديل الذات، والمثل: بمعنى النظير، والثاني: على تبديل الصفات، والمثل: بمعنى الوصف.

قوله: (قرئ {النَّشْأَةَ} و"النشاءة") ابن كثير وأبو عمرو: "النشاءة" بفتح الشين وألف بعدها، والباقون: بإسكانها من غير ألف.

ص: 207

[{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} 63 - 67].

{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} من الطعام، أي: تبدون حبه وتعملون في أرضه، {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تنبوته وتردونه نباتا يرف وينمى إلى أن يبلغ الغاية. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يقولن أحدكم: زرعت، وليقل: حرثت"، قال أبو هريرة: أريتم إلى قوله {أَفَرَأَيْتُم} الآية؟ والحطام: من حطم، كالفتات والجذاذ من فت وجذ، وهو ما صار هشيما وتحطم {فَظَلْتُمْ} وقرئ بالكسر، و"فظللتم" على الأصل {تَفَكَّهُونَ} تعجبون. وعن الحسن رضي الله عنه: تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه. أو على ما اقترفتم من المعاصي التي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يرف) النهاية: قولهم: يرف رفيفًا: يقطر نداه، يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة، حتى يكاد يهتز: رف يرف.

قوله: (قال أبو هريرة: أرأيتم إلى قوله: {أَفَرَأَيْتُم}) يعني: أخبروني كيف أسند الحرث إلى الخلق، والزرع إلى نفسه، ثم أوعدهم بجعله حطامًا وبين تحسرهم بقوله:{إنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} ، ليؤذن بأن ليس بأيديهم سوى أن يبذروا الحب، ويعملوا في الأرض.

الراغب: الحرث: إلقاء البذر في الأرض وتهيئتها للزرع، ويسمى المحروث حرثًا، قال تعالى:{أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} . وقال: إذا نسب الزرع إلى العبد فلكونه فاعلًا لأسبابه التي هي سبب الزرع، كما تقول: أنبت إذا كنت من أسباب نباته، والزرع في الأصل مصدر وعبر به عن المزروع في قوله:{فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا} [السجدة: 27].

ص: 208

أصبتم بذلك من أجلها. وقرئ: (تفكنون) ومنه الحديث: "مثل العالم كمثل الحمة يأتيها البعداء ويتركها القرباء، فبيناهم إذا غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكنون" أي: يتندمون. {إنَّا لَمُغْرَمُونَ} لملزمون غرامة ما أنفقنا. أو مهلكون لهلاك رزقنا، من الغرام: وهو الهلاك، {بَلْ نَحْنُ} قوم {مَحْرُومُونَ} محارفون محدودودن، لاحظ لنا ولا بخت لنا؛ ولو كنا مجدودين، لما جرى علينا هذا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أصبتم بذلك من أجلها) أي: أصبتم بذلك البلاء من جعل زرعكم هشيمًا من أجل معاصيكم.

قوله: (كمثل الحمة) النهاية: الحمة: عين حار يستشفى بها المرضى، ومنه حديث الدجال:"أخبروني عن حمة زغر" أي: عينها، زغر: موضع بالشام، وقال: إذا غاض ماؤها.

قوله: (أو مهلكون لهلاك رزقنا) لو قال: لمهلكون لما ارتكبنا من المعاصي، لأن المعاصي من المهلكات كان أليق، ليكون قوله:"الملزمون غرامة ما أنفقنا"، متفرعًا على قوله:"على تعبكم فيه، وإنفاقكم عليه"، وقوله:"أو مهلكون" على قوله: "أو على ما اقترفتم من المعاصي"، لأن قوله:{إنَّا لَمُغْرَمُونَ} جملة حالية مقولًا لقولهم كالبيان لما يصدر من النادم عند خيبته من الكلمات الدالة عليها، أي: فظلتم تندمون على تعبكم فيه، وإنفاقكم عليه، أو على ما اقترفتم من المعاصي قائلين: إنا لمغرمون، وقوله:{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} إن جعل مطلقًا على نحو: فلان يعطي ويمنع كان المعنى ما قال: "محارمون"، فيدخل المعنيان فيه على البدل، وإن قدر متعلقة كان المعنى: محرومون رزقنا كما قدره القاضي.

قوله: (محارفون) المحارف: الممنوع من البخت.

ص: 209

وقرئ: (أئنا).

[{أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} 68 - 70].

{المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} يريد: الماء العذب الصالح للشرب. و {المُزْنِ} السحاب: الواحدة مزنة. وقيل: هو السحاب الأبيض خاصة، وهو أعذب ماء.

{أُجَاجًا} ملحا زعاقا لا يقدر على شربه.

فإن قلت: لم أدخلت اللازم على جواب {لَوْ} في قوله {لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65] ونزعت منه هاهنا؟

قلت: إن {لَوْ} لما كانت داخلة على جملتين، معلقة ثانيتهما بالأولى، تعلق الجزاء بالشرط، ولم تكن مخلصة للشرط كـ"إن" و"لا" عاملة مثلها، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيها، أن الثاني امتنع لامتنع الأول: افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق، فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، فإذا حذفت بعد "ما" صارت علما مشهورا مكانه، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به: لم يبال بإسقاطه عن اللفظ، استغناء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "أئنا") قرأ أبو بكر: بهمزتين مخففتين، والباقون: بواحدة مكسورة.

قوله: (ولم تكن مخلصة للشرط) كأن قيل: لأن الشرط في "لو" تقديري، لأن الشرط إنما هو توقيف أمر على أمر، وذلك إنما يتحقق في الاستعجال، و"لو" للمضي، فلا تكون شرطية تحقيقية.

قوله: ك (فلان الشيء إذا علم) قيل: هو جواب "إذا". وقلت: نعم، إذا قدر محذوف،

ص: 210

بمعرفة السامع. ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤية أنه كان يقول: خير، لمن قال له: كيف أصبحت؟ فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه، وتساوي حالي حذفه وإثباته لشهرة أمره. وناهيك بقول أوس:

حتى إذا الكلاب قال لها ..... كاليوم مطلوبا ولاطلبا

وحذفه "لم أر" فإذن حذفها اختصار لفظي وهي ثابتة في المعنى، فاستوى الموضعان بلا فرق بينهما؛ على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية ونائب عنه. ويجوز أن يقال: إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب، للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب، من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأن التقدير: إذا حذفت بعدما صارت علمًا فلا بأس به، لأن الشيء إذا علم وشهر موقعه لم يبال بإسقاطه.

قوله: (حتى إذا الكلاب) البيت، المعنى: لم أر مطلوب أراه اليوم، قدمت الصفة وهي "مثل مطلوب" أراه اليوم على الموصوف الذي هو "مطلوبًا"، فصار حالًا، ثم وضع الكاف موضع المثل فصار كما ترى! قال: ذلك حين كان الثور الوحشي يجد في الهرب من كلاب الصيد، وهو الذي يغري الكلب على الصيد، متعجبًا، أي: ما رأى ولا شاهد مطلوبًا مثل هذا الثور من شدة الفرار، ولا طالبًا مثل هذا الكلاب من شدة العدو. وطلبًا جمع طالب، كخادم وخدم.

قوله: (على أن تقدم ذكرها) أي: ذكر اللام في قوله: {لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} .

قوله: (للدلالة على أن أمر المطعوم مقدم على أمر المشروب، وأن الوعيد بفقده أشد)

وقلت: ولذلك رتب على أمر المطعوم قوله: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}

ص: 211

ألا ترى أنك إنما تسقي ضيفك بعد أن تطعمه، ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعلى أمر المشروب قوله: {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} ، والأول أدل على التوبيخ والتعبير على كفران النعم، لمجيئه إخباريًا مفصلًا فيه تصوير خيبتهم وتحسرهم.

روى الواحدي عن أبي عمرو والكسائي: {تَفَكَّهُونَ} : هو التلهف على ما فات، ويقولون: إننا لمغرومون، أي: إنا قد غرمنا الذي بذرنا، فذهب من غير عوض، بل نحن محرومون مما كنا نطلبه من الريع في الزرع.

وأما المعنى الثاني فتقريره: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} ، أي: شديد الملوحة كما البحر، فهلا تشكرون أن جعلناه عذبًا؟

وأما الراغب بعد أن فسر {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} بهذا، فقد جعله مقابلًا لقوله:{فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} ، حيث قال: إنما قدم قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} ، {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} ، لأن الأولى هو خلق الإنسان من فائدة الحرث، وهو الطعام الذي لا يستغني عنه الجسد الحي، وذلك الحب الذي يختبز، فيحتاج بعد حصوله إلى حصول الماء فيعجن ثم إلى النار تعده خبزًا. فإن قيل: فقد قال في الأول: {فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} وفي الثاني: {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} ، فما الفائدة؟ قلنا: تنبيه على البعثة والإعادة، فحمل على التذكر ليتفكر في البدء، وليثبت الإعادة، وأما {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} ، فإنه بعد قوله:{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} أي: شديد الملوحة كماء البحر، فلولا تشكرون أن جعله عذبًا. فكل مكان لاق به ما ذكر. ذكره في "غرر التأويل".

وقلت: لو كان مقابلًا لقوله: {فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} لكان اللائق أن يذكر بعد ذكر النار على ما رتب الكلام.

ص: 212

إذا سقيت ضيوف الناس محضا .... سقوا أضيافهم شما زلالا.

وسقي بعض العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثميلة؛ ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب.

[{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَاتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ومَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} 71 - 74].

{تُورُونَ} : تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى: الزند، والأسفل: الزندة؛ شبهوهما بالفحل والطروقة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إذا سقيت ضيوف الناس محضًا) البيت، محضًا، أي: خالصًا، والشبم: البارد، والزلال: الصافي، يصف قومًا بالبخل، ويقول: إذا سقيت الضيوف لبنًا محضًا خالصًا، فإنهم يسقون أضيافهم الماء الصراح.

قوله: (إلا على ثميلة) الأساس: وأنا لا أشرب إلى على ثميلة، وهي بقية العلف في البطن. وفي "النهاية": أصل الثميلة: ما يبقى في بطن الدابة من العلف والماء، وما يدخره الإنسان من طعام أو غيره، وكل بقية ثميلة.

قوله: ({تُورُونَ} تقدحونها) الراغب: ورى الزند يرى وريًا، إذا خرجت ناره، وأصله أن تخرج النار من وراء المقدح، كأنما تصور كمونها فيه، فقال:

ككمون النار في حجره

ويقال: فلان واري الزند إن كان منجحًا، وكابي الزند إذا كان مخفقًا.

قوله: (بالفحل والطروقة) الجوهري: طروقة الفحل: أنثاه، يقال: ناقة طروقة الفحل: التي بلغت أن يضربها الفحل، ووجه الشبه ما في كل من الزند والزندة من كمون قدرة الله تعالى، كأنها طالبة من صاحبتها اللقاح الذي هو الاقتداح لتوخي النتيجة.

ص: 213

{شَجَرَتَهَا} التي منها الزناد، {تَذْكِرَةً} تذكيرا لنار جهنم، حيث علقنا بها أسباب المعايش كلها، وعممنا بالحاجة إليها البلوى، لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها، ويذكرون ما أوعدوا به. أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم".

{ومَتَاعًا} ومنفعة {لِّلْمُقْوِينَ} للذين ينزلون القواء وهي الفقر. أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. يقال: أقويت من أيام، أي لم آكل شيئاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تذكرة وأنموذجًا){تَذْكِرَةً} : على التفسير الثاني من التذكير والموعظة، وعلى الأول من الذكر نقيض النسيان.

قوله: (ناركم هذه) الحديث من رواية البخاري ومسلم ومالك والترمذي عن أبي هريرة: "ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم". الحديث.

قوله: (أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام) هذا لا طائل تحته! قال الواحدي: المقوي: الذي ينزل بالقواء، وهي الأرض الخالية، أي: ينتفع بها أهل البوادي والأسفار، ومنفعتهم بها أكثر من منفعة المقيم، لأنهم يوقدونها ليلًا لتهرب السباع، ويهتدي الضال.

وقال عكرمة ومجاهد: المقوين: المستمتعين بها من الناس أجمعين؛ المسافرين والحاضرين، يستضيئون بها في الظلمة، ويصطلون من البرد، وينتفعون بها في الطبخ والخبز، وعلى هذا القول: المقوي من الأضداد، يقال للفقير: مقو لخلوه من المال، والغني: مقو لقوته على ما يريد، يقال: أقوى الرجل: إذا صار إلى حال القوة، والمعنى: متاعًا للأغنياء والفقراء لأنه لا غنى لأحد عنها.

ولما ذكر الله تعالى ما يدل على توحيده، وما أنعم به عليهم، قال:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} ، أي: فنزه الله مما يقولون في وصفه.

ص: 214

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك، أو أراد ب"الاسم": الذكر، أي: بذكر ربك. و {العَظِيمِ} صفة للمضاف أو للمضاف إليه.

والمعنى: أنه لما ذكر ما دل على قدرته وإنعامه على عباده قال: فأحدث التسبيح،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فأحدث) قيل: إنما أحدث لأنه صلى الله عليه وسلم كان مشتغلًا بالتسبيح غير معرض عنه، والمراد بالإحداث: الاستمرار.

وقلت: هذا عكس ما يقتضيه لفظ الإحداث، ولكن المراد: إذا أحطت بما ذكر لك من بيان القدرة الكاملة، وبما أنعم به على الخلق، فجدد التسبيح لذلك تنزيهًا لجلالة شأنه أو تعجبًا من كفران إنعامه، أو شكرًا على ما أولاه من إحسانه.

وبيانه: أن لفظ التسبيح من حيث وضعه بإزاء التنزيه عن النقائض وعما يصفه الجاهلون تنزيه، ولما كان ورود هذا الكلام في الرد على منكري الحشر والنشر، ومنكره منكر لقدرته الكاملة وعلمه الشامل، ومكذب لما نص ووعد وأوعد، على ما ورد في الحديث القدسي: "كذبني ابن آدم

" إلى "أن يعيدني كما بدأني". كان تنزيهًا عما يقول الظالمون.

ومن حيث المفهوم والاستعمال وأنهم يسبحون الله عند رؤية كل عجيب من صنائعه كان كلمة تعجيب، وما يتعجب منه في هذا المقام: إما تقرير خلق الإنسان من ماء مهين، وإخراج الزرع من ماء المزن، وري النار من الزند، وإما غمطهم هذه النعم الجسيمة والأيادي الظاهرة، ومن حيث النظر إلى كونه ذكرًا لله عز وجل ووصفًا له بالجلال والعظمة والملكوت بعد عد النعم المتكاثرة، كان حمدًا له وشكرًا لأياديه. والله أعلم.

قوله: (أو أراد "بالاسم": الذكر) عن بعضهم: الباء سببية لا صلة ولا زائدة، وحاصلة: إما إضمار أو مجاز.

وقلت: تقديره: نزه الله إما بواسطة ذكر اسمه تعالى، أو بواسطة ذكره، ويجوز أن يجرى على ظاهره من غير إضمار ولا مجاز، قالوا في قوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]:

ص: 215

وهو أن يقول: سبحان الله، إما تنزيهًا له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ويكفرون نعمته، وإما تعجبًا من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة، وإما شكرًا لله على النعم التي عدها ونبه عليها.

[{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ} 75 - 80]

{فَلا أُقْسِمُ} معناه: فأقسم. و"لا" مزيدة مؤكدة مثلها في قوله: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ} [الحديد: 29]. وقرأ الحسن: (فلأقسم)، ومعناه: فلأنا أقسم، اللام لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر، وهي: أنا أقسم، كقولك:"لزيد منطلق" ثم حذف المبتدأ، ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين، أحدهما: أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة، والإخلال بها ضعيف قبيح. والثاني: أن "لأفعلن" في جواب القسم للاستقبال، وفعل القسم يجب أن يكون للحال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كما يجب تنزيه ذاته وصفاته تعالى عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب، وهذا أبلغ، لما يلزم ذلك بالطريق الأولي على سبيل الكناية الرمزية.

[قوله: ]{فَلا أُقْسِمُ} ، "لا" زائدة، ويجوز أن يكون ردًا لما يقوله الكافر في القرآن؛ من أنه سحر وشعر وكهانة، ثم استأنف القسم على أنه قرآن كريم. تم كلام الواحدي رحمه الله تعالى.

قوله: ("فلأقسم"، ومعناه: فلأنا أقسم) إنما قدر المبتدأ لأن لام الابتداء لا تدخل على الجملة الفعلية.

قوله: (وفعل القسم يجب أن يكون للحال) قال ابن جني: "لأقسم" قراءة الحسن والثقفي أي: لأنا أقسم؛ فإن جميع ما في القرآن من الإقسام إنما هو على حاضر الحال، لا

ص: 216

{بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} بمساقطها ومغاربها، ولعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالًا مخصوصةً عظيمةً، أو للملائكة عبادات موصوفةً، أو لأنه وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين، ونزول الرحمة والرضوان عليهم؛ فلذلك أقسم بمواقعها، واستعظم ذلك بقوله: {وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على وعد الإقسام، نعم لو أريد الفعل المستقبل لزمت فيه النون، فقيل: لأقسمن، وحذفها ضعيف جدًا.

قوله: (ولعل لله تعالى في آخر الليل، إذا انحطت النجوم إلى المغرب، أفعالًا مخصوصة عظيمة)، وقلت: ولذلك ورد عن الصادق المصدوق: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له". أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

وروى الترمذي عن أبي أمامة: قيل: يا رسول الله أي الدعاء أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات".

قال صاحب "الجامع": النزول والصعود والحركة والسكون من صفات الأجسام، والله تعالى يتقدس عن ذلك، والمراد به نزول الرحمة والألطاف الإلهية، وقربها من العباد وتخصيصه لها بالثلث الآخر من الليل، لأن ذلك وقت التهجد وقيام الليل، وغفلة الناس عمن يتعرض لنفحات رحمة الله تعالى، وعند ذلك تكون النية خالصة، والرغبة إلى الله تعالى موفرة، فهو مظنة القبول والإجابة.

ص: 217

تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أو أراد بمواقعها: منازلها ومسايرها، وله تعالى في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف. وقوله:{وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} اعتراض في اعتراض؛ لأنه اعتراض به بين القسم والمقسم عليه، وهو قوله:{إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} واعتراض بـ {لَّوْ تَعْلَمُونَ} بين الموصوف وصفته.

وقيل: مواقع النجوم: أوقات وقوع نجوم القرآن، أي: أوقات نزولها.

{كَرِيمٌ} حسن مرضي في جنسه من الكتب، أو نفاع جم المنافع، أو كريم على الله.

{فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} مصون من غير المقربين من الملائكة، لا يطلع عليه من سواهم، وهم المطهرون من جميع الأدناس، أدناس الذنوب وما سواها: إن جعلت الجملة صفةً لـ {كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} وهو اللوح. وإن جعلته صفةً للقرآن؛ فالمعنى: لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس، يعني مس المكتوب منه، ومن الناس من حمله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (اعتراض في اعتراض) فإن قوله: {وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} ، اعتراض بين القسم وجوابه مقرر للتوكيد، وتعظيم للمحلوف به، وقوله:{لَّوْ تَعْلَمُونَ} اعتراض بين الصفة والموصوف توكيد لذلك التعظيم، أي: لو علم ذلك لوفى حقه من التعظيم.

قوله: ({كَرِيمٍ} حسن مرضي في جنسه) هذا على أن الكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه، كقوله تعالى:{مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7].

وقوله: (أو نفاع جم المنافع) هذا على أن يستعار الكريم ممن يقوم به الكريم من ذوي العقول لغيرهم، وقوله:"أو كريم على الله"، هذا على أن متعلق {كَرِيمٍ} محذوف.

وقوله: (وإن جعلته صفة للقرآن فالمعنى: لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة)، وكيفية الاستدلال على هذا المطلوب: هو أنه تعالى لما أقسم على أن القرآن في نفسه كريم مرضي في جنسه، ثم وصفه بأنه بمنزلة عظيمة عنده، حيث صانه عن كل وصمة ونقيصة،

ص: 218

على القراءة أيضًا، وعن ابن عمر: أحب إلي أن لا يقرأ إلا وهو طاهر، وعن ابن عباس في رواية أنه كان يبيح القراءة للجنب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم أتبع الكل بقوله: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ} ، أي: مالك السماوات والأرضين، ووسط بينهما قوله:{لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ} ، دل على أن هذه الصفات ثابتة له ذاتية، ومن شأنه أن يكون كذلك، ولا ينبغي غير ذلك، وعليه ما ورد:"المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه" الحديث.

فهو إخبار في معنى الأمر كما في قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً} [النور: 3]، والمعنى على الوجه الأول: إن هذا الكتاب كريم على الله تعالى، ومن كرمه أنه أثبته عنده في اللوح المحفوظ وعظم شأنه بأن حكم ألا يمسه إلا الملائكة المقربون، وصانه عن غير المقربين، فيجب أن يكون حكمه عند الناس كذلك، بناء على أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية، لأن مساق الكلام لتعظيم شأن القرآن، وعلى كرمه ورد الإقسام، ومجيء ذكر الكتاب المكنون تابع لذكره، يدل عليه قوله:{أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ} ، أي: بمثل هذا العظيم الشأن، الموصوف بصفات الكمال أنتم متهاونون؟

روينا عن الإمام مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم: "أن لا يمس القرآن إلا طاهر"، وقال مالك: لم يكره ذلك لأنه يدنسه الأيدي، وإنما كره ذلك إكرامًا للمصحف بأن يحمله غير طاهر، وأحسن ما سمعت في معنى هذه الآية أنها بمنزلة قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16].

وعن الدارمي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القرآن أحب إلى الله من السماوات والأرض ومن فيهن".

ص: 219

ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" أي: لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه.

وقرئ: {المُتَطَهَّرُونَ} ، و (المطهرون) بالإدغام. و (المطهرون)، من: أطهره بمعنى طهره، و (المطهرون) بمعنى: يطهرون أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم.

والوحي الذي ينزلونه {تَنزِيلٌ} صفة رابعة للقرآن، أي: منزل من رب العالمين، أو وصف بالمصدر؛ لأنه نزل نجومًا من بين سائر كتب الله تعالى، فكأنه في نفسه تنزيل؛ ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه، فقيل: جاء في التنزيل كذا، ونطق به التنزيل. أو هو تنزيل على حذف المبتدأ، وقرئ:(تنزيلًا) على: نزل تنزيلًا.

[{أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ * وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 81 - 82]

{أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ} يعني القرآن {أَنتُم مُّدْهِنُونَ} أي: متهاونون به، كمن يدهن في الأمر، أي: يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونًا به {وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} على حذف المضاف، يعني: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب، أي: وضعتم التكذيب موضع الشكر. وقرأ علي رضي الله عنه: (وتجعلون شكركم أنكم تكذبون) وقيل: هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ونحوه) أي: نحوه في الأسلوب، وأن المراد بقوله:{لَا يَمَسُّهُ} : لا ينبغي أن يمسه، والحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن أبي هريرة، مضى تمامه في الحجرات. "لا يسلمه"، أي: لا يخذله ولا يتركه بيد العدو. الجوهري: أسلمه: أي خذله.

قوله: (كمن يدهن في الأمر، أي: يلين جانبه) الراغب: الإدهان في الأصل مثل التدهين، لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجد، كما جعل التقريد، وهو نزع القراد عن البعير، عبارة عن ذلك.

ص: 220

وقيل: نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليها. والرزق: المطر، يعني: وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله، حيث تنسبونه إلى النجوم.

وقرئ: (تكذبون) وهو قولهم في القرآن: شعر وسحر وافتراء. وفي المطر: هو من الأنواء، ولأن كل مكذب بالحق كاذب.

[{فَلَوْلا إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ * وأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * ونَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنكُمْ ولَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ ورَيْحَانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ * وأَمَّا إن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ * فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ * وأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} 83 - 96]

ترتيب الآية: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين. {فَلَوْلَا} الثانية مكررة للتوكيد،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: نزلت في الأنواء) عن الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} ، قال:"شكركم؛ تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وبنجم كذا وكذا"، وعن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود والنسائي عن زيد ابن خالد قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية، في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال:"هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسول أعلم، قال:"قد أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب". وتفسير النوء قد ذكرناه فيما سبق.

قوله: ({فَلَوْلَا} الثانية مكررة للتوكيد) قال أبو البقاء: {تَرْجِعُونَهَا} جواب "لولا"

ص: 221

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأولى، وأغنى ذلك عن جواب الثانية، وقيل: عكس ذلك، وقيل:"لولا" الثانية تكرير.

وقيل: {إِن كُنتُمْ} : شرط دخل على شرط، فيكون الثاني مقدمًا في التقدير، أي: إن كنتم صادقين، إن كنتم غير مملوكين، فأرجعوا أرواحكم إلى أبدانكم ممتنعين عن الموت.

والمصنف جعل الشرط الأول الأصل على ما عليه الظاهر، حيث قدر:"إن لم يكن ثم قابض، وكنتم صادقين في تعطيلكم"، فعطف الثاني عليه ليؤذن بأن الشرط الثاني كالبيان والتوكيد للأول، فيكون أصل الكلام على تقديره: فهلا إذا بلغت روح المحتضر حلقومه، يا أهل البيت، ترجعونها إلى مقامها إن كنتم صادقين، أنكم غير مربوبين، بل مهملون معطلون، ثم قرن بقوله:{بَلَغَتِ الحُلْقُومَ} ، قوله:{وأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} حالًا لتتميم معنى العجز عن القدرة على الرجع مع كونهم حاضرين ناظرين، ثم قرن به:{ونَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنكُمْ ولَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} حالًا أخرى لتتميم معنى أن قربهم لا ينفع وأنهم غير قادرين على الرجع، وقدم أحد الشرطين على جواب "لولا" للاهتمام كما ترى.

وأما الواحدي فلخص المعنى وقال: إن كان الأمر كما تقولون: إنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، ولا إله يحاسب ويجازي، فهلا تردون نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم؟ وإذا لم يمكنكم ذلك بوجه فاعلموا أن الأمر إلى غيركم، وهو الله تعالى، ثم ذكر طبقات الخلق عند الموت بقوله:{فَأَمَّا إن كَانَ} الذي بلغت روحه الحلقوم {مِنَ المُقَرَّبِينَ} عند الله، فله روح إلى قوله:{وأَمَّا إن كَانَ} أي: المتوفى {مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ} ، {وأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ}: أي بالبعث، {فَنُزُلٌ} أي: فنزله {مِّنْ حَمِيمٍ} .

وقلت: النظم يساعد هذا القول: لكن إنما يتم إذا قلنا: إن المنكرين للبعث، ما أنكروه بطريق إيراد الشبه كالدهرية والطبيعيين، بل لأنه ألهاهم التنعم في الدنيا، والترف بلذاتها

ص: 222

والضمير في {تَرْجِعُونَهَا} للنفس وهي الروح، وفي {أَقْرَبُ إلَيْهِ} للمحتضر {غَيْرَ مَدِينِينَ} غير مربوبين، من دان السلطان الرعية، إذا ساسهم. {ونَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنكُمْ} يا أهل الميت، بقدرتنا وعلمنا، أو بملائكة الموت.

والمعنى: إنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء، إن أنزل عليكم كتابًا معجزًا قلتم: سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولًا قلتم: ساحر كذاب، وإن رزقكم مطرًا يحييكم به قلتم: صدق نوء كذا، على مذهب يؤدي إلى الإهمال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن التزود لدار الجزاء، بدليل قوله:{إنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الحِنثِ العَظِيمِ} ، أي: يحلفون ويصرون عليه أن لا بعث ولا حساب، ويقولون: نحن الآن نستوفي لذاتنا من الدنيا، كقوله تعالى:{بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة: 5] أي: ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات لا تنزع عنه.

وفي كلام المصنف: "إنكم في جحودكم .... على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل" أشعار بهذا المعنى. فالفاء في قوله: {فَلَوْلا إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ} مسببة عما قبلها، وكذا الفاء في:{أَفَبِهَذَا الحَدِيثِ} ، وفي:{فَلا أُقْسِمُ} ، وهلم جرا إلى الفاءات المصدرات بهمزة الإنكار في:{أَفَرَأَيْتُم} و {أَفَرَأَيْتُم} إلى أن يتصل بقوله: {كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} ، فلما وبخوا على قولهم:{أَئِذَا مِتْنَا وكُنَّا تُرَابًا وعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ، وهدم باطلهم بأنواع من البراهين القاطعة وعد قبائحهم، قيل لهم:{فَلَوْلا إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ * وأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} ، يعني: إن كان الأمر كما تقولون: إنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، ونحن الآن طيبون، فهلا تردون نفس من يعز عليكم إذا {بَلَغَتِ الحُلْقُومَ * وأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} إليه وإلى ما هو فيه من السكرات، هل تقدرون أن {تَرْجِعُونَهَا} إلى مقامها {إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أنكم غير مدينين؟ ؟ وإليه الإشارة بقوله:"إن لم يكن ثم قابض، وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت".

قوله: (إذا ساسهم) الجوهري: سست الرعية سياسة، وسوس الرجل أمور الناس على ما لم يسم فاعله، إذا ملك أمرهم.

ص: 223

والتعطيل، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد؟ !

{فَأَمَّا إن كَانَ} المتوفى {مِنَ المُقَرَّبِينَ} من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة {فَرَوْحٌ} فله استراحة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكنتم صادقين في تعطيلكم) فإن قلت: كيف يصح هذا الاستدلال؟ فإن من قال بالتعطيل يحيل الموت إلى طبيعة، لا إلى القادر المختار، فلا يقال لهم:{تَرْجِعُونَهَا} ؟ قلت: الطبيعي يزعم أنه قادر على تغيير الطبيعة بالمعالجة، فقل لهم: فهلا ترجعون الروح من الحلقوم إن كنتم صادقين في ذلك؟ قال الإمام: الطبيعي عنده أن البقاء بالغذاء، وأن الأمراض زوالها بالدواء ممكن.

قوله: (من الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة) إشارة إلى أن الخاتمة ناظرة إلى الفاتحة، فينبغي أن يراعى النظم على ما قررنا.

قوله: (فله استراحة) فإن قلت: دل هذا على أن قوله: {فَرَوْحٌ ورَيْحَانٌ} ، جزاء للشرط، وقد مضى شرطان "أما" و "إن" فجواب أيهما هو؟

قال صاحب "الكشف": تقدير هذا الكلام: مهما يكن من شيء فروح وريحان إن كان من المقربين، فحذف الشرط الذي: هو "يكن من شيء"، وأقام "أما" مقام "مهما" ولم يحسن أن يلي الفاء أما، فأوقع الفصل بين "أما" والفاء بقوله:{فَأَمَّا إن كَانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ} لتحسين اللفظ، كما يقع الفصل بينهما بالظرف والمفعول في قوله: أما اليوم فزيد خارج، وقال سيبويه: أما غدًا فلك درهم، فالفاء في {فَرَوْحٌ} وأختيها جواب "أما" دون "إن"، وقال أبو البقاء: جواب أما {فَرَوْحٌ} ، وأما "إن" فاستغنى بجواب "أما" عن جوابها لأن جواب "إن" يحذف كثيرًا.

ص: 224

وروت عائشة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فروح)، بالضم. وقرأ به الحسن وقال: الروح: الرحمة، لأنها كالحياة للمرحوم. وقيل: البقاء، أي: فهذان له معًا، وهو الخلود مع الرزق والنعيم. والريحان: الرزق.

{فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليَمِينِ} أي: فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي: يسلمون عليك. كقوله تعالى: {إلاَّ قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة: 26].

{فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} كقوله تعالى: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة: 56] وقرئ بالتخفيف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ("فروح" بالضم) عن الترمذي وأبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: "فروح وريحان". قال ابن جني: معنى هذه القراءة يرجع إلى معنى الروح، فكأنه قيل: فله ممسك روح، وممسكها هو الروح، كما تقول: الهواء هو الحياة، وهذا السماع هو العيش.

قوله: (أي: فهذان له معًا) يعني قوله: {فَرَوْحٌ ورَيْحَانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ} أخبارها محذوفة وهي "له".

فإن قلت: هاهنا أشياء ثلاثة لم جعلها شيئين، حيث قال: و"هو الخلود مع الرزق والنعيم"، وعبر عنها بـ"هذان"؟

قلت: كأنه لمح إلى معنى قوله تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 63] قال: وقيل: أراد دوام الرزق ودروره، فالروح المتأول بالبقاء، والريحان المفسر بالرزق، بمعنى دوام الرزق ودروره، و"جنة النعيم" مثل كلمة {فِيهَا} أي: في جنات عدن.

قوله: (من إخوانك) من: للابتداء، وفي قوله:"يا صاحب اليمين" إشارة إلى الاختصاص المستفاد من الالتفات في الآية، ونظيره في الالتفات قوله تعالى:{قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [النور: 64].

ص: 225

{وتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} قرئت بالرفع والجر عطفًا على"نزل" و {حَمِيمٍ} ، {إنَّ هَذَا} الذي أنزل في هذه السورة، {لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ} أي: الحق الثابت من اليقين.

عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم: "من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدًا".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({وتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} قرئت بالرفع والجر)، الرفع هي المشهورة، والجر شاذ.

قوله: (أي: الحق الثابت مع اليقين) الراغب: اليقين: سكون مع ثبات الحكم، وهو من صفة العلم، يقال: علم يقين، ولا يقال: معرفة يقين.

وأنشد صاحب "التيسير":

لقد أقوت عليك ديار عبس .... عرفت الدار عرفان اليقين

وقيل: هو كقولهم: نفس الحائط، أي: النفس التي هي الحائط، ولذلك قال:"أي: الحق الثابت من اليقين"، وقال البصريون: التقدير حق الأمر اليقين، واليقين: علم يحصل به ثلج الصدور، قيل: هو علم يحصل بالدليل، وقال صاحب "المطلع": هو اسم للعلم الذي زال عنه اللبس، و {حَقٌّ} تأكيد، كما تقول: حق يقين، ويقين حق.

وقال الزجاج" إن هذا الذي قصصنا عليك في هذه السور حق اليقين، كما تقول: إن زيدًا لعالم حق عالم، وإنه العالم حق العالم، إذا بالغت في التوكيد.

قوله: (من قرأ سورة الواقعة) الحديث رواه صاحب "الجامع" عن رزين عن ابن

ص: 226

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ كل ليلة سورة الواقعة لم تصبه فاقة، وفي المسبحات: آية كألف آية".

تمت السورة

حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* * *

ص: 227

‌سورة الحديد

مدنية، وهي تسع وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ يُحْيِي ويُمِيتُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الأَوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والْبَاطِنُ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ ومَا يَخْرُجُ مِنْهَا ومَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ومَا يَعْرُجُ فِيهَا وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وإلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ويُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 1 - 6]

جاء في بعض الفواتح: {سَبَّحَ} على لفظ الماضي، وفي بعضها على لفظ المضارع، وكل واحد منهما معناه: أن من شأن من أسند إليه التسبيح أن يسبحه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الحديد

مكية، وهي تسع وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (جاء في بعض الفواتح: {سَبَّحَ} على لفظ الماضي)، وقلت: وجاء في "بني إسرائيل": بلفظ المصدر، وفي "الحديد" والصف": بالماضي، وفي "الجمعة" و"التغابن":

ص: 228

وذلك هجيراه وديدنه، وقد عدى هذا الفعل باللام تارةً، وبنفسه أخرى في قوله تعالى:{وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح: 9] وأصله: التعدي بنفسه، لأن معنى سبحته: بعدته عن السوء، منقول من سبح: إذا ذهب وبعد، فاللام لا تخلو إما أن تكون مثل اللام في: نصحته، ونصحت له، وإما أن يراد بسبح لله: أحدث التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصًا.

{مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} ما يتأتى منه التسبيح ويصبح.

فإن قلت: ما محل {يُحْيِي} ؟

قلت: يجوز أن لا يكون له محل، ويكون جملةً برأسها؛ كقوله:{لَهُ مُلِكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} [البقرة: 107] وأن يكون مرفوعًا على: هو يحيي ويميت، ومنصوبًا حالًا من المجرور في {لَهُ} والجار عاملًا فيها. ومعناه: يحيي النطف والبيض والموتى يوم القيامة، ويميت الأحياء.

{هُوَ الأَوَّلُ} هو القديم الذي كان قبل كل شيء {والآخِرُ} الذي يبقى بعد هلاك كل شيء، {والظَّاهِرُ} بالأدلة الدالة عليه، {والْبَاطِنُ} لكونه غير مدرك بالحواس.

فإن قلت: فما معنى الواو؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالمضارع، وفي {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}: بالأمر، فاستوعب جميع جهات هذه الكلمة، إعلامًا بأن المكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد، مسبحة مقدسة لذاته سبحانه وتعالى قولًا وفعلًا، طوعًا وكرهًا، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وإليه الإشارة بقوله:"إن من شأن من أسند إليه التسبيح أن يسبحه"، والضمير المستتر راجع إلى {مَا} في {مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} ، وكذا في "هجيراه وديدنه".

قوله: (أحدث التسبيح لأجل الله) قطع {سَبِّحِ} عن متعلقه، وأجراه على إطلاقه، وجعل اللام للتعليل، وعلى الأول اللام متعلق به، ولذلك استشهد بقوله:"نصحته ونصحت له".

ص: 229

قلت: الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء. وأما الوسطى، فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين، فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات، الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن: جامع للظهور بالأدلة والخفاء، فلا يدرك بالحواس. وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الواو الأولى) يريد أن الواوات الداخلة بين الصفات تفيد معنى الجمعية، لكن الواو المتوسطة بين "الأول" و"الآخر" جامعة بين الأولية والآخرية، فالأولية والآخرية صارتا كصفة واحدة، وكذا المتوسطة بين "الظاهر" و"الباطن"، وأما الواو الداخلة بين هاتين القرينتين، أفادت معنى امتزاج تينك الصفتين بهاتين الأخريين، فإذًا لا انقطاع لوصفيته سبحانه وتعالى من الظاهرية والباطنية، أزلًا وأبدًا، كما أنه تعالى باطن في الدنيا لا يرى، كذلك باطن في العقبى لا يرى، وإليه أشار بقوله:"هو في جميعها ظاهر وباطن" إلى قوله: "وفي هذا حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة".

الانتصاف: لا دليل في الآية على ما قال، فيجوز أن يحمل على عدم الإدراك بالحاسة في الدنيا وفي الآخرة للكفار، ولنا في الرؤية كالمعتزلة لقوله:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] فإن قيل: التخصيص خلاف الظاهر أيضًا، فجاز تخصيص الباطن.

وقال حجة الإسلام في "المقصد الأسنى": اعلم أن الأول يكون أولًا بالإضافة إلى شيء، والآخر آخرًا بالإضافة إلى شيء واحد، وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء

ص: 230

وقيل: الظاهر: العالي على كل شيء الغالب له، من ظهر عليه إذا علاه وغلبه.

والباطن: الذي بطن كل شيء، أي علم باطنه: وليس بذاك مع العدول عن الظاهر المفهوم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الواحد من وجه واحد بالإضافة إلى شيء واحد أولًا وآخرًا جميعًا، بل إذا نظرت إلى ترتيب الوجود ولاحظت سلسلة الموجودات المترتبة، فالله تعالى بالإضافة أول، إذ الموجودات كلها استفادت الوجود منه، وأما فو فموجود بذاته، وما استفاد الوجود من غيره فهو متأخر عنه، ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك، ولاحظت منازل السالكين السائرين إليه فهو آخر ما يرتقي إليه درجات العارفين، وكل معرفة تحصل قبل معرفته فهي مرقاة إلى معرفته، والمنزل الأقصى هو معرفة الله، فهو آخر بالإضافة إلى السلوك، أول بالإضافة إلى الوجود، فمنه المبدأ أولًا، وإليه المرجع آخرًا، وكذا القول في قوله:"الظاهر والباطن" والله تعالى باطن إن طلب من إدراك الحواس، وخزانة الخيال، ظاهر إن يطلب من خزانة العقل والاستدلال، وقال أيضًا: إنه تعالى إنما خفي مع ظهوره لشدة ظهوره، وظهوره سبب بطونه، ونوره هو حجاب نوره، وكل ما جاوز حده انعكس ضده.

وقال الأزهري: "أول": افعل، وهو تذكير "أولى": فعلى وأصله من: آل يؤول، أي: عاد ورجع، وأول كان في الأصل: أأول، فقلبت أحدى الهمزتين لما اجتمعتا واوًا، وأدغمت إحداهما في الأخرى فصار: أول، والدليل عليه قولهم: أولى، لأن الألف في الأولى فاء الفعل والهمزتان في "أأول" إحداهما ألف أفعل، والثانية فاء الفعل.

وقال أبو إسحاق: هو الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والأول هو السابق

ص: 231

[{آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ * ومَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} 7 - 8]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للأشياء كلها، وكان تعالى موجودًا لا شيء معه، ثم أوجد ما أراد، ثم يفنى الخلق كلهم، فيبقى تعالى وحده كما كان في القديم، فيكون آخرًا كما كان أولًا.

وقال الأزهري: وقد يكون الظاهر الباطن بمعنى العالم لما ظهر وبطن، وذلك أن من كان ظاهرًا احتجب عنه الباطن، ومن كان باطنًا استتر عنه الظاهر، فإن أردت أن تصفه بالعلم قلت: هو ظاهر باطن، مثله قوله تعالى:{لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35]، أي: لا شرقية فقط، ولا غربية فقط، ولكنها شرقية غربية، فظهر على علم كل شيء بعلمه وبطن علم كل شيء بخبره، ويقال: ظهرت على فلان: إذا غلبته، وظهرت على السطح: إذا علوته، وظهرت على سر فلان: إذا عثرت عليه.

وقلت: هذا هو الوجه وإن قال: "وليس بذاك"، بعدما قال:"الظاهر: العالي على كل شيء، الغالب له"، وينصره ما روينا عن الإمام أحمد ومسلم والترمذي وأبي داود وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:"أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر".

فالمعني بالظاهر في التفسير النبوي: الغالب الذي يغلب ولا يغلب، فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء، إذ ليس فوقه أحد يمنعه، وبالباطن أن لا ملجأ ولا منجى دونه يلتجئ إليه ملتجئ، وهذه الأوصاف التي أجريت على الاسم الجامع بعد الحكم بأن الكائنات بأسرها مسبحة له طوعًا وكرهًا، وفعلًا وقولًا، دلت على عليتها، وكرر ضمير

ص: 232

{مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما مولكم إياها، وخولكم الاستمتاع بها، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله، وليهن عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه. أو {جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} ممن كان قبلكم فيما في أيديكم: بتوريثه إياكم، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم، وسينتقل منكم إلى من بعدكم؛ فلا تبخلوا به، وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم.

{لا تُؤْمِنُونَ} حال من معنى الفعل في"ما لكم"، كما تقول: ما لك قائمًا، بمعنى: ما تصنع قائمًا، أي: وما لكم كافرين بالله. والواو في {والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} واو الحال، فهما حالان متداخلتان. وقرئ:(وما لكم لا تؤمنون بالله ورسوله والرسول يدعوكم). والمعنى: وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المرفوع ليدل على استقلال كل فقرة صدرت به على سبيل استبدادها تعليلًا، وما ترك فيه العاطف جعل الرابط معنويًا، وهو الاستئناف.

قوله: (ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين)، فسر {يَدْعُوكُمْ} به ليجمع بين دليلي النص القاطع، والعقل الهادي، لأن المراد بقوله:{وقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} ما ركب فيهم من العقول، فقوله:"وقبل ذلك" مؤذن بأن قوله: {وقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} ، حال من الضمير المنصوب في {يَدْعُوكُمْ} ، ويحتمل العطف على الجملة برأسها، فيكون حالًا معطوفة على مثلها لا متداخلتان، فلا يقدر "قبل ذلك"، أي: ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه وهذه، ويكون تقديم دليل السمع على العقل لشرفه والتعويل عليه كما سبق مرارًا.

ص: 233

وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان: حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أما قوله: "بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم"، فمخالف لهذا لأنه مبني على مذهبه، وعلى التقدير الذي قدره، وينصر ما ذكرنا من أن التعويل على الدليل السمعي، وأنه هو الهادي المرشد، والعقلي تابع، تعقيب الآية بقوله:{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} امتنانًا وتقريرًا للاهتمام، وأنه لولاه لما حصل الإيمان، وفي قوله:"ليخرجكم الله بآياته من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان"، إشارة إلى هذا المعنى.

قوله: (حيث ركب فيكم العقول) الانتصاف: ولا عليه أن يحمل العهد على حقيقته، وهو المأخوذ يوم الذر، وكل ما أجازه العقل وورد بها لشرع وجب الإيمان به.

وقال محيي السنة: أي أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه. قال مجاهد: وقيل: أخذنا ميثاقكم بإقامة الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقلت: يمكن أن يقال إن الضمير في "أخذ" إن كان لله تعالى، فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دل عليه قوله تعالى:{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} إلى آخره [البقرة: 38]، لأن المعنى:"فإما يأتينكم مني هدى برسول أبعثه إليكم، وكتاب أنزله عليكم" كما صرح المصنف في تفسيره، يدل على الأول قوله:{والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا} وعلى الثاني: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} إن كان للرسول صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن يراد بالميثاق ما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] على أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق عليه، أي: الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، وهو الوجه لأن الخطاب مع الصحابة

ص: 234

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والمراد بالإنفاق: الإنفاق في سبيل الله، يدل عليه قوله: : {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ} ولعل الميثاق نحو ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل عن عبادة بن الصامت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقول في الله ولا نخاف لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث.

وأما قضية النظم فإنه تعالى لما قال: {آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ووضع موضع: مما رزقناكم، كما في سائر المواضع قوله:{مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} تسهيلًا على بذلها وإيذانًا بأن الأموال عواري ودول، كما قيل:

وحسبك قول الناس فيما ملكته .... لقد كان هذا مرة لفلان

فصله بقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} وبقوله: {ومَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ} إلى آخره، وكان التقابل الحقيقي: والذين لم يؤمنوا ولم ينفقوا لهم عقاب أليم، ولما أن الكلام في الحث والتعريض والتوبيخ على التهاون في الإنفاق، قيل:{ومَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ، {ومَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وأوقع للأول قوله:{والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} ، حالًا مقررة لجهة الإشكال. وقوله:{وقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} حال أخرى كذلك، على سبيل التداخل، والثاني قوله:{ولِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} وهو ينظر إلى قوله: {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي: مالكم لا تنفقون وإن الله سولكم إياها وخولكم الاستمتاع بها بعد أن أهلك غيركم، وأعطاها إياكم، ثم في العاقبة هو مهلككم ووارثها، فأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! والله أعلم.

ص: 235

ومكنكم من النظر، وأزاح عللكم، فإذ لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول، فما لكم لا تؤمنون.

{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لموجب ما؛ فإن هذا الموجب لا مزيد عليه.

وقرئ: {أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل.

[{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وإنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} 9]

{لِّيُخْرِجَكُم} الله بآياته من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أو ليخرجكم الرسول بدعوته. (لرؤف) وقرئ:{لَرَءُوفٌ} .

[{ومَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وكُلًا وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ولَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} 10 - 11]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لموجب ما) أي: موجب من دليلي النقل والعقل، قال الواحدي: إن كنتم مؤمنين بالحجة والدليل، فقد بان وظهر على يد محمد صلوات الله عليه، ببعثه وإنزال القرآن عليه.

وقلت: ويمكن أن يجرى الشرط على التعليل الذي يجيء به الموثق بأمره، المتحقق بصحته، كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتقريع، يدل عليه قوله تعالى:{لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ} إلى قوله: {وكُلًا وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى} .

قوله: (وقرئ: {لَرَؤُوفٌ})، كلهم إلا أبا عمرو وأبا بكر وحمزة والكسائي.

ص: 236

{أَلاَّ تُنفِقُوا} في أن لا تنفقوا {ولِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} يرث كل شيء فيهما، لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره، يعني: وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله، والله مهلككم فوارث أموالكم؟ ! وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله. ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال:{لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ} قبل فتح مكة قبل عز الإسلام وقوة أهله، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، وقلة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه، ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوح الدلالة، {أُوْلَئِكَ} الذين أنفقوا قبل الفتح- وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم:"لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" - {أَعْظَمُ دَرَجَةً} . وقرئ: (قبل الفتح).

{وكُلًا} وكل واحد من الفريقين {وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى} أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة مع تفاوت الدرجات.

وقرئ بالرفع؛ على: وكل وعده الله. وقيل: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق في سبيل الله.

القرض الحسن: الإنفاق في سبيل، شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز، لأنه إذا أعطى ماله لوجهه فكأنه أقرضه إياه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا) الحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.

النهاية: نصيفه: هو النصف، كالعشير في العشر.

قوله: (وقرئ بالرفع؛ على: وكل وعده الله) ابن عامر، والباقون: بنصب اللام.

ص: 237

{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} أي: يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفًا أضعافًا من فضله، {ولَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يعني: وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه.

وقرئ: (فيضعفه)، وقرئا منصوبين على جواب الاستفهام، والرفع عطف على {يُقْرِضُ} ، أو على: فهو يضاعفه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وذلك الأجر المضموم إليه الأ ضعاف) يريد أن قوله: {ولَهُ أَجْرٌ} ، هو الأجر السابق الذي ضمن في قوله:{فَيُضَاعِفَهُ} ، وأعيد المعنى ليعلق به صفة الكريم، وفيه تعسف؛ لأن العطف يقتضي المغايرة نحو قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] وقد فسر المضاعفة بقوله: "يضاعف ثوابها لاستحقاقها عنده على سبيل التفضل عطاءً عظيمًا"، وسماه أجرًا لأنه تابع للأجر، وهو بناء على مذهبه، وسبق ما عليه، وذكرنا أن المناسب أن يفسر المضاعفة بمضاعفة الحسنة نفسها، والأجر بما هو المتعارف.

وروينا في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، والسيئة بمثلها"، وفي رواية:"إلا أن يتجاوز الله عنها"، والله أعلم.

قوله: (كريم في نفسه) أي: وصف الأجر بالكرم بناء على أن الكريم يقال لكل ما يرضى ويحمد في بابه.

قوله: (وقرئ: "فيضعفه") ابن عامر، و"يضاعفه" بالنصب: عاصم، والباقون: بالرفع.

ص: 238

[{يَوْمَ تَرَى المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ اليَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} 12].

{يَوْمَ تَرَى} ظرف لقوله: {ولَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} ، أو منصوب بإضمار "اذكر" تعظيمًا لذلك اليوم. وإنما قال:{بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِأَيْمَانِهِم} لأنه السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين؛ كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم، فجعل النور في الجهتين شعارًا لهم وآيةً؛ لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا، وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة، ومروا على الصراط يسعون، سعى بسعيهم ذلك النور جنيبًا لهم ومتقدمًا، ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة:{بُشْرَاكُمُ اليَوْمَ} . وقرئ: (ذلك الفوز).

[{يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ والْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا ورَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى ولَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وتَرَبَّصْتُمْ وارْتَبْتُمْ وغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وغَرَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ ولا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَاوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وبِئْسَ المَصِيرُ} 13 - 15]

{يَوْمَ يَقُولُ} بدل من {يَوْمَ تَرَى} ، {انظُرُونَا} انتظرونا، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تدف بهم، وهؤلاء مشاة. وانظروا إلينا؛ لأنهم إذا نظروا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (سعى بسعيهم ذلك النور جنيبًا لهم)"سعى" جواب "إذا"، و"يسعون" حال من ضمير "مروا"، قال المصنف: عرفنا أنهم يسعون بقوله: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ، لأنهم لو مشوا لما سعى النور بين أيديهم، لأنه إذا سعى وهم يمشون الهوينا لم يكن سعيًا بين أيديهم لأنه يخلفهم.

قوله: (تدف بهم) الأساس: الدفيف: السير اللين.

ص: 239

إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به. وقرئ: (أنظرونا) من النظرة وهي: الإمهال، جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارًا لهم.

{نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} نصب منه؛ وذلك أن يلحقوا بهم، فيستنيروا به {قِيلَ ارْجِعُوا ورَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} طرد لهم وتهكم بهم، أي: ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك، فمن ثم يقتبس. أو ارجعوا إلى الدنيا، فالتمسوا نورًا بتحصيل سببه وهو الإيمان. أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا، فالتمسوا نورًا آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم؛ وإنما هو تخييب وإقناط لهم.

{فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} بين المؤمنين والمنافقين بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار. وقيل: هو الأعراف، لذلك السور، {بَابٌ} لأهل الجنة يدخلون منه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "أنظرونا" من النظرة) حمزة: "أنظرونا" بقطع الهمزة وفتحها في الحالين، وكسر الظاء، والباقون بألف موصولة ويبتدئونها بالضم، وضم الظاء.

قوله: (جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارًا لهم) يقال: اتأد في مشيته، افتعل من التؤدة، يعني وضع انظرونا الذي هو بمعنى الممهلة وإنظار الدائن مديونه، موضع اتئاد الرفيق، والهوينا في المشي لرفيقه على سبيل الاستعارة بعد سبق تشبيه الحالة بالحالي، مبالغة في العجز وإظهار الافتقار.

وقال المهدي: {انظُرُونَا} ، وأنظرونا معناهما سواء، وهما من الانتظار، تقول العرب: نظرت كذا وانتظرت، بمعنى واحد، والمعنى: نفسونا وأمهلونا نقتبس من نوركم.

قوله: (وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما هو تخييب)، نظيره في المعنى قوله تعالى:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56].

ص: 240

{بَاطِنُهُ} باطن السور أو الباب، وهو الشق الذي يلي الجنة. {وظَاهِرُهُ} ما ظهر لأهل النار {مِن قِبَلِهِ} من عنده ومن جهته {العَذَابُ} وهو الظلمة والنار.

وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما: (فضرب بينهم) على البناء للفاعل.

{أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يريدون موافقتهم في الظاهر {فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} محنتموها بالنفاق وأهلكتموها، {وتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنين الدوائر، {وغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ} طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار، {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} وهو الموت {وغَرَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم. وقرئ:(الغرور) بالضم.

{فِدْيَةٌ} ما يفتدى به {هِيَ مَوْلاكُمْ} قيل: هي أولى بكم، وأنشد قول لبيد:

فغدت كلا الفرجين تحسب أنه .... مولى المخافة خلفها وأمامها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ "الغرور" بالضم) قال ابن جني: قرأها سماك بن حرب، وهو كقوله: وغركم بالله الاغترار، وتقديره على حذف المضاف، أي: وغركم بالله سلامة الاغترار، ومعناه: سلامتكم منه [مع] اغتراركم.

قوله: (فغدت كلا الفرجين) البيت، يصف بقرة وحشية نفرت من صوت الصائد، ولم تقف لتنظر أن قاصدها خلفها أم أمامها، فغدت فزعة مذعورة لا تعرف منجاها من مهلكها، الفرجين: الجانبين وهو الخلف والقدام، أي: غدت على حالة كلا جانبيها مخوف، وقيل: الفرج: الثغر وموضع المخافة، وقيل: الفرج ما بين قوائم الدواب، فما بين اليدين فرج، وما بين الرجلين: فرج، أي: تحسب كل فرج من فرجيها أولى المخافة، أي: موضع

ص: 241

وحقيقة {مَوْلاكُمْ} : محراكم ومقمنكم. أي: مكانكم الذي يقال فيه: هو أولى بكم، كما قيل: هو مئنة للكرم، أي مكان؛ لقول القائل: إنه لكريم. ويجوز أن يراد: هي ناصركم، أي لا ناصر لكم غيرها. والمراد: نفي الناصر على البتات. ونحوه قولهم: أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع. ومنه قوله تعالى: {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} ، وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.

{أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ومَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ ولا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} 16]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المخافة، ومعنى مولى: أولى، والضمير الذي هو اسم "أن" عائد إلى "كلا" لأنه مفرد اللفظ، كقوله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33]، و"مولى المخافة" خبر "إن"، و"خلفها وأمامها" خبران لمبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون تفسيرًا لكلا الفرجين، أو بدلًا منه، وتقديره: فغدت كلا الفرجين خلفها وأمامها، تحسب أنها مولى المخافة. من كلام الزوزني.

قوله: (ومقمنكم) من القمين: الجدير.

قوله: (كما قيل: هو مئنة الكرام) أي: "مولى" مفعل من أولى، كما أن "مئنة" مفعلة من "إن" التي للتحقيق، غير مشتقة من لفظها؛ لأن الحروف لا يشتق منها، وإنما ضمنت حروفها دلالة على أن معناها فيها، وكما يقال:"مئنة" موضع "إن"، يقال فيه: إن التحقيقية، كذلك معنى {مَوْلَاكُمْ}: مكانكم الذي يقال فيه: هو أولى بكم، وقوله:"مئنة الكرم" كناية رمزية، نحو قولهم: الكرم بين برديه، والمجد بين ثوبيه.

قوله: (فاستنصر الجزع) أي: طلب النصر، ولم يجد سوى الجزع، والجزع ليس ينصر، فإذن لا نصر لهم البتة.

ص: 242

{أَلَمْ يَانِ} من: أنى الأمر يأني، إذا جاء إناه، أي: وقته. وقرئ: (ألم يئن) من: آن يئين، بمعنى: أنى يأني، و (ألما يأن)، قيل: كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه، فنزلت.

وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبتا بهذه الآية إلا أربع سنين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن. وعن الحسن رضي الله عنه: أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرؤون. فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (و "ألما يأن") قال ابن جني: وهي قراءة الحسن، وقال: أصل لما: لم، ثم زيدت عليها "ما" فصارت نفيًا لقوله: قد كان كذا، و"لم" نفي فعل المؤكد، تقول: قام زيد، فيقول المجيب بالنفي: لم يقم، فإن قال: قد قام، قلت: لما يقم، لما زاد في الإثبات "قد"، زاد في النفي "ما"، إلا أنهم لما ركبوا "لم" مع "ما" حدث معها معنى ولفظ.

أما المعنى فإنها صارت في بعض المواضع ظرفًا، فقالوا: لما قمت قام زيد، أي: وقت قيامك قام زيد، وأما اللفظ فإنه جاز أن تقف عليها دون مجزومها كقولك: جئت ولما، أي ولما تجئ، ولو قلت: جئت ولم، لم يجز.

قوله: (وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرؤون) يعني: أن الله تعالى استبطأ خشوع قلوب الصحابة رضوان الله عليهم وعاتبهم على عدم تأثير القرآن فيها سريعًا، مع ما كانوا عليه من الخشوع، وكانت قراءتهم أقل من قراءتكم، فتفكروا أنتم في حالكم، وما أنتم عليه من الفسق مع كثرة القراءة! فهو شهادة بأن قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة.

ص: 243

وعن أبي بكر رضي الله عنه أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاء شديدًا، فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب.

وقرئ: (نزل) و (نزل) و (أنزل). {ولا يَكُونُوا} عطف على {تَخْشَعَ} ، وقرئ بالتاء على الالتفات، ويجوز أن يكون نهيًا لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة، واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره.

فإن قلت: ما معنى: {لِذِكْرِ اللَّهِ ومَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ} ؟

قلت: يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق: القرآن؛ لأنه جامع للأمرين: للذكر والموعظة، وأنه حق نازل من السماء، وأن يراد خشوعها إذا ذكر الله وإذا تلي القرآن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هكذا كنا حتى قست القلوب) قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس الله سره: معناه: تصلبت وأدمنت سماع القرآن، وألفت أنواره فما استغربته حتى تتغير كما تغير هذا السامع.

قوله: (وقرئ: "نزل") نافع وحفص: {وَمَا نَزَلَ} مخففًا معروفًا، والباقون: مشددًا.

قوله: (وأن يراد خشوعها) فعلى هذا ذكر الله غير القرآن، فإن كل واحد من ذكر الله وتلاوة القرآن سبب لخشوع القلب، كأنه قيل: ألم يقرب للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لهذين الموجبين فإنه لا مزيد عليهما، وعلى الأول هو من باب قوله تعالى:{وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [البقرة: 53] يعني: الجامع بين كونه كتابًا منزلًا وفرقانًا يفرق بين الحق والباطل، يعني التوراة كقولك: رأيت الغيث والليث، أي: الرجل الجامع بين هذين الوصفين.

ص: 244

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: ويمكن أن يحمل الذكر على القرآن، وما نزل من الحق على نزول السكينة معه، أي الواردات الإلهية.

ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن البراء: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة بشطنين، فغشيته سحابة فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال:"تلك السكينة تنزل للقرآن".

وروى السلمي عن أحمد بن الحواري، قال: بينما أنا في بعض طرقات البصرة إذ سمعت صعقة، فأقبلت نحوها فرأيت رجلًا مغشيًا عليه، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: كان رجلًا حاضر القلب، فسمع آية من كتاب الله فخر مغشيًا عليه، فقلت: ما هي؟ قال: قوله تعالى: {أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} فأفاق الرجل عند سماع كلامنا، فأنشأ يقول:

أما آن للهجران أن يتصرما .... وللغصن غصن البان أن يتبسما

وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى .... ألم يأن أن يبكى عليه ويرحما

كتبت بماء الشوق بين جوانحي .... كتابًا حكى نقش الوشي المنمنما

ثم قال: أشكال أشكال أشكال، فخر مغشيًا عليه، فحركناه فإذا هو ميت.

ص: 245

كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ} [الأنفال: 2]. أراد بالأمد: الأجل، كقوله:

إذا انتهى أمده

وقرئ: (الأمد)، أي: الوقت الأطول {وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين.

[{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 17]

{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} قيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض.

[{إنَّ المُصَّدِّقِينَ والْمُصَّدِّقَاتِ وأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ ولَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} 18]

{المُصَّدِّقِينَ} المتصدقين. وقرئ على الأصل، و (المتصدقين)؛ من: صدق، وهم الذين صدقوا الله ورسوله، يعني المؤمنين.

فإن قلت: علام عطف قوله {وأَقْرَضُوا} ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إذا انتهى أمده)، أوله:

كل حي مستكمل مدة العمـ .... ـر ومود إذا انتهى أمده

قوله: مود من أودى إذا مات، مضى شرحه في البقرة.

قوله: (هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض) يعني: لما استبطأ خشوع قلوب المؤمنين عند سماع القرآن، أرشدهم إلى إزالة تلك القسوة التي منعت القلب عن تأثير الذكر فيه، وإنزال تلك السكينة عليه باللجأ إلى الله واستنزال ما يستعدون به لقبول تلك المواهب الرحمانية، فأعلمهم أنه وحده هو القادر على ذلك، كما أنه وحده يحيي الأرض بعد موتها، وفيه إشارة إلى نفي الحول والقوة من الغير.

ص: 246

قلت: على معنى الفعل في {المُصَّدِّقِينَ} ؛ لأن اللام بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى اصدقوا، كأنه قيل: إن الذين اصدقوا وأقرضوا.

والقرض الحسن: أن يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة. وقرئ: (يضعف) و (يضاعف)، بكسر العين، أي: يضاعف الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كأنه قيل: إن الذين اصدقوا وأقرضوا) فإن قيل: ما فائدة العدول؟ فهلا قيل: إن المصدقين والمقرضين؟ قلت: فائدته تصوير معنى التصدق، ومزيد تقرير التمثيل بالإقراض.

قال صاحب "التقريب": وفي عطف "أقرضوا" على صلة اللام نظر، للزوم الفصل بين أجزاء الصلة بأجنبي، وهو المصدقات، فإما أن يحمل على المعنى، إذ التقدير: إن الناس المصدقين والمصدقات وأقرضوا، أو لا يجعل عطفًا، بل اعتراضًا، فيجوز الفصل به كما بين الموصول والصلة في مثل:

ذاك الذي وأبيك يعرف مالكًا .... والحق يدفع ترهات الباطل

وقيل: هو من باب كل رجل وصنعته، أي: إن المصدقين مع المصدقات في الثواب والمنزلة، أو يقدر خبر أي: إن المصدقين والمصدقات يفلحون فيقع بعد تمام الجملة. وأقرضوا في الوجهين ليس عطفًا على الصلة، بل مستأنف، ويضاعف في الوجهين صفة {قَرْضًا} أو استئناف، وكأن استقامة المعنى والإعراب على حذف الموصول بتقدير: والذين أقرضوا، إن جوز كما هو مذهب الكوفيين.

قلت: الوجه القوي هو الاعتراض على سبيل الاستطراد، فإن المصدقات لو لم تذكر لكانت مندرجة تحت المصدقين على سبيل التغليب، كما أن قوله:"وأقرضوا الله" عام في الرجال والنساء، فذكر المصدقات لمزيد التقرير كما في قوله تعالى:{أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195].

قوله: (وقرئ: "يضعف") ابن كثير وابن عامر، و"يضاعف" بكسر العين: شاذ

ص: 247

[{والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ والشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ونُورُهُمْ والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} 19]

يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء؛ وهم الذي سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله {لَهُمْ أَجْرُهُمْ ونُورُهُمْ} أي: مثل أجر الصديقين والشهداء، ومثل نورهم.

فإن قلت: كيف يسوي بينهم في الأجر ولا بد من التفاوت؟ قلت: المعنى أن الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله، حتى يساوي أجرهم مع أضعافه أجر أولئك. ويجوز أن يكون {والشُّهَدَاءُ} مبتدأ، و {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء) ثم قوله: "لهم مثل أجر المصدقين"، مؤذن بأنه لا يجوز حمل الصديقين على المؤمنين، فيجب الحمل على التشبيه، نحو: زيد أسد، وذلك أن اسم الإشارة دال على أن ما بعده جدير بمن سبق ذكره، لاكتسابه الخصال التي درجتهم دون درجة الأنبياء، وفوق درجة الخواص، ولا يقال: درجة من مات حتف أنفه درجة من استشهد في سبيل الله في صف الكفار، إلا بالإلحاق، وأن يقال: هم مثلهم وأجرهم مثل أجرهم، لاسيما وقد وسط بين المبتدأ والخبر ضمير الفصل المفيد لحصر المسند على المسند إليه، ويجوز قطع "الشهداء" عن هذا الحكم، لاستقامته مع من اقترن به أن يكون جملة معه، وإليه أشار بقوله: ويجوز أن يكون "الشهداء" مبتدأ.

وأما سؤاله: كيف يسوي بينهم في الأجر ولا بد من التفاوت؟ فليس بذاك، لأنا إذا قلنا: إن الكلام مبني على التشبيه والإلحاق للمبالغة ترغيبًا، علم عدم المساواة.

قوله: (المعنى: أن الله يعطي المؤمنين أجرهم) وخلاصته: أن لكل مكلف أجر يستحقه

ص: 248

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بسبب العمل، وبه زيادة عليه وفضل، فإذا اعتبر جزاء المؤمنين مع تلك الزيادة يساوي أجر الصديقين وحده، فينبغي لهم الفضل عليهم بما يزاد على الجزاء، بناء على قاعدة الاعتزال، هذا لعمري تكلف، وركوب على التعسف.

ويمكن أن يقال: إن قوله: {والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ} مقابل لقوله: {والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} ، وآياتنا جمع مضاف يفيد الاستغراق، فيتناول جميع آيات الله المختلفة الأنواع، ومكذبها يكون مفرط في الكذب لكثرة ما كذب به، فينبغي أن يفسر ما يقابله من قوله:{والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ} بالشمول والاستغراق، ولذلك جمع الرسل لأن من آمن بالله، وبجميع ما يجب أن يؤمن به من صفاته وأفعاله، وبجميع ما يضاف وينسب إليهم، يكون مفرطًا في الصدق لكثرة ما صدق به، فحينئذ يصح حمل الصديقين على أولئك، ويقع ضمير الفصل موقعه تعريضًا بالمكذبين، ويكون المراد بالشهداء: القائم بالشهادة، كما في قوله تعالى:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 142].

وأما قوله: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَحِيمِ} فقد وقع مقابلًا لقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ والشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ ونُورُهُمْ} فيجب أن يقدر في كل من المتقابلين ما هو مذكور في الآخر، ويؤيد هذا التأويل ما رواه الواحدي:{والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صديق، ثم قرأ هذه الآية. وقال المقاتلان: هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذبوهم ساعة، وقال مسروق: هذه الآية للشهداء خاصة، وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم، وهو قول مقاتل بن حيان واختيار الفراء والزجاج.

ص: 249

[{اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِينَةٌ وتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ والأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ ومَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ ورِضْوَانٌ ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ} 20]

أراد أن الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور؛ وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر. وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام، وهي: العذاب الشديد والمغفرة ورضوان الله. وشبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة فهاج واصفر وصار حطامًا؛ عقوبةً لهم على جحودهم، كما فعل بأصحاب الجنة، وصاحب الجنتين. وقيل:{الكُفَّارَ} الزراع. وقرئ: (مصفارًا).

[{سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ والأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} 21]

{سَابِقُوا} سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار، إلى جنة {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ والأَرْضِ} .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (واكتهل) وقوي. الأساس: واكتهل النبات، تم طوله وتكهل، ونبات كهل.

قوله: (كما فعل بأصحاب الجنة) يعني: في سورة {ن} . "وصاحب الجنتين"، يعني: في سورة الكهف، وقيل: في سبأ.

قوله: (في المضمار)، الجوهري: تضمير الفرس: أن تعلفه حتى يسمن، ثم ترده إلى القوت، وذلك في أربعين يومًا، وهذه المدة تسمى المضمار، والموضع الذي يضمر فيه الخيل أيضًا. وفي "مقدمة الأدب": المضمار والحلبة: موضع طراد الخيل.

ص: 250

قال السدي: كعرض سبع السموات وسبع الأرضين، وذكر العرض دون الطول؛ لأن كل ما له عرض وطول، فإن عرضه أقل من طوله، فإذا وصف عرضه بالبسطة: عرف أن طوله أبسط وأمد. ويجوز أن يراد بالعرض: البسطة، كقوله تعالى:{فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51]. لما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة: بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك: وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد، والفوز بدخول الجنة {ذَلِكَ} الموعود من المغفرة والجنة {فَضْلُ اللهِ}: عطاؤه {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} وهم المؤمنون.

[{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ ولا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ولا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ومَن يَتَوَلَّ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} 22 - 24]

المصيبة في الأرض: نحو الجدب وآفات الزروع والثمار. وفي الأنفس: نحو الأدواء والموت {فِي كِتَابٍ} في اللوح {مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا} يعني الأنفس أو المصائب {إنَّ ذَلِكَ} إن تقدير ذلك وإثباته في كتاب {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وإن كان عسيرًا على العباد، ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه فقال: {لِكَيْلَا تَاسَوْا

وَلا تَفْرَحُوا} يعني: أنكم إذا علمتم أن شيء مقدر مكتوب عند الله قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يعني: أنكم إذا علمتم أن كل شي مقدر مكتوب عند الله، قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي) روينا عن الترمذي وابن ماجه عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها

ص: 251

لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة: لم يتفاقم جزعه عند فقده، لأنه وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال: لم يعظم فرحه عند نيله.

{واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه: اختال وافتخر به وتكبر على الناس. قرئ: {بِمَا آتَاكُمْ} و (أتاكم)، من الإيتاء والإتيان. وفي قراءة ابن مسعود:(بما أوتيتم).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لو أنها بقيت لك". وروي: لأن الله تعالى يقول: {لِكَيْلا تَاسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ولا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} .

قوله: (وافتخر به وتكبر على الناس)، الراغب: الفخر: المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان، كالمال والجاه، ويقال له: الفخر، ورجل فاخر وفخور وفخير على التكثير، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].

وقيل: المختال أخص من الفخور، لأنه في الفعل، والفخور في العقل وغيره.

الراغب: الفخار: الجرار، وذلك لصوته إذا نقر، كأنما تصور بصورة من تكثير التفاخر، قال تعالى:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14] فظهر من هذا أن التفاخر بالقول لا بالفعل.

قوله: (قرئ: {بِمَا آتَاكُمْ} و"أتاكم") أبو عمرو: بالقصر، والباقون: بالمد.

ص: 252

فإن قلت: فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح.

قلت: المراد: الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله، ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغي الملهي عن الشكر؛ فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه، مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر، فلا بأس بهما.

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بدل من قوله: {كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} كأنه قال: لا يحب الذين يبخلون، يريد: الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالًا وحظًا من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم وعظمه في عيونهم: يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به، ولا يكفيهم أنهم بخلوا حتى يحملوا الناس على البخل ويرغبوهم في الإمساك ويزينوه لهم، وذلك كله نتيجة فرحهم به، وبطرهم عند إصابته، {ومَن يَتَوَلَّ} عن أوامر الله ونواهيه، ولم ينته عما نهي عنه من الأسى على الفائت، والفرح بالآتي: فإن الله غني عنه. وقرئ: (بالبخل)، وقرأ نافع:{فَإنَّ اللَّهَ الغَنِيُّ} ، وهو في مصاحف أهل المدينة والشام كذلك.

[{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ والْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ورُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 25]

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} يعني الملائكة إلى الأنبياء، {بِالْبَيِّنَاتِ} بالحجج والمعجزات {وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ} أي: الوحي، {والْمِيزَانَ} .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بدل من قوله: {كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}) أي: بدل الكل، لأنهما واقعان تذييلًا لقوله:{ولا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} لأن من شأن الفرح أن يكون مختالًا فخورًا، ولذلك فسر {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بـ"الذين يفرحون الفرح المطغي"، وقال بعده:"وذلك كله نتيجة فرحهم به وبطرهم عند إصابته".

ص: 253

روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به، {وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} قيل: نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة، والإبرة. وروى: ومعه المر والمسحاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: أنزل الحديد، والنار، والماء، والملح".

وعن الحسن: {وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} : خلقناه، كقوله تعالى:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ} [الزمر: 60]، وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه.

{فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ} وهو القتال به {ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ} في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم، فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها؛ أو ما يعمل بالحديد {ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ورُسُلَهُ} باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والميقعة)، النهاية: في حديث ابن عباس: نزل مع آدم عليه السلام والميقعة والسندان والكلبتان، والميقعة: المطرقة التي يضرب بها الحديد وغيره، والجمع المواقع، والميم زائدة، والياء بدل من الواو قلبت لكسرة الميم.

وقيل: المر: البيل الذي يعتمل به، وفي البيل قال: البيل وإن جمع أبيالًا وبيلة، فإنه ليس بعربي، وعربية المر، وقيل: يراد بالمر الحبل شامل، وقيل: نزل آدم بالباسنة، وهي اسم جامع لهذه الأشياء.

قوله: (وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه) هذا تعليل لصحة استعمال "أنزلنا" في المعاني الثلاثة، والمراد بالأوامر: الخطاب المشتمل عليها الكتاب، وبالقضايا والأحكام ما هي منوطة بالميزان واستعمال الحديد.

قوله: ({ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ورُسُلَهُ} باستعمال السيوف)، ظاهرة مشعر بأن "ليعلم" عطف على علة محذوفة متعلقة بقوله:{وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} أي: أنزلناه ليستعمله المكلف في الجهاد في سبيل الله، ونصرة دينه، وليعلم الله من ينصره، قال في قوله تعالى:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140] أي: "فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت، وليعلم".

ص: 254

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الواحدي: "ليعلم" معطوف على {لِيَقُومَ} ، أي: ليعاملوا بالعدل، وليعلم الله من ينصره، وذلك أن الله تعالى أمر في الكتاب الذي أنزل بنصرة دينه ورسله، فمن نصر دينه ورسله علمه ناصرًا، ومن عصى علمه بخلاف ذلك.

ويمكن أن يقال: أصل الكلام: أنزلنا الكتاب والميزان والحديد، لتجاهدوا مع الشيطان والنفس بإقامة حقوق الله من أداء عبادته، وامتثال أوامره وانتهاء نواهيه، وحقوق العباد، باستعمال العدل والنصفة معهم، وتجاهدوا مع أعداء الدين باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح، ليكون الدين كله لله، ويعلم الله من ينصر دينه ورسله، وإنما ترك ذكر عائدة "الكتاب" لاحتوائه على ما لا نهاية له، وكرر أنزلنا، وذكر إحدى خواص الحديد، ثم أجمل بقوله: منافع، ليؤذن بأن تمشية أمر الكتاب والميزان متوقفة عليه.

روينا عن الترمذي عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد". ولله در العتبي حيث قال: إن الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يتضمن الأحكام والحدود، حظر فيه التباغي والتظالم، ودفع التعادي والتخاصم، ومما حكم فيه من دفع التخاصم والأمر بالتعادل، وضع آلة العدل تنبيهًا به على موقع فائدة العدل، وعائدة السوية.

ثم إن من المعلوم أن ذلك الكتاب الجامع للأوامر الإلهية وذلك التعامل بالعدل والسوية، إنما يحفظ الناس عن اتباعهما، ويضطر العالم إلى إلزام أحكامها السيف الذي هو حجة الله على من جحد وعند نزع من صفقة الجماعة اليد، هذا هو الحديد الذي وصفه الله تعالى بالبأس الشديد، فجمع بالقول الوجيز، معاني كثيرة الشعوب متدانية الجيوب.

ص: 255

{بِالْغَيْبِ} غائبًا عنهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ينصرونه ولا يبصرونه.

{إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} غني- بقدرته وعزته في إهلاك من يريد هلاكه- عنهم، وإنما كلفهم الجهاد لينتفعوا به، ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب.

[{ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وإبْرَاهِيمَ وجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ والْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} 26]

{والْكِتَابَ} والوحي. وعن ابن عباس: الخط بالقلم، يقال: كتب كتابًا وكتابة. {فَمِنْهُمْ} فمن الذرية أو من المرسل إليهم، وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين.

وهذا تفصيل لحالهم، أي: فمنهم مهتد ومنهم فاسق، والغلبة للفساق.

[{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ وجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَافَةً ورَحْمَةً ورَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} 27]

قرأ الحسن: (الأنجيل) بفتح الهمزة، وأمره أهون من أمر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عنهم) صلة "غني"، والضمير راجع إلى "من ينصره"، يدل عليه قوله:"وإنما كلفهم الجهاد"، والباء في "بقدرته" نحو "الباء" في: كتبتم بالقلم.

قوله: (قرأ الحسن: "الأنجيل" بفتح الهمزة) قال ابن جني: هذا لا نظير له، وهو من نجلت الشيء إذا استخرجته، لأنه يستخرج حال الحلال من الحرام، كما قيل لنظيره:"التوراة"، وهي فوعلة، من: ورى الزنديري، إذا أخرج النار، ومثله: الفرقان، من: فرق بين الشيئين.

وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع، وشذوذه كما حكى بعضهم في البرطيل: البرطيل، ونحوهما ما حكاه أبو زيد من قولهم: السكينة بفتح السين وتشديد الكاف، وربما

ص: 256

"البرطيل" و"السكينة" فيمن رواهما بفتح الفاء، لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب. وقرئ:(رآفةً) على: فعالة، أي: وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. ونحوه في صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].

والرهبانية: ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة، وذلك أن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى، فقاتلوهم ثلاث مرات، فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل، فخافوا أن يفتنوا في دينهم، فاختاروا الرهبانية، ومعناه: الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، وهو الخائف؛ فعلان من: رهب، كخشيان من: خشي.

وقرئ: (ورهبانية) بالضم، كأنها نسبة إلى الرهبان: وهو جمع راهب كراكب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ظن الإنجيل أعجميًا فأجرى عليه تحريف مثاله.

قوله: (البرطيل) البرطيل بكسر الباء: الحجر المستطيل وهو الشائع المشهور، وفتحها شاذ، وهو عربي، وإذا فتح الباء خرج عن أوزان العرب.

قوله: (بعد موت عيسى) في جميع النسخ، والصحيح: بعد رفع عيسى عليه السلام.

قوله: (وقرئ: "رهبانية" بالضم كأنها نسبة إلى الرهبان) الانتصاف: فيه إشكال، فالنسب إلى الجمع على صيغته غير مقبول، حتى يرد إلى المفرد، إلا أن يقال: لما صار الرهبان طائفة مخصوصين صار هذا الاسم وإن كان جمعًا كالعلم، فالتحق بأنصاري ومدائني وأعرابي. الراغب: الرهبة والرهب: مخافة مع تحرز واضطراب، قال عز وجل:{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ} [الحشر: 14] والترهيب: التعبد، وهو استعمال الرهبة.

ص: 257

وركبان، وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر، تقديره: وابتدعوا رهبانيةً، {ابْتَدَعُوهَا} يعني: وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} لم نفرضها نحن عليهم {إلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كما يجب على الناذر رعاية نذره؛ لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} يريد: أهل الرحمة والرأفة الذين اتبعوا عيسى {وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} الذين لم يحافظوا على نذرهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال: رهبوت خير من رحموت، والرهبانية غلو في تحمل الرهبة، والرهبان يكون واحدً وجمعًا.

قوله: (لم نفرضها نحن عليهم) وعن أبي داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد الله عليكم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم".

وروينا عن مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".

قال صاحب "جامع الأصول": محدثات الأمور: ما لم يكن معروفًا في كتاب ولا سنة ولا إجماع. الابتداع: إذا كان من الله وحده فهو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وهو تكوين الأشياء بعد ما لم تكن، فليس ذلك إلا إلى الله تعالى، فأما الابتداع من المخلوقين، فإن كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله، فهو في حيز الذم والإنكار، وإن كان واقعًا تحت عموم ما ندب الله إليه، وحض عليه أو رسوله، فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودًا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهذا فعل من الأفعال المحمودة لم يكن الفاعل

ص: 258

ويجوز أن تكون"الرهبانية" معطوفةً على ما قبلها، و {ابْتَدَعُوهَا}: صفةً لها في محل النصب، أي: وجعلنا في قلوبهم رأفةً ورحمةً ورهبانيةً مبتدعةً من عندهم، بمعنى: وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها، ما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا بها رضوان الله، ويستحقوا بها الثواب، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم ليتخلصوا من الفتن، ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه، {فَمَا رَعَوْهَا} جميعًا {حَقَّ رِعَايَتِهَا} ؛ ولكن بعضهم، {فَآتَيْنَا} المؤمنين المراعين منهم للرهبانية {أَجْرَهُمْ} ، {وكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} وهم الذين لم يرعوها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قد سبق إليه، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثوابًا، فقال:"من سن سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها"، وقال في ضده:"من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها"، وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله. ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب في صلاة التراويح: نعمت البدعة، هذا لما كانت من أفعال الخير، وداخلة في حيز المدح، سماها بدعة ومدحها.

قال محيي الدين النواوي في "شرح صحيح مسلم": قال العلماء: البدعة خمسة أقسام؛ واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، فمن الواجب: تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين، وشبه ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباح: التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران.

فعلم أن الحديث من العام المخصوص، ويؤيده ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التراويح: نعمت البدعة، والله أعلم.

قوله: (ويجوز أن تكون "الرهبانية" معطوفة على ما قبلها)، عطف على قوله:"وانتصابها بفعل مضمر".

ص: 259

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ويَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 28]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يجوز أن يكون خطابًا للذين آمنوا من أهل الكتاب والذين آمنوا من غيرهم، فإن كان خطابًا لمؤمني أهل الكتاب؛ فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد {يُؤْتِكُمْ} الله {كِفْلَيْنِ} أي: نصيبين {مِن رَّحْمَتِهِ} لإيمانكم بمحمد وإيمانكم بمن قبله {ويَجْعَل لَّكُمْ} يوم القيامة {نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} وهو النور المذكور في قوله: {يَسْعَى نُورُهُمْ} [الحديد: 12]. {ويَغْفِرْ لَكُمْ} ما أسلفتم من الكفر والمعاصي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الانتصاف: منع أبو علي الفارسي العطف، تعليلًا بأن الرهبانية لا تكون مجعولة لله تعالى، مع قوله:{ابْتَدَعُوهَا} ، فوقع في البدعة. والزمخشري أجاز العطف، لكن حرف الجعل إلى التوفيق اعتمادًا منهما أن ما يبتدعونه لا يجعله الله تعالى، وكفى بهذه الآية دليلًا عليهما مع الأدلة القطعية.

وقوله: {فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} ، تأكيد لخلق هذه الأفعال والمعاني بذكر محلها، وعلى مذهبهما لا يبقى لقوله:{فِي قُلُوبِ} فائدة، ويأبى كتاب الله أن يشتمل على ما لا موقع له.

قوله: (أي: نصيبين {مِن رَّحْمَتِهِ})، الراغب: الكفل: الحظ الذي فيه الكفاية، كأنه

ص: 260

[{لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ وأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} 29]

{لِئَلاَّ يَعْلَمَ} ليعلم {أَهْلُ الكِتَابِ} الذين لم يسلموا. و"لا" مزيدة، {أَلاَّ يَقْدِرُونَ} أن مخففة من الثقيلة، أصله: أنه لا يقدرون، يعني: : أن الشأن لا يقدرون {عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ} أي: لا ينالون شيئًا مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله، ولم يكسبهم فضلًا قط.

وإن كان خطابًا لغيرهم، فالمعنى: اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله، يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله:{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] ولا ينقصكم من مثل أجرهم، لأنكم مثلهم في الإيمانين، لا تفرقون بين أحد من رسله.

روي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جعفرًا رضي الله عنه في سبعين راكبًا إلى النجاشي يدعوه، فقدم جعفر عليه فدعاه فاستجاب له، فقال ناس ممن آمن من أهل مملكته وهم أربعون رجلًا: ائذن لنا في الوفادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن لهم، فقدموا مع جعفر وقد تهيأ لوقعة أحد، فلما رأوا ما بالمسلمين من خصاصة، استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعوا وقدموا بأموال لهم، فآسوا بها المسلمين،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تكفل بأمره، قال تعالى:{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]، والكفل: الكفيل، قال تعالى:{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} ، أي: كفلين من نعمته في الدنيا والآخرة، وهما المرغوب إلى الله فيهما، بقوله:{رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201].

ص: 261

فأنزل الله {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} إلى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 52 - 54]، فلما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله:{يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] فخروا على المسلمين وقالوا: أما من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين، وأما من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم، فما فضلكم علينا؟ فنزلت.

وروي أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين، وادعوا الفضل عليهم، فنزلت.

وقرئ: (لكي يعلم)، و (لكيلا يعلم)، و (ليعلم)، و (لأن يعلم)؛ بإدغام النون في الياء، و (لين يعلم)، بقلب الهمزة ياءً وإدغام النون في الياء. وعن الحسن:(ليلا يعلم)، بفتح اللام وسكون الياء. ورواه قطرب بكسر اللام. وقيل في وجهها: حذفت همزة (أن)، وأدغمت نونها في لام (لا)؛ فصار (للا) ثم أبدلت من اللام المدغمة ياءً، كقولهم: ديوان، وقيراط. زمن فتح اللام فعلى أن أصل لام الجر الفتح، كما أنشد:

أريد لأنسى ذكرها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}) أي: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} ، إلى آخر ثلاث آيات في سورة القصص.

قوله: (ديوان وقيراط) أصل الديوان: دوان، فعوض من إحدى الواوين ياء لأنه يجمع على دواوين، ولو كانت الياء أصلية لقيل: دياوين، وأصل قيراط: قراط، لأن جمعه قراريط، فأبدل من إحدى حرفي تضعيفه ياء، والدينار كذلك.

قوله: (أريد لأنسى ذكرها)، تمامه:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما .... تمثل لي ليلى بكل سبيل

ص: 262

وقرئ: (أن لا يقدروا) بيد الله في ملكه وتصرفه، واليد مثل، {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} ولا يشاء إلا إيتاء من يستحقه.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا يشاء ألا إيتاء من يسخطه) مذهبه.

تمت السورة

حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* * *

ص: 263

‌سورة المجادلة

مدنية وهي ثنتان وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ واللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 1]

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} قالت عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات! لقد كلمت المجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع، وقد سمع لها. وعن عمر أنه كان إذا دخلت عليه أكرمها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة المجادلة

مدنية وهي ثنتان وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات)، عن البخاري وأحمد بن حنبل والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد

ص: 264

وقال: قد سمع الله لها. وقرئ: (تحاورك) أي: تراجعك الكلام. و (تحاولك)، أي: تسائلك، وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة، رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت راودها فأبت، فغضب وكان به خفة ولمم، فظاهر منها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أوسًا تزوجني وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سني ونثرت بطني أي: كثر ولدي، جعلني عليه كأمه.

وروي أنها قالت له: إن لي صبيةً صغارًا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا. فقال: ما عندي في أمرك شيء. وروي أنه قال لها: "حرمت عليه"، فقالت: يا رسول الله، ما ذكر طلاقًا وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إلي،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمته من جانب البيت، وما أسمع ما تقول، فأنزل الله تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ} .

وفي رواية ابن ماجه: "قالت: يا رسول الله، أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إلى الله".

النهاية: وفي أسماء الله تعالى السميع، وهو: الذي لا يغيب عن إدراكه مسموع وإن خفي، فهو يسمع بغير جارحة.

قلت: معنى وسع سمعه الأصوات، نحو قوله: وسع كل شيء رحمتك وعلمك، وأنه أصل لقوله:{وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7].

الراغب: السمع قوة في الأذن بها تدرك الأصوات، فإذا وصف الله تعالى بالسمع فالمراد به علمه بالمسموعات وتحريه للمجازاة به، نحو:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} .

قوله: (قد سمع [الله] لها)، أي: أجابها، كقولك: سمع الله لمن حمده.

ص: 265

فقال: "حرمت عليه"، فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي، كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حرمت عليه"، هتفت وشكت إلى الله، فنزلت. {فِي زَوْجِهَا} في شأنه ومعناه. {إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} يصح أن يسمع كل مسموع ويبصر كل مبصر.

فإن قلت: ما معنى {قَدْ} في قوله: {قَدْ سَمِعَ} ؟ قلت: معناه التوقع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها.

[{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلاَّ اللاَّئِي ولَدْنَهُمْ وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا وإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ * والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2 - 4]

في {مِنكُمْ} توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار، لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصةً دون سائر الأمم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هتفت وشكت)، النهاية: قد هتف يهتف هتفًا، وهتف به هتافًا، إذا صاح به ودعاه، وفي الحديث:"فجعل يهتف بربه" أي: يدعوه ويناشده.

قوله: (في {مِنكُمْ} توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم)، يعني: الظاهر أن يقال: الذين يظاهرون من نسائهم، أقحم {مِنكُمْ} ليدمج فيه تهجين عادة العرب.

الانتصاف: استدل بعضهم على أنه لا يصح ظهار الذمي بقوله: {مِنكُمْ} ، وليس بالقوي، لأنه غير المقصود.

ص: 266

{مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} وقرئ بالرفع على اللغتين الحجازية والتميمية. وفي قراءة ابن مسعود: (بأمهاتهم) وزيادة الباء في لغة من ينصب.

والمعنى أن من يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ملحق في كلامه هذا للزوج بالأم، وجاعلها مثلها. وهذا تشبيه باطل لتباين الحالين.

{إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلاَّ اللاَّئِي ولَدْنَهُمْ} يريد أن الأمهات على الحقيقة إنما هن الوالدات، وغيرهن ملحقات بهن لدخولهن في حكمهن، فالمرضعات أمهات؛ لأنهن لما أرضعن دخلن بالرضاع في حكم الأمهات، وكذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين؛ لأن الله حرم نكاحهن على الأمة فدخلن بذلك في حكم الأمهات.

وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة لأنهن لسن بأمهات على الحقيقة، ولا بداخلات في حكم الأمهات، فكان قول المظاهر منكرًا من القول، تنكره الحقيقة وتنكره الأحكام الشرعية، وزورًا وكذابًا باطلًا منحرفًا عن الحق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على اللغتين)، قال صاحب "الكشف":{مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} حجازية، وقرأ المفضل برفع التاء، وجعلها تميمية.

قوله: (ملحق في كلامه)، خبر "أن"، وقوله:"وهذا تشبيه باطل"، معنى قوله:{مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} ، وفيه إشعار بأن خبر {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} محذوف، أي: مخطئون، وقوله:{مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} إلى آخره، بيان لخطئهم، كأنه قيل: الذين يشبهون نساءهم بأمهاتهم في قوله: أنت على كظهر أمي مخطئون، ما هن أمهاتهم، أي: هو تشبيه باطل لتباين الحالتين. وذهب صاحب "الكواشي" إلى أن الخبر: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} .

ص: 267

{وَإنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} لما سلف منه إذا تيب عنه ولم يعد إليه.

ثم قال: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يعني: والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام، ثم يعودون لمثله، فكفارة من عاد أن يحرر رقبةً ثم يماس المظاهر منها، لا تحل له مماستها إلا بعد تقديم الكفارة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر)، إشارة إلى أن التعريف للعهد، والمعهود ما دل عليه "توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم، لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم"، وفي إتيان المضارع إرادة معنى الاستمرار فيما مضى وقتًا فوقتًا، وهذا معنى قوله:"عادتهم".

الانتصاف: هذا الوجه يلزم الكفارة بمجرد لفظ الظهار حتى لو أردفه بالطلاق، أو ماتت المظاهر منها لزمته الكفارة، لأن العود حينئذ ليس إلا قول الظهار في الإسلام بخلافه في الوجوه، لأنه إنما تجب الكفارة حينئذ بالعود بعد الظهار، وهو قول علماء الأمصار.

الراغب: العادة اسم لتكرير الفعل أو الانفعال حتى يصير ذلك سهلًا تعاطيه كالطبع، ولذلك قيل: العادة طبيعة ثانية، وإعادة الشيء كالحديث وغيره: تكريره، قال تعالى:{سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: 21]، والعيد: كل حالة تعاود الإنسان، والعائدة: كل نفع يرجع إلى الإنسان من شيء ما، والعود: الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه، إما انصرافًا بالذات أو بالقول أو العزيمة.

وأما قوله: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} فعند أهل الظاهر هو أن يقول ذلك للمرأة ثانيًا، فحينئذ تلزمه الكفارة، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه: العود في الظهار هو أن يجامعها بعد الظهار، وعند الشافعي رضي الله عنه: هو إمساكها بعد وقوع الظهار مدة

ص: 268

ووجه آخر: ثم يعودون لما قالوا: ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه. ومنه المثل: عاد غيث على ما أفسد، أي: تداركه بالإصلاح.

والمعنى: أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظهار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يمكنه أن يطلق فيها فلم يفعل، وقال بعض المتأخرين: المظاهرة يمين، كقولك: امرأتي علي كظهر أمي إن فعلت كذا، فمتى فعل ذلك وحنث، يلزمه الكفارة ما بينه الله تعالى في هذا المكان. وقوله:{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يحمله على فعل ما حلف له أن لا يفعل، وذلك كقولك: فلان حلف ثم عاد إذا فعل ما حلف عليه.

قال الأخفش: قوله: {لِمَا قَالُوا} متعلق بقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} .

قوله: (عاد غيث على ما أفسد)، قال الميداني: قيل: إفساده: إمساكه، وعوده: إحياؤه، وإنما فسر على هذا الوجه لأن إفساده يصوبه لا يصلحه عوده، وقد قيل غير هذا، وذلك أنهم قالوا: إن الغيث يحفر ويفسد الحياض ثم يعفى بما فيه من البركة، يضرب للرجل فيه فساد ولكن الصلاح أكثر.

الجوهري: عفى على ما كان، إذا أصلح بعد الفساد.

قال أبو علي الفارسي في "الحجة" في تفسير قوله تعالى في البقرة: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} : فأما من ذهب من المتأخرين إلى أن الظهار لا يقع في أول مرة حتى يعيد المظاهرة

ص: 269

ووجه ثالث: وهو أن يراد ب (ما قالوا) ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار، تنزيلًا للقول منزلة المقول فيه؛ نحو ما ذكرنا في قوله تعالى:{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] ويكون المعنى: ثم يريدون العود للتماس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مرة أخرى، فيقول: أنت علي كظهر أمي، فإن الظهار ليس في ذلك ظهارًا، وذلك لأن العود على ضربين؛ أحدهما: أن يصير إلى شيء قد كان عليه قبل فتركه ثم صار إليه، والآخر: أن يصير إلى شيء وإن لم يكن على ذلك قبل، وهذا عند من خوطب بالقرآن مثل الأول في الظهور، وأنهم يعرفونه كما يعرفون ذلك، فمن ذلك قوله:

إذ السبعون أقصدني سراها .... وسارت في المفاصل والعظام

وصرت كأنني أقتاد عيرًا .... وعاد الرأس مني كالثغام

أي: صار لون رأسي كلون الثغام. وهو نبت أبيض إذا يبس يصير كالشعر الأبيض، يقال: أقصد السهم: أصاب فقتل على المكان.

واعلم أن حاصل معنى العود _على المختار_ راجع إلى أن يمسكها زمانًا يمكنه أن يطلقها فلا يطلقها، هذا في المطلق، وأما في المؤقت فأن يطأ في المدة، وفي الرجعية الرجعة كما ذكروه، وفي "ثم" الدلالة على أن العود أشد تبعة وأقوى إثمًا من نفس الظهار، ألا ترى أن الكفارة تتعلق بالعود لا بالظهار مطلقًا؟

قوله: (أن يراد بـ"ما قالوا" ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار)، يعني من الكف عن الاستمتاع بالمرأة من جماع أو لمس بشهورة، لأنه هو المقول فيه بلفظ الظهار، كقوله تعالى:

ص: 270

والمماسة: الاستمتاع بها من جماع، أو لمس بشهوة، أو نظر إلى فرجها بشهوة، {ذَلِكُمْ} الحكم {تُوعَظُونَ بِهِ} لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه.

فإن قلت: هل يصح الظهار بغير هذا اللفظ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80] أي: نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة، أي: نسمي ما يقول وهو: المال والولد.

الانتصاف: هذا يقوي أن العود هو الوطء، وهو من أقولا مالك، وجعل داود العود إعادة لفظ الظهار، ومن رأى العود العزم على الوطء قال: العود إلى القول عود بالتدارك لا بالتكرار، وتداركه نقضه بنقيضه الذي هو العزم على الوطء، ومن حمله على الوطء قال: هو المقصود بالمنع، ويحمل قوله:{مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أي: مرة ثانية، ورأى أكثر العلماء قوله:{مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} منعًا من الوطء قبل التكفير، حتى كأنه قال: لا يماس حتى يكفر.

وقال الواحدي: كثر الاختلاف في معنى العود هاهنا من المفسرين والفقهاء.

وقلت: القول المحصل ما ضبطه المصنف في الوجوه الثلاثة، وهو أن {يَعُودُونَ} إما مجرى على حقيقته، أو محمول على التدارك مجازًا، إطلاقًا لاسم المسبب على السبب، لأن المتدارك للأمر عائد إليه، وأن ما قالوا عبارة عن القول السابق، أو عن مسماه وهو تحريم الاستمتاع، والوجه الأول في "الكشاف" اللفظان فيه مستعملان في موضوعهما، وعلى القول الثاني وارد على الظاهر والمجاز في العود، والثالث عكس الأول، لورودهما مجازين، وهاهنا وجه رابع عكس الثاني كما يقال: ثم يعودون لما حرموه على أنفسهم من التماس والجماع.

ص: 271

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والوجه الأول: قول مجاهد والثوري، قال محيي السنة: ذهبا إلى أن الكفارة تجب بنفس الظهار، والمراد بالعود العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار.

وقال أهل الظاهر: العود هو إعادة لفظ الظهار، وإن لم يكرر اللفظ فلا كفارة عليه، وهو قول أبي العالية.

والوجه الثالث: قول مالك وأصحاب الرأي، قال محيي السنة: قال قوم: هو العزم على الوطء وهو قول مالك وأصحاب الرأي.

قال الواحدي: قالوا: لو عزم على الوطء كان عودًا فيلزمه الكفارة.

وقال الإمام: العود عند أبي حنيفة عبارة عن استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بشهوة لأنه لما شبهها بالأم في حرمة هذه الأشياء فعند استباحتها كان مناقضًا لقوله: أنت علي كظهر أمي.

والوجه الرابع: قول الحسن وقتادة وطاووس والزهري قالوا: لا كفارة عليه مال لم يطأها. وقال الإمام: هذا خطأ لأن تعقيب قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} بالفاء يوجب كون التكفير بعد العود، ويقتضي قوله:{مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أن يكون الجماع بعد التكفير.

ولعل المصنف إنما أهمل هذا الوجه لهذا، وإن اعتذر له صاحب "الانتصاف" ذلك العذر البعيد، والوجه الثاني عليه قول ابن عباس قال:{ثم يَعُودُونَ} : ثم يندمون فيرجعون إلى الألفة؛ لأن النادم والتائب متدارك لما صدر عنه بالتوبة والكفارة، وأقرب الأقوال إلى هذا

ص: 272

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما ذهب إليه الشافعي. قال محيي السنة: ذهب الشافعي إلى أن العود هو الإمساك عقيب الظهار زمانًا يمكنه أن يفارقها فلم يفعل، فإن طلقها عقيب الظهار في الحال أو مات أحدهما في الوقت فلا كفارة عليه، لأن العود للقول هو المخالفة، وقال الفراء: يقال: عاد فلان لما قال، أي: فيما قال، وفي نقض ما قال، يعني: رجع عما قال، وذلك يبين ما قال الشافعي، وذلك أن قصده بالظهار التحريم، فإذا أمسكها على النكاح فقد خالف قوله ورجع عما قاله وتلزمه الكفارة.

وقلت: تمام تقريره: أن حقيقة العود أن يصير الرجل إلى ما قد كان عليه قبل مباشرة هذا الفعل الطارئ، ولا شك أن الظهار تغيير حال كان عليه الرجل من التحليل، فإذا دام عليه ما يقتضيه الظهار من التحريم بأن يعقبه الطلاق، فقد جرى على ما ابتدأ به فلا كفارة، وأما إذا سكت فقد أذن بالرجوع إلى ما كان عليه قبل الظهار من إبقاء النكاح، كأنه قيل: والذين يعزمون على المفارقة والتحريم، ويتكلمون بذلك القول الشنيع، ثم يمسكون عنه زمانًا أمارةً على العود إلى ما كانوا عليه قبل الظهار، فكفارة ذلك كذا.

وقال الواحدي: قال أصحابنا: العود المذكور ها هنا صالح للجماع كما قال مالك، والعزم على الجماع كما قال أهل العراق، ولترك الطلاق كما قال الشافعي، وهو أول ما ينطلق عليه اسم العود، فوجب تعلق الحكم به لأنه الظاهر، وما زاد عليه يعرف بدليل آخر.

وقلت: بناء على هذه القضية ينبغي أن يكون الوجه الأول أولى الوجوه، لاسيما قول أهل الظاهر، لكن القول القوي هو ما اقتضاه المقام وساعده النظم الفائق، وهو قول حبر الأمة

ص: 273

قلت: نعم إذا وضع مكان (أنت) عضوًا منها يعبر به عن الجملة، كالرأس والوجه والرقبة والفرج، أو مكان الظهر عضوًا آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ. أو مكان الأم ذات رحم محرم منه؛ من نسب أو رضاع أو صهر أو جماع، نحو أن يقول: أنت علي كظهر أختي من الرضاع، أو عمتي من النسب، أو امرأة ابني أو أبي، أو أم امرأتي أو بنتها، فهو مظاهر، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وعن الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري وغيرهم رضوان الله عليهم نحوه.

وقال الشافعي: لا يكون الظهار إلا بالأم وحدها، وهو قول قتادة والشعبي.

وعن الشعبي: لم ينس الله أن يذكر البنات والأخوات والعمات والخالات؛ إذ أخبر أن الظهار إنما يكون بالأمهات الوالدات دون المرضعات. وعن بعضهم: لا بد من ذكر الظهر حتى يكون ظهارًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ابن عباس رضي الله عنهما، لأن ما قبله وهو قول الله تعالى:{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} كما سبق وارد على الذم على ما كانوا عليه في الجاهلية، وعلى أن ذلك كان منكرًا من القول وزورًا، وكذلك ما بعده أي قوله:{ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} تخويف شديد لمن ارتكب تلك الجناية، وكما قال المصنف:"الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية"، كأنه قيل: الذين يرتكبون تلك الجناية، ويقولون ذلك القول المنكر والزور ثم يرجعون يندمون لأجل ذلك القول، فكفارته ما ذكر، {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيجازيكم عليه، ثم قول الإمام الشافعي لقربه منه من حيث المعنى.

قوله: (أو جماع)، يريد به قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى: البنت المخلوقة من ماء الزاني يحرم وطؤها على الزاني خلافًا للشافعي رضي الله عنه، وأما قوله:"أو صهر" فيحمل على النكاح الصحيح والشبهة كما عند الشافعي.

قوله: (لا يكون الظهار إلا بالأم وحدها)، هذا خلاف ظاهر المذهب، وفي "الحاوي":

ص: 274

فإن قلت: فإذا امتنع المظاهر من الكفارة، هل للمرأة أن ترافعه؟

قلت: لها ذلك، وعلى القاضي أن يخبره على أن يكفر، وأن يحبسه؛ ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها، لأنه يضر بها في ترك التكفير والامتناع من الاستمتاع، فيلزم إيفاء حقها. فإن قلت: فإن مس قبل أن يكفر؟ قلت: عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر، لما روي أن سلمة بن صخر البياضي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها، فقال عليه الصلاة والسلام:"استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تشبيه المكلف غير البائنة وجزئها كالشعر بجزء محرم أنثى لم تكن حلًا، أي: كالأم والجدات والأخوات والعمات وغيرهن ظهار.

قوله: (لما روي أن سلمة بن صخر البياضي)، حديثه من رواية الترمذي وابن ماجه والدارمي عن سلمه قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيبب غيري، فلما دخل

ص: 275

فإن قلت: أي رقبة تجزئ في كفارة الظهار؟

قلت: المسلمة والكافرة جميعًا، لأنها في الآية مطلقة. وعند الشافعي رضي الله عنه لا تجزئ إلا المؤمنة لقوله تعالى في كفارة القتل:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]

ولا تجزئ أم الولد والمدبر والمكاتب الذي أدى شيئًا، فإن لم يؤد شيئًا جاز. وعند الشافعي: لا يجوز.

فإن قلت: فإن أعتق بعض الرقبة، أو صام بعض الصيام ثم مس؟

قلت: عليه أن يستأنف، نهارًا مس أو ليلًا، ناسيًا أو عامدًا عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد: عتق بعض الرقبة عتق كلها فيجزئه، وإن كان المس يفسد الصوم استقبل، وإلا بنى.

فإن قلت: كم يعطى المسكين في الإطعام؟

قلت: نصف صاع من بر، أو صاعًا من غيره عند أبي حنيفة، وعند الشافعي مدًا من طعام بلده الذي يقتات فيه.

فإن قلت: ما بال التماس لم يذكر عند الكفارة بالإطعام، كما ذكره عند الكفارتين؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شهر رمضان خفت فظاهرت حتى ينسلخ شهر رمضان، فينا هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فما لبثت أن نزوت عليها، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم قال:"حرر رقبة" قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها، وضربت صفحة رقبتي، قال:"فصم شهرين متتابعين" قلت: وهل أصبت ما أصبت إلا من الصيام؟ قال: "فأطعم وسقا من تمر ستين مسكينًا"، قلت: والذي بعثك بالحق نبيًا لقد بتنا وحشين ما أملك لنا طعامًا، قال:"فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر، وكل أنت وعيالك بقيتها" الحديث. بنو بياضة بطن من بني زريق.

النهاية: يقال: رجل وحش _بالسكون_ من قوم أوحاش؛ إذا كان جائعًا لا طعام له، وقد أوحش؛ إذا جاع.

ص: 276

قلت: اختلف في ذلك، فعند أبي حنيفة: أنه لا فرق بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس، وإنما ترك ذكره عند الإطعام، دلالةً على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم إذا وقع في خلاله، وعند غيره: لم يذكر للدلالة على أن التكفير قبله وبعده سواء.

فإن قلت: الضمير في {أَن يَتَمَاسَّا} إلام يرجع؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإنما ترك ذكره عند الإطعام، دلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام يستأنف كما يستأنف الصوم)، الانتصاف: يقال له: إذا جعلت ذكر التماس في بعضها، وترك ذكره في بعضها موجبًا للفرق، فلم جعلته مؤثرًا في أحد الحكمين دون الآخر؟ وله أن يقول: اتفقنا على التسوية بين الثلاث في هذا الحكم، وقد نطقت الآية بالتفرقة، فلم يمكن صرفه إلى ما وقع الاتفاق على التسوية فيه، صرفه إلى الآخر.

فإن قيل: فكان تقييده بالتماس في موضع واحد، ليحمل عليه المطلقان الباقيان كافيًا، فما فائدة ذكره بعد الصوم؟

والجواب: أن ذكره مع العتق يفيد تحريم الوطء قبله، ولا يتصور الوطء في أثناء العتق، إذ لا يتبعض ولا يتفرق، وإنما احتيج إلى الصيام الواقع على التوالي ليفيد تحريم الوطء قبل الشروع وبعد الشروع إلى التمام، ولو لم يذكر لذهب الوهم إلى تحريمه قبل الشروع خاصة، واستغني عن ذكره في الطعام بذكره في الصيام، لأنه مثله في التعدد والتوالي، وإمكان الوطء في خلاله، هذا على أن العتق لا يتجزأ، وعن ابن القاسم: من أعتق شقصًا من عبد يملك جميعه ثم إن أعتق بقيته عن الكفارة جاز، وهو خلاف القواعد.

فإن قيل: ارتفاع التحريم بالكفارة بعد التماس إما يشترط فيه عدم التماس أولًا، فإن كان الأول فلا يرتفع التحريم بالكفارة، وإن كان الثاني لزم ارتفاع التحريم بالكفارة التي يتخللها التماس.

ص: 277

قلت: إلى ما دل عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها. {ذَلِكَ} البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها لتصدقوا {بِاللهِ وَرَسُولِهِ} في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره، ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم {وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ} التي لا يجوز تعديها {وَلِلْكَافِرِينَ} الذين لا يتبعونها ولا يعملون عليها {عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

[{إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ ونَسُوهُ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 5 - 6]

{يُحَادُّونَ} يعادون ويشاقون {كُبِتُوا} أخزوا وأهلكوا {كَمَا كُبِتَ} من قبلهم من أعداء الرسل. قيل: أريد كبتهم يوم الخندق، {وقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به، {ولِلْكَافِرِينَ} بهذه الآيات {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهب بعزهم وكبرهم. {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ} منصوب بـ"لهم"، أو بـ {مُّهِينٌ} ، أو بإضمار "اذكر" تعظيمًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فجوابه أن التماس مناف لصحة الكفارة واعتبارها في رفع التحريم، فإن وقع قبل الشروع في الكفارة تعذر الحكم ببطلان الكفارة، لأن محل الحكم الذي هو الكفارة لم يوجد، أما إن وقع في أثنائها، فالمحل المحكوم فيه بعدم الصحة قائم، فوجب الحكم به، فهو كالحديث إذا كان قبل الطهارة لا يبطل شيئًا لم يوجد، وإن وقع في أثنائها أبطلها، تم كلامه.

قوله: (أو بإضمار "اذكر" تعظيمًا)، اعلم أن قوله:{ولِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} إما تتميم أو تذييل، كقوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] قال المصنف: " {عَلَى الْكَافِرِينَ} أي عليهم، وضعًا للمظهر موضع المضمر، للدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم، واللام للعهد، ويجوز أن تكون للجنس، فيدخلوا فيه دخولًا

ص: 278

لليوم، {جَمِيعًا} كلهم لا يترك منهم أحد غير مبعوث. أو مجتمعين في حال واحدة، كما تقول: حي جميع {فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} تخجيلًا لهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أوليًا"، كذلك ها هنا إذا جعل اللام في {لِلْكَافِرِينَ} للعهد، كان {لِلْكَافِرِينَ} وضعًا للمظهر موضع المضمر، والمعنى ما قال: "للكافرين الذين لا يتبعونها ولا يعملون عليها"، أي: لا يكدحون منها، ويكون {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ} متعلقًا بالجار والمجرور، وإليه الإشارة بقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ} منصوب بـ"لهم"، فوضع المضمر موضع "الكافرين"، فيكون تتميمًا، وإذا جعل اللام للجنس ليدخل فيه أولئك المحادون دخولًا أوليًا يكون تذييلًا، وينتصب الظرف بإضمار "اذكر لتمام الكلام هناك، فتستقل دلالة الجملة المبتدأة، فيعظم شأن اليوم، ويجتمع لهم ذل الدارين؛ لأن المراد بقوله:{عَذَابٌ مُّهِينٌ} : الذل والصغار في الدنيا، كما قال:{عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهب بعزهم وكبرهم"، والكبت: ما جرى عليهم يوم الخندق.

الراغب: قال: {عَذَابٌ مُّهِينٌ} لأن قبله {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ} فقد جعل الكبت جزاء من آثر حزبًا غير حزب الله ورسوله، وحدًا غير حدهما، والكبت: الإذلال قبل الغلب والقهر والتخييب، فلما أخبر الله تعالى بالكبت عمن حاد الله ورسوله وجانبهما وصار في حد غير حدهما، وصف العذاب الذي ينزل به بالإذلال والهوان، ويشهد لذلك ما جاء في خاتمة السورة:{إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} .

قوله: (حي جميع)، الأساس: هو جميع الرأي، وجميع الأمر، وحي جميع ورجل مجتمع: استوت لحيته وبلغت غاية شبابه.

ص: 279

وتوبيخًا وتشهيرًا بحالهم، يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار، لما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد، {أَحْصَاهُ اللَّهُ} أحاط به عددًا لم يفته منه شيء، {ونَسُوهُ} لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه، لم يبالوا به لضراوتهم بالمعاصي، وإنما تحفظ معظمات الأمور.

[{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ولا أَدْنَى مِن ذَلِكَ ولا أَكْثَرَ إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 7]

{مَا يَكُونُ} من (كان) التامة، وقرئ بالياء والتاء، والياء على أن النجوى تأنيثها غير حقيقي و {مِن} فاصلة؛ أو على أن المعنى ما يكون شيء من النجوى، والنجوى: التناجي، فلا تخلو إما أن تكون مضافةً إلى ثلاثة، أي: من نجوى ثلاثة نفر. أو موصوفةً بها، أي: من أهل نجوى ثلاثة، فحذف الأهل. أو جعلوا نجوى في أنفسهم مبالغةً، كقوله تعالى:{خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80] وقرأ ابن أبي علبة: (ثلاثةً وخمسةً)، بالنصب على الحال بإضمار"يتناجون"؛ لأن {نَجْوَى} تدل عليه، أو على تأويل {نَجْوَى} ب"متناجين"، ونصبها من المستكن فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإنما تحفظ معظمات الأمور)، بيان لتعليل {نَسَوْهُ} بقوله:"لأنهم تهاونوا به".

قوله: ({مَا يَكُونُ}، من "كان" التامة، وقرئ بالياء والتاء)، قال ابن جني: بالتاء: أبو جعفر وأبو حية، والتذكير الذي عليه العامة هو الوجه، لما فيه من الشياع وعموم الجنسية، كقولك: ما جاءني من امرأة، وما حضرني من جارية، وأما التأنيث فلاعتبار اللفظ، كما تقول: ما قامت امرأة ولا حضرت جارية، و {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ} .

قوله: (ونصبها)، بالجر عطف على "تأويل"، أو بالرفع فهو مبتدأ، خبره "من المستكن"،

ص: 280

فإن قلت: ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة؟

قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن قومًا من المنافقين تحلقوا للتناجي مغايظةً للمؤمنين على هذين العددين: ثلاثةً وخمسةً، فقيل: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك {ولا أَدْنَى} عدديهم {ولا أَكْثَرَ إلاَّ} والله معهم يسمع ما يقولون، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية: كانوا يومًا يتحدثون، فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضًا ولا يعلم بعضًا. وقال الثالث: إن كان يعلم بعضًا فهو يعلم كله، وصدق؛ لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها؛ لأن كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كل معلوم، والثاني: أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى، والمتخالين للشورى، والمندبون لذلك ليسوا بكل أحد، وإنما هم طائفة مجتباة من أولي النهى والأحلام، ورهط من أهل الرأي والتجارب، وأول عددهم: الاثنان فصاعدًا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، وحكم به الاستصواب. ألا ترى إلى عمر الخطاب رضي الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعني يجوز أن يكون {نَّجْوَى} بمعنى متناجين، ويكون نصب "ثلاثة" على الحال من الضمير المستكن في النجوى.

قوله: (بغير سبب)، أي: بغير سبب خارجي، يعني أن سبب العلم بذلك هو ذاته.

قوله: (والمندبون لذلك)، أصله: المنتدبون، فقلبت التاء دالًا وأدغم، أي: مدعون للشورى، يقال: ندبه لأمر فانتدب له، أي: دعاه له فأجاب.

الأساس: ندب لكذا أو إلى كذا، وفلان مندوب لأمر عظيم ومندب له.

قوله: (كيف ترك الأمر شورى بين ستة)، قال صاحب "الكامل في التاريخ": إن عمر ابن الخطاب لما طعن قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت؟ قال: لو كان أبو عبيدة حيًا

ص: 281

إلى سابع؟ فذكر عز وعلا الثلاثة والخمسة وقال: {ولا أَدْنَى مِن ذَلِكَ} فدل على الاثنين والأربعة، وقال {ولا أَكْثَرَ} فدل على ما يلي هذا العدد ويقاربه. وفي مصحف عبد الله: إلا الله رابعهم، ولا أربعة إلا الله خامسهم، ولا خمسة إلا الله سادسهم، ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا انتجوا. وقرئ:{ولا أَدْنَى مِن ذَلِكَ ولا أَكْثَرَ} ، بالنصب على أن "لا" لنفي الجنس. ويجوز أن يكون:(ولا أكثر)، بالرفع معطوفًا على محل "لا" مع {أَدْنَى} ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لاستخلفته، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيًا لاستخلفته، وقيل له: عبد الله بن عمر؟ قال: كيف أستخلف رجلًا عجز عن طلاق امرأته؟ ! ثم قال: إن استخلفت فقد استخلفت من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ثم قال: اجتمعت بعد مقالتي أن أولي رجلًا هو أحراكم أن يحملكم على الحق، وأشار إلى علي رضي الله عنه، فرهقتني غشية فرأيت رجلًا دخل جنة، فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمه إليه ويصيره تحته، فعلمت أن الله غالب على أمره، فما أردت أن أتحملها حيًا وميتًا، عليكم بهؤلاء الرهط الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنهم من أهل الجنة"، وهم: علي، وعثمان، وعبد الرحمن، وسعد، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، فليختاروا منهم رجلًا، فلما أصبح عمر دعاهم رضوان الله عليهم وقال: أني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنها فتشاوروا فيها

القصة بتمامها.

قوله: (فدل على الاثنين والأربعة)، فيكون التقدير: ولا اثنين إلا هو ثالثهما، ولا أربعة إلا هو خامسهم.

قوله: ({وَلَا أَكْثَرُ} بالنصب)، وهي المشهورة، وبالرفع شاذة.

قوله: (معطوفًا على محل "لا" مع {أَدْنَى})، قال:

لا أم لي إن كان ذاك ولا أب

ص: 282

كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، بفتح الحول ورفع القوة، ويجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء، كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن يكون ارتفاعهما عطفا على محل {مِن نَّجْوَى} كأنه قيل: ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم. ويجوز أن يكونا مجرورين عطفًا على {نَّجْوَى} ، كأنه قيل: ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم. وقرئ: (ولا أكبر) بالباء.

ومعنى كونه معهم: أنه يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه، فكأنه مشاهدهم ومحاضرهم، وقد تعالى عن المكان والمشاهدة. وقرئ:(ثم ينبئهم) على التخفيف.

[{أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ويَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ والْعُدْوَانِ ومَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وإذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ويَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المَصِيرُ} 8]

كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم، ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين، يريدون أن يغيظوهم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادوا لمثل فعلهم، وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين، وتواص بمعصية الرسل ومخالفته.

وقرئ: (ينتجون بالإثم والعدوان) بكسر العين، و (معصيات الرسول).

{حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} يعني أنهم يقولون في تحيتك: السام عليك يا محمد،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

و"لا" الثانية على هذا مؤكدة غير عاملة، كقولك: ليس زيد ولا أخوه منطلقين، أي: ليس زيد وأخوه منطلقين، فـ"لا" مزيدة للتأكيد.

قوله: (وقرئ: "ينتجون")، حمزة: بنون ساكنة بعد الياء، وضم الجيم، والباقون: بتاء مفتوحة بين الياء والنون وألف بعد النون وفتح الجيم.

قوله: (أنهم يقولون في تحيتك: السام عليك)، عن البخاري ومسلم والترمذي عن

ص: 283

والسام: الموت، والله تعالى يقول:{وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] و {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة: 67] و {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} : [الأنفال: 64].

{لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} كانوا يقولون: ما له إن كان نبيًا لا يدعو علينا حتى يعذبنا الله بما نقول، فقال الله تعالى:{حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} عذابًا.

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ والْعُدْوَانِ ومَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ والتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ولَيْسَ بِضَارِّهُمْ شَيْئًا إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ وعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} 9 - 10]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم، ويجوز أن يكون للمؤمنين، أي: إذا تناجيتم فلا تتشبهوا بأولئك في تناجيهم بالشر {وتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ والتَّقْوَى} .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه"، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عائشة رضي الله عنها قالت: أتى النبي صلى الله عليه وسلم ناس من اليهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال:"وعليكم" الحديث.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو: أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: السام عليكم، وقالوا في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول، فأنزل الله تعالى الآية.

قوله: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر،

ص: 284

وروي: "دون الثالث". وقرئ: (فلا تناجوا)، وعن ابن مسعود: إذا انتجيتم فلا تنتجوا. {إنَّمَا النَّجْوَى} اللام إشارة إلى النجوى بالإثم والعدوان، بدليل قوله تعالى:{لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} والمعنى: أن الشيطان يزينها لهم، فكأنها منه ليغيظ الذين آمنوا ويجزنهم {ولَيْسَ} الشيطان أو الحزن {بِضَارِّهُمْ شَيْئًا إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ} .

فإن قلت: كيف لا يضرهم الشيطان أو الحزن إلا بإذن الله؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه، ولا تباشر امرأة امرأة فتصفها لزوجها كأنه ينظر إليها" لا تباشر، أي: لا تنظر إلى بشرتها، لقوله: فتصفها.

قوله: (بدليل قوله: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا})، أي: التعريف منه للعهد، والمعهود شيئان أحدهما: قوله: {ويَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ والْعُدْوَانِ} ، وثانيهما قوله:{فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ والْعُدْوَانِ} فلا تتناجوا بالإثم والعدوان، والذي يدل على أن المراد الأول قوله:{لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} ، يعني إنما يحزن المؤمنون من تناجي اليهود والمنافقين، ويعضده جواب السؤال:"كانوا يوهمون المؤمنين".

قوله: (كيف لا يضرهم الشيطان والحز إلا بإذن الله؟ )، أي بخلقه وتقديره، كذا قدر الإمام، وقال الواحدي: أي ليس الشيطان بضارهم شيئًا إلا بما أراد الله ذلك، كان المؤمنون إذا رأوهم متناجين قالوا: لعلهم يتناجون بما بلغهم عن إخواننا الذين خرجوا في السرايا من قتل أو موت أو هزيمة، قال الله تعالى:{ولَيْسَ بِضَارِّهُمْ شَيْئًا} أي: بما أراد الله.

ص: 285

قلت: كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتغامزهم أن غزاتهم غلبوا، وأن أقاربهم قتلوا، فقال: ولا يضرهم الشيطان أو الحزن بذلك الموهم إلا بإذن الله، أي: بمشيئته، وهو أن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة على ألغزاة. وقرئ:{لِيَحْزُنَ} و (ليحزن).

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وإذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 11]

{تَفَسَّحُوا فِي المَجَالِسِ} توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم: افسح عني، أي: تنح؛ ولا تتضاموا. وقرئ: (تفاسحوا)، والمراد: مجلس رسول الله، وكانوا يتضامون فيه على القرب منه، وحرصًا على كلامه، وقيل: هو المجلس من مجالس القتال، وهي مراكز الغزاة، كقوله تعالى:{مَقَاعِدَ لِلقِتَالِ} [آل عمران: 121] وقرئ: {فِي المَجَالِسِ} قيل: كان الرجل يأتي الصف فيقول: تفسحوا، فيأبون لحرصهم على الشهادة. وقرئ:(في المجلس) بفتح اللام: وهو الجلوس،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: {لِيَحْزُنَ} و"ليحزن")، الثانية: لنافع، والأولى: للباقين.

قوله: (وقرئ: "تفاسحوا")، قال ابن جني: وهي قراءة الحسن، وهذا لائق بالغرض لأنه إذا قيل: تفسحوا لم يكن فيه صراح، بدليل:"ليفسح بعضكم عن بعض"، وإنما ظاهر معناه: ليكن هناك تفسح، وأما التفاسح فتفاعل، فهو لما فوق الواحد.

قوله: ({فِي المَجَالِسِ})، عاصم، والباقون:"في المجلس" بكسر اللام، والفتح شاذ.

ص: 286

أي: توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه، {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر وغير ذلك.

{انشُزُوا} انهضوا للتوسعة على المقبلين، أو انهضوا عن مجلس رسول الله إذا أمرتم بالنهوض عنه، ولا تملوا رسول الله بالارتكاز فيه، أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير إذا استنهضتم، ولا تثبطوا ولا تفرطوا. {يَرْفَعِ اللَّهُ} المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله، والعالمين منهم خاصة {دَرَجَاتٍ} ، .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والعالمين منهم خاصة {دَرَجَاتٍ})، الانتصاف: وقع في الجزاء رفع الدرجات مناسبة للعمل، لأن المأمور به تفسيح المجالس، لئلا يتنافسوا في القرب من المكان المرتفع بحلول الرسول فيه، فالمفسح حابس لنفسه عما يتنافس فيه من الرفعة تواضعًا فجوزي بالرفعة، كقوله: من تواضع لله رفعه الله، ثم لما علم أن أهل العلم يستوجبون رفع المجلس خصهم بالذكر ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعًا لله تعالى، يريد أنه من باب "ملائكته

وجبريل".

وقلت: وفي إدخال الذين أوتوا العلم في حكم رفع المنزلة بسبب امتثال الأوامر مع الذين آمنوا، ثم في إخراجهم عنهم والعطف عليهم مستقلة، إيذان بأن العمل الواحد تتفاوت درجة فاعله بحسب التخلي عن العلم والتحلي به إلى غايات بعيدة، وأن العمل مع علو رتبته يكتسي من العلم المقرون به من الرفعة ما لا يكتسبه إذا انفرد عنه، وقدر القاضي:{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ} : بالنصر وحسن الذكر في الدنيا، وإيوائهم غرف الجنان في الآخرة، ويرفع العلماء منهم خاصة درجات بما جمعوا بين العلم والعمل، ويعضده ما روى الدارمي عن ابن عباس قال: يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات

ص: 287

{واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ} قرئ بالتاء والياء. وعن عند الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه كان إذا قرأها قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "بين العالم والعابد مئة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنةً". وعنه عليه السلام: " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب"،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وروى محيي السنة عن ابن مسعود أنه قال: يا أيها الذين آمنوا افهموا معنى هذه الآية، ولترغبكم في العلم، فإن الله يرفع المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم.

وروعيت في هذا التركيب لطيفة وهي أن من يشهد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين أحد رجلين؛ عامل يسمع للعمل، وعالم عامل يسمع للعمل والاستنباط والتعليم، فأراد الله سبحانه وتعالى مدح الفريقين، وتفضيل أحدهما على الآخر من حيث لا يلزم منه نقصه، أتى بالعام وعطف عليه الخاص، وأبرزهما في معرض الجملتين، فيكون من باب عطف التقدير لا الانسحاب، فالدرجات ظرف للفعل المقدر، ويضمر للمذكور أحط منه مما ناسب المقام كما قدره القاضي، وهو على أسلوب قوله تعالى:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} قصد فيه إلى بينان فضل الذكر على الأنثى دون حط منزلة الأنثى، إذ لو قيل: للأنثى نصف حظ الذكر كان القصد إلى تنقيص الأنثى.

قوله: ({بِمَا تَعْمَلُونَ}، قرئ بالتاء) وهي المشهورة، وبالياء التحتانية: شاذة.

قوله: (حضر الجواد المضمر)، النهاية: الحضر بالضم: العدو، وأحضر يحضر، فهو محضر: إذا عدا، وتضمير الخيل: هو أن يظاهر بالعلف حتى تسمن، ثم لا تعلف إلا قوتًا لتخف.

قوله: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، الحديث بطوله أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي عن أبي الدرداء.

ص: 288

وعنه عليه السلام: "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء، ثم الشهداء" فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة، بشهادة رسول الله! وعن ابن عباس: خير سليمان بين العلم والمال والملك، فاختار العلم فأعطي المال والملك معه. وقال عليه السلام:"وأوحى الله إلى إبراهيم: يا إبراهيم، إني عليم أحب كل عليم". وعن بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم! وأي شيء فات من أدرك العلم! وعن الأحنف: كاد العلماء يكونون أربابًا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعن الدارمي عن عمرو بن كثير عن الحسن أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، فينه وبين النبيين درجة واحدة".

قوله: (كاد العلماء يكونون أربابًا)، هذا من الغلو، ويمكن أن يذهب بهذا الحكم إلى معنى الإلحاق، كما تقول: كاد زيد يكون أسدًا، أي: قرب أن يلحق بالأسد لما فيه من الجرأة، وأن يراد التحويل نحو: كاد زيد أن يكون أميرًا.

والإلحاق يستدعي المساواة من كل الوجوه، والعلماء إذا تخلقوا بأخلاق الله بقدر استعدادهم لكونهم دعاة للخلق إلى دين الله هداة قادة إلى صراطه المستقيم صح أن يتخصصوا به، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها

" الحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة، هذا إذا اعتبر في الرب معنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئًا فشيئًا، لأن الناس مفتقرون إليهم في أمور معاشهم ومعادهم، وهم خلفاء الله في أرضه، وأما إذا نظر إلى معنى المالكية فيحمل الحكم على التحويل، أي: كادوا يكونون ملوكًا وأمراء لما بأيديهم أزمة الحل والعقد، كما جاء في تفسير قوله:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] عن ابن عباس:

ص: 289

وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير. وعن الزبيري: العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال.

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وأَطْهَرُ فَإن لَّمْ تَجِدُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا وتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ واللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 12 - 13]

{بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ} استعارة ممن له يدان. والمعنى: قبل نجواكم كقول عمر: من أفضل ما أوتيت العرب الشعر، يقدمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أولو الأمر: الفقهاء والعلماء، الذين يعلمون الناس معالم دينهم، في "المعالم".

وعن الدارمي عن عطاء: أولو الأمر: أولو العلم، ويعضد هذا الوجه قوله:"وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير".

قوله: (لم يوطد)، قال ابن الأثير: يقال: وطدت الأرض أطدها؛ إذا دستها لتتصلب.

الجوهري: وطدت الشيء أطده وطدًا، أي: أثبته وثقلته، والتوطيد مثله.

قوله: (العلم ذكر)، أي: العلم صفة كمال لا ينتجه إلا الكملة، لأنه مركوز في الجبلة كمال الذكر ونقصان الأنثى، ومن ثم يقولون: هو الرجل، وقال تعالى:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} ، عيب عليهن صفة النساء، من النشاء في الزينة والنعومة، وسلب عنهن صفة الرجال من البيان في المقال، ومجاراة الخصوم في القتال.

ص: 290

ويستنزل به اللئيم، يريد: قبل حاجته، {ذَلِكَ} التقديم خير {خِيْرٌ لَكُمْ} في دينكم {وَأَطْهَرُ} لأن الصدقة طهرة.

روي أن الناس أكثروا مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريدون حتى أملوه وأبرموه، فأريد أن يكفوا عن ذلك، فأمروا بأن من أراد أن يناجيه، قدم قبل مناجاته صدقةً.

قال علي رضي الله عنه: لما نزلت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما تقول في دينار؟ "

قلت: لا يطيقونه. قال: "كم؟ " قلت: حبةً أو شعيرةً؛ قال: "إنك لزهيد"، فلما رأوا ذلك اشتد عليهم فارتدعوا وكفوا، أما الفقير فلعسرته، وأما الغني فلشحه.

وقيل: كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقيل: ما كان إلا ساعةً من نهار. وعن علي رضي الله عنه: إن في كتاب الله لآيةً ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان لي دينار فصرفته، فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم. قال الكلبي: تصدق به في عشر كلمات سألهن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عمر: كان لعلي ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى.

قال ابن عباس: هي منسوخة بالآية التي بعدها، وقيل: هي منسوخة بالزكاة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قال علي: لما نزلت)، الحديث، أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه إلى قوله:"إنك لزهيد"، قال: فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الآية، قال: في خفف الله عن هذه الأمة. وروى رزين عنه: ما عمل بهذه الآية غيره.

لزهيد، أي: إنك قليل الرغبة في الدنيا، فلا جرم قدرت على حسب رغبتك فيها.

ص: 291

{أَأَشْفَقْتُمْ} أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه، وأن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء {فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا} ما أمرتم به وشق عليكم، و {وتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} وعذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوه، فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات. {بِمَا تَعْمَلُونَ} قرئ بالتاء والياء.

[{أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ ولا مِنْهُمْ ويَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ ولا أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} 14 - 19]

كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فلا تفرطوا في الصلاة)، أشعر بأنه جعل:{فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} جوابًا لقوله: {فَإذْ لَمْ تَفْعَلُوا} قال أبو البقاء: قيل: إذ بمعنى "إن" الشرطية، وقيل: هي على بابها ماضية، والمعنى: أنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بإقامة الصلاة.

وقلت: إنما قال: لا تفرطوا في الصلاة، لأن معنى الإقامة توفية حدودها وإدامتها.

الراغب: وفي تخصيص الإقامة تنبيه على أنه لم يرد إيقاعها فقط، ولهذا لم يؤمر بالصلاة ولم يمدح بها إلا بلفظ الإقامة، وكثير من الأفعال التي حث الله على توفية حقه، ذكره بلفظ الإقامة، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 66]{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ} [الرحمن: 9].

ص: 292

{مَّا هُم مِّنكُمْ} يا مسلمون {ولا مِنْهُمْ} ولا من اليهود، كقوله تعالى:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143]، {ويَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ} أي يقولون: والله إنا لمسلمون، فيحلفون على الكذب الذي هو ادعاء الإسلام {وهُمْ يَعْلَمُونَ} أن المحلوف عليه كذب بحت.

فإن قلت: فما فائدة قوله: {وهُمْ يَعْلَمُونَ} ؟

قلت: الكذب: أن يكون الخبر لا على وفاق المخبر عنه، سواء علم المخبر أو لم يعلم، فالمعنى: أنهم الذين يخبرون، وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه، وهم عالمون بذلك متعمدون له، كمن يحلف بالغموس. وقيل: كان عبد الله بن نبتل المنافق يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه:" يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان"، فدخل ابن نبتل وكان أزرق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" علام تشتمني أنت وأصحابك؟ " فحلف بالله ما فعل، فقال عليه السلام:" فعلت" فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت.

{عَذَابًا شَدِيدًا} نوعًا من العذاب متفاقمًا، {إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني أنهم كانوا في الزمان الماضي المتطاول على سوء العمل مصرين عليه. أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة. وقرئ:(إيمانهم) بالكسر، أي: اتخذوا أيمانهم التي حلفوا بها، أو إيمانهم الذي أظهروه {جُنَّةً} أي: سترة يتسترون بها من المؤمنين ومن قتلهم {فَصَدُّوا} الناس في خلال أمنهم ولامتهم {عَن سَبِيلِ اللَّهِ} وكانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويضعفون أمر المسلمين عندهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "إيمانهم"، بالكسر)، قال ابن جني: قرأها الحسن، هذا على حذف المضاف، أي: اتخذوا إظهار إيمانهم جنة، وفيه لف ونشر.

ص: 293

وإنما وعدهم الله العذاب المهين المخزي لكفرهم وصدهم، كقوله تعالى:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88]. {مِّنَ اللَّهِ} من عذاب الله {شَيْئًا} قليلًا من الإغناء. وروي أن رجلا منهم قال: لننصرن يوم القيامة بأنفسها وأموالنا وأولادنا. {فَيَحْلِفُونَ} لله تعالى على أنهم مسلمون في الآخرة {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} في الدنيا على ذلك، {ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} من النفع، يعني: ليس العجب من حلفهم لكم، فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر، وأن لهم نفعًا في ذلك: دفعًا عن أرواحهم، واستجرار فوائد دنيوية، وأنهم يفعلونه في دار لا يضطرون فيها إلى علم ما يوعدون، ولكن الغجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة مع عدم النفع والاضطرار إلى علم ما أنذرتهم الرسل، والمراد: وصفهم بالتوغل في نفاقهم ومرونهم عليه، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل، كما قال:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28].

وقد اختلف العلماء في كذبهم في الآخرة، والقرآن ناطق بثباته نطقًا مكشوفًا كما ترى هذه الآية وفي قوله تعالى:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 23 - 24] ونحو حسبانهم أنهم على شيء من النفع إذا حلفوا استنظارهم المؤمنين ليقتبسوا من نورهم، لحسبان أن الإيمان الظاهر مما ينفعهم.

وقيل: عند ذلك يختم على أفواههم.

{أَلا إنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ} يعني أنهم الغاية التي لا مطمح وراءها في قول الكذب،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا يضطرون فيها إلى علم ما يوعدون)، يعني: أنهم في الدنيا إذا أوعدوا بشيء من العذاب لا يقفون على حقيقته ضرورة، بخلافه في الآخرة.

قوله: (ومرونهم عليه)، الجوهري: مرن على الشيء يمرن مرونًا ومرانةً: تعوده واستمر عليه.

قوله: (لحسبان أن الإيمان)، علة لحسبانهم أنهم على شيء.

ص: 294

حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ} استولى عليهم، من: حاذ الحمار العانة: إذا جمعها وساقها غالبًا لها. ومنه: كان أحوذيًا نسيج وحده، وهو أحد ما جاء على الأصل، نحو: استصوب واستنوق، أي: ملكهم {الشَّيْطَانُ} لطاعتهم له في كل ما يريده منهم، حتى جعلهم رعيته وحزبه {فَأَنسَاهُمْ} أن يذكروا الله أصلًا، ولا بقلوبهم ولا بألسنتهم. قال أبو عبيدة: حزب الشيطان: جنده.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من: حاذ الحمار العانة)، الراغب: الحوذ أن يتبع السائق حاذي البعير، أي: أدبار فخديه فيعنف في سوقه، وقوله:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} أي: استاقهم مستوليًا عليهم، أو من قولهم: استحوذ العير على الأتان، أي: استولى على حاذيها أي: جانبي ظهرها، ويقال: استحاذ وهو القياس، واستعارة ذلك كقولهم: اقتعده الشيطان وارتكبه، والأحوذي: الخفيف الحاذق بالشيء من الحوذ أي: السوق.

قوله: (ومنه: كان أحوذيًا)، الأساس: ومن المجاز: رجل أحوذي يسوق الأمور أحسن المساق لعلمه بها.

قوله: (نسيج وحده)، النهاية: في حديث عمر رضي الله عنه: يدلني على نسيج وحده، يريد رجلًا لا عيب فيه، وأصله أن الثوب النفيس لا ينسج على منواله غيره، وهو فعيل بمعنى مفعول، ولا يقال إلا في المدح.

قوله: (وهو أحد ما جاء على الأصل)، قال الزجاج: استحوذ: استولى، يقال: حذت الإبل وحزتها إذا استوليت عليها وجمعتها، وهذا مما خرج على أصله، ومثله: أحوذت وأطيبت، والأكثر: أحذت وأطبت، إلا أن استحوذ، جاء على الأصل لأنه لم يقل: على حاذ، لأنه إنما بنى استفعل في أول وهلة، كما بنى افتقر على افتعل من الفقر، ولم يقل: منه فقر، ولا استعمل بغير

ص: 295

[{إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} 20]

{فِي الأَذَلِّينَ} في جملة من هو أذل خلق الله لا ترى أحدًا أذل منهم.

[{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 21]

{كَتَبَ اللَّهُ} في اللوح {لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورُسُلِي} بالحجة والسيف، أو بأحدهما.

[{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ويُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} 22]

{لا تَجِدُ قَوْمًا} من باب التخييل. خيل أن من الممتنع المحال: أن تجد قومًا مؤمنين يوالون المشركين. والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

زيادة، ولم يقل: حاذ عليهم الشيطان، ولو جاء استحاذ لكان صوابًا، ولكن استحوذ هاهنا أجود، لأن الفعل في هذا المعنى لا يستعمل إلا بزيادة.

قوله: (من باب التخييل)، أي: من تنزيل الموجود الكائن منزلة المعدوم الذي لا يمكن تصوره إلا في خزانة الخيال. قال الشاعر:

وكأن محمر الشقيـ .... ـق إذا تصوب أو تصعد

أعلام ياقوت نشر .... ن على رماح من زبرجد

ص: 296

وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانية أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم، وزاد ذلك تأكيدًا وتشديدًا بقوله:{ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} وبقوله: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} وبمقابلة قوله: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19] بقوله: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} فلا تجد شيئا أدخل في الإخلاص من موالاة أوليا الله ومعاداة أعدائه، بل هو الإخلاص بعينه. {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} أثبته فيها بما وفقهم فيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإليه أشار بقوله: "حقه أن يمنع ولا يوجد بحال مبالغة". ويجوز أن يكون من باب الكناية، فنفى الوجدان لانتفاء الموجودين، كما نفى العلم في قوله تعالى:{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} [يونس: 18] الانتفاء المعلوم، ولأن الخطاب عام، كأنه قيل: أيها المخاطب، إنك إذا تقصيت في الدنيا قومًا قومًا، لا تجد قومًا يجمع بين الإيمان بالله، وبين موادة أعدائه.

قوله: ({كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ}، أثبته فيها بما وفقهم فيه)، جعل الكتب بمعنى الإثبات بسبب توفيق الطاعات وقيامهم عليها، قال القاضي: وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، لأن أعمال الجوارح لا تثبت فيها.

قلت: وقد نقلنا عن "شرح السنة" أن مذهب السلف الصالح أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، فمعنى الآية أن يقال: إن ذكر القلب وثبوت الإيمان ها هنا، كذكره وثبوت الإثم فيه في قوله تعالى:{فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ} [البقرة: 283] لأنه رئيس الأعضاء، وحصول الإيمان فيه كحصوله في سائر الجسد، لأنه المضغة التي إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ولا ارتياب أن رسوخ الإيمان في القلب إنما يكون بآداب الجوارح في الأعمال الصالحة ومواظبتها عليها، ألا ترى كيف أتى باسم الإشارة بعد أن وصف القوم

ص: 297

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالتصلب في دين الله ومجانبة أعداء الله، ومباعدة الأقارب وإن كانوا آباءهم والاحتراس عن معاشرتهم! فكيف يستتب ذلك بمجرد التصديق؟ !

الراغب: الكتب: ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي التعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، والأصل في الكتابة النظم بالخط وفي المقال النظم باللفظ، ويعبر عن الإثبات والتقدير والإيجاب والفرض بالكتابة، ووجه ذلك: أن الشيء يراد ثم يقال ثم يكتب، فالإرادة مبتدأ والكتابة منتهى، ثم يعبر عن المراد الذي هو المبتدأ إذا أريد به توكيده بالكتابة التي هي المنتهى، قال الله تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورُسُلِي} [المجادلة: 21]، وقوله تعالى:{أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22] فيه إشارة إلى أنهم بخلاف {مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28]، لأن معنى {أَغْفَلْنَا} من أغفلت الكتاب: إذا جعلته خاليًا من الكتابة ومن الإعجام. وقوله: {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94] إشارة إلى أن ذلك مثبت له ومجازى به. انتهى كلامه.

فإن قلت: أي الكتبتين _أعني: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ} و {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ} _ أبلغ؟

قلت: كل منهما مدل بنوع من التوكيد، وبضرب من التقرير، فالأولى: مؤكدة بلام القسم والنون وبالضمير تمهيدًا لذكر المرسلين على منوال قوله تعالى: {يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] أي: يؤذون رسوله، وإلا فالله الغالب أبدًا، ونظيره قوله تعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].

ص: 298

وشرح له صدورهم {وأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} بلطف من عنده حييت به قلوبهم.

ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي: بروح من الإيمان، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به. وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان.

وعن عبد العزيز بن أبي رواد: انه لقيه المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول: " اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة، فإني وجدت فيما أوحيت إلى: {لا تَجِدُ قَوْمًا} ". وروي أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما الثانية: فبذكر القلوب وإثبات الإيمان فيه، ثم التوفيق بتأييدهم بروح من الله، وإدخالهم دار النعيم والخلد المقيم، ثم حلول الرضوان، ورضوان من الله أكبر، وتسميتهم بحزب الله ووسمهم بسمة حقيقة الفلاح والفوز بالمباغي. اللهم اجعلنا من الفائزين وأدخلنا في عبادك الصالحين.

قوله: (بلطف من عنده)، قال القاضي: وهو نور القلب أو القرآن أو النصر على أعداء الله. قال سهل رحمه الله: حياة الروح بالذكر، وحياة الذكر بالذاكر، وحياة الذاكر بالمذكور.

قوله: (وعن عبد العزيز بن أبي رواد)، ويروى "وراد" ويروى "رواح"، ولعل الصحيح الأول، قال صاحب "الكاشف" في كتاب "أسماء الرجال في معرفة من له ذكر في الكتب الستة": عبد العزيز بن أبي رواد _بفتح الراء وتشديد الواو_ مولى المهلب بن أبي صفرة، روى عن عكرمة وسالم، وكان ثقة عابدًا معمرًا مات سنة ثلاثين ومئة.

ص: 299

وذلك أن أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصكه سقط منها، فقال له رسول الله:" أو فعلته؟ " قال: نعم، قال:" لا تعد" قال: والله لو كان السيف قريبًا مني لقتلته. وقيل في أبي عبيدة بن الجراح: قتل أباه عبد الله الجراح يوم أحد. وفي أبي بكر: دعا ابنه يوم بدر إلى البراز،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا لم أجده في الكتب التي يعتمد عليها، وفي "الاستيعاب" أن أبا قحافة عثمان بن عامر، والد أبي بكر رضي الله عنهما، أسلم يوم فتح مكة، وفي "الجامع" وعاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه، وأما قتل أبي عبيدة أباه فروينا عن البخاري ومسلم عن أنس قال: كان قتل أباه وهو من جملة أسارى بدر ببدر بيده لما سمع منه في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره، ونهاه فلم ينته.

ص: 300

وقال لرسول الله: دعني أكر في الرعلة الأولى: الأولى: قال: " متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري! " وفي مصعب بن عمير: قتل أخاه عبيدًا بن عمير يوم أحد. وفي عم بن الخطاب: قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي علي وحمزة وعبيدة بن الحارث: قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في الرعلة الأولى)، النهاية: يقال للقطيعة من الفرسان: رعلة، ولجماعة الخيل: رعيل.

قوله: (وفي علي وحمزة وعبيدة بن الحارث)، روى أبو داود عن علي رضي الله عنه: لما كان يوم بدر تقدم عتبة بن ربيعة ومعه ابنه وأخوه، فنادى من يبارز؟ إلى قوله: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحارث" فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة.

وفي رواية رزين: قال علي: فأما أنا وحمزة فأنجزنا صاحبينا، وأما عبيدة والوليد فأثخن كل واحد منهما صاحبه. الحديث.

قوله: (كتب من حزب الله)، روى السلمي عن أبي عثمان:"حزب الله: من يغصب لله ولا تأخذه في الله لومة لائم".

تمت السورة

حامدًا لله تعالى ومصليًا على رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 301

‌سورة الحشر

مدنية، وهي أربع وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} 1 - 2]

صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه لا يكونوا عليه ولا له، فلما ظهر يوم بدر قالوا: هر النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الحشر

مدنية وهي أربع وعشرون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

قوله: (لا ترد له راية)، كناية عن نصرته، وعدم خذلان من عقد له راية من أمراء السرايا، ومضي أمره، ونفوذ سلطانه، وعلو مرتبته وشأنه، قال الحطيئة:

ص: 302

ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبًا غيلة وكان أخاه من الرضاعة، ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف، فقال لهم: اخرجوا من المدنية، فقالوا: الموت أحب إلينا من ذاك، فتنادوا بالحرب. وقيل: استمهلوا رسول الله عشرة أيام ليتجزوا للخروج، فدس عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه إليهم: لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، ولئن خرجتم لنخرجن معكم، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إذا ما راية رفعت لمجد .... تلقاها عرابة باليمين

قوله: (فحالفوا عليه)، أي: على ضرره صلوات الله عليه، الجوهري: حالفه: عاهده وتحالفوا: أيك تعاهدوا، وضمن حالفوا معنى الاجتماع، أي: اجتمعوا عليه مخالفين.

وعن بعضهم: وحالفوا عليه، أي: تألبوا عليه، واجتمعوا على خلافه.

قوله: (فقتل كعبًا غيلة)، النهاية: وهي أن يخدع ويقتل في موضع لا يراه فيه أحد، والغيلة: فعلة من الاغتيال، وكان من حديث قتله على الاختصار من رواية البخاري ومسلم وأبي داود عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من لكعب فإنه آذى الله ورسوله؟ " قال محمد بن سلمة: أتحب أن أقتله؟ قال: "نعم" قال: ائذن فلأقل، قال:"قل"، فأتاه وتكلم بما شاء من الكذب، وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر، فجاؤوا ليلًا ودعوه، فقالت امرأته: إني لأسمع صوت دم، قال: إنما هو محمد رضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلًا لأجاب، فلما نزل قتلوه.

قوله: (ثم صبحهم بالكتائب)، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (فدس)، الدس هو إخفاء المكر والخديعة، أي: بعث إليهم خفية هذا القول.

ص: 303

فدربوا على الأزقة وحصنوها فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة، فلما قذف الله الرغب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين: طلبوا الصلح، فأبى عليهم إلا الجلاء؛ على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات، إلا أهل بيتين منهم: آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب، فأنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة.

اللام في {لأَوَّلِ الحَشْرِ} تتعلق بـ {أَخْرَجَ} ، وهي اللام في قوله تعالى:{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] وقولك: جئته لوقت كذا. والمعنى: أخرج الذين كفورا عند أول الحشر. ومعنى أو الحشر: أن هذا أول حشرهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط، وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام.

أو هذا أول حشرهم؛ وآخر حشرهم: إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام. وقيل:

آخر حشرهم حشر يوم القيامة؛ لأن المحشر يكون بالشام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فدربوا على الأزقة)، النهاية: يقال: الدرب- بفتح الراء- للنافذ من المدخل، وبالسكون؛ لغير النافذ.

قوله: (وهي اللام في قوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24])، أي: لوقت حياتي. الانتصاف: كأنه يشير إلى لام التاريخ، كقوله: كتبته لعام كذا أو لشهر كذا.

قوله: (من جزيرة العرب)، روي الزجاج عن الخليل أنه قال: جزيرة العرب معدنها ومسكنها، وإنما سمي بها لأن بحر الحبشة وبحر فارس والفرات ودجلة قد أحاطت بها وهي أرضها ومعدنها، قد سبق في أول البقرة فيها كلام مشبع.

ص: 304

وعن عكرمة: من شك أن المحشر هاهنا- يعني الشام- فليقرأ هذه الآية. وقيل: معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم؛ لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا} لشدة بأسهم ومنعتهم، ووثاقة حصونهم، وكثرة عددهم وعدتهم، وظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله {فَأَتَاهُمُ} أمر الله {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم: وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرة على يد أخيه، وذلك مما أضعف قوتهم وفل من شوكتهم، وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة بما قذف فيها من الرعب، وألهمهم أن يوافقوا المؤمنين في تخريب بيوتهم ويعينوا على أنفسهم، وثبط المنافقين الذين كانوا يتولونهم عن مظاهرتهم. وهذا كله لم يكن في حسبانهم. ومنه أتاهم الهلاك.

فإن قلت: أي فرق بين قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم، وبين النظم الذي جاء عليه؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: معناه أخرجهم)، عطف على قوله:"أخرج الذين كفروا عند أول الحشر"، على الأول منسوب إلى اليهود، وعلى الثاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

النهاية: في الحديث: "انقطعت الهجرة إلا من ثلاث؛ جهاد أو نية أو حشر" أي: جهاد في سبيل الله، أو نية يفارق بها الرجل الفسق والفجور إذا لم يقدر على تغييره، والحشر هو الجلاء عن الأوطان بما ينال الناس من الخطب، وقيل: أراد بالحشر الخروج في النفير إذا عم.

قوله: (غرة)، الأساس: الغرة: الغفلة، يقال: اغتررت الرجل: إذا طلبت غرته، أي: غفلته.

ص: 305

قلت: في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم؛ وفي تصيير ضميرها اسمًا ل"أن" وإسناد الجملة إليه: دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة، لا يبالى معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم؛ وليس ذلك في قولك: وظنوا أن حصونهم تمنعهم. وقرئ: (فآتاهم الله) أي: فآتاهم الهلاك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها)، قال صاحب "الفرائد": وليس بذلك، بل {حُصُونُهُم} مرتفعة بـ {مَّانِعَتُهُمْ} لأن اسم الفاعل إذا كان متعمدًا عمل، وهو خبر أن مع مرفوعها، مثله عن صاحب "الفلك الدائر" قال: إن {حُصُونُهُم} لا ترتفع بأنه مبتدأ كما ظنه إلا على وجه ضعيف، والصحيح أنه فاعل {مَّانِعَتُهُمْ} ، فـ {مَّانِعَتُهُمْ} اسم فاعل معتمد على ما قبله، لأنه في الحقيقة خبر المبتدأ، فيعمل فيما بعده عمل الفعل، نحو: زيد قائم أبوه. وكذا عن صاحب "الكشف".

وقلت: صاحب المعاني لا ينظر إلا إلى أصل المعنى، ثم إلى فائدة عدو له عن أصله، ولا شك أن أفعال القلوب من دواخل المبتدأ والخبر، وأن الأصل: ظنوا أن لا يخرجوا لقوله: {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا} بناء على قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ليطابق ما قبله بإيقاع الناصبة للفعل بعدها، فخولف ليؤذن بأن ظن المؤمنين كان على الرجاء والطمع، وظنهم على العلم واليقين، فعلم من التأسيس أن بناء أمره على الجزم والثبوت، ثم في المرتبة الثانية، ظنوا أن حصونهم تمنعهم نظرًا إلى كلام أوساط الناس كما يعلم من مفهوم سؤاله، ثم لما أريد مزيد التوكيد قيل: ظنوا أن حصونهم لإفادة التخصيص، وأن ليس لحصونهم صفة سوى المنع، وأنه

ص: 306

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لابد منه، وإليه أشار بقوله:"دليل على فرط وثوقهم بحصانتها"، ثم في المرتبة الرابعة ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم ليتقوى الحكم لإفادة تكثير الإسناد، وهو المراد من قوله:"دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض لهم"، وإن لم يرد ما ذكر فما بال الترتيب لم يترك على أصله وهو: ظنوا أن لا يخرجوا؟ !

وأما قوله: إن حصونهم لا ترتفع بأنه مبتدأ كما ظنه إلا على وجه ضعيف، فيقال: إن صاحب المعاني كم له اختيار الوجه الضعيف عند التحري لاعتبار المعنى القوي، ألا ترى إليهم كيف حملوا قوله:"رجل عرف" على التقديم بناء على اللغة الضعيفة وهو: أكلوني البراغيث، والنحوي لا يبثه! وإلى قول المرزوقي في قوله:

وإن لم يكن إلا معرج ساعة .... قليلًا فإني نافع لي قليلها

يجوز أن يكون "قليلها" مبتدأ و"نافع" خبر له مقدم عليه، والتقدير: فإني قليلها نافع لي. فسلك أبو مسلم في هذه الآية هذا المسلك.

فإن قلت: كيف دل {أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم} على تقوى الحكم، لأن ليس مثل:"هو عرف" و"زيد عرف"، في تكرر الإسناد؟

قلت: تكرر الإسناد كما يكون من جهة تكرر المسند إليه قد يكون من جهة غيره، كما تقول: ضربت زيدًا ثم زيدًا ضربته، فالثاني تكرر فيه الإسناد وقوي الحكم فيه بخلاف الأول.

قال ابن جني: قالوا: زيد ضربته، فقدموا المفعول؛ لأن الغرض هاهنا ليس ذكر الفاعل،

ص: 307

والرعب: الخوف الذي يرغب الصدر، أي يملؤه؛ وقذفه: إثباته وركزه، ومنه قالوا في صفة الأسد: مقذف، كأنها قذف باللحم قذفًا لاكتنازه وتداخل أجزائه.

وقرئ: (يخربون) و {يُخْرِبُونَ} )، مثبقلا ومخففا. والتخريب والإخراب: الإفساد بالنقض والهدم. والخربة: الفساد، كانوا يخربون بواطنها والمسلمون ظواهرها: لما أراد الله من استئصال شأفتهم، وأن لا يبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديار، والذي دعاهم إلى التخريب: حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة. وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيد الخشب والساج المليح. وأما المؤمنون فداعيهم إزالة متحصنهم ومتمنعهم، وأن يتسع لهم مجال الحرب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإنما هو ذكر المفعول، فقدم عناية بذكره، ثم لم يقنع بذلك حتى أزالوه عن لفظ الفضلة، فجعلوه رب الجملة لفظًا، فرفعوه بالابتداء، وصار قوله:"ضربته" ذيلًا له، وفضله ملحقة به.

قوله: ("يخربون" و {يُخْرِبُونَ})، أبو عمرو: مثقلًا، والباقون: مخففًا.

قوله: (من استئصال شأفتهم)، الجوهري: الشأفة: قرحة تخرج في أسفل القدم فتكون فتذهب. وفي المثل: استأصل الله شأفته، أي: أذهبه الله كما أذهب تلك القرحة بالكي.

قوله: (وأما المؤمنون فداعيهم)، عطف على قوله:"والذي دعاهم إلى التخريب"، إلى آخره، و"أما" والفاء مقدران في الجملة الأولى لكونها تفصيلية، وقد سبق في أول آل عمران كلام فيه، وهما لف ونشر لما لف، في قوله:"كانوا يخربون بواطنها والمسلمون ظواهرها".

ص: 308

فإن قلت: ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين؟

قلت: لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه، {فَاعْتَبِرُوا} بما دبر الله ويسر من أمر إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال.

وقيل: وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال، فكان كما قال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لما عرضوهم لذلك)، أي: عرض اليهود المؤمنين، فكان اليهود هم السبب، الجوهري: عرضت فلانًا كذا، فتعرض هو له.

قوله: ({فَاعْتَبِرُوا} ما دبر الله)، قال القاضي: فاتعظوا بحالهم فلا تعتذروا ولا تعتمدوا على غير الله، واستدل به على أن القياس حجة من حيث إنه تعالى أمر بالمجاوزة من حال إلى حال، وحملها عليها في الحكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له، كما تقرر في الكتب الأصولية.

وقال الواحدي: معنى الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها، والمعنى: تذكروا وانظروا فيما نزل بهم يا أهل اللب والعقل والبصائر.

قال الراغب: العبرة: ما يعبر به من الجهل إلى العلم، ومن الحس إلى العقل. وأصله من عبور النهر، ومن العبارة لأنها جعلت كالمعبر لتأدية المعنى من نفس القائل إلى نفس السامع، وخص التعبير بنفس الرؤيا.

قوله: (وقيل: وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عطف على قوله:"بما دبر الله" من حيث المعنى، أي:

ص: 309

[{ولَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ومَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإنَّ اللَّهَ شَدِىدُ العِقَابِ} 3 - 4]

يعني: أن الله قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم وإراحة المسلمين من جوارهم وتوريثهم أموالهم، فلولا أنه كتب عليهم الجلاء واقتضته حكمته ودعاه إلى اختياره أنه أشق عليهم من الموت {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} بالقتل كما فعل بإخوانهم بني قريظة.

{وَلَهُمْ} سواء أجلوا أو قتلوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فانظروا إلى هذه المعجزة وصدق إنجاز الله ما وعدكم رسوله، وقيسوا عليه جميع ما وعدكم الله ورسوله.

قوله: (فلولا أنه كتب عليهم الجلاء)، وضع هذه "الفاء" بدل "الواو" في التلاوة ليؤذن بارتباط هذه الآية بما قبلها، فإن قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ} إلى آخره، دل على أمر عظيم، وعلى عزمة من عزمات الله، وهي إرادة تطهير أرض الحجاز من الأجناس والأرجاس، وإراحة المؤمنين البتة، فلولا الجلاء لكان القتل لازمًا، فأخبر الله تعالى عن الأمرين وفوض الترتيب إلى الذهن.

قوله: (ودعاه) قيل: فاعله "أنه أشق"، والضمير المنصوب عائد إلى الله تعالى، أي: دعا الله تعالى إلى اختيار الجلاء لهم دون القتل أن الجلاء أشق عليهم.

وقلت: يجوز أن يكون فاعل "دعا" ما دل عليه "اقتضته الحكمة" لأنه عطف تفسيري، وقوله:"أنه أشق" تعليل، أي: دعاه داعي الحكمة إلى اختيار حكم الجلاء لأن ذلك أشق عليهم من الموت.

ص: 310

{عَذَابُ النَّارِ} يعني: إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة.

[{مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ} 5]

{مِّن لِّينَةٍ} بيان لما قطعتم. ومحل {مَا} نصب بـ {قَطَعْتُم} ، كأنه قال: أي شيء قطعتم، وأنث الضمير الراجع إلى {مَا} في قوله:{أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} لأنه في معنى اللينة. واللينة: النخلة من الألوان، وهي ضروب النخل ما خلا العجوة والبرنية، وهما أجود النخيل، وياؤها عن واو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة)، يريد بعذاب الدنيا القتل والسبي.

فإن قلت: هذا يؤذن أن الجلاء أدون حالًا من القتل، وأنه ليس بعذاب، وقد قال هاهنا أنه أشق عليهم من الموت وأنشد في البقرة:

لقتل بحد السيف أحسن موقعًا .... على النفس من قتل بحد فراق

قلت: لا شك أن جعل الجلاء أشد من القتل من باب الادعاء، وإلحاق الناقص بالكامل، وأما قوله:"ولهم سواء أجلوا أو قتلوا عذاب النار"، فبيان للفرق بين التركيبين، أعني قوله:{ولَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} وقوله: {ولَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّار} ، وأن الأول امتناعي لا ثبات له كالشرط، قال في سورة يوسف:"لولا، وجوابها في حكم الشرط"، والثاني جملة اسمية قطعية، لكنه أهمل بيان فائدة تقديم الخبر على المبتدأ من الاختصاص، وأن المعنى: أنهم مخصوصون بهذا الحكم لكونهم شاقوا الله ورسوله، فيعلم منه أن من لم يشاق الله ورسوله حكمه مباين لهذا.

ص: 311

قلبت لكسرة ما قبلها، كالديمة. وقيل: اللينة: النخلة الكريمة، كأنهم اشتقوها من اللين.

قال ذو الرمة:

كأن قتودي فوقها عش طائر .... على لينة سوقاء تهفو جنوبها

وجمعها لين. وقرئ: (قومًا)، و (على أصلها). وفيه وجهان: أنه جمع أصل كرهن ورهن، أو اكتفي فيه بالضمة عن الواو. وقرئ:(قائمًا على أصوله) ذهابًا إلى لفظ {مَا}

{فَبِإذْنِ اللَّهِ} فقطعها بإذن الله وأمره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كأن قتودي) البيت، القتد: خشب الرحل، فالجمع: أقتاد وقتود. سوقاء: طويلة الساق، تهفو: تهب، واللينة: النخلة الكريمة، شبه خفة رحل ناقته بعش طائر، وطول قامتها بنخلة طويلة الساق، وتحركه فوقها بحركة النخلة عند هبوب الريح الجنوبي.

قوله: (قطعها بإذن الله وأمره)، الانتصاف: والظاهر أن الإذن عام في القطع والإبقاء، لأنه جواب الشرط المضمن لهما جميعًا، فيكون تعليل إخزاء الفاسقين بهما جميعًا، فقطعها يحسرهم على ذهابها، والترك يحسرهم لبقائها للمسلمين.

وقلت: قد أحسن بما قال، وروينا عن الترمذي عن ابن عباس في قول الله تعالى:{مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ} الآية. قال: أمروا بقطع النخل، فحك ذلك في صدورهم، فقال المسلمون: قد قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لنا فيما قطعنا من أجر؟

ص: 312

{ولِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ} وليذل اليهود ويغيظهم أذن في قطعها، وذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر أن تقطع نخلهم وتحرق قالوا: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فكان في نفس المؤمنين من ذلك شيء. فنزلت.

يعني: إن الله أذن لهم في قطعها ليزيدكم غيظًا، ويضاعف لكم حسرة إذا رأيتموهم يتحكمون في أموالكم كيف أحبوا ويتصرفون فيها ما شاؤوا.

واتفق العلماء أن حصون الكفرة وديارهم لا بأس بأن تهدم وتحرق وتغرق وترمى بالمجانيق، وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة. وعن ابن مسعود: قطعوا منها ما كان موضعًا للقتال.

فإن قلت: لم خصت اللينة بالقطع؟

قلت: إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهل علينا في ما تركنا وزر؟ فأنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُم} الآية، ورواه الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عمر.

وقول المصنف: "ويتصرفون فيها ما شاؤوا"، إشارة إلى هذا المعنى.

قوله: (وليذل اليهود ويغيظهم)، هذا تأويل لقوله:{ولِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ} ، وفيه أن {الفَاسِقِينَ} مظهر وضع موضع المضمر، والمعلل محذوف بدلالة سياق الآية، والجملة معطوفة على ما قبلها.

قوله: (فليستبقوا)، قيل: لام التعليل والأمر تسكن بعد الفاء والواو، وتحرك بعد "ثم".

ص: 313

وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشد وأشق.

وروي: أن رجلين كانا يقطعان: أحدهما العجوة، والآخر اللون، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا: تركتها لرسول الله، وقال هذا: قطعتها غيظًا للكفار. وقد استل به على جواز الاجتهاد، وعلى جوازه بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك، واحتج به من يقول: كل مجتهد مصيب.

[{ومَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ ولا رِكَابٍ ولَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} 6 - 7]{ومَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} جعله له فيئا خاصة، والإيجاف من الوجيف؛ وهو السير السريع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإفاضة من عرفات:" ليس البر بإيجاف الخيل ولا إيضاع الإبل، على هينتكم".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في الإفاضة من عرفات)، الحديث من رواية البخاري عن ابن عباس قال: دفع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فسمع وراءه زجرًا شديدًا، وضربًا للإبل، فأشار بالسوط إليهم، وقال:"يا أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع". وفي رواية أبي داود قال: "يا أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل".

النهاية: وضع البعير يضع وضعًا، وأوضعه راكبه أيضًا؛ إذا حمله على سرعة، وكذا الإيجاف، وقد أوجف دابته يوجفها إيجافًا؛ إذا حثها.

قوله: (على هينتكم)، الجوهري: يقال: امش على هينتك، أي: على رسلك، أي: اتئد فيه.

ص: 314

ومعنى {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} : فما أو جفتم على تحصيله وتغنمه خيلا ولا ركابًان ولا تعبتم في القتال عليه، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم.

والمعنى: أن ما خول الله رسول من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم، فالأمر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء.

يعني: أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهرا، وذلك أنهم طلبوا القسمة، فنزلت.

لم يدخل العاطف على هذه الجملة؛ لأنها بيان للأولى، فهي منها غير أجنبية عنها.

بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله عليه، وأمره أن يضعه حيث يضع الخميس من الغنائم مقسومًا على الأقسام الخمسة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فهي منها غير أجنبية عنها)، و"هي منها" جملة من مبتدأ وخبر، وقوله:"غير أجنبية عنها" خبر آخر، و"من" في "منها" اتصالية، أو "غير أجنبية عنها" خبر مبتدأ محذوف، والجملة مبنية للأولى، أي: وهي متصلة بها كائنة منها، وهي غير أجنبية عنها، وإنما كانت بياننًا لأن قوله:{ومَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} جملة اسمية شرطية معطوفة على مثلها، وكلتاهما واردتان على الإخبار والإعلام، أي: اعملوا أن ذلك القطع والترك كان بإذن الله، وذلك الفيء كان بتسليط الله لا بسعيكم، لكن لم يعلم كيفية قسمته فبين بهذه الآية القسمة.

قوله: (أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم)، ومذهب الشافعي بخلافه، فعنده أن يجعل الفيء خمسة أخماس، والخمس الواحد يخمس ويوضع حيث يوضع الخمس من

ص: 315

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الغنائم، وبيان ذلك ذكره صاحب "البحر" قال: الأصل في الغنيمة قوله تعالى: {أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41]، والأصل في الفيء قوله تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبَى} الآية [الحشر: 7].

واعلم أن الغنائم كانت في شرع من قبلنا لله تعالى، لا تحل لأحد، فتنزل نار من السماء فتأخذها، فحص النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم بأن أحلت له، قال صلى الله عليه وسلم:"أحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي"، فكانت في صدر الإسلام له خاصة يتفرد بها، وكذا كانت غنائم بدر لقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ثم نسخ ذلك بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} الآية [الأنفال: 41]، واستقر أمرها على أن له منها الصفي، فيصطفي من الغنيمة ما شاء من جارية وثوب وعبد وفرس ونحو ذلك، ويكون أربعة أخماسها للغانمين، وخمسها لأهل الخمس، فيقسم على خمسة أسهم، ثم يقسم خمسها على خمسة أسهم؛ منها سهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.

والآن يجب أن يقسم الفيء على خمسة أسهم كما ذكر في الغنيمة، وخمسه وخمس الغنيمة الذي كان للني صلى الله عليه وسلم انتقل بموته إلى المصالح، وأما أربعة أخماسه فالأصح أنها للمقاتلين.

ص: 316

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: حاصل هذا التقرير أن ما في الحشر منسوخ بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، وهو مشكل لأن ما في الأنفال سابق زمانًا على ما في الحشر، فلا ينسخ به. نقل الواحدي عن المفسرين أن بني النضير لما اجلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخمسها كما فعل بغنائم بدر، فأنزل هذه الآية. وفي رواية محيي السنة: كما فعل بغنائم خبير، ويبعد من حيث النظم والتأليف أن يقال: إن قوله: {ومَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} عطف على ما في الأنفال، ليكون خمسه أيضًا مخمسًا، وأدنى ما يبطله: الضمير في {مِنْهُمْ} ، لأنه راجع إلى ما ترجع إليه الضمائر في الآيات وهي لبني النضير، وما في الأنفال في قضية أخرى، بل الجملة- أعني {ومَا أَفَاءَ اللَّهُ} - عطف على مثلها، أي:{مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ} ، وجملة قوله:{ومَا أَفَاءَ اللَّهُ} بيان للجملة السابقة كما ذهب إليه المصنف، ولهذا عزلت عن العاطف، كأنه لما قيل:{ومَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أي: ما خول الله ورسوله من أموال بني النضير شيء لم يحصلوه بالقتال والغلبة، فلا يقسم قسمة الغنائم، قيل: فكيف يقسم؟ فقيل: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى} إلى آخره أن ذلك العطف أيضًا لا يجدي فيما ذكر، لأن حكم تلك الآية ثابت قبل هذه.

وأقصى ما يقال من جانب الشافعي رحمه الله تعالى أن "ما أفاء الله" الأول إخبار من الله تعالى لا جواب عن قول الصحابة، والثاني: بيان له لكنه مطلق مبهم، وما في الأنفال مقيد بقوله:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} فيحمل عليه، وما ذكره المفسرون ليس يثبت.

فإن قلت: فما فائدة هذا الإخبار؟

قلت: نفي ما نسخ في خواطر المسلمين أنهم سعوا في تحصيل تلك الأموال بالقتال، كما قال في "التفسير الكبير": إن أموال بني النضير أخذت بعد القتال، لأنهم حوصروا أيامًا وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء، وفي كلام المصنف في أول السورة إشعار بذلك.

ص: 317

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ} يعني أن سعيكم ذلك لم يكن له مزيد تأثير، بل جرت عادة الله في تسليط جميع رسله على من يشاء، وهذا من جملة ذلك، ومن ثم جيء بصيغة المضارع الدالة على الاستمرار، وجمع الرسل، فمعناه قريب من معنى قوله:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، وعلى هذا معنى الجملة الأولى: لأن المسلمين لما قطعوا النخيل وحرقوها خطر ببالهم أن ذلك فساد في الأرض- كما قال المصنف- وكان في أنفس المسلمين من ذلك شيء فنزلت، فقيل لهم: كان ذلك بإذن الله وأمره، وما يأذن الله ويأمر به لا يكون فسادًا في الحقيقة.

فإن قلت: كيف يحمل على تقييد المطلق؟ فإن مفهوم الغنيمة أخص من مفهوم الفيء، لأنه أعم تناولًا منه.

قال الجوهري: الفيء: الخراج والغنيمة، تقول منه: أفاء الله على المسلمين مال الكفار يفيء إفاءة.

وفي "المغرب": قال أبو عبيد: الغنيمة: ما نيل من أهل الشرك عنوة والحرب قائمة، وحكمه أن يخمس، وسائر ما بعد الخمس للغانمين خاصة، والفيء: ما نيل منهم بعد ما تضع الحرب أوزارها، وتصير الدار دار الإسلام، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس. والنفل: ما نفله الغازي أيك يعطاه زائدًا على سهمه، وهو: أن يقول الإمام أو الأمير: "من قتل فله سلبه"، أو قال للسرية: ما أصبتم فهو لكم، أو نصفه أو ربعه، ولا يخمس.

وعن علي بن عيسى: الغنيمة أعم من النفل، والفيء أعم من الغنيمة، لأنه اسم لكل ما صار للمسلمين من أموال أهل الشرك. وقال أبو بكر الرازي: فالغنيمة فيء، والجزية فيء، ومال

ص: 318

والدولة والدولة؛ بالفتح والضم، وقد قرئ بهما: ما يدول للإنسان، أي يدور من الجد. يقال: دالت له الدولة، وأديل لفلان.

ومعنى قوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} : كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جدا بين الأغنياء يتكاثرون به. أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أهل الصلح فيء، والخراج فيء، لأن ذلك كله مما أفاء الله على المسلمين من المشركين، وعند الفقهاء: كل ما يحل أخذه من أموالهم فهو فيء. تم كلامه.

ويمكن أن تنزل عبارة "الحاوي" على هذا المعنى، بأن يقال: إن قوله: "ما حصل من الكفار" عام خص منه البعض، بعطف "غلة عقارهم" بعد أن وقف على "ما حصل"، وبعض آخر بقوله:"وما حصل بإيجاف خيل فلمسلم"، من حيث عطف الجملة بقي في ذلك العام:"ما جلوا عنه خوفًا من المسلمين إذا سمعوا خبرهم، أو بذلوه كفًا عن قتالهم، وكالجزية وعشور تجاراتهم ونحوه".

قلت: لما كان مفهوم الغنيمة داخلًا في مفهوم الفيء وقد قيدت الخمس في تلك الآية، فينبغي أن يقاس عليها سائرها لجامع كونها أموال الكفار صارت إلى المسلمين، إلى أن ينتهض الصارف القوي، نحو:"من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه" هذا ما يمكن أن يقال، والله أعلم بحقيقة الحال.

قوله: (والدولة والدولة بالفتح والضم)، فالضم: المشهورة، وبالفتح: شاذ، وقيل: هي رواية هشام عن ابن عامر. وقال ابن جني: وهي قراءة أبي جعفر، منهم من لا يفصل بين القراءتين، ومنهم يقول: الفتح في الملك والضم في الملك، "وكان" تامة، أي: كيلا تقع دولة أو تحدث.

ص: 319

ومعنى الدولة الجاهلية: أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة لأنهم أهل الرياسة والدولة والغلبة، وكانوا يقولون:" من عزبز". والمعنى: كيلا يكون أخذخ غلبة وأثرة جاهلية. ومنه قول الحسن: اتخذوا عباد الله خولا، ومال الله دولا، يريد: من غلب منهم أخذه واستأثر به.

وقيل: الدولة: ما يتداول، كالغرفة: اسم ما يغترف، يعني: كيلا يكون الفيء شيئًا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب الفقراء. والدولة- بالفتح-: بمعنى التداول، أي: كيلا يكون ذا تداول بينهم، أو كيلا يكون إمساكه تداولا بينهم، لا يخرجونه إلى الفقراء، وقرئ:(دولة) بالرفع على (كان) التامة كقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] يعني كيلا تقع دولة جاهلية ولينقطع أثرها، أو كيلا يكون تداول له بينهم، أو كيلا يكون شيء متعاور بينهم غير مخرج إلى الفقراء. {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} من قسمة غنيمة أو فيء {فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ} عن أخذه منها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله: {بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ} يجوز أن يكون صفة لـ {دُولَةً} ، وأن تكون متعلقة: أي: تداول بين الأغنياء منكم. وقال الزجاج: الدولة بالضم: اسم الشيء الذي يتداول، وبالفتح: الفعل والانتقال من حال إلى حال.

قوله: (من عز بز)، الميداني: أي: من غلب السلب، قالت الخنساء:

كأن لم يكونوا حمى يتقى .... إذ الناس إذ ذاك من عزبزا

قوله: (ويتعاورونه)، بيان لقوله:"يتداوله الأغنياء".

ص: 320

{فَانتَهُوا} عنه ولا تتبعه أنفسكم، {واتَّقُوا اللَّهَ} أن تخالفوه وتتهاونوا بأوامره ونواهيه.

{إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} لمن خالف رسوله، والأجود أن يكون عامًا في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه، وأمر الفيء داخل في عمومه.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه لقي رجلا محرما وعليه ثيابه فقال له: انزع عنك هذا. فقال الرجل: اقرأ علي في هذا آية من كتاب الله. قال: نعم، فقرأها عليه.

[{لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ ورِضْوَانًا ويَنصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 8]

{لِلْفُقَرَاءِ} بدل من قوله: {ذِي الْقُرْبَى} والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من: "لله وللرسول" والمعطوف عليهما،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والأجود أن يكون عامًا في كل ما آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه)، لأن الواو فيه ليست بعاطفة ولا تصح، فالجملة تذييل ولذلك عقبه بقوله:{واتَّقُوا اللَّهَ} ، وأطلقه ليشمل كل ما يجب أن يتقى، ويدخل في ما سيق له الكلام دخولًا أوليًا، وينصره ما روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن ابن مسعود قال: لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات والمفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد، وكانت تقرأ القرآن - يقال لها أم يعقوب- فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك قلت: كذا وكذا؟ فقال عبد الله: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في كتاب الله! ! فقالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدت فيه ما تقول قال: إن كنت قرأتيه لوجدته، قال الله تعالى:{ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} الآية.

قوله: (والذي منه الإبدال من: "لله وللرسول" والمعطوف عليهما)، يعني من المجموع وهو جواب عن سؤال مقدر، يعني: لم خصصت الإبدال بقوله: {ولِذِي القُرْبَى} ، والمعطوف

ص: 321

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

داخل في حكم المعطوف عليه بحكم الانسحاب؟ فقال: أخرجه الدليل.

وقوله: "وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم معناه: وإن صح أن يبدل من الرسول، ويكون ذكر الله للتبرك والتمهيدـ، لكن الله تعالى رفع منزلته من ان يسميه بالفقير.

قال الرغب: المشهور عند العامة أن الفقر الحاجة، وأصله كسر الفقار، من قولهم: فقرته، نحو كبدته، وبهذا النظر سمى الحاجة والداهية فاقرة.

والفقر: أربعة؛ فقد الحسنات في الآخرة، وفقد القناعة في الدنيا، وفقد المقتنى. والغني بحسبه، فمن فقد القناعة والمقتنى فهو الفقير المطلق على سبيل الذم، ومن فقد القناعة دون القنية فهو الغني بالمجاز الفقير بالحقيقة، ومن فقد القنية دون القناعة فإنه يقال له: غني وفقير، وقد ورد:"ليس الغنى بكثرة العرض، وإنما الغنى غنى القلب"، وقوله:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} دليل على أن الفقر مذموم، وقال صاحب "التقريب": وفي أن يكون بدلًا من "لذي القربى" نظر، لأنه لابد من اشتراط الفقر في ذوي القربى، وليس بشرط، فليجعل بدلًا فما بعده.

الانتصاف: مذهب الإمام أبي حنيفة أن استحقاق ذوي القربى للفيء مشروط بالفقر، قال إمام الحرمين: أغلط الشافعي الرد على هذا المذهب بأنه تعالى علق الاستحقاق بالقرابة، ولم يشترط الحاجة، فاشتراطها وعدم اعتبار القرابة مضادة ومحادة، واعتذر إمام الحرمين للحنفية بأن الصدقات لما حرمت عليهم كانت فائدة ذكرهم في خمس الفيء والغنائم أنه لا يمتنع صرف ذلك إليهم امتناع صرف الصدقات.

ص: 322

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم قال: لا نغتر بالاعتذار بأن الآية نص على ثبوت الاستحقاق تشريفًا لهم، فمن علله بالحاجة فوت هذا المعنى، ثم عظمه عليهم بأنهم يرون اشتراط الإيمان في رقبة الكفارة زيادة على النص، وهو نسخ لا يصح بالقياس.

قال الإمام: وكذا اشتراط الفقر في القرابة يكون زيادة على النص، هذا وجه كلام الإمام، وهو متوجه إن أثبتوه قياسًا، وقد أخذوا التقييد من البدل المذكور في الآية، فنقول {لِلْفُقَرَاءِ} بدل من "المساكين" لا غير، لأنه تعالى أراد وصف المساكين بما يبين استحقاقهم وبعث الأغنياء على إيثارهم، وأن لا يجدوا في صدورهم حاجة مما أوتوا، وقد فصل عنهم قوله:{كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} إلى {شَدِيدُ العِقَابِ} ، طوى ذكرهم توطئة للصفات فذكروا بصفة أخرى مناسبة لأولى، فاشتمل على وصفهم بالمسكنة والفقر جميعًا، ثم تليت صفاتهم بعد بأنهم أخرجوا من ديارهم إلى آخرها، فهذا الذي يرشد إليه السياق، وأواوا القربى ذكروا على الإطلاق، فالأولى بقاؤهم على ذلك، ويؤيد ذلك أن الحنفية يرون الاستثناء إذا تعقب جملا اختص بالأخيرة، فكذا البدل يكفي في صحة عوده إلى الأخير، ولأنه إذا جعل من "ذوي القربى" كان بدل بعض من الكل، إذ فيهم أغنياء، وإن جعل بدلًا من "المساكين" أيضًا كان بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، فيكون البدل محتويًا على نوعي البدل، وهو متعذر لتغايرهما، إذ كل واحد يتقاضى ما يأباه الآخر، وعلى هذا إعراب الزجاج الآية، فجعلها بدلًا من "المساكين" خاصة.

وقلت: مذهب المصنف أن الجمل المتعقبة بقيد لا تختص الأخيرة منها به، بل الكل سواء، إلا أن يقوم الدليل بالاختصاص كما نحن بصدده، يدل عليه قوله في سورة النور في الاستثناء:

ص: 323

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء للشرط"، وقوله هاهنا:"إن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء، وقوله: وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله تعالى" فنقول نحن أيضًا: إن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة أخرج ذوي القربى من حكم الفقراء.

روى محيي السنة في سورة الأنفال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى عطاء العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله، والخلفاء بعده كانوا يعطون الأغنياء ولا يفضلون الفقير على الغني. ويمكن أن يجعل إبدالًا بان نبتدأ من قوله:{لِلْفُقَرَاءِ} . قال صاحب "المرشد" والكواشي: إن الوقف على {شَدِيدُ العِقَابِ} تام. وفي الكواشي: قالوا: وأراه حسنًا إن أضمرت فعلًا أي: اعجبوا {لِلْفُقَرَاءِ} ، ولا يجوز اختيارًا إن أبدل {لِلْفُقَرَاءِ} من "لذي القربى" وذلك أن سياق الآيات في مدح المهاجرين والأنصار وبذل أرواحهم وأموالهم في سبيل الله، ومدح التابعين لهم بإحسان، وكيف وقد مدح المهاجرين بأنهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا؟ وعطف {والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ} على {المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ}؟ وفيه:{ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، وكذا عطف قول:{والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ؛ كل هذا إنما يحسن إذا ابتدئ منه، وتكون الآيات متصلات بقوله:{ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ؛ لأنه لما أمر باتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، عجب الناس باتباع هؤلاء السادة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمهاجرة من أوطانهم والمفارقة عن أهاليهم وأموالهم،

ص: 324

وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل أخرج رسوله من الفقراء في قوله: {ويَنصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ} وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل، {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} في إيمانهم وجهادهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبالتبوؤ بالدار والإيمان، وبالتسوية بما اختص بهم حتى بأزواجهم، كما قال:{ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وكذا عطف: {والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} على المهاجرين المعني بهم "التابعون لهم بإحسان" مانع من الإبدال، والذي يؤيد تقدير فعل التعجب- كما ذكره أبو البقاء وتبعه صاحب الكواشي- مجيء قوله:{أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ} الآيات، مصدرًا بـ {أَلَمْ تَرَ} وهي كلمة التعجب لكون ذكرهم جاء مقابلًا لذكر أضدادهم.

قوله: (أن الله عز وجل، أخرج رسوله من الفقراء في قوله: {ويَنصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ})، يعني لو كان داخلًا فيهم لم يصح قوله:{ويَنصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ} ، لئلا يلزم أن يكون الرسول ناصرًا لنفسه.

قوله: (وأنه يترفع برسول الله صلى الله عليه وسلم عن التسمية بالفقير)، كما لا يجوز أن يوصف الله تعالى بعلامة، لأجل التأنيث لفظًا، لأن فيه سوء أدب.

قوله: (وأن الإبدال على ظاهر اللفظ) يعني: وإن صح إبدال قوله: {لِلْفُقَرَاءِ} من قوله: "لله" من حيث ظاهر اللفظ، لكن لا يصح من حيث المعنى؛ لما يؤدي إلى خلاف تعظيم الله.

ص: 325

[{والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} 9]

{والَّذِينَ تَبَوَّءُوا} معطوف على {المُهَاجِرِينَ} ، وهم الأنصار.

فإن قلت: ما معنى عطف الإيمان على الدار، ولا يقال: تبوؤا الإيمان؟

قلت: معناه تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، كقوله:

علفتها تبنا وماء باردًا

أو: وجعلوا الإيمان مستقرا ومتوطنًا لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه، كما جعلوا المدنية كذلك. أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان، فأقام"لام التعريف" في {الدَّارِ} مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان، ووضع المضاف إليه مقامه، أو سمى المدينة لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان، {مِنْ قَبْلِهِمْ} من قبل المهاجرين؛ لأنهم سبقوهم في تبوؤ دار الهجرة والإيمان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان)، وحاصل الوجوه الأربعة يعود إلى عطف الإيمان على الدار إما من باب التقدير أو الانسحاب، والإيمان إما مجرى على حقيقته أو استعارة، ففي الوجه الأول: الإيمان حقيقة والعطف من باب التقدير، لكن يقدر بحسب السابق، (الانسحاب)، والإيمان على الوجه الثاني استعارة مكنية، وعلى الثاني والرابع العطف للانسحاب، وعلى الثالث مجاز أضيف بأدنى ملابسة، وعلى الرابع استعارة مصرحة تحقيقية.

فإن قلت: بين لي مخرج الاستعارتين وتصحيحهما.

قلت: شبه في الوجه الأول الإيمان من حيث إن المؤمنين من الأنصار تمكنوا فيه تمكن المالك

ص: 326

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المتسلط في مكانه ومستقره، بمدينة من المدائن الحصينة، بتوابعها ومرافقه، ثم خيل أن الإيمان بعينها تخييلًا محضًا، فأطلق على المتخيل اسم الإيمان المشبه، وجعلت القرينة نسبة التبوء اللازم للمشبه به إليه على سبيل الاستعارة التخييلية، لتكون مانعة لإرادة الحقيقة، وعلى الرابع شبهت طيبة- أي: مدينة خير الرسل صلوات الله عليه لكونها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان- بالتصديق الصادر من المخلص المحلى بالعمل الصالح، ثم أطلق اسم الإيمان على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم بوساطة نسبة التبوء إليه، وهي استعارة مصرحة تحقيقية، لأن المشبه المتروك وهو المدينة حسي، والجامع النجاة من مخاوف الدارين؛ ففي الأول المبالغة والمدح يعود إلى سكان المدينة أصالة، وفي الثاني العكس، والأول أدعى لاقتضاء المقام؛ لأن الكلام وارد في مدح الأنصار الذين بذلوا مهجهم وأموالهم في نصرة الله ونصرة رسوله، وهم الذين آووه ونصروه.

فإن قلت: يلزمك من القول بالانسحاب استعمال الكلمة الواحدة في الحقيقة والمجاز معًا.

قلت: أجعلها مجازًا في مطلق اللزوم والثبات ولا أبالي بذلك كما مر مرارًا.

فإن قلت: فما تصنع بقوله: {مِن قَبْلِهِمْ} فإنه يؤدي إلى أن الأنصار سبقوا المهاجرين في الإيمان، ولذلك قال المصنف:"سبقوهم في دار الهجرة والإيمان"، أي: دار الإيمان.

قلت: قال الواحدي: تقدير الآية: والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين، ويمكن أن يقال: إنا ذكرنا أن التقدير أنهم تمكنوا في الإيمان تمكن المالك في ملكه لا يزعجهم عنه منازع، ولا شك أن المهاجرين قبل الهجرة كانوا في تقية وخوف من المشركين، ولذلك هاجروا الهجرتين، ولم يوجد لهم ذلك التمكن إلا بعد الاستقرار في

ص: 327

وقيل: من قبل هجرتهم، {ولا يَجِدُونَ}: ولا يعلمون في أنفسهم {حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} أي: طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره، والمحتاج إليه يسمى جاحة؛ يقال: خذ منه حاجتك، وأعطاه من ماله حاجته، يعني: أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا، ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه {ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: خلة، وأصلها: خصاص البيت، وهي فروجه؛ والجملة في موضع الحال، أي: مفروضة خصاصتهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين: أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دار الهجرة، وإليه المصنف بقوله:"وقيل: من قبل هجرتهم"، ولذلك لم يزالوا بعد الهجرة في قلة وفقر حتى آساهم الأنصار بأموالهم، وآثرهم بأثمارهم، على ما روينا عن البخاري ومسلم عن أنس قال: قدم المهاجرين من مكة المدينة، قدموا وليس بأيديهم شيء، وكانت الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسموهم حتى أن أعطوهم أنصاف أثمار أموالهم كل عام، ويكفونهم العمل والمؤونة.

وكافيك بحال أغنى المهاجرين وأكثرهم ثروة عبد الرحمن بن عوف حين قدم المدينة شاهدًا على ذلك، روينا في "صحيح البخاري" عن ابن عوف قال: آخر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال لي سعد: إني أكثر الأنصار مالًا، فأقاسمك مالي شرطين، ولي امرأتان فانظر أيتهما شئت حتى أنزل لك عنها، فإذا حلت تزوجتها، فقلت: لا حاجة لي في ذلك، دلوني عن السوق. الحديث، ومن ثم حسن التعجب بالفقر في صدر هذه الآية.

قوله: ({خَصَاصَةٌ} أي: خلة)، النهاية: الخصاصة: الجوع والضعف، وأصلها الفقر والحاجة إلى الشيء، والجملة في موضع الحال، يعني قوله:{ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .

ص: 328

وقال لهم: " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة"، فقالت الأنصار:" بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها" فنزلت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: خصاص البيت: فرجه، وعبر عن الفقر الذي لم يسد بالخصاصة، كما عبر عنه بالخلة، والخص: بيت من قصب أو شجر، وذلك لما ترى فيه من الخصاصة، قال: وسمي انثلام الحال خصاصًا وخصاصةً على التشبيه، كما سمي انثلامًا واختلالًا وشعثًا، وخصصت فلانًا وخصني أوليته خصاصتي نحو: خللته وقولهم: وقفتهم على عجري وبجري، وخصان الرجل: خلانه، ثم جعل الخاص مقابلًا للعام في التعارف.

قوله: (بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فنزلت)، والأصح: أنها نزلت في أنصاري اسمه أبو طلحة، على ما روينا عن البخاري مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق، ما عندي غلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت: مثل ذلك: وقلن كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من يضيفه يرحمه الله؟ " فقام رجل من الأنصار يقال له: أبو طلحة، فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعليهم بشيء ونوميهم، فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل، فإذا أهوى بيده ليأكل فقومي إلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه، ففعلت، فقعدوا فأكل الضيف، وباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد عجب الله"_ أو "ضحك الله"_ "من فلان وفلانة".

ص: 329

"الشح" بالضم والكسر، وقد قرئ بهما: اللؤم، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع، كما قال:

يمارس نفسًا بين جنبيه كزة .... إذا بالمعروف قالت له: مهلا

وقد أضيف إلى النفس؛ لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه، ومنه قوله تعالى:{وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128]. {ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} ومن غلب ما أمرته به منه، وخالف هواها بمعونة الله وتوفيقه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} الظافرون بما أرادوا. وقرئ:(ومن يوق).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي رواية نحوه، وفيها: فأنزل الله {ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .

قوله: ("الشح بالضم والكسر)، بالضم المشهورة، وبالكسر شاذة.

قوله: (يمارس نفسًا)، البيت، يقال: رجل كز أي: قليل المواتاة، قليل العطاء. الكزازة: الانقباض واليبس، رجل كز اليدين: نحيل: مثل جعد اليدين. يقول: هذا الرجل إذا هم يومًا أن يتسمح بمعروف قال له نفسه: مهلًا، فيطعها ويمنع من الخير.

قوله: (وقد أضيف إلى النفس؛ لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه)، اعلم أن الفرق بين البخل والشح عسر جدًا، وقد آذن بالفرق في هذا المقام، وأن الشح: اللؤم، وهو غريرة، وأن البخل: المنع نفسه، فهو أعم، لأنه قد يوجد البخل ولا شح ثمة، ولا ينعكس، وعليه ما ورد في "شرح السنة": جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: ما ذاك؟ قال: أسمع الله، يقول:{ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] وأنا رجل شحيح لا يكاد أن يخرج من يدي شيء، فقال عبد الله:

ص: 330

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليس ذاك بالشح الذي ذكره الله، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذاك البخل، وبئس الشيء البخل.

وقال ابن جبير: الشح: إدخال الحرام، منع الزكاة.

وعن مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءكم واستحلوا محارمهم"، وعن النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا".

فإذن الشح راسخة يصعب معها على الرجل تأتي المعروف، وتعاطي مكارم الأخلاق، ويفتقر في التخلص منه إلى معونة الله وتوفيقه كما أومأ إليه المصنف.

وروينا عن البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل المنفق والبخيل، كمثل رجلين عليهما جنتان أو جبتان من حديد، من لدن ثدييهما إلى تراقيهما، فإذا أراد المنفق أن ينفق: اتسعت عليه الدرع، أو مرت حتى تجن بنانه، وتعفو أثره، وإذا أراد البخيل أن ينفق: قلصت، ولزمت كل حلقة موضعها حتى أخذته بترقوته أو برقبته".

وإذا صح أن الشح أم الخبائث وأس الرذائل، كان قوله:{ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} تذييلًا لقوله: {والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} ومعناه ما قال لمصنف: "ومن غلب ما أمرته به نفسه، وخالف هواها بمعونة الله وتوفيقه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} "أي: الذين إن تصورت صفة المفلحين وتحققوا ما هم، فهم هم، لا يعدون تلك الحقيقة.

ص: 331

[{والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} 10]

{والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} عطفٌ أيضًا على {المُهَاجِرِينَ} : وهم الذين هاجروا من بعد،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقد تحقق لك أن من جعل الإيمان لنفسه ومستقرًا لها، وقطع طعمه من مال الغير وآثر ما يملكه على نفسه كان من المفلحين الفائزين بمباغيهم.

وفي جعل قوله: {ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} كناية عن قطع الطمع، إشارة إلى قطع ذلك الغريزي من سنخه قطعًا لو تكلف التماس أية حاجة كانت، ما وجد لها أثرًا، وفي تتميمه بقوله:{ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} بلوغ إلى الدرجة العليا في الحرية والفتوة، أي: قطعوا الطمع إشارة إلى قلع ذلك عما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم بما ملكوا، وأنشد في ذلك:

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ..... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت

قوله: ({والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} عطف أيضًا على {المُهَاجِرِينَ})، فإن قلت: كيف وصف الأولون بالمهاجرة وابتغاء الفضل والنصرة والصدق، والأنصار بالرسوخ في الإيمان ومحبة الإيواء والسخاوة البالغة حدها، والفلاح في الآجل، واقتصر في مدح هؤلاء على قوله:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا} ؟

ص: 332

وقيل: التابعون بإحسان. {غِلًّا} وقرئ: (غمرًا) وهما الحقد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: كفى بهم مدحًا أن يوفقهم على الدعاء لأولئك السادة الكرام، ويمنحهم محبتهم، ويدخلهم في زمرتهم بأخوة الإسلام.

قال الواحدي: {والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} : يعني التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، فذكر أنهم يقولون:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا} ، أي: غشًا وحسدًا وبغضًا، وكل من لم يترحم على جميع أصحاب محمد وكان في قلبه غل على أحد منهم، فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية، لن الله تعالى رتب المؤمنين ثلاث منازل: المهاجرين، والأنصار، والتابعين الموصوفين بما ذكر، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجًا من أقسام المؤمنين.

وسمع ابن عباس رجلًا ينال من بعض الصحابة فقال: أمن المهاجرين الأولين أنت؟ قال لا، قال: من الأنصار؟ قال: لا، قال: فأنا أشهد أنك لست من التابعين بإحسان.

قوله: ({غِلًا} وقرئ: غمرًا، وهما الحقد)، الراغب: أصل الغلل: تدرع الشيء وتوسطه، ومنه: الغلل للماء الجاري بين الأشجار، فالغل مختص بما يقيد به فتجعل الأعضاء وسطه، والغلالة: ما يلبس من النوعين، فالغل والغلول تدرع الخيانة والعداوة. قال تعالى:{ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا} ، والغلة والغليل: ما يتدرعه الإنسان في داخله من العطش، ومن شدة الوجد والغيظ، ، يقال: فلان شفى غليله، أي: غيظه، والمغلغلة: الرسالة التي تتغلغل وسط القوم.

ص: 333

[{أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ولا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وإن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ولَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ ولَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} 11 - 12]

{لإخْوَانِهِمُ} الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر، ولأنهم كانوا يوالونهم ويؤاخونهم، وكانوا معهم على المؤمنين في السر {ولا نُطِيعُ فِيكُمْ} في قتالكم {أَحَدًا} من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه. أو في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة، {لَكَاذِبُونَ} أي في مواعيدهم لليهود. وفيه دليل على صحة النبوة لأنه إخبار بالغيوب.

فإن قلت: كيف قيل: {ولَئِن نَّصَرُوهُمْ} بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم؟

قلت: معناه: ولئن نصروهم على الفرض والتقدير، كقوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وكما يعلم ما يكون، فهو يعلم ما لا يكون، لو كان كيف يكون.

والمعنى: ولئن نصر المنافقون اليهود لينهز من المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك، أي: يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم، أو لينهز من اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين.

[{لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ * لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن ورَاءِ جُدُرٍ بَاسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يعلم ما لا يكون، لو كان كيف يكون)"ما" مفعول أول، و"كيف" مفعول ثان، يعني: أن الله تعالى يعلم المعدوم إذا فرض وجوده على أي حالة يوجد.

ص: 334

قَرِيبًا ذَاقُوا وبَالَ أَمْرِهِمْ ولَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قَالَ لِلإنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} 13 - 17]

{رَهْبَةً} مصدر "رهب" المبني للمفعول، كأنه قيل: أشد مرهوبية. وقوله: {فِي صُدُورِهِم} دلالة على نفاقهم، يعني: أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله، وأنتم أهيب في صدورهم من الله.

فإن قلت: كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم منهم أشد.

قلت: معناه أن رهبتهم في السر منكم أشد من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم، وكانوا يظهرون لهم رهبةً شديدةً من الله، ويجوز أن يريد أن اليهود يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله؛ لأنهم كانوا قومًا أولي بأس ونجدة، فكانوا يتشجعون لهم مع إضمار الخيفة في صدورهم، {لا يَفْقَهُونَ} لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته. {لا يُقَاتِلُونَكُمْ} لا يقدرون على مقاتلتكم {جَمِيعًا} مجتمعين متساندين، يعني اليهود والمنافقين {إِلَّا} كائنين {فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} بالخنادق والدروب، {أَوْ مِن ورَاءِ جُدُرٍ} دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({رَهْبَةً}: مصدر "رهب" المبني للمفعول)، الانتصاف: لأن المخاطبين مرهوب منهم لا راهبون.

قوله: (ويجوز أن يريد أن اليهود يخافونكم)، وحاصل المعنى الأول: أنهم يظهرون لكم خوف الله تعالى، مع أنهم لا يخافونه تعالى، والمعنى الثاني: أنهم يظهرون لكم أنهم لا يخافونكم، مع أنهم يخافونكم، ويخافون الله خوفًا لا يعتد به، ولذلك قال:"حتى يخشوه حق خشيته".

ص: 335

لقذف الله الرعب في قلوبهم، وأن تأييد الله تعالى ونصرته معكم. وقرئ:(جدر) بالتخفيف، و (جدار)، و (جدر)، و (جدر)، وهما: الجدار.

{بَاسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا؛ ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة؛ لأن الشجاع يجبن، والعزيز يذل عند محاربة الله ورسوله. {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا} مجتمعين ذوي ألفة واتحاد، {وقُلُوبُهُمْ شَتَّى} متفرقة لا ألفة بينها، يعني: أن بينهم إحنًا وعداوات، فلا يتعاضدون حق التعاضد، ولا يرمون عن قوس واحدة. وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم. {قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم.

{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (و"جدار" ز"جدر")، ابن كثير وأبو عمرو:"جدار" بكسر الجيم وفتح الدال وألف، وأمال أبو عمرو فتحة الدال، والباقون:{جُدُرٍ} بضم الجيم والدال.

وقال ابن جني: قرأ أبو رجاء وأبو حية: جدر، بضم الجيم وإسكان الدال.

وقال الزجاج: فمن قرأ {جُدُرٍ} فهو جمع جدار، مثل: حمار وحمر، ومن قرأ بتسكين الدال: حذف الضمة لثقلها، كصحف وصحف، ومن قرأ "جدار" فهو الواحد.

قوله: ({قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم، ويعين على أرواحهم)، أي: على توهين أرواحهم وفسادها، لأن القلب مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ثم يسري منه الفساد إلى الروح.

ص: 336

فإن قلت: بم انتصب {قَرِيبًا} ؟

قلت: بـ"مثل"، على: كوجود مثل أهل بدر قريبًا {ذَاقُوا وبَالَ أَمْرِهِمْ} سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: إنما خص الأول بـ {لا يَفْقَهُونَ} ، والثاني بـ {لاَّ يَعْقِلُونَ} ، لأن المعنى: خوفكم منكم أشد من خوفهم من الله، لأنهم يعلمون ظاهره ولا يعرفون ما استتر عليهم منه، والفقيه يستدرك من الكلام ظاهره الجلي، وغامضه الخفي، بسرعة فطنته، وجوده قريحته، فلما رهبوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يرهبوا من الله عز وجل، صاروا كمن يعرف ما يشهده، ويجهل ما يغيب عنه، وقيل:{لا يَفْقَهُونَ} : لا يستدركون عظمة الله ويشاهدون جلالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعلمون أن ذلك لجلال الله تعالى.

وأما قوله: {لاَّ يَعْقِلُونَ} جاء بعد قوله: {بَاسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ومعناه: ليس يجمعهم الحق على طريقة واحدة، بل هم أتباع أهوائهم، وهم مختلفون باختلاف آرائهم، ولو عقلوا الرشد من الغي لاجتمعوا على الحق، فاختلافهم لأنهم لا يعقلون ما يدعو إلى طاعة الله، ويهدي إلى الصراط المستقيم، فالحق سبيل واحد مستقيم، والباطل سبل كثيرة يحمل عليها أهواء متشبعة، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

قوله: (بـ"مثل"، على: كوجود)، أي:{قَرِيبًا} متعلق بـ"مثل" في {كَمَثَلِ} ، على تقدير المضاف وهو العامل، أي: مثلهم كوجود مثل أهل بدر قريبًا، وذلك المثل هو:{ذَاقُوا وبَالَ أَمْرِهِمْ ولَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال أبو البقاء: {كَمَثَلِ} أي: مثلهم كمثل الذين من قبلهم، و {قَرِيبًا} أي: استقروا من قبلهم زمنًا قريبًا، أو ذاقوا وبال أمرهم قريبًا، أي: عن قريب.

ص: 337

من قولهم: "كلأ وبيل": وخيم سيئ العاقبة، ذاقوا عذاب القتل في الدنيا {وَلَهُمْ} في الآخرة عذاب النار. مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة، والمراد استغواؤه قريشًا يوم بدر؛ وقوله لهم:{لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} إلى قوله: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} [الأنفال: 48] وقرأ ابن مسعود: (خالدان فيها)، على أنه خبر"أن"، و {في النَّارِ} لغو، وعلى القراءة المشهورة: الظرف مستقر، و {خَالِدَيْنِ فِيهَا}: حال. وقرئ: (أنا بريء) و (عاقبتهما) بالرفع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كلأ وبيل)، أي: وخيم، الراغب: الوبل والوابل: المطر الثقيل، قيل للأمر الذي يخاف ضرره: وبال، يقال: طعام وبيل، وكلأ وبيل: يخاف وباله.

قوله: (والمراد استغواؤه قريشًا يوم بدر)، اعلم أن التعريف في قوله:{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} للعهد لا غير، إذ لا يتبادر منه إلا المتعارف شرعًا، وأما ما في "الإنسان" فيحتمل العهد، أي: قريشًا كما قال، ومعنى قوله:{اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ} : قصد إغواءهم، فدعاهم إلى قتال المسلمين فغووا، لا هذا اللفظ بعينه، وهو المراد من قوله:"المراد استغواؤه" لأن الذي قال لهم يوم بدر هو قوله: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} وقريب منه قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، ويحتمل الجنس على نحو قوله تعالى:{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مريم: 66] في أن لم يباشر الفعل إلا بعض الجنس، وفي معناه قوله تعالى:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ} إلى قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: 22] قال: "ومعنى كفره بإشراكهم إياه تبرؤه منه واستنكاره له، كقوله: {إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} [الممتحنة: 4] ".

ص: 338

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} 18 - 19]

كرر الأمر بالتقوى تأكيدًا، أو اتقوا الله في أداء الواجبات؛ لأنه قرن بما هو عمل، واتقوا الله في ترك المعاصي؛ لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد.

والغد: يوم القيامة، سماه باليوم الذي يلي يومك تقريبًا له، وعن الحسن: لم يزل يقربه حتى جعله كالغد. ونحوه قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24] يريد: تقريب الزمان الماضي. وقيل: عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران: يوم وغد.

فإن قلت: ما معنى تنكير النفس والغد؟

قلت: أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة، كأنه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويعضد الوجه الأول مجموع التمثيل الثاني من غير عاطف ليكون كالإبدال من التمثيل الأول، ولا يحسن الإبدال إلا على اتحاد موقع التمثيلين، فليتدبر فإنه دقيق، ولعله لهذه الدقيقة ولا يجاب أن يكون المشبه به أعرف وأبين وأشهر من المشبه، اختار هذا الوجه على سائر الوجوه التي ذكرها المفسرون.

قوله: (لأنه قرن بما هو عمل)، يعني: كرر {واتَّقُوا اللَّهَ} إما لمجرد التأكيد، أو كرر ليعلق به ثانيًا غير الأول، فعلق به أولًا:{مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ما قدمت لغد، وهو عبارة عن أعمال الخير: وثانيًا: {إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ، وهو عبارة عن التهديد والوعيد.

قوله: (أما تنكير النفس فاستقلا للأنفس النواظر)، أي: عدهم قليلًا كقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، الانتصاف: قال في قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14]: المراد بالتنكير التكثير، لأن كل نفس حينئذ، تعلم ما أحضرت لقوله: {يَوْمَ

ص: 339

وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره، كأنه قيل: لغد لا يعرف كنهه لعظمه. وعن مالك ابن دينار: مكتوب على باب الجنة: وجدنا ما عملنا، ربحنا ما قدمنا، خسرنا ما خلفنا.

{نَسُوا اللَّهَ} نسوا حقه، فجعلهم ناسين حق أنفسهم بالخذلان، حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده. أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم، كقوله تعالى:{لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} [إبراهيم: 43].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30] حتى قيل: إنه من عكس الكلام الذي يقصد به الإفراط، كقوله تعالى:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2] وهي بمعنى "كم" فقدر هاهنا ما يطابق الواقع في قلة الناظر في المعاد، فالفعل الذي أسند إلى {نَفْسٌ} ليس في وقوع النظر بل في طلب النظر فهو عام التعلق بكل نفس، قال صاحب "الانتصاف": إن ما ذكره الزمخشري أمكن وأحسن.

وقلت: وأصل الكلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} وانظروا ما تقدموا لأنفسكم ليوم القيامة، فوضع موضع الضمير {نَفْسٌ} منكورة تقليلًا لها وتقريعًا على قلة نظرها في العاقبة، وأقيم مقام يوم القيامة "غد" منكورًا، تهويلًا كأنه قيل: فلتنظر نفس واحدة لذلك اليوم الهول، ومنه قوله:{أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78].

وقلت: ويحتمل تعظيمها أي: نفس ناظرة إلى عاقبة أمرها، فيحصل الترقي من ذكر الإيمان إلى التقوى، ثم إلى النظر والتفكر، ثم رشح التقريع بقوله:{ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} . وقال الواحدي ومحيي السنة: لينظر أحدكم أيش الذي قدم لنفسه؟ أعملًا صالحًا ينجيه أم سيئًا يوبقه.

قوله: (فجعلهم ناسين حق أنفسهم بالخذلان)، الانتصاف: بل خلق فيهم النسيان.

ص: 340

[{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ} 20]

هذا تنبيه للناس وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم، وقلة فكرهم في العاقبة، وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار، والبون العظيم بين أصحابهما، وأن الفوز مع أصحاب الجنة؛ فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينهوا عليه، كما تقول لمن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة من لا يعرفه، فتنبهه بذلك على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف.

وقد استدل أصحاب الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هذا تنبيه للناس وإيذان) إلى آخره: (كأنهم لا يعرفون الفرق)، اعلم أن هذا التمثيل، أي:{لا يَسْتَوِي} كالتذييل لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} إلى آخره، وذلك أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتقوى التي هي قصارى كرامة الله، كما قال:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وبالنظر والتيقظ للعاقبة، والأخذ في العمل وما يسره الغد إذا لقيته، ثم نهاهم أن يكونوا من الغافلين الذين نسوا الله وتركوا الحذر، فأهملوا العمل للغد، فامتهنهم الله بالخذلان فأنساهم أنفسهم، حتى رأوا في العاقبة من الأهوال ما نسوا فيها أنفسهم، ذيل الكلام بقوله:{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وأَصْحَابُ الجَنَّةِ} مزيدًا للترغيب فيما يزلفهم إلى الله، ويدخلهم دار كرامته، ويجعلهم من أصحابها، والترهيب عما يبعدهم من الله، ويدخلهم دار الإهانة ويجعلهم من أصحابها، ومن ثم دق ولطف استدلال أصحابنا بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر وحسن كلام القاضي حيث قال: لا يستوي الذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا الجنة، والذين استمهنوا نفوسهم فاستحقوا النار.

ص: 341

[{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 21]

هذا تمثل وتخييل، كما مر في قوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] وقد دل عليه قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} [العنكبوت: 43]، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره.

وقرئ: (مصدعًا) على الإدغام، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل.

[{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 22 - 24]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كما مر في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ}) أي: في أحد وجهيه، وهو: أن يراد ما كلفه الإنسان من عظمه وثقل محمله، على أنه عرض على أعظم خلق الله من الأجرام وأقواه فأبى حمله، وكذلك مثل حالة عظمة كلام الله المجيد وجلالة تنزيله، وأن شأن القرآن كذا وكذا، بالحالة المفروضة للجبال، وهي حصول صدعها من خشية الله عند نزوله.

قال الواحدي: وبيانه: لو جعل في الجبل تمييز وأنزل عليه القرآن لخشع وتشقق من خشية الله، والمعنى: أن الجبل مع قساوته وصلابته يتشقق من خشية الله، حذرًا من أن لا يؤدي حق الله في تعظيم القرآن، والكافر مستخف بحقه، معرض عما فيه من العبر كأن لم يسمعها.

وقلت: هذا معنى قوله: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} أي: خاسر به.

ص: 342

{الغَيْبِ} المعدوم {والشَّهَادَةِ} : الموجود المدرك كأنه يشاهده. وقيل: ما غاب عن العباد وما شاهدوه. وقيل: السر والعلانية. وقيل: الدنيا والآخرة.

{القُدُّوسُ} بالضم والفتح، وقد قرئ بهما: البليغ في النزاهة عما يستقبح. ونظيره: السبوح، وفي تسبيح الملائكة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح. و {السَّلامُ} بمعنى السلامة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ما غاب عن العباد)، يريد أن الغيب والشهادة يجوز أن ينسبا إلى الله تعالى وإلى العباد، فعلى الأول يحمل الغيب على المعدوم، ولما كان المعدوم عندهم عبارة عن الشيء الذي يصح أن يعلم ويخبر عنه، قال ذلك، وأما الموجود ففيه ما يصح أن يشاهد وما لا يصح، فجعلت كلها بمنزلة المشاهد لله تعالى، مبالغة في قوله:"كأنه يشاهده"، والوجه هو الثاني، لما يخالف الأول تفسيره قوله تعالى:{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ} [يونس: 18] في سورة يونس، وقوله:{أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ} [الرعد: 33] في سورة الرعد، اللهم إلا أن يراد بأحدهما المعدوم الممكن، وبالآخر المعدوم الممتنع، ويؤيده تفسير صاحب "المفتاح":{بِمَا لَا يَعْلَمُ} : أي بما لا ثبوت له، ولا علم الله معلق به، نفيًا للملزوم، وهو المنبأ به بنفي لازمه، وهو وجوب كونه معلومًا للعالم الذات، لو كان له ثبوت بأي اعتبار كان. فحينئذ جاء التفصيل في قولهم: المعدوم شيء.

قوله: ({القُدُّوسُ} بالضم والفتح)، بالضم: المشهورة، والفتح: شاذ، قال ابن جني: فعول في الصفة قليل، وذكر سيبويه: السبوح والقدوس، وإنما باب الفعول الاسم؛ كتنور، وسفود، وعبود.

ص: 343

ومنه: {دَارُ السَّلَامِ} و {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] وصف به مبالغةً في وصف كونه سليمًا من النقائص، أو في إعطائه السلامة، ، {المُؤْمِنُ} واهب الأمن. وقرئ بفتح الميم بمعنى المؤمن به، على حذف الجار، كما تقول في قوم موسى من قوله تعالى:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]: المختارون بلفظ صفة السبعين. و {المُهَيْمِنُ} : الرقيب على كل شيء، الحافظ له، مفيعل من الأمن؛ إلا أن همزته قلبت هاءً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (المؤمن به على حذف الجار، كما تقول في قوم موسى من قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155]: المختارون) أي: يقول في شأن قوم موسى مستنبطًا من قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} : السبعون المختارون، فجعله صفة لـ"السبعون" ثم يطلق الصفة ويريد الموصوف، كما يطلق المؤمن ويريد المؤمن به، صفة لله تعالى. "المختارون"، هو مقول القول، أو نقول: إنك تصف قوم موسى بقولك: المختارون، وأنت تريد المختار منهم، جريًا على ظاهر قوله:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} ، قيل: إذا قلت: آمنت بالله فإنه مخرج منه الصفة مع إيجاز، فنقول: مؤمن به كما في ضرب من المثال، فإن معنى قوله:{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي: من قومه، فلو كان حرف الجر مصرحًا به لقلت في صفة القوم: المختار منهم، وإذا لم يكن حرف الجر مصرحًا به لقلت في صفة القوم: المختارون منهم.

قوله: (مفيعل من الأمن، إلا أن همزته قلبت هاء)، قال الزجاج: زعم بعض أهل اللغة أن الهاء بدل من الهمزة، وأن أصله:"المؤيمن"، كما قالوا: إياك وهياك، والتفسير يشهد لهذا القول، لأنه جاء أنه الأمين وجاء أنه الشهيد، فتأويل الشهيد: الأمين في شهادته.

قال حجة الإسلام: المهيمن في حق الله: أنه القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه وحفظه، وكل مشرف على كنه الأمر مستول

ص: 344

و {الجَبَّارُ} القاهر الذي جبر خلقه على ما أراد، أي أجبره، و {المُتَكَبِّرُ} البليغ الكبرياء والعظمة. وقيل: المتكبر عن ظلم عباده.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليه، حافظ له، فهو مهيمن عليه، والإشراف يرجع إلى العلم، والاستيلاء على كمال القدرة، والحفظ إلى الفعل، والجامع بين هذه المعاني اسمه المهيمن، ولن يجتمع ذلك على الإطلاق والكمال إلا لله تعالى.

قوله: (و {المُتَكَبِّرُ}: البليغ الكبرياء)، قال الأزهري: فإن قيل: التفعل يجيء في باب الصفات لمن يتكلف النعت الذي لا يستحقه، كقوله: يتعظم وليس بعظيم، ويتكبر وليس بكبير، ويتسخى وليس بسخي، فكيف جاز في صفة الخالق؟

والجواب: أن الفعل يجيء على غير معنى التكلف، من ذلك قولهم: فلان يتظلم أي يظلم، وفلان يتظلم أي يشكو ظلامته، ويسأل أن يعان على ظالمه، فإذا جاز أن يكون متفعل في موضع فاعل، جاز أن يكون في موضع فعيل فإنه أخوان. وقيل: إن المتكبر من الكبرياء الذي هو عظمة الله، لا الكبر الذي يذم به المخلوق، فالله استحق الكبرياء لأنه أكبر كبير وأعظم عظيم، ولا يستحقه المخلوق؛ الذي هو مدبر مخلوق من نطفة قذرة ويعود بعد موته جيفة أقذر منها، فهو متعد طوره بادعائه ما ليس له، والله عز وجل كما وصف نفسه، وفوق ما وصف، فهو متكبر بحق، وغيره مدع ما ليس له.

وقال حجة الإسلام: المتكبر هو: الذي يرى الكل حقيرًا بالإضافة إلى ذاته، ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه، فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد، فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبر حقًا، وكان صاحبها متكبرًا حقًا، ولا يتصور ذلك على الإطلاق إلا الله تبارك وتعالى.

ص: 345

و {الخَالِقُ} المقدر لما يوجده. و {البَارِئُ} المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة. و {المُصَوِّرُ} الممثل. وعن حاطب بن أبي بلتعة أنه قرأ: (البارئ المصور) بفتح الواو ونصب الراء، أي: الذي يبرأ المصور، أي: يميز ما يصوره بتفاوت الهيئات.

وقرأ ابن مسعود: (وما في الأرض).

عن أبي هريرة رضي الله عنه: سألت حبيبي صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال: "عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته" فأعدت عليه فأعاد علي، فأعدت عليه فأعاد علي.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({الخَالِقُ} المقدر لما يوجده)، روي عن المصنف: لما كانت إحداثات الله تعالى مقدرة بمقادير الحكمة عبر عن إحداثه بالخلق.

قوله: (عليك بآخر الحشر)، عن أحمد بن حنبل والترمذي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قال حين يمسي كان بتلك المنزلة".

تمت السورة

* * *

ص: 346

‌سورة الممتحنة

مدنية، وهي ثلاث عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ ومَا أَعْلَنتُمْ ومَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ويَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} 1 - 2]

روي أن مولاةً لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح، فقال لها:"أمسلمةً جئت؟ " قالت: لا. قال: "أفمهاجرةً جئت؟ " قالت: لا. قال: "فما جاء بك؟ " قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي، تعني: قتلوا يوم بدر، فاحتجت حاجةً شديدةً. فحث عليها بني عند المطلب فكسوها وحملوها وزودوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردًا، واستحملها كتابًا إلى أهل مكة نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، اعلموا أن رسول صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الممتحنة

ثلاث عشرة آية، مدنية بخلاف

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا وعمارًا وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد)،

ص: 347

عليًا وعمارًا وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد رضوان الله عليهم وكانوا فرسانًا وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينةً معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت، فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله، وسل سيفه، وقال: أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك، فأخرجته من عقاص شعرها.

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعةً: هي أحدهم، فاستحضر رسول الله حاطبًا وقال:"ما حملك عليه؟ " فقال: يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم؛ ولكني كنت امرًا ملصقًا في قريش، وروي: غريرًا فيهم، أي: غريبًا، ولم أكن من أنفسها، وكل من معك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والصحيح ما روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى إذا أتينا الروضة

إلى آخره، فيه اختلافات، النهاية: وأصل الظعينة: الراحلة التي يرحل ويظعن عليها، أي: يسار، وقيل للمرأة: الظعينة.

قوله: (من عقاص شعرها)، النهاية: العقيصة: الشعر المعقوص، وهو نحو من المضفور، وأصل العقص: اللي وإدخال أطراف الشعر في أصوله.

قوله: (منذ نصحتك)، النهاية: معنى نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم: التصديق بنبوته ورسالته، والانقياد لما أمر به ونهى عنه.

قوله: (غريرًا)، بالغين المعجمة، أي: ملصقًا، ويروى بالعين والراء المهملتين، وهو الأصح.

ص: 348

من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدًا، وقد علمت أن الله تعالى ينزل عليهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئًا فصدقه وقبل عذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق؛ فقال: "وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم، فنزلت.

عدى"اتخذ" إلى مفعوليه، وهما {عَدُوِّي} ، {أَوْلِيَاءَ}. والعدو: فعول، من عدا؛ ك"عفو" من"عفا"؛ ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد.

فإن قلت: {تُلْقُونَ} بم يتعلق؟

قلت: يجوز أن يتعلق بـ {لا تَتَّخِذُوا} حالا من ضميره؛ وبـ {أَوْلِيَاءَ} صف'ًله. ويجوز أن يكون استئنافًا.

فإن قلت: إذا جعلته صفةً لـ {أَوْلِيَاءَ} وقد جرى على غير من هو له، فأين الضمير البارز وهو قولك: تلقون إليهم أنتم بالمودة؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: العرير: الغريب في الحديث، وبالغين المعجمة: غير المجرب، والأول أصح دراية.

قوله: (لعل الله قد اطلع)، أي: علم أحوالهم في ذلك الوقت ومقادير أعمالهم وما يحصل لهم من الثواب في ذلك اليوم، بحيث يكون غافرًا معه جميع ذنوبهم التي ستوجد، لأن ذلك قطب الأمر، والمراد بقوله:"اعملوا ما شئتم": الذنوب غير المنصوص عليها.

قوله: (استئنافًا)، كأنه لما قيل:{لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} قالوا: كيف نتخذهم أولياء؟ فقيل: {تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} .

ص: 349

قلت: ذلك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال، لو قيل: أولياء ملقين إليهم بالمودة على الوصف لما كان بد من الضمير البارز؛ والإلقاء عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم، يقال: ألقى خراشي صدره، وأفضى إليه بشقوره.

والباء في {بِالْمَوَدَّةِ} إما زائدة مؤكدة للتعدي مثلها في: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وإما ثابتة على أن مفعول {تُلْقُونَ} محذوف، معناه: تلقون إليهم أخبار رسول الله بسبب المودة التي بينكم وبينهم.

وكذلك قوله: {تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} أي: تفضون إليهم بمودتكم سرًا، أو {تُسِرُّونَ إلَيْهِم} أسرار رسول الله بسبب المودة.

فإن قلت: {وقَدْ كَفَرُوا} حال مماذا؟

قلت: إما من {لا تَتَّخِذُوا} وإما من {تُلْقُونَ} أي: لا تتولوهم، أو توادونهم وهذه حالهم. و {يُخْرِجُونَ} استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوهم، أو حال من {كَفَرُوا} .

و{أَن تُؤْمِنُوا} تعليل لـ {يُخْرِجُونَ} ، أي: يخرجونكم لإيمانكم، و {إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ألقى إليه خراشي صدره)، الأساس: ومن المجاز: هو يلقي من صدره خراشي منكرة، وهو النخامة والبلغم، وتقول: ألقى إلى فلان خراشي صدره؛ تريد ما اضمره من الأغمار والإحن وأنواع البث.

قوله: (وأفضى إليه بشقوره)، الجوهري: الشقور: الحاجة، يقال: أقبلته بشقوري، كما يقال: أفضيت إليه بعجري وبجري.

قوله: (أو {تُسِرُّونَ إلَيْهِم} أسرار رسول الله)، هو كقوله:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3]، وعلى الأول من باب التضمين؛ ضمن {تُسِرُّونَ} معنى: تفضون، وعدي تعديته.

ص: 350

متعلق بـ {لا تَتَّخِذُوا} ، بمعنى: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وقول النحويين في مثله: هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه.

و{تُسِرُّونَ} استئناف، ومعناه: أي طائل لكم في إسراركم، وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي لا تفاوت بينهما، وأنا مطلع رسولي على ما تسرون.

{ومَن يَفْعَلْهُ} ومن يفعل هذا الإسرار فقد أخطأ طريق الحق والصواب. وقرأ الجحدري: (لما جاءكم) أي: كفروا لأجل ما جاءكم، بمعى: أن ما كان يجب أن يكون سبب إيمانهم جعلوه سببًا لكفرهم.

{إن يَثْقَفُوكُمْ} إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقول النحويين في مثله: هو شرط)، إشارة إلى التفاوت بين قولهم وقوله:" {إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلق بـ {لا تَتَّخِذُوا} "يعني جوابه محذوف غير منوي، وقد جعل تتميمًا للكلام السابق ومبالغة فيه، كما قال:"لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي"، ولو قيل: إن كنتم أوليائي لا تتولوا أعدائي لم يكن بذاك، لأن الشرط في الأول كالتعليل للنهي، وهو يقتضي حصول مضمونه قبل ذلك، وفي الثاني لمجرد التعليق، يدل عليه قوله في قوله تعالى:{إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 51]: "وهو من الشرط الذي يجيء به المدل بأمره، المتحقق لصحته، وهم كانوا متحققين أنهم كانوا أول المؤمنين".

فإن قلت: ما محله؟

قلت: هو حال من فاعل: {لا تَتَّخِذُوا} أي: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} والحال حال خروجكم في سبيل الله وابتغائكم مرضات الله، ألا ترى إلى قوله في قوله تعالى:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} إلى قوله: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 10 - 14] على قراءة: (إن) بالكسر: "أي: لا تطع كل حلاف شارطاُ يساره، لأنه إذا أطاع كافرًا لغناه، فكأنه اشترط في الطاعة الغنى"، كيف صرح بالشرط وأبرزه في معرض الحال والتعليل.

قوله: ({إن يَثْقَفُوكُمْ} إن يظفروا بكم)، الراغب، الثقف: الحذق في إدراك الشيء وفعله،

ص: 351

خالصي العداوة، ولا يكونوا لكم أوليا، كما أنتم {ويَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ} بالقتال والشتم، وتمنوا لو ترتدون عن دينكم، فإذن موادة أمثالهم ومناصحتهم خطأ عظيم منكم ومغالطة لأنفسكم، ونحوه قوله تعالى:{لَا يَالُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118].

فإن قلت: كيف أورد جواب الشرط مضارعًا مثله ثم قال: {ووَدُّوا} بلفظ الماضي؟

قلت: الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب، فإن فيه نكتةً، كأنه قيل: وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم، يعني: أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعًا: من قتل الأنفس، وتمزيق الأعراض،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومنه قيل: رجل ثقف لقف، أي: حاذق في إدراك الشيء وفعله، ومنه استعير المثاقفة، ورمح مثقف: مقوم، يقال: ثفقت كذا: إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر، ثم قال: قد يتجوز فيستعمل في الإدراك، وإن لم يكن معه ثقافة، قال تعالى:{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191].

قوله: ({لَا يَالُونَكُمْ خَبَالًا} ، يقال: ألا في الأمر يألو، إذا قصر فيه، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحًا، ولا آلوك جهدًا على التضمين، أي: لا أمنعك نصحًا ولا أنقصكه، فالمعنى: لو خرجوا فيكم ما زادوكم شيئًا إلا فسادًا وشرًا، وهذا يقوي تقرير الجزاء المقدر على ما سيأتي في قوله:{وَوَدُّوا} .

قوله: (الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع)، أي: لا فرق بين قولك: إن تكرمني أكرمك، وبين قولك: إن أكرمتني أكرمتك.

قوله: (كأنه قيل: وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم)، الراغب: الود: محبة الشيء مع تمنيه، ولما كان لهما استعمل في كل واحد منهما، فقيل: وددت فلانًا: إذا أحببته، ووددت الشيء: إذا تمنيته.

ص: 352

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال صاحب "التخليص في المعاني والبيان": في كلام صاحب "الكشاف" نظر دقيق، ولكن في جعل "ودوا" عطفًا على جواب الشرط نظر، لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارًا حاصلة، وإن لم يظفروا بهم، فلا يكون في تقييدها بالشرط فائدة، فالأولى أن يجعل قوله تعالى:{ووَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} عطفًا على الجملة الشرطية كقوله تعالى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111].

قال المصنف: "عدل بقوله: {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111] عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء كأنه قيل: ثم أخبركم بأنهم لا ينصرون".

وأجيب عنه بأن الذي ظننته جزاء وهو قوله تعالى: {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً} ، أيضًا لا يصلح لذلك، لأن كونهم أعداء حاصل، سواء ظفروا أو لم يظفروا، لقوله تعالى:{لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ} لكن المراد: إن يظفروا بكم يستوفوا منكم متمناهم الذي هو مقتضى أن يكونوا خالصي العداوة من بسط الأيدي والألسن، والرد إلى الكفر، فعطف "يبسطوا" و"ودوا" على قوله:{يَكُونُوا} ، على طريقة: أعجبني زيد وكرمه، فيكون كل من بسط الأيدي والألسن والرد إلى الكفر متمناهم لا الارتداد فقط، لكن لما كان ردهم كفارًا كان أشد متمناهم وأهم شيء عندهم، لانحسام مادة العداوة به، صرح بتمنيهم إياه، وعدل إلى لفظ الماضي؛ لبيان الأولوية والأولية.

ص: 353

وردكم كفارًا أسبق المضار عندهم وأولها؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم، لأنكم بذالون لها دونه، والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه.

[{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 3]

{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} أي قراباتكم {ولا أَوْلادُكُمْ} الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماةً عليهم، ثم قال:{يَوْمَ القِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} وبين أقاربكم وأولادكم {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} الآية [عبس: 34]، فما لكم ترفضون حق الله مراعاةً لحق من يفر منكم غدًا؟ خطأ رأيهم في موالاة الكفار بما يرجع إلى حال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتحريره: أنه تعالى لما نهى المسلمين عن اتخاذ من يعاديهم أولياء بقوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وأراد أن يخبر عن مطوي سرائرهم من تمنيهم للمسلمين مضار الدنيا والدين، وانتهازهم الفرصة لتحقيق متمناهم قال:{إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً} كما قررناه، فظهر أن الجزاء مقدر وهذا دال عليه، وهو من إطلاق السبب على المسبب، وفي كلامه إشعار بذلك، وهو قوله:"خالصي العداوة ولا يكونوا لكم أولياء"، وعن بعضهم الواو للحال لا للعطف.

قوله: (وتتقربون إليهم محاماة عليهم)، تعريض بحاطب، وقوله:"وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدًا"، وإليه أشار بقوله:"خطأ رأيهم في موالاة الكفار".

قوله: (خطأ رأيهم) إلى قوله: (أولًا) و (ثانيًا)، إشارة إلى أن قوله:{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} الآية، متصل بمجموع الشرط والجزاء، وكلاهما كالتعليل لقوله:{لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ} يعني موالاة الكفار خطأ، سواء نظرتم إلى حالكم وحالهم أو نظرتم إلى حال أقربائكم

ص: 354

من والوه أولًا، ثم بما يرجع إلى حال من اقتضى تلك الموالاة ثانيًا؛ ليريهم أن ما أقدموا عليه من أي جهة نظرت فيه وجدته باطلًا.

قرئ: (يفصل) و (يفصل)، على البناء للمفعول. و {يَفْصِلُ} و (يُفصِّل)، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل، و (نفصل) و (نفصل) بالنون.

[{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ومَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وإلَيْكَ أَنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ * رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا واغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 4 - 5]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأولادكم التي اقتضت تلك الموالاة، فهو من باب التقسيم الحاضر، وإليه أشار بقوله:"إن ما أقدموا عليه من أي جهة نظرت فيه وجدته باطلًا".

قوله: (بما يرجع)، الباء تتعلق بـ"خطأ"، أي: أن الله سبحانه وتعالى قال أولًا: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وبين أن مرجع موالاتهم أنهم إن ظفروا بكم وتمكنوا منكم، يكونوا لكم أعداء خالصي العداوة

إلخ، ثم أتبعه قوله:{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} ، وبين أن مرجع حال قراباتهم وأولادهم الذين يوالون الكفار من أجلهم أنهم لا ينفعونهم يوم القيامة ويفرون منهم.

قوله: (قرئ: "يفصل" و"يفصل")، قرأ عاصم:{يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة، وابن عامر: بضم الياء وفتح الفاء والصاد مشددة، وحمزة والكسائي: كذلك، إلا أنهما كسرا الصاد، والباقون: بضم الياء وإسكان الفاء وفتح الصاد مخففة، والقراءتان اللتان بالنون شاذتان، ذكرهما الزجاج.

ص: 355

قرئ: {أُسْوَةٌ} و (أسوة) وهو اسم المؤتسى به، أي: كان فيهم مذهب حسن مرضي بأن يؤتسى به ويتبع أثره، وهو قولهم لكفار قومهم ما قالوا، حيث كاشفوهم بالعداوة وقشروا لهم العصا، وأظهروا البغضاء والمقت،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أبو علي: يذهب أبو الحسن في هذا النحو إلى أن الظرف أقيم مقام الفاعل، وترك على الفتح الذي كان يجري عليه في الكلام منصوبًا، وكذلك يجيء على قياس قوله:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94]، قال أبو علي: هو على قوله مفتوح، والموضع موضع رفع.

قوله: (قرئ: {أُسْوَةٌ} و"إسوة")، بضم الهمزة: عاصم، والباقون: بكسرها.

قوله: (وهو اسم المؤتسى به)، روي عن المصنف أنه قال: القدوة والأسوة لكل واحد منهما معنيان؛ أحدهما: الاقتداء والائتساء وهو الأصل، والثاني: المقتدى به والمؤتسى به، والآية تحتمل الأمرين.

قوله: (أي: كان فيهم مذهب حسن مرضي)، أي: كان في إبراهيم ومن معه مذهب حسن، قال المصنف: هو كقوله:

وفي الرحمن للضعفاء كاف

وفي البيضة عشرة أمناء حديد.

قلت: هو من باب التجريد، كقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] جرد من إبراهيم عليه السلام ومن معه من يؤتسى به، وهم المؤتسى به.

قوله: (وقشروا لهم العصا)، قال الميداني: يضرب في خلوص الود، أي: أظهرت له ما كان في نفسي، ويقال: اقشر له العصا، أي: كاشفه وأظهر له العداوة.

ص: 356

وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم ليس إلا كفرهم بالله؛ وما دام هذا السبب قائمًا كانت العداوة قائمةً، حتى إن أزالوه وآمنوا بالله وحده انقلبت العداوة موالاةً، والبغضاء محبةً، والمقت مقةً، فأصبحوا عن محض الإخلاص.

ومعنى {كَفَرْنَا بِكُمْ} وبما تعبدون من دون الله: أنا لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم، وما أنتم عندنا على شيء.

فإن قلت: مم استثني قوله: {إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ} ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم ليس إلا بكفرهم بالله)، وهو نظير ما سبق من قولنا:"لما كان ردهم كفارًا أشد متمناهم، وأهم شيء عندهم لانحسام مادة العداوة به"، وفيه إيماء إلى قصة الخليل، والتحريض على الائتساء به وإنما جيء بها بيانًا للمكافأة وانتهازًا للفرصة قبل فرصة الكفار، يعني: إذا كان عداوتهم والضرب والقتل والشتم لأجل أنكم تركتم دينهم وآمنتم بالله، وأنهم إنما يعادونكم لأجل ذلك، وهم مترصدون إظهار كل ذلك، وأهم من ذلك ردكم كفارًا لانحسام مادة العداوة به، فاستبقوا أنتم واقتدوا بخليل الله، فكاشفوهم بالعداوة وأظهروا البغضاء والمقت، وصرحوا بأن سبب عداوتنا أيضًا ليس إلا كفركم بالله، وما دام هذا السبب قائمًا كانت العداوة قائمة، حتى إن أزلتموه انقلبت العداوة موالاة.

قوله: (مقة)، الجوهري: المقة: المحبة، والهاء عوض من الواو، وقد ومقه يمقه بالكسر فيهما، أي: أحبه، فهو وامق.

قوله: (إنا لا نعتد بشأنكم)، يريد أنه تعالى أوقع كفرنا على الكفار وعلى معبوديهم، والثاني ظاهر، نحوه قوله:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة: 256]، والأول مجاز فينبغي أن يعبر بالكفر

ص: 357

قلت: من قوله: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، لأنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذوه سنةً يستنون بها.

فإن قلت: فإن كان قوله {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} مستثنىً من القول الذي هو أسوة حسنة، فما بال قوله:{ومَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} وهو غير حقيق بالاستثناء؟ ! ألا ترى إلى قوله: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 17]؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن معنى يجمع المعنيين، ولا يلزم إرادة الحقيقة والمجاز معًا من لفظ واحد، وذلك هو الاعتداد؛ لاستلزام الكفر بالشيء عدم الاعتداد به.

قوله: (من قوله: {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، لأنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم)، والظاهر أنه استثناء منقطع من "قوم"، لاختلاف القولين، قال في قوله:{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آَلَ لُوطٍ} [الحجر: 58 - 59]: "استثناء منقطع من {قَوْمِ}؛ لأن القوم موصوفون بالإجرام، فاختلف لذلك الجنسان".

قال أبو البقاء: {إلاَّ قَوْلَ} ، هو استثناء من غير الجنس، أي: لا تأتسوا به في استغفار الكفار. قال صاحب"التيسير": الاستثناء منقطع، وتقديره: لكن {قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} الآية، كان لموعدة وعدها إياه، فظن أنه قد أنجزها، فلما تبين إصراره تبرأ منه، ولا يحل لكم ذلك مع عملكم، وتحقيق القول فيه سبق في سورة مريم.

وقال محيي السنة: لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره، إلا في استغفاره لأبيه المشرك، فعلى هذا الاستثناء متصل.

قوله: (وهو غير حقيق بالاستثناء)، لأن الاقتداء في هذا القول حسن، ألا ترى إلى

ص: 358

قلت: أراد استثناء جملة قوله لأبيه، والقصد: إلى موعد الاستغفار له، وما بعده مبني عليه وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار.

فإن قلت: بم اتصل قوله: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} ؟

قلت: بما قبل الاستثناء، وهو من جملة الأسوة الحسنة.

ويجوز أن يكون المعنى: قولوا: ربنا، أمرًا من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه، وتعليمًا منه لهم، تتميمًا لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم، وتنبيهًا على الإنابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر، والاستغفار مما فرط منهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} [الفتح: 11].

قوله: (أراد استثناء جملة قوله لأبيه، والقصد: إلى موعد الاستغفار)، يعني: أن الاستثناء مجموع الكلام، لكن بعضه مقصود بالذات، والبعض الآخر تابع له، فيكون:{ومَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} حالًا وتتميمًا لقوله: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} وما عليه من بذل الوسع في الاستغفار، ومن ثم جيء بها قسمية.

قوله: (بما قبل الاستثناء)، وذلك أنهم لما خاطبوا القوم بقولهم:{وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ} ونبهوهم على إظهار العداوة، وقشروا لهم العصا لأجل الدين التجؤوا إلى الله تعالى من كيدهم ومكرهم، وأنابوا إليه واستعاذوا من فتنتهم، وحين بولغ في التوصية بالتأسي بهم ذكر خصلة واحدة يجب الاجتناب عنها، فأورد في خلال الكلام اهتمامًا، وبهذا ظهر وجه قول محيي السنة رحمه الله: لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه، وهذا الاستثناء على حد قول السيد الحميري:

ص: 359

وقرئ: {بُرَآءُ} كـ (شركاء)، و (براء) كـ (ظراف)، و (براء) على إبدال الضم من الكسر، كرخال ورباب. و (براء) على الوصف بالمصدر، والبراء والبراءة كالظماء والظماءة.

[{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ ومَن يَتَوَلَّ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} 6]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لو خير المنبر فرسانه .... ما اختار إلا منكم فارسا

قال صاحب "المفتاح": هذا التقديم والتأخير لما استلزم قصر الصفة قبل تمامها على الموصوف، قل دوره في الاستعمال.

وعلى أن يكون: {رَّبَنَا} أمرًا للمؤمنين، يكون متصلًا بمفتتح السورة، وذلك أنه تعالى لما حذر المؤمنين من موالاة أعدائه وأعدائهم، ونسب من يفعل مثل فعلهم إلى الضلالة، وخطأ رأيهم بموالاتهم من جميع الجهات، وهددهم بقوله:{واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وأراد أن يرشدهم إلى تحري الصواب، والتهدي إلى الطريق القويم قال أولًا:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ} أي: كافحوا الكفار مكافحة خليل الله والذين معه حيث كاشفوهم بالعداوة، وقشروا لهم العصا، وأظهروا البغضاء بدل المولاة والمصافاة، وثانيًا:{رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} ، أي: اعتذروا إلى الله بإبدال التوكل على الكفار بالتوكل على العزيز الجبار، وبالإبانة إليه في كل حال، والاستعاذة من فتنة أعداء الدين والاستغفار مما فرط منهم من الموالاة.

قوله: (وقرئ: {بُرَآءُ} كـ"شركاء") وهي المشهورة، والبواقي شواذ.

قال الزجاج: {بُرَآءُ} : على فعلاء، مثل ظريف وظرفاء، ومن قرأ "براء" بالمد، فهو كظريف وظراف، ومن قرأ "براء": أبدل الضمة من الكسرة، كرخل ورخال بضم الراء، وقال

ص: 360

ثم كرر الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه تقريرًا وتأكيدًا عليهم، ولذلك جاء به مصدرًا بالقسم؛ لأنه الغاية في التأكيد، وأبدل عن قوله:{لَكُمْ} قوله: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ} وعقبه بقوله: {ومَن يَتَوَلَّ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} فلم يترك نوعًا من التأكيد إلا جاء به.

[{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً واللَّهُ قَدِيرٌ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 7]

ولما نزلت هذه الآيات تشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين ومقاطعتهم، فلما رأى الله عز وجل منهم الجد والصبر على الوجه الشديد، وطول التمني للسبب الذي يبيح لهم الموالاة والمواصلة، رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنوه، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم، فأسلم قومهم وتم بينهم من التحاب والتصافي ما تم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعضهم: رخال بضم الراء، ويجوز "براء" بفتح الباء، لأنهم يقولون: أنا البراء منك، ويقول الاثنان والثلاثة والمرأة: نحن البراء منك.

قوله: (ثم كرر الحث على الائتسام بإبراهيم عليه السلام وقومه تكريرًا وتأكيدًا)، ظاهره أن إرادة التكرير لمجرد التأكيد، وذهب الراغب إلى أن التكرير لإناطة معنى زائد حيث قال: إن الإسلام بني أوله على التبرؤ من الآلهة وعبادتها، ومن الأصنام وعبدتها، ألا ترى إلى قول من يشهد بالتوحيد أنه ينفي الآلهة أولًا بقوله:"لا إله" ويثبت ثانيًا بقوله: "إلا الله" الواحد، الذي يحق له العبادة، فقال في "الأسوة" الأولى المتعلقة بالبراءة من الكفار ومن فعلهم:{إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} ، وأنهم يعادونهم إلى أن يؤمنوا، فهذه الأسوة تفصل المؤمن من الكافر، ليتميز عنه في الظاهر، ويتبرأ من صداقته ويتحقق بعداوته.

ص: 361

وقيل: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة، فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان، واسترخت شكيمته في العداوة، وكانت أم حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة، فتنصر وأرادها على النصرانية، فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها عليه، وساق عنه إليها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والثانية معناها: ائتسوا بهم لتنالوا من ثوابهم، وتنقلبوا إلى الآخرة كانقلابهم مبشرين بالجنة غير خائفين.

وقلت: إنه تعالى لما سلى المسلمين في قطع موالاة أقربائهم الكفار بالائتساء بإبراهيم والذين معه، واستثنى منه استغفاره لأبيه لما لم يظهر له أمارة أو نص من الله بالبراء الكلية منه، كما ظهر للمسلمين، بقوله:{لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} كما سبق تقريره في سورة مريم، كرر الائتساء به وتركه مطلقًا ليكون صالحًا لجميع ما يجب أن يؤتسى به، يشهد له قوله:{ومَن يَتَوَلَّ} بخلافه في الأول حيث أبدل من المؤتسى فيه قوله: {إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ} ، ليكون تعميمًا بعد تخصيص، وهنا أبدل {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ} من {لَكُمْ} ، ليكون مزيد نعت وتحريض على الائتساء به، فحصل من ذلك التأكيد والتقرير مع الشمول والعموم والله أعلم.

قوله: (لانت

عريكة أبي سفيان)، النهاية: العريكة: الطبيعة، يقال: فلان لين العريكة: إذا كان سلسًا مطواعًا قليل الخلاف، وفيه، فلان شديد الشكيمة: إذا كان عزيز النفس، أبيا قويًا، وأصله من شكيمة اللجام، فإن قوتها تدل على قوة الفرس.

قوله: (وأرادها على النصرانية): الأساس: أراده على الأمر: حمله عليه.

قوله: (فخطبها عليه)، هذا ليس من قوله:"نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه"

ص: 362

مهرها أربع مئة دينار، وبلغ ذلك أباها فقال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه.

و{عَسَى} وعد من الله، على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج: عسى أو لعل، فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك، أو قصد به إطماع المؤمنين، {واللَّهُ قَدِيرٌ} على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة {واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن أسلم من المشركين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو أن يخطب الرجل المرأة فتركن إليه ويتفقا على صداق معلوم ويتراضيا ولم يبق إلا العقد، بل من باب التضمين، إذ المعنى: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي يطلب أن يباشر عقدها على رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبًا له إياها، يدل عليه قوله:"ساق عنه"- أي: ساق النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم حبيبة مئة دينار. قال صاحب "الجامع": وقد اختلف في وقت نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، إياها، وموضع العقد، وقيل: إنه عقد عليها بأرض الحبشة سنة ست، وزوجها منه النجاشي وأمهرها أربع مئة دينار، وقيل: أربعة آلاف درهم من عنده، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم شرحبيل بن حسنة فجاء بها إليه، ودخل بها بالمدينة.

قوله: (ذلك الفحل لا يقدع أنفه)، النهاية: يقال: فدعت الفحل وهو أن يكون غير كريم، فإذا أراد ركوب الناقة الكريمة ضرب أنفه بالرمح وغيره ليرتدع وينكف، ويروى بالراء.

ومنه حديث زواجه صلوات عليه، قال ورقة بن نوفل: محمد يخطب خديجة، هو الفحل لا يقدع أنفه.

ص: 363

[{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ومَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 8 - 9]

{أَن تَبَرُّوهُمْ} بدل من {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} ، وكذلك {أَن تَوَلَّوْهُمْ} من {الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ} ، والمعنى: لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهذا أيضًا رحمة لهم لتشددهم وجدهم في العداوة متقدمة لرحمته بتيسير إسلام قومهم، حيث رخص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم. وقيل: أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه.

وعن مجاهد: هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا. وقيل: هم النساء والصبيان.

وقيل: قدمت على أسماء بنت أبي بكر أمها قتيلة بنت عبد العزى وهي مشركة بهدايا، فلم تقبلها ولم تأذن لها في الدخول، فنزلت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها وتقبل منها، وتكرمها وتحسن إليها، وعن قتادة: نسختها آية القتال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الميداني: القدع: الكف، يضرب للشريف الذي لا يرد عن مصاهرة ومواصلة.

قوله: (متقدمة لرحمته)، إما خبر بعد خبر لقوله:"وهذا أيضًا رحمة"، أو صفة لـ"رحمة"، يعني قوله:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ} رحمة من الله للعالمين متقدمة على ما وعدهم الله تعالى من تيسير إسلام قومهم بقوله: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} قال فيه: "فلما رأى الله منهم الجد والصبر وطول التمني للسبب الذي يتيح لهم الموالاة، رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنوه".

قوله: (قدمت على أسماء بن أبي بكر)، رضي الله عنهما، عن البخاري ومسلم وأبي داود

ص: 364

{وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} وتفضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم، وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعلموا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم، مترجمةً عن حال مسلم يجترئ على ظلم أخيه المسلم.

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ واسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ ولْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وإن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} 10 - 11]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قدمت على أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال:"نعم صلي أمك".

زاد في رواية عن البخاري ومسلم: فأنزل الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ} الآية.

قوله: (وتفضوا إليهم بالقسط)، يريد أن "تقسطوا إليهم" متضمن معنى الإفضاء، وعدي تعديته.

قوله: (مترجمة)، نصب تمييزًا، أي: ناهيك بتوصية الله مترجمة، يعني قوله:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} إلى قوله: {أَن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ} ثم تذييله بقوله: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} حسبك وكافيك تنبيهًا على قبح صنيع من يجترئ على ظلم أخيه المسلم.

ص: 365

{إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ} سماهن مؤمنات لتصديقهن بألسنتهن ونطقهن بكلمة الشهادة ولم يظهر منهن ما ينافي ذلك، أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان {فَامْتَحِنُوهُنَّ} فابتلوهن بالحلف والنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للممتحنة: "بالله الذي لا إله إلا هو، ما خرجت من بغض زوج؟ بالله ما خرجت رغبةً عن أرض إلى أرض؟ بالله ما خرجت التماس دنيا؟ بالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله؟ ". {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ} منكم لأنكم لا تكسبون فيه علمًا تطمئن معه نفوسكم، وإن استحلفتموهن ورزتم أحوالهن، وعند الله حقيقة العلم به، {فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّارِ} فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين؛ لأنه لا حل بين المؤمنة والمشرك. {وآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا} وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور. وذلك أن صلح الحديبية كان على: أن من أتاكم من أهل مكة رد إليهم، ومن أتى مكة منكم لم يرد إليكم؛ وكتبوا بذلك كتابًا وختموه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولم يظهر)، قيل: يجوز أن يكون حالًا من فاعل "تصديقهن"، وأن يكون عطفًا على "تصديقهن".

قوله: (لأنه لا حل بين المؤمنة والمشرك)، الانتصاف: يستدل بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع لأن الضمير الأول للمؤمنات، والثاني للكفار، وفر الزمخشري من ذلك لأن أبا حنيفة رضي الله عنه لا يرى حملها على نفي الحل بين المؤمنة والكافر، حتى لا يتمحض نسبة الحرمة لكافر، ولا مخلص له، فإن الحل لابد أن يضاف إلى فعل أحدهما أو كليهما، فإن تعلق بكل واحد منهما حصل المقصود، وتعليقه بفعل المرأة دون فعل الرجل يخالف الآية، فإنها صرحت بنفي الحل من الجهتين فكان يكفي:{ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . والحق أن كل واحد من فعلي المؤمنة والكافر ينتفي عنه الحل، أما فعل المؤمنة فتعلق به الحرمة لأنها مخاطبة، وأما

ص: 366

فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمةً والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، فأقبل زوجها مسافر المخزومي- وقيل: صيفي بن الراهب- فقال: يا محمد، اردد علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف، فنزلت، بيانًا لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء.

وعن الضحاك: كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد: أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك.

وعن قتادة: ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد {بَرَاءَةٌ} ، فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق وتزوجها عمر.

فإن قلت: كيف سمى الظن علمًا في قوله: {فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} ؟

قلت: إيذانًا بأن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد والقياس جار مجرى العلم، وأن صاحبه غير داخل في قوله:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فعل الكافر- وهو الوطء مثلًا- فمنفي الحل باعتبار أن هذا الوطء مشتمل على المفسدة فليس الكفار مورد الخطاب، لكن الأئمة أو من قام مقامهم مخاطبون أن يمنعوا هذا الفعل من الوقوع، لكن المخاطب في حق المؤمنة هي، وفي حق الكافر الأئمة، والكافر إذا أظهر الفساد بين المسلمين وجب منعه، لأن الشرع أمر بإخلاء الوجود من المفاسد.

وقلت: تحرير ما قال: إن قوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ، دل بمفهومه أنه لا حل بين المؤمنة والمشرك، فأخذ المصنف به وترك دلالة منطوقة ولا ينفعه ذلك؛ لأن الذهاب إلى دلالة المنطوق أظهر، وإليه أومأ بقوله:"ولا مخلص له"، إلى آخره.

ص: 367

فإن قلت: فما فائدة قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ} وذلك معلوم لا شبهة فيه؟

قلت: فائدته بيان أن لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإن ذلك مما استأثر به علام الغيوب، وأن ما يؤدي إليه الامتحان من العلم كاف في ذلك، وأن تكليفكم لا يعدوه. ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات إا آتوهن أجورهن- أي مهورهن-، لأن المهر أجر البضع، ولا يخلو إما أن يراد بها ما كان يدفع إليهن، ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزوجهن تقديم أدائه، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهن على سبيل القرض، ثم تزوجن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قلت: ما فائدة التغيير بين الجملتين من جعل المسند في الأولى صفة مشبهة، وفي الثانية مضارعًا.

قلت: أسند {حِلٌّ} وهو صفة مشبهة إلى ضمير {المُؤْمِنَاتُ} إعلامًا بأن هذا الحكم ثابت فيهن، لا يجوز فيه الإخلال والتغيير من جانبهن، وأسند {يَحِلُّونَ} وهو مضارع إلى ضمير {الكُفَّارِ} إيذانًا بأن هذا الحكم مستمر الامتناع في الأزمنة المستقبلة، لكن قابل للتغيير باستبدال الهدى بالضلال، ونظير هذا الاستمرار ما في قوله تعالى:{اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] فأنه فسر. بقوله: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126]، ثم في كل من الجملتين حكم إعرابي وحكم شرعي؛ ففي الأولى حكم بنفي الحل على المؤمنات وحظر على الكافرين نكاح المؤمنات كما تقول: لا تحل لزيد أكل مال الغير غصبًا، وظهر منه أن الكفار مكلفون بهذا الحكم، وتقرير الجملة الثانية بالعكس من ذلك.

قوله: (ولا يخلو إما أن يراد بها)، وإنما نشأت الوجوه الثلاثة من تعليق رفع الجناح بإيتاء أجورهن، وتفسير الأجور؛ أي: لابد من تقدم إيتاء الأجور على عقد النكاح، فإذا فسرت

ص: 368

على ذلك لم يكن به بأس، وإما أن يبين لهم أن ما أعطي أزواجهن لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق. وبه احتج أبو حنيفة على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلمًا أو بذمة وبقي الآخر حربيًا وقعت الفرقة، ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها إلا أن تكون حاملًا.

{ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} والعصمة ما يعتصم به عقد وسبب، يعني: إياكم وإياهن، ولا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقةً زوجية. قال ابن عباس: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها من نسائه، لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأجور بالمهور التي من جانب المسلمين، فيشترط سوق المهر قبل العقد ليدفعنه إلى أزواجهن الكفار، وإذا فسرت الأجور من جهة الأزواج الكفار، فهو إما أن يحمل ما أعطي أزواجهن على الفرض، ليكون بدلًا عن أجورهن بعد العقد، وإليه أشار بقوله:"ثم يتزوجن على ذلك"، وإما أن يحمل على الهبة قيلزم المسلم بعد العقد مهرها، وإليه أشار بقوله:"وأنه لابد من إصداق".

قوله: (وقعت الفرقة)، قيل: عند الشافعي رضي الله عنه لا تقع الفرقة إلا بإسلامها، وأما بمجرد الخروج فلا، فإن أسلمت قبل الدخول تنجزت الفرقة، وبعد الدخول توقفت إلى انقضاء العدة، وليس في الآية دلالة على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لأنها مقيدة بالإيمان.

قوله: (فلا يعتدن بها من نسائه)، قيل: عند الشافعي ذلك لأنها كافرة من غير أهل الكتاب أو مرتدة.

ص: 369

وعن النخعي: هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر. وعن مجاهد: أمرهم بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن {واسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ} من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفر {ولْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا} من مهور نسائهم المهاجرات. وقرئ: {ولا تُمْسِكُوا} بالتخفيف، و (لا تمسكوا) بالتثقيل، ولا تمسكوا، أي: ولا تتمسكوا {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} يعني جميع ما ذكر في هذه الآية {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلام مستأنف، أو حال من {حُكْمُ اللَّهِ} على حذف الضمير، أي: يحكمه الله، أو جعل الحكم حاكمًا على المبالغة.

روي أنها لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى أزواجهن المشركين، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئًا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، فنزل قوله:{وإن فَاتَكُمْ} وإن سبقكم وانفلت منكم {شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} أحد منهن {إلَى الكُفَّارِ} ، وهو في قراءة ابن مسعود: أحد.

فإن قلت: هل لإيقاع {شَيْءٌ} في هذا الموقع فائدة؟

قلت: نعم، الفائدة فيه: أن لا يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر، غير معوض منه تغليظًا في هذا الحكم وتشديدًا فيه. {فَعَاقَبْتُمْ}: من العقبة وهي النوبة. شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارةً، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({وَلا تُمْسِكُوا} بالتخفيف)، أبو عمرو: بالتشديد، والباقون: بالتخفيف.

قوله: (فنزل قوله: {وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ})، وفي "المطلع": قال ابن زيد: خرجت امرأة من المسلمين إلى المشركين وأتت امرأة من المشركين فقال القوم: هذه عقبتكم قد أتتكم فنزلت.

ص: 370

ومعناه: فجاءت عقبتكم من أداء المهر، {فَآتُوا} من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة، ولا تؤتوه زوجها الكافر، وهكذا عن الزهري: يعطى من صداق من لحق بهم. وقرئ: (فأعقبتم)، (فعقبتم) بالتشديد، (فعقبتم) بالتخفيف _ بفتح القاف وكسرها-، فمعنى (أعقبتم): دخلتم في العقبة، و (عقبتم) من عقبه: إذا قفاه، لأن كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه، وكذلك (عقبتم) بالتخفيف، يقال: عقبه يعقبه.

وعقبتم نحو تبعتم.

وقال الزجاج: {فَعَاقَبْتُمْ} فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم، والذي ذهبت زوجته كان يعطى من الغنيمة المهر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من فاتته امرأته)، قيل: يعني فاتت امرأة مسلم إلى الكفار ولم يعط الكفار مهرها، فإذا فاتت امرأة كافر إلى المسلمين؛ أي: هاجرت إليهم، وجب على المسلمين أن يعطوا المسلم الذي فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهر زوجها الفائتة من مهر هذه المهاجرة، ليكون كالعوض لمهر زوجه الفائته إلى الكفار، ولا يجوز أن يعطى مهر هذه المهاجرة زوجها الكافر.

قوله: (ولا تؤتوه زوجها الكافر)، وفي "المطلع": ليكون قصاصًا، ولهذا قال مجاهد: معنى {فَعَاقَبْتُمْ} : اقتصصتم.

قوله: (وقرئ: "فأعقبتم")، قال ابن جني:"فعقبتم": قراءة الأعرج، "فعقبتم" خفيفة: قراءة النخعي والزهري، "فعقبتم" بكسر القاف: قراءة مسروق، وقراءة العامة:{فَعَاقَبْتُمْ} . قال قطرب: {فَعَاقَبْتُمْ} : أصبتم عقبًا منهن، يقال: عاقب الرجل شيئًا: إذا أخذ شيئًا، وقرأ مجاهد:"فأعقبتم"، ومعناه: صنعتم بهم مثل ما صنعوا بكم. وعن الأعمش: عقبتم: غنمتم.

ص: 371

وفسر غيرها من القراءات: فكانت العقبى لكم، أي: فكانت الغلبة لكم حتى غنمتم. وقيل: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة وزوجها عمرو بن عبد ود، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص، وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة.

[{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ ولا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ولا يَاتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وأَرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ واسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 12]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفسر غيرها)، أي: وفسر الزجاج غير القراءة المشهورة- وهي "عاقبتم"- من القراءات الشواذ بقوله: فكانت العقبى لكم، أي: كانت الغلبة لكم حتى غنمتم.

وقلت: والزجاج لما عدد القراءات قال: وجاء في التفسير: فغنمتم وتأويله في اللغة: فكانت العقبى لكم، أي: كانت الغلبة لكم حتى غنمتم، يعني أن المفسرين أرادوا بتفسيرهم "فعقبتم" بقولهم: فغنمتم من عدوكم: أنه من إقامة السبب مقام المسبب، لأن الغنيمة إنما هي مسببة من غلبة المسلمين، فكأنه قيل: إن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فغنمتم من عدوكم شيئًا، فأعطوا الأزواج من تلك الغنيمة ما أنفقوا عليهن، وقال أيضًا: معنى {فَعَاقَبْتُمْ} : فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم. أي: إن مضت امرأة منكم إلى الكفار فأتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا في مهورهن، والذي ذهبت زوجته كان يعطى

ص: 372

{ولا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} وقرئ: (يقتلن)، بالتشديد، يريد: وأد البنات {ولا يَاتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وأَرْجُلِهِنَّ} كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك، كني بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذبًا، لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلده به بين الرجلين.

{ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فيما تأمرهن به من المحسنات وتنهاهن عنه من المقبحات. وقيل: كل ما وافق طاعة الله فهو معروف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من الغنيمة المهر، ولا ينقص من حقه شيء، قال ابن جني: روينا عن قطرب أنه قال: {فَعَاقَبْتُمْ} : أصبتم عقبًا منهن، يقال: عاقب الرجل شيئًا: إذا أخذ شيئًا.

قوله: (لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين)، ويمكن أن يقال إنما كنى عن الولد الدعي بقوله:{بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وأَرْجُلِهِنَّ} لأن اللواتي كن يظهرن البطون لأزواجهن في بدء الحال، إنما فعلن ذلك امتنانًا عليهم، وكن يبدين في ثاني الحال عند الطلق حتى يضعن الحمل بين أرجلهن أنهن ولدن لهم، فنهين عن ذلك، أي: فلا يفعلن ذلك، فإن ذلك من شعائر الجاهلية الأولى، وهو مناف لشيمة المسلمات المؤمنات تصويرًا لتينك الحالتين، وتهجينًا لما كن يفعلنه.

روى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا تلحق بزوجها ولدًا ليس منه.

قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك، فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن. وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وليس المعنى على نهيهن من أن يأتين بولد من الزنى فتنسبه إلى الأزواج، لأن الزنى نفي بقوله:{وَلَا يَزْنِينَ} .

ص: 373

فإن قلت: لو اقتصر على قوله: {ولا يَعْصِينَكَ} فقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بمعروف؟

قلت: نبه بذلك على أن طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي والاجتناب.

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أسفل منه، يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام:" أبايعكن على أن لا تشركين بالله شيئًا" فرفعت هند رأسها وقالت: والله لقد عبدنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمرًا ما رأيناك أخذته على الرجال، تبايع الرجال على الإسلام والجهاد، فقال عليه الصلاة والسلام:{ولا يَسْرِقْنَ} ، فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصبت من ماله هنات، فما أدري، أتحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (نبه بذلك على أن طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي)، يعني: إذا قيد معصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالمعروف مع جلالة قدره وعلو منزلته، وأنه لا يأمر إلا بالمعروف، فما ظنك بطاعة غيره في المعصية؟ !

قال الزجاج: {ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} ، قيل: في النوح وتمزيق الثياب وخمس الوجوه ومحادثة الرجال، والجملة أن المعنى: لا يعصينك في جميع ما تأمرهن بالمعروف.

قوله: (وإنك لتأخذ علينا أمرًا ما رأيناك أخذته على الرجال)، أنكرت أمر الشرك، يعني تقول للرجال: تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون، وتقول لنا: على أن لا تشركن بالله شيئًا،

ص: 374

فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف- يا نبي الله- عفا الله عنك، فقال:{ولا يَزْنِينَ} ، فقالت: أو تزني الحرة؟ ! وفي رواية: ما زنت منهن امرأة قط، فقال عليه الصلاة والسلام:{ولا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} فقالت: ربيناهم صغارًا وقتلتهم كبارًا فأنتم وهم أعلم. وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر!

فضحك عمر حتى استلقى، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:{ولا يَاتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ} فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال:{ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

وقيل في كيفية المبايعة: دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده، ثم غمسن أيديهن.

وقيل: صافحهن وكان على يده ثوب قطري. وقيل: كان عمر يصافحهن عنه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: الرجال والنساء عبدوا الأصنام، ثم تعيرنا بالشرك، ولا تعير الرجال.

قوله: (وقيل في كيفية المبايعة)، والصحيح ما رويناه عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ} وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا يملكها.

قوله: (ثوب قطري)، النهاية: قطوى بالواو، وهو ضرب من البرود فيها حمرة، ولها أعلام فيها بعض الخشونة، وقيل: هي حلل جياد تحمل من قبل البحرين.

وقال الأزهري: في أعراض البحرين قرية يقال لها "قطر" بالراء، وأحسب الثياب القطرية نسبت إليها فكسروا القاف للنسبة وخففوا.

ص: 375

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ القُبُورِ} 13]

روي أن بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم، فقيل لهم:{لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا} مغضوبًا عليهم {قَدْ يَئِسُوا} من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة. {كَمَا يَئِسَ الكُفَّارُ} من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء.

وقيل: {مِنْ أَصْحَابِ القُبُورِ} بيان للكفار، أي: كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة؛ لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كانوا يواصلون اليهود)، الانتصاف: يمكن أن تكون هذه الآية من باب الاستطراد، فإنه تعالى لما ذم اليهود استطرد ذمهم بذم المشركين على وجه لا يوجد أفصح ولا أمكن منه.

وأقول: إن هذه الآية متصلة بخاتمة قصة المشركين الذين نهى المؤمنين عن اتخاذهم أولياء بقوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ} وهي قوله: {ومَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي: الكاملون في الظلم، وقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ} إلى آخره مستطرد؛ فإنه لما جرى حديث المعاملة مع الذين لا يقتلون المسلمين والذين يقاتلونهم وقد أخرجوهم من ديارهم من الأمر بمبرة أولئك، والنهي عن مبرة هؤلاء، أتى بحديث المعاملة مع نسائهم، ولما فرغ من ذلك أوصل الخاتمة بالفاتحة على منوال رد العجز على الصدر من حيث المعنى والله أعلم.

قوله: (وقيل: {مِنْ أَصْحَابِ القُبُورِ} بيان القبور)، وعلى الأول: متعلق بـ {يَئِسُوا} ، وقال صاحب "الكشف": ذكرهما أبو علي.

ص: 376

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: لعل القول الأخير أوجه، لأن وجه التشبيه فيه أشمل، فإن اليهود ما أنكروا الآخرة، بل أيسوا من خيرها لعنادكم كما قال:"قد يئسوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة"، يدخل فيه تخييل حالهم بالموتى في صورة الآيسين من رحمة الله سبحانه وتعالى، وتشبيه يقينهم بيقينهم، لأن يقين الموتى بالآخرة ضروري.

تمت السورة

والحمد لله وحده.

* * *

ص: 377

‌سورة الصف

مكية، وهي أربع عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ * إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} 1 - 4]

{لِمَ} هي لام الإضافة داخلة على (ما) الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك: بم، وفيم، ومم، وعم، وإلام، وعلام. وإنما حذفت الألف؛ لأن (ما) والحرف كشيء واحد، ووقع استعمالهما كثيرًا في كلام المستفهم؛ وقد جاء استعمال الأصل قليلًا، والوقف على زيادة هاء السكت، أو الإسكان،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الصف

مكية، وهي أربع عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (والوقف على زيادة هاء السكت)، قال الزجاج: فإذا وقفت عليها قلت: لمه، ولا يوقف عليها لئلا تخالف المصحف، وينبغي للقارئ أن يصلها.

ص: 378

ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف، كما سمع: ثلاثة اربعه، بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة. وهذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الموعد.

وروي أن المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، فدلهم الله تعالى على الجهاد في سبيله، فولوا يوم أحد، فعيرهم. وقيل: لما أخبر الله بثواب شهداء بدر قالوا: لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسمعنا، ففروا يوم أحد ولم يفوا.

وقيل: كان الرجل يقول: قتلت ولم يقتل، وطعنت ولم يطعن، وضربت ولم يضرب، وصبرت ولم يصبر.

وقيل: قد آذى المسلمين رجل ونكى فيهم، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر، فقال عمر لصهيب: أخبر النبي عليه السلام أنك قتلته، فقال: إنما قتلته لله ولرسوله، فقال عمر: يا رسول الله قتله صهيب، قال: كذلك يا أبا يحيى؟ قال: نعم، فنزلت في المنتحل.

وعن الحسن: نزلت في المنافقين. ونداؤهم بالإيمان: تهكم بهم وبإيمانهم؛ هذا من أفصح كلام وابلغه في معناه، قصد في {كَبُرَ} التعجب من غير لفظه كقوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الموعد)، لف، وقوله:"قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال" إلى آخره نشر للثاني، وقوله:"كان الرجل يقول قتلت ولم يقتل، وطعنت ولم يطعن" نشر للأول.

قوله: (ونكى فيهم)، النهاية: يقال: نكيت في العدو وأنكي نكاية فأنا ناك، إذا كثرت فيهم الجراح والقتل فوهنوا لذلك.

قوله: (هذا من أفصح الكلام)، "هذا" إشارة إلى قوله:{كَبُرَ مَقْتًا} ، وقوله:"في معناه"

ص: 379

.. غلت ناب كليب بواؤها

ومعنى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله، وأسند إلى {أَن تَقُولُوا} ونصب {مَقْتًا} على تفسيره، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، لفرط تمكن المقت منه؛ واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تنازع فيه "أفصح" و"أبلغ"، وقوله:"قصد" إلى آخر الفصل بيان لبلاغته وفصاحته.

قوله: (غلت ناب كليب بواؤها)، أوله:

وجارة جساس أبانا بنابها .... كليبًا

أي: ما أغلى نابًا بواؤها كليب! البواء: السواء، والناب: الناقة المسنة، ومضى شرح البيت غير مرة. ومثاله في "المطلع": عظم البطن بطنك، ومؤداه: ما أعظم البطن بطنك.

قوله: (ومعنى التعجب: تعظيم الأمر)، الراغب: التعجب: حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، ويقال لما لم يعهد مثله: عجب.

قوله: (ونصب {مَقْتًا} على تفسيره)، أي: على تفسير {أَن تَقُولُوا} وقيل: على تفسير هذا الكلام، أعني: كبر أن تقولوا؛ لأن هذا تمييز عن النسبة، ولا يحسن أن يعود الضمير إلى {أَن تَقُولُوا} ، لأن التمييز ليس عنه، والأول هو الظاهر، لأن الضمير في "أسند" عائد إلى {كَبُرَ} أي: قصد في كبر التعجب من غير لفظه، وأسند إلى {أَن تَقُولُوا} ونصب {مَقْتًا} على تفسير {أَن تَقُولُوا} ليؤذن بالإبهام، والتفسير: أن قولهم ذلك مقت خالص، وإليه

ص: 380

ومنه قيل: نكاح المقت، للعقد على الرابة، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرًا، حتى جعل أشده وأفحشه. و {عِندَ اللَّهِ} أبلغ من ذلك، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك. وعن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا، فسكت، ثم قيل له: حدثنا، فقال: تأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله!

في قوله: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} عقيب ذكر مقت المخلف: دليل على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار فلم يفوا. وقرأ زيد علي: (يقاتلون) _ بفتح التاء_. وقرئ: (يقتلون).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أشار بقوله: "دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص"، فقدم التمييز في الآية على الفاعل، ومثله جائز، قال:

أرى كل أرض دمنتها وإن مضت .... لها حجج يزداد طيبا ترابها

قال المرزوقي: إن قوله: "طيبًا" تمييز قدم على الفاعل، وليس خلاف في جوازه.

قوله: (للعقد على الرابة)، النهاية: في حديث مجاهد: كان يكره أن يتزوج الرجل امرأة رابه، يعني: امرأة زوج أمه، لأنه كان يربيه.

قوله: (لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله، فقد تم كبره)، يريد: أن العدول من البغض إلى المقت تتميم لمعنى إرادة البغض، ثم إن التقييد بقوله:{عِندَ اللهِ} تتميم للتتميم ومبالغة فيه.

قوله: (دليل على أن المقت تعلق بقول الذين وعدوا الثبات)، الانتصاف: أي: هو بساط لهذا، كما يقول: لا تفعل ما يلصق بك العار، لا تشاتم زيدًا، ليقع النهي مرتين؛ عامًا وخاصًا، فهو أولى من النهي على الخصوص مرتين، فإن ذلك تكرار. وقلت: أراد أنه تخصيص بعد تعميم.

ص: 381

{صَفًا} صافين أنفسهم أو مصفوفين {كَأَنَّهُم} في تراصهم من غير فرجة ولا خلل {بُنْيَانٌ} رص بعضه إلى بعض ورصف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اعلم أنه لما بولغ في بغض القول إبهامًا جيء بما يحب من الفعل تعريضًا، قوبل البغض بالحب، والقول بالفعل، ووصفه بالبنيان المرصوص، تعريضًا بالقول المتزلزل والوعد المخلف، وأما كيفية اتصاله به، فإن قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يدل على أن ما يلي كلمة النداء والتنبيه من الخطاب معني به جدًا كما سبق في فاتحة البقرة.

والخطاب هو قوله: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًا} ، وقوله:{لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} تمهيد وتوطئة لهذا الخطاب، وتقدمة تنبيه على أن ما يخالفه مبغوض عند الله، والتقاعد عنه بعد الوعد من أشد البغض، وأكبر المقت عنده، ومما يشد من عضد ذلك أن قطب هذه السورة الكريمة يدور على أمر الجهاد، ألا ترى كيف أعيد قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ} إلى قوله: {وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} وختمت بقوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} ، وفيه دليل ظاهر على علو شأن الجهاد ورفعة منزلته عند الله، لأنه ذروة سنام الأمر، وكفى به شاهدًا ما رويناه عن ابي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لوددت أني أقاتل في سبيل الله، فأقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل"، وكان أبو هريرة يقولهن ثلاثًا، أشهد بالله، أخرجه البخاري ومسلم.

قوله: (رص بعضه إلى بعض ورصف)، الراغب: كأنما بني بالرصاص، ويقال: رصصته ورصصته وتراصوا في الصلاة، أي: تضايقوا فيها. والرصفة بالتحريك واحد الرصف، وهو حجارة مرصوف بعضها إلى بعض، يقال: رصفت الحجارة في البناء أرصفها بالضم: إذا ضممت بعضها إلى بعض.

ص: 382

وقيل: يجوز أن يريد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. وعن بعضهم: فيه دليل على فضل القتال راجلًا؛ لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. وقوله: {صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ} حالان متداخلتان.

[{وإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} 5]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: يجوز أن يريد استواء نياتهم في الثبات)، وعليه ورد قوله صلوات الله عليه:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا" ثم شبك بين أصابعه، وأخرجه البخاري والإمام أحمد عن أبي موسى، وهذا أوجه ليقيموا الظاهر مع الباطن وسائر الأحوال، ويكون تعريضاُ بما وعدوا من الثبات في قتال الكفار، ويتصل به قصة موسى عليه السلام وقومه، ويترتب عليه قوله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ولهذا عم الأذى بقوله: "كانوا يؤذونه بأنواع الأذى" لإطلاقه.

قوله: (وقوله: {صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ} حالان متداخلتان)، الانتصاف: يريد أن معنى الأولى مشتمل على الثانية، فإن هيئة التراص هي هيئة الاصطفاف. قال صاحب "الإنصاف": ليس المراد بالتداخل هذا، بل إن الحال الثانية وقعت جزاء من الحال الأولى، لأن معنى {صَفًا}: مصطفين، وفيه ضميره، وقوله:{كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ} حال من الضمير المذكور، فالحال الثانية داخلة في الأولى، وهي كقوله:{إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 2 - 3].

وقلت: فرق بين الصورتين، فإن قوله:{صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} مشبه ومشبه به، والمشبه به في الحقيقة بيان للمشبه ووصف له؟

ص: 383

{وإذْ} منصوب بإضمار "اذكر"، أو: وحين قال لهم ما قال كان كذا وكذا، {تُؤْذُونَنِي} كانوا يؤذونه بأنواع الأذى من انتقاصه وعيبه في نفسه، وجحود آياته، وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه، وعبادتهم البقر، وطلبهم رؤية الله جهرة، والتكذيب الذي هو تضييع حق الله وحقه، {وقَد تَّعْلَمُونَ} في موضوع الحال، أي: تؤذونني عالمين علمًا يقينا {أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ} وقضية علمكم بذلك وموجبه تعظيمي وتوقيري، لا أن تؤذوني وتستهينوا بي؛ لأن من عرف الله وعظمته عظم رسوله، علمًا بأن تعظيمه في تعظيم رسوله،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كانوا يؤذونه بأنواع الأذى) إلى قوله: (وطلبهم رؤية الله جهرة)، أراد أن قوله:{لِمَ تُؤْذُونَنِي} إنكار لمطلق الإيذاء، فيصح حمله على الإيذاء في الدين وفي النفس، ولذلك أوقع قوله:{وقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ} حالًا مقررة لجهة الإنكار، وفسره المصنف بقوله:"وقضية عملكم بذلك وموجبه تعظيمي وتوقيري، لا أن تؤذوني وتستهينوا بي، لأن من عرف الله وعظمته عظم رسوله".

وذكر الواحدي: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} يعني حين رموه بالأدرة. وهو المراد بقوله: "من انتقاصه وعيبه"، وأما الكلام في طلب الرؤية فانتهاز لفرصة التعصب.

وبيان النظم: هو أن الله تعالى لما وبخ المؤمنين الذين ما وفوا بما عاهدوا، وأخلفوا المواعيد تمهيدًا وبساطًا، لقوله:{إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ} حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص في القتال، حذرهم مما لقي قوم موسى من إزاغة القلوب، والحرمان من التوفيق بسبب الأذى، ومما ارتكب قوم عيسى بعد مجيئه بالبينات، من تكذيبه وقولهم فيه:{هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} ، ألا ترى كيف جمع الكل في قوله: {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ

ص: 384

ولأن من آذاه كان وعيد الله لا حقا به، {فَلَمَّا زَاغُوا} عن الحق {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} بأن منع الطافه عنهم {واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} لا يلطف بهم لأنهم ليسوا من أهل اللطف.

فإن قلت: ما معنى {قَدْ} في قوله {وقَد تَّعْلَمُونَ} ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكَذِبَ وهُوَ يُدْعَى إلَى الإسْلامِ} أي: قضية الدعوى إلى الإسلام توقير من يدعو إليه، وتوقير حرمته، وإجابة دعوته، والتفادي عن إخلاف المواعيد وعما يؤذيه من القول والفعل؟

قوله: ({واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ}: لا يلطف بهم)، قال صاحب "الفرائد": لا يهدي من يريد الفسق، وهو من باب ذكر الفعل وإرادة الإرادة، نحو:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].

وقلت: هذا التقدير غير مفتقر إليه، لأن هذه الفاصلة تذييل للآية، وكالتعليل لقوله:{أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . والمراد بقوله: {زَاغُوا} أذى موسى عليه السلام.

وبيانه: أن القوم لما آذوا موسى عليه السلام ورموه بالأدرة زاغوا وفسقوا، وأدى ذلك إلى أن خذلهم الله وطبع على قلوبهم، وهذا التقرير غير ضار لمذهب أهل السنة، لأن ذلك الأذى والفسق كان كسبًا لهم، وقد تقرر أن صغائر الذنوب مستجلبة لكبائرها، قال تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] وأما التذييل الثاني، وهو قوله:{واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} فهو تقرير لقوله: {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وهُوَ يُدْعَى إلَى الإسْلامِ} لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وغليه أشار بقوله:"وأي الناس أشد ظلمًا ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام، فيجعل إجابته افتراء الكذب على الله"، يعني كان جزاء الداعي القبول والتصديق، فوضعوا موضعه أن كذبوه وسموا ما جاء به سحرًا.

وكما روعي في هذين التذييلين هذه المناسبة روعيت في قوله: {ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} ، وذلك أن الكفر في الأصل الستر والتغطية، ومن يحاول إطفاء نور الله يحاول إخفاء الحق

ص: 385

قلت: معناه التوكيد كأنه قال: وتعلمون علمًا يقينا لا شبهة لكم فيه.

[{وإذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ومُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَاتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} 6]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وستره، وكذا في قوله:{ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} لأنه مقابل لقوله: {ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ، وليس دين الحق إلا التوحيد ونفي الشرك.

وفي الآيات نرق من وجهين:

أحدهما: من الأذى، فإن أذى موسى عليه السلام كان في جسده، وأذى عيسى عليه السلام في الدين، وأذى نبينا محمد صلوات الله عليه فيهما، فإن نور الله عبارة عنه وعن دينه، لقوله تعالى:{وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46]، وقد سبق في التوبة تقرير وجه التشبيه.

وثانيهما: في التسلية، يعني: لا تبال بأذى القوم، ولك أسوة بموسى، ولا بتكذيب الكافرين والمشركين كما لو يضر عيسى تكذيبهم، وتمكن من إمضاء ما جاء به من الدين والبشارة بقدومك تمكنك منه، ويظهرك على الدين كله ولو كره المشركون والله أعلم.

قوله: (معناه التوكيد)، الانتصاف:"قد" إذا صحبت الماضي صحبها التوقع، قال الخليل: هذا خبر لقوم ينتظرونه، وإذا صحبت المضارع صحبها التكثير كربما، وهو من الكلام الذي قصد فيه الإفراط والمبالغة. قال:

قد أترك القرن مصفرًا أنامله

فإن قيل: حمله على التكثير في الآية متعذر، لأن العلم معلوم التعلق، لا يتكثر ولا يتقلل.

قلنا: المراد تأكيد الفعل وتحققه وبلوغه الغاية في نوعه، وكذا في قوله:{رُبَمَا يَوَدُّ} [الحجر: 2] ليس معناها إلا تأكد ذلك الودادة لا كثرته وتعدده.

ص: 386

قيل: إنما قال: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ} ولم يقل: يا قوم، كما قال موسى؛ لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه. والمعنى: أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني {مِنَ التَّوْرَاةِ} وفي حال تبشيري {بِرَسُولٍ يَاتِي مِنْ بَعْدِي} يعني: أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعًا ممن تقديم وتأخر. وقرئ: {مِنْ بَعْدِي} بسكون الياء وفتحها، والخليل وسيبويه يختار ان الفتح.

وعن كعب: أن الحواريين قالوا لعيسى: يا روح الله، هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم، أمة أحمد؛ حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إنما قال: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ}، ولم يقل: "يا قوم" كما قال موسى؛ لأنه لا نسب له فيهم)، الانتصاف: هو كقوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء: 176] لأنه لم يكن منهم.

وقلت: يجوز أن يكون للاستعطاف، لمجيء قوله:{مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي: إني أرسلت إليكم في حال تصديقي لكتاب نزل إليكم يا بني إسرائيل خاصة.

قوله: (وقرئ: {مِن بَعْدِي} بسكون الياء)، بفتح الياء: نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر، والباقون: بسكونها.

قوله: (أمة أحمد)، روينا عن البخاري ومسلم ومالك والدرامي عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء؛ أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس

ص: 387

فإن قلت: بم انتصب {مُّصَدِّقًا} و {مُبَشِّرًا} ؟ أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟

قلت: بل بمعنى الإرسال؛ لأن {إلَيْكُم} صلة للرسول، فلا يجوز أن تعمل شيئًا لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها، ولكن بما فيها من معنى الفعل؛ فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل، فمن أين تعمل؟ وقرئ:(هذا ساحر مبين).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب الذي بعدي نبي". وقد سماه الله رؤوفًا رحيمًا، رواه البخاري في تفسيير هذه الآية.

وعن أحمد بن حنبل عن أبي موسى قال: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بأسماء منها ما حفظنا قال: "أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبي الرحمة" قال يزيد: ونبي التوبة، ونبي الملحمة".

قال محيي السنة والواحدي: اسمه أحمد يحتمل معنيين: أحدهما: أنه مبالغة من الفاعل، أي: أنه أكثر حمدًا لله من غيره، والآخر: أنه مبالغة من المفعول، أي: أنه يحمد بما فيه من الأخلاق والمحاسن أكثر مما يحمد غيره.

قوله: (وقرئ: "هذا ساحر")، حمزة والكسائي.

قوله: (لأن {إِلَيْكُمْ} صلة للرسول، فلا يجوز أن تعمل شيئًا)، لا يريد عملها الذي هو الجزء؛ وإنما يريد أنها لا تعمل عمل الفعل بأنفسها.

ص: 388

[{ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وهُوَ يُدْعَى إلَى الإسْلامِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} 7]

وأي الناس أشد ظلمًا ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله، بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق: هذا سحر، لأن السحر كذب وتمويه.

وقرأ طلحة بن مصرف: (وهو يدعي)، بمعني: يدعى، دعاه وادعاه، نحو: لمسه والتمسه. وعنه: يدعي، بمعنى يدعو، وهو الله عز وجل.

[{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} 8]

أصله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا} [التوبة: 32] كما جاء في سورة براءة، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن السحر كذب وتمويه)، فيه إشعار بهذه الآية بقصة عيسى عليه السلام، وقولهم في الآيات البينات:{هَذَا سِحْرٌ مَبِينٌ} مكرًا وتمويهًا، وإخفاء للحق الجلي.

وقلت: وفي إيقاع الإسلام مقابلًا لافتراء الكذب، إيذان باتصالها بقصة محمد صلوات الله عليه، وأن ذكر الإسلام كالتخلص من القصة إلى القصة، ولذلك ذيلت الآية بقوله:{واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} كأنه قيل: قد علم ظلم أولئك الكفرة بروح الله، وما أرادوا به من المكر والكيد، وعرف أن الله ما هداهم إلى ما أرادوا، بل خذلهم الله ونصر أولياءه كما قال تعالى:{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} فما ظلم هؤلاء الكفرة لحبيب الله، وما مكرهم به، وكيف يفعل الله به وبهم، قيل:{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} إلى آخر الآيتين.

قوله: ("وهو يدعي" بمعنى: يدعى)، قال ابن جني: قرأ طلحة بن مصرف: "وهو يدعى إلى الإسلام"، والظاهر: يدعي الإسلام، لكن لما كان معنى "يدعي الإسلام": ينتسب إليه، قال:

ص: 389

تأكيدًا له، لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك، كما زيدت اللام في: لا أبا لك؛ تأكيدًا لمعنى الإضافة في: لا أباك.

وإطفاء نور الله بأفواههم: تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن: هذا سحر، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه (والله متم نوره) أي: متم الحق ومبلغه غايته. وقرئ بالإضافة.

[{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} 9]

و"دين الحق" الملة الحنفية {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} على جميع الأديان المخالفة له؛ ولعمري لقد فعل، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام. وعن مجاهد: أذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام.

وقرئ: (أرسل نبيه).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يدعي إلى الإسلام، حملًا على معناه، كقوله تعالى:{هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} والاستعمال: هل لك في كذا، لكن لما كان معناه وأدعوك إلى أن تزكى استعمل إلى هاهنا تطاولًا نحو المعنى.

قوله: (كما زيدت اللام في: أبا لك، تأكيدًا)، قيل: معناه: أي: كنت على وجه لا يعرف لك أب.

قوله: (وقرئ بالإضافة)، ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص:{مُتِمُّ} بغير تنوين: {نُورِهِ} بالخفض، والباقون: بالتنوين والنصب.

ص: 390

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ومَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} 10 - 13]

{تُنجِيكُم} قرئ: مخففًا ومثقلًا. و {تُؤْمِنُونَ} استئناف، كأنهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال: {تُؤْمِنُونَ} ، وهو خبر في معنى الأمر؛ ولهذا أجيب بقوله:{يَغْفِرْ لَكُمْ} وتدل عليه قراءة ابن مسعود: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا.

فإن قلت: لم جيء به على لفظ الخبر؟

قلت: للإيذان بوجوب الامتثال، وكأنه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين. ونظيره قول الداعي: غفر الله لك، ويغفر الله لك: جعلت المغفرة لقوة الرجاء، كأنها كانت ووجدت.

فإن قلت: هل لقول الفراء: إنه جواب {هَلْ أَدُلُّكُمْ} وجه؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({تُنجِيكُمْ} قرئ: مخففًا ومثقلًا)، ابن عامر: مشددًا، والباقون: مخففًا.

قوله: (وهو خبر في معنى الأمر)، قال صاحب"الكشاف": هذا قول سيبويه.

قوله: (هل لقول الفراء: إنه جواب {هَلْ أَدُلُّكُمْ} وجه؟ )، قال الزجاج: وقد غلط بعض النحويين فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ} جواب {هَلْ أَدُلُّكُمْ} ، وذلك أنه ليس إذا دلهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما ينفعهم غفر الله لهم، إنما يغفر الله لهم إذا آمنوا وجاهدوا، وإنما هو جواب:{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجَاهِدُونَ} ، لأن معناه معنى الأمر، أي: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا يغفر لكم، أي:

ص: 391

قلت: وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد؛ فكأنه قيل: هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟

فإن قلت: فما وجه قراءة زيد بن علي رضي الله عنهما: (تؤمنوا) و (تجاهدوا)؟

قلت: وجهها أن يكون على إضمار لام الأمر، كقوله:

محمد تفد نفسك كل نفس .... إذا ما خفت من أمر تبالا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن فعلتم ذلك يغفر لكم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود.

وخلاصة جواب المصنف: أن قوله {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ} إلى آخره، بيان لجملة قوله:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} على سبيل الاستئناف، ، وعلم أن البيان والمبين واحد، فبهذا الاعتبار كان جوابًا.

الانتصاف: هذا التأويل لا يحتاج إليه، فإنه يلحق بقوله:{قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [إبراهيم: 31] وأمثاله، وقد تقدم الكلام فيه، وأن المؤمن الراسخ في الإيمان لما كان مظنةً لحصول الإقامة والامتثال صار كالمحقق منه ذلك.

وقال أبو البقاء: {يَغْفِرْ لَكُمْ} جواب شرط محذوف: أي إن تؤمنوا يغفر لكم، أو جواب لما دل عليه الاستفهام، والمعنى: هل تقبلون إن دللتكم.

قوله: (محمد تفد نفسك)، البيت، أي: يا محمد لتفد نفسك، فحذفت اللام من اللفظ

ص: 392

وعن ابن عباس أنهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناها، فنزلت هذه الآية، فمكثوا ما شاء الله يقولون: ليتنا نعلم ما هي، فدلهم عليها بقوله:{تُؤْمِنُونَ} وهذا دليل على أن {تُؤْمِنُونَ} كلام مستأنف، وعلى أن الأمر الوارد على النفوس بعد تشوف وتطلع منها إليه: أوقع فيها وأقرب من قبولها له مما فوجئت به.

{ذَلِكُمْ} يعني ما ذكر من الإيمان والجهاد {خَيْرٌ لَّكُمْ} من أموالكم وأنفسكم.

فإن قلت: ما معنى قوله: {إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ؟

قلت: معناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرًا لكم حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم، فتخلصون وتفلحون {وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم، ثم فسرها بقوله:{نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي: عاجل، وهو فتح مكة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهي مضمرة، ولهذا الفعل كان مجزومًا فحذف لكثرة الاستعمال، تبالًا: أي سوء عاقبة، والتبال: عداوة يطلب بها، يقال: تبلني فلان وتبلهم الدهر. قال كعب:

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

أي: مصاب بتبل، وهو الذحل والعداوة.

قوله: (معناه: إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرًا لكم)، الانتصاف: أجرى الشرط على حقيقته، وليس بالظاهر؛ لأن علمهم بذلك محقق، فإنهم مؤمنون، ولعله مثل قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] كما تقول لمن ينتصر من عدوه: إن كنت حرًا فانتصر.

ص: 393

وقال الحسن: فتح فارس والروم. وفي {تُحِبُّونَهَا} شيء من التوبيخ على محبة العاجل.

فإن قلت: علام عطف قوله {وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: يريد أنه من باب المبالغة والتتميم، وعليه ظاهر كلام القاضي: إن كنتم من أهل العلم، إذا الجاهل لا يعتد بفعله. وليس بذاك، لأن شرط ذلك الأسلوب أن يكون الشرط ثابتًا في نفسه أو عند المتكلم والمخاطب، لم يتعوج عن السداد، ولم يتحر سوى الصواب، كما مر في سورة الممتحنة، وهاهنا الكلام على ما سبق في فاتحة السورة مع أولئك المؤمنين الذين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه، ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا، يشهد له نقله عن ابن عباس في هذا المقام قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناها فنزلت، فلما دلهم الله تعالى في يوم أحد على المجاهدة في سبيل الله تولوا، وحين لم يعلموا بموجب العلم قيل لهم:{إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وإليه الإشارة بقوله:"إذا علمتم ذلك واعتقدتموه، أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم"، وفي التعقيب بقوله:{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} والتوبيخ إيماء إلى هذا.

قوله: (شيء من التوبيخ على محبة العاجل)، وذلك أنه تعالى عطف"أخرى" من حيث المعنى على النعمة المذكورة من المغفرة والثواب، وقيدها بقوله:{تُحِبُّونَهَا} ، وفيه إشارة إلى هذا المعنى، لأن الفتح والنصرة وإن كانا من الأمور الدينية، لكن فيهما حظ النفس؛ لأنهما بظاهر هما مما تشتهيه النفس، ويجوز أن يكون عطفًا على {تِجَارَةٍ}؛ أي: أبشركم بتجارة أخرى عاجلة، بعد البشارة الآجلة.

ص: 394

قلت: على {تُؤْمِنُونَ} لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك.

فإن قلت: لم نصب من قرأ (نصرًا من الله وفتحًا قريبًا)؟

قلت: يجوز أن ينصب على الاختصاص أو على (تنصرون نصرًا)، و (يفتح لكم فتحًا) أو على: يغفر لكم ويدخلكم جنات، ويؤتكم أخرى نصرًا من الله وفتحًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على {تُؤْمِنُونَ} لأنه في معنى الأمر)، قال صاحب"المفتاح": هو عطف على {قُلْ} مرادًا: قبل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} .

وقلت: قد سبق أن {تُؤْمِنُونَ بِاللهِ} متضمن معنى الأمر لقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ} ولأن سياق الكلام عليه، فإنه تعالى لما نبه عباده على ما يخلصهم مما يؤذيهم بقوله:{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} اتجه لهم أن يتضرعوا إليه: نعم يا مولانا وربنا أرشدنا إلى هذه البغية! فقيل لهم: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا، ثم أمر حبيبه بأن يبشرهم بأن الله سيجز ما وعد من الثواب العظيم في الآخرة، والنصر القريب في الدنيا، تقريرًا أو تشريفًا، ولذلك أتى بما يدل على التجدد ووضع {المُؤْمِنِينَ} موضع الضمير، للإشعار بأن صفة الإيمان هي التي تقتضي هذه البشارة، وأما اتحاد المسند إليه بين المعطوف والمعطوف عليه فليس بواجب كما مر في سورة البقرة:"أن قولك: يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم"، من فصيح الكلام.

ويمكن أن يقال: إنه تعالى لما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخاطب الناس بقول: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أرشده إلى ما يقتضيه من جواب أنه اتجه لسائل أن يقول: بلى دلنا؟ أي: قل: آمنوا بالله .. الآية، وبشرهم بعد ذلك بما لا يكتنه كنهه مما يصح أن تبشر به، لإطلاق

ص: 395

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} 14]

قرئ: {كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ} و (أنصارًا لله). وقرأ ابن مسعود: (كونوا أنتم أنصار الله).

وفيه زيادة حتم للنصرة عليهم.

فإن قلت: ما وجه صحة التشبيه، وظاهره تشبيه كونهم أنصارًا بقول عيسى صلوات الله عليه:{مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ} ؟

قلت: التشبيه محمول على المعنى، وعليه يصح. والمراد: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ} .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"بشر"، فعلى هذه"بشر" معطوف على {قُلْ} مرادًا عند قوله:{تُؤْمِنُونَ بِاللهِ} ، ويجوز أن تكون"بشر"

من الخطاب العام كأنه قيل: آمنوا بالله وبشروا، أي: ليبشر كل من يتأتى منه البشارة، فإن هذا الأمر بعظمته وفخامته حقيق بأن لا يختص بأحد دون أحد.

قوله: (قرئ: {كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ})، الكوفيون وابن عامر:{أَنصَارَ اللَّهِ} بغير تنوين ولا لام، والباقون: بالتنوين ولام مكسورة. أي: في أول اسم الله عز وجل.

قوله: (وفيه زيادة حتم للنصرة عليهم)، وذلك أن الضمير إذا جعل فصلًا لا محل له أفاد الاختصاص، أي: هذا الأمر لعظم مناله لا يختص به إلا أمثالكم، البذالون للأرواح الناصرون لله ولرسوله، وإن جعل مبتدأ أفاد تقوي الحكم، وأن النصرة مطلوبة البتة.

وقوله: (التشبيه محمول على المعنى)، أي: على تقدير أشياء عدة لتصحيح التشبيه، و"ما" في

ص: 396

فإن قلت: ما معنى قوله: {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ} ؟ قلت: يجب أن يكون معناه نطابقًا لجواب الحواريين {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} والذي يطابقه أن يكون المعنى: من جندي متوجها إلى نصرة الله، وإضافة {أَنصَارِي} خلاف إضافة {أَنصَارُ اللَّهِ} فإن معنى {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}: نحن الذين ينصرون الله .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{كَمَا قَالَ} : مصدرية، أي: كونوا أنصار الله، مثل كون الحواريين أنصار الله وقت قول عيسى: من أنصاري إلى الله؟

قوله: (يجب أن يكون معناه مطابقًا لجواب الحواريين)، يريد أن قوله:{مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ} ليس على ظاهره لتعديته بـ"إلى"، ولا يطابقه أيضًا جواب الحواريين:{نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} ، فالواجب أن يؤول بما يطابق الجواب بحيث يعلم منه معنى التعدية، وتضمين ما يتعلق به "إلى"، وهو:"من جندي متوجهًا إلى نصرة الله".

قوله: (وإضافة {أَنصَارِي} خلاف إضافة {أَنصَارُ اللَّهِ})، قال صاحب"الانتصاف": الإضافة الأولى محضة، والثانية غير محضة.

وقلت: يشهد للأول قوله: "من الأنصار الذين يختصون بي؟ "، والثاني قوله:"نحن الذين ينصرون الله".

فإن قلت: هذا يخالف تقديره الأول: "من جندي متوجهًا إلى نصرة الله؟ "، لأن"جندي" خبر"من" الاستفهامية، وفيه ضمير راجع إلى المبتدأ، و {إِلَى اللهِ} حال منه.

قلت: عمله حينئذ نحو قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [الأنعام: 3].

فإن قلت: ما فائدة الاختلاف؟

ص: 397

ومعنى {مَنْ أَنصَارِي} من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله؛ ولا يصح أن يكون معناه: من ينصرني مع الله؟ ؛ لأنه لا يطابق الجواب. والدليل عليه: قراءة من قرأ: (من أنصار الله).

والحواريون أصفياؤه، وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلًا؛ وحواري الرجل: صفيه وخلصانه، من الحوار وهو البياض الخالص. والحوارى: الدرمك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: الإيذان بأن يطلب منهم هو النصرة المعتبرة، وهو اختصاصهم به وما أخبروا به عن أنفسهم، إنشاءً للنصرة بل ادعاءً منهم أنهم الذين ينصرون الله، ولذلك عقب بقوله:{فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وكَفَرَت طَّائِفَةٌ} وقريب منه قوله تعالى: {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور: 53] فإذا اعتبر المبتدأ من جانب المسلمين قدر: الذي يطلب منكم طاعة معروفة فعلًا، وإذا اعتبر من جانب المنافقين قيل: أمركم وشأنكم معروفة قولًا.

قوله: (ولا يصح أن يكون معناه: من ينصرني مع الله) وهو قول الزجاج، لأنه لا يطابق {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} ، إذ المطابق: نحن أنصار الله ننصرك مع الله، على أن "إلى" بمعنى "مع" قليل.

قوله: (قراءة من قرأ: "من أنصار الله")، ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي.

قوله: (والحوارى: الدرمك) عن بعضهم: الدرمك: نقاوة الدقيق الذي ليس فيه نخالة، ويقال: الدرهم يكسو النرمق أي: الثوب اللين، تعريب نرمك ويطعم الدرمق، قال الزجاج: الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب، وكذلك الدقيق الحوارى؛ لأنه ينقى من لباب البر وخالصه، وتأويله في الناس: أنه إذا رجع في اختياره مرةً بعد أخرى وجد نقيًا من العيوب، من حار يحور، وهو الرجوع والترجيع.

ص: 398

ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي" وقيل: كانوا قصارين يحورون الثياب: يبيضونها. ونظير الحواري في زنته: الحوالي: الكثير الحيل.

{فَآمَنَت طَّائِفَةٌ} منهم بعيسى {وكَفَرَت} به {طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا} مؤمنيهم على كفارهم، فظهروا عليهم. وعن زيد بن علي: كان ظهورهم بالحجة.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الصف كان عيسى مصليًا عليه مستغفرًا له ما دام الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الراغب: قيل: إنما سموا حواريين لأنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم.

قوله: (الزبير ابن عمتي وحواريي)، الحديث من رواية البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن لكل نبي حواريًا؛ وإن حواري الزبير".

الراغب: تشبيهه بهم في النصرة حيث قال: {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ} .

وقلت: ويؤيده ما روينا عن البخاري ومسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "من يأتينا بخبر القوم؟ " قال الزبير: أنا، ثم قال:"من يأتينا بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا، ثم قال في الثالثة:"إن لكل نبي حواريًا، وإن حواري الزبير".

تمت السورة.

ص: 399

‌سورة الجمعة

مدنية، وآياتها إحدى عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ وإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} 1 - 4]

قرئت صفات الله عز وعلا بالرفع على المدح، كأنه قيل: هو الملك القدوس، ولو قرئت منصوبة لكان وجهًا كقول العرب: الحمد لله أهل الحمد.

الأمي: منسوب إلى أمة العرب؛ لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم.

وقيل: بدأت الكتابة بالطائف، أخذوها من أهل الحيرة، وأهل الحيرة من أهل الأنبار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الجمعة

إحدى عشرة آية، مدنية بخلاف

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (وأهل الحيرة من أهل الأنبار)، الأنبار: موضع قريب من بغداد، وجدت في بعض كتب المحاضرات: أن أول من استخرج الخط العربي ثلاثة رجال من أهل مسكين: وهي

ص: 400

ومعنى {بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ} بعث رجلًا أميًا في قوم أميين، كما جاء في حديث شعيا:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قرية من أعلى الأنبار، يقال لأحدهم: مرامر بن مرة، وللآخر: أسلم بن سدرة وللثالث: عامر بن جدرة، نظروا رملًا في شاطئ الفرات فيه آثار أرجل البط، فشبهوها بالخطوط، فقالوا هلموا نستخرج منها خطًا غير الخطوط القديمة، ثم فكروا في كلام الخلق فوجدوا سائر الكلام يدور على ثمانية وعشرين حرفًا، فعازتهم ستة أحرف؛ الثاء والخاء والذال والضاد والظاء والغين، فصورها "ثخذ ضظغ" فتم بذلك الكلام، ثم صرفوا الألفاظ وألفوا بعضها إلى بعض، واصطلحوا على ما يصلونه من الكلام أو يقطعونه بالحروف المذكورة، فكان منه هذا الخط العربي. والله أعلم بصحته.

قوله: (ومعنى {بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ}: بعث رجلًا أميًا في قوم أميين)، وإنما قال:"رجلًا" و"قوم" على سوق المعلوم مساق غير المعلوم، ليؤن بأن قوله:{هُوَ بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} وارد على سنن كلام الجبابرة، نحو ما جاء في قوله:{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} [الرعد: 17] وهو الوجه.

قوله: (في حديث شعيا)، قال أبو عبد الله الكسائي في كتاب"المبتدأ" ذكر وهب وكعب: إن شيعا بن أمصيا نبي من سلالة بني إسرائيل من ولد هارون وهو الذي بشر قومه بنبينا محمد صلوات الله عليه، وشعيا هو الذي أرسل يونس بن متى إلى قومه من أهل نينوى.

ص: 401

إني أبعث أعمى في عميان، وأميا في أميين، وقيل {مِّنْهُمْ} ، كقوله تعالى:{مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] يعلمون نسبه وأحواله. وقرئ: (في الأمين) بحذف ياء النسب.

{يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} يقرؤها عليهم مع كونه أميا مثلهم لم تعهد منه قراءة ولم يعرف بتعلم، وقراءة أمي بغير تعلم آية بينة. {ويُزَكِّيهِمْ}: ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية.

{ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ والْحِكْمَةَ} : القرآن والسنة. و"إن" في {وإن كَانُوا} هي المخففة من الثقيلة، واللام دليل عليها، أي: كانوا في ضلال، لا ترى ضلالًا أعظم منه.

{وآخَرِينَ} مجرور عطف على {الأُمِّيِّينَ} ، يعني: أنه بعثه في الأميين الذين على عهده، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد، وسيلحقون بهم، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إني أبعث)، حكاية عن الله تعالى.

قوله: (أعمى)، أي: غير عالم بالشرائع، "عميان": في قوم غير عالمين بها، والمراد نبينا صلوات الله عليه وأمته.

قوله: (وفي آخرين من الأميين)، جعل {مِنْهُمْ} بيانًا للآخرين، قال صاحب "الكشف":"من" في {مِنْهُمْ} للنبيين، وليست "من" التي تستعمل مع أفعل، لأن "من" تلك لا يجوز معها جمع الاسم، لا يقال: الزيدون أفضلون من عمرو، لأن "أول" و"آخر" وإن كان "أفعل" لا يكاد يوجد استعمال "من" معهما.

ص: 402

وقيل: لما نزلت قيل: من هم يا رسول الله؟ فوضع يده على سلمان ثم قال: "لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء"، وقيل: هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة، ويجوز أن ينتصب عطفًا على المنصوب في {ويُعَلِّمُهُمُ} أي: يعلمهم ويعلم آخرين؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندًا إلى أوله، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه {وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} في تمكينه رجلًا أميًا من ذلك الأمر العظيم، وتأييده عليه، واختياره إياه من بين كافة البشر {ذَلِكَ} الفضل الذي أعطاه محمدًا وهو أن يكون نبي أبناء عصره، ونبي أبناء العصور الغوابر، هو {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} إعطاءه، وتقتضيه حكمته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فوضع يده على سلمان)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ:{وآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأل ثلاثًا، قال: وسلمان فينا؟ فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان وقال: "والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء".

قوله: (فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه)، أي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي تولى كل ما وجد من التعليم، يعني: يصح إسناد التعليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمم- الفائتة للحصر- إلى انقراض العالم، لأنه إذا تناسقت العنعنة من الثقات المتقنين الذين حموا المتون من تحريف الزائغين، والإسناد من تولى الكاذبين، صح أن يقال: هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويعلم آخرين منهم لما يلحقوا بهم، هذا يدل على جلالة قدر المحدثين وعلو مرتبتهم، ولذلك قال:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} . اللهم اجعلنا من زمرتهم.

ص: 403

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولعمري إن علم الرواية من أقوى أركان الدين، وأوثق عرى المتقين، لا يرغب في نشر إلا كل صادق تقي، ولا يزهد في نصره إلا كل منافق شقي.

قال أبو نصر بن سلام: ليس شيء أثقل أهل الإلحاد ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته وإسناده.

وقال ابن القطان: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث.

وقال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.

وذكر البيهقي في كتاب"المدخل" عن الشافعي عن ابن عيبنة: حدثني الزهر بحديث فقلت: هاته بلا إسناد، قال أترقى السطح بلا سلم؟ ! .

وقال محمد بن أسلم الطوسي: قرب الإسناد قرب إلى الله تعالى.

وقال الحاكم النيسابوري: لولا كثرة مواظبة طائفة المحدثين على حفظ الإسناد لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد.

ص: 404

[{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} 5]

شبه اليهود في أنهم حملة التوراة وقراؤها وحفاظ ما فيها، ثم أنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها، وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به، ولم يؤمنوا به؛ بالحمار حمل أسفارًا، أي: كتبًا كبارًا من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب. وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله، وبئس المثل، {بِئْسَ} مثلًا {مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى:{حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} : كلفوا علمها والعمل بها، {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} ثم لم يعملوا بها، فكأنهم لم يحملوها. وقرئ:(حملوا التوراة)، أي: حملوها في الحقيقة لفقد العمل. وقرئ: (يحمل الأسفار).

فإن قلت: (يحمل) ما محله؟ قلت: النصب على الحال، أو الجر على الوصف؛ لأن الحمار كاللئيم في قوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والإسناد واسطة بين الحق والخلق، وهو سلم السلامة، ومرقاة النجاة، ومفتاح النجاح، فمن رفع قدره ارتفع، ومن وضع شأنه اتضع.

قوله: (وذلك أن فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعلم أنه تعالى لما أثبت التوحيد والنبوة، وبين في النبوة أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى الأميين، واليهود لما أوردوا تلك الشبهة وهي: أنه صلوات الله عليه مبعوث إلى العرب خاصةً وهم أمة أمية، ونحن أهل كتاب، أتبعه بضرب المثل لمن تمسك بهذه الشبهة وترك الدلائل الواضحة المسطورة فيما حملوا واستحفظوه، وهي: نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبشارة به ولم يؤمنوا به، فشبههم بالحمار، حمل كتبًا وكبارًا، فهو يمشي بها ولا يدري منها ما يمر بجنبيه.

قوله: (لأن الحمار كاللئيم)، تعليل لتقدير الجر على الوصف فحسب، لأن اللئيم في البيت لا يحتمل الحال، لما ذكرنا أن الشاعر يصف نفسه بالحلم والاحتمال من كل لئيم صفته

ص: 405

ولقد أمر على اللئيم يسبني

[{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * ولا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 6 - 8]

هاد يهود: إذا تهود {أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، أي: إن كان قولكم حقًا وكنتم على ثقة {فَتَمَنَّوُا} على الله أن يميتكم وينقلكم سريعًا إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذاك؛ لا أنه مر على لئيم بعينه حالة ذاك، لأن ذلك لا يثبت له وصف الحلم، وأنه دأبه وعادته كذلك، ، شبهت اليهود بهذا الجنس من الدواب إذا كان حاملًا للأسفار.

وأما توجيه الحال في الآية فأن تجعل التعريف لاستغراق الجنس، وأن حكم كل فرد من أفراد هذا الجنس كذلك، والبيت لا يحتمل هذا.

قوله: (إذا تهود)، الجوهري: هاد يهود هودًا: تاب ورجع إلى الحق، فهو هائد وقوم هود.

قوله: (كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه)، آذن بأن الولي بمعنى الحبيب، وهو اسم فاعل اعتمد وعمل في {لِلهِ} ، ومن {مِن دُونِ} حال من الضمير الراجع إلى اسم"أن"، المعنى: إن كنتم تزعمون أنكم تحبون الله متجاوزين عن الناس فتمنوا الموت، فإن المحب يحب لقاء محبوبه، ولا يكره قربه، نحوه قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [البقرة: 94].

ص: 406

ثم قال: {ولا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} بسبب ما قدموا من الكفر، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه"، فلولا أنهم كانوا موقنين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمنوا، ولكنهم علموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد، فما تمالك أحد منهم أن يتمنى؛ وهي إحدى المعجزات. وقرئ:(فتمنوا الموت) بكسر الواو، تشبيهًا ب"لو استطعنا". ولا فرق بين"لا" و"لن" في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل، إلا أن في"لن" تأكيدًا وتشديدًا ليس في "لا" فأتى مرةً بلفظ التأكيد:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قلت: لم لم يضف"أولياء" لله كما أضاف في قوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62].

قلت: ليؤذن بالفرق بين من يدعي أنه من أولياء الله، وبين من يخصه الله بالولاية، ونحوه في الإضافة قوله:{مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ} قال: "معنى {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ} [الصف: 14]، أي: من الأنصار الذين يختصون بي؟ ويكونون معي في نصرة الله؟ ومعنى {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}: نحن الذين ينصرون الله"، وسبق أن الإضافة الأولى محضة، والثانية غير محضة، ، وذكرنا فائدة الاختلاف.

قوله: (لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه)، روى الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس: لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار.

قوله: (وقرئ: "فتمنوا الموت")، بكسر الواو، قال ابن جني: قرأها ابن يعمر وابن أبي إسحاق.

قوله: ((فأتى مرةً بلفظ التأكيد)، الراغب: إن قوله: {فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * ولا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} الآية لما كان مفتتحًا بشرط علقت صحته بتمني الموت ووقع

ص: 407

{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} [البقرة: 95]، ومرةً بغير لفظه:{ولا يَتَمَنَّوْنَهُ} [الجمعة: 7]، ثم قيل لهم:{إنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم؛ لا تفرتونه وهو ملاقيكم لا محالة {ثُمَّ تُرَدُّونَ} إلى الله فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب. وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه: إنه ملاقيكم. وفي قراءة ابن مسعود: تفرون منه ملاقيكم، وهي ظاهرة. وأما التي بالفاء، فلتضمن الذي معنى الشرط، وقد جعل {إنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} كلامًا برأسه في قراءة زيد، أي: أن الموت هو الشيء الذي تفرون منه، ثم استؤنف: إنه ملاقيكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا الشرط غاية ما يطلبه المطيع، ولا مطلوب وراءه على ما ادعوه لأنفسهم، وهو أن لهم الدار الآخرة خالصة من دون غيرهم وجب أن يكون ما يبطل تمني الموت المؤدي إلى بطلان شرطهم أقوى ما يستعمل في بابه وأبلغه في نفي ما ينتفي شرطهم به، فكان ذلك بلفظة"لن" التي للقطع والبتات، وليس كذلك الشرط في سورة الجمعة، إذ ليس زعمهم أنهم أولياء لله من دون الناس مثل المطلوب الذي لا مطلوب وراءه وهو الدار الآخرة لأنهم يطلبون بعد ذلك إذا صح لهم هذا الوصف دار الثواب، فلما كان الشرط في هذا المكان قاصرًا عن الشرط في ذلك المكان ولم تكن الدعوى غاية المطلوب لم يحتج في نفيه وإبطاله إلى ما هو غاية في بابه.

قلت: ويعضده تخصيص العشرة المبشرة بالجنة من الجم الغفير من بين الصحابة الكرام.

قوله: (وأما التي بالفاء)، أي: القراءة التي أتى بالفاء في {فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ} ، فلتضمن {الَّذي} معنى الشرط.

قال أبو البقاء: دخلت في الفاء لما في"الذي من شبه الشرط، ومنع منه قوم وقالوا: إنما يجوز ذلك إذا كان"الذي" هو المبتدأ، أو اسم إن، و {الَّذي} ها هنا صفة، وضعفوه من وجه آخر وهو: أن الفرار من الموت لا ينجي منه فلم يشبه الشرط، وقال هؤلاء: الفاء زائدة، وأجيب

ص: 408

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ واذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 9 - 10]

يوم الجمعة: يوم الفوج المجموع، كقولهم: ضحكة للمضحوك منه. ويوم الجمعة؛ بفتح الميم: يوم الوقت الجامع، كقولهم: ضحكة، ولعنة، ولعبة؛ ويوم الجمعة: تثقيل للجمعة، كما قيل: عسرة في عسرة. وقرئ بهن جميعًا.

فإن قلت: "من" في قوله: {مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} ما هي؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عنه بأن الصفة والموصوف كالشيء الواحد، ولأن"الذي" لا تكون إلا صفة، فإذا لم يذكر الموصوف معها دخلت الفاء والموصوف مراد، فكذلك إذا صرح به، وأما ما ذكروه ثانيًا فغير صحيح، فإن خلقًا كثيرًا يظنون أن الفرار من أسباب الموت ينجيهم إلى وقت آخر. وقد جاء هذا المعنى مصرحًا به في قوله:

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه .... ولو رام أسباب السماء بسلم

أنشده صاحب"الكشف" مستشهدًا.

قوله: (تثقيل للجمعة)، أبو البقاء:"الجمعة" بضمتين، وبإسكان الميم مصدر بمعنى الاجتماع، وقيل في المسكن: هو بمعنى المجتمع فيه، مثل: رجل ضحكة، أي: كثير الضحك منه، و {مِنْ} بمعنى: في.

ص: 409

قلت: هي بيان لـ {إِذَا} وتفسير له. والنداء: الأذان. وقالوا: المراد به الأذان عند قعود الإمام على المنبر، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد، فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد؛ فإذا نزل أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على ذلك؛ حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذنًا آخر، فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء، فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني، فإذا نزل أقام الصلاة، فلم يعب ذلك عليه.

وقيل: أول من سماها جمعةً كعب بن لؤي، وكان يقال لها: العروبة.

وقيل: إن الأنصار قالوا: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك؛ فهلموا نجعل لنا يومًا نجتمع فيه فنذكر الله فيه ونصلي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (حتى إذا كان عثمان رضي الله عنه، عن البخاري والترمذي وأبي داود وابن ماجه عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان رضي الله عنهم، وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزوراء.

قوله: (يقال لها: العروبة)، النهاية: هو اسم قديم للجمعة، وكأنه ليس بعربي، يقال: يوم عروبة، ويوم العروبة، والأفصح أن لا يدخلها الألف واللام.

ص: 410

فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوا يوم العروبة، فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فأنزل الله آية الجمعة، فهي أول جمعة كانت في الإسلام.

وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي: أنه لما قدم المدينة مهاجرًا نزل قباء على بني عمرو بن عوف، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدًا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، فخطب وصلى الجمعة.

وعن بعضهم: قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم في قوله:{فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة: 6]، وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفارًا؛ وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث)، إلى قوله:(فشرع الله لهم الجمعة)، فعلى هذا يكون في قوله:{إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} تعريضًا باليهود وأنهم ما وفقوا لما سعد به المؤمنون كما ورد في الحديث: "هذا يومهم الذي فرض عليهم"- يعني: يوم الجمعة-، "فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدًا، والنصارى بعد غد"، رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

ومن ثم جعلت الصلة التي هي {آمَنُوا} علة للسعي إلى ذكر الله، كما جعلت الصلة في قوله {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} لأهل الكتاب مقررًا للتمثيل في قوله:{كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} وكذا الصلة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} عدل فيها من لفظ اليهود إلى

ص: 411

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة، وهو عند الله يوم المزيد".

وعنه عليه السلام: "أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء وقال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدًا ولأمتك من بعدك، وهو سيد الأيام عندنا، ونحن ندعوه إلى الآخرة يوم المزيد".

وعنه صلى الله عليه وسلم: "إن لله تعالى في كل جمعة ست مئة ألف عتيق من النار". وعن كعب: إن الله فضل من البلدان مكة، ومن الشهور رمضان، ومن الأيام الجمعة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الموصول والصلة، ليكون ذريعةً إلى التعرض بدعواهم الكاذبة، حيث سموا أنفسهم يهودًا، وهو من هاد، أي: رجع إلى الله تعالى وتاب، وإلى تقرير معنى قوله:{فَتَمَنَّوُا المَوْتَ} كأنه قيل: يا أيها الذين ادعوا أنهم رجعوا إلى الله وتابوا إليه، إن زعمتم أنكم أوليا الله، لأن التائب إلى الله ولي الله، فتمنوا لقاء الله، فإن الحبيب لا يكره لقاء حبيبه، ولقاء الله: الموت، على ما ورد في الحديث، ففي كل من الأحاديث الثلاثة تعريض في غاية اللطف والدقة.

قوله: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة)، الحديث أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة، وليس في آخره: وهو عند الله يوم المزيد.

ص: 412

وقال عليه الصلاة والسلام: "من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد، ووقي فتنة القبر"، وفي الحديث:"إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد؛ بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب، يكتبون الأول فالأول على مراتبهم"، وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصةً بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج. وقيل: أول بدعة أحدثت في الإسلام: ترك البكور إلى الجمعة. وعن ابن مسعود: أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه، فاغتم وأخذ يعاتب نفسه يقول: أراك رابع أربعة، وما رابع أربعة بسعيد! ! .

ولا تقام الجمعة عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا في مصر جامع، لقوله عليه السلام:"لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع"،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من مات يوم الجمعة)، الحديث من رواية أحمد بن حنبل عن عبد الله بن عمرو ابن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي فتنة القبر".

قوله: (إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة)، روينا عن الإمام أحمد بن حنبل عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد يكتبون من جاء من الناس على منازلهم؛ فرجل قدم جزورًا، ورجل قدم بقرةً، ورجل قدم شاةً، ورجل قدم دجاجةً، ورجل قدم عصفورًا، ورجل قدم بيضةً، فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طووا الصحف ودخلوا المسجد يستمعون الذكر".

قوله: (لا جمعة ولا تشريق)، وفي"الهداية" التشريق: التكبير، كذا نقل عن خليل بن

ص: 413

والمصر الجامع: ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام، ومن شروطها: الإمام أو من يقوم مقامه، لقوله عليه السلام:"فمن تركها وله إمام عادل أو جائر" الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أربع إلى الولاة: الفيء، والصدقات، والحدود، والجماعات". فإن أم رجل بغير إذن الإمام أو من ولاه من قاض أو صاحب شرطة لم يجز؛ فإن لم يكن الاستئذان فاجتمعوا على واحد فصلى بهم جاز، وهي تنعقد بثلاثة سوى الإمام، وعند الشافعي بأربعين، ولا جمعة على المسافرين والعبيد والنساء والمرضى والزمنى، ولا على الأعمى عند أبي حنيفة، ولا على الشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد.

وقرأ عمر وابن عباس وابن مسعود وغيرهم: (فامضوا). وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلًا يقرأ: {فَاسْعَوْا} ، فقال: من أقرأك هذا؟ قال أبي بن كعب،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحمد، وفيها: وهو عقيب الصلوات المفروضات على المقيمين في الأمطار في الجماعات المستحبة عند أبي حنيفة رضي الله عنه.

قوله: (فامضوا)، روى الإمام مالك: فقال ابن شهاب: كان عمر رضي الله عنه يقرأ: "فامضوا"، وليس فيه قول أبي بن كعب: لا يزال يقرأ، إلى آخره.

ص: 414

فقال: لا يزال يقرأ بالمنسوخ! لو كانت {فَاسْعَوْا} لسعيت حتى يسقط ردائي.

وقيل: المراد بالسعي القصد دون العدو، والسعي: التصرف في كل عمل. ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102]، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]. وعن الحسن: ليس السعي على الأقدام، ولكنه على النيات والقلوب.

وذكر محمد بن الحسن رحمه الله في"موطئه": أن ابن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي. قال محمد: وهذا لا باس به ما لم يجهد نفسه. {إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} إلى الخطبة والصلاة، ولتسمية الله الخطبة ذكرًا له، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكرًا لله كقوله: الحمد لله، سبحان الله، جاز. وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال: الحمد لله. وارتج عليه، فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وستأتيكم الخطب، ثم نزل، وكان ذلك بحضرة الصحابة ولم ينكر عليه أحد. وعند صاحبيه والشافعي: لا بد من كلام يسمى خطبة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال ابن جني: هذه القراءة تفسير لقراءة العامة {فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي: فاقصدوا وتوجهوا، وليس فيه دليل على الإسراع.

قوله: (إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكرًا لله كقوله: الحمد لله، سبحان الله، جاز)، الانتصاف: لا دليل فيه؛ لأن العرب تسمي الشيء باسم بعضه، كما سميت الصلاة قرآنًا وركوعًا وسجودًا، والمسمى خطبةً عند العرب يزيد على القدر الذي اقتصر عليه الإمام أبو حنيفة.

قوله: (وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال: الحمد لله وأرتج عليه)، الانتصاف: هذا سهو

ص: 415

فإن قلت: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها ذكر غير الله؟

قلت: ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين، والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله، فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم، وهم أحقاء بعكس ذلك، فمن ذكر الشيطان، وهو من ذكر الله على مراحل.

وإذا قال المنصت للخطبة لصاحبه: "صه" فقد لغا، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لا غيا؟ ! نعوذ بالله من غربة الإسلام ونكد الأيام.

أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بلا شك، فذلك لم يكن في خطبة الجمعة، وعادة العرب الخطب في المهمات.

الجوهري: أرتج على القارئ، على ما لم يسم فاعله: إذا لم يقدر على القراءة، كأنه أطبق عليه، كما يرتج الباب، أي: يغلق.

قوله: (من ذكر الظلمة وألقابهم)، الانتصاف: الدعاء للسلطان الواجب الطاعة مشروع بكل حال، فقيل لبعض السلف: تدعو لسلطان ظالم؟ قال: إن ما يدفع الله ببقائه أعظم مما يدفع بزواله، لاسيما إذا ضمن الدعاء صلاحه وسداده.

الإنصاف: الذي قاله الزمخشري هو الذي قاله صاحب "الشامل" عن مذهب الشافعي، وهو الأليق والأشبه بسيرة الخلفاء الراشدين، فلا اعتبار بالعذر عما يتورط في أمثاله.

قوله: (إذا قال المنصت للخطبة لصاحبه: صه، فقد لغا)، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 416

وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم، وينصبون إلى المصر من كل أوب، ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص والأسواق بهم إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة، وحينئذ تحر التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد، قيل لهم: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، {وذَرُوا البَيْعَ} الذي نفعه يسير وربحه مقارب.

فإن قلت: فإذا كان البيع في هذا الوقت مأمورًا بتركه محرمًا، فهل هو فاسد؟

قلت: عامة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع. قالوا:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت، والإمام يخطب، فقد لغوت"، ولفظ الترمذي:"من قال يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغا".

قوله: (انتفخ النهار)، الأساس: ومن المجاز، انتفخ النهار: علا.

قوله: (تحر التجارة)، في نسخة:"تحر" بفتح التاء والحاء المهملة، وفي أخرى: بكسر الحاء، وهو شدة إقامة السوق؛ من الحرارة، في حديث علي لفاطمة رضي الله عنها: لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته خادمًا يقيك حر ما كنت فيه من العمل. يعني: التعب والمشقة من خدمة البيت، لأن الحرارة مقرونة بهما، كما أن البرودة مقرونة بالراحة والسكون.

قوله: (وربحه مقارب)، الجوهري: قاربته في البيع مقاربةً، وشيء مقارب بكسر الراء، أي: وسطًا بين الجيد والرديء، وكذلك إذا كان رخيصًا.

ص: 417

لأن البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب، وعن بعض الناس أنه فاسد. ثم أطلق لهم ما حظر عليهم بعد قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح؛ مع التوصية بإكثار الذكر وأن لا يلهيهم شيء من تجارة ولا غيرها عنه، وأن تكون هممهم في جميع أحوالهم وأوقاتهم موكلة به لا ينفضون عنه، لأن فلاحهم فيه وفوزهم منوط به. وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة)، أي: يكون البيع محرمًا، لكن غير فاسد، كما أن الصلاة في الأرض المغصوبة مسقطة للقضاء، لكن إيقاعها فيها حرام يستحق به العقاب.

قال الشيخ محيي الدين النواوي في "شرح صحيح مسلم" في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافًا فسأله عن شيء لن تقبل له صلاة أربعين ليلةً": معنى عدم قبول الصلاة: أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئةً في سقوط الفرض عنه، ولا حاجة معها إلى إعادة، ونظير هذا: الصلاة في الأرض المغصوبة، مجزئة مسقطة للقضاء ولكن لا ثواب فيها، كذا قاله جمهور أصحابنا، قالوا: صلاة الفرض وغيرها من الواجبات إذا أتي بها على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان؛ سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب، فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول دون الثاني، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة.

العراف: هو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها، وقال الخطابي: العراف: هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة وغيرهما.

قوله: (وعن بعض الناس: أنه فاسد)، قال محيي السنة في"المعالم": إنما يحرم البيع والشراء

ص: 418

إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله. وعن الحسن وسعيد بن المسيب: طلب العلم، وقيل: صلاة التطوع. وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا نظرًا في هذه الآية.

[{وإذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُوًا انفَضُّوا إلَيْهَا وتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ ومِنَ التِّجَارَةِ واللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 11]

روي أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة؛ فقاموا إليه، خشوا أن يسبقوا إليه، فما بقي معه إلا يسير. قيل: ثمانية، وأحد عشر، واثنا عشر، وأربعون، فقال عليه السلام:" والذي نفس محمد بيده، لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارًا"، وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، فهو المراد باللهو. وعن قتادة: فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل مقدم عير.

فإن قلت: فإن اتفق تفرق الناس عن الإمام في صلاة الجمعة كيف يصنع؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عند الأذان. وفي "شرح السنة" عن ابن عباس: {إِذَا نُودِيَ} يحرم البيع حينئذ، وقال عطاء: يحرم الصناعات كلها.

قوله: (أصابهم جوع وغلاء شديد)، الحديث من رواية البخاري ومسلم والترمذي عن جابر: بينا نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعامًا، فالتفتوا إليها، حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلًا، فنزلت.

ص: 419

قلت: إن بقي وحده أو مع أقل من ثلاثة، فعند أبي حنيفة: يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع، وعند صاحبيه: إذا كبر وهم معه مضى فيها، وعند زفر: إذا نفروا قبل التشهد بطلت.

فإن قلت: كيف قال: {إلَيْهَا} وقد ذكر شيئين؟

قلت: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه؛ فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، وكذلك قراءة من قرأ:(انفضوا إليه). وقراءة من قرأ: (لهوا أو تجارة انفضوا إليها) وقرئ: (إليهما).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كيف قال: {إِلَيْهَا} وقد ذكر شيئين؟ )، الراغب: أعيد الضمير إلى التجارة دون اللهو لما كانت سبب انفضاض الذين نزلت الآية فيهم، ولأنه قد تشغل التجارة عن العبادة من لا يشغله اللهو، وعلى ذلك قوله:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] لما كان حبس الفضة عن الناس أعظم ضررًا إذ كانت الحاجة إليها أمس، ومنعها للمضرة أجلب.

وعلى ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] خصها برد الضمير، لأنها أرفع منزلةً من الصبر، لأنها تجمع ضروبًا من الصبر، إذ هي حبس الحواس على العبادة، وحبس الخواطر والأفكار على الطاعة، ولهذا قال الله تعالى:{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45].

وقلت: ويمكن أن يقال: إن"أو" في {أَوْ لَهْوًا} مثلها في قول الشاعر:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى .... وصورتها أو أنت في العين أملح

ص: 420

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الجوهري: يريد: بل أنت، فالضمير في {إِلَيْهَا} راجع إلى اللهو باعتبار المعنى، والسر فيه: أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله عدت لهوًا، وتعد فضلًا إن لم تشغله، كما في قوله:{فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} .

ثم أرشدهم بعد التوبيخ والتعيير إلى تحري الأصوب، وتوخي المنهج الأقوم على سبيل العموم، قائلًا:{قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ ومِنَ التِّجَارَةِ} ، وقدم ما كان مؤخرًا وكرر الجارة لإرادة الإطلاق في كل واحد واستقلاله فيما قصد منه، التخالف السابق في اتحاد المعنى، لأن ذلك في قصة مخصوصة كما روينا عن الأئمة.

تمت السورة

بحمد الله وعونه وحسن توفيقه.

* * *

ص: 421

‌سورة المنافقون

إحدى عشرة آية، مدنية بلا خلاف

بسم الله الرحمن الرحيم

[{إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} 1 - 3]

أرادوا بقولهم: {نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم. فقال الله عز وجل: قالوا ذلك {واللَّهُ يَعْلَمُ} أن الأمر كما يدل عليه قولهم: {إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة المنافقون

إحدى عشرة آية، مدنية بلا خلاف

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

قوله: (أرادوا بقولهم: {نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}) إلى قوله: "أو إنهم لكاذبون فيه"، وقوله:"أو أراد: الله يشهد"، فسر {لَكَاذِبُونَ} لإطلاقه واستدعائه، متعلقًا على اتحاد مبناه، على مرجع الخبر كونه صادقًا أو كاذبًا إلى مطابقته الواقع، أو إلى اعتقاد المخبر، والتفسير الأول والثاني على الأول، والثالث على الثاني.

ص: 422

والله يشهد إنهم لكاذبون في قولهم: نشهد؛ وادعائهم فيه المواطأة.

أو إنهم لكاذبون فيه؛ لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة؛ فهم كاذبون في تسميته شهادة. أو أراد: والله يشهد إنهم لكاذبون عند أنفسهم؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم: {إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه.

فإن قلت: أي فائدة في قوله تعالى: {واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ} ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبيانه: أن هذا التكذيب إما راجع إلى دعواهم، لا إلى كون المخاطب شاكًا في كونهم كاذبين، أو منكرًا، أي: أنهم ادعوا أن قوله: {إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} صادر عن صميم القلب، حيث صدروا الجملة بـ"إن" وأدخلوا في الخبر اللام، كأنهم قالوا: نشهد عن صميم القلب إنك لرسول الله، فلما لم يكن ذلك مطابقًا للواقع كذبهم، يدل عليه قوله:{واللَّهُ يَعْلَمُ} أن الأمر كما يدل عليه قولهم، أي: مطابقًا للواقع وإن لم يعتقدوه. وإما إلى لفظ {يَشْهَدُ} وإبراز الدعوى وتخصيصها وتسميتها به، لأن حقيقة الشهادة: ما يصدر عن طمأنينة قلب وعلم ثابت، قال تعالى:{وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81].

قال القاضي: الشهادة: إخبار عن علم من الشهود، وهو الحضور والاطلاع.

الراغب: الشهادة المتعارفة أصلها الحضور بالقلب والتبيين، ثم يقال ذلك إذا عبر عنه باللسان، ولذلك متى أطلق لفظ الشهادة على ما يظهر من اللسان دون حضوره في القلب عد كذبًا. وإما راجع إلى مطابقة اعتقادهم؛ فإنهم اعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس برسول، فاعتقدوا أن ما قالوه على خلاف ما عليه حال المخبر عنه، فأخبر الله تعالى عن معتقدهم، هذا هو الكلام النفسي. قال بعض أصحابنا: وجه الاستدلال بالآية أنه تعالى شهد بكذب المنافقين، وما كذبوا فيما نطقوا به وجرى على ألسنتهم من قولهم:{إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} ، فدل على أنهم كذبوا فيما اشتملت عليه نفوسهم، وتكلمت به قلوبهم، وقد سماه الله تعالى كذبًا، والكذب لا يكون إلا في الكلام.

ص: 423

قلت: لو قال: قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إنهم لكاذبون، لكان بوهم أن قولهم هذا كذب؛ فوسط بينهما قوله:{واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ} ليميط هذا الإيهام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال القاضي: الصدق: الإخبار المطابق، وقيل: مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو أمارة، لأنه تعالى كذب المنافقين في قوله:{إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} لما لم يعتقدوا مطابقته. ورد بصرف التكذيب إلى قولهم: {نَشْهَدُ} ؛ لأن الشهادة إخبار عما علمه، وهم ما كانوا عالمين به.

الراغب: الصدق يحد بأنه مطابقة الخبر المخبر عنه، لكن حقيقته وتمامه أن يتطابق في ذلك ثلاثة أشياء؛ وجود المخبر عنه على ما أخبر عنه، واعتقاد المخبر فيه ذلك عن دلالة وأمارة، وحصول العبارة مطابقًا لهما، فمتى حصل ذلك وصف بالصدق المطلق، ومتى ارتفع ثلاثتها يوصف بالكذب المطلق، ومتى حصل اللفظ والمخبر عنه والاعتقاد بخلافه صح أن يوصف بالكذب، ألا ترى أن الله تعالى كذب المنافقين في إخبارهم:{إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} لما كان اعتقادهم غير مطابق لقولهم، وإذا قال لك من اعتقد كون زيد في الدار: إن زيدًا في الدار، ولم يكن فيها، صح أن يقال: كذب، وإن كان قوله مطابقًا لاعتقاده. ولما كان اللسان ترجمان القلب صح أن يقال: صدق في اعتقاده أو كذب.

قلت: ولعل الظاهر أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال، لأن المقام الاجتهادي يخالف غيره، لأن المجتهد إذا اجتهد وأخبر على خلاف الواقع فلا يقال: إنه كذب، بل أخطأ، قال في قوله تعالى:{لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} في الكهف: "هذا جواب مبني على غالب الظن، وفيه دليل جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب، وأنه لا يكون كذبًا، وإن جاز أن يكون خطًا".

قوله: (لكان يوهم أن قولهم هذا كذب) أي: قولهم: {نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وقول الله

ص: 424

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعده: {واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} في أنك لرسول الله، يوهم أن قولهم هذا كذب، فوسط بقوله:{واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ} صيانةً لهذا الوهم. هذا نوع من التتميم لطيف المسلك، قال أبو الطيب:

وتحتقر الدنيا احتقار مجرب .... يرى كل ما فيها- وحاشاك- فانيا

"وحاشاك" تتميم، ومنه أخذ صاحب "المفتاح" حيث قال:{واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ} فصل في البين، ولو لم يكن لأوهم رد التكذيب إلى نفس الشهادة.

الانتصاف: مضى تنظيره بقوله عز وجل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات: 14] ولم يقل: لا تقولوا آمنا.

وقلت: ليس منه، لأن ذلك من الألفاظ التي تبدل بما هو أولى بالذكر منه، قال تأبط شرًا:

يظل بموماة ويمشي بغيرها .... جحيشًا ويعروري ظهور المهالك

فإن جحيشًا: نافر، وكان له مندوحة عنه بقوله: فريدًا، وما نحن بصدده من الإطناب الذي يكتسي به الكلام حسنًا وبهجةً ويستزيد به السامع هزةً ونشاطًا، كما قال الآخر:

ص: 425

{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يجوز أن يراد: أن قولهم: {نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} يمين من أيمانهم الكاذبة؛ لأن الشهادة تجري مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد، يقول الرجل: أشهد، وأشهد بالله، وأعزم، بالله في موضع أقسم وأولي. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن "أشهد" يمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فسقى ديارك- غير مفسدها- .... صوب السحاب وديمة تهمي

قوله: "غير مفسدها"، فضله وتتميم للصيانة.

قوله: (لأن الشهادة تجري مجرى الحلف) وذلك أن الشهادة بعد الدعوى تأكيد لاستحقاق المدعي لما ادعاه، واليمين كذلك، فشبهت الشهادة لذلك الجامع، فأطلق اسمها عليها: الشهادة، وفي"المطلع": يقال: أشهد لا أفعل كذا، كما يقال: أحلف لا أفعل كذا.

وقوله: يقول الرجل: أشهد وأشهد بالله، وأعزم وأعزم بالله، معناه: يقال كلاهما مقرونًا بالله ومجردًا عن قوله: "بالله".

قوله: (وأولي)، الجوهري: آلى [يؤلي] إيلاء: حلف وتألى، مثله.

قوله: (وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن"أشهد" يمين)، الانتصاف: لا دليل فيه، لأنه غاية ما في الآية أنه سمي يمينًا، والكلام في وجوب الكفارة بذلك لا في إطلاق الاسم، وكل ما يسمى يمينًا تجب به الكفارة، فلو قال: أحلف على كذا، فلا تجب عليه الكفارة، وإن كان حلفًا.

ص: 426

ويجوز أن يكون وصفا للمنافقين في استجنانهم بالأيمان.

وقرأ الحسن البصري: (إيمانهم)، أي: ما أظهروه من الإيمان بألسنتهم. ويعضده قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} .

{سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله. وفي {سَاءَ} معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين {ذَلِكَ} إشارة إلى قوله: {سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا بسبب أنهم {آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان، أي: ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فجسروا على كل عظيمة.

فإن قلت: المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم، فما معنى قوله:{آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} ؟

قلت: فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: {آمَنُوا} ، أي: نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام، {ثُمَّ كَفَرُوا} ثم ظهر كفرهم بعد ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز أن يكون وصفًا للمنافقين في استجنانهم بالأيمان) أي: يقال: استجن بجنة أي: استتر بسترة: والسترة: ما ستر به الصائد وغيره، إظهارًا كانوا عليه من الخبث والخديعة، وما تمرنوا به واعتادوا عليه، فعلى هذا تكون هذه الآية مستطردة تعدادًا لقبائحهم، وعلى الأول:{أَيْمَانَهُمْ} موضوع موضع المضمر، أي: اتخذوا شهادتهم تلك سترة ستروا بها عما خافوا على أنفسهم، وفيه إشعار بأن وكادتهم لتلك الشهادة بلغت مبلغ الحلف والأيمان، فإذن لا يسمى كل شهادة يمينًا.

ص: 427

وتبين بما اطلع عليه من قولهم: إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير، وقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر؟ هيهات! ونحوه قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74] أي: وظهر كفرهم بعد أن أسملوا. ونحوه قوله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66]، والثاني {آمَنُوا}: أي: نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام، كقوله تعالى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا} إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]، والثالث: أن يراد أهل الردة منهم.

وقرئ: (فطبع على قلوبهم)، وقرأ زيد بن علي:(فطبع الله).

[{وإذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 4]

كان عبد الله بن أبي رجلا جسيما صبيحًا، ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في مثل صفته، وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم.

فإن قلت: معنى قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولهم جهارة المناظر)، الأساس: جهرني فلان: راعني بجماله وهيئته، وفلان جهير بين الجهارة، إذا كان ذا جهر ومنظر تجتهره الأعين، قال أعرابي في الرشيد:

جهير الرواء جهير الكلام .... جهير العطاس جهير النغم

ص: 428

قلت: شبهوا في استنادهم، وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير، بالخشب المسندة إلى الحائط؛ ولأن الخشب إذا انتفع به كان في شقف أو جدار أو غيرها من مظان الانتفاع، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع. ويجوز أن يراد بالخشب المسندة: الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان؛ شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم؛ والخطاب في {رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ} لرسول الله، أو لكل من يخاطب. وقرئ:(يسمع) على البناء للمفعول، وموضوع {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ} رفع على: هم كأنهم خشب، أو هو كلام مستأنف لا محل له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في استنادهم) الإضافة مثل التعريف باللام، لأن المراد ذلك الاستناد، وهو ما قال:"كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه"، والواو في"وما هم" للحال.

قوله: (شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم) هذا الوجه أحسن من الأول، لزيادة الاعتبار، فالتشبيه مركب في الاعتبارين؛ إما عقلي، أو وهمي.

قوله: (أو هو كلام مستأنف لا محل له) يؤذن بأن له محلًا على الوجه الأول، قال أبو البقاء:{كَأَنَّهُمْ} الجملة حال من الضمير المجرور في"قولهم" وقيل: هي مستأنفة.

وقدر القاضي: تسمع لما يقولونه مشبهين بأخشاب منصوبة مستندة إلى الحائط، في كونهم أشباحًا خالية عن العلم والنظر.

وظاهر كلام الزجاج على ما نقله الواحدي على الاستئناف، حيث قال: وصفهم بتمام الصور وحسن الإبانة، ثم أعلم أنهم في ترك التفهم والاستبصار بمنزلة الخشب.

وأراد أنها ليست بأشجار تثمر وتنمو، بل هي خشب مستندة إلى الحائط، ثم عابهم بالجبن

ص: 429

وقرئ: (خشب جمع خشبة، كبدنة وبدون، و {خُشُبٌ} ، كثمرة وثمر، وخشب، كمدرة ومدر، وهي في قراءة ابن عباس. وعن اليزيدي أنه قال في {خُشُبٌ}: جمع خشبائ، والخشباء: الخشبة التي دعر جوفها: شبهوا بها في نفاقهم وفساد بواطنهم {عَلَيْهِمْ} ثاني مفعولي {يَحْسَبُونَ} ، أي: يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم، لجبنهم وهلعهم وما في قلوبهم من الرعب، إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة ظنوه إيقاعا بهم. وقيل: كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم، ومنه أخذ الأخطل:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فقال: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} أن تأمنهم على سرك لأنهم عيون لأعدائك.

وقلت: تلخيص الآية: إذا رأيت جهارة منظرهم وفصاحة منطقهم، حسبتهم أرباب لب وشجاعة، وأصحاب علم ودراية، وإذا اختبرتهم وقفت على خلاف ذلك، فلا تحتفل بذلك. هم العدو، أي: هم أولئك الذين قالوا: {نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} إلى قوله: {لا يَفْقَهُونَ} ، ألا ترى كيف عقب الكلام بقوله:{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فإذن التعريف في {العَدُوُّ} للعهد، وإن ذهب المصنف للجنس لقوله:"هم الكاملون في العداوة".

قوله: (وقرئ: "خشب") قنبل وأبو عمرو والكسائي: بإسكان الشين، والباقون: بضمها. الانتصاف: قد قرئ: بضم الشين قراءةً مستفيضةً، فتدل على أن الضم أصل، والتخفيف فرع، وذلك يبعد كونها جمع خشباء، فإنه يجمع على"فعل" ساكن العين لا غير.

قوله: (دعر جوفها)، الجوهري: الدعر- بالتحريك-: الفساد، والدعر أيضًا: مصدر: دعر العود- بالكسر- يدعر دعرًا، فهو عود دعر، أي: عود رديء كثير الدخان.

ص: 430

ما زلت تحسب كل شيء بعدهم .... خيلا تكر عليهم ورجالا

يوقف على {عَلَيْهِمْ} ، ويبتدأ {هُمُ العَدُوُّ} ، أي: هم الكاملون في العدواة؛ لأن أعدى الأعداء العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي {فَاحْذَرْهُمْ} ولا تغترر بظاهرهم. ويجوز أن يكون {هُمُ العَدُوُّ} المفعول الثاني، كما لو طرحت الضمير.

فإن قلت فحثه أن يقال: هي العدو.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ما زلت تحسب كل شيء) البيت.

أي: لا زلت في وجل من الإيقاع بهم، وإباحة دمائهم وأموالهم، حتى تحسب- للجبن والهلع- أن كل شيء"خيلًا ورجالةً". أبو الطيب:

وضاقت الأرض حتى كان هاربهم .... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

قوله: (يوقف على {عَلَيْهِمْ})، المرشد: وقف تام، كذا في" الكواشي"، وعليه كلام الواحدي.

قوله: (هم الكاملون في العداوة) لتعريف الخبر بالجنس، والضمير هاهنا بمنزلة اسم الإشارة، يؤذن بأن ما بعده جدير بمن قبله لأجل تلك الأوصاف، وإليه أشار بقوله:"لأن أعدى الأعداء العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي".

قوله: (العدو المداجي)، الجوهري، المداجاة: المداراة. يقال: داجيته، إذا داريته؛ كأنك ساترته بالعداوة، والمكاشر: المجاهر، يقال: كشر البعير عن نابه، أي: كشف عنها.

الداء الدوي، يقال منه: دوي بالكسر منه أي: مرض، ودوي صدره أي: ضغن

ص: 431

قلت: منظور فيه إلى الخبر، كما ذكر في {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] وأن يقدر مضاف محذوف على: يحسبون كل أهل صيحة. {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} دعاء عليهم، وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم، أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك. {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} كيف يعدلون عن الحق؟ تعجبا من جهلهم وضلالتهم.

[{وإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وهُم مُّسْتَكْبِرُونَ * سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} 5 - 6]

{لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} عطفوها وأمالوها إعراضا عن ذلك واستكبارًا. وقرئ بالتخفيف والتشديد للتكثير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النهاية: في حديث علي رضي الله عنه: "إلى مرعى وبي، ومشرب دوي" أي: فيه داء، وهو منسوب إلى دو، من دوي بالكسر يدوي.

قوله: (كما ذكر في {هَذَا رَبِّي}) وقد ذكر فيه جعل المبتدأ مثل الخبر، لكونهما عبارةً عن شيء واحد، كقولهم: ما جاءت حاجتك.

قوله: (وطلب من ذاته تعالى أن يلعنهم) يعني: أنه من أسلوب التجريد، كقراءة ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:"ومن كفر فأمتعه" على الأمر، أي: فأمتعه يا قادر، قال في قوله تعالى:{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]: "هي من أشنع دعواتهم، لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها"، كذلك الطرد عن رحمة الله البعد عن جنابه الأقدس، والخزي: منتهى عذاب الله وغاية نكاله في الدنيا والآخرة، فجعل {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} كناية عن ذلك، نعوذ بالله منه.

قوله: (قرئ: بالتخفيف والتشديد) نافع: "لووا" بتخفيف الواو، والباقون: بتشديدها.

ص: 432

[{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا ولِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ولِلَّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} 7 - 8]

روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم، وهزمهم وقتل منهم، ازدحم على الماء جهجاه بن أجير لعمر يقود فرسه، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبي، واقتتلا، فصرخ جهجاه: ياللمهاجرين! وسنان: يا للأنصار! فأعان جهجاهًا جعال من فقراء المهاجرين ولطم سنانًا؛ فقال عبد الله لجعال: وأنت هناك؟ وقال: ما صحبنا محمدًا إلا لنلطم؟ والله ما مثلهم إلا كما قال: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (حين لقي بني المصطلق على المريسيع) قال ابن الجوزي في" الوفا": المريسيع: اسم بئر لبني المصطلق، وكان سيدهم الحارث بن أبي ضرار، جمع لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وتراموا بالنبل ساعةً، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، فقتل عشرة من العدو وأسر الباقون. ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد.

قوله: (وأنت هناك) أي: وأنت في ذلك المقام والمنزلة أن يلطم من يتعلق بي؟ وهو كناية.

قوله: (سمن كلبك يأكلك) قال الميداني: أول من قال ذلك حازم بن المنذر الحماني، وقصته مذكورة بطولها في "مجمع الأمثال" وقال: قيل: إن رجلًا من طسم ارتبط كلبًا، فكان يسمنه ويطعمه رجاء أن يصيد به، فدخل عليه يومًا فوثب عليه فافترسه، قال عوف بن الأحوص:

ص: 433

عنى بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لقومه: ماذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم؛ أما والله لو أمسكتم عن جعال وذوبه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا عنكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد. فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث، فقال: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك، ومحمد في عز من الرحمن وقوة من المسلمين، فقال عبد الله اسكت فإنما كنت العب؛ فأخبر زيد رسول الله فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله، فقال:" إذن ترعد آنف كثيرة بيثرب". قال: فإن كرهت أن يقتله مهاجري، فأمر به أنصاريا فقال:" فكيف إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه؟ " وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله: " أنت صاحب الكلام الذي بلغني؟ "

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أراني وعوفًا كالمسن كلبه .... فخدشه أنيابه وأظافره

قوله: (ترعد آنف) بالمد، قيل: هو جمع آنف، قيل: هو عبارة عن الاضطراب والخوف، أو عن الغضب والارتعاد، يقال: أرعده فارتعد، والاسم: الرعدة، وأرعد الرجل: أخذته الرعدة، وأرعدت فرائصه عند الفزع.

الأساس: ومن المجاز: هو أنف من قومه، وهم آنف الناس، فعلى هذا الأنسب أن يكون كنايةً عن غضب الرؤساء، أي: يغضب علينا ويتعصب أهل يثرب وما حولها، وتقع فتنةً عظيمة، يدل على هذا قوله: "فإن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصاريًا، وأما حديث عبد الله ابن أبي وقوله:{لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} فقده رواه البخاري ومسلم والترمذي عن زيد ابن أرقم، على غير هذا الوجه الذي رواه المصنف، وذكره يطول.

ص: 434

قال: والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئًا من ذلك، وإن زيدًا لكاذب- وهو قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2]_ فقال الحاضرون: يا رسول الله، شيخنا وكبيرنا، لا تصدق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وهم. وروي أن رسول الله قال له: لعلك غضبت عليه؛ قال: لا؛ قال: فلعله أخطأ سمعك؛ قال: لا؛ قال: فلعله شبه عليك؛ قال: لا. فلما نزلت لحق رسول الله زيدًا من خلفه فعرك أذنه وقال: " وفت أذنك يا غلام، إن الله قد صدقك وكذب المنافقين". ولما أراد عبد الله أن يدخل المدينة اعترضه ابنه حباب_ وهو عبد الله بن عبد الله غير رسول الله اسمه، وقال:" إن حبابًا اسم شيطان". وكان مخلطًا_ وقال: وراءك، والله لا تدخلها حتى تقول: رسول الله الأعز وأنا الأذل، فلم يزل حبيسًا في يده حتى أمره رسول الله بتخليته.

وروي أنه قال له: لئن لم تقر لله ورسوله بالعز لأضربن عنقك، فقال: ويحك، أفاعل أنت؟ قال: نعم، فلما رأى منه الجد قال: أشهد أن العة لله ولرسوله وللمؤمنين، فقال رسول الله لابنه:" جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرًا"؛ فلما بان كذب عبد الله قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، فلوى رأسه ثم قال: أمر تموني أن أومن فآمنت، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفت أذنك يا غلام)، النهاية: كأنه جعل أذنه في السماع كالضامنة بتصديق ما حل فيها، فلما نزل القرآن في تحقيق ذلك الخبر، صارت الأذن كأنها وافية بضمانها، خارجة من التهمة فيما أدته في السماع إلى اللسان.

قوله: (وراءك) أي: ارجع القهقرى، قال الميداني: وفي المثل: وراءك أوسع لك، أي: تأخر تجد مكانًا أوسع لك، ويقال في ضده: أمامك، أي: تقدم.

ص: 435

فما بقي إلا أن أسجد لمحمد، فنزلت:{وإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 5] ولم يلبث إلا أيماما قلائل حتى اشتكى ومات. {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} الاستغفار وعدمه؛ لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون لكفرهم، أو لأن الله لا يغفر لهم.

وقرئ: (استغفرت) على حذف حرف الاستفهام؛ لأن (أم) المعادلة عليه.

وقرأ أبو جعفر (آستغفرت)، إشباعًا لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان، لا قلبا لهمزة الوصل ألفًا، كما في:(آلسحر) و (آلله).

{يَنفَضُّوا} يتفرقوا، وقرئ: (ينفضوا من: أنفض القوم: إذا فنيت أزوادهم.

وحقيقته: حان لهم أن ينفضوا من أودهم {ولِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ} وبيده الأرزاق والقسم، فهو رازقهم منها، وإن أبى أهل المدينة أن ينفقوا عليهم، ولكن عبد الله وأضرابه جاهلون، {لا يَفْقَهُونَ} ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "استغفرت" على حذف حرف الاستفهام) وهي المشهورة، قال أبو البقاء: الهمزة في {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} همزة قطع، وهمزة الوصل محذوفة، وقد وصلها قوم على أنه حذف همزة الاستفهام لدلالة {أَمْ} عليه.

قوله: ("آستغفرت"، إشباعًا) قال ابن جني: وهي ضعيفة لأنه أثبت همزة الوصل، وقد استغني عنها بهمزة الاستفهام، وأجاب بأنه إشباع لهمزة الاستفهام، لا قلبًا لهمزة الوصل ألفًا.

قيل: إذا دخل همزة الاستفهام على الاسم المعرف باللام نحو: الحسن، قلبت همزة الوصل ألفًا، لئلا يلتبس الخبر بالاستخبار، وأما هاهنا فلا لبس، لأنه همزة الوصل هاهنا مكسورة.

قوله: (جاهلون {لا يَفْقَهُونَ} ذلك فيهذون)، فإن قلت: فصلت هذه الآية بقوله:

ص: 436

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} والآية الثالثة: {ولَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} لم قدر مفعول هذه ولم يقدر مفعول الثالثة؟

قلت: ليشير الإطلاق إلى إدارة المبالغة، وأن المنافقين عادمون المعرفة، فاقدون العلم، ولذلك خفي عنهم أن العزة لله جميعًا، بعز من يشاء، ويذل من يشاء، وبالتقييد: الإشارة إلى أن الأرزاق والقسم بيد الله تعالى، فهو يرزق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن عنده، ولما كان الثاني مستلزمًا للأول لا العكس بولغ فيه دونه.

فإن قلت: لم خص الأول بـ {لا يَفْقَهُونَ} والثاني بـ {لا يَعْلَمُونَ} ؟

قلت: قد مر أن إثبات الفقه للإنسان أبلغ من إثبات العلم له، فيكون نفي العلم أبلغ من نفي الفقه، فأوثر ما هو أبلغ لما هو أدعى له.

الراغب: معنى قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} يأمرونهم بالإضرار بهم، وحبس النفقات عنهم ولا يفطنون، لأنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم، فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له.

وقوله في الثاني: {لا يَعْلَمُونَ} بعد قوله: {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} عندهم أن الأعز من له القوة والغلبة، على ما كانوا عليه من الجاهلية، ولا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره، إنما هي من الله، فهي لله ولمن يخصه بها من عباده، والمنافقون لا يعلمون أن الذلة لمن يقدرون فيه العزة، وأن الله معز أولياءه بطاعتهم له، ومذل أعداءه بمخالفتهم أمره، فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناه.

ص: 437

وقرئ: (ليخرجن الأعز منها الأذل) _ بفتح الياء_ وليخرجن، على البناء للمفعول. قرأ الحسن وابن أبي عبلة: لنخرجن، بالنون ونصب الأعز والأذل، ومعناه: خروج الأذل أو إخراج الأذل أو مثل الأذل، {ولِلَّهِ العِزَّةُ} الغلبة والقوة، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين، وهم الأخصاء بذلك، كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ليخرجن الأعز منها الأذل) هذه القراءات كلها شواذ، والمشهورة بضم الياء وسكون الخاء، وكسر الراء، والأعز فاعل، والأذل مفعول.

قوله: (ومعناه: خروج الأذل، أو إخراج الأذل، أو مثل الأذل) بيان للقراءة المذكورة على النشر، وعليه ظاهر كلام صاحب "التقريب"، فالتقدير: ليخرجن الأعز منها خروج الأذل، ليخرجن الأعز منها إخراج الأذل، ليخرجن الأعز منها مثل الأذل، وقيل:"إخراج" متعلق بالقراءة الثانية والثالثة، والنصب على هذه القراءات على المصدر، و"مثل الأذل" نصبه على الحال على جميع القراءات، ولا يختص بالثالثة كما ذهب إليه صاحب "التقريب"، لئلا يلزم الترجيح بلا مرجع، فيكون "أو مثل" عطف على قوله:"معناه"، يؤيده قول القاضي: والأذل على هذه القراءات مصدر أو حال على تقدير مضاف، كخروج وإخراج، أو مثل.

وفي الكواشي: "ليخرجن" بفتح الياء معلومًا وبضمها مجهولًا، ونصب "الأذل" مفعول حال محذوف أي: مشبهًا الأذل، أو حال مثل: أرسلها العراك، و "لنخرجن" بالنون ونصب "الأعز"، "الأذل"، أي: خروج أو إخراج الأذل.

قوله: ({ولِلَّهِ العِزَّةُ} الغلبة والقوة)، الراغب: العزة: حالة مانعة للإنسان أن يغلب. من قولهم: أرض عزاز، أي: صلبة، وتعزز اللحم: اشتد، وعز: كأنه حصل في عزاز يصعب

ص: 438

وعن بعض الصالحات- وكانت في هيئة رثة-: ألست على الإسلام؛ وهو العز الذي لا ذل معه؛ والغنى الذي لا فقر معه! وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك أن فيك تيها؛ قال: ليس بتيه، ولكنه عزة، وتلا وهذه الآية.

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} 9]

{لا تُلْهِكُمْ} لا تشغلكم {أَمْوَالُكُمْ} والتصرف فيها، والسعي في تدبير أمرها، والتهالك على طلب النماء فيها بالتجارة والاغتلال، وابتغاء النتاج، والتلذذ بها؛ والاستمتاع بمنافعها، {ولا أَوْلادُكُمْ} وسروركم بهم، وشفقتكم عليهم، والقيام بمؤنهم، وتسوية ما يصلحهم من معايشهم في حياتكم وبعد مماتكم، وقد عرفتم قدر منفعة الأموال والأولاد، وأنه أهون شيء وأدونه في جنب ما عند الله {عَن ذِكْرِ اللَّهِ} وإيثاره عليها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوصول إليه، والعزيز: الذي يقهر ولا يقهر، قال تعالى:{إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26]، وقد يستعار للحمية والأنفة المذمومة، كما في قوله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206] ويقال: عز علي كذا، أي: صعب.

قوله: (ليس بتيه ولكنه عزة) قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره: العزة غير الكبر، لأن العزة معرفة الإنسان لحقيقة نفسه، وإكرامها أن لا يضعها لأقسام عاجلة، كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها، فالعزة ضد الذلة، كما أن الكبر ضد التواضع.

قوله: ({عَن ذِكْرِ اللَّهِ} وإيثاره عليها) أي: لا تشغلكم أموالكم ولا أولادكم عن

ص: 439

{ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} يريد الشغل بالدنيا عن الدين {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} في تجارتهم حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.

وقيل: ذكر الله: الصلوات الخمس. وعن الحسن: جميع الفرائض، كأنه قال: عن طاعة الله. وقيل: القرآن، وعن الكلبي: الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[{وأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * ولَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذَا جَاءَ أَجَلُهَا واللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 10 - 11]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اختيار ذكر الله على الأموال والأولاد، أي: لا تغفلوا عن هذا الإيثار، وفيه جواز الاشتغال بها مصونًا عن الإيثار.

قوله: ({ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} يريد الشغل بالدنيا عن الدنيا) يعني المشار إليه بذلك، هذا هو المعنى، وهو تلخيص الآية على أوجز ما يمكن فهو كلام جامع، عبر بالأموال والأموال والأولاد عن معبر واحد وهي الدنيا، لكونهما أرغب الأشياء منها، قال الله تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46] وقصد بقوله: {ذِكْرِ اللَّهِ} الشمول والعموم، حيث فسره بالدين لإطلاقه وتناوله كل ما هو مسمي به، وبما يناط به من أمور الدين، قال رسول الله:"الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالم ومتعلم" أخرجه الترمذي عن أبي هريرة، فجمع بين الإطناب في الأول، والإيجاز في الثاني، وأذن بنسبة الشغل إلى ذوي العلم أن النهي الوارد في قوله:{لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} راجع في الحقيقة إلى المخاطبين، من باب إطلاق المسبب على السبب كقوله تعالى:{فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2] أي: لا تكونوا بحيث تلهيكم الأموال والأولاد من التهالك في جمعها، وفي التلذذ بها، والانهماك فيها، والتعزز بهم، والتكاثر بعددهم.

ص: 440

{مِنْ} في {مِن مَّا رَزَقْنَاكُم} للتبعيض، والمراد: الإنفاق الواجب، {مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ} من قبل أن يرى دلائل الموت، ويعاين ما ييأس معه من الإمهال ويضيق به الخناق، ويتعذر عليه الإنفاق، ويفوت وقت القبول فيتحسر على المنع، ويعض أنامله على فقد ما كان متمكنا منه. وعن ابن عباس رضي الله عنه: تصدقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت، قلا تقبل توبة، ولا ينفع عمل. وعنه: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها. وعنه: أنها نزلت في مانعي الزكاة، ووالله لو رأى خيرًا لما سأل الرجعة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي تخصيص ذكر {الخَاسِرُونَ} إنما إلى أن ذلك الإيثار في معنى الاستبدال، الذي هو بمنزلة البيع والشراء، ثم في التعريف الجنسي في {الخَاسِرُونَ} وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين المبتدأ إشعار بأن الكاملين في الخسارة هؤلاء، وأن خسارهم فوق كل خسران، حيث باعوا العظيم الباقي، بالحقير الفاني، وإن ربحوا في تجارتهم الظاهرة، ودخل في هذا العموم وعيد كل من ذهل عن الجهاد في سبيل الله، وشغل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن طلب العلم، وعن النصيحة للمسلمين، بسبب مراعاة شأن الأموال والأولاد.

وأما بيان النظم، فإن المنافقين لما نهوا عن الإنفاق على من عند رسول الله، وأريد الحث على الإنفاق بقوله:{وأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَاتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ} رغمًا لأنوفهم، وتحريًا لما هو الأصوب والأصلح، وجعل قوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ} تمهيدًا وتوطئة للأمر بالإنفاق وعم العلة والحكم، والله أعلم.

قوله: (ويضيق به الخناق)، كناية عن اللزوم وعدم الإمهال. والأساس: ومن المجاز: أخذ منه بالمخنق: إذا لزه وضيق عليه.

ص: 441

فقيل له: أما تتقي الله! يسأل المؤمنون الكرة؟ قال: نعم، أنا أقرأ عليكم به قرانا. يعني: أنها نزلت في المؤمنون وهم المخاطبون بها، وكذا عن الحسن: ما من أحد لم يزك ولم يصم ولم يحج إلا سأل الرجعة. وعن عكرمة: أنها نزلت في أهل القبلة.

{لَوْلا أَخَّرْتَنِي} ، وقرئ:(أخرتن)، يريد: هلا أخرت موتي {إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} إلى زمان قليل؟ {فَأَصَّدَّقَ} وقرأ أبي: (فأتصدق) على الأصل، وقرئ:{وأَكُن} ، عطفا على محل {فَأَصَّدَّقَ} كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. ومن قرأ: (وأكون) على النصب، فعلى اللفظ. وقرأ عبيد بن عمير:(وأكون)، على (وأنا أكون) عدة منه بالصلاح، {ولَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ} نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي الحكمة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أما تتقي الله! يسأل المؤمنون الكرة؟ ) أي: أما تخاف الله! كيف تقول: إنها نزلت في مانعي الزكاة؟ والحال أن المؤمنين لا يسألون الرجعة غلى الدنيا، بل الكافرون هم السائلون، فقال ابن عباس: أنا ما أقول من تلقاء نفسي، وإنما أقرأ بما قلت قرآنًا، لأن قوله:{أَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم} عطف على {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ} ، والمخاطبون هم المؤمنون، لقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وفيه إشارة إلى أن من فسر القرآن وراعى النظم لا يخطئ.

قوله: (وقرئ: {وَأَكُن}، عطفًا على محل {فَأَصَّدَّقَ}) أبو عمرو: "وأكون" بالنصب والواو، والباقون: بغير واو وجزم النون. قال الزجاج: من قرأ {فَأَصَّدَّقَ وأَكُن} فـ"أصدق" جواب {لَوْلا أَخَّرْتَنِي} معناه: هلا أخرتني، وجزم {وأَكُن} على موضع {فَأَصَّدَّقَ} ، لأنه على معنى: إن أخرتني أصدق وأكن. قال صاحب "الكشف": جزم "أكن" بالحمل على موضع {فَأَصَّدَّقَ} لأن موضع الفاء مع الفعل جزم. ومن قال: "وأكون" حمله على لفظ {فَأَصَّدَّقَ} لأن الحمل على

ص: 442

والمعنى: إنكم إذا علمتم أن تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه، وأنه هاجم لا محالة، وأن الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها من منع واجب وغيره، لم تبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات والاستعداد للقاء الله. وقرئ:{تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة المنافقين برئ من النفاق".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اللفظ عندهم أحسن، إذا لم يظهر في الموضع إعراب، وما لا يظهر جرى مجرى المطرح المرفوض.

قوله: (وأن الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها؛ من منع واجب وغيره* روي عن المصنف أنه قال: ليس في الزجر عن التفريط في هذه الحقوق أعظم من ذلك، فلا أحد يؤخر ذلك إلا ويجوز أن يأتيه الموت عن قريب، فيلزمه التحرز الشديد من هذا التفريط في كل وقتن وقد أبطل الله تعالى قول المجبرة بقوله:{وَأَنفِقُوا} الآية، أي: غن كان لم يقدر من قبل حضور الموت على الإنفاق، فكيف يتمنى تأخير الأجل؟ ثم قال مؤيسًا له:{ولَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا} ، وأن عمره مكتوب لا تأخير فيه، فالجواب عل كل أحد أن لا يتكل على وقت، ويكون على حذر في جميع أحواله وأوقاته، وجوابه مر مرارًا.

قوله: ({تَعْمَلُونَ} بالتاء والياء) بالياء التحتانية: أبو بمر وحده.

تمت السورة

بحمد الله وعونه.

* * *

ص: 443

‌سورة التغابن

مختلف فيها، وهي ثمان عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإلَيْهِ المَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 1 - 4]

قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل، وذلك لأن الملك على الحقيقة له؛ لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه والقائم به، والمهيمن عليه؛ وكذلك الحمد، لأن أصول وفروعها منه. وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة التغابن

ثماني عشرة آيةً، مكية بخلاف

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

قوله: (واسترعاء)، الجوهري: راعيته الشيء، من مراعاة الحقوق، واسترعيته الشيء فرعاه، وفي المثل:"من استرعى الذئب فقد ظلم"، والراعي: الوالي.

ص: 444

وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله: (وحمده اعتداد) عطف على قوله: "ملك غيره" أتى بإيرادين على إثبات اختصاص الملك بالله، واختصاص الحمد به، ولما حذف "أما" التفصيلية من المعطوف، حذف الفاء اللازمة لها، وقد سبق تقريره في قوله تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ} [آل عمران: 7].

وأجاب: أن ملك غيره إن كان ظالمًا، فهو تسليط من الله تعالى على الخلق ابتلاءً، وإن كان عادلًا فاسترعاء منه امتنانًا.

وأما حمد بعض الناس لبعض فإنما كان معتدًا به لأنه جرت نعمة الله على يده، يعني لولا نعمة الله وخلقه إياها ما جرى ذلك الإعطاء على يد العبد، فإذن: في الحقيقة الله هو المحمود، لأن أصول النعم وفروعها منه، كما أن خازن الملك إذا أعطى الغير فهو إنما يحمد لأنه باشر الفعل، وفي الحقيقة الملك هو المحمود لأن النعمة منه، وذهب عنه أن فعل الإعطاء أيضًا في الحقيقة ليس من العبد، ثم نقول: هب أنه خلص من هذه الورطة بهذا العذر، فأنى له الخلاص من الحمد على الحمد على الأفعال الاختيارية؟ ! وقد قال في فاتحة الفاتحة:"الحمد والمدح أخوان، وهو الثناء والنداء على الجميل من نعمة وغيرها". ثم قال في الحجرات: "وكل ذي لب وراجع إلى بصيرة وذهن، لا يغيب عنه أن الرجل لا يمدح بفعل غيره، وحمل الآية على ظاهرها يؤدي إلى أن يثنى عليهم بفضل الله وقد نعى الله هذا على الذين أنزل فيهم {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188] " فإذا لم يجز أن يثنى عليهم بفعل الله، لم

ص: 445

يعني: فمنكم آت بالكفر وفاعل له، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له، كقوله تعالى: : {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26] والدليل عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي عالم بكفر كم وإيمانكم اللذين هما من عملكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يجز أن يثنى على الله بفعلهم، فلا يختص الحمد بالله. وهذا كما ترى كالشجى لا يسيغ، ولا يسوغ التكلم في الاختصاص إلا لمن يقول: الحمد لما كان هو الوصف بالجميل، والله خالق كل جمال وكمال، وخالق كل من له الجمال والكمال، وخالق كل ما يستحق الحمد من الأفعال، فله الحمد في الحقيقة، وإن أضيف في الظاهر إلى الغير، وحينئذ تتطابق القرينتان، لا إلى أنهما اسمان، فكما حاز قوله:"له الملك"، أنواع الملك، جمع"له الحمد" أجناس الحمد، ولله الحمد على التوقيف، وله المنة على التوفيق.

قوله: (فمنكم آت بالكفر وفاعل له، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له) نظرًا إلى اشتقاق اللفظين، لا إلى أنهما اسمان لهذين الفريقين، وجعلهما خارجين من معنى قوله:{خَلَقَكُمْ} ، يعني أن الله تعالى خلق ذواتهم، وهم الذين أحدثوا الإيمان والكفر، واستدل على مذهبه بقوله:{وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 26]، فإن كونهم فاسقين ليس الغرض في جعل الكتاب فيهم، كذلك كونهم كافرين ليس المراد في خلقهم، وبقوله:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فإنه تهديد ووعيد على أعمالهم.

فالحاصل: أنه جعل الفاء في {فَمِنكُمْ} وفي {فَمِنْهُمْ} للترتيب، والغرض على سبيل الاستعارة، كالكلام في قوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، يدل عليه قوله:"والمعنى هو الذي تفضل عليكم .. " إلى آخره، والذي يدل على أنه

ص: 446

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أخرج {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} من مفهوم قوله: {خَلَقَكُمْ} ، قوله بعد ذلك:"فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته".

والقاضي جعل ما بعد الفاء تفصيلًا لقوله {خَلَقَكُمْ} حيث قال: {هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ} ، ثم شرع في البيان وقال:{فَمِنكُمْ كَافِرٌ} ، أي: مقدر كفره، {وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} مقدر إيمانه.

وقلت: مثله في الإجمال والتفصيل: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ} [النور: 45] خلقهم وقدرهم على المشي، وما به يقدرون عليه، ثم أسند المشي إليهم، والتفصيل إنما يبين ما أجمل في المفصل في المعنى، فعلم أن كونهم كافرين ومؤمنين مراد في قوله:{خَلَقَكُمْ} وعليه السياق، فإن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله في ملكه وملكوته واستبداده فيهما، وفي شمول علمه المعلومات كلها، وفي إنشائه المكونات ذواتها وأعرضها، ولأن قوله:{خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} بيان لقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

ويعضد هذا التأويل الأحاديث الكثيرة منها؛ ما روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكًا بأربع كلمات؛ يكتب رزقه وعمله وأجله، وشقي أم سعيد، فو الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".

ص: 447

والمعنى: هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح، وتكونوا بأجمعكم عبادًا شاكرين، فما فعلتم مع تمكنكم، بل تشعبتم شعبًا، وتفرقتم أمما؛ {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} ، وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم، وقيل:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ} بالخلق، وهم الدهرية، {وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومنها ما رواه مسلم والترمذي وأبو داود، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا".

قال صاحب"التيسير" و" المطلع": دلت الآية على أنه لا منزلة بين المنزلتين.

وقال ابن عباس: ليس بين الجنة والنار منزل، وليس بين الطاعة والمعصية عمل، وليس بين الكفر والإيمان اسم.

وقال محيي السنة: إن الله خلق الكافر وكفره فعلًا له وكسبًا، وخلق المؤمن وإيمانه فعلًا له كسبًا، والكل بتقدير الله ومشيئته. فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان لأن الله تعالى أراد ذلك منه، وهذا طريق أهل السنة من سلكه أصاب الحق وسلم من الجبر والقدر.

قوله: (الدهرية) قال حجة الإسلام: الدهريون طائفة من الأقدمين حجدوا الصانع المدبر العالم القادر، وزعموا أن العالم لم يزل موجودًا لذلك بنفسه لا بصانع، ولم يزل الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، كذلك كان وكذلك يكون، فهؤلاء هم الزنادقة خذلهم الله وأبادهم.

ص: 448

فإن قلت: نعم، إن العباد هم الفاعلون للكفر، ولكن قد سبق في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر، ولم يختاروا غيره، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم؟ وهل خلق القبيح وخلق فاعل القبيح إلا واحد؟ وهل مثله إلا مثل من وهب سيفًا باترًا لمن شهر بقطع السبيل وقتل النفس المحرمة فقتل به مؤمنًا؟ أما يطبق العقلاء على ذم الواهب وتعنيفه، والدق في فروته كما يذمون القاتل؟ بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد؟

قلت: قد علمنا أن الله حكيم عالم بقبح القبيح، عالم بغناه عنه، فقد علمنا أن أفعاله كلها حسنة، وخلق فاعل القبيح فعله، فوجب أن يكون حسنًا، وأن يكون له وجه حسن؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (نعم، إن العباد هم الفاعلون) إيجاب لقوله: "فمنكم آت بالكفر وفاعل له، ومنكر آت بالإيمان وفاعل له" إلى آخره، وتقرير له بعد الدلائل، كأنه قيل: ظهر أن العباد هم الفاعلون.

قوله: (والدق في فروته)، الأساس: لأسلخن فروة رأسك، وضربه على أم فروته وهي هامته، فهي عبارة عن الوقوع فيه وتمزيق عرضه.

قوله: (قد علمنا أن الله حكيم عالم) إلى آخره، الانتصاف: اقتحم الزمخشري وعر المسالك، وهو فيها هالك، فتحدق وتشدق، وتفقه فتفيهق، هب أنه نسي أن الله خالق كل شيء، وغفل عن الأدلة العقلية، أليس قد اعترف أن خلق فاعل القبيح كخلق القبيح؟ ! زعمًا منه أن ما قبح شاهدًا، قبح غائبًا، كما علل بأنه يجوز أن يكون فيها حكمة استأثر الله بها، فما الذي يمنعه أن يقول: أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وفي ذلك حكمة استأثر الله بها؟ ! ولا فرق إلا التحكم واتباع الهوى.

ص: 449

وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها.

{بِالْحَقِّ} بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، وهو أن جعلها مقار المكلفين ليعملوا فيجازيهم، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} - وقرئ:(صوركم) بالكسر- لتشكروا، وإليه مصيركم فجزاؤكم على الشكر والتفريط فيه.

فإن قلت: كيف أحسن صوركم؟

قلت: جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور. ومن حسن صورته أنه خلق منتصبًا غير منكب، كما قال عز وجل:{فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].

فإن قلت: فكم من دميم مشوه والصورة سمج الخلقة تقتحمه العيون؟

قلت: لا سماحة ثم، ولكن الحس كغيره من المعاني على طبقات ومراتب، فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطًا بينًا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وخفاء وجه الحسن علينا، لا يقدح في حسنه) قال صاحب"الانتصاف" في البقرة: ما ذكرتموه إن صلح جوابًا كان جوابًا عما أعرضتم، فلم لم تسلم الأمر إلى الله في أول الأمر؟ !

قوله: (على الشكر) متعلق ب"جزاؤكم"، وهو مبتدأ خبره محذوف، والجملة معطوفة على جملة قوله:"وإليه مصيركم" يعني: جعلها مقار للمكلفين ليعلموا، وصوركم فأحسن لتشكروا، وإليه مصيركم فعنده جزاؤكم على الشكر والكفران، وقيل:"فجزاؤكم" عطف على "مصيركم"، فكأنه قيل: إليه مصيركم فإليه انتهى جزاؤكم.

قوله: (فلانحطاط بعض الصور) اللام فيه تعليل لقوله: "لا يستملح"، والاستثناء

ص: 450

وإضافتها إلى الموفي عليها لا تستملح، وإلا فهي داخلية في حيز الحسن، غير خارجة عن حده. ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستلحها ولا ترى الدنيا بها، ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن منها فينبو عن الأولى طرفك، وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها؟ وقالت الحكماء: شيئان لا غاية لها: الجمال، والبيان.

نبه بعلمه ما في السموات والأرض، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور، أن شيئا من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه، فحقه أن يتقى ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه. وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد، وكل ما ذكره بعد قوله تعالى:{فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في قوله: "وإلا فهي داخلة" في معنى الشرط، والفاء علة، أي: وإن لا يكن انحطاط بعض الصور ولا تكن هذه الإضافة، لما كان عدم الاستملاح، ولما اقتحمته العيون، لأن هذا البعض داخل في حيز الحسن، والمراد بالموفي عليها: هي التي أتم الله حسنها، يقال: وفى الشيء وفيًا على فعول: تم وكثر، والباء في قوله:"ولا ترى الدنيا بها" بدلية.

قوله: (وكل ما ذكره بعد قوله: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ})"كل" مبتدأ، والخبر "في معنى الوعيد"، "وكما ترى" متعلق بالخبر، أي: كل ما ذكره وارد في معنى الوعيد ورودًا كما ترى، هذا تمسك بدلالة النظم على مطلوبه، وقد ذكر أن الدليل على أن قوله:{فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} في معنى: "فمنكم آت بالكفر، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له" قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ثم شد عضده بقوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .

وقلت: أما تقريره النظم على أن "الفاء" في {فَمِنكُمْ كَافِرٌ} تفصيلية، وأن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله في ملكه وملكوته، فهو أنه تعالى لما أثبت لذاته الأقدس التنزيه، وأن كل شيء ينزهه ويقدسه عما لا يليق بجلاله، ثم خص لها صفة المالكية على الإطلاق، وخص

ص: 451

كما ترى في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالق، ولا تشكر نعمته فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته، والخلق أعم نعمة من الله على عباده، والكفر أعظم كفران من العباد لربهم.

[{أَلَمْ يَاتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّاتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} 5 - 6]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أن لها كل كمال وجمال، ومنه كل نعمة وإفضال، وهو خالق كل مهتد وضال، ونظم دليل الآفاق مع دليل الأنفس، وبين أن إليه المصير والمآل، ختمها بإثبات العلم الشامل للكليات والجزئيات وكرره تكريرًا وأكده توكيدًا، وكان ذكر العلم في قوله:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} استطرادًا لذكر الخلق وتفصيله، ولإثبات القضاء والقدر، ولما فرغ من ذكر بيان العظمة جاء بالتهديد والوعيد، وقال:{أَلَمْ يَاتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، والله أعلم.

قوله: (فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق) أي: يقول: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} دخلان تحت قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} ومن جملته كما سبق، ونقول: هذا قول من يجهل القدر، ولا يؤمن بالنصوص القاطعة والبراهين الساطعة، والفرق بين الخلق والكسب، ولو لم يكن لمزج الكفر بالخلق مدخل واعتبار، وكان تهديدًا صرفًا كما ذكر، لم يكن لذكر {وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} فائدة في المتن، لأنه- على ما قال- وعيد على تعكيس أمرهم، حيث وضعوا الكفران موضع الشكر، نحو قوله تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] وهو المعني بقوله: وكل ما ذكره في الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالق، ولا يشكر نعمته، وليس كذلك؛ لأن قوله {وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} يأباه.

ص: 452

{أَلَمْ يَاتِكُمْ} الخطاب لكفار مكة. {ذَلِكَ} إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعد لهم من العذاب في الآخرة. {بِأَنَّهُ} بأن الشأن والحديث {كَانَت تَّاتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أنكروا أن تكون الرسل بشرا، ولم ينكروا أن يكون الله حجرا! ! {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} أطلق ليتناول كل سيء، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم.

فإن قلت: قوله: {وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} : يوهم وجود التولي والاستغناء معا، والله تعالى لم يزل غنيا.

قلت: معناه: وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.

[{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 7 - 8]

الزعم: ادعاء العلم، ومنه قوله عليه السلام:"زعموا مطية الكذب"، وعن شريح لكل شيء كنية الكذب:" زعموا"، ويتعدى إلى المفعولين تعدي العلم. قال:

.. ولم أزعمك عن ذاك معزلا

و{أَن} مع ما في حيزه قائم مقامهما. و {الَّذِينَ كَفَرُوا} أهل مكة. و {بَلَى} لما بعد {لَن} ، وهو البعث،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (زعموا مطية الكذب)، النهاية: معناه: أن الرجل إذا أراد شيئًا من المسير إلى بلد، والظعن في حاجة ركب مطيةً وسار حتى يقضي أربه، فشبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه ويتوصل إلى غرضه من قوله:"زعموا كذا وكذا"، بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة، وإنما يقال: زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه، وإنما يحكى على الألسن على سبيل الإبلاغ.

ص: 453

{وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: لا يصرفه عنه صارف، وعنى برسوله والنور: محمدًا صلى الله عليه وسلم والقرآن.

[{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ المَصِيرُ} 9 - 10]

وقرئ: {يَجْمَعُكُمْ} و {يُكَفِّرْ} و {يُدْخِلْهُ} ، بالياء والنون.

فإن قلت: بم انتصب الظرف؟ قلت: بقوله: {لَتُنَبَّؤُنَّ} أو بـ {خَبِيرٌ} ، لما فيه من معنى الوعيد، كأنه قيل: والله معاقبكم يوم يجمعكم أو بإضمار (اذكر){لِيَوْمِ الجَمْعِ} ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون. والتغابن: مستعار من: تغابن القوم في التجارة؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقريء: {يَجْمَعُكُمْ}) المشهورة: بالياء، وبالنون: شاذة، و"نكفر" و"ندخله" بالنون: نافع وابن عامر، والباقون: بالياء.

قوله: (التغابن: مستعار من: تغابن القوم في التجارة)، الراغب، الغبن: أن تبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء، فإن كان ذلك في مال يقال: غبن فلان؛ بضم الغين، وإن كان في رأي يقال: غبن؛ بكسر الباء.

ويوم التغابن: يوم القيامة، لظهور الغبن في المبايعة المشار إليها بقوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207]، وبقوله:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] وبقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 77] فعلم أنهم قد غبنوا فيما تركوا من المبايعة، وفيما تعاطوه من ذلك جميعًا.

ص: 454

وهو أن يغبن بعضهم بعضا لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء، وفيه تهكم بالأشقياء؛ لأن نزولهم ليس بغبن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفيه تهكم بالأشقياء) يعني: صح أن يقال باعتبار السعداء: {يَوْمُ التَّغَابُنِ} ؛ لأنهم يغبنون الأشقياء بنزولهم في منازلهم من الجنة لو كانوا سعداء، ولكن لا يستقيم باعتبار الأشقياء؛ ذلك لأنهم لا يغبنون السعداء بنزولهم ي منازلهم من النار، إلا بالاستعارة التهكمية، وهو المراد من قوله:"لأن نزولهم لي بغبن".

وجعل الواحدي التغابن من طرف واحد للمبالغة حيث قال: {يَوْمُ التَّغَابُنِ} : يغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، وأهل الإيمان أهل الكفر، ولا غبن أبين من هذا، هؤلاء يدخلون الجنة وهؤلاء يدخلون النار.

في أهله ومنازله في الجنة، فيظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان. وعليه قول الراغب:{يَوْمُ التَّغَابُنِ} : يوم القيامة، لظهور الغبن في المبايعة

إلى آخره، كما مر آنفًا.

فالمبايعة من الشخص ونفسه، وكذا المغابنة على سبيل التجريد كما في قوله تعالى:"وما يخادعون إلا أنفسهم" في وجه، ومنه قوله تعالى:{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، وما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يا كعب بن عجرة، الناس غاديان، فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها".

ص: 455

وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرًا، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة".

ومعنى {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} _ وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم-: استعظام له وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت.

{صَالِحًا} : صفة للمصدر، أي: عملًا صالحًا.

[{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 11]

{إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ} : إلا بتقديره ومشيئته، كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه. {يَهْدِ قَلْبَهُ} يلطف به ويشرحه الازدياد من الطاعة والخير. وقيل: هو الاسترجاع عند المصيبة.

وعن الضحاك: {يَهْدِ قَلْبَهُ} حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث بتمامه رواه البخاري عن أبي هريرة في"صحيحه"، وأورده الصغاني في"مشارق الأنوار".

قوله: (ومعنى {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}) مبتدأ، والخبر "استعظام له"، وما توسط بينهما اعتراض، وقوله:"وأن تغابنه هو التغابن" إلى آخره، عطف على الخبر على سبيل التفسير، يعني: في إيقاع {يَوْمُ التَّغَابُنِ} خبرًا لاسم الإشارة، والتعريف فيه للجنس، والمشار إليه قريب، استعظام لذلك اليوم كما في قوله تعالى:{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 1 - 2].

قوله: (كأنه أذن للمصيبة أذن تصيبه) وهي استعارة مكنية؛ لأن الإذن إنما يستعمل في تسهيل الحجاب كما مر مرارًا.

ص: 456

وعن مجاهد: إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن ظلم غفر.

وقرئ: (يهد قلبه)، على البناء للمفعول، والقلب مرفوع أو منصوب، ووجه النصب أن يكون مثل:{سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، أي: يهد في قلبه، ويجوز أن يكون المعنى: أن الكافر ضال عن قلبه بعيد منه، والمؤمن واجد له مهتد إليه، كقوله تعالى:{لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، وقرئ:(نهد قلبه)، بالنون، و (يهد قلبه)، بمعنى: يهتد و (يهدأ قبله): يطمئن، و (يهد) و (يهدا) على التخفيف. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يعلم ما يؤثر اللطف من القلوب مما لا يؤثر فيه فيمنحه ويمنعه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن يكون مثل {سَفِهَ نَفْسَهُ}) قال: معناه: سفه في نفسه، فحذف الجار كقولهم: زيد ظني مقيم، أي: في ظني، وقيل: انتصاب النفس على التمييز، نحو: غبن رأيه، ويجوز تعريف المميز في الشذوذ.

قال ابن جني: قرأ عكرمة: "يهدأ قلبه" بالهمز، أي: يطمئن قلبه، كقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106].

قوله: (و"يهدا" على التخفيف) قال الزجاج: وقرئت: "يهد قلبه"، على تأويل: هدأ قلبه يهدأ، على طرح الهمزة، ويكون في الرفع"يهدا"؛ غير مهموز، وفي الجزم:"يهد" بطرح الألف، يعني: إذا سلم لأمر الله سكن قلبه.

قوله: (فيمنحه ويمنعه) نشر لما سبق، هذا يؤذن أن في الكلام إضمارًا تقديره: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، أي: بتقديره، فمن لم يؤمن بالله يخذله، ويجعل صدره ضيقًا حرجًا، ومن يؤمن يلطف به ويشرح صدره. ويؤيده قوله في الوجه الثاني المشار إليه بقوله: ويجوز أن يكون"يهد" مسندًا إلى العبد، لا إلى الله تعالى.

ص: 457

[{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإن تَوَلَّيْتُمْ فَإنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ * اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} 12 - 13].

{فَإن تَوَلَّيْتُمْ} فلا عليه إذا توليتم؛ لأنه لم يكتب عليه طاعتكم؛ إنما كتب عليه أن يبلغ ويبين فحسب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المعنى: أن الكافر ضال عن قلبه، بعيد عن، والمؤمن واجد له مهتد إليه، فيكون قوله:{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تابعًا لقوله: {وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} على طرح قرينتيها، وأما على تقدير أهل السنة: وأن علم الله موافق لقضائه وقدره، فهو تذييل لقوله:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ} ولما كان معنى {بِإذْنِ اللَّهِ} : بتقديره ومشيئته، كان {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تقديرًا له وتوكيدًا، ينصره ما رواه الواحدي عن ابن عباس:{بِإذْنِ اللَّهِ} : بعلم وقضائه، وعن مقاتل:{يَهْدِ قَلْبَهُ} عند المصيبة فيعلم أنها من الله فيسلم لقضائه ويسترجع.

وعن محيي السنة: {يَهْدِ قَلْبَهُ} : يوفقه لليقين حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيسلم لقضائه.

وقلت: وينصر هذا التأويل ما رويناه عن أبي داود والترمذي عن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه عند الموت: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان، حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"، يا بني إنيً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من مات على غير هذا فليس مني".

وعليه كلام الضحاك، فحينئذ يحترز أن يقال ما قاله في سورة يونس عند قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96]: "تلك كتابة معلوم، لا كتابة مقدر".

ص: 458

{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} بعث لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على التوكل عليه والتقوي به في أمره، حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه.

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} 14 - 15]

إن من الأزواج أزواجًا يعادين بعولتهن ويخاصمنهم ويجلبن عليهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن قلت: هذا لا يلزمه لأنه ذكر في كتاب"المنهاج في الأصول": أن الحسنة التي هي الخصب والصحة، من الله، وأما الطاعات فمن العبد، ولكن الله تعالى قد لطف به في أدائها، وبعثه عليها، والسيئة هي القحط والمرض من الله تعالى، وهو صواب وحكمة، وأما المعصية فمن العبد، والله تعالى بريء منها.

وما نحن بصدده من القبيل الأول من القسم الثاني وهو القحط والمرض، لا الكفر والمعصية، ولذلك فسر الآية {بِإذْنِ اللَّهِ} بقوله:"إلا بتقديره ومشيئته".

وقلت: الذي يقتضيه النظم واستشهاد عبادة بالحديث أن تكون المصيبة عامة في جميع المصائب، أما في الحديث فبدلالة قوله:"اكتب مقادير كل شيء"، وأما في الآية فلورودها عقيب بيان جزاء المؤمن وجزاء الكافر، ، وإردافها بقوله:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وأي مصيبة أعظم من ارتكاب المعاصي والكفر؟ ! فيكون قوله: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ} إشارةً إلى الخلق، وقوله:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إيماءً إلى الكسب، وقوله:{اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} كالخاتمة والفذلكة للكل، وكالمخلص إلى مشرع آخر، والله أعلم.

قوله: (ويجلبن عليهم) من الجلبة: الصيحة، ويروى:"ويجلبن". الجوهري: جلب على

ص: 459

ومن الأولاد أولادًا يعادون آباءهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى.

{فَاحْذَرُوهُمْ} الضمير للعدو أو للأزواج والأولاد جميعًا، أي: لما علمتم أهؤلاء لا يخلون من عدو، فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم. {وَإن تَعْفُوا} عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها، فإن الله يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم. وقيل: إن ناسًا أرادوا الهجرة عن مكة، فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا: تنطلقون وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وألادهم فزين لهم العفو.

وقيل قالوا لهم: أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأماالكم؟ فغضبوا عليهم وقالوا: لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير، فلما هاجروا منعوهم الخير فحثوا أن يعفوا عنهم ويردوا إليهم البر والصلة.

وقيل: كان عوف بن مالك الأشجعي ذا أهل وولد، فإذا أراد أن يغزو تعلقوا به وبكوا إليه ورققوه، فكأنه هم بأذاهم، فنزلت.

{فِتْنَةٌ} بلاء ومحنة؛ لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ولا بلاء أعظم منهما؛ ألا ترى إلى قوله: {وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ؟ وفي الحديث: " يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته"، وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فرسه يجلب بالضم جلبًا، إذا صاح به من خلفه واستحثه للسبق. وأجلب عليه مثله.

قوله: (وقيل: إن ناسًا أرادوا الهجرة) الحديث رواه الترمذي عن ابن عباس مع اختلاف، وهو عطف على قوله:"إن من الأزواج أزواجًا"، فعلى الأول الآية عامة، وكذلك قوله:"وقيل: إذا أمكنكم الجهاد والهجرة"، وعطف على قوله:" {فِتْنَةٌ} وبلاء ومحنة، لأنهم يوقعون في الإثم".

ص: 460

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجره على المنبر فقال:" صدق الله، {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}، رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما" ثم أخذ في خطبته.

وقيل: إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما.

[{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} 16]

{مَا اسْتَطَعْتُمْ} جهدكم ووسعكم، أي: ابذلوا فيها استطاعتكم {وَاسْمَعُوا} ما توعظون به {وَأَطِيعُوا} فيما تؤمرون به وتهون عنه، {وَأَنفِقُوا} في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها، {خَيْرًا لأَنفُسِكُمْ} نصب بمحذوف تقديره: ائتوا خيرًا لأنفسكم، وافعلوا ما هو خير لها وأنفع؛ وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر، وبيان لأن هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أنه كان يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما الحديث رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه والنسائي عن أبي بريدة مع اختلاف يسير.

قوله: (ابذلوا فيها) أي: في التقوى.

قوله: (وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر) يعني قوله: "خيرًا لكم"، إذ التقدير: ائتوا خيرًا لأنفسكم، والمعنى: وافعلوا ما هو خير لها، فيكون كالخاتمة لسائر الأوامر السابقة، وكالبيان للترجيح على ما اعتقدوا فيه الخير من الأموال والأولاد.

ص: 461

[{إن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 17]

{قَرْضًا حَسَنًا} وذكر القرض: تلطف في الاستدعاء. {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} يكتب لكم بالواحدة عشرًا، أو سبع مئة إلى ما شاء من الزيادة. وقرئ:(يضعفه).

{شَكُورٌ} مجاز، أي: يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب، وكذلك {حَلِيمٌ} يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسيء، فلا يعاجلكم بالعقاب مع كثرة ذنوبكم.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال القاضي: يجوز أن يكون {خَيْرًا} صفة مصر محذوف، أو خبرًا لكان مقدرًا جوابًا للأوامر.

تمت السورة

بحمد الله وعونه.

* * *

ص: 462

‌سورة الطلاق

مدنية، وهي إحدى عشرة أو اثنتا عشرة أو ثلاث عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأَحْصُوا العِدَّةَ واتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أَن يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا * فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} 1 - 3]

خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء، وعم بالخطاب؛ لأن النبي إمام أمته وقدوتهم، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الطلاق

مدنية، وهي إحدى عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (وعم بالخطاب)، "عم": مسند إلى الجار والمجرور.

ص: 463

إظهاراً لتقدمه واعتبارًا لترؤسه، وأنه مدره قومه ولسانهم، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه، فكان هو وحده في حكم كلهم، وسادا مسد جميعهم.

ومعنى {إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إذا أردتم تطليقهن وهممتم به، على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه: كقوله عليه السلام: " من قتل قتيلا فله سلبه" ومنه كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي. {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} فطلقوهن مستقبلات لعدتهن، كقولك: أتيته لليلة بقيت من المحرم، أي: مستقبلا لها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إظهارًا لتقدمه واعتبارًا لترؤسه)، ومن ثم أوثر لفظ النبي على الرسول، كما روينا في"صحيح البخاري" غير مرة أن البراء قال في الدعاء: ورسولك الذي أرسلت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا، ونبيك الذي أرسلت".

النهاية: قيل: إن"النبي" مشتق من النباوة: وهو الشيء المرتفع.

الراغب: النبوة: سفارة بين الله عز وجل، وبين ذوي العقول من عباده لإزاحة عللهم في أمر معادهم ومعاشهم.

قوله: (مدره قومه)، الجوهري: المدره: زعيم القوم والمتكلم عنهم.

قوله: (ومنه كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي)، هذا إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون، وائتوها تمشون وعليكم السكينة، فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة".

قوله: (فطلقوهن مستقبلات لعدتهن)، قال القاضي:{لِعِدَّتِهِنَّ} أي: وقتها، وهو الطهر، فإن اللام في الأزمان وما يشبهها للتأقيت، ومن عد العدة بالحيض علق اللام بمحذوف، مثل مستقبلات، وظاهره يدل على أن العدة بالأطهار، وأن طلاق المعتدة بالأقراء

ص: 464

وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في قبل عدتهن)، وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها، والمراد: أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ينبغي أن يكون في الطهر وأنه يحرم في الحيض من حيث أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده، ولا يدل على عدم وقوعه، إذ النهي لا يستلزم الفساد، كيف وقد صح أن ابن عمر لما طلق امرأته حائضًا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجعة، وهو سبب نزوله.

قوله: (وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في قبل عدتهن")، يعني: هذه القراءة ترجع تقدير"مستقبلات"، وروى هذه القراءة الأئمة كلهم.

وقال ابن جني: هذه القراءة تصديق لمعنى قراءة الجماعة، أي: فطلقوهن عند عدتهن، ومثله قوله تعالى:{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] أي: عند وقتها.

وقال صاحب" الانتصاف": وجه الدليل من القراءتين على أن الأقراء الأطهار، خلاف ما ظنه، أن الله تعالى جعل العدة، وإن كانت في الأصل مصدرًا، ظرفًا للطلاق المأمور به كاستعمال المصادر ظرفًا، كخفوق النجم، ومقدم الحاج، وزمان الطلاق، هو الطهر وفاقًا. فالتطهر: عدة، وتصير اللام على التحقيق مثلها في {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] أي: لو علمت عملًا في حياتي، وعلى القراءة الأخرى من قبل عدتهن تحقق ذلك، فإن قبل الشيء جزء منه، فلقد أطلق القول من غير تحرير.

قوله: (في الطهر المتقدم للقرء الأول)، أي: للحيض الأول بأن يطلقها في طهر يشارف الحيض.

ص: 465

ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن، وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة، وأبعده من الندم، ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدةً، ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثًا في أطهار، وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدةً، وكان يكره الثلاث مجموعةً كانت أو متفرقة، وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحد في طهر واحد، فأما مفرقًا في الأطهار فلا؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض:"ما هكذا أمرك الله، إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالًا، وتطلقها لكل قرء تطليقةً". وروي أنه قال لعمر: "مر ابنك فليراجعها، ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر، ثم ليطلقها إن شاء؛ فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".

وعند الشافعي رضي الله عنه: لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنةً ولا بدعةً وهو مباح، فما لك تراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت؛ وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت؛ والشافعي يراعي الوقت وحده.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته) الحديث، رواه البخاري ومسلم ومالك والترمذي وأبو داود عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:"ليراجعها ويمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمر الله"، وفي رواية نحوه وفيه:"الطلاق للعدة كما أمر الله تعالى" قال: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن".

قول: (وعند الشافعي: لا بأس بإرسال الثلاث)، قال صاحب "التقريب": يقع عند

ص: 466

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشافعي الثلاث طلاق البدعة مع الإثم، وعند ابن المسيب وجماعة من التابعين: لا يقع ما أوقعه في حيض أو ثلاثًا.

وقال محيي السنة في"المعالم": ولا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث عند بعض أهل العلم، حتى لو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثًا لا يكون بدعيًا، وهو قول الشافعي وأحمد، وذهب بعضهم إلى أنه بدعة، وهو قول مالك وأصحاب الرأي.

وقال: الطلاق السني: أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه، فلو طلق غير المدخول بها في حال الحيض، أو طلق الصغيرة التي لم تحض، أو الآيسة بعد ما جامعها، أو طلق الحامل بعد ما جامعها، أو في حال رؤية الدم، لا يكون بدعيًا ولا سنيًا، ولو طلق في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصدًا، يعصي الله، لكن يقع الطلاق.

وقال الزجاج: عند مالك: إن أراد الزوج أن يطلق امرأته ثلاثًا أن يطلقها طاهرًا من غير جماع تطليقةً واحدةً ثم يتركها إن أراد المقام على فرقتها ثلاث حيض، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فلا يملك رجعتها، ولكن إن شاء أن يجدد نكاحها كان ذلك لهما، لأن معنى قوله تعالى:{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} أي: بعد الطلاق الواحد، فإذا طلقها ثلاثًا في وقت واحد فلا يبقى لقوله تعالى:{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} معنى.

وقد جاء التشديد فيمن تعدى طلاق السنة فقال: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} وقال: {ومَن

ص: 467

فإن قلت: هل يقع الطلاق المخالف للسنة؟

قلت: نعم، وهو آثم؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلًا طلق امرأته ثلاثًا بين يديه، فقال:"أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ " وفي حديث ابن عمر أنه قال: يا رسول الله، أرأيت لو طلقتها ثلاثًا، فقال له:"إذن عصيت وبانت منك امرأتك".

وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثًا إلا أوجعه ضربًا، وأجاز ذلك عليه. وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين: أن من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أوثلاث لم يقع، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف.

فإن قلت: كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل وغير المدخول بها؟

قلت: الصغيرة والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر، وخالفهما محمد وزفر في الحامل، فقالا: لا تطلق للسنة إلا واحدة، وأما غير المدخول بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة، ولا يراعى الوقت.

فإن قلت: هل يكره أن تطلق المدخول بها واحدة بائنة؟

قلت: اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا، والظاهر الكراهة.

فإن قلت: قوله: {إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} يعني حدود طلاق السنة.

قوله: (ولا يراعى الوقت) إذ لا حيض لها، فلا يتصور رعاية الوقت.

قوله: (والظاهر الكراهة) قيل: هذا لا يتصور على مذهب الشافعي إلا بالخلع مع الأجنبي، لأنه إذا طلق المدخول بها طلقةً واحدةً لا تبين إن كان مجانًا، وإن خالعها لا يكون مكروهًا، وأما إن خالع مع الأجنبي والمرأة حائض، فلا يكون الطلاق بدعيًا.

ص: 468

والآيسات والصغائر والحوامل، فكيف صح تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن؟

قلت: لا عموم ثم ولا خصوص؛ ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن، فجاز أن يراد بالنساء هذا وذاك، فلما قيل:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} علم أنه أطلق على بعضهن وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض. {وأَحْصُوا العِدَّةَ} واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن، {لا تُخْرِجُوهُنَّ} حتى تنقضي عدتهن، {مِنْ بُيُوتِهِنَّ} من مساكنهن التي يسكنها قبل العدة، وهي بيوت الأزواج؛ وأضيفت إليهن لا ختصاصها بهن من حيث السكنى.

فإن قلت: ما معنى الجمع بين إخراجهم أو خروجهن؟ قلت: معنى الإخراج أن لا يخرجهن البعولة غضبا عليهن، وكراهة لمساكنتهن، أو لحاجة لهم إلى المساكن،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا عموم ثم ولا خصوص)، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، وقيل: قوله: "لا عموم" مشكل، لأن اسم الجنس المعرف باللام من صيغ العموم، فالأولى أن يقال هو عام، ولما قيل:{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} علم أن المراد به الخصوص، وقلت: السؤال والجواب مبني على أصول الحنفية وتوجيه السؤال: أن النساء جمع محل باللام، فيقيد استغراق جميع ما يصلح له.

وخلاصة الجواب: أن هذا ليس من العام الذي خص بقوله: {لِعِدَّتِهِنَّ} لأن المخصص عندهم دليل مستقل بنفسه كما سبق في البقرة، وها هنا {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} من تتمة الكلام لأنه جزاء للشرط، فلا يصلح للتخصيص فتعين أن يكون قيدًا للمطلق، والنساء على هذا دال على شائع في جنسه مقيد بقيد {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر بطهر لم يجامعها فيه، فيجب الحمل عليه، وإليه أشار بقوله:"علم أنه أطلق على بعضهن، وهن المدخولات بهن من المعتدات بالحيض".

ص: 469

وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك، إيذانًا بأن غذنهم لا أثر له في رفع الحظر، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك، {إلاَّ أَن يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} قرئ بفتح الياء كسرها، قيل: هي الزنى، يعني إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن، وقيل: إلا أن يطلقن على النشوز، والنشوز يسقط حقهن في السكنى، وقيل: إلا أن يبذون فيحل إخراجهن لبذائهن؛ وتؤكده قراءة أبي: (إلا أن يفحشن عليكم)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأن لا يأذنوا لهن في الخروج)، عطف على "أن لا يخرجهن البعولة غضبًا عليهن"، وكلاهما تفسير لقوله:{لا تُخْرِجُوهُنَّ} لكونه مطلقًا يحتمل الحالتين، والحاصل: أن الجمع بين الإخراج والخروج استيعاب أقسام العناية بعدم الخروج، وفي"المطلع": وإنما جمع النهي بين الإخراج والخروج إيذانًا بأن لا أثر لإذن الأزواج في إباحة خروجهن، لأنه حق الشرع فلا يسقط بإسقاط العبد.

قوله: (لا يخرجن)، من اللف التقديري، أي: معنى الإخراج والخروج أن لا يخرجهن البعولة، وأن لا يخرجن بأنفسهن

قوله: ({مُبَيِّنَةٍ} قرئ بفتح الياء وكسرها) بالفتح: ابن كثير وأبو بكر؛ والباقون: بالكسر.

قوله: (إلا أن يفحشن عليكم)، قيل: الاستثناء عند الجمهور من الجملة الأولى، وقيل: هو منقطع، أي: إلا أن يحشن فيخرجن، أي: من خرجت أتت بفاحشة، فعلى هذا يحتمل أن يكون الاستثناء من الجملة الثانية، ويحتمل أن يكون متصلًا، روي عن المصنف أنه قال: أي: لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة، وقد علمنا أنه لا يطلق لهم فيه، فيكون ذلك منعًا على أبلغ وجه من الخروج.

ص: 470

وقيل: خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه.

الأمر الذي يحدثه الله: أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها، والمعنى: فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة لعلكم ترغبون وتندمون فتراجعون، {فَإذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} وهو آخر العدة وشارفنه، فأنتم بالخيار: إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان؛ وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار، وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلًا للعدة عليها وتعذيبًا لها {وَأَشْهِدُوا} يعني عند الرجعة والفرقة جميعًا، وهكذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]، وعند الشافعي: هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة.

وقيل: فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد، وأن لا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث. {مِنكُمْ} قال الحسن: من المسلمين. وعن قتادة: من أحراركم {لِلَّهِ} لوجهه خالصًا، وذلك أن تقيمموها لا للمشهود عليه، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم، كقوله تعالى:{كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] أي: {ذَلِكُمْ} الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط {يُوعِظُ بِهِ} .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: : (وقيل: خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة)، أي: لا تخرجوهن إلا أن يخرجن قبل انقضاء العدة فإنه محل إخراجهن لأنه فاحشة في نفسه.

قوله: (وشار فنه)، عطف على قوله:{بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ، على وجه البيان، أي: البلوغ يراد به المشارفة، إذ لا يمكن الرجعة بعد بلوغ الأجل، أي: انقضاء العدة.

قوله: (إن شئتم فالرجعة)، أي: إن شئتم الرجعة والإمساك، وإن شئتم ترك الرجعة فلكم ذلك.

ص: 471

{ومَن يَتَّقِ اللَّهَ} يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة، وطريقة الأحسن والأبعد من الندم، ويكون المعنى: ومن يتق الله، فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها، واحتاط فأشهد، {يَجْعَل} الله {لَّهُ مَخْرَجًا} مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق، ويفرج عنه وينفس ويعطه الخلاص {ويَرْزُقْهُ} من وجه لا يخطره بباله ولا يحتسبه، إن أوفى المهر وأدى الحقوق والنفقات وقل ماله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عمن طلق ثلاثًا أو ألفًا، هل له من مخرج؟ فتلاها، وعن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال:" لم تتق الله فلم يجعل لك مخرجًا، بانت منك بثلاث، والزيادة إثم في عنقك".

ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} يعني: ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ومخلصًا من غموم الدنيا والآخرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والزيادة إثم في عنقك)، لأن التعرض للزائد انحراف عما عينه الله تعالى، وعدم مبالاة بما يجري على لسانه، نعوذ بالله من سخطه، ومن سقط القول، وعدم الوقوف على ما حده الله تعالى

قوله: (ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ})، يعني: لما أمر المؤمنين بأمور تتعلق بالنساء من المجاملة معهن في الفراق والطلاق والإمساك، وأتى باسم الإشارة فذلكةً، وأن المذكور تذكير من الله وموعظة للمتقين من المؤمنين، أتى بكلام جامع منوط به أمور الدين ظاهره وباطنه، وفائدة الإشارة إلى أن أمور النساء من عظائم الشؤون في الدين، لاسيما المفارقة بعد العلقة التامة، فيجب على المتقي أن يكون على حذر من جانبهن، وأن لا يقصر في المجاملة معهن، ولما قلنا: إنه من الكلام الجامع.

قال صلوات الله وسلامه عليه: "إني لأعلم آيةً لو أخذ بها الناس لكفتهم"

الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي ذر، ورواه ابن ماجه والدارمي عنه، وليس فيه:

ص: 472

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"فما زال يقرؤها ويعيدها" ولما ذكرنا أن أمور النساء من جلائل الخطب وعظائم الشؤون كرر الأمر بالتقوى في هذه السورة الكريمة في عدة مواضع وختمها بوعيد شديد، وتهديد عظيم، حيث قال:{وكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ} ثم قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} مقررًا لذلك المعنى، وعقبه بقوله:{قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولاً} إلى آخره، امتنانًا لمزيد التوصية.

ذكر الراغب في"غرة التنزيل": إنما اقترن بالطلاق والعدة هذا الوعظ، لأن الطلاق رفض حال متمهدة، وقطع آمال متأكدة، والعدة باستيفائها يخلص النسب ويصح للزوج الثاني الولد، ولو لم يكن هذا الح الذي حده الله تعالى لكان الفساد يتصل إلى انقضاء الدنيا، فهو أحق الأشياء بالمراعاة، وتأكيد المقال فيه والوصاية. وذكر بعد الطلاق:{ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} أي: من تمسك بتقوى الله فيما يحل ويعقد ويصدر ويورد، فإن الله يلقيه في شدته فرجًا، ويجعل له ممًا يكرهه مخرجًا، ويتيح له محبوبه من حيث لا يقدر، ويوجه له رزقه من حيث لا يحتسب، وفي ضمنه أنه إذا طلق لكراهة أحد القرينين لصاحبه، وقارن ذلك تقوى الله، فإن الله سبحانه يسبب له القرنية الصالحة، ولها القرين الصالح، ويرزق أحدهما على يد الآخر من حيث لا يبلغه تقديره ولا يدركه حسبانه، وهذا وعد منه مخافته، فيخرجهم من الغم إلى السرور، ومن الفزع إلى الأمن، ويعدلهم من كرامته ونعمته ما يكتفون به، ولا يحتاجون معه إلى غيره. ويكون قوله {ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} مرادًا به أنه يكل أمره إلى الله فيتبعه راضيًا بما يصرفه فيه، كالدابة التي تسير بسير غيرها منقادةً لحكمه وسيره، فإذا كان المتوكل على الله بهذه الصفة فالله حسبه حافظًا له ممن يحاول ظلمه، ومنتقمًا منه إن رأى ذلك أنفع له، وهو مراده في الوقت الذي قدره، وإذا كان قد جعل لكل شيء حينًا يقع عنده، لا يتعجل قلبه، ولا يتباطأ بعده.

ص: 473

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال: "مخرجا من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة"، وقال عليه السلام:" إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم: {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ} " فما زال يقرؤها ويعيدها، وروي: أن عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنًا له يسمى سالمًا، فأتى رسول الله فقال: أسر ابني وشكا إليه الفاقة؛ فقال: "ما أمسى عند آل محمد إلا مد فاتق الله واثبر، وأكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله"، ففعل، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مئة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها، فنزلت هذه الآية. (بالغ أمره) أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب. وقرئ:{بَالِغُ أَمْرِهِ} بالإضافة و (بالغ أمره) بالرفع، أي: نافذ أمره، وقرأ المفضل:(بالغًا أمره) على أن قوله: {قَد جَعَلَ اللهُ} خبر {إِنَّ} ، و (بالغًا) حال.

{قَدْرًا} تقديرًا وتوقيتا، وهذا بيان لوجوب التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه؛ لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما قوله بعد ذكر عدة الحامل: {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} ، فمعناه أن من لزم التقى سهل الله عليه الصعب من أمره، كما يجعل أمر الولادة سهلًا إذا قامت الأم عن ولدها سرحًا، ثم عقب حال الدنيا بذكر ما يفعله في الآخرة من تكفير سيئاته وإعظام أجره، فكل شرط من"من يتق الله" قرن إليه من الجزاء ما لاق به، والأخير لما كان مقدمًا على أحوال احتاجت إلى غاية الترغيب، وإلى المبالغة فيه، وعد عليه أفضل الجزاء، وهو ما يكون في الآخرة من النعماء، فتدبره تجد ما ذكرت لك.

قوله: (تغفل عنها العدو)، أي: استغفل ابنه عدوه، تغفلت الرجل عن كذا: أخذته على غفلة.

قوله: (وقرئ: {بَالِغُ أَمْرِهِ})، بالإضافة، الجر لحفص، والنصب للباقين. والرفع شاذ.

ص: 474

لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل.

[{واللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إلَيْكُمْ ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ ويُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} 4 - 5]

روي أن ناسًا قالوا: قد عرفنا عدة ذوات الأقراء، فما عدة اللائي لا يحضن؛ فنزلت. بمعنى {إنِ ارْتَبْتُمْ}: إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن، وقيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس- وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين- أهودم حيض أو استحاضة؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الزجاج: معنى الإضافة: أن الله يبلغ ما يريد، ومعنى الرفع: أن الأمر يرفع، أي: الله يبلغ أمره وينفذ.

وقال أبو البقاء: وقيل: "أمره" مبتدأ، و"بالغ" خبره. والضمير المجرور في "أمره" لله تعالى، أي: أن الله ينفذ حكمه، وأنشد:

بتقوى الإله نجا من نجا .... وفاز وصار إلى ما رجا

ومن يتق الله يجعل له .... كما قال من أمره مخرجا

قوله: (لم يبق إلا التسليم للقدر)، الانتصاف: أين القدري من التسليم للقدر؟ وهو يعتقد أن المقدر أكثره لا يقع، وأكثر الكائنات تتبع إرادة الخلق عندهم، وإن وافقت إرادة الله تعالى فليس لها أثر في الإيجاد، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

قوله: (أهو دم حيض)، قيل:"هو" متعلق بقوله: {ارْتَبْتُمْ} وقد علق عن العمل بسبب الهمزة.

ص: 475

{فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} وإذا كانت هذه المرتاب بها، فغير المرتاب بها أولى بذلك، {واللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} هن الصغائر، والمعنى: فعدتهن ثلاثة أشهر، فحذف لدلالة المذكور عليه. اللفظ مطلق في "أولات الأحمال"، فاشتمل على المطلقات والمتوفى عنهن، وكان ابن مسعود وأبي وأبو هريرة وغيرهم لا يفرقون. وعن علي وابن عباس: عدة الحامل المتوفى عنها أبعد الأجلين. وعن عبد الله: من شاء لاعنته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في "البقرة"، يعني: أن هذا اللفظ مطلق في الحوامل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فغير المرتاب بها)، وهن الحوامل والصغيرة.

قوله: (وعن عبد الله: من شاء لاعنته)، روى البخاري وأبو داود والنسائي عن محمد ابن سيرين قال: كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى وكان أصحابه يعظمونه، فذكر آخر الأجلين، فحدثت بحديث سبيعة بنت الحارث إلى قوله: قال أبو عطية: كنا عند عبد الله فقال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة؟ ! لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى: {وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، وفي رواية النسائي عن علقمة: أن ابن مسعود قال: من شاء لاعنته: ما نزلت: {وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها إذا وضعت المتوفى عنها زوجها فقد حلت. ورواه ابن ماجه عن مسروق عنه.

لاعنته: أي باهلته، والقصرى تأنيث الأقصر، وهي هذه السورة، والطولى هي البقرة.

قول: (نزلت بعد التي في البقرة)، وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، فهذه الآية ناسخة أو مخصصة لتلك، ، عن بعضهم: ما في البقرة محمول على غير الحامل، إذ لو أريد به الحامل لم تتعين عدتها بأربعة أشهر وعشر، أو هي معينة بالنص.

ص: 476

وروت أم مسلمة: أن سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "قد حللت فانكحي".

{يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} ييسر له من أمره ويحلل من عقده بسبب التقوى {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ} يريد ما علم من حكم هؤلاء المعتدات، والمعنى: ومن يتق الله في العمل بما أنزل الله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه مما ذكر من الإسكان وترك الضرار والنفقة على الحوامل وإيتاء أجر المرضعات وغير ذلك استوجب تكفير السيئات والأجر العظيم.

[{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وجْدِكُمْ ولا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ واتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وإن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} 6 - 7]

{أَسْكِنُوهُنَّ} وما بعده: بيان لما شرط من التقوى في قوله: {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ} كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: {أَسْكِنُوهُنَّ} .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وروت أم سلمة: أن سبيعة)، روى البخاري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلةً؟ فقال ابن عباس: آخر الأجلين، وقلت أنا:{وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} ؟ قال أبو هريرة: وأنا مع ابن أخي- يعني أبا سلمة- فأرسل ابن عباس غلامه كريبًا إلى أم سلمة فسألها، فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت، فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو السنابل بن بعكك فيمن خطبها.

قوله: (قد حللت)، هذا يؤيد قول ابن مسعود، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنهما.

قوله: (ويحلل من عقده)، تتميم لمعنى قوله:"ييسر له من أمره"، أفاد ذلك التنكير في

ص: 477

فإن قلت: {مِنْ} من {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ما هي؟

قلت: هي" من" التبعيضية مبعضها محذوف، معناه: أسكنوهن مكانًا من حيث سكنتم، أي بعض مكان سكناكم، كقوله تعالى:{يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] أي: بعض أبصارهم. قال قتادة: إن لم يكن إلا بيت واحد فأسكنها في بعض جوانبه.

فإن قلت: فقوله {مِّن وجْدِكُمْ} ؟

قلت: هو عطف بيان لقوله: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} وتفسير له، كأنه قيل: أسكنوهن مكانًا من مسكنكم مما تطيقونه، والوجد: الوسع الطاقة، وقرئ بالحركات الثلاث.

والسكنى والنفقة واجبتان لكل مطلقة. وعند مالك والشافعي: ليس للمبتوتة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{يُسْرًا} ، فإنه للتعظيم والتكثير، والعموم من قوله:{مِنْ أَمْرِهِ} لأنه بمعنى الشأن والحال، فقوله:{يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} أبلغ من قوله: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} ثم ليتأمل في استقرار كل واحد من مقامه، وتمكنه في مكانه.

قوله: (مبعضها محذوف)، يريد: أن "من" إذا كانت تبعيضيةً، لا بد من تقدير مكان هو المبعض الموصوف، لتقع السكنى فيه، وهو"مكانًا"، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه اختصارًا.

قوله: ({يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}، أي: بعض أبصارهم)، يعني: في الأزمنة، لأنه ليس عليهم غض البصر أبدًا.

قوله: (فقوله: {مِّن وجْدِكُمْ}؟ )، أي: إذا كان معنى {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ما ذكرت، فقوله:{مِّن وجْدِكُمْ} ما موقعه؟ وما معناه؟ يعني في قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} ما يشعر بقوله {مِّن وجْدِكُمْ} ، فقوله:{مِّن وجْدِكُمْ} كالمستدرك، فأجاب المصنف بأنه عطف بيان له.

قوله: (وقرئ بالحركات الثلاث)، أي: الوجد بالضم السبعة، والبواقي شواذ.

ص: 478

إلا السكنى ولا نفقة لها، وعن الحسن وحماد: لا نفقة لها ولا سكنى؛ لحدث فاطمة بيت قيس: أن زوجها أبت طلاقها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا سكنى لك ولا نفقة".

وعن عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم:"لها السكنى والنفقة". {ولا تُضَارُّوهُنَّ} : ولا تستعملوا معهن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لحديث فاطمة بنت قيس)، روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي رضي الله عنه إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، فأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة، فقالا لها: والله ما لك من نفقة إلا أن تكوني حاملًا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له قولهما فقال: "لا نفقة لك". فاستأذنته في الانتقال فأذن لها فقالت: أين يا رسول الله؟ قال: "إلى ابن أم مكتوم". وكان أعمى تضع ثيابها عنده ولا يراها. فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب فسألها عن الحديث فحدثته به، فقال مروان: لم يسمع هذا الحديث إلا من امرأة! ! سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها. فقالت فاطمة رضي الله عنها حين بلغها قول مروان: بيني وبينكم القرآن، قال الله عز وجل:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلاَّ أَن يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} إلى قوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} قالت: هذا لمن كانت له مراجعة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ .

وفي رواية أبي اسحاق قال: كنت مع الأسود بن يزيد جالسًا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي، فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود كفًا من حصى فحصبه به ثم قال: ويحك تحدث بمثل هذا وقال عمر رضي الله عنه: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة! !

ص: 479

الضرار (لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) في المسكن ببعض الأسباب من إنزال من لا يوافقهن، أو يشغل مكانهن، أو غير، ذلك، حتى تضطروهن إلى الخروج. وقيل: هو أن يراجعها إذا بقي من عدتها يومان ليضيق عليها أمرها. وقيل: هو أن يلجئها إلى أن تفتدى منه.

فإن قلت: فإذا كانت كل مطلقة عندكم تجب لها النفقة، فما فائدة الشرط في قوله (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ)؟ قلت: فائدته أن مدة الحمل ربما طالت فظن ظانّ أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحائل، فنفى ذلك الوهم. فإن قلت: فما تقول في الحامل المتوفى عنها؟

قلت: مختلف فيها، فأكثرهم على أنه لا نفقة لها، لوقوع الإجماع على أنّ من أجبر الرجل على النفقة عليه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله بعد موته، فكذلك الحامل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال صاحب (الانتصاف): لا يخفى على المتأمل أن المبتوتة غير الحامل لا نفقة لها لأن الله تعالى أوجب السكنى لكلّ معتدة وشرط في النفقة أن يكنّ أولات حمل. فالقول بوجوبها للمبتوتة غير الحامل كما فعل الزمخشري لنصرة مذهب أبي حنيفة منافر للآية.

وقيل: إن الحاصل أن مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه ظاهر في وجوب النفقة والسكنى للمعتدة البائنة حاملة كانت أو لا ، ومذهب مالك والشافعي رضي الله عنهما أنّ لها السكنى بكلّ حال وأمّا النفقة فإن كانت حاملا استحقّت وإلا فلا، أما السكنى فلقوله تعالى (أسكنوهن من حيث سكنتم) وهذا مطلق وأمّا النفقة فلقوله تعالى (وإن كنّ اولات حمل فأنفقوا عليهن حتىّ يضعن حملهنّ)

قوله: فأكثرهم على أنه لا نفقة لها لوقوع الإجماع على أن من أجبر الرجل) على مالم يسمّ فاعله والضمير في ((عليه)) راجع إلى ((من)) و ((من امرأة أو ولد)) بيان ((من قبل)) ، قيل: حاصله أنّ

ص: 480

وعن علي وعبد الله وجماعة: أنهم أو جبوا نفقتها.

{فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} يعني: هؤلاء المطلقات، إن أرضعن لكم ولدًا من غيرهن أو منهن بعد انقطاع عصمة الزوجية {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} حكمهن في ذلك حكم الأظآر، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم بين. ويجو عند الشافعي.

الائتمار بمعنى التآمر، كالاشتوار بمعنى التشاور. يقال: ائتمر القوم وتآمروا، إذا أمر بعضهم بعضًا. والمعنى: ليأمر بعضكم بعضًا، والخطاب للآباء والأمهات، {بِمَعْرُوفٍ} بجميل وهو المسامحة، وأن لا يماكس الأب ولا تعاسر الأم؛ لأنه ولدهما معًا، وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه. {وإن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه، وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاشرة، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك، تريد: لن تبقى غير مقضه وأنت ملوم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرجل الذي يجب عليه الإنفاق على ولده أو زوجته، فإذا مات ذلك الرجل، لا يجب إخراج النفقة من ماله لأجل الولد والزوج.

قال الإمام الرافعي رحمه الله: المعتدة عن الوفاة لا نفقة لها، حائلًا كانت أو حاملًا، أما إذا كانت حائلًا فإن البائنة الحائل لا نفقة لها على الزوج في حياته، فعند الموت أولى.

وأما إذا كانت حاملًا فإن النفقة للحمل والحامل، فإن كانت للحمل فنفقة الأقارب تسقط بالموت، وإن كانت حاملًا فبسبب استحقاقها الحمل، فإذا كانت نفقته في نفسه بعد الانفصال لا يجب بعد الموت، فكذلك النفقة الواجبة بسببه.

قوله: (وأنت ملوم)، قال:

ص: 481

وقوله: {لَهُ} أي للأب، أي: سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه. {لِيُنفِقْ} كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه، يريد: ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات، كما قال:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقرئ: (لينفق) بالنصب، أي شرعنا ذلك لينفق. وقرأ ابن أبي عبلة:(قدر). {سَيَجْعَلُ اللَّهُ} موعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم، أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقتصروا.

[{وكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا ورُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وبَالَ أَمْرِهَا وكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ ومَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} 8 - 11]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن يك ذا فضل، فيبخل بفضله .... على قومه يستغن عنه ويذمم

الانتصاف: وخص بالعتاب الأم، لأن المطلوب منها اللبن، والأب غير متمول، خصوصًا على الولد، ولا كذلك ما يطلب من الأب.

قوله: (أو لفقراء الأزواج)، يعني: قوله: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} وعد من الله تعالى للمنفق بعد أن أمره بالإنفاق في قوله: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} فإذا قيد مطلق الأمر بما سبق، وأنه حديث من شأن المطلقات والمرضعات، يقال: أنه لفقراء الأزواج، وإذا ترك على إطلاقه ليكون استطرادًا في الكلام، على منوال {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} {ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} يقال: إنه موعد لفقراء ذلك الوقت، ويدخل فيه فقراء الأزواج دخولًا أوليًا، وهذا أوفق لتأليف النظم، ليكون

ص: 482

{عَتَتْ عَنْ أَمْرِ ربها} أعرضت عنه على وجه العتو والعناد، {حِسَابًا شَدِيدًا} بالاستقصاء والمناقشة، {عَذَابًا نُّكْرًا} وقرئ:(نكرًا) منكرًا عظيمًا، والمراد: حساب الآخرة، وعذابها: ما يذوقون فيها من الوبال ويلقون من الخسر، وجيء به على لفظ الماضي، كقوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} ، {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 44، 50]، ونحو ذلك؛ لأن المنتظر من وعد الله وعبده ملقى في الحقيقة، وما هو كائن فكأن قد كان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تخلصًا إلى قوله: {وكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} لأنها كالخاتمة للتحريض على تقوى الله وحفظ حدوده والتفادي عن التجاوز عنها، وإليه الإشارة بقوله:"فليكن لكم ذلك يا أولي الألباب من المؤمنين، لطفًا في تقوى الله وحذر عقابه".

قوله: (وقرئ: "نكرًا")، نافع وابن ذكوان وأبو بكر.

قوله: (فكأن قد كان)،

وفي بعض النسخ: "فكأن قد" بلا"كان"، بلغ الوليد بن عبد الملك أن سليمان بن عبد الملك تمنى موته لما له من بعده العهدة، فكتب الوليد إليه يعاتبه على ما بلغه، وكتب في آخر الكتاب:

تمنى رجال أن أموت وإن أمت .... فتلك سبيل لست فيها بأوحد

وقد علموا لو ينفع العلم عندهم .... لئن مت ما الداعي علي بمخلد

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى .... فهيئ لأخرى مثلها فكأن قد

ص: 483

وقوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقبًا، كأنه قال: أعد الله لهم هذا العذاب فليكن لكم ذلك، {يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} من المؤمنين لطفًا في تقوى الله وحذر عقابه. ويجوز أن يراد إحصاء السيئات واستقصاؤها عليهم في الدنيا، وإثباتها في صحائف الحفظة، وما أصيبوا به من العذاب في العاجل؛ وأن يكون {عَتَتْ} وما عطف عليه صفة للقرية، ، {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} جوابًا لـ {وكَأَيِّن} .

{رَسُولاً} هو جبريل صلوات الله عليه: أبدل من {ذِكْرًا} ؛ لأنه وصف بتلاوة آيات الله، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر؛ فصح إبداله منه، أو أريد بـ"الذكر": الشرف، من قوله:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] فأبدل منه، كأنه في نفسه شرف، غما لأنه شرف للمنزل عليه، وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله، كقوله تعالى:{عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} بالتكوير: 20] أو جعل لكثرة ذكره لله وعبادته كأنه ذكر، أو أريد: ذا ذكر، أي: ملكًا مذكورًا في السماوات وفي الأمم كلها، أو دل قوله:{أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا} على "أرسل" فكأنه قيل: أرسل رسولًا؛ أو أعمل {ذِكْرًا} في {رَسُولاً} إعمال المصدر في المفاعيل، أي: أنزل الله أن ذكر "رسولًا" أو ذكره "رسولًا". وقرئ: (رسول)، على: هو رسول أنزله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز أن يراد)، عطف على قوله:"والمراد حساب الآخرة"، وعلى هذا مجيءلا"حاسبنا" و"عذبنا" ماضيين على ظاهرهما، وقوله:"أن يكون {عَتَت} وما عطف عليه صفة للقرية" من تتمة هذا الوجه، و {أَعَدَّ اللهُ} جواب لـ"كأين"، وعلى الأول:{عَتَت} جواب "كأين"، {أَعَدَّ اللهُ} ، تكرير وبيان، والمراد بالجواب الخبر، لأن "كأين" بمعنى "كم" الخبرية.

قوله: (أو دل قوله {أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا} على "أرسل")، عطف على قوله:" {رَسُولاً}، أبدل من {ذِكْرًا} ".

اعلم أن {رَسُولاً} في قوله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولاً} إما أن يكون معمولًا لـ {أَنزَلَ} على الإبدال من الذكر، أو لا يكون معمولًا له، فعلى الأول: المراد بالرسول جبريل عليه السلام، لأنه هو الذي أنزله الله تعالى بالرسالة إلى الأنبياء.

ص: 484

{لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا} بعد إنزاله، أي: ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح؛ لأنهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين؛ وإنما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ، أو ليخرج الذين عرف منهم أنهم يؤمنون.

قرئ: {يُدْخِلْهُ} بالياء والنون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم الذكر: إما أن يراد به القرآن أو الشرف أو الذكر المتعارف، فإذا أريد به القرآن فوصفه بسبب الملابسة ونزوله به، وإذا أريد به الشرف فالوصف إما لكونه نازلًا على خير البرية، أو أنه في نفسه ذو شرف ومجد، وإذا أريد به المتعارف فوصفه به إما للمبالغة، نحو: رجل عدل، أو أنه ذو ذكر، أي: مذكور عند الخلق، وعلى الثاني الظاهر هو أن يراد بقوله {رَسُولاً}: محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو إما أن يكون معمولًا لفعل محذوف. قال الواحدي: أنزل إليكم قرآنًا، وأرسل رسولًا، وإنزال الذكر، يدل على إرسال الرسول.

{يَتْلُو عَلَيْكُمْ} ، أي: الرسول، أو معمولًا لـ {ذِكْرًا} ، أي: أنزل الله أن ذكرًا رسولًا، وذكره رسولًا، وجوز القاضي على الإبدال وإعمال "أنزل" أن يراد بـ {رَسُولاً} محمد صلوات الله وسلامه عليه، و {أَنزَلَ} بمعنى: أرسل، حيث قال:{رَسُولاً} محمد صلوات الله عليه أبدل عن {ذِكْرًا} لمواظبته على تلاوة القرآن، أو لتبليغه، وعبر عن إنزاله بالإرسال ترشيحًا.

وقلت: و {يَتْلُو} ، تجريد للاستعارة.

قوله: (قرئ: {يُدْخِلُهُ} بالياء والنون)، نافع وابن عامر: بالنون، والباقون: بالياء.

ص: 485

{قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} فيه معنى التعجب والتعظيم، لما رزق المؤمن من الثواب.

[{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ومِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} 12]

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ} مبتدأ وخبر، وقرئ:{مِثْلَهُنَّ} بالنصب عطفًا على {سَبْعَ سَمَوَاتٍ} ؛ وبالرفع على الابتداء، وخبره:{مِنَ الأَرْضِ} .

قيل: ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه. وقيل: بين كل سماءين مسيرة خمس مئة عام، وغلظ كل سماء كذلك، والأرضون مثل السماوات. {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} أي: يجري أمر الله وحكمه بينهن، وملكه ينفذ فيهن.

وعن قتادة: في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه.

وقيل: هو ما يدبر فيهن من عجائب تدبيره.

وقرئ: (ينزل الأمر)، وعن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق سأله: هل تحت الأرضين خلق؟ قال: نعم. قال: فما الخلق؟ قال: إما ملائكة أو جن.

{لِتَعْلَمُوا} قرئ بالتاء والياء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({قَدْ أَحْسَنَ اللهُ}، فيه معنى التعجب)، نحوه قول الشاعر:

. غلت ناب كليب بواؤها

سبق بيان دلالته عليه في الفرقان.

قوله: (قيل: ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه)، روينا عن الإمام أحمد

ص: 486

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ابن حنبل والترمذي عن أبو هريرة قال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه، إذ قال:"هل يدرون ما فوقكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"فإنها الرقيع: سقف محفوظ، وموج مكفوف"، ثم قال:"هل تدرون ما بينكم وبينها؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"بينكم وبينها خمس مئة عام"، ثم قال:"هل تدرون ما فوق ذلك؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"سماءين، بعدما بينهما خمس مئة سنة"، ثم قال كذلك، حتى عد سبع سموات، ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض، ثم قال:"هل تدرون ما فوق ذلك؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم، ، قال:"إن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين"، ثم قال:"هل تدرون ما الذي تحتكم؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"إنها الأرض"، ثم قال:"هل تدرون ما تحت ذلك؟ "قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"إن تحتها أرضًا أخرى، بينها مسيرة خمس مئة سنة"، حتى عد سبع أرضين، بين كل أرضين مسيرة خمس مئة سنة. الحديث.

تمت السورة

حامدًا لله ومصليًا على رسوله صلى الله عليه وسلم

* * * *

ص: 487

‌سورة التحريم

مدنية، وتسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم،

وهي ثنتا عشرة أو ثلاث عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ واللَّهُ مَوْلاكُمْ وهُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} 1 - 2]

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة، وعلمت بذلك حفصة فقال لها:"اكتمي علي، وقد حرمت مارية على نفسي، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي"، فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة التحريم

وهي ثنتا عشرة آية، مدنية بلا خلاف

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

قوله: (خلا بمارية في يوم عائشة)، الحديث من رواية النسائي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} .

ص: 488

وقيل: خلا بها في يوم حفصة، فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم، فطلقها واعتزل نساءه؛ ومكث تسعًا وعشرين ليلة في بيت مارية.

وروي أن عمر قال لها: لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك، فنزل جبريل عليه السلام وقال: راجعها؛ فإنها صوامة قوامة، وغنها لمن نسائك في الجنة.

وروي أنه شرب عسلًا في بيت زينب بنت جحش، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا: إنا نشم منك ريح المغافير،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (شرب عسلًا)، الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم شرب حفصة، وأما القائلة فهي سودة وصفية، وفي رواية: شرب في بيت زينب بنت جحش كما رواه المصنف مع اختلاف، وفيه: قالت سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟ قال:"لا" قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: "سقتني حفصة شربة عسل" فقالت: جرست نحله العرفط.

وأما الحديث الأول فما وجدته في الكتب المشهورة. الجوهري: الجرس: الصوت الخفي، يقال: سمعت جرس الطير، إذا سمعت صوت مناقيرها على شيء تأكله.

النهاية: مغافير واحد مغفور، بالضم، وله ريح كريهة منكرة، وهذا البناء قليل في

ص: 489

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره التفل، فحرم العسل، فمعناه:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} من ملك اليمين أو العسل. {تَبْتَغِي} إما تفسير لـ {تُحَرِّمُ} أو حال أو استئناف،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العربية. وفي "المطلع": العرفط: شبه الصمغ ذو رائحة كريهة تظهر على المغفور، وهو شوك له نور يأكل منه النحل.

قوله: (التفل)، النهاية: هو الريح الكريهة، ومنه الحديث"إذا خرجن تفلات" أي: تاركات للطيب، رجل تفل، وامرأة تفلة ومتفال.

قوله: ({تَبْتَغِي}؛ إما تفسير لـ {تُحَرِّمُ}، أو حال، أو استئناف)، والفرق أنه على التفسير: ابتغاء مرضاتهن عين التحريم، ويكون هو المنكر، وإنما ذكر التحريم للإيهام تفخيمًا وتهويلًا، وأن ابتغاء مرضاتهن من أعظم الشؤون. وعلى الحال: الإنكار وارد على المجموع دفعةً واحدةً، ويكون هذا التقييد مثل التقييد في قوله:{لَا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]. وعلى الاستئناف لا يكون الثاني عين الأول، لأنه سؤال عن كيفية التحريم، فإنه لما قيل:{لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قال: كيف أحرم؟ فأجيب: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} وفيه تكرير للإنكار.

والتفسير الأول؛ أعني التفسير لما جمع بين التفخيم والتهويل، ولذلك أردف بقوله:{واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} جبرانًا له، ولولا الإرداف لما قام بصولة ذلك الخطاب، ونظيره قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، على أنه صلوات الله عليه ما ارتكب عظيمةً، بل كان ذلك منه من باب ترك الأولى، والامتناع من المباح، وإنما شدد ذلك التشديد رفعًا لمحله، وربًا لمنزلته، ألا ترى كيف صدر الخطاب بذكر النبي وقرن بياء البعيد وهاء التنبيه، أي: تنبه لجلالة شأنك ونباوة مرتبتك فلا تبتغ مرضات أزواجك فيما أبيح لك. ويؤيده قول المصنف بعد هذا: "ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله: هو حرام علي، وإنما امتنع عن مارية ليمين تقدمت منه".

ص: 490

وكان هذا زلة منه؛ لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله؛ لن الله عز وجل إنما أحل ما أحل لحكمة ومصلحة عرفها في إحلاله، فإذا حرم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة.

{واللَّهُ غَفُورٌ} قد غفر لك ما زللت فيه، {رَّحِيمٌ} قد رحمك فلم يؤاخذك به.

{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فيه معنيان، أحدهما: قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم، من قولك: حلل فلان في يمينه، إذا استثنى فيها، ومنه: حلا أبيت اللعن،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكان هذا زلة منه، لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله)، الانتصاف: افترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم! ! فتحريم ما أحل الله باعتقاد حله لا يصدر من مؤمن، وأما مجرد الامتناع من الحلال- وقد يكون مؤكدًا باليمين- فليس من ذلك في شيء، ولو أنكر ذلك لاستحالت حقيقة المباح.

وغايته أنه حلف ما يقرب مارية فنزلت كفارةً لليمين، ومعاذ الله، وحاش لله مما نسبه إليه! وهذه جرأة.

وقلت: الطريق الذي سلكناه آمن- والحمد لله- من هذه المخاوف.

قوله: (إذا استثنى فيها)، المغرب: استثنيت الشيء: زويته لنفسي، والاستثناء في اصطلاح النحويين: إخراج الشيء مما دخل فيه، لأن فيه كفا وردًا عن الدخول، والاستثناء في اليمين أن يقول الحالف: إن شاء الله، لأن فيه رد ما قاله بمشيئة الله.

قوله: (أبيت اللعن)، الأساس: لعنه أهله: طردوه وأبعده، وهو لعين: طريد، ومن المجاز: : أبيت اللعن، وهي تحية الملوك في الجاهلية، أي: لا فعلت ما تستوجب به اللعن.

ص: 491

بمعنى: استثن في يمينك إذا أطلقها؛ وذلك أن يقول: (إن شاء الله) عقيبها حتى لا يحنث. والثاني: قد شرع الله لكم تحلتها بالكفارة. ومنه قوله عليه السلام: "لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم"، وقول ذي الرمة:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إذا أطلقها)، أي: يقال هذا إذا أطلق اليمين.

قوله: (لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه)، بالرفع، وفي نسخة بالنصب، والرواية: فيلج، وقدر المظهري: فإن يلج، روينا عن البخاري ومسلم ومالك والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فليلج النار، إلا تحلة القسم".

النهاية: قيل: أراد بالقسم قوله تعالى: {وَإِن مِنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} تقول العرب: ضربته تحليلًا وضربته تعزيرًا، إذا لم يبالغ في ضربه، وهذا مثل في القليل المفرط في القلة، وهو أن يباشر من الفعل الذي يقسم عليه المقدار الذي يبر به قسمه، مثل أن يحلف على النزول بمكان، فلو وقع فيه وقعةً خفيفةً أجزأته، فتلك تحلة قسمه، فالمعنى: لا تمسه النار إلا مسةً يسيرةً مثل قسم الحالف، ويريد بتحلته: الورود على النار والاجتياز بها، والتاء في "تحلة" زائدة، وفي "المطلع": وأصل تحلة تحللة، كتعلة في تعللة، ومعناه: التحليل.

وقال التوربشتي: التحلة: ما تنحل به عقدة اليمين، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن معنى قوله: إلا تحلة القسم: إلا مقدار ما يبر الله قسمه بالجواز على النار، ذهابًا إلى قوله:

ص: 492

قليلًا كتحليل الألى

فإن قلت: ما حكم تحريم الحلال؟

قلت: قد اختلفت فيه؛ فأبو حنيفة يراه يمينًا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه؛ فإذا حرم طعامًا فقد حلف على أكله، أو أمة فعلى وطئها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]، وفي قوله:{حَتْمًا مَقْضِيًّا} معنى القسم.

وقيل: معنى ترتب الفاء في "فيلج النار" كمعنى قولهم: ما تأتينا فتحدثنا، في أحد الوجهين، أحدهما: أن يكون الأول سببًا للثاني، أي: انتقى السبب فينتقي المسبب، أي: لم يوجد الإتيان فكيف الحديث! فلذلك قيل: ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ !

وثانيهما: أن الفعل الثاني لم يحصل عقيب الأول، فكأنه نفى وقوعهما بصفة كون الثاني عقيب الأول كما تقول: ما جاءني زيد وعمرو، أي: ما جاءا بصفة الاجتماع، فيجوز أن يكون أحدهما جاء، فلذلك يجوز أن يكون الإتيان وقع دون الحديث، فكأنه نفى الأول بصفة معاقبة الثاني له، فالحديث محمول على هذا الوجه دون الأول، إذ لا يقدر موت الولد سببًا للمس. وقلت: حتى ينتفي لانتقائه، ، بل الأمر بالعكس لأن موت الولد سبب عدم المس.

قوله: (كتحليل الألى)، جمع ألوة وهي الحلف. الأساس: آلى وائتلى ليفعلن، وتألى على الله، إذا حلف ليغفرن الله له، وعلي أليةً في ذلك.

قوله: (قد اختلف فيه؛ فأبو حنيفة رحمه الله تعالى)، الفاء تفصيلية، يعني: فأبو حنيفة قال

ص: 493

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كذا والشافعي كذا، روى البخاري ومسلم وابن ماجه، والنسائي عن ابن عباس قال: من حرم امرأته فليس بشيء، وقرأ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وفي رواية: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين يكفرها، وقال:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وللنسائي أنه أتاه رجل فقال: جعلت امرأتي علي حرامًا. فقال: "كذبت، ليست عليك بحرام. ثم تلا هذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، عليك أغلظ الكفارة: عتق رقبة".

قال محيي السنة: واختلف أهل العلم في لفظ التحريم، فقال قوم: هو ليس بيمين، فإن قال لزوجته: أنت علي حرام، فإن نوى به طلاقًا أو ظهارًا فهو كما نواه، وإن نوى تحريم ذاتها، أو أطلق، فعليه كفارة اليمين بنفس اللفظ، وإن قال ذلك لجاريته فإن نوى عتقها عتقت، وإن نوى تحريم ذاتها أو أطلق فعليه كفارة اليمين، وإن قال لطعام: حرمته على نفسي فلا شيء عليه، وهذا ابن مسعود وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنهما، وذهب جماعة إلى أنه يمين، فإن قال ذلك لزوجته أو جاريته فلا تجب عليه الكفارة ما لم يقربها، وإن حرم طعامًا فهو كما لو حلف أن لا يأكله، فلا كفارة عليه ما لم يأكل، يروى ذلك عن أبي بكر وعائشة، وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما.

ص: 494

أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وكذلك إن نوى ثنتين، وإن نوى ثلاثًا فكما نوى، ولإن قال: نويت الكذب دين فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء. وإن قال: كل حلال على حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو، وغلا فعلى ما نوى، ولا يراه الشافعي يمينًا، ولكن سببًا في الكفارة في النساء وحدهن، وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده.

وعن أب بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم أن الحرام يمين، وعن عمر: إذا نوى الطلاق فرجعي، وعن علي رضي الله عنه: ثلاث، وعن زيد: واحدة بائنة. وعن عثمان: ظهار، وكان مسروق لا يراه شيئًا ويقول: ما أبالي أحرمتها أم قصعة من ثريد، وكذلك عن الشعبي قال: ليس بشء، محتجًا بقوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116]، وقوله تعالى:{لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87]، وما لم يحرمه الله تعالى فليس لأحد أن يحرمه، ولا أن يصير بتحريمه حرامًا، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله: هو حرام علي، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدمت منه، وهو قوله عليه السلام:"والله لا أقربها بعد اليوم"،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكذلك إن نوى ثنتين)، قال بعض الحنفية: هذا عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة: لا تصح نية الاثنتين، وتقع واحدة.

قوله: (وإن قال: نويت الكذب، دين فيما بينه وبين الله)، كما لو قال: حرمت علي زينب مثلًا، هذا من حيث التركيب إخبار عن إحداث التحريم في الزمان الماضي، ومن حيث الاستعمال إنشاء تحريم، كما يقال حال انعقاد أسباب البيع والشراء: بعت واشتريت، فإذا

ص: 495

فقيل له: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} أي: لم تمتنع منه بسبب اليمين؟ يعني: أقدم على ما حلفت عليه، وكفر عن يمينك! ونحوه قوله تعالى:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12] أي؛ منعناه منها. وظاهر قوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أنه كانت منه يمين.

فإن قلت: هل كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك؟

قلت: عن الحسن: أنه لم يكفر؛ لأنه كان مغفورًا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنما هو تعليم للمؤمنين، وعن مقاتل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية.

{واللَّهُ مَوْلاكُمْ} سيدكم ومتولي أموركم، {وهُوَ العَلِيمُ} بما يصلحكم فيشرعه لكم، {الحَكِيمُ} فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما توجبه الحكمة. وقيل:{مَوْلاكُمْ} أولى بكم من أنفسكم، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم.

[{وإذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} 3]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: نويت به الإخبار، لم يقع ذلك، فلا شك أنه كذب، دين فيما بينه بين الله تعالى، ولكن لا يدين في قضاء الحاكم بإبطال الإيلاء لأن اللفظ إنشاء في العرف.

قوله: (أعتق رقبة في تحريم مارية)، روى الترمذي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه وحرم، فجعل الحلال حرامًا، وجعل في اليمين الكفارة.

ص: 496

{بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} حفصة، والحديث الذي أسر إليها: حديث مارية وإمامة الشيخين، {نَبَّأَتْ بِهِ} أفشته إلى عائشة. وقرئ:(أنبأت) به {وأَظْهَرَهُ} وأطلع النبي عليه السلام {عَلَيْهِ} على الحديث، أي: على إفشائه على لسان جبريل، وقيل: أظهر الله الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم، من الظهور، {عَرَّفَ بَعْضَهُ} أعلم ببعض الحديث تكرمًا. قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقرئ:(عرف بعضه)، أي: جازى عليه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من الظهور)، أي: يكون"أظهر" بمعنى الظهور، ، فالجار للتعدية، أي: جعله ظاهرًا عليه، وعلى الأول بمعنى: أطلع، أي: مضمن معناه، والجار صلة.

قوله: (ما زال التغافل من فعل الكرام)، قال:

ليس الغبي بسيد في قومه .... لكن سيد قومه المتغابي

قوله: (وقرئ: "عرف بعضه"، أي: بالتخفيف؛ الكسائي، والباقون: بالتشديد.

قال الزجاج: من قرأ بالتخفيف معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد عرف كل ما كان أسره، والإعراض لا يكون إلا عما يعرف، وتأويله: جازى عليه، كما تقول لمن تتوعده: علمت ما علمت، وعرفت ما صنعت، أي: فسأجازيك عليه، ولا يقصد به المعرفة فقط. وقال صاحب"الكشف": من قال: "عرف" بالتخفيف، فإنه لا يجوز أن يكون بمعنى: علم، لأنه إذا أعلمه الله فقد أعلمه جمعيه، وإنما معناه: جازى عن بعض ولم يجاز عن بعض، نحو قوله:{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] أي: يجازه عليه.

ص: 497

من قولك للمسيء: لأعرفن لك ذلك، وقد عرفت ما صنعت. ومنه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63] أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم، وهو كثير في القرآن؛ وكان جزاؤه تطليقه إياها.

وقيل: المعرف: حديث الإمامة، والمعرض عنه: حديث مارية.

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "ألم أقل لك اكتمي علي؟ "، قالت: والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي؛ فرحًا بالكرامة التي خص الله بها أباها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكان جزاءها تطليقه إياها)، قال الزجاج: قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقةً واحدةً فكان ذلك جزاءها عنده، فذلك تأويل {عَرَّفَ بَعْضَهُ وأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} أي: جازى على بعض الحديث، وكانت حفصة صوامةً قوامةً، فأمره الله تعالى أن يراجعها فراجعها.

وقال القاضي: ليس في قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ} ما يدل على أنه لم يطلق حفصة، وأن في النساء خيرًا منهن، لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة، والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه.

وقلت: روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عباس الحديث الطويل عن عمر رضي الله عنهما، وفيه: نزلت آية التخيير: {عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ} الآية، فكانت عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله، أطلقتهن؟ قال:"لا"، قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصا ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال:"نعم". الحديث.

قوله: (فرجًا بالكرامة)، قيل: مفعول له، لقوله:"قالت"، وهو فاسد، إذ ليس المعنى أنها

ص: 498

فإن قلت: هلا قيل: فلما نبأت به بعضهن، وعرفها بعضه؟

قلت: ليس الغرض بيان من المذاع إليه ومن المعرف، وإنما هو ذكر جناية حفصة في وجود الإنباء به وإفشائه من قبلها، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرمه وحلمه، لم يوجد منه إلا الإعلام ببعضه، وهو حديث الإمامة. ألا ترى أنه لما كان المقصود في قوله:{فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} ذكر المنبأ، كيف أتى بضميره؟ !

[{إن تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وإن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصَالِحُ المُؤْمِنِينَ والْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} 4]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قالت هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل الفرج، لأن مقام العتاب الذي يترشح من قوله:{عَرَّفَ بَعْضَهُ} أي: جازى عليه، من قولك للمسيء: لأعرفن لك، يأبى ذلك، بل هو تعليل أو تمييز لقولها:"ما ملكت نفسي فرجًا"، وكان القياس أن يقال: خص الله بها أبي، ولعل الراوي نقل المعنى لا لفظها، أو التفتت.

قوله: (هلا قيل: فلما نبأت به بعضهن)، يعني: كان القياس أن يقال: "نبأت به بعضهن" بدل {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} لأن حفصة نبأت بالحديث الذي أسرها النبي صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه، يعني: عائشة، وأن يقال: عرفها بعضه، لأنه عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الحديث لحفصة، وهو حديث الإمامة.

وأجاب أن سياق الكلام ليس في شأن المذاع إليه، أي: عائشة رضي الله عنها، وفي شأن المعروف، أي: حفصة رضي الله عنهما ليذكرهما، بل في معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم وابتغائه مرضات أزواجه، وفي شأن جناية حفصة، ثم في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وإعراضه عن بعض جنايتها، فلما دل قوله {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} على الجناية، وقوله:{عَرَّفَ بَعْضَهُ} على الإعراض عن البعض، أتى بهما وترك ذكرهما. ويعضده إتيان ضمير المنبأ به في قوله:{فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} مع الاستغناء عنه بقرينة الأحوال لأنه هو المقصود في الذكر.

ص: 499

{إن تَتُوبَا} خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات، ليكون أبلغ في معاتبتهما، وعن ابن عباس: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عنهما حتى حج وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإداوة، فسكبت الماء على يده فتوضأ، فقلت: من هما؟ فقال: عجبًا يا ابن عباس! ! كأنه كره ما سألته عنه، ثم قال: هما حفصة وعائشة.

{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه. وقرأ ابن مسعود:(فقد زاغت). {وإن تَظَاهَرَا} وإن تعاونا {عَلَيْهِ} بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قلت: فلم ترك الضمير في قوله: {نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} ؟

قلت: لكونه جوابًا عن قولها: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} ؟ وقد اعتمد في السؤال عن المنبئ، وأوقع المنبأ به فضلةً في الكلام، ولأن في تركه إفادة الشمول والتفخيم، لذلك أردف بالعليم الخبير، أي: العليم بكليات الأحوال، والخبير بجزئياتها، ونظير هذا الأسلوب قوله تعالى:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} إلى قوله {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص: 33] وقد سبق بيانه.

قوله: (على طريقة الالتفات)، التفت من قوله:{وإذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} إلى الخطاب، وأما حديث ابن عباس: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر رضي الله عنه، فقد رواه البخاري ومسلم وفيه طول.

قوله: (فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، وهو ميل القلب)، يعني: أن قوله: {فَقَدْ

ص: 500

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لا يصح أن يكون جوابًا للشرط إلا بهذا التأويل، قال بعضهم: التقدير: إن تتوبا فلتوبتكما موجب وسبب، كقوله:{مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْريلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} [البقرة: 97]، أي: فلمعاداتكم موجب وسبب.

وقال ابن الحاجب في"الأمالي": جواب الشرط: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} من حيث الإخبار، كقولهم: إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس، الإكرام المذكور شرط وسبب للإخبار بالإكرام الواقع من المتكلم، لا نفس الإكرام منه، لأن ذلك غير مستقيم، لوجهين؛ أحدهما: أن الإكرام الثاني سبب للأول، فلا يستقيم أن يكون مسببًا، وثانيهما: أن ما في حيز الشرط في معنى المستقبل وهذا ماض، ، وعلى ما ذكرنا يحمل الجواب في الآية:{إن تَتُوبَا إلَى اللَّهِ} يكن سببًا لذكر هذا الخبر، وهو قوله:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي: وجد منكما ما يوجب التوبة.

فإن قلت: الآية سيقت في التحريض على التوبة، فكيف تجعل سببًا لذكر الذنب؟

قلت: ذكر الذنب متوبًا منه لا ينافي التحريض، ولاسيما الذنب مشهور، المعنى: إن تتوبا إلى الله، يعلم براءتكما من إثم هذا الصغو، لأن الخبر بالصغو سبب لذكره، والذكر متوبًا عنه سبب للعلم ببراءتهم من إثمه، واستغنى بسبب السبب، ولو جعل الجواب محذوفًا لجاز، أي: إن تتوبا إلى الله يمح إثمكما، ثم قيل:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} جوابًا لتقدير سؤال سائل عن سبب التوبة الماحية. تم كلامه.

وقلت: الفاء مانعة لأن يقدر سؤال، لأن موقع الاستئناف بين الجملتين خلو العاطف.

وقال أبو البقاء: جواب الشرط محذوف، أي: فذلك واجب، ودل عليه قوله: : {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ، لأن ميل القلب سبب للذنب.

ص: 501

فلن يعدم هو من يظاهره، وكيف يعدم المظاهر من الله مولاه، أي: وليه وناصره، وزيادة {هُوَ} إيذان بأن نصرته عزيمة من عزائمه، وأنه يتولى ذلك بذاته، {وجِبْرِيلُ} رأس الكروبيين؛ وقرن ذكره بذكره، مفردا له من بين الملائكة، تعظيما له وإظهارا لمكانته عنده، {وصَالِحُ المُؤْمِنِينَ} ومن صلح من المؤمنين، يعني: كل من آمن وعمل صالحا.

وعن سعيد بن جبير: من برئ منهم من النفاق. وقيل: الأنبياء، وقيل الصحابة، وقيل الخلفاء منهم.

فإن قلت: "صالح المؤمنين" واحدا أم جمع؟

قلت: هو واحد أريد به الجمع، كقولك: لا يفعل هذا الصالح من الناس، تريد الجنس، كقولك: لا يفعله من صلح منهم، ومثله قولك: كنت في السامر والحاضر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عزيمة من عزائمه)، النهاية: العزيمة: ما وكدت رأيك على شيء.

قوله: (رأس الكروبيين)، وعن بعضهم: في هذا اللفظ ثلاث مبالغات، أحدها: أن كرب أبلغ من قرب حين وضع موضع كاد، يقال: كربت الشمس أن تغرب، كما تقول: كادت، والثانية أنه على وزن فعول، وهو للمبالغة، والثالثة: زيادة الياء فيه، وهي تزاد للمبالغة كأحمري.

قوله: (في السامر)، السامر: السمار، وهم الذين يسمرون، كما يقال للحجاج: حاج، والحاضر: القبيلة الكبيرة الذين يحضرون الماء، قال الشاعر:

ص: 502

ويجوز أن يكون أصله: صالحو المؤمنين بالواو، فكتب بغير واو على اللفظ؛ لأن لفظ الواحد والجمع واحد فيه، كما جاءت أشياء في المصحف متبوع فيها حكم اللفظ دون وضح الخط. {والْمَلائِكَةُ} على تكاثر عددهم، وامتلاء السموات من جموعهم، {بَعْدَ ذَلِكَ} بعد نصرة الله وناموسه وصالحي المؤمنين، {ظَهِيرٌ} فوج مظاهر له، كأنهم يد واحدة على ما يعاديه، فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟

فإن قلت: قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} تعظيم للملائكة ومظاهرتهم، وقد تقدمت نصرة الله وجبريل وصالح المؤمنين، ونصرة الله تعالى أعظم وأعظم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لنا حاضر فعم وباد كأنه .... قطين الإله عزةً وتكرما

قوله: (كما جاءت أشياء في المصحف)، من ذلك:{وَيَدْعُ الإِنسَانُ} [الإسراء: 11]، و {وَيَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6]، {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ} [ص: 21] كتب على لفظ الجمع نحو كفروا.

قوله: (وناموسه)، النهاية: الناموس: صاحب سر الملك، وأراد به جبريل عليه السلام، لأنه تعالى خصه بالوحي والغيب، لا يطلع عليهما غيره.

قوله: (كأنهم يد واحدة)، أي: أوقع "ظهيرًا" وهو خبرًا للجمع، كما أوقع "يدًا" في قوله صلى الله عليه وسلم:"وهم يد على من سواهم" للمبالغة في الموافقة.

قوله: ({بَعْدَ ذّلِكَ} تعظيم للملائكة)، يعني موقع {بَعْدَ ذّلِكَ} في هذا التركيب موقع {ثُمَّ} في قوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] في إعطاء معنى التفاوت في المرتبة، نص عليه في قوله تعالى:{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13]، فيلزم من ذلك أن تكون نصرة الملائكة أعظم من نصرة الله وهو محال، وأجاب بأن وجوه نصرة الله كثيرة، وأعظمها نصرته بالملائكة.

ص: 503

قلت: مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله، فكأنه فضل نصرته تعالى بهم وبمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته تعالى، لفضلهم على جميع خلقه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أما تعليله بقوله: "لفضلهم على جميع خلقه" فلا وجه له، لأنه لا يخلو إما أن يكون"جبريل وصالح لمؤمنين" عطفًا على معنى الابتداء، أي: على موضع إن واسمها، أو أن يكون مبتدًا و"الملائكة" معطوفًا عليه، و {ظَهِيرٌ} خبر الجميع، وهو واحد في معنى الجمع ذكره أبو البقاء، فيلزم من الأول إما نقص معنى الحصر الذي يفيده تعريف الخبر وتوسيطه ضمير الفصل، لأنه لا يقال: زيد هو المنطلق وعمرو، بل يقال: لا غير، نص عليه صاحب"المفتاح".

وأما هدم قاعدته: فإنه قال: "وجبريل رأس الكروبيين، وقرن ذكره مفردًا له من الملائكة تعظيمًا له"، لأن اعتبار التعظيم حينئذ من اقتران المعطوف بالمعطوف عليه، والتخصيص بالذكر، فيكون صالح المؤمنين دون جبريل، والملائكة دونهم، ونحوه في وجه قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] قال: "من حق الخمس أن يكون متقربًا به إليه، ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلًا لها على غيرها"، وعليه مذهب مالك والأصولي والنحوي، إن قالا بعد الترتيب، لكن صاحب المعاني يراعي النظم والتقديم، ألا ترى كيف سأل المصنف في سورة يوسف:"لم أخر الشمس والقمر؟ "فظهر من هذا الترتيب مراتب المذكورين على ما عليه مذهب أهل السنة. هذا وإن الوجه هو أن يكون"جبريل" مبتدأ، والخبر {ظَهِيرٌ} ، و"صالح المؤمنين والملائكة" عطف عليه، وأن يقال: إنما عدل من عطف المفرد إلى عطف الجملة ليؤذن بالفرق، وأن نصرة الله هي النصرة في الحقيقة، وأنه تعالى إنما ضم إليها المظاهرة بجبريل وبصالح المؤمنين والملائكة للتتميم، تطييبًا لقلوب المؤمنين، وتوقيرًا لجانب الرسول، وإظهارًا للآيات البينات كما في يوم بدر وحنين، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ

ص: 504

وقرئ: (تظاهرا)، (تتظاهرا)، و (تظهرا).

[{عَسَى رَبُّهُ إن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وأَبْكَارًا} 5].

قرئ: {يُبْدِلَهُ} ، بالتخفيف والتشديد للكثرة، {مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ} مقرات مخلصات، {سَائِحَاتٍ} صائمات، وقرئ:(سيحات)، وهي أبلغ.

وقيل للصائم: سائح؛ لأن السائح لا زاد معه، فلا يزال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] ونحوه قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون: 15] أي: ثم إنكم بعد تقلبكم في تلك الأطوار التي تخرق العقول، تموتون ويسلب منكم ذلك الكمال الذي من حقه أن يصان من النقص، لقوله:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، وكذا قوله:{وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [النور: 47]، نعلم أن {بَعْدِ ذَلِكَ} في هذا التركيب ليس من قبيل "ثم" في قوله:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البلد: 17]، بل هو عكسه، ويؤيد هذا التأويل ما رواه مسلم في "صحيحه" عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: دخلت عليه وأنا أرى في وجهه الغضب فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمت- وأحمد الله بكلام- إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، فنزلت.

قوله: (وقرئ: "تظاهرًا")، الكوفيون: بتخفيف الظاء، والباقون: بتشديدها.

قوله: (قرئ: {يُبْدِلْهُ} بالتخفيف والتشديد)، نافع وابن كثير وأبو عمرو: بالتشديد، والباقون: بالتخفيف.

ص: 505

ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجئ وقت إفطاره. وقيل {سَائِحَاتٍ} مهاجرات، وعن زيد بن أسلم: لم تكن في هذه الأمة سياحة إلا الهجرة.

فإن قلت: كيف تكون المبدلات خيرا منهن، ولم تكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟

قلت: إذا طلقهن رسول الله لعصيانهن له وإيذائهن إياه، لم يبقين على تلك الصفة وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والنزول على هواه ورضاه خيرا منهن، وقد عرض بذلك في قوله {قَانِتَاتٍ} ؛ لأن القنوت هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله.

فإن قلت: لم أخليت الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار؟

قلت: لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات، فلم يكن بد من الواو.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما)، الانتصاف: ذكر أبو عمرو بن الحاجب أن القاضي عبد الرحيم البيساني كان يعتقد أن الواو [في الآية] واو الثمانية، وكان يتبجح باستخراجها زائدةً على المواضع الثلاثة؛ أحدها: في التوبة {التَّائِبُونَ العَابِدُونَ}

ص: 506

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وأَهْلِيكُمْ نَارًا وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 6 - 7].

{قُوا أَنفُسَكُمْ} بترك المعاصي وفعل الطاعات، {وأَهْلِيكُمْ} بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسٍكم. وفي الحديث: "رحم الله رجلًا قال: يا أهلاه، صلاتكم، صيامكم، زكاتكم، مسكينكم، يتيمكم، جيرانكم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[التوبة: 112]، والأخرى في قوله:{وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] والثالث في قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] قال ابن الحاجب: فذكر القاضي ذلك يومًا مستحسنًا له بحضرة أبي الجود النحوي المقرئ، فبين له أنه واهم في عدها من هذا القسم، وذكر له ما ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إليها واستحالة المعنى بعدمها، وواو الثمانية لا ترد إلا حيث لا حاجة إليها إلا الإشعار بتمام عدد السبعة، فقال: أرشدتنا يا أبا الجواد.

وروي عن المصنف أنه قال: الواو تدخل في الثامن كقوله: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] وقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، ويسمونها واو الثمانية، وهي كذلك وليس بشيء، وقد قال لنا عند قراءة هذا الموضع: أنسيتم واو الثمانية عند جوابي هذا؟ أي: هو جواب حسن، وذلك خطأ محص ولا يجوز أن يؤخذ به.

قوله: (صلاتكم وصيامكم)، قال الزجاج: معناه: الزموا، احفظوا صلاتكم، وهذه الأشياء المذكورة، أي: أدوا فرض الله فيها.

ص: 507

لعل الله يجمعهم في الجنة"، وقيل: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله. وقرئ: (وأهلوكم) عطفا على واو {قُوا} وحسن العطف للفاصل.

فإن قلت: أليس التقدير: قوا أنفسكم، وليق أهلوكم أنفسهم؟

قلت: لا، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو، و {أَنفُسَكُمْ} واقع بعده، فكأنه قيل: قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم، لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه، فجعلت ضميرهما معا على لفظ المخاطب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لعل الله يجمعهم معه في الجنة)، هكذا في النسخ المعتمدة، وروي: يجمعكم معهم، وليس يثبت، ولا يساعده المعنى إلا تعسفًا.

قوله: (أليس التقدير

) إلى آخره، قيل: المعنى: لما كان الأمر للفاعل المخاطب بالصيغة، وللغائب باللام، كان يخيل أن التقدير: قوا أنفسكم، وليق أهلوكم أنفسهم، فيكون من عطف الجملة على الجملة، وأجاب بأن ليس التقدير كذلك، لأنه لما أريد أمر المخاطب والغائب، غلب حال المخاطب، فقيل:{قُوا} ثم لما عطف الغائب على الضمير، غلب في المفعول أيضًا المخاطب على الغائب، للتطابق، وقدم المفعول.

وقلت: معنى جوابه أن"أهليكم" الذي هو معطوف على واو {قُوا} في التقدير مقارن للواو، و {أَنفُسَكُمْ} الذي هو المفعول مقدر بعد"أهلوكم"، لأن أصل الكلام: قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم وأنفسهم، فلما وقع الفاصل بين الواو و"أهلوكم" بـ {أَنفُسَكُمْ} ، استغنى عن"أنتم" لصحة العطف على الضمير بدون التأكيد لوجود الفصل، ولما غلب في المفعول- الذي هو {أَنفُسَكُمْ} - المخاطب على الغائب اكتفى بـ {أَنفُسَكُمْ} عن"أنفسهم".

فإن قلت: لم حظر أن تقدر: "وليق"؟

ص: 508

{نَارًا وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ} : نوعا من النار لا يتقيد إلا بالناس والحجارة، كما يتقد غيرها من النيران بالحطب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي حجارة الكبريت، وهي أشد الأشياء حرا إذا أوقد عليها. وقرئ:(وقودها) بالضم، أي: ذو وقودها، {عَلَيْهَا} يلي أمرها وتعذيب أهلها، {مَلائِكَةٌ} يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: لتكون الشاذة أقرب إلى معنى المشهورة، ومعناه كما قال:"قوا أنفسكم بترك المعاصي وفعل الطاعات، وأهليكم بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم"، وعلى تقدير"ليق" يكونون مستقلين في الأمر استقلالًا تامًا بخلاف ذلك التقدير، فإن عطف"أهلوكم"، - وهو غائب- على الضمير- وهو حاضر-، لا يصح إلا على التبعية، كما سبق في قوله تعالى:{اسْكُن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [البقرة: 35].

قال القاضي: إنما لم يخاطبها أولًا تنبيهًا على أنه المقصود بالحكم، والمعطوف تبع له. وعلى هذا معنى التغليب في أنفسكم.

وفي"شرح السنة": روي عن علي رضي الله عنه قال: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} : علموهم وأدبوهم، وعن ابن عباس نحوه.

قوله: (وعن ابن عباس: هي حجارة الكبريت)، منع هذا التفسير في سورة البقرة، وهو تخصيص بغير دليل، وأثبت هاهنا.

قوله: (وقرئ: "وقودها")، بالضم، قال ابن جني: وهي قراءة الحسن ومجاهد، وهو على حذف المضاف، أي: ذو وقودها، يعني: ما تطعمه النار من الوقود.

ص: 509

{غِلاظٌ شِدادٌ} في أجرامهم غلظة وشدة، أي: جفاء وقوة. أو في أفعالهم جفاء وخشونة، لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له والانتقام من أعدائه.

{مَا أَمَرَهُمْ} في محل النصب على البدل، أي: لا يعصون ما أمر الله. أي أمره، كقوله تعالى:{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] أولا يعصونه فيما أمرهم.

فإن قلت: أليست الجملتان في معنى واحد؟

قلت: لا، فإن معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه.

فإن قلت: قد خاطب الله المشركين المكذبين بالوحي بهذا بعينه في قوله تعالى:

{فَإن َّلَمْ تَفْعَلُوا ولَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24] وقال {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] فجعلها معدة للكافرين، فما معنى مخاطبته به المؤمنين؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أليست الجملتان في معنى واحد)، يعني قوله:{لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ} معناه لا يتركون فعل المأمور به، ومفهومه: أنهم يفعلون ما يؤمرون به.

وأجاب: بأن الأولى لبيان موافقة الأمر في الباطن واعتقاد حقيقة الأمر والاعتراف به والثانية لبيان موافقة الأمر في الظاهر، لأن الموافقة الإتيان بالمأمور به، فإن موافقة الشيء ما يوجب ثبوت مقتضاه، ويمكن أن يقال: إنه من باب الطرد والعكس، وهو كل كلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس، مبالغةً في أنهم لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له.

روي عن المصنف أنه قال: نظير الآية قوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ الَّليلَ والنَّهَارَ لا يَفْتَرُونَ} [الأنبياء: 20] نفى المعاندة عن الملائكة والاستكبار بقوله: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] وأثبت لهم الكياسة، ونفى عنهم الكسل بقوله:{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] كقوله تعالى: {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} .

ص: 510

قلت: الفساق- وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار- فإنهم مساكنون الكفار في دار واحدة، فقيل للذين آمنوا:{قُوا أَنفُسَكُمْ} باجتناب الفسوق مساكنة الكفار الذين أعدت لهم هذه النار الموصوفة.

ويجوز أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد والندم على الدخول في الإسلام، وأن يكون خطابها للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون، ويعضد ذلك قوله تعالى على إثره:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار: لا تعتذروا، لأنه لا عذر لكم، أو لأنه لا ينفكم الاعتذار.

[{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغْفِرْ لَنَا إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 8].

{تَوْبَةً نَّصُوحًا} وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي؛ والنصح: طريقة التائبين؛ وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم، فيأتوا بها على طريقها متداركة للفرطات ماحية للسيئات، وذلك أن يتوبوا عن القبائح لقبحها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الفساق- وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار- فإنهم مساكنون الكفار في دار واحدة)، الانتصاف: جوابه بناء على اعتقاده في خلود الفساق، أورد السؤال ليتنفس عن ما في نفسه من هذا الباطل الذي لا يطيق كتمانه، ولا يمتنع أن يحذر المؤمن من عذاب الكافر تثبيتًا له على الإيمان كقوله تعالى:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131].

قوله: (والنصح: صفة التائبين)، الراغب: النصح: تحري فعل أو قول فيه صلاح، قال تعالى:{لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 79]، وقال تعالى:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21]، وهو من قولهم: نصحت له الود.

ص: 511

نادمين عليها، مغتمين أشد الاغتمام لارتكابها، عازمين على أنهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود اللبن في الضرع، موطنين أنفسهم على ذلك.

وعن علي رضي الله تعالى عنه: أنه سمع أعرابيا يقول: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فقال: يا هذا، إن سرعة اللسان في التوبة توبة الكذابين. قال: وما التوبة؟ قال يجمعها ستة أشياء. على الماضي من الذنوب: الندامة، وللفرائض: الإعادة، ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تعزم على أن لا تعود، وأن تذيب نفسك في طاعة الله، كما ربيتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذاقتها حلاوة المعاصي.

وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: أخلصت، وناصح العسل: خالصه، أو من قولهم: نصحت الجلد: خطته، والناصح: الخياط، والنصاح: الخيط، وقوله تعالى:{تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم: 8] فمن أحد هذين: إما الإخلاص، وإما الإحكام، يقال: نصوح ونصاح كذهوب وذهاب، قال:

أحببت حبًا خالطته نصاحة

قوله: (لا يعودون في قبيح من القبائح)، قيل: هذا مذهبه، لأن عندهم أن التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار غير صحيح.

قوله: (أنه سمع أعرابيًا يقول)، ذكر هذا الحديث في الشورى مع تغيير يسير، قال: منن التوبة وعمودها الانتهاء، على ما قال تعالى:{إِن يَنتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ} [الأنفال: 38] وجناحاها: الندم والعزم، والندم: هو الغم الملازم للذنب.

قوله: (بحسب الرجل)، مبتدأ، والباء زائدة، والخبر:"أن يتوب".

ص: 512

وعن شهر بن حوشب: أنه لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار. وعن ابن السماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك، وتستعد لمنتظرك. وقيل: توبة لا يتاب منها. وعن السدي: لا تصح التوبة إلا بنصيحة النفس والمؤمنين، لأن من صحت توبته أحب أن يكون الناس مثله.

وقيل {نَّصُوحًا} من نصاحة الثوب، أي توبة ترفو خروقك في دينك، وترم خللك. وقيل: خالصة، من قولهم: عسل ناصح إذا خلص من الشمع. ويجوز أن يراد: توبة تنصح الناس، أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها.

وقرأ زيد بن علي: (توبا نصوحا) وقرئ: (نَّصُوحًا) بالضم، وهو مصدر "نصح".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء)، أقللت: صفة الذنب، على منوال قوله:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

قوله: (لمنتظرك)، أي: موتك، وقيل: عاقبتك.

قوله: (من نصاحة الثوب)، في"المطلع": نصاحة الثوب: خياطته، والنصاح: الخياط، أي: توبة ترفو خروقك في دينك، فهي استعارة.

قوله: (وقرئ: "نصوحًا" بالضم)، أبو بكر، والباقون: بالفتح.

ص: 513

والنصح والنصوح، كالشكر والشكور، والكفر والكفور، أي: ذات نصوح، أو تنصح نصوحا، أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له، {عَسَى رَبُّكُمْ} إطماع من الله لعباده، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة بـ "عسى" و"لعل" ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت. والثاني: أن يجئ به تعليما للعباد وجوب الترجح بين الخوف والرجاء، والذي يدل على المعنى الأول وأنه في معنى البت: قراءة ابن أبي عبلة: (ويدخلكم) بالجزم، عطفا على محل (عسى أن يكفر)، كأنه قيل: توبوا يوجب لكم تكفير سيئاتكم ويدخلكم، {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ} نصب بـ {ويُدْخِلَكُمْ} ، و {لا يُخْزِي}: تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسوق، واستحماد إلى المؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم، {نُورُهُمْ يَسْعَى} على الصراط.

{أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} قال ابن عباس: يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين إشفاقا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ووجوب الترجح)، الأساس: ومن المجاز: رجح أحد قوليه على الآخر، وترجح في القول: تميل فيه، وقيل: الترجح: التردد، وكونهم دائراين بينهما، غير مرجحين أحدهما على الآخر.

قوله: (واستحماد إلى المؤمنين على أنه عصمهم)، الأساس: واستحمد الله إلى خلقه بإحسانه إليهم وإنعامه عليهم. ضمن "استحمد" معنى الإحسان، أي: أحسن إليهم طالبًا للحمد منهم على عصمته إياهم.

قوله: ({أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} قال ابن عباس)، فسر {أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} بالنظر إلى قوله تعالى:{نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} بوجوه أربعة؛ أحدها: يطلبون الدوام إشفاقًا بسبب ما ينظرون إلى نور المنافقين وانطماسه، جزاءً لما كانوا يخادعون الله والذين آمنوا، وبه فسر قوله:{ذّهّبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] في وجه. قال الواحدي: ومعنى إذهاب الله نورهم: هو أن الله تعالى يسلب المنافقين ما أعطوا من النور مع المؤمنين في الآخرة.

ص: 514

وعن الحسن: الله متممة لهم ولكنهم يدعون تقربا إلى الله، كقوله تعالى:{واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] وهو مغفور له. وقيل: يقول أدناهم منزلة؛ لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون به مواطئ أقدامهم؛ لأن النور على قدر الأعمال، فيسألون إتمامه تفضلا. وقيل السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم حبوا وزحفا، فأولئك الذين يقولون:{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} .

فإن قلت: كيف يشفقون والمؤمنون آمنون {أَم مَّن يَاتِي آمِنًا يَوْمَ القِيَامَةِ} [فصلت: 40]، {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [يونس: 62]، {لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 13]؟

أو كيف يتقربون وليست الدار دار تقرب؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وثانيها: يطلبون الدوام لا خوفًا بل تقربًا.

وثالثها: يطلبون المزيد لنقصان نورهم من نور غيرهم.

ورابعها: ذلك النور الذي يسعى بين أيديهم هو نور السابقين، وهم يطلبون ابتداءً إتمام النور، أي: هب لنا نورنا وأتممه لنا، والسؤال الآتي متوجه إلى الوجهين الأولين.

قوله: (كيف يشفقون)، هذا الإيراد على قول ابن عباس: يقولون ذلك إشفاقًا، وقوله: أو كيف يتقربون؟ هذا على قول الحسن: ولكنهم يدعون تقربًا إلى الله تعالى.

قوله: (وليست الدار دار تقرب)، أي: الدار الآخرة ليست دار التكليف، فمن لم يتقرب في الدنيا إلى الله تعالى، لا يتقرب إليه في الآخرة، وجاء في الحديث ما يخالفه، روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي وأبي داود عن عيد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها". وروى ابن ماجه عن أبي سعيد نحوه.

ص: 515

قلت: أما الإشفاق فيجوز أن يكون على عادة البشرية وإن كانوا معتقدين الأمن، وأما التقرب فلما كانت حالهم كحال المتقربين حيث يطلبون ما هو حاصل لهم من الرحمة: سماه تقريبا.

[{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ والْمُنَافِقِينَ واغْلُظْ عَلَيْهِمْ ومَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصِيرُ} 9].

{جَاهِدِ الكُفَّارَ} بالسيف {والْمُنَافِقِينَ} بالاحتجاج؛ واستعمل الغلظة والخشونة على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة.

وعن قتادة: مجاهدة المنافقين لإقامة الحدود عليهم.

وعن مجاهد: بالوعيد. وقيل: بإفشاء أسرارهم.

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} 10].

مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين، معاقبة مثلهم من غير إبقاء ولا محاباة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويمكن أن يقال: إن الترقي بحسب ما ثبت له في الدنيا، والترقي في الجنة بالقراءة علامة انتهاء تلك المنزلة.

قوله: (معاقبة مثلهم)، والمثل هاهنا كما في قولك: مثلك لا يبخل، أي: أنت لا تبخل، يعني: من هو في صددك من الجود والسخاوة لا يبخل. أي: يعاقبون معاقبة من هو مبالغ في الكفر والنفاق، وتلك المعاقبة هي ما قال:"معاقبة مثلهم من غير إبقاء ولا محاباة".

ص: 516

ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر؛ لأن عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق وبت الوصل، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد، وإن كان المؤمن الذي كان يتصل به الكافر نبيا من أنبياء الله بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناء ما من عذاب الله {وقِيلَ} لهما عند موتهما أو يوم القيامة: [ادْخُلا النَّارَ مَعَ} سائر {الدَّاخِلِينَ} الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء، أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط.

ومثل حال المؤمنين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله، بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله الناطق بالكلمة العظمى، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين، مع أن قومها كانوا كفارا.

وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة وما فرط

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الناطق بالكلمة العظمى)، وهي:{أنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، و {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38].

قوله: (وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة)، إشارة إلى النظم، وأنه تعالى بعدما حكى عن أمي المؤمنين ما فعلتا مما حصلت منه الكراهة لحضرة الرسالة من التظاهر عليه، وعم التوبيخ بقوله:{عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} وهما المرادتان أوليًا، وذكر أوصاف المبدلات تقريعًا، ثم وعظ المؤمنين تلويحًا، وحرضهم على التوبة ورغبهم فيها، ثم أمر رسوله بالغلظة مع المعاندين من الكافرين والمنافقين تحريضًا، أتى بهذين التمثيلين تذييلًا لذكر المؤمنين والكافرين، وتتميمًا للتعريض بأمي المؤمنين، ومن تأمل في هذه التشديدات لاح له منزلة حبيب الله عند الله، وحقق معنى قول أم المؤمنين

ص: 517

من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده، لما في التمثيل من ذكر الكفر، ونحوه في التغليظ قوله تعالى:{ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله، فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين، والتعريض بحفصة أرجح؛ لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله! وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره.

فإن قلت: ما فائدة قوله: {مِنْ عِبَادِنَا} ؟

قلت: لما كان مبنى التمثيل على وجود الصلاح في الإنسان كائنا من كان، وأنه وحده هو الذي يبلغ به الفوز وينال من عند الله: قال: {عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} ، فذكر النبيين المشهورين العلمين بأنهما عبدان لم يكونا إلا كسائر عبادنا من غير تفاوت بينهما وبينهم إلا بالصلاح وحده، إظهارا وإبانة لأن عبدا من العباد لا يرجح عنده إلا بالصلاح لا غير، وأن ما سواه مما يرجح به الناس عند الناس ليس بسبب للرجحان عنده.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصديقة رضي الله عنها: يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. الحديث متفق على صحته.

ولله دره حيث قال: "وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدًا يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره! ".

قوله: (لم يكونا إلا كسائر عبادنا)، لعله قصد في تعميم {عِبَادِنَا} ، تقرير معنى العموم الذي اعتبره في قوله تعالى:{وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ} [الزمر: 7] اعتزالًا، وقد بينا هناك أن

ص: 518

فإن قلت: ما كانت خيانتهما؟

قلت: نفاقهما وإبطانهما الكفر، وتظاهرهما على الرسولين، فامرأة نوح قالت لقومه: إنه مجنون، وامرأة لوط دلت على ضيفانه، ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور؛ لأنه سمج في الطباع، نقيصة عند كل أحد، بخلاف الكفر؛ فإن الكفار لا يستسمجونه بل يستحسنونه ويسمونه حقا.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما بغت امرأة نبي قط.

[{وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ ونَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وعَمَلِهِ ونَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ} 11].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عادة الله جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين المكرمين، ولا سيما وقد أضيف إلى ضمير التعظيم، وأما فائدته هنا فتربية معنى التعريض في التمثيل، كأنه قيل: إن امرأة نوح وامرأة لوط ما نفعهما شيء من صحبة هذين النبيين المكرمين الداخلين في زمرة العباد المخلصين. ويدل على إرادة المدح تكرير قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِينَ} [الصافات: 81، 111، 122، 132] في الصافات عند ذكر نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس عليهم السلام في خاتمة قصصهم.

الراغب: تخصيص إضافة العبد إل الله تنبيه على مدحه في كونه مطيعًا له منصرفًا عن أمره، وأنه غير معرج على غيره ثم إضافته بنون المملوكية، مبالغة في الاختصاص، وفي كل إضافة إلى الله بهذا الوجه مبالغة.

قوله: (ما كانت خيانتهما؟ )، "ما" استفهاميةً، وضمير "كانت" يعود إليها، و"خيانتهما" خبره، والتأنيث باعتبار الخبر، كما في:"من كانت أمك؟ ".

قوله: (بخلاف الكفر، فإن الكفار لا يستسمجونه) فيه إيماء إلى أن العقل لا يصلح أن يحكم في أمور الديانة.

ص: 519

وامرأة فرعون: آسية بنت مزاحم. وقيل: هي عمة موسى عليه السلام، آمنت حين سمعت بتلقف عصا موسى الإفك، فعذبها فرعون.

عن أبي هريرة: أن فرعون وتد امرأته بأربعة أوتاد، واستقبل بها الشمس، وأضجعها على ظهرها، ووضع رحى على صدرها، وقيل: أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله فرقى بروحها، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه. وعن الحسن: فنجاها الله أكرم نجاة؛ فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم فيها، وقيل: لما قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ} أريت بيتها في الجنة يبنى. وقيل: إنه من درة، وقيل: كانت تعذب في الشمس فتظلها الملائكة.

فإن قلت: ما معنى الجمع بين {عِندَكَ} و {فِي الجَنَّةِ} ؟

قلت: طلبت القرب من رحمة الله والبعد من عذاب أعدائه، ثم بنيت مكان القرب بقولها:{فِي الجَنَّةِ} أو أرادت ارتفاع الدرجة في الجنة، وأن تكون جنتها من الجنان التي هي أقرب إلى العرش وهي جنات المأوى، فعبرت عن القرب إلى العرش بقولها:{عِندَكَ} . {مِن فِرْعَوْنَ وعَمَلِهِ} من عمل فرعون ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ما معنى الجمع بين {عِندَكَ}، و {في الجَنَّةِ})، أي: المقام المعين عند الله في الآخرة الجنة فما معنى الجمع؟ وأجاب أولًا: أن {في الجَنَّةِ} غير متعلق بـ {ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا} بل هو بيان، كأنها حين قالت:{رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا} قيل لها: أين؟ فقالت: {في الجَنَّةِ} ، نحوه قوله تعالى:{وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] فإن {فِيهِ} بيان لما زهدوا فيه، أو أن مرادها بيان المقامات والمنازل، طلبت بقولها:{رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا في الجَنَّةِ} القرب من رحمة الله، وبقولها:{وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} الآية، البعد من أعدائه، ولا ارتياب أن القرب له مراتب لا تنحصر، فأدمجت بقولها:{عِندَكَ} ، تعني: أعلى المراتب وأقربها عند الله، فعلى هذا قوله:{في الجَنَّةِ} صفة بيتًا، أو ظرف لـ {ابْنِ} .

ص: 520

أو من نفس فرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم، وخصوصا من عمله وهو: الكفر، وعبادة الأصنام، والظلم، والتعذيب بغير جرم، {ونَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وعَمَلِهِ ونَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ} من القبط كلهم. وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين، {فَافْتَحْ بَيْنِي وبَيْنَهُمْ فَتْحًا ونَجِّنِي ومَن مَّعِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 118]، {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * ونَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القَوْمِ الكَافِرِينَ} [يونس: 86].

{ومَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وكُتُبِهِ وكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} 12].

{فِيهِ} في الفرج. وقرأ ابن مسعود: (فيها)، كما قرئ في سورة الأنبياء، والضمير للجملة، وقد مر لي في هذا الظرف كلام. ومن بدع التفاسير أن الفرج هو جيب الدرع، ومعنى (أَحْصَنَتْه): منعته جبريل، وأنه جمع في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وخصوصًا من عمله)، يريد أن قوله:{مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} يجوز أن يكون من باب: أعجبني زيد وكرمه، ويجوز أن يراد: ونجني من نفس فرعون الخبيثة، ثم قيل خصوصًا:"من عمله"، وهو قريب من عطف الخاص على العام، وفيه: أن ذاته الخبيثة معدن كل شرً، وما ظهر منه من الكفر وعبادة الأصنام والظلم نعتان منه، وهذا أبلغ.

قوله: (وقد مر لي في هذا الظرف كلام) أي: في سورة الأنبياء، وذلك أن قوله:{فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] يدل على إحياء مريم، والمراد إحياء عيسى عليه السلام منها، والتقدير: ونفخنا الروح في عيسى منها، أي: أحييناه منها.

قوله: (ومعنى "أحصنته": منعته جبريل)، عطف على "أن الفرج"، وكذا قوله:"وأنه جمع في التمثيل" عطف عليه، والمعنى بالمنع قولها:{إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18]. وعن الواحدي رحمه الله تعالى: {أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} : حفظت فرجها ومنعتها عما

ص: 521

تسلية للأرامل وتطييبا لأنفسهن، {وصَدَّقَتْ} قرئ بالتشديد وبالتخفيف على أنها جعلت الكلمات والكتب صادقة، يعني: وصفتها بالصدق، وهو معنى بالتصديق بعينه.

فإن قلت: فما كلمات الله وكتبه؟ قلت: يجوز أن يراد بكلماته: صحفه التي أنزلها على إدريس وغيره، سماها "كلمات" لقصرها، {وكُتُبِهِ} ؛ الكتب الأربعة، وأن يراد جميع ما كلم الله به ملائكته وغيرهم، وجميع مع كتبه في اللوح وغيره. وقرئ:(بكلمة الله وكتابه) أي: بعيسى وبالكتاب المنزل عليه وهو الإنجيل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يحل، قال الفراء: ذكر المفسرون أنه جيب درعها، وهذا محتمل، لأن الفرج معناه في اللغة: كل فرجة بين شيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج، وهذا أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها فهي للنفس أمنع.

وقلت: هو كناية، نحو قولهم: هو نقي الجيب طاهر الذيل، لكن العدول عن الظاهر المكشوف إلى الخفي الذي لا قرينة له بعيد، ولذلك قال المصنف:"ومن بدع التفاسير".

قوله: (قرئ بالتشديد وبالتخفيف)"صدقت" بالتشديد: المشهورة، وبالتخفيف شاذة.

قوله: (جعلت الكلمات والكتب صادقةً)، إما بأن قال: إن كتب الله صادقة فيما جاءت به، أو صدقت بمعنى آمنت بكلمات ربها مصدقةً لها، وهو معنى التصديق بعينه، والباء للتعدية.

قوله: (يجوز أن يراد بكلماته: صحفه)، إلى قوله:(وجميع ما كتبه في اللوح وغيره)، الانتصاف: هو يجحد الكلام القديم، فلا جرم كلامه يشعر بأن كلمات الله متناهية، لأنه

ص: 522

فإن قلت: لم قيل {مِنَ القَانِتِينَ} على التذكير؟

قلت: لأن القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين، فغلب ذكوره على إناثه، و {مِنَ} للتبعيض، ويجوز أن يكون لابتداء الغاية، على أنها ولدت من القانتين؛ لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله عليهما.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جمعها في الأول جمع قلة لقصرها، وفي الثاني حصرها بقوله: و"جميع"، وأين هو من قوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109]{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] وكلام الله صفة أزلية أبدية غير متناهية.

وقلت: ومن ثم ورد عن مصدر النبوة في الدعاء: "أعوذ بكلمات الله التامات"، وأما معنى الجمع في {بِكَلِمَاتٍ} فهو ما ذكره في قوله تعالى:{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22] من أن المراد والقصد بها "جماعة الثمرة التي في قولك: أدركت ثمرة بستانه، تريد ثماره، ونظيره قولهم: كلمة الحويدرة؛ وقولهم للقرية: المدرة، وإنما هي مدر متلاحق".

قوله: (فغلب ذكوره على إنائه)، قال القاضي: وفائدة التغليب الإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين، حتى عدت من جملتهم.

قوله: (كمل من الرجال كثير)، الحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي عن أبي موسى، وليس فيه حديث خديجة رضي الله عنها.

ص: 523

وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام"، وأما ما روي أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف سمى الله المسلمة (تعني مريم)، ولم يسم الكافرة؟ فقال: "بغضا لها": قالت: وما اسمها؟ قال: اسم امرأة نوح: واعلة، واسم امرأة لوط: وأهله، فحديث أثر الصنعة عليه ظاهر بين، ولقد سمى الله تعالى جماعة من الكفار بأسمائهم وكناهم، ولو كانت التسمية للحب وتركها للبغض لسمى آسية، وقد قرن بينها وبين مريم في التمثيل للمؤمنين، وأبى الله ألا يجعل للمصنوع أمارة تنم عليه، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكم وأسلم من ذلك.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحا".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كفضل الثريد على سائر الطعام)، قيل: إنما مثل الثريد لأنه أفضل كعام العرب ولا يرون في الشبع أغنى غناء منه، وقيل: إنهم كانوا يحمدون الثريد فيما طبخ بلحم، وروي:"سيد الطعام اللحم"، فكأنها فضلت على النساء كفضل اللحم على سائر الأطعمة، والسر فيه أن الثريد مع اللحم جامع بين الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول، وقلة المؤونة في المضغ وسرعة المرور في المريء، فضرب به مثلًا ليؤذن بأنها أعطيت مع حسن الخلق حسن الخلق، وحلاوة المنطق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، ورزانة الرأي، ورصانة العقل، والتحبب إلى البعل، فهي تصلح للتبعل، والتحدث والاستئناس بها، والإصغاء إليها.

وحسبك أنها عقلت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تعقل غيرها من النساء، وروت ما لم يرو مثلها من الرجال، ومما يدل على أن الثريد أشهى الأطعمة عندهم وألذها قول الشاعر:

إذا ما الخبز تأدمه بلحم .... فذاك- أمانة الله- الثريد

تمت السورة حامدًا الله ومصليًا.

ص: 524

‌سورة الملك

مكية، وهي ثلاثون آية

وتسمى: الواقية، والمنجية؛ لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر

بسم الله الرحمن الرحيم

[{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وهُوَ حَسِيرٌ} 1 - 4].

{تَبَارَكَ} تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين {الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ} على كل موجودٍ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الملك

مكية، وهي ثلاثون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

قوله: ({بِيَدِهِ المُلكُ} على كل موجود)، وجعل {بِيَدِهِ المُلكُ} بمعنى التصرف والاستيلاء، ولذلك عداه بـ"على" في قوله:"على كل موجود"، قال الراغب في قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ

ص: 525

{وهُوَ عَلَى كُلِّ} ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة {قَدِيرٌ} . وذكر "اليد" مجاز عن الإحاطة بالملك والاستيلاء عليه. والحياة: ما يصنع بوجوده الإحساس،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]: "فالملك: ضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، والملك كالجنس له؛ فكل ملك ملك، وليس كل ملك ملكًا".

قوله: ({وهُوَ عَلَى كُلِّ} ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة {قَدِيرٌ})، يعني أن "الشيء" عام في كل ما يصح أن يخبر عنه ويعلم بناء على مذهبه، فلما اقترن بقوله {قَدِيرٌ} ، علم أن المراد منه المعدوم الذي يدخل تحت القدرة دون غيره، ومقصوده رعاية الطباق بذكر الموجود والمعدوم بين القرينتين، قال صاحب "التقريب":"وفيه نظر؛ لأن "الشيء" إما أن يختص بالموجود، أو يشمل الموجود والمعدوم على المذهبين، فلا وجه لتخصيصه بما لم يوجد مع انضمام {كُلِّ} إليه، اللهم إلا أن بقال: خصصه به ليغاير ما قبله، إذا خصصه بالموجود".

قلنا: لو عمم الثاني: لتحقق التغاير أيضًا، على أن في تخصيص الأول بالموجود أيضًا نظرًا، لأن اليد مجاز عن القدرة، وإن تخصصت القدرة بالمعدوم كما هو مذهبه تخصص الأول بالمعدوم، وإن لم يتخصص، لم يتخصص الثاني بالمعدوم. والتحقيق أن الأول مطلق، والثاني عام لما وضع له تباين الشيء، فقصد بيان أصل القدرة أولًا، وعمومها ثانيًا.

وقلت: الظاهر أن الآية من باب التكميل، فالقرينة الأولى تدل على التصرف التام في الموجودات، على مقتضى إرادته ومشيئته من غير منازع ولا مدافع، تصرف الملاك في ملكهم، لا يتصرف فيها حقيقة، ولذلك قدم الظرف للتخصيص، قال الإمام: "هذه اللفظة إنما

ص: 526

وقيل: ما يوجب كون الشيء حيا، وهو الذي يصبح منه أن يعلم ويقدر. والموت: عدم ذلك فيه، ومعنى خلق الموت والحياة: إيجاد ذلك المصحح وإعدامه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكًا ومالكًا، كما يقال: بيد فلان الأمر والنهي، والحل والعقد".

والقرينة الثانية دالة على القدرة الكاملة الشاملة، ولو اقتصر على القرينة الأولى، لأوهم أن تصرفه مقصور على تغير أحوال الملك كما يشاهد من تصرف الملاك المجازي؛ فقرنت بالثانية ليؤذن بأنه عز سلطانه قادر على التصرف، وعلى إيجاد الأعيان المتصرف فيها، وعلى إيجاد عوارضها الذاتية وغيرها، ومن ثم عقب ذلك الوصف بالوصف المتضمن للعوارض، وهو قوله:{الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] إلى آخره. وأما مسألة أن المعدوم شيء فمها لا يهمنا الآن.

قوله: (وقيل: ما يوجب كون الشيء حيا، وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر)، قال صاحب "التقريب": الحياة ما به الإحساس، أو ما به العلم والقدرة، ولا يفسر بما يوجب كون الشيء حيًا لئلا يلزم منه الدور.

قوله: (والموت عدم ذلك)، الانتصاف: مذهب القدرية أن الموت عدم، واعتقاد أهل السنة أنه أمر وجودي يضاد الحياة، وكيف يكون عدمًا وقد وصف بكونه مخلوقًا، وعدم الحوادث أزلي؟ ولو كان المعدوم مخلوقًا للزم وقوع الحوادث أزلًا، وهو ظاهر البطلان.

ص: 527

والمعنى: خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون {لِيَبْلُوَكُمْ} ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال صاحب "الفرائد": "لو كان الموت عدم الحياة استحال أن يكون مخلوقًا"، وقد قال بعد ذلك:"معنى خلق الموت والحياة، وإيجاد ذلك المصحح وإعدامه"، وهذا أيضًا منظور فيه.

وقال الإمام: "الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها، بحيث يصح أن يعلم ويقدر".

واختلفوا في الموت، قيل: إنه عبارة عن عدم هذه الصفة، وقيل: صفة وجودية مضادة للحياة، لقوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ} ؛ والعدم لا يكون مخلوقًا، وهذا هو التحقيق.

قوله: (خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون {لِيَبْلُوَكُمْ})، الراغب:"أنواع الموت بحسب أنواع الحياة: الأول: ما [هو] بإزاء القوة النامية في الإنسان والحيوان والنبات، نحو: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17]، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} [ق: 11]. الثاني: زوال القوة الحاسة، قال تعالى: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: 23]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35]. والثالث: زوال القوة العاقلة، وهي الجهالة نحو: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. الرابع: الحزن المكدر للحياة، نحو: {وَيَاتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17]. الخامس: المنام، فقد قيل: المنام موت خفيف، والموت نوم ثقيل، نحو: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]، وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، قيل: [معناه] ستموت، تنبيها على أنه لا بد لكل أحد من الموت، وقيل: فيه إشارة إلى ما يعترى الإنسان في كل حال من التحلل، وأن البشر ما دام في الدنيا يموت جزءًا. وقد عبر قوم عن هذا المعنى بـ"المائت"، ورده علي بن عبد العزيز

ص: 528

وسمى علم الواقع منهم باختيارهم "بلوى" وهي الخبرة استعارة من فعل المختبر. ونحوه قوله تعالى: {ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ} [محمد: 31].

فإن قلت: من أين تعلق قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} بفعل البلوى؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال: ليس في لغتنا "مائت" على حسب ما قالوا، وإنما يقال: موت مائت كقولك: شعر شاعر، وسيل سائل".

قوله: (وسمى علم الواقع منهم باختيارهم"بلوى") وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، وقوله:"منهم" و"باختيارهم" متعلقان بـ"الواقع". قيل: إنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع لا أنها واقعة، لأن ذلك لا يكون علمًا، وإذا وجد تعلق العلم بوجوده. والله تعالى خلق المكلفين يعلم ما يصدر منهم باختيارهم، فسمي هذا اختيارًا؛ لأنه إذا خلقهم ليعلم واقعًا ما، يعلم أنه يصدر باختيارهم، فكأنه تعالى اختبرهم بخلقه وابتلاهم. المعنى: ليعلم هذا المعنى واقعًا بعدما علم أنه سيحصل منهم.

والفلاسفة خذلهم الله، زعموا أن الله تعالى يعلم الجزئيات على وجه لا جزئي، والمسلمون يعتقدون أنه تعالى يعلم الجزئيات على وجه جزئي، أي عند وجودها يعلم أنها وجدت، وعند عدمها يعلم أنها عدمت، وقبل ذلك يعلم أنها ستوجد وستعدم، فالتغيير في المعلوم لا في العلم.

قوله: (استعارة)، نصب تمييز أو مفعول له، أو حال، أو مفعول مطلق، لما في قوله:"سمى"

ص: 529

قلت: من حيث إنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملا؛ وإذا قلت: علمته أزيد أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه، كما تقول: علمته هو أحسن عملا.

فإن قلت: أتسمي هذا تعليقا؟

قلت لا، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسد المفعولين جميعا، كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلى آخره، معنى "استعار"، لأن الاستعارة تسمية الشيء باسم ما شبه أو شبه به، أي استعار لعلم الله المتعلق بأفعال المكلف، لفظ الابتلاء المعني به الخبرة، بعد سبق تشبيه حال المكلف المختار الممكن من فعل الطاعة والمعصية مع تعلق علم الله تعالى بأفعاله، بحال المختبر مع المختبر، ثم استعير لعلم الله الخاص ما استعمل في المشبه به من لفظ "يبلوكم"، فهي استعارة تبعية واقعة في طريق التمثيل. مثلها في قول صاحب "المفتاح": شبه حال المكلف الممكن من فعل الطاعة والمعصية مع الإرادة منه أن يطيع، بحال المرتجي المخير بين أن يفعل وأن لا يفعل، ثم استعير لجانب المشبه"لعل"، جاعلًا قرينة الاستعارة علم العالم"؛ ف"لعل" مستعار للإرادة على مذهبه، كما أن {لِيَبْلُوَكُمْ} مستعار للعلم الخاص فيما نحن بصدده؛ فقوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ} ، متعلق بـ {خَلَقَ} ، أي: خلق الموت ليكون جوازًا إلى دار الجزاء، وخلق الحياة لتكون ذريعة إلى فعل ما يترتب عليه الجزاء في تلك الدار، فمن أطاع وشكر أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه.

قوله: (لا، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسد المفعولين)، قيل: إن قولنا: علمت أزيد منطلق، تعليق للفعل عن العمل، ومن شرط التعليق أن لا يذكر شيء من المفعولين، إذ

ص: 530

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لو قلت: علمت القوم أيهم أفضل، لم يكن تعليقًا، وها هنا {لِيَبْلُوَكُمْ} أخذ مفعوله، فلا يعلق عليه قوله:{أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} .

وقال صاحب"التقريب": "وفيه نظر، لأن المضمر هو العلم، فلا يلزم ذكر المفعول معه، بل التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم. وأيضًا لا تقع الجملة الاستفهامية مفعولًا ثانيًا ل"علمت"، وإنما يقع موقع المفعولين في: علمت أيهم خرج؟ لأن المعنى: علمت جواب هذا الاستفهام، ولا يقدر مثله في: علمته أيهم خرج؟ إذ لا معنى لقولك: علمته جواب هذا الاستفهام. وأيضًا ذكر في"هود" في {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، أنه تعليق".

وقال الزجاج: "المتعلق بـ {أَيُّكُمْ} مضمر، أي: ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملًا.

وارتفعت "أي" بالابتداء قال: "فيه وجهان: أحدهما قول الفراء والزجاج: إن المتعلق مضمر، وثانيهما قول صاحب "الكشاف": {لِيَبْلُوَكُمْ} في معنى ليعلمكم، أي: ليعلمكم أيكم أحسن عملًا".

وقلت: فالمصنف ذهب في "هود" إلى مذهب الفراء والزجاج، واختار هاهنا مذهبًا آخر، وهو صحيح من حيث العربية، لأن باب التضمين باب واسع، وإليه الإشارة بقوله:"من حيث إنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملًا".

ص: 531

ألا ترى أنه لا فضل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدرا بحرف الاستفهام وغير مصدر به، ولو كان تعليقا لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك: علمت أزيد منطلق، وعلمت زيدا منطلقا. {أَحْسَنُ عَمَلًا}: قيل: أخلصه وأصوبه؛ لأنه إذا كان خالصا غير صواب لم يقبل، وكذلك إذا كان صوابا غير خالص؛ فالخالص: أن يكون لوجه الله تعالى؛ والصواب: أن يكون على السنة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما قوله: "لا تقع الجملة الاستفهامية مفعولًا ثانيًا" فضعيف، لأنها إذا وقعت مفعولًا أول في قوله تعالى:{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم: 69]، أي: لننزعن الذين يقال في حقهم: أيهم أشد، كما هو مذهب الخليل، كيف يمتنع وقوعها مفعولًا ثانيًا بالتأول، أي: ليعلمكم الذين يقال في حقهم: أيهم أحسن عملًا. وقد أنصف صاحب "الانتصاف" حيث قال: "التعليق عن أحد المفعولين فيه خلاف، والأصح هو الذي اختاره الزمخشري، وهذا النحو عشه فيه يدرج، ويدري كيف يدخل ويخرج".

قوله: (أخلصه وأصوبه)، الراغب:"الخالص كالصافي، إلا أن الخالص هو ما زال عنه شربه بعد أن كان فيه، وحقيقة الإخلاص التعري عن كل ما دون الله، والتبري عما سوى الله". والصواب ضد الخطأ والعدول عن الطريق المستقيم، ولصعوبته ورد في الحديث:"استقيموا ولن تحصوا".

ص: 532

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلاها، فلما بلغ قوله:{أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال: "أيكم أحسن عقلا، وأروع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله"، يعني: أيكم أتم عقلا عن الله وفهما لأغراضه؛ والمراد: أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وتستمكنون منه، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، لأن وراءه البعث والجزاء الذي لابد منه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: وبالنظر إلى قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، وقوله:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]، قال المصنف:"والصواب أن يكون على السنة"، وأبى قبول العمل إلا بها وبالإخلاص. ويفهم منه: إذا راعى المكلف في أعماله الفرائض والواجب فقط ولم يكملها بالسنن، سقط عنه الفرض لكن لم يقبل منه لتخطيه الصواب؛ على ذلك ما روينا عن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر"، قالوا: وما العذر؟ قال: "خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى".

وفي الحديث دليل على وجوب حضور الجماعة، وأن لا رخصة في ترك الجماعة لأحد إلا من عذر. وقال عطاء: ليس لأحد من خلق الله في الحضر والقرية رخصة إذا سمع النداء، في أن يدع الصلاة: أي: في الجماعة. وقال الأوزاعي: لا طاعة للوالد في ترك الجمعة والجماعات.

وقال بعض أصحاب الشافعي: الجماعة فرض عل الكفاية لا على الأعيان، ولا يمتنع العبد عن الجماعة بغير علة. وقد سبق في سورة الجمعة مستوفى تحقيقه.

قوله: (أيكم أتم عقلا عن الله)، أي: أتم فهما لما يصدر عن جناب الله، وأكمل ضبطًا لما يأخذ عن خطابه، يدل عليه عطف قوله:"وفهما لأغراضه" على عقلًا"، على سبيل التفسير.

ص: 533

وقدم الموت على الحياة، لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل، من نصب موته بين عينيه، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم {وهُوَ العَزِيزُ}: الغالب الذي يعجزه من أساء العمل {الغَفُورُ} لمن تاب من أهل الإساءة. {طِبَاقًا} : مطابقة بعضها فوق بعض، من طابق النعل: إذا خصفها طبقا عن طبق، وهذا وصف بالمصدر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم)، "فيما يرجع" متعلق بـ"أهم".

والظاهر أن قوله: "فقدم"، قد عطف على "قدم الموت على الحياة" على سبيل التعقيب، نحو:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54]، يعني: المراد من قوله {خَلَقَ المَوْتَ والْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]، أنه أعطاكم الحياة

إلى آخره، وقدم الموت على الحياة، لأن الموت أقوى الدواعي إلى العمل، فقدم ليتبين أن الذي سيق له الآية، البعث على العمل، والإخلاص فيه، وتحري الصواب له.

ولعمري، إن من جعل الموت نصب عينيه، زهد في الدنيا ولذاتها، ورغب في الآخرة وأناب إلى الجنة ونعيمها؛ روينا عن الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استحيوا من الله حق الحياء"، قلنا: إنا نستحي من الله يا رسول الله والحمد لله، قال:"ليس ذلك! ولكن الاستحياء من الله تعالى حق الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى؛ فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء".

قوله: (وهذا وصف بالمصدر)، قيل: هو مشكل، لأنه لو كان صفة لكان مجرورًا صفة للمضاف إليه، أي: سبع سموات طباقًا، كما في قوله:{سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: 43]، لأن الصفة في الأعداد تكون للمضاف إليه، ولو قيل: هو حال لكان وجهًا، لأن {سَبْعَ سَمَوَاتٍ} معرفة لشمولها كلها، وهو قريب مما ذكر في قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ

ص: 534

أو على ذات طباق، أو على: طوبقت طباقا. {مِن تَفَاوُتٍ} وقرئ "من تفوت"، ومعنى البناءين واحد، كقولهم: تظاهروا من نساءهم وتظهروا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وَشَهِيدٌ} [ق: 21]، من أن محل {مَعَهَا سَائِقٌ} النصب على الحال من {كُلُّ} لتعرفه بالإضافة إلى ما هو حكم المعرفة، وذلك أن النفس بالإضافة صارت شامة لجميع النفوس.

وقلت: ما خطر هناك أن يوصف المضاف المضاف به، بل سأل عن التفاوت بين أن يكون {سِمَانٍ} صفة للبقرات، وأن يكون صفة للسبع. ولا ارتياب أن وصف البقرات بالسمان والعجاف أولى من وصف الأعداد بها، كما أن وصف الأعداد بالطباق، أخرى من وصف السماء به، لاقتضاء كل ما يناسبه. على أن قوله:"وهذا وصف بالمصدر"، لا ينافي إرادة الحال، نحوه قوله في قوله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]: " {هَوْنًا}: حال أو صفة للمشي، يعني: هينين، أو مشيًا هينًا. إلا أن في وضع المصدر موضع صفة مبالغة"؛ وإنما يكون مبالغة إذا وضع"هينًا" موضع"هينين"، لأنه حينئذ وصف للذات بالمصدر، بخلاف إذا جعل وصفًا للمصدر ويقال: مشيًا هونًا، والوجه هو الأول. ولأن قوله {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} يشد من عضده، كما قال:"هي صفة مشايعة لقوله: {طِبَاقًا} "، يعني احتمل {طِبَاقًا} أن يكون صفة، وأن يكون مصدرًا لمضمر، رجح الأول مجيء قوله {مَّا تَرَى} الآية.

الأساس: "هذا بهذا: قواه به". النهاية: "في حديث الضحايا: نهى عن المشيعة" بفتح الياء، أي: التي تحتاج إلى من يشيعها، أي: يسوقها لتأخرها عن الغنم.

قوله: (وقرئ: "من نفوت"): حمزة والسكائي، قال الزجاج:"يقال: تفاوت الشيء تفاوتًا، وتفوت تفوتًا، إذا اختلف".

ص: 535

وتعاهدته وتعهدته، أي: من اختلاف واضطراب في الخلقة ولا تناقض؛ إنما هي مستوية مستقيمة.

وحقيقة التفاوت: عدم التناسب، كأن بعض الشيء يفوت بعضا ولا يلائمه، ومنه قولهم: خلق متفاوت، وفي نقيضه: متناصف.

فإن قلت: كيف موقع هذه الجملة مما قبلها؟

قلت: هي صفة مشايعة لقوله: {طِبَاقًا} ، وأصلها: ما ترى فيهن من تفاوت، فوضع مكان الضمير قوله:{خَلْقِ الرَّحْمَنِ} تعظيما لخلقهن، وتنبيها على سبب سلامتهن من التفاوت؛ وهو أنه خلق الرحمن، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفي نقيضه: متناصف)، الجوهري: "تناصفوا، أي: أنصف بعضهم بعضًا من نفسه، قال:

أني غرضت إلى تناصف وجهها .... غرض المحب إلى الحبيب الغائب

يقال: غرضت إليه: أي اشتقت إليه، أي: بلغ استواء محاسن وجهها حدًا، كأن بعض أعضاء الوجه أنصف بعضًا في أخذ القسط من الجمال".

قوله: (وأنه بباهر قدرته)، أي: بقدرته الغالب الكامل، وذلك لأن "الرحمن" مرادف لاسم الله الأعظم في قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، فيكون حكمه حكمه، فدل في مقام القدرة والخلق على كمالهما، فيكون في وضع

ص: 536

مثل ذلك الخلق المتناسب، والخطاب في {مَّا تَرَى} للرسول أو لكل مخاطب. وقوله تعالى:{فَارْجِعِ البَصَرَ} متعلق به على معنى التسبيب؛ أخبره بأنه لا تفاوت في خلقهن، ثم قال:{فَارْجِعِ البَصَرَ} حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة، ولا تبقى معك شبهة فيه. {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} من صدوع وشقوق، جمع فطر وهو الشق، يقال: فطره فانفطر، ومنه: فطر ناب البعير، كما يقال: شق وبزل، ومعناه: شق اللحم فطلع. وأمر بتكرير البصر فيهن متصفحا ومتتبعا يلتمس عيبا وخللا {يَنقَلِبْ إلَيْكَ} أي: إن رجعت البصر وكررت النظر، لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل وإدراك العيب، بل يرجع ذلك بالخسوء والحسور، أي: بالبعد عن إصابة الملتمس، كأنه يطرد عن ذلك طردا بالصغار والقماءة، وبالإعياء والكلال لطول الإجالة والترديد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{الرَّحْمَنَ} موضع الضمير، إشعار بأن لا يكون في خلقه السموات من نقصان ولا تفاوت، ثم لا يخلو من إشارة على لفظة (الله) في هذا المقام من نكتة، وهي أن خلق هذه الأجرام العظام نعمة جليلة توجب الحمد على نظرها، لأنها مسارح أنظار المتفكرين، ومهابط أنوار رب العالمين.

قوله: ({مِن فُطُورٍ}: من صدوع)، الراغب:"أصل الفطر الشق طولًا، يقال: فطر فلان كذا فطرًا، وأفطر هو فطورًا، وانفطر انفطارًا، قال تعالى: {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} أي: اختلال ووهي فيه، ومنه الفطرة، وفطر الله الخلق، وهو إيجاد وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال؛ فقوله: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، إشارة منه إلى ما أبدع وركز في الناس من معرفته المشار إليه بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ} [الزخرف: 9]. والفطر: ترك الصوم".

قوله: (إن رجعت البصر وكررت النظر، لم يرجع إليك البصر بما التمسته من رؤية الخلل

ص: 537

فإن قلت: كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرتين اثنتين؟

قلت: معنى التثنية التكرير بكثرة، كقولهم: لبيك وسعديك، تريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض، وقولهم في المثل "دهدرين سعد القين" من ذلك، أي: باطلا بعد باطل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإدراك العيب)، في كلامه إشعار بأن {البَصَرَ} الثاني في موضع المضمر، لقوله:"بل يرجع إليك"، أي: بصرك بما التمسته. الانتصاف: "معنى وضع المظهر موضع المضمر، أن الأبصار التي يدرك بما كل موجود ترجع خاسئة".

قوله: (دهدرين سعد القين) معنى التثنية هل يستنبط من انضمام "سعد القين" بـ"دهدرين"، أو من التثنية في "درين"؟ والوجهان محتملان، قال الميداني: قيل: "الأصل فيه أن العرب تعتقد أن العجم أهل مكر وخديعة، وكانوا يخالطونهم ويتجرون في الدر ولا يحسنون العربية، فوقع إليهم رجل معه خرزات سود وبيض وقال: دودر أي: نوعان من الدر، أو قال: عشرة منه بكذا، ففشوا عنه فوجدوه كاذبًا فيما زعم، فقالوا: ده درين، ثم ضموا إليه "سعد القين" لأنهم عرفوه بالكذب، حتى قالوا: إذا سمعت بسرى القين فإنه مصبح، فجعلوا اللفظين عبارة عن الكذب، وثنوا قولهم: "درين" لمزاوجة "القين"، فإذا أرادوا أن يعبروا ن الباطل تكلموا بهذا. وقال بعضهم: أصله: ده در، فثنوه، عبارة عن تضاعف معنى الباطل والمبالغة فيه، كما جمعوا أسماء الدواهي فقالوا: الأقورين والفتكرين، إشارة إلى اجتماع الشر فيه، وغيروا أوله عن الفتح إلى الضم، ليكونوا قد تصرفوا فيه بوجه ما.

" وموضع المثل نصب بإضمار "أعني" أو"أبصر"، ويجوز أن يكون رفعًا على الابتداء، أي:

ص: 538

فإن قلت: فما معنى {ثُمَّ ارْجِعِ} ؟

قلت: أمره برجع البصر، ثم أمر بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى وبالنظرة الحمقاء وأن يتوقف بعدها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنت صاحب هذه اللفظة، التقدير: أنت سعد القين، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين".

وفي بعض الحواشي: القين: الحداد، ويضرب به المثل في الكذب، ويقال: أكذب من قين، روي عن المصنف أنه قال:"الدهدر، والدهان: الباطل"، والمعنى: جئت يا سعد القين بباطل بعد باطل، وذلك مثل. يقال: أكذب من قين، وذلك لأنه سمى نفسه سعدًا كاذبًا، وكان حدادًا يطرف في القبائل، فإذا كسد سوقه كان يقول: أذهب الليلة، فيتسارعون إلى دفع أسلحتهم وآلاتهم ليصلحها، ويقبلون على التجارة معه خوفًا، فإذا فعلوا ذلك ونفقت سوقه امتنع عن الذهاب، وإنما يقول ذلك تخويفًا لهم، حتى قيل: إذا سمعت بسرى القين، فاعلم أنه مصبح. والأصل: سعد القين، بالرفع على الوصف، والقين: كل عمال بالحديد.

قوله: (وبالنظرة الحمقاء)، وهي النظرة الأولى، لأن الرؤية لا تصل في بدء الأمر إلى الوصف إلا على الإجمال ثم على التفصيل، ولهذا قيل: فلان لم يمعن النظر، وكذا سائر الحواس.

وإن السمع يدرك من تفاصيل الصوت في المرة الثانية، مل لم يدركها في الأولى، قال ابن المقرب:

إذا ما نساء الحي رحن فإنها .... لها النظرة الأولى عليهن والعقب

يقول: إنها النهاية في الجمال، لا تزداد في عين الرائي إلا حسنًا، لأن أول النظرة لا يميز بها الرائي حسن المرأة من قبحها، ومن أدام فيها النظر أمن من ذلك.

ص: 539

ويجم بصره، ثم يعاود ويعاود، ثم إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة، فإنه لا يعثر على شيء من فطور.

[{ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} 5].

{الدُّنْيَا} : القربى؛ لأنها أقرب السموات إلى الناس، ومعناها: السماء الدنيا منكم. والمصابيح: السرج، سميت بها الكواكب، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بأثقاب المصابيح، فقيل: ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها {بِمَصَابِيحَ} ، أي: بأي مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة، وضممنا إلى ذلك منافع آخر:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجم بصره)، يقال: جم الفرس جمًا وجمامًا؛ إذا ذهب إعياؤه، ويقال: أجمم نفسك يومًا أو يومين.

قوله: (بأثقاب المصابيح)، الجوهري:"ثقبت النار تثقب ثقوبًا وثقابة؛ إذا اتقدت، وشهاب ثاقب، أي: مضي".

قوله: (فقيل: ولقد زينا)، عطف على قوله:"سميت بها الكواكب"، وقوله: "والناس إلى آخره: اعتراض.

الراغب: أما قوله: {ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]، وقوله:{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الصافات: 6]، فإشارة إلى الزينة التي تدرك بالبصر التي يعرفها الخاصة والعامة، يدل عليه قوله تعالى:{وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16]. وقال: الزينة الحقيقة ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله لا في الدنيا ولا في الآخرة، فأما ما يزينه في حالة دون حالة فهو من وجه شين. والزينة بالقول المجمل ثلاث: زينة نفسية كالعلم والاعتقادات الحسنة،

ص: 540

أنا جعلناها لأعدائكم الشياطين الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات، وتهتدون بها في ظلمات البر والبحر؛ قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها؛ فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به. وعن محمد بن كعب: والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم، ولكنهم يبتغون الكهانة ويتخذون النجوم علة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وزينة بدنية كالقوة وطول القامة، وزينة خارجية كالمال والجاه. وقوله تعالى:{حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] من النفسية، وقوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32]، فقد حمل على الخارجية، لما روي أن قومًا كانوا يطوفون بالبيت عراة، فنهوا بها عنه، وقيل زينة الله هي الكرم المذكور في قوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقال:

وزينة المرء حسن الأدب".

قوله: (قال قتادة: خلق الله النجوم)، وفي صحيح الإمام البخاري عن قتادة تعليقًا، قال:"خلق الله هذه النجوم لثلاث، إلى قوله: فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به".

وفي رواية رزين: "وتكلف ما لا يعنيه، وما لا علم له به، وما عجز عن علمه الأنبياء

ص: 541

والرجوم: جمع رجم: وهو مصدر سمي به ما يرجم به. ومعنى كونها مراجم للشياطين: أن الشهب التي تنقض لرمي المسترقة منهم منفصلة من نار الكواكب، لا أنهم يرجمون بالكواكب أنفسها؛ لأنها قارة في الفلك على حالها، وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار، والنار ثابتة كاملة لا تنقص. وقيل: من الشياطين المرجومة من يقتله الشهاب، ومنهم من يخبله. وقيل: معناه: وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم النجامون. {وأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} في الآخرة بعد عذاب الإحراق بالشهب في الدنيا.

[{ولِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وبِئْسَ المَصِيرُ * إذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَاتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ * إنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وأَجْرٌ كَبِيرٌ} 6 - 12].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والملائكة. وعن الربيع مثله وزاد: والله ما جعل الله في نجم حياة أحد، ولا رزقه، ولا موته، وإنما يفترون على الله الكذب، ويتعللون بالنجوم"، وأورده صاحب "جامع الأصول" في كتابه، ولبعضهم:

لك ألف معبود مطاع أمرهم .... دون الإله وتدعي التوحيدا

قوله: (ظنونًا ورجومًا بالغيب)، الراغب: "الرجام: الحجارة، والرجم: الرمي بها، قال تعالى:{وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91]، ويستعار للرمي بالظن والتوهم، وللشتم وللطرد نحو:{رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22]، {لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]، أي: لأقولن

ص: 542

{ولِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} أي: ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم {عَذَابُ جَهَنَّمَ} ليس الشياطين المرجومين مخصوصين بذلك. وقرئ: "عذاب جهنم" بالنصب عطفا على {عَذَابَ السَّعِيرِ} . {إذَا أُلْقُوا فِيهَا} أي: طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة، ويرمى له، ومثله قوله تعالى:{حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا}: إما لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها، أو من أنفسهم، كقوله:{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وشَهِيقٌ} [هود: 106]، وإنما للنار تشبيها لحسيسها المنكر الفظيع بالشهيق {وهِيَ تَفُورُ} تعلي بهم غليان المرجل بما فيه. وجعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فيك ما تكره. والشيطان الرجيم: المطرود، والمراجمة: المسابة الشديدة، استعارة كالمقاذفة، والترجمان: تفعلان، منه".

قوله: (بالنصب، عطفًا على {عَذَابَ السَّعِيرِ})، قال الزجاج:"أي: أعتدنا لهم عذاب السعير، وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم". قال أبو البقاء: "قرئ: {عَذَابُ} بالرفع على الابتداء، والخبر "للذين"، ويقرأ بالنصب عطفًا على {عَذَابَ السَّعِيرِ} ".

قوله: (وجعلت كالمغتاظة عليهم)، الراغب: "الغيظ أشد الغضب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دم قبله، قال تعالى:{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل: عمران: 119]، فإذا وصف الله تعالى به، فإنها يراد به الانتقام. والتغيظ: هو إظهار الغيظ، وقد يكون ذلك مع صوت مسموع، كما قال تعالى:{سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان: 12]، والغضب: ثوران دم

ص: 543

ويقولون: فلان يتميز غيظا ويتقصف غضبا، وغضب فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء، إذا وصفوه بالإفراط فيه. ويجوز أن يراد: غيظ الزبانية. {أَلَمْ يَاتِكُمْ نَذِيرٌ} توبيخ يزدادون به عذابا إلى عذابهم وحسرة إلى حسرتهم. وخزنتها: مالك وأعوانه من الزبانية {قَالُوا بَلَى} اعتراف منهم بعدل الله، وإقرار بأن الله عز وعلا أزاح عللهم ببعثة الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه، وأنهم لم يؤتوا من قدرة كما تزعم المجبرة؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القلب إرادة الانتقام"، ولذلك جاء: "اتقوا الغضب فإنه جمرة في قلب ابن آدم، ألم تر إلى انتفاخ أوداجه وحمزة عينيه".

قوله: (يتميز غيظًا ويتقصف غضبًا)، الراغب:"الميز والتمييز: الفصل بين المتشابهات، يقال: مازه يميزه ميزًا وميزه تمييزًا. والتمييز يقال تارة للفصل، وتارة للقوة التي في الدماغ، وبها تستنبط المعاني، ومنه يقال: فلان لا تمييز له، ويقال: انماز وامتاز، قال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59]، وتميز كذا: انفصل وانقطع، قال: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} ".

قوله: (لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة)، يريد أن قولهم:{بَلَى} تقرير للمنفي، و {قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} قول بالموجب، يعني أن الله تعالى ما أبقى من الإرشاد والهداية شيئًا إلا فعل وقولهم {فَكَذَّبْنَا وقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} ، إقرار بأن التكذيب إنما نشأ من قبل أنفسهم.

تلخيصه: أنهم أتوا من قبل أنفسهم لا من قضاء الله وقدره.

واعلم أن الجواب والسؤال مبني على ظاهر الحال، وإثبات الكسب للعبد. وقولهم:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} إثبات للقدر. قال الإمام: "احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال، قالوا: "لو" تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره، فدلت الآية

ص: 544

وإنما أتوا من قبل أنفسهم واختيارهم خلاف ما اختار الله وأمر به وأوعد على ضده.

فإن قلت: {إنْ أَنتُمْ إلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} من المخاطبون به؟

قلت: هو من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين، على أن النذير بمعنى الإنذار، والمعنى: ألم يأتكم أهل نذير، أو وصف منذروهم لغلوهم في الإنذار، كأنهم ليسوا إلا إنذارا؛ وكذلك {قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} ، ونظيره قوله تعالى:{إنَّا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ} [الشعراء: 16]، أي: حاملا رسالته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على أنه ما كان لهم سمع ولا عقل، ولا شك أنهم كانوا ذوي أسماع وعقول صحيحة، فالمراد أنه ما كان لهم سمع الهداية ولا عقل الهداية".

قوله: (واختيارهم خلاف ما اختار الله وأمر به) فيه إشارتان إلى مذهبه: إحداهما: في إيقاع"خلاف" مفعول "واختيارهم" إشارة إلى أن اختيارهم وإرادتهم غلب اختيار الله وإرادته. وثانيها: في عطف "وأمر به وأوعد" على" ما اختار الله" على سبيل البيان، إشعار بأن الإرادة والأمر متحدان.

قوله: (على أن النذير بمعنى الإنذار)، يعني: إنما يستقيم هذا أن يكون من جملة قول الكفار، والمخاطبون الرسل، إذا جعل {نَذِيرٌ} في قوله تعالى:{أَلَمْ يَاتِكُمْ نَذِيرٌ} ، وقوله:{بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} بمعنى الإنذار؛ إما بتقدير مضاف، أي: أهل نذير، أو مبالغة في أن الرسل عين الإنذار، لأن الخطاب بقوله:{أَنتُمْ} للجماعة. وأما إذا كان من كلام الخزنة للكفار، أو من كلام الرسل لهم، فلم نحتج إلى هذا التأويل، ويكون الوقف على قوله:{مِن شَيءٍ} حسنًا، وقوله:{إِنْ أَنتُمْ} استئناف على تقدير القول.

قوله: ({إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ})، الجوهري:"ولم يقل: "رسل"، لأن فعولًا وفعيلًا يستوي فيهما المذكر والمؤنث، والواحد والجمع".

ص: 545

ويجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول: أرادوا حكاية ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا، أو أرادوا بالضلال الهلاك، أو سموا عقاب الضلال باسمه، أو من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة، أي: قالوا لنا هذا فلم نقبله.

{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} الإنذار سماع طالبين للحق، أو نعقله عقل متأملين. وقيل: إنما جمع بين السمع والعقل؛ لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل.

ومن بدع التفاسير: أن المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي. كأن هذه الآية نزلت بعد ظهور هاتين المذهبين، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم، وكأن من كان من هؤلاء فهو من الناجين لا محالة؛ وعدة المبشرين من الصحابة عشرة، لم يضم إليهم حادي عشر، وكأن من يجوز على الصراط أكثرهم لم يسمعوا باسم هذين الفريقين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإنما جمع بين السمع والعقل، لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل)، الانتصاف:"إن أراد أن الأحكام التكليفية مستفادة من العقل، فهو من العقائد الفاسدة. وإن عنى أن العقل يرشد إلى العقائد الصحيحة، والسمع يخص الأحكام الشرعية، فهو حق".

قوله: (على مذهب أصحاب الحديث وأصحاب الرأي)، أي: أصحاب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم.

قوله: (وعدة المبشرين)، يعني يلزم من هذا أن يتجاوزوا النص بالعشرة إلى أزيد، وفيه بحث، لأن عبد الله بن سلام وغيره من المبشرين ليسوا من العشرة.

ص: 546

{بِذَنْبِهِمْ} بكفرهم في تكذيبهم الرسل. {فَسُحْقًا} قرئ بالتخفيف والتثقيل، أي فبعدا لهم، اعترفوا أو جحدوا؛ فإن ذلك لا ينفعهم.

[{وأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} 13 - 14].

ظاهره الأمر بأحد الأمرين: الإسرار والإجهاد. ومعناه: ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما، ثم إنه علله بـ {إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، أي: بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها، فكيف لا يعلم ما تكلم به؟ ! ثم أنكر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({فَسُحْقًا}: قرئ بالتخفيف والتثقيل)، الكسائي: بضم الحاء، والباقون: بإسكانها.

قوله: (ظاهره الأمر بأحد الأمرين)، وهو كقوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وقول كثير رحمه الله:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

قوله: (ثم إنه علله) إلى قوله: (ثم أنكر)، بيان النظم يعني: قوله: {إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليل لكونه عالمًا بما يسرونه ويجهرونه، وقوله:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} ، تعليل إحاطة علمه بجميع الكائنات جزئيًا وكليًا، ظاهرًا وباطنًا، على الإنكار. والجملة تذييل، وقوله:{وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} حال مقررة لجهة الإشكال، وإليه الإشارة أولًا بقوله:"ثم أنكر أن لا يحيط علمًا بالمضمر"، وثانيًا بقوله:"ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله".

قال الإمام: "تدل الآية على أن العبد غير موجد لأفعاله، وذلك أنه تعالى لما قرر بأنه

ص: 547

أن لا يحيط علما بالمضمر والمسر والمجهر.

{مَنْ خَلَقَ} الأشياء، وحاله أنه {اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} ، المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن. ويجوز أن يكون {مَنْ خَلَقَ} منصوبا بمعنى: ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله؟

وروي أن المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء، فيظهر الله رسوله عليها، فيقولون: أسروا قولكم لئلا يسمعه إله محمد فنبه الله على جهلهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عالم بالسر والجهر وبكل ما في الصدور، قال بعده:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} . وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله لو كان تعالى خالقًا لكل ما يفعلونه في السر والجهر، وفي القلوب وفي الصدور، فإنه لو لم يكن خالقًا لها، لم يكن قوله:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} مقتضيًا كونه تعالى عالمًا بتلك الأشياء.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} الأجسام، فيلزم منه أن يكون عالمًا بهذه الأشياء؟ قلنا: إنه لا يلزم من كونه خالقًا لغير هذه الأشياء، كونه عالمًا بها، لأن من يكون فاعلًا بشيء لا يجب أن يكون عالمًا بشيء آخر، نعم يلزم من كونه خالقًا لها كونه عالمًا بها، لأن خالق الشيء يجب أن يكون عالمًا به".

وقلت: إنما يلزم ذلك إن لم يقيد {خَلَقَ} بقوله: {وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} ، فالمعنى: خلق الأجسام وهو عالم بأحوالها ما ظهر منها وما بطن، وإليه أشار المصنف بقوله:"المتصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن".

والحق أن قوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} الآية: كما سبق، تذييل، ومن حقه أن يكون أعم من المذبل به وأشمل منه، فيدخل فيه دخولًا أوليًا، وحينئذ يجب أن يقال: ألا يعلم من خلق الأشياء كما قدره المصنف، لكن نخالف مذهبه على قرره الإمام أولًا.

قوله: (ويجوز أن يكون {مَنْ خَلَقَ}) عطف على قوله: "من خلق الأشياء"، ف"من" على الأول: عبارة عن الفاعل، وعلى الثاني: عن المفعول به.

ص: 548

فإن قلت: قدرت في {أَلا يَعْلَمُ} مفعولا؛ على معنى: ألا يعلم ذلك المذكور مما أضمر في القلب وأظهر باللسان {مَنْ خَلَقَ} ، فعلا جعلته مثل قولهم: هو يعطي ويمنع؛ وهلا كان المعنى: ألا يكون عالما من هو خالق؛ لأن الخلق لا يصح إلا مع العلم؟

قلت: أبت ذلك الحال التي هي قوله: {وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} ، لأنك لو قلت: ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير، لم يكن معنى صحيحا؛ لأن {أَلا يَعْلَمُ} معتمد على الحال، والشيء لا يوقت بنفسه، فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والشيء لا يوقت بنفسه)، أي: المطلق لا يقيد بمطلق مثله، لأن الحال تقييد للفعل المطلق، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، لأن {اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} أخص من العالم على ما فسره، فيكون التقدير: ألا يكون له أصل العلم وهو ينفذ علمه في الظاهر والباطن من خلقه، بل وجه المنع أن ليس الغرض إثبات أصل العلم لأنهم لم ينكروه، بل علمه بما أسروه، فلا بد من تقدير مفعول، ويدل عليه سبب النزول.

وقلت: نظر صاحب "التقريب" أن اللطيف الخبير أخص من العالم على ما فسره بعيد، لأن قوله:"المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن" شامل للمعلومات كلها مفهومًا وازدواجًا على نحو: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فإن الخبير مثل الرحمن، واللطيف مثل الرحيم، لأن العلم المطلق شائع في جنسه، فتكون دلالته على أفراد الجنس، مثل دلالة لام الاستغراق، فيدخل فيه ما دل عليه {اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} .

قال صاحب "المفتاح" في الحالة المقتضية في ترك المفعول: "والقصد إلى نفس الفعل، [بـ] تنزيل المتعدي منزلة اللازم ذهابًا في نحو: فلان يعطي، إلي معنى: يفعل الإعطاء، أي:

ص: 549

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يوجد هذه الحقيقة إيهامًا للمبالغة بالطريق المذكورة في إفادة اللام للاستغراق".

وقال حجة الإسلام: "إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها وما لطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف". والخبير: هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة، فلا يجري في الملك والملكوت شيء، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن، ولا تضطرب نفس ولا تطمئن، إلا ويكون عنده خبرها. وهو بمعنى العليم، لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة، سمي خبرة، وسمي صاحبها خبيرًا.

وقال الأزهري: قال الله تعالى: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111]، أي عليم. ويقال "خبرت الأمر أخبره خبرًا، أي: علمته، وما لي به خبر، أي: علم".

فلما تقرر اتفاق العبارتين على ذلك التقدير صح ما قاله، على أن المقام يقتضي إثبات معلوم خاص، وهو ما دل عليه:{وأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} .

الانتصاف: "هذه الآية رد على الزمخشري، فإن العبد لا يخلق أفعال نفسه لأنه لا يعلمها، وهو استدلال بنفي اللازم؛ استدل بثبوت الخلق له تعالى على ثبوت العلم؛ فالوجه في الآية أن {مَنْ} فاعل، ومفعول العلم محذوف وهو السر والجهر، وضمير {خَلَقَ} محذوف عائد إليه، تقديره: ألا يعلم السر والجهر من خلقهما؟ وغير هذا الوجه تكلف".

وقلت: هذا نظر دقيق، يعني: في تخصيص ذكر الخالق دون سائر الأسماء في مقام إثبات

ص: 550

[{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وإلَيْهِ النُّشُورُ} 15].

المشي في مناكبها: مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية؛ لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير، وأنباء عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك. وقيل: مناكبها: جبالها، قال الزجاج: معناه سهل لكم السلوك في جبالها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها فهو أبلغ التذليل. وقيل: جوانبها، والمعنى: وإليه نشوركم، فهو مسائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العلم، إشعار بأن الخالق ينبغي أن يكون عالمًا بما يخلقه وبتفاصيله، وفيه إدماج لمعنى أن العبد غير خالق لأفعاله لأنه لا يعلمها في الأزل.

قوله: (في الذل)، الذل بالكسر: اللين وهو ضد الصعوبة، يقال: دابة ذلول بينة الذل والذل بالكسر: مصدر الذلول، والذل بالضم: مصدر الذليل.

قوله: (لم يترك)، أي: : لم يترك بقية من التذليل.

قوله: (وقيل: مناكبها جبالها)، فعلى هذا: المجاز في المناكب وهي الجبال وحدها، الأساس:"ومن المجاز: سرنا في منكب من الأرض والجبل: في ناحية". فقوله: {ذَلُولاً} تشبيه لذكر المشبه والمشبه به، أي: الأرض والذلول. وقوله: {مَنَاكِبِهَا} : استعارة تمثيلية أو تحقيقية، لأن القصد الأرض، إما ناحيتها أو جبالها؛ فنسبة الذلول إليها ترشيح، ونسبة المشي تجريد.

الراغب: "المنكب: مجتمع ما بين العضد والكتف. ومنه استعير للأرض المنكب في قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا}، كما استعير لها الظهر في قوله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]، ومنكب القوم: رأس العرفاء، مستعار من الجارحة استعارة الرأس للرئيس، واليد للناصر".

ص: 551

[{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * ولَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * أَوَ لَمْ يَرَوْا إلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ ويَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إلاَّ الرَّحْمَنُ إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} 16 - 19].

{مَّن فِي السَّمَاءِ} فيه وجهان: أحدهما من ملكوته في السماء؛ لأنها مسكن ملائكته، وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه.

والثاني: أنهم كانوا يعتقدون التشبيه، وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه، وكانوا يدعونه من جهتها، فقيل لهم على حسب اعتقادهم: أأمنتم من تزعمون أنه في السماء، وهو متعال عن المكان، أن يعذبكم بخسف أو بحاصب؟ كما تقول لبعض المشبهة: أما تخاف من فوق العرش أن يعاقبك بما تفعل؟ إذا رأيته يركب بعض المعاصي! {فَسَتَعْلَمُونَ} قرئ: بالتاء والياء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن يعذبكم بخسف أو بحاصب)، قال الراغب في "غرة التأويل": لم قدم التوعد بالخسف على التوعد بالحاصب؟ وأجيب أنه لما كانت أنه لما كانت الأرض التي مهدها لهم لاستقرارهم، يعبدون عليها غير خالقها، فعبدوا الأصنام التي هي من شجرها أو من حجرها، خوفوا بما هو أقرب إليهم. والتخويف بالحاصب من السماء التي هي مصاعد كلمهم الطيبة، ومعارج أعمالهم الصالحة، لأجل أنهم بدلوهما بسيئات كفرهم وقبائح أعمالهم".

قوله: ({فَسَتَعْلَمُونَ})، قرئ بالتاء وهي المشهورة، وبالتاء التحتانية شاذة.

ص: 552

{كَيْفَ نَذِيرِ} أي: إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم.

{صَافَّاتٍ} باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها؛ لأنهن إذا بسطتها صففن قوادمها صفا، {ويَقْبِضْنَ} ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن.

فإن قلت: لم قيل: {ويَقْبِضْنَ} ، ولم يقل: وقابضات؟

قلت: لأن أصل الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها. وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك، فجئ بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل، على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح.

{مَا يُمْسِكُهُنَّ إلاَّ الرَّحْمَنُ} بقدرته وبما دبر لهن من القوادم والخوافي،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{فَسَتَعْلَمُونَ} الأخيرة [الملك: 29]: الكسائي بالياء التحتانية، والباقون بالتاء.

قوله: (فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل)، الانتصاف:"ويلاحظه {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} [ص: 18 - 19]، حيث لم يقل: مسبحات".

قوله: (من القوادم والخوافي)، قوادم الطير: مقاديم ريشه، وهي عشرة في كل جناح، والخوافي: ما دون الريشات العشر من مقدم الجناح.

ص: 553

وبنى الأجسام على شكل وخصائص قد تأتى منها الجري في الجو، {إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب.

[{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ الكَافِرُونَ إلاَّ فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ ونُفُورٍ} 20 - 21].

{أَمَّنْ} يشار إليه من الجموع ويقال {هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ} الله إن أرسل عليكم عذابه {أَمَّنْ} يشار إليه ويقال: {هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} ، وهذا على التقدير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهذا على التقدير)، أي: هذا التأويل على تقدير جمع من الجموع في الذهن لمفهوم {جُندٌ} ، وجعله مشارًا إليه، قال في قوله تعالى:{قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]: "قد تصور فراق بينهما، فأشار إليه، وجعله مبتدأ وأخبر عنه، ويجوز أن يكون إشارة إلى السؤال الثالث". وعلى هذين الوجهين ينبني كلامه هاهنا، وإلى الثاني أشار بقوله:"ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان"، والقرينة حضورها بين أيديهم يعبدونها.

والفرق بين الوجهين، أن الكفرة ما كانوا يعتقدون وجود جمع غير الأصنام ينصرونهم ويرزقونهم، فوجب أن يقدر ويفرض بخلاف الأصنام، يدل عليه قوله في الوجه الثاني:"لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون". هكذا ينبغي أن يتصور هذا المقام ولا تتبع الأوهام، لأن التقدير: هذا التأويل الذي ذكرته مبني على أن المشار إليه جند مقدر مفروض، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان، فلا يكون حينئذ مقدرًا مفروضًا.

قال أبو البقاء وصاحب "الكشف": "من" مبتدأ، و {هَذَا} خبره، و {الَّذي} وصلته

ص: 554

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نعت لـ {هَذَا} ، و {يَنصُرُكُم} نعت لـ {جُندٌ} محمول على اللفظ، ولو جمع على المعنى لجاز". فعلى هذا "من" استفهامية، فلا يجوز أن يكون "أم" منقطعة، لئلا يلزم اجتماع استفهامين؛ فلذلك قال القاضي:{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي} ، عديل لقوله:{أَوَ لَمْ يَرَوا} ، على معنى: أو لم تنظروا في أمثال هذه الصنائع، ولم تعلموا قدرتنا على تعذيبكم بنحو خسف وإرسال حاصب، أم لكم جند ينصركم من دون الله إن أرسل عليكم عذابه؟ فهو كقوله:{أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء: 43]، إلا أنه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصركم، إشعارًا بأنهم اعتقدوا هذا القسم.

وقلت: الظاهر من كلام المصنف أن "من" موصولة، و {هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ} صلتها، على تأويل:"ويقال: هذا الذي يرزقكم"، لأنه عطف تفسيري للصلة، فلو كانت استفهامية لكانت داخلة في حيز القول، وكأن تقديره: يقال في حقه: من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الله، فحينئذ يحتمل أن تكون"أم" متصلة، والقرينة محذوفة بشهادة سياق الكلام، كما في قوله تعالى:{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ} [البقرة: 133].

ولكن الوجه أن يكون "أم" متصلة، على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ} ، فالمعنى: آلله الذي له هذه الأوصاف الكاملة والقدر الباهرة، ينصركم وينجيكم من الخسف والحصب وغيرهما إذا أصابتكم، أم الذي يشار إليه ويقال في حقه: هذا الحقير؛ الذي تزعمون أنه جندلكم ينصركم من دون الله؟ آلله الرزاق ذو القوة المتين يرزقكم في السنين المجدبة، أم الذي يقال في حقه:

ص: 555

ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم، فكأنهم الجند الناصر والرازق، ونحوه قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا} [الأنبياء: 43]. {بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ ونُفُورٍ} بل تمادوا في عناد وشراد عن الحق لثقله عليهم فلم يتبعوه.

[{أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًا عَلَى وجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ والأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وإلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 22 - 24].

يجعل (أكب) مطاوع (كبه)، يقال: كببته فأكب، من الغرائب والشواذ. ونحوه: فشعت الريح السحاب فأقشع،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا الضعيف المهين؛ الذي تدعون أنه يرزقكم؟ ثم أوقع {إنِ الكَافِرُونَ إلاَّ فِي غُرُورٍ} اعتراضًا، وضعًا للمظهر موضع المضمر تسجيلًا على غرورهم، وتجهيلًا بعد تجهيل.

ويمكن أن تجعل "أم" منقطعة ويقال: قل يا محمد، الم تنظروا في أمثال هذه الصنائع العجيبة، حتى تعرفوا أنه هو وحده قادر على الخسف، وإرسال الحاصب، وعلى إنجائكم منها؟ ثم أضرب عن ذلك، وقيل: بل أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن، أي: لا تسأل عن ذلك لأنه مفروغ عنه؛ فإنهم كانوا إذا حزبهم خطب عظيم، دعوا الله مخلصين له الدين، دون شهدائهم وأصنامهم، بل سل عن هذا تقريعًا وتوبيخًا.

قوله: (ونحوه قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الأنبياء: 43]، مثل للوجه الثاني، وهو أن يكون المشار إليه الأصنام.

ص: 556

وما هو كذلك؛ ولا شيء من بناء (أفعل) مطاوعا، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة "كتاب سيبويه"؛ وإنما (أكب) من باب (أنفض، وألام)، ومعناه: دخل في الكب، وصار ذا كب؛ وكذلك أقشع السحاب: دخل في القشع، ومطاوع كب وقشع: أنكب وانقشع.

فإن قلت: ما معنى {يَمْشِي مُكِبًا عَلَى وجْهِهِ} وكيف أقابل {يَمْشِي سَوِيًا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ؟

قلت: معناه: يمشي معتسفًا في مكان متعاد غير مستو فيه انخفاض وارتفاع، فيعثر كل ساعة فيخر على وجهه منكبا، فحاله نقيض حال من يمشي سويا، أي: قائما سالما من العثور والخرور، أو مستوى الجهة قليل الانحراف، خلال المعتسف الذي ينحرف هكذا وهكذا على طريق مستو.

ويجوز أن يراد الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وما هو كذلك)، رد لمن يجعل "أكب" مطاوع "كبه".

قوله: (من باب أنفض وألام)، الجوهري:"أنفض القوم: إذا هلكت أموالهم، وأنفضوا أيضًا_ مثل أرملوا_: إذا فني زادهم، وألام الرجل: إذا أتى بما يلام عليه".

قوله: (في مكان متعاد)، الجوهري:"نمت على مكان متعاد؛ إذا كان متفاوتًا ليس بمستو، يقال: هذه أرض متعادية ذات حجرة ولخاقيق. الجحرة بكسر الجيم وفتح الحاء: جمع حجر، واللخقوق: شق الأرض".

قوله: (أو مستوي الجهة)، عطف على قوله:"قائمًا".

قوله: (هكذا وهكذا)، بيان انحرافه، أي: يمينًا وشمالًا، وهما منصوبان على المصدر، أو على الظرف.

قوله: (ويجوز أن يراد)، عطف على قوله:"معناه: يمشي معتسفًا" يعني: طريق مراعاة

ص: 557

فلا يزال ينكب على وجهه، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصر الماشي في الطريق المهتدى له، وهو مثل للمؤمن والكافر.

وعن قتادة: الكافر أكب على معاصي الله تعالى فحشره الله يوم القيامة على وجهه، وعن الكلبي: عني به أبو جهل بن هشام. وبالسوي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: حمزة بن عبد المطلب.

[{ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إنَّمَا العِلْمُ عِندَ اللَّهِ وإنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} 25 - 27].

{فَلَمَّا رَأَوْهُ} الضمير للوعد، والزلفة: القرب، وانتصابها على الحال أو الظروف، أي: رأوه ذا زلفة أو مكانا ذا زلفة. {سِيئَتْ وجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ساءت رؤية الوعد وجوههم بأن علتها الكآبة وغشيها الكسوف والقترة، وكلحوا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التقابل بين قوله تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًا عَلَى وجْهِهِ أَهْدَى} ، وبين قوله:{أَمَّن يَمْشِي سَوِيًا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} ، هو أن الماشي على الطريق إما أن يكون صحيح البصر أو فاقده. وعلى الأول: الطريق+ إما أن يكون معتسفًا غير مستو، والسالك إما أن يكون غير عارف بالطريق، فيعثر كل ساعة فيخر على وجه مكبًا، أو يكون عارفًا خريتا يمشي في هذا الطريق قائمًا سالمًا من الخرور والعثور. وإما أن يكون متعبدًا مستوي الجهة، والعارف يمشي فيها سويًا، والجاهل ينحرف فيها هكذا وهكذا. وعلى الثاني ظاهر.

واعلم أن {سَوِيًا} إذا فسر بـ"قائما"، كان التقابل بينه وبين {مُكِبًا} ظاهرًا، وإذا فسر بـ"مستوي الجهة" أي: جهة مستويًا كان معنويًا، وكان {عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} كالتأكيد له، كما أن {عَلَى وجْهِهِ} تأكيد لـ {مُكِبًا} . وإذا جعل {سَوِيًا} بمعنى "قائمًا"، كان تأكيدًا معنويًا.

قوله: (المهتدي له)، اللام متعلق بـ"المهتدي"، والضمير يعود إلى "الطريق"، وهو في مقابلة "لا يهتدي إلى الطريق"؛ فاستعمل "الهدى" تارة بـ"إلى"، وأخرى باللام.

ص: 558

وكما يكون وجه من يقاد إلى القتل أو يعرض على بعض العذاب. {وقِيلَ} القائلون: الزبانية {تَدَّعُونَ} تفتعلون؛ من الدعاء، أي تطلبون وتستعجلون به. وقيل: هو من الدعوى، أي: كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون. وقرئ: "تدعون".

وعن بعض الزهاد: أنه تلاها في أول الليل في صلاته، فبقي يكررها وهو يبكي إلى أن نودي لصلاة الفجر، ولعمري إنها لوقادة لمن تصور تلك الحالة وتأملها.

[{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ ومَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 28].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: كنتم بسببه تدعون)، يريد أن {بِهِ} متعلق بـ {تَدَّعُونَ} ، وهو إما بمعنى الدعاء، والباء صلته للتضمين، أو بمعنى الدعوى والباء للتسبيب.

قوله: (وقرئ: "تعدعون")، قال ابن جني:"وهي قراءة أبي رجاء، والحسن، وقتادة وغيرهم. أي: هذا الذي تدعون الله أن يوقعه بكم، كقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] ".

قوله: (لوقاذة)، بالذال المعجمة، الجوهري:"وقذه يقذه وقذًا: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت، وشاة موقوذة: قتلت بالخشبة". وقيل: الآية المتلوة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} ، قال الواحدي:"معنى الآية: إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب؟ أي: أنه لا رجاء لكم كما للمؤمنين". ولعل الزاهد التالي في صلاته ذهب إلى أن القائل بهذا إذا كان رسول الله القائل بهذا إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة الكرام مع جلالتهم، فما بالنا؟

ص: 559

كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك، فأمر بأن يقول لهم: نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين: إما أن نهلك كما تتمنون فننقلب إلى الجنة، أو نرحم بالنصرة والإدالة للإسلام كما نرجو، فأنتم ما تصنعون؟ من يجيركم وأنتم كافرون من عذاب النار؟ لابد لكم منه، يعني: إنكم تطلبون لنا الهلاك الذي هو استعجال للفوز والسعادة، وأنتم في أمر هو الهلاك الذي لا هلاك بعده، وأنتم غافلون لا تطلبون الخلاص منه.

أو أن أهلكنا الله بالموت فمن يجيركم بعد موت هداتكم والآخذين بحجزكم من النار؟ وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم وقتلكم فمن يجيركم؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والإدالة للإسلام)، الجوهري:"الإدالة: الغلبة، اللهم أدلني على فلان وانصرني عليه". واعلم أن قوله تعالى: {فَمَن يُجِيرُ} ، جزاء للشرط على سبيل الاستخبار مع الإنكار، وذكر فيه وجوهًا ثلاثة، جعل في الوجهين الأخيرين لكان من الإهلاك والإجارة جزاء وشرطًا على حياله، وفي الأول جعل الجزاء مشتركًا، لأنه أخذ الزبدة من المعطوف والمعطوف عليه في الجزاء، وجعلهما كالشيء الواحد، وهو تربص إحدى الحسنيين مفسر بهما أو بالموت، ولذلك أتى في الجواب بقوله:"فأنتم ما تصنعون؟ ". وأما قوله: "فمن يجيركم"، فجملة مستأنفة مبينة للجواب.

وحاصل الوجوه الثلاثة راجع إلى أن هناك والرحمة في الآية إما مؤولان بالشهادة والنصرة، لأن الحسنيين في قوله تعالى:{إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] مفسر بهما، أو بالموت وما يقابله من الإمهال، أو بالعذاب وما يقابله من الرحمة.

قوله: (أو إن أهلكنا)، عطف على قوله:"إما أن نهلك".

قوله: (بعد موت هداتكم والآخذين بحجزكم)، الهداة: جمع الهادي، والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو مقتبس مما روينا عن البخاري رحمه الله، ومسلم والترمذي، عن أبي هريرة

ص: 560

فإن المقتول على أيدينا هالك؟ أو أن أهلكنا الله في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون، فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم؛ وإن رحمنا بالإيمان فمن يجير من لا إيمان له؟

[{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} 29].

فإن قلت: لم أخر مفعول {آمَنَّا} وقدم مفعول {تَوَكَّلْنَا} ؟

قلت: لوقوع {آمَنَّا} تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم، كأنه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم، ثم قال:{وعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} خصوصا، لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارًا، فلمًا أضاءت ما حوله، جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار تقع فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها". الاقتحام في الشيء: إلقاء النفس فيه برغبة، والحجز جمع حجزة، وهي معقد الإزار، وحجزة السروايل معروفة.

قوله: (لوقوع {آمَنَّا} تعريضًا بالكافرين)، يعني: كان من حق الظاهر أن يقال: فمن يجيركم، لأن الشرط {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ} ، فعدل إلى المظهر إشعاراً بأن الكفر هو سبب الهلاك، وأن الإيمان هو الوسيلة في النجاة، ثم جيء بقوله:{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ} جوابًا عن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ ومَن مَّعِيَ} على سبيل التبكيت، أي: هو الرحمن يجيرنا لأنا آمنا به ولم نكفر كما كفرتم. ولما لم يكن المقصود في الإبراد نفي الشرك وإثبات التوحيد، لأن الكلام في الإهلاك والإنجاء، جيء بقوله:{آمَنَّا بِهِ} على ظاهره.

ص: 561

[{قل أَرَأَيْتُمْ إنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَاتِيكُم بِمَاءٍ مَّعِينٍ} 30].

{غَوْرًا} غائرا ذاهبًا في الأرض. وعن الكلبي: لا تناله الدلاء، وهو وصف بالمصدر كعدل ورضا.

وعن بعض الشطار أنها تليت عنده فقال: تجئ به الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه، نعوذ بالله من الجراءة على الله وعلى آياته.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الملك فكأنما أحيا ليلة القدر".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما قوله: {وعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} ، فالتقديم لأن مقام الخلاص والنجاة يقتضي ناجيًا وناصرًا، وهم كانوا متكلين على الرجال والأموال، فقيل: نحن لا نتكل على ما أنتم متكلون عليه، بل على الرحمن توكلنا خصوصًا، والحمد لله رب العالمين.

قوله: (وعن بعض الشطار)، جمع شاطر، وهو الخبيث الذي عجز أهله. وفي الحواشي: أنه عنى به محمد بن زكريا المتطبب، والله تعالى أعلم بصحته.

تمت السورة

حامدًا لله سبحانه وتعالى ومصليًا على رسوله.

* * *

ص: 562

‌سورة ن

مكية وهي اثنتان وخمسون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{ن والْقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ} 1].

قرئ: {ن والْقَلَمِ} بالبيان والإدغام، وبسكون النون وفتحها وكسرها، كما في {ص} ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة ن

اثنتان وخمسون آية، مكية

إلا {إنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلى {يَعْلَمُونَ} [17 - 33] مدنية

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

قوله: (قرئ: {ن والْقَلَمِ}، بالبيان والإدغام)، وفي "التيسير": "ورش وأبو بكر وابن عامر والكسائي، يدغمون الهجاء في الواو، ويبقون الغنة في {يس} ، وكذلك في {ن والْقَلَمِ} . غير أن عامة أهل الأداء من المصريين، يأخذون في [{ن}] مذهب ورش هناك

ص: 563

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالبيان، والباقون بالبيان للنون في السورتين". قال الزجاج:"والمختار إدغام النون في الواو، كانت النون ساكنة أو متحركة، لأن الذي جاء في التفسير يباعدها من الإسكان والتبيين، لأن من أسكنها وبينها فإنها يجعلها حرف هجاء، والذي يدغمها فجائز أن يدغمها وهي مفتوحة. وجاء في التفسير أن "نون": الحوت الذي دحيت عليه سبع الأرضين، وجاء أيضًا أن النون: الدواة، ولم يجئ في التفسير كما فسرت حروف الهجاء"؛ فالإدغام، كانت حرف هجاء أو لم تكن جائز، والتبيين والإسكان لا يجوز أن يكون فيه غلا حرف هجاء.

وقال المهدوي في "تعليل القراءات": "طس": من قرأ بإظهار النون من هجاء "سين" عند الميم، فحجته أن السكون مقدر في حروف التهجي؛ فإذا قلت:"طسم"، فالسكون مقدر على الطاء وعلى السين وعلى الميم، ولذلك لم يعرب. ونظير ذلك أسماء الأعداد في قولهم: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، فيسكنون آخر كل اسم من هذه الأسماء، وهم واصلون لما قدروا

ص: 564

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوقوف على كل اسم منها، ولذلك جاز قطع ألف الوصل من قولهم: اثنان؛ إذ هي في حكم الابتداء.

فعلى ما قلنا: تكون "النون" من هجاء "سين" في حكم الانفصال من الميم، وكذلك القول: والإدغام لا يصح مع الانفصال، وإنما يصح مع الاتصال. ومن أدغم، فإنه راعى اللفظ لما اتصلت النون الساكنة من هجاء "سين" بالميم، وكذلك القول في "يس" و"ن".

وإذا علم هذا، فلم لا يجوز أن يقال: إن حكم التبيين في "نون"، وأنه اسم للدواة أو الحوت كما جاء في الأثر، حكم أسماء الأعداد في إجراء الوصل مجرى الوقف؟

وأما الإدغام فظاهر. وأما قوله: "ما أدري أهو وضع لغوي أو شرعي؟ "، فلعله يرد ما نقل عن حبر الأمة أنه قال:"هو الحوت الذي على ظهره الأرض"، وهو قول مجاهد ومقاتل والسدي والكبلي، وقال الحسن وقتادة والضحاك:"هو الدواة"، رواه محيي السنة في "المعالم". هذا وقد مر في الفواتح أن "صاد" و"قاف" و"نون" أسماء للسور ويتأتى فيها الإعراب.

وقال أيضًا: "إن مثل "نون" نصب وليس بفتح، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف، وانتصابها بفعل مضمر"، أي: اذكر نون وأقسم بالقلم. وقال: "الجر أيضًا جائزٌ

ص: 565

والمراد هذا الحرف من حروف المعجم، وأما قولهم: هو الدواة، فما أدرى أهو وضع لغوي أم شرعي؟ ولا يخلو إذا كان اسما للدواة من أن يكون جنسا أو علما، فإن كان جنسا فأين الإعراب والتنوين؟ وإن كان علما فأين الإعراب؟ وأيهما كان فلابد له من موقع في تأليف الكلام.

فإن قلت: هو مقسم به، وجب إن كان جنسا أن تجره وتنونه، ويكون القسم بداوة منكرة مجهولة، كأنه قيل: ودواة والقلم. وإن كان علما أن تصرفه وتجره، أو لا تصرفه وتفتحه للعملية والتأنيث. وكذلك التفسير بالحوت: إما أن يراد نون من النينان، أو يجعل علما لليهموت الذي يزعمون، والتفسير باللوح من نور أو ذهب، والنهر في الجنة نحو ذلك. وأقسم بالقلم: تعظيما له، لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بإضمار باء القسمية، لا بحذفها". فعلى التبيين والإدغام، لأجراء الوصل مجرى الوقف كما مر آنفًا.

قوله: (من حروف المعجم)، قيل: المعجم هاهنا: مصدر، أي: حروف الإعجام، يعني: حروف إزالة العجمة، يقال: أعجم الحرف، أي: أزال عجمته وأبان.

قوله: (فأين الإعراب)، قيل: هذا تقسيم وليس بسؤال. والمعنى بقوله: "في تأليف الكلام "، أن وضع الدواة موضع {ن} ، ينبغي أن يكون صحيحًا فيما يرجع إلى التأليف، وليس كذلك على ما تبين. قلت: قوله: "والمراد هذا الحرف من حروف المعجم"، يرد قولهم: هذا تقسيم.

قوله: (لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة)، قال الإمام: "وفيه قولان:

ص: 566

ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف. {ومَا يَسْطُرُونَ} وما يكتب من كتب، وقيل: ما يسطره الحفظة، و"ما" موصولة أو مصدرية، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في

{يَسْطُرُونَ} لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم ومسطوراتهم، أو سطرهم، ويراد بهم كل من يسطر، أو الحفظة.

[{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وإنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} 2 - 3].

فإن قلت: بم يتعلق الباء في {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} وما محله؟

قلت: يتعلق بـ "مجنون" منفيا، كما يتعلق بعاقل مثبتا في قولك: أنت بنعمة الله عاقل، مستويا في ذلك الإثبات والنفي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحدهما: أن المقسم به هو هذا الجنس، وهو واقع عل كل قلم يكتب في السماء والأرض، قال تعالى:{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4 - 5]، فمن بتيسير الكتابة بالقلم، كما من بالنطق فقال:{خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} [الرحمن: 3 - 4]. ووجه الانتفاع به أنه ينزل الغائب منزلة المخاطب، فيتمكن المرء من تعريف البعيد به ما يتمكن باللسان من تعريف القريب. والثاني: هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر: "أول ما خلق الله القلم"".

وقلت: ويؤيد الأول قوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ} ، قال الراغب: "أصل القلم: القص من الشيء الصلب، كالظفر وكعب الرمح والقصب، ويقال للمقلوم: قلم، يقال للمنقوض: نقض.

ص: 567

استواءهما في قولك: ضرب زيد عمرا، وما ضرب زيد عمرا: تعمل الفعل مثبتا ومنفيا إعمالا واحدة؛ ومحله النصب على الحال، كأنه قال: ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك؛ ولم تمنع الباء أن يعمل "مجنون" فيما قبله، لأنها زائدة لتأكيد النفي. والمعنى: استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وخص ذلك بما يكتب به وبالقدح الذي يضرب به، وجمعه أقلام، قال تعالى:{ن والْقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ} ، وقال تعالى:{يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} [آل عمران: 44]، أي أقداحهم. وقوله تعالى:{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4]، تنبيه لنعمته على الإنسان بما أفاده من الكتابة".

قوله: (تعمل الفعل مثبتًا ومنفيًا)، قال الزجاج:{أَنتَ} اسم {مَا} ، و {بِمَجْنُونٍ} الخبر، و {بَنِعْمَةِ رَبِّكَ} موصول بمعنى النفي. انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، كما تقول: أنت بنعمة الله فهم، وما أنت بنعمه بجاهل. وهذا جواب لقولهم:{يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] "

قوله: (ما أنت بمجنون منعمًا عليك بذلك)، أي: منعمًا عليك بنفي الجنون. ولو جعل مطلقًا بأن يقال: ما أنت بمجنون منعمًا عليك بالنبوة والفهم، وكمال العقل وسائر ما أنعم عليك من الفضائل؛ لجاز، وهذا جواب القسم. وعلى هذا:{بَنِعْمَةِ رَبِّكَ} كان صفة ل"مجنون"، فقدم وصير حالًا.

وقال محيي السنة: "إنك لا تكون مجنونًا، وقد أنعم الله عليك بالنبوة والحكمة، وقيل: بعصمة ربك. وقيل: هو كما يقال: وما أنت بمجنون والحمد لله. وقيل: معناه: ما أنت بمجنون

ص: 568

وأنه من إنعام الله عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوة بمنزل.

{وإنَّ لَكَ} على احتمال ذلك وإساغة الغصة فيه والصبر عليه {لأَجْرًا} لثوابا {غَيْرَ مَمْنُونٍ} غير مقطوع كقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، أو غير ممنون عليك به، لأنه ثواب تستوجبه على عملك، وليس بتفضل ابتداء، وإنما تمن الفواضل لا الأجور على الأعمال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والنعمة لربك، كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، أي: والحمد لك". ويمكن أن يقال: إن الباء قسمية، والجملة معترضة.

قوله: (والشهامة)، الجوهري:"شهم الرجل بالضم شهامة، فهو شهم، أي: جلد ذكي الفؤاد".

قوله: (لأنه ثواب تستوجبه على عملك، وليس بتفضل ابتداء)، الانتصاف:"ما يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التفسير، حيث قال: "لن يدخل الجنة أحد بعمله"، قالوا: يا رسول الله، ولا أنت؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، وهذا من سوء الأدب".

وقلت: المراد من قوله: {غَيْرَ مَمْنُونٍ} : غير ممنون عليك لأني كريم، ومن شيمة الأكارم أن لا يمنوا على إنعامهم: قال:

سأشكر عمرًا إن تراخت منيتي .... أيادي لم تمنن وإن هي جلت

وأنشد المصنف رحمه الله تعالى لنفسه:

ص: 569

{وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 4].

استعظم خلقه لفرط احتماله الممضات من قومه وحسن مخالفته ومداراته لهم. وقيل: هو الخلق الذي أمره الله تعالى به في قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وامُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]. وعن عائشة رضي الله عنها: أن سعد بن هشام سألها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن، ألست تقرأ القرآن: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ} "؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإن امرأ أسدى إلى صنيعة .... وذكرنيها مرة لبخيل

وفي "نوابغ الكلم": "صنوان: من منح سائله ومن، ومن منع نائله وضن". وفيها: "طعم الآلاء أحلى من المن، وهو أمر من الآلاء من المن".

وأما الحديث الذي أورده صاحب"الانتصاف"، فرويناه عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة وجابر، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا، واعملوا أنه لن ينجو منكم أحد بعمله"، قالوا: ولا أنت؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته"، أي: إلا أن يسترني الله بما؛ مأخوذ من غمد السيف.

قوله: (الممضات)، الجوهري:"أمضي الجرح إمضاضًا: إذا أوجعك".

قوله: (قالت: كان خلقه القرآن)، الحديث من رواية مسلم وأبي داود والإمام أحمد بن حنبل والدارمي والنسائي وابن ماجه، عن سعد بم هشام: قلت لعائشة رضي الله عنهما: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ألست نقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن

ص: 570

[{فَسَتُبْصِرُ ويُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ} 5 - 6].

{المَفْتُونُ} المجنون، لأنه فتن: أي محن بالجنون. أو لأن العرب يزعمون أنه من تخبيل الجن،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خلق نبي الله كان القرآن. الحديث، وليس فيه ذكر {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1].

قال شيخنا شيخ الإسلام قي "العوارف": "قولها رضي الله عنها: "كان خلقه القرآن"، فيه سر كبير غامض؛ وذلك أن النفوس مجبولة على طبائع وغرائز من البهيمية والسبعية والشيطنة، والله تعالى بعظيم عنايته، نزع نصيب الشيطان منه صلوات الله عليه، لقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]، ولحديث انشرح الصدر، وبعد هذا النزع، بقيت للنفس الزكية النبوية بقايا صفات البشرية رحمة للخلق، فاستمدت البقايا من الصفات بظهورها فيه صلوات الله عليه، بتنزيل الآيات المحكمات بإزائها لقمعها، تأديبًا من الله رحمة الله رحمة له خاصة وللأمة عامة، موزعا نزول الآيات على الأيام والأوقات عند ظهور الصفات، قال الله تعالى: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32]، فلما تحركت النفس الشريفة عند كسر رباعيته وقال: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم"، أنزل الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، فاكتسى القلب لباس الاصطبار، فلما توزعت الآيات على ظهور الصفات، صفت الأخلاق النبوية بالقرآن، ليكون خلقه القرآن؛ ولذا ورد: "إنما أنسى لأسن"، تأديبًا لنفوس الأمة وتهذيبًا ورحمة".

ص: 571

وهم الفتان للفتاك منهم، والباء مزيدة. أو المفتون مصدر كالمعقول والمجلود، أي بأيكم الجنون، أو بأي الفريقيين منكم المجنون، أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين؟ أي: في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم؟ وهو تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما، وكذلك كقوله تعالى {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الكَذَّابُ الأَشِرُ} [القمر: 26].

[{إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ * ودُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} 7 - 9].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (للفتاك منهم)، متعلق بقول مضمر، أي: المفتون المجنون، لأن العرب يزعمون أن الجنون من تخييل بعض الجن، وهم الفتان، يقولون: الفتان: للفتاك منهم.

قوله: (والباء مزيدة)، قال الزجاج عن أبي عبيدة: "إن الباء مزيدة، أي: أيكم المفتون ومثله:

نحن بنو جعدة أصحاب الفلج .... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

أي: نرجو الفرج، وليس كذلك؛ بل معناه: نرجو كشف ما نحن فيه بالفرج، أو نرجو النصر بالفرج"، ثم ذكر الوجهين الآخرين.

قوله: (أي: في أيهما يوجد)، قال صاحب "التقريب": فالباء بمعنى "في".

ص: 572

{إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} بالمجانين على الحقيقة، وهم الذين ضلوا عن سبيله، {وهُوَ أَعْلَمُ} بالعقلاء وهم المهتدون، أو يكون وعيدا ووعدا، وأنه أعلم بجزاء الفريقين.

{فَلا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ} تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم، وكانوا قد أرادوه على أن يعبد الله مدة، وآلهتم مدة، ويكفوا عنه غوائلهم. {لَوْ تُدْهِنُ} لو تلين وتصانع {فَيُدْهِنُونَ} .

فإن قلت لم رفع {فَيُدْهِنُونَ} ولم ينصب بإضمار "أن" وهو جواب التمني؟

قلت: قد عدل به إلى طريق آخر، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم يدهنون، كقوله تعالى:{فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ} [الجن: 13] على معنى: ودوا لو تدهن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو يكون وعيدًا ووعدًا)، عطف على قوله:"إن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة". فعلى الأول: مجرى على الاستدراج وإرخاء العنان؛ لأن قوله {فَسَتُبْصِرُ ويُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ} وارد عليه، لأن المسلمين كانوا يعلمون أن المفتونين كانوا أضدادهم، نحو قوله تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. المعنى: لا أنتم أيها المؤمنون تدرون ولا الكفرة، من ضل عن سبيله ومن اهتدى، والله على الحقيقة هو أعلم.

وعلى الثاني: إن الله يعلم أحوال المؤمنين وما هم عليه من الهدى، فيثيبهم بذلك، ويعلم كفر المعاندين وضلالهم فيعاقبهم عليه.

قوله: (معاصاتهم)، وهي نقبض المطاوعة. الجوهري:"يقال: عصاه يعصيه عصيانًا ومعصية، وعاصاه أيضًا؛ مثل: عصاه".

قوله: ({فَلا يَخَافُ})، أي: فهو لا يخاف، ولهذا لم يجزم.

ص: 573

فهم يدهنون حينئذ، أو ودوا إدهانك فهم الآن يدهنون؛ لطمعهم في إدهانك؛ قال سيبويه: وزعم هارون أنها في بعض المصاحف: ودوا لو تدهن فيدهنوا.

[{ولا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَن كَانَ ذَا مَالٍ وبَنِينَ * إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ} 10 - 16].

{حَلاَّفٍ} كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف، ومثله قوله تعالى:{ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224].

{مَّهِينٍ} : من المهانة وهي القلة والحقارة، يريد القلة في الرأي والتمييز، أو أراد الكذب لأنه حقير عند الناس. {هَمَّازٍ} عياب طعان؛ وعن الحسن: يلوي شدقية في أقفية الناس. {مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} مضرب نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لمن اعتاد الحلف)، أي: كفى بكثرة الحلف سوء خلق وعيبًا، أنه قدمه على جمع العيوب، وفيه تعظيم للحلف، وبيان أنها أقبح معايبه وأعظمها.

قوله: (مضرب) أي: مبالغ أو كثير الضرب بين الناس، مشتت لشملهم مفرق لجميعهم. الأساس: "ومن المجاز: ضرب في الأرض، وفي سبيل الله، وضرب الدهر بيننا: فرقنا، قال ذو الرمة:

فإن تضرب الأيام يا مي بيننا .... فلا ناشر سرًا ولا متغير

ص: 574

والنميم والنميمة: السعاية، وأنشدني بعض العرب

تشببي تشبب النميمة .... تمشي بها زاهرا إلى تميمة

{مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} بخيل، والخير: المال. أو {مَنَّاعٍ} أهله الخير وهو الإسلام،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتقول: لحا الله زمانا ضرب ضربانه، حتى سلط علينا ظربانه، وجاء فلان يضرب بشر: يسرع".

قوله: (تشببي تشبب النميمة)، يخاطب النار، أي: التهبي التهاب النميمة. زهرا وتميمة: جارتان. وهذا من ملح العرب، أي: توقدي توقد النميمة، وهو فعل لازم: شب النار فتشبت.

الراغب: "النم: إظهار الحديث بالوشاية. واصل النميمة الهمس والحركة الخفية، ومنه: أسكت الله نامته، أي: ما ينم عليه من حركته".

قوله: ({مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ}: بخيل)، الراغب: "المتع: يقال في ضد العطية، يقال: رجل مانع ومناع، أي: بخيل، قال تعالى:{وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ} [الماعون: 7]، وقال:{مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ} . وقد يقال في الحماية، ومنه: مكان منيع وقد منع، وفلان ذو منعة، أي: عزيز ممتنع على من يرومه، وقوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 7]، أي: ما حماك؟

ص: 575

فذكر الممنوع منه دون الممنوع، كأنه قال: مناع من الخير. قيل: هو الوليد بن المغيرة المخزومي، كان موسرا، وكان له عشرة من البنين، فكان يقول لهم وللحمته: من أسلم منكم منعته رفدي، عن ابن عباس. وعنه: أبو جهل، وعن مجاهد: الأسود بن عبد يغوث، وعن السدي: الأخنس بن شريق، أصله في تثقيف وعداده في زهرة، ولذلك قيل زنيم. {مُعْتَدٍ} مجاوز في الظلم حده. {أَثِيمٍ} كثير الآثام. {عُتُلٍّ} غليظ جاف؛ من عتله إذا قاده بعنف وغلظة. {بَعْدَ ذَلِكَ} بعد ما عد له من المثالب والنقائص {زَنِيمٍ} دعي، قال حسان:

وأنت زنيم نيط في آل هاشم .... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقيل: ما الذي صدك وحملك على ترك ذلك".

قوله: (فذكر الممنوع منه)، أي: الخير، (دون الممنوع) أي: الأهل؛ وذلك أن القصد ذمه، وأنه ممن يمنع الخير، وليس القصد أن الممنوع من هو. نحو: شتم الأمير، وقطع اللص. وقوله تعالى:{فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [بس: 14]، وقد سبق بيانه. والفرق أن المناع في الوجه الأول يحب الخير، أي: المال، ويمنعه من الناس. وفي الثاني يبغض الخير، أي الإسلام، ويمنع الناس منه.

قوله: (وأنت زنيم نيط)، أي: مؤخر في آل هاشم كما يؤخر الراكب القدح خلفه.

النهاية: "وفي الحديث: "ولا يجعلوني كقدح الراكب"، أي: لا تؤخروني في الذكر، لأن الركب يعلق قدحه في آخر رحله عند فراغه من ترحاله ويجعله خلفه".

ص: 576

وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده. وقيل: بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية، جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت الناشئ منها، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة ولد الزنى ولا ولده ولا ولد ولده".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكان الوليد دعيًا في قريش)، الدعي: الذي ينسب إلى غير أبيه وعشيرته، وقد كانوا يفعلونه. "سنخهم": أصلهم.

قوله: (لا يدخل الجنة ولد الزنى)، هذا أشد وعيدًا من لو قيل: يدخل النار؛ لأنه يرجي منها الخلاص، فهو تغليظ وتشديد على ولد الزنية، تعريضًا للزاني لئلا يورط في السفاح، فيكون سببًا لشقاوة نسمة تزنيه.

ومما يؤذن أنه تغليظ وتهديد: ما روينا عن الدارمي، عن عبد الله ابن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يدخل الجنة عاق ولا قمار، ولا منان ولا مدمن حمر".

وفي رواية أخرى للدارمي: "ولا ولد زنية"، بدل "قمار"؛ حيث سلك ولد الزنية في قرن العاق والمنان، ولا ارتياب أنهما ليسا من زمرة من لا يدخل الجنة أبدًا.

وعن ابن ماجه، عن ميمونة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عن ولد الزنا، فقال:"نعلان أجاهد بهما خير من أن أعتق ولد الزنا". على انه يجوز عتقه؛ روينا عن مالك، عن

ص: 577

و {بَعْدَ ذَلِكَ} نظير {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17].

وقرأ الحسن: "عتل" رفعا على الذم، وهذه القراءة تقويه لما يدل عليه بعد ذلك. والزنيم: من الزنمة وهي الهنة من جلد الماعزة تقطع فتخلى معلقة في حلقها، لأنه زيادة معلقة بغير {أهله أَن كَانَ ذَا مَالٍ} متعلق بقوله {ولا تُطِعْ} ، يعني: ولا تطعه مع هذه المثالب، لأن كان ذا مال، أي: ليساره وحظه من الدنيا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبي هريرة، أنه سئل عن الرجل يكون عليه رقبة، هل يعتق فيها ابن زنا؟ فقال: نعم، ذلك يجزئه.

قوله: (و {بَعْدَ ذَلِكَ} نظير {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17]).

يعني: لفظة {ذَلِكَ} هاهنا للتراخي في المرتبة، كـ {ثُمَّ} هناك، ولذلك قال:"جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه".

قوله: ({أَن كَانَ ذَا مَالٍ} متعلق بقوله {ولا تُطِعْ})، قال صاحب "الكشف":"ولا يجوز أن يتعلق ب {عُتُلٍّ}، لأنه قد وصف بقوله: {زَنِيمٍ} "، وقد قال سيبويه: هذا ضارب ظريف زيدًا: ممتنع. فإذن، الواجب أن تكون "اللام" من صلة مضمر في القراءة بالاستفهام وتركه. والمعنى: لأن كان ذا مال وبنين يجحد وينكر ويكفر؟ !

ص: 578

ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى: لكونه متمولا مستظهرا بالبنين كذب آياتنا، ولا يعمل فيه {قَالَ} الذي هو جواب {إِذَا} ، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب. وقرئ:"أن كان" على الاستفهام على: آلأن كان ذا مال وبنين كذب؟ أو تطيعه لأن كان ذا مال؟

وروى الزبيري عن نافع: إن كان بالكسر والشرط للمخاطب، أي: لا تطع كل حلاف شارطا يساره، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجي إليه في قوله تعالى {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا يعمل فيه)، أي: في {أَن كَانَ ذَا مَالٍ} .

قوله: (وقرئ: "أأن؟ " على الاستفهام)، أبو بكر وحمزة: كذا، وابن عامر: بهمزة ومدة، والباقون سوى ابن ذكوان: بهمزة واحدة على الخبر.

قوله: (ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجي إليه)، يعني: تعليق الطاعة بالمال هاهنا، كالترجي في قوله تعالى:{فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} طه: 44].

ظاهر اللفظ الترجي، والتعليق للمتكلم وهو الله تعالى، وفي الحقيقة للمخاطب، وهو محمد وموسى وهارون، صلوات الله عليهم. أي: عاملاه معاملة من لا يعلم العاقبة يا موسى وهارون، ولا. تطع يا محمد كل حلاف يشترط يساره. وعن بعضهم: حاصل هذا الشرط، أنه نهي عن طاعة مشروطة لا نهي مشروط.

وقلت: الظاهر أن الشرط تعليل، لأن من نهي أن يطاع، وهو الوليد، كان ذال مال

ص: 579

{سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ} الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لتقدمه له، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية، واشتقوا منه الأنفة، وقالوا الأنف في الأنف، وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين. وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين وإذالة، فكيف بها على أكرم موضع منه، ولقد وسم العباس أباعرة في وجوهها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكرموا الوجوه" فوسمها في جواعرها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبنين، كما سبق في قوله تعالى:{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1]؛ قال: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا} متعلق بـ {لَا تَتَّخِذُوا} . وقد مر أن الشرط كالتعليل، ولذلك جعله حالًا من فاعل "لا تطع" حيث قال:"شارطًا يساره"، وصرح بحرف التعليل في قوله:"لغناه"؛ فرجع معنى "إن" المكسورة إلى معنى "أن" المفتوحة.

قال القاضي: قرئ: "إن كان" بالكسر، على أن شرط الغنى في [النهي عن] الطاعة كالتعليل بالفقر في النهي عن قتل الأولاد.

قوله: (وإذالة)، أي: إهانة.

قوله: (في جواعرها)، الجوهري:"الجاعرتان: موضع الرقمتين من است الحمار، وهو مضرب الفرس بذنبه على فخذيه".

ص: 580

وفي لفظة {الخُرْطُومِ} استخفاف به واستهانة. وقيل معناه: سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يبين بها عن سائر الكفرة، كما عادى رسول الله صلى الله عليه وسلك عداوة بن بها عنهم.

وقيل: خطم يوم بدر بالسيف فبقيت سمة على خرطومه، وقيل: سنشهره بهذه الشتيمة في الدارين جميعا، فلا تخفى، كما لا تخفى السمة على الخرطوم.

وعن النضير بن شميل: أن الخرطوم الخمر، وأن معناه: سنحده على شربها، وهو تعسف؛ وقيل للخمر: الخرطوم، كما قيل لها: السلافة، وهي ما سلف من عصير العنب، أو لأنها تطير في الخياشيم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفي لفظ {الخُرْطُومِ} استخفاف به)، لأنه لو قال: على الأنف لكان استهانة، فلما قال: على الخرطوم، كان أبلغ في الإهانة، لأن الخرطوم لا يكاد يستعمل إلا في أنف الفيل والخنزير من بين الدواب.

قوله: (خطم يوم بدر بالسف)، قيل: خطم البعير: أن تضع عليه الخطام.

قوله: (أن الخرطوم الخمر)، روي عن المصنف: أنهم يضعون الرطب بعضه فوق بعض زمان القطاف، فما خرج من دسته بدون العصر، واتخذ منه حمر يسمونه: سلافة؛ لخروجه أولًا، وخرطوما، كأنه خرطوم.

قوله: (وأن معناه: سنحده على شربها، وهو تعسف)، الانتصاف:"صدق؛ فإن الوليد قتله النبي صلى الله عليه وسلم مباشر في بدر، فلم يدرك زمن تحريم الخمر، ووعد الله حق".

ص: 581

[{إنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * ولا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ * وغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا ويْلَنَا إنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إنَّا إلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ العَذَابُ ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 17 - 33].

إنا بلونا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجَنَّةِ} وهم قوم من أهل الصلاة كانت لأبيهم هذه الجنة دون صنعاء بفرسخين، فكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي، وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل، وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب، وما بقي على البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع لهم شيء كثير،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: لم يرد بالتعسف إلا أن حمل {سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ} على ذلك المعنى بتكلف بعيد عن الذوق.

أما الوليد بن المغيرة، فمن الخمسة المستهزئين؛ روى ابن عباس أنهم ماتوا كلهم قبل بدر، وذكره المصنف في آخر "الحجر". وأما الوليد الذي حد على الخمر، فهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخو عثمان بن عفان من أمه، أسلم يوم الفتح، وولاه عثمان الكوفة في ولايته، ثم حده في شرب الخمر وعزله عنها، ذكره صاحب" جامع الأصول".

ص: 582

فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا ونحن أولو عيال، فحلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} في السدف خفية عن المساكين، ولم يستثنوا في يمينهم، فأحرق الله جنتهم. وقيل: كانوا من بني إسرائيل.

{مُصْبِحِينَ} داخلين في الصبح مبكرين {ولا يَسْتَثْنُونَ} ولا يقولون: إن شاء الله.

فإن قلت: لم سمي استثناء، وإنما هو شرط؟

قلت: لأنه يؤدي مؤدي الاستثناء، من حيث إن معنى قولك: لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد، {فَطَافَ عَلَيْهَا} بلاء أو هلاك {طَائِفٌ} كقوله تعالى:{وأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42]، وقرئ:"طيف"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في السدف)، الظلمة إذا اختطت بالضياء فهو السدف.

قوله: (لأنه يؤدي مؤدى الاستثناء)، قال الإمام:"قال جماعة من المفسرين: هو "إن شاء الله تعالى". يقال: حلف فلان يمينًا ليس فيها ثنيا ولا ثنوى ولا ثنية ولا استثناء، كله واحد. وأصلها من الثني، وهو الكف والرد؛ وذلك أن الحالف إذا قال: والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره، فقد رد انعقاد ذلك اليمين". وقال القاضي: "وإنما سمي استثناء لما فيه من الإخراج، غير أن المخرج خلاف المذكور".

وعن بعضهم: نظيره قولك: جاءني القوم سوى زيد، وهذا ليس باستثناء حقيقة، لكن لما كان معنى "سوى" المكان، قال تعالى:{لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} [طه: 58]، صار المعنى: جاءني القوم مكان زيد، فلما كان معناه هذا هو معنى الاستثناء، سمي استثناء.

ص: 583

{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} كالمصرومة لهلاك ثمرها، وقيل: الصريم: الليل، أي احترقت فاسودت، وقيل: النهار أي: يبست وذهبت خضرتها، أو لم يبق فيها شيء؛ من قولهم: بيض الإناء إذا فرعه، وقيل: الصريم: الرمال. {صَارِمِينَ} حاصدين.

فإن قلت: هلا قيل: اغدوا إلى حرثكم؛ وما معنى (عَلَى)؟

قلت: لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه، كان غدوا عليه، كما تقول: غدا عليهم العدو. ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال، كقولهم: يغدى عليه بالجفنة ويراح، أي: فأقبلوا على حرثكم باكرين {يَتَخَافَتُونَ} يتسارون فيما بينهم. وخفى، وخفت، وخفد: ثلاثتها في معنى الكتم؛ ومنه الخفدود للخفاش {أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا} أن: مفسرة.

وقرأ ابن مسعود بطرحها بإضمار القول، أي: يتخافتون يقولون لا يدخلنها؛ والنهي عن الدخول للمسكين نهي لهم عن تمكينه منه، أي: لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل، كقولك: لا أرينك هاهنا. الحرد: من حاردت السنة: إذا منعت خيرها، وحاردت الإبل: إذا منعت درَّها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من قولهم: ببض الإناء)، الأساس:"بيض الإناء: ملأه وفرغه. وعن بعض العبر: ما بقي لهم صميل إلا بيض، أي: سقاء يابس إلا ملئ".

قوله: (من حاردت السنة إذا منعت خيرها)، الراغب:"الحرد: المنع عن حدة وغضب، قال تعالى: {وغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 25]، أي: على امتناع من أن يتناولوه قادرين على ذلك. ونزل فلان حريدًا، أي: متمعنا عن مخالطة القوم، وهو حريد المحل. وحاردت السنة: منعت قطرها، والناقة: منعت درها. وحرد: غضب، وحرده كذا". يغدى عليه بالجفنة ويراح: مثله قيل في حق المطلب: تغدو درته على السفهاء، وجفنته على الحكماء.

ص: 584

والمعنى: وغدوا قادرين على نكد لا غير عاجزين عن النفع، يعني أنهم عزموا أن يتنكدوا على المساكين ويحرموهم وهم قادرين على نفعهم، فغدوا بحال فقر وذهاب مال لا يقدرون فيها إلا على النكد والحرمان، وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان والمسكنة. أو وغدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها قادرين، بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها، أي غدوا حاصلين على الحرمان مكان الانتفاع، أو لما قالوا: اغدوا على حرثكم وقد خبثت نيتهم، عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها، قلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد، و {قَادِرِينَ} من عكس الكلام للتهكم، أي: قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمعنى: وغدوا قادرين على نكد)، اعلم أن {عَلَى} إما متعلق بـ {قَادِرِينَ} بـ"غدوا"؛ فإذا علق بـ {قَادِرِينَ} فالكلام فيه التخصيص، لتقديم المعمول على العامل، يخلو حينئذ: إما أن يراد بالحرد منع الخير والنكد أو الغضب.

فعلى الأول: إما أن يترك الحرد مطلقًا، فهو المراد من قوله:"قادرين على نكد لا غير عاجزين عن النفع"، كقولهم: فلان لا يملك إلا الحرمان، ولا يقدر إلا على الخيبة، على المبالغة، قال:

فأصبحت من ليلى الغداة كقابض .... على الماء خانته فروج الأصابع

أو يجعل الحرد مقيدًا بجنتهم، فهو المراد من قوله:"أو وغدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها قادرين" إلى آخره. و"على محاردة" متعلق بـ"قادرين"، قدم عليه.

وعلى الثاني: وهو أن يراد بالحرد الحنق والغضب؛ المعنى ما قال: "لم يقدروا إلا على حنق وغضب"، وفيه الحصر.

ص: 585

{عَلَى حَرْدٍ} ليس بصلة {قَادِرِينَ} ، وقيل: الحرد بمعنى الحرد، وقرئ:"على حرد" أي: لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض، كقوله تعالى:{يَتَلاوَمُونَ} [القلم: 30] وقيل: الحرد: القصد والسرعة؛ يقال: حردت حردك، وقال:

أقبل سيل جاء من أمر الله .... يحرد حرد الجنة المغله

وقطا حراد: سراع، يعني: وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة ونشاط قادرين عند أنفسهم، يقولون: نحن نقدر على صرامها وزي منفعتها عن المساكين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإذا علق بـ {وغَدَوْا} ، فلا: يخلو: إما أن يراد به منع الخير والنكد أو لا. فعلى الأول: يقدر متعلق {قَادِرِينَ} : ما عزموا عليه من الصرام والمنع، أي: غدوا قادرين على نيل مرادهم وحصول بغيتهم، وهم إنما حصلوا على الخيبة والحرمان، كقوله: عتابه السيف، وإليه الإشارة بقوله:"من عكس الكلام للتهكم". وعلى الثاني: فالحرد إما بمعنى القصد والسرعة، ومتعلق {قَادِرِينَ}: ما عزموا عليه من الصرام والمنع، كما قدره بقوله:"وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة"، إلى قوله:"نحن نقدر على صرامها"، أو هو اسم لجنتهم، ومتعلق {قَادِرِينَ} ما سبق.

وهذا المعنى عني بقوله: "غدوا على تلك الجنة، قادرين على صرامها عند أنفسهم".

ويحتمل أن يراد بـ {قَادِرِينَ} : مقدرين، وإليه الإشارة بقوله:"أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم".

والتقسيم يحتمل أن يراد أكثر من ذلك، لكن اقتصرنا على ما عليه الكتاب.

قوله: (المغلة)، أي: الجنة التي لها الدخل والثمار.

قوله: (زي منفعتها عن المساكين)، أي: منعها عنهم على التضمين، الجوهري:"قولهم: زوى فلان المال عن وارثه زيًا".

ص: 586

وقيل: {حَرْدٍ} علم للجنة، أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم، أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام والحرمان {قَالُوا} في بديهة وصولهم {إنَّا لَضَالُّونَ} أي ضللنا جنتنا، وما هي بها لما رأوا من هلاكها؛ فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا {أَوْسَطُهُمْ} أعدلهم وخيرهم من قولهم: هو من سطة قومه، وأعطني من سطات مالك، ومنه قوله تعالى:{أُمَّةً وسَطًا} [البقرة: 143]. {لَوْلا تُسَبِّحُونَ} لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم، كأن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله وانتقامه من المجرمين، وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة من فوركم، وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة، فعصوه فعيرهم! والدليل عليه قوله:{سُبْحَانَ رَبِّنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({أَوْسَطُهُمْ}: أعدلهم وخيرهم)، الراغب: "وسط الشيء، بالتحريك، ماله طرفان متساويا القدر. ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد إذا قلت: وسطه صلب.

ووسط بالسكون، يقال في الكمية المنفصلة كشيء ينفصل بين جسمين، نحو وسط القوم كذا. والوسط بالتحريك، تارة يقال فيما له طرفان مذمومان، كالجرد الذي بين البخل والسرف، فيستعمل استعمال القصد المصون عن الإفراط والتفريط، فيمدح به نحو السواء والعدل والنصفة، نحو {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وعلى ذلك:{قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} . وتارة يقال فيما له طرف محمود وطرف مذموم، كالخير والشر، ويكنى به عن الرذل نحو قولهم: فلان وسط من الرجال، تنبيها على أنه خرج من حد الخير".

قوله: (والدليل عليه)، أي: على أن معنى {لَوْلا تُسَبِّحُونَ} ، تحريض على التوبة من تلك

ص: 587

فتكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مفارقة الخطيئة، ولكن بعد خراب البصرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العزيمة الخبيثة، وحث على التصدق على المساكين، والمسارعة إلى قطع تلك العزيمة التي هي محض الظلم، تداركهم حين لا ينفعهم بقوله:{سُبْحَانَ رَبِّنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} .

قوله: (بعد خراب البصرة)، وسبب خرابها على ذكره صاحبا "الكامل" و"التذكرة"، أنه في شوال سنة ست وخمسين ومئتين، وخرج في "البحرين" من ادعى أنه من أولاد الحسن بن علي رضي الله عنهما، وتبعه جماعة من أهلها، ثم انتقل إلى البادية وادعى النبوة، وزعم أن سحابة أظلته، ونودي منها: اقصد البصرة.

ولما قصدها، استمال "الزنج" الذين يعلمون في السباخ وأطمعهم في مواليهم، وما زال يدعوهم ويقبلون إليه للخلاص من الرق، حتى اجتمع عنده جمع كثير، فأتاه مواليهم فأمر العبيد فضربوا مواليهم، ثم خطبهم وصلى بهم، وذكرهم ما كانوا عليه من الشقاء وسوء الحال، وأن الله تعالى أنقذهم من ذلك، وأنه يريد أن يرفع أقدارهم، ويملكهم الأموال والعبيد، ثم استولى أمرهم حتى دخلوا "الأبلة" و"عبادان" و"الأهواز"، فقتلوا فيها ونهبوا وأحرقوا.

ص: 588

وقيل المراد بالتسبيح الاستثناء، لالتقائهما في معنى التعظيم لله، لأن الاستثناء تفويض إليه، والتسبيح تنزيه له، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم.

وعن الحسن: هو الصلاة، كأنهم كانوا يتوانون في الصلاة؛ وإلا لنهتهم عن الفحشاء والمنكر، ولكانت لهم لطفا في أن يستثنوا ولا يحرموا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي سنة سبع وخمسين دخلوا البصرة، وقتلوا فيها مقتلة عظيمة، لا يحصى عدد من قتلوا فيها، وأحرقوا الجامع والمدينة، ثم دخلوا "واسط" وملكوها، ثم شخص إليهم الموفق من بغداد، وجرى له معهم أمور وحروب لا يمكن وصفها حتى قهرهم.

يضرب في الأخذ في التدارك بعد فوات أوانه.

قوله: (وقيل: المراد بالتسبيح: الاستثناء)، يدل عليه قوله تعالى:{إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * ولا يَسْتَثْنُونَ} ، وكان هذا هو الأوسط حرضهم على القول بـ"إن شاء الله" حينئذ، فلم يرفعوا له رأسًا، فذهب الآن يؤنبهم عليه. وجوز التعبير عن الاستثناء بالتسبيح التقاؤهما في معنى التعظيم، لأن المفوض مثبت لذاته الأقدس الحول والقوة، وينفيهما عن غيره تعظيمًا، والمنزه ينفي عنه النقائص تبجيلًا وتكريمًا؛ قال القاضي:"سمي الاستثناء تسبيحًا، لأنه ينزهه عن أن يجري في ملكه ما لا يريده".

قوله: (ولكانت لهم لطفًا)، يعني: كما أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، كذلك سبب لاستنزال لطف الله، والتوفيق على الطاعات، وعلى ما به الفلاح وعد الخيبة.

وفيه أن الصلاة رأس كل الخيرات، وتاركها خائب خاسر في الدنيا والآخرة.

ص: 589

{سُبْحَانَ رَبِّنَا} سبحوا الله ونزهوه عن الظلم وعن كل قبيح، ثم اعترفوا بظلمهم في منع المعروف وترك الاستثناء {يَتَلاوَمُونَ} يلوم بعضهم بعضا؛ لأن منهم من زين، ومنهم قبل، ومنهم من أمر بالكف وعذر، ومنهم من عصى الأمر، ومنهم من سكت وهو راض. {أَن يُبْدِلَنَا} قرئ بالتخفيف والتشديد {إلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} طالبون منه الخير راجون لعفوه {كَذَلِكَ العَذَابُ} مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا {ولَعَذَابُ الآخِرَةِ} أشد وأعظم منه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من زين)، أي: زين المنع وحرمان المساكين، ومنهم من قبل النصيحة من أوسطهم.

قوله: (وعذر)، الجوهري:"التعذير في الأمر: التقصير فيه".

قوله: ({أَن يُبْدِلَنَا}: قرئ بالتخفيف والتشديد): نافع وأبو عمرو: مشددًا، والباقون: مخففًا.

قوله: (مثل ذلك العذاب بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة: عذاب الدنيا)، قال الإمام: "المقصود أنه تعالى قال: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وبَنِينَ * إذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} ، أي: لأجل أن الله أعطاه المال والبنين كفر بالله. كلا، بل الله إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله تعالى عليه؛ لأن أصحاب الجنة لما أتوا هذا القدر اليسير من المعصية، دمر الله على جنتهم، فيكف حال من عاند الرسول وأصر على الكفر والمعصية؟ أو أن أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة، ويمنعوا الفقراء عنها، فقلب الله عليهم القضية، فكذا أهل مكة، لما خرجوا إلى بدر، وأرادوا الكيد بمحمد وأصحابه صلوات الله عليه، وشربوا الخمور، فأخلف الله ظنهم فقتلوا وأسروا. ولما خوف الكفار قال مستأنفًا:

ص: 590

وسئل قتادة عن أصحاب الجنة: أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال: لقد كلفتني تعبا. وعن مجاهد: تابوا فأبدلوا خيرا منها.

وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها: الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا.

[{إنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} 34]

{عِندَ رَبِّهِمْ} أي في الآخرة {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنان الدنيا.

[{أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} 35 - 39].

كان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها، فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المسلمين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

{ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ". وعن بعضهم: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} في محل النصب على الحال، أي: أثبت مجهولًا عندهم.

قوله: (ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنان الدنيا)، فإن قلت: من أين جاء هذا التخصيص؟ قلت: جاء من جانب المقام التعريضي، من تقديم الخبر _أعني {لِلْمُتَّقِينَ} _ على المبتدأ، ومجيء الآية بعد ذكر أصحاب الجنة وأحوال قريش، وإردافه بقوله:{أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} .

ونظيره في المشروب_ وإن لم يبلغ هذا المبلغ_ قوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47].

ص: 591

قالوا: إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم تكن حالهم وحالنا إلا مثل ما هي في الدنيا، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا، فقيل: أنخيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين؟ ثم قيل لهم على طريقة الالتفات: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الأعوج؟ كان أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} من السماء {تَدْرُسُونَ} في ذلك الكتاب أن ما تختارونه وتشتهونه لكم، كقوله تعالى {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ * فَاتُوا بِكِتَابِكُمْ} [الصافات: 156 - 157].

والأصل: تدرسون أن لكم ما تتخيرون، بفتح "أن" لأنه مدروس؛ فلما جاءت اللام كسرت. ويجوز أن تكون حكاية للمدروس، كما هو، كقوله:{وتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ} . وتخير الشيء واختاره: أخذ خيره، ونحوه: تنخله وانتخله إذا أخذ منخوله.

لفلان على يمين بكذا: إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به، يعني: أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فلما جاءت اللام كسرت)، قال صاحب "الكشف": فلا يوهمنك كسر "إن" الوقف على ما قبلها والبداية بها، وهذا كقولهم: علمت: إن في الدار لزيدًا".

قوله: (ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو)، قال صاحب "التقريب": "وفيه نظر؛ إذ لفظ {فِيهِ} لا يساعده، يعني: يصح أن يقال: إن لكم كتابًا تدرسون فيه أن لكم ما تشتهونه.

يعني: مؤداه ومعناه مسطور فيه، ولا يجوز أن يراد: إن هذا اللفظ بعينه مكتوب؛ إذ لفظة {فِيهِ} زائدة". ويمكن أن يكون صورة المكتوب فيه: إن لكم ما تختارونه، وقد سطرناه لكم في هذا الكتاب.

قوله: (كما هو)، قيل: يجوز أن يكون نصبًا على الحال، و"ما" موصولة، و"هو" خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: كالذي هو هو أو كافة، و"هو"في موضع الابتداء والخبر محذوف، أي: حكاه كما هو عليه، وأن يكون "كما هو" نصبًا على المصدر، أي: كحكايتها الآن.

ص: 592

فإن قلت: بم يتعلق {إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} ؟

قلت: بالمقدر في الظرف، أي هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج عن عهدتها إلى يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون. ويجوز أن يتعلق بـ {بَالِغَةٌ} ، على أنها تبلغ ذلكم اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم. وقرأ الحسن "بالغة" بالنصب على الحال من الضمير في الظرف {إنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جواب القسم؛ لأن معنى

{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا} : أم أقسمنا لكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وافرة لم تبطل منها يمين)، فإن قلت: لم قال في الوجه الأول: "لا تخرج عن عهدتها إلا يومئذ"، وقي الثاني:"وافرة لم تبطل منها يمين"؟ قلت: لأنه إذا علق {إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} بالمقدر في {لَكُمْ} ، يدخل الأجل في حكم الوجوب المستفاد من نفس الخبر ومتعلقه، أعني "لكم"، أصالة. وإذا علق بـ {بَالِغَةٌ} ، وهي صفة للأيمان، يكون الكلام أصالة في الأيمان وبلوغها إلى ذلك اليوم، بأن تكون محفوظة من النقصان، مؤداة وافية تامة. ألا ترى كيف أهمل معنى {بَالِغَةٌ} في الأول واعتبره في الثاني؟ قوله:"إذا حكمناكم" شرط، جزاؤه ما دل عليه "لا تخرج من عهدتها إلا يومئذ".

تلخيص المعنى: أم لكم أيمان علينا بالغة أن نحكمكم، بأن تسووا بين المسلمين والمجرمين، ولا تخرج عن عهدتها إلا إذا حكمناكم يوم القيامة. أو أيمان وافية، فلان تؤدونها إلا إذا حكمناكم يوم القيامة.

قوله: (وقرأ الحسن: "بالغة" بالنصب)، قال ابن جني:"يجوز أن تكون"بالغة" حالًا من الضمير في {لَكُمْ} ، لأنه خبر {أَيْمَانٌ} ، ففيه ضمير. أو حالًا من نفس الضمير في {عَلَيْنَا} ،

ص: 593

[{سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَاتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إن كَانُوا صَادِقِينَ} 40 - 41].

{أَيُّهُم بِذَلِكَ} الحكم {زَعِيمٌ} أي قائم وبالاحتجاج لصحته، كما يقوم الزعيم المتكلم عن القوم المتكفل بأمورهم. {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} أناس يشاركونهم في القول ويوافقونهم عليه ويذهبون مذهبهم فيه {فَلْيَاتُوا} بهم {إن كَانُوا صَادِقِينَ} في دعواهم، يعنى: أن أحدًا لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم به عند الله، ولا زعيم لهم يقوم به.

[{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ويُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ وهُمْ سَالِمُونَ} 42 - 43].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إذا جعلته وصفًا للأيمان لا متعلقًا بنفس الأيمان، لأنه لا يكون حينئذ فيه ضمير، ويجوز أن يكون حالًا من نفس {أَيْمَانٌ} وإن كانت نكرة، كما أجاز أبو عمرو وفي قوله تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]، أن يكون {حَقًّا} حالًا من {مَتَاعٌ} .

قوله: (ناس يشاركونهم في هذا القول)، وهو: "إن أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه، لم يكن حالهم وحالنا، إلا مثل ما هي في الدنيا

" إلى آخره. قال القاضي: "وقد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآيات، على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به لدعوتهم، من عقل أو نقل أو وعد أو محض تقليد على الترتيب، تنبيهًا على مراتب النظر، ودفعًا لما لا سند له".

ص: 594

الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام، مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب، وأصله في الروع والهزيمة، وتشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب، وإبداء خدامهن عند ذلك، قال حاتم:

أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها .... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

وقال ابن الرقيات:

تذهل الشيخ عن بنيىة وتبدي .... عن خدام العقيلة العذراء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: (على هذا لا يحسن أن تجعل عامل الظرف_أي: {يَوْمَ يُكْشَفُ} _: {فَلْيَاتُوا} . بل إما: اذكر، أو كان: كيت وكيت.

قوله: (أخو الحرب) البيت، إنما سمي به لمباشرته الحرب كثريًا. والتشمير: مثل لشدة الأمر وصعوبة الخطب، وتقول: هو مباشر للحرب بمثل ما يباشره في الشدة والصعوبة ولا يتركها بحال.

قوله: (تذهل الشيخ) البيت، الخدام: جمع خدمة، وهي الخلخال. تذهل: أي: تشغل، والفعل للغارة في قوله:

كيف نومي على الفراش ولما .... تشمل الشام غارة شعواء

أي: غارة قاسية. وإنما خص "الشيخ" بالذكر، لوفور عقله وممارسته الشدائد، أو لفرط محبته للأولاد. والعقلية من النساء: التي عقلت في بيتها، أي خدرت وجست. والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر، والفعل أيضًا للغارة. وفي "شعراء"و "العذراء" الإقواء.

ص: 595

فمعنى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} في معنى: يوم يشتد الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثم ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثم ولا غل؛ وإنما هو مثل في البخل.

وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان، والذي غره منه حديث ابن مسعود رضي الله عنه "يكشف الرحمن عن ساقه" فأما المؤمنون فيخرون سجدا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقيل: الفعل للعقيلة، وحذف التنوين عن "خدام" لالتقاء الساكنين، كقوله:

ولا ذاكر الله إلا قليلا

والتقدير: وتبدي نسبتها، ليرجع الضمير إلى الغارة الموصوفة بقوله: تبدي.

قوله: (ولا كشف ثم ولا ساق)، يعني: هو من الكناية الإيمائية، التي تؤخذ فيها الزبدة والخلاصة من المجموع، ولا ينظر إلى مفردات التركيب حقيقة ومجازًا، كما مر في قوله:{وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].

وعن بعضهم: الكشف عن الساق بأسره عبارة عن الشدة، أما أن يكون الساق اسمًا للشدة، فلا. وقال: ومن الناس من يفسر الساق بالشدة، ويدعيه لغة، وليس بشيء.

قوله: (حديث ابن مسعود: "يكشف الرحمن عن ساقه")، الحديث من رواية البخاري ومسلم والنسائي، عن أبي سعيد، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "يكشف ربنا عن ساقه،

ص: 596

وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقا طبقا كأن فيها السفافيد" ومعناه: يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة، ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن.

فإن قلت: فلم جاءت منكرة في التمثيل؟

قلت: للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة منكر خارج عن المألوف، كقوله:{يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ} [القمر: 6]، كأنه قيل: يوم يقع أمر فظيع هائل، ويحكى هذا التشبيه عن مقاتل.

وعن أبي عبيدة: خرج من خراسان رجلان، أحدهما شبه حتى مثل، وهو مقاتل ابن سليمان، والآخر نفى حتى عطل، وهو جهم بن صفوان؛ ومن أحس بعظم مضار فقد هذا العلم، علم مقدار عظم منافعه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، فيبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب لسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا".

وقلت: ويمكن أن يكون الحديث بيانًا للآية، فلا تحتاج إلى التعريف المبين، بل التنكير أولى والتأويل. روى محيي السنة في "شرح السنة"، عن ابن عباس قال:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} : يوم كرب وشدة. وقال مجاهد: يكشف عن الأمر الشديد. والعرب تذكر الساق إذا أخبرت عن شدة الأمر وهوله. وسئل عكرمة عنه فقال: إذا اشتد الأمر في الحرب، قيل: كشفت الحرب عن ساق".

قوله: (السفافيد)، الجوهري:"السفود بالتشديد: الحديدة التي يشوى بها اللحم".

ص: 597

وقرئ: "يوم نكشف" بالنون، و"تكشف" بالتاء على البناء الفاعل والمفعول جميعا، والفعل للساعة أو للحال، أي: تشتد الحال أو الساعة، كما تقول: كشفت الحرب عن ساقها، على المجاز. وقرئ:"تكشف" بالتاء المضمومة وكسر الشين، من أكشف: إذا دخل في الكشف، ومنه: أكشف الرجل فهو مكشف، إذا انقلبت شفته العليا. وناصب الظرف: فليأتوا، أو إضمار (اذكر)، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "يوم نكشف"، بالنون، و"تكشف"، بالتاء على البناء للفاعل والمفعول)، المشهور: بالياء للمفعول، والبواقي: شواذ، قال صاحب "التقريب": في قراءة التاء مع البناء للمفعول، نظر؛ لأن فاعله {عَن سَاقٍ} ، فكان حقه التذكير، كصرف"عن هند"، وجعل الفعل للساعة أو للحال، كأنه على تقدير البناء للفاعل لا للمفعول؛ إذ ليس معناه: تكشف الساعة والحال عن ساق، بل الكشف عن الساق عبارة عن الشدة، فقيل: إنما أنت لأن المعنى: تكشف عن ساق، و"عن" زائدة، ولا يخلو عن حزازة.

وقلت: قوله "بل الكشف عن الساق عبارة عن الشدة" تحجير للواسع.

نعم، وهو وجه حسن يصار إليه كما عليه أول كلام المصنف، فلم لا يجوز أن تثبت للساعة أو للحال الساق تخييلًا، بعد الاستعارة فيها على سبيل المكنية، سواء جعلت فاعلًا أو مفعولًا؟ كما يقال: كشف الله الساعة عن ساقها، وعليه كلام مجاهد كما سبق، وكلام

ص: 598

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ابن جني في قراءة ابن عباس: "يوم تكشف عن"، بالتاء، والتاء منتصبة، وروي عنه:"يوم تكشف" بالتاء مضمومة، أي: تكشف الشدة والحال الحاضر عن ساق. وهذا مثل، أي: تأخذ في أغراضها، ثم شبهت بمن أراد أمرًا وتأهب له، كيف يكشف عن ساقه؟ قال:

كشف لكم عن ساقها .... وبدا من الشر الصراح

فأضمر الحال والشدة لدلالة الموضع عليه. ونظيره من إضمار الفاعل لدلالة الحال عليه، مسألة الكتاب: إذا كان غدًا فأتني، أي: إذا كان من نحن عليه من البلاد في غد فأتني. وأما "تكشف" بتاء مضمومة، فعلى ذلك أيضًا، أي: تكشف الصورة هناك عن شدة".

ص: 599

أو يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت، فحذف للتهويل البليغ، وأن ثم من الكوائن ما لا يوصف لعظمه. عن ابن مسعود رضي الله عنه: تعقم أصلابهم، أي ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض، وفي الحديث:"وتبقى أصلابهم طبقا واحدا"، أي: فقارة واحدة.

فإن قلت: لم يدعون إلى السجود ولا تكليف؟

قلت: لا يدعون إليه تعبدا وتكليفا، ولكن توبيخا وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا مع إعقام أصلابهم والحيلولة بينهم وبين الاستطاعة تحسيرا لهم وتنديما على ما فرطوا فيه حين دعوا إلى السجود، وهم سالموا الأصلاب والمفاصل، ممكنون مزاحوا العلل فيما تعبدوا به.

[{فَذَرْنِي ومَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} 44 - 45}.

يقال: ذرني وإياه، يريدون: كله إلي، فإني أكفيكه، كأن يقول: حسبك إيقاعا به أن تكل أمره إلي وتخلى بيني وبينه، فإني عالم بما يجب أن يفعل به مطيق له، والمراد: حسبي مجازيا لمن يكذب بالقرآن، فلا تشغل قلبك بشأنه وتوكل علي في الانتقام منه، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديداً للمكذبين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تعقم أصلابهم)، النهاية:"في حديث ابن مسعود: "[إن الله] يظهر للناس يوم القيامة، فيجر المسلمون للسجود، وتعقم أصلاب المنافقين فلا يسجدون"، أي: تيبس مفاصلهم ونصير مشدودة. والمعاقم: المفاصل".

ص: 600

استدرجه إلى كذا: إذا استنزله إليه درجة فدرجة، حتى يورطه فيه، واستدراج الله العصاة: أن يرزقهم الصحة والنعمة، فيجعلوا رزق الله ذريعة ومتسلقا إلى ازدياد الكفر والمعاصي {مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أي: من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج، وهو الإنعام عليهم، لأنهم يحسبونه إيثارا لهم وتفضيلا على المؤمنين، وهو سبب لهلاكهم {وأُمْلِي لَهُمْ} وأمهلهم، كقوله تعالى {إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا} [آل عمران: 178].

والصحة والرزق والمد في العمر: إحسان من الله وإفضال يوجب عليهم الشكر والطاعة، ولكنهم يجعلونه سببا في الكفر باختيارهم، فلما تدرجوا به إلى الهلاك وصف المنعم بالاستدراج. وقيل:"كم من مستدرج بالإحسان إليه، وكم من مفتون بالثناء عليه، وكم من مغرور بالستر عليه".

وسمى إحسانه وتمكينه كيدا كما سماه استدراجا، لكونه في صورة الكيد حيث كان سببا للتورط في الهلكة، ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك.

[{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} 46 - 47].

المغرم: الغرامة، أي: لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجرا، فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومتسلقًا)، الجوهري:"تسلق الجدار، أي: تسوره".

قوله: (وكم من مغرور بالستر)، يروى بكسر السين وفتحها، وعن بعضهم: الستر: ستر الله، والستر؛ بالفتح: مصدر: المستور.

قوله: (وسمى إحسانه وتمكينه كيدًا كما سماه استدراجًا)، قال الإمام:"الأصحاب تمسكوا بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات".

ص: 601

فيثبطهم ذلك عن الإيمان {أَمْ عِندَهُمُ الغَيْبُ} أي: اللوح {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} منه ما يحكمون به.

[{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إذْ نَادَى وهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} 48 - 50].

{لِحُكْمِ رَبِّكَ} وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم {ولا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ} يعني: يونس عليه السلام {إذْ نَادَى} في بطن الحوت {وهُوَ مَكْظُومٌ} مملوء غيظا، ومن كظم السقاء: إذ ملأه والمعنى: لا يوجد منك ما وجد منه الضجر والمغاضبة، فتبتلى ببلائه، حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في {تَدَارَكَهُ} .

وقرأ ابن عباس وابن مسعود "تداركته" وقرأ الحسن: "تداركه" أي: تتداركه على حكاية الحال الماضية، بمعنى: لولا أن كان يقال فيه "تتداركه"، كما يقال: كان زيد سيقوم فمنعه فلان، أي: كان يقال فيه سيقوم. والمعنى: كان متوقعا منه القيام.

ونعمة ربه: أن أنعم عليه بالتوفيق للتوبة وتاب عليه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرأ الحسن: "تداركه"، أي: تتداركه)، قال ابن جني:"قرأ ابن هرمز والحسن: "تداركه"، مشددة، رواها أبو حاتم عن الأعرج لا غير، قال: وسئل عنها أبو عمرو، فقال: لا. قال أبو حاتم: لا يجوز ذلك، لأنه فعل ماض، وليست فيها إلا تاء واحدة، ولا يجوز: تتداركه. قال ابن جني: هذا خطأ، وذلك أنه يجوز على حكاية الحال الماضية المنقضية، أي: لولا أن كان يقال فيه: تتداركه، كما تقول: كان

ص: 602

وقد اعتمد في جواب {لَوْلا} على الحال- أعني قوله: {وهُوَ مَذْمُومٌ} - يعني: أن حاله كانت على خلاف الذم حين نبذ العراء، ولولا توبته لكانت حاله على الذم.

روي أنها نزلت بأحد حيث حل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل به، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا، وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف. وقرئ: "رحمة من ربنا".

{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} فجمعه إليه، وقربه بالتوبة عليه، كما قال:{ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهَدَى} [طه: 122]، فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ أي من الأنبياء. وعن ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعه في نفسه وقومه.

[{وإن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ويَقُولُونَ إنَّهُ لَمَجْنُونٌ * ومَا هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} 51 - 52].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

زيد سيقوم، أي: كان متوقعًا منه القيام، فكذلك هذا، أي: لولا أن كان يقال فيه: تتداركه نعمة من ربه انبذ بالعراء". أي: لولا هذه الحالة المرجوة له كانت من نعمة الله تعالى، لنبذ بالعراء.

قوله: (وقد اعتمد في جواب {لَوْلا} على الحال)، يعني: أوقع {لَوْلا

لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} مقيدًا بقوله: {وَهُوَ مَذْمُومٌ} . والمقصود الأولي منه الحال، ولولاه لم يكن لقوله:{لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} فائدة، لأنه نبذ فيه، ولذلك قال:"ولولا توبته لكانت حاله على الذم". قال القاضي: "الحال هو الذي اعتمد عليه الجواب لأنها المنفية دون النبذ".

قوله: (يعني أن حاله كانت على خلاف الذم)، وعن بعضهم: أي حاله وقت النبذ كانت

ص: 603

{إن} مخففة من الثقيلة، واللام علمها. وقرئ:{لَيُزْلِقُونَكَ} بضم الياء وفتحها، وزلقه وأزلقه بمعنى، ويقال: زلق الرأس وأزلقه: حلقه، وقرئ:"ليزهقونك"؛ من زهقت نفسه وأزهقها، يعني: أنهم من شدة تحديفهم ونظرهم إليه شزرا بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك أو يهلكونك، من قولهم: نظر إلى نظر يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أي: لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله، قال:

يتقارضون إذا التقوا في موطن .... نظرا يزل مواطئ الأقدام

وقيل: كانت العين في بني أسدـ فكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء، فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله! إلا عانه، فأريد بعض العيانين على أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لم أر كاليوم رجلا! فعصمه الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مخالفة حال الابتداء؛ فإن حال الابتداء حال الأمة، ولذلك قيل فيه:{ولا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ} ، وفي الآخرة لم يذم، ولم يكن حال الأمة.

قوله: ({لَيُزْلِقُونَكَ} بضم الياء وفتحها)، بالفتح: نافع، والباقون: بالضم.

قوله: (يتقارضون إذا التقوا) البيت، يقال: القرنان يتقارضان النظر، إذا نظر كل واحد منهما إلى صاحبه شزرًا. وكل أمر يجازى به الناس فهو قرض، وهما يتقارضان الثناء، أي: كل واحد منهما يثني على صاحبه، يقول: إذا التقوا في موطن ينظر كل واحد منهم إلى الآخر نظر حسد وحنق، حتى يكاد يصرعه، وهو الإصابة بالعين.

وقوله: (مواطئ الأقدام: أي: الأقدام نفسها، والمراد: الموطئ من الأقدام، أي: تزل الأخامص. وأراد بالموطن: المعركة.

ص: 604

وعن الحسن: دواء الإصابة بالعين، أن تقرأ هذه الآية.

{لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} أي القرآن، لم يملكوا أنفسهم حسدا على ما أوتيت من النبوة، {ويَقُولُونَ إنَّهُ لَمَجْنُونٌ} حيرة في أمره وتنفيرا عنه، وإلا فقد علموا أنه أعقلهم، والمعنى: أنهم جننوه لأجل القرآن {ومَا هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ} وموعظة {لِّلْعَالَمِينَ} فكيف يجنن من جاء بمثله؟

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (دواء الإصابة بالعين)، عن مسلم والترمذي، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين".

قوله: (والمعنى: أنهم جننوه لأجل القرآن، {ومَا هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ})، جواب عن منكر مصر أن هذا القرآن ليس بذكر للعالمين من رب العالمين، بل هو من قبيل الجن والكهانة، وصاحبه مجنون كاهن، كقوله تعالى:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 25 - 27]، فهو من باب إطلاق المسبب على السبب، لأن نسيته صلوات الله عليه إلى الجنون، لكون الملقى إليه من الجن بزعمهم، وإلا فهو أعقل الناس عندهم، كما قال:"وإلا فقد علموا أنه أعقلهم".

تمت السورة

حامدًا لله ومصليًا على رسوله.

* * *

ص: 605

‌سورة الحاقة

إحدى وخمسون آية، وهي مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

[{الْحَاقَّةُ * مَا الحَاقَّةُ * ومَا أَدْرَاكَ مَا الحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّنْ بَاقِيةٍ} 1 - 8].

{الْحَاقَّةُ} الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء، التي هي آتية لا ريب فيها، أو التي فيها حواق الأمور من الحساب والثواب والعقاب،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الحاقة

اثنتان وخمسون آية، مكية بلا خلاف

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (حواق الأمور) يعني: أوساطها، الجوهري:"سقط فلان على حاق رأسه، أي: وسط رأسه، وجئته في حاق الشتاء، أي: وسطه". وقيل: الحاصل أنها إما من قولهم: حق الشيء

ص: 606

أو التي تحق فيها الأمور، أي: تعرف على الحقيقة، من قولك: لا أحق هذا، أي: لا أعرف حقيقته. جعل الفعل لها وهو لأهلها، وارتفاعها على الابتداء، وخبرها {مَا الحَاقَّةُ} والأصل: الحاقة ما هي؟ تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ لأنه أهول لها، {ومَا أَدْرَاكَ} وأي شيء أعلمك ما الحاقة؟

يعني: أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها، على أنه من العظم والشدة بحيث لا يبلغه دراية أحد ولا همه، وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك {مَا} في موضع الرفع على الابتداء، و {أَدْرَاكَ} معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام.

"القارعة": التي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال، والسماء بالانشقاق والانفطار، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار، ووضعت موضع الضمير ليدل على معنى القرع في {الْحَاقَّةُ} ، زيادة في وصف شدتها؛ ولما ذكرها وفخمها، اتبع ذكر ذلك من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب لأهل مكة وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يحق، بالكسر: ثبت. أو من قولهم: حققته أحقه، أي: عرفت حقيقته.

أما على الأول، فإما أن يقال: سميت حاقة، لأنها ثابتة الوقوع واجبة المجيء. أو هو على تقدير حذف المضاف، أي: ذو الحاقة، لأن فيها الأمور الحواق من الحساب والثواب والعقاب. وأما على الثاني، فالقيامة سميت حاقة، بمعنى عارفة للأمور على المجاز، لأن الخلائق فيها تعرف الأمور، فجعل الفعل للقيامة وهو لأهلها.

قال الواحدي: " {الحَاقَّةُ}: القيامة، في قول جميع المفسرين. وسميت بذلك، لأنها ذات الحواق من الأمور، وهي الصادقة الواجبة الصدق، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع".

قوله: (ووضعت موضع الضمير)، أي:"القارعة" مظهر وضع موضع المضمر من غير

ص: 607

{بِالطَّاغِيَةِ} بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة؛ واختلف فيها، فقيل: الرجفة، وعن ابن عباس: الصاعقة، وعن قتادة: بعث الله عليهم صيحة فأهمدتهم. وقيل: الطاغية مصدر كالعافية، أي: بطغيانهم؛ وليس بذاك لعدم الطباق بينها وبين قوله {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} . والصرصر: الشديدة الصوت لها صرصرة، وقيل: الباردة من الصر، كأنها التي كرر فيها البرد وكثر، فهي تحرق لشدة بردها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لفظه السابق. وأصل المعنى: كذبت ثمود وعاد بها، فعدل إلى "القارعة" ليدل على القرع مزيدًا للتهويل.

قوله: ({بِالطَّاغِيَةِ} بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة)، اعلم أنه لم يسلك باللفظ سبيل ما وضع له من المعنى الحقيقي، على أنه هو الظاهر؛ فإن "الطاغية" عند أهل اللغة: الطغيان، فإسناده إليهم حقيقة كما يقال: أما ثمود، فأهلكوا بطغيانهم، لكن جعلت وصفًا لموصوف محذوف وعلى المجاز، أي: بالواقعة الطاغية، فحذف لرعاية التناسب بين القرينتين، لأن قرينتها:{وأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} .

قال صاحب "المفتاح": "قوله {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ}: العتو، هاهنا، مستعار استعارة الطغيان في المثال الأول". وقال الزجاج: "معنى {بِالطَّاغِيَةِ} عند أهل اللغة: بطغيانهم، و"فاعلة" قد يأتي بمعنى المصادر نحو: عافية وعاقبة. والذي عليه الآية أنهم أهلكوا بالرجفة

ص: 608

{عَاتِيَةٍ} شديدة العصف، والعتو استعارة، أو عتت على عاد، فما قدروا على ردها بحيلة من استتار ببناء، أو لياذ بجبل، أو اختفاء في حفرة، فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم. وقيل: عتت على خزانها، فخرجت بلا كيل ولا وزن.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أرسل الله سفينة من ريح إلا بمكيال، ولا قطرة من مطر إلا بمكيال، إلا يوم عاد ويوم نوح؛ فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل"، ثم قرأ {إنَّا لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ} [الحاقة: 11]، "وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل"، ثم قرأ {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الطاغية، كما قال:{وأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} ، فقيل للشيء العظيم: عات وعانية، كقوله:{إنَّا لَمَّا طَغَا المَاءُ} ". وهذا أصل عظيم تنبني عليه أكثر المعاني في التنزيل، في أن رعاية النظم أولى بالمصير إليه من ظاهر اللفظ، ومن ثم قال: "وليس بذاك لعدم الطباق".

قوله: (أو عتت على عاد) عطف على "عاتية شديدة العطف"، فعلى الأول:{عَاتِيَةٍ} مطلقة، وعلى الثاني: متعلقها محذوف.

قوله: (سفية من ربح) أي: مرة، من سفت الريح. النهاية:"السافي: الريح التي تسفي التراب، وقيل للتراب الذي تسفيه الريح أيضًا: ساف، أي: مسفي، كماء دافق".

ص: 609

ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها. والحسوم: لا يخلو من أن يكون جمع حاسم؛ كشهود وقعود، أو مصدر، كالشكور والكفور. فإن كان جمعا، فمعنى قوله:{حُسُومًا} : نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة، أو متتابعة هبوب الريا، ما خفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلا لتتابعها فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء، كرة بعد أخرى حتى ينحسم.

وإن كان مصدرا: فإما أن ينتصب بفعله مضمرا، أي تحسم حسوما، بمعنى تستأصل استئصالا، أو يكون صفة كقولك: ذات حسوم، أو يكون مفعولا له، أي سخرها للاستئصال، وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولعلها عبارة) أي: العاتية على هذا التفسير كناية عن الشدة والإفراط فيها، لا أنها عتت على الخزان حقيقة.

قوله: (حسمت كل خير واستأصلت)، الراغب:"الحسم: إزالة أثر الشيء، يقال: قطعه فحسمه، أي: أزال مادته، وبه سمي السيف حسامًا. وحسم الداء: إزالة بالكي. وقيل للشؤم المزيل لأثر من ناله: حسوم، قال تعالى: {وثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}، وقيل: حاسمًا خبرهم، وقيل: قاطعًا لعمرهم، وكل ذلك داخل في عمومه".

قوله: (أو متتابعة) عطف على قوله: "نحسات". والجمع في {حُسُومًا} على الأول باعتبار المحسوم لقوله: "كل خير"، وعلى الثاني باعتبار نفسها.

وعلى الأول يمكن أن يحصل حسم الجميع من غير التتابع، وعلى الثاني بالعكس، وقد مر في سورة القمر عند قوله:{في يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [من الآية: 19]، كلام في هذا المعنى.

قوله: (حتى أتت عليهم). أي: أهلكتهم.

ص: 610

ففرق بين بينهم زمان .... تتابع فيه أعوام حسوم

وقرأ السدي: حسوما" بالفتح حالا من الريح، أي: سخرها عليهم مستأصلة، وقيل: هي أيام العجوز؛ وذلك أن عجوزا من عاد توارت في سرب، فانتزعها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها وقيل: هي أيام العجز، وهي آخر الشتاء، وأسماؤها: الصن والصنبر، والوبر، والآمر، والمؤتمر، والعلل، ومطفئ الجمر، وقيل: مكفئ الظعن.

ومعنى {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} سطلها عليهم كما شاء {فيهَا} في مهابها، أو في الليالي والأيام. وقرئ:"أعجاز نخيل"{مِّنْ بَاقِيةٍ} من بقية، أو أو من نفس باقية، أو من بقاء كالطاغية: بمعنى الطغيان.

[{وجَاءَ فِرْعَوْنُ ومَن قَبْلَهُ والْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} [9 - 10]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ففرق بين بينهم) البيت، "بين" الأول مقحم تأكيدًا. وقيل: يحتمل أن يكون "بين" الثاني بمعنى الوصل؛ فالأول غير مقحم، وإن كان مقحمًا، فالوجه فتح "بين" الثاني، وإلا فالوجه الكسر.

قوله: (وقيل: هي أيام العجز، وهي آخر الشتاء) قال ابن قتيبة الدينوري في "الأنواء": "وأيام العجوز في نوء الصرفة، ونوؤها آخر أنواء الشتاء، وهي عندهم خمسة أيام: صن، وصنير، ووبر، ومطفئ الجمر، ومكفئ الظعن. والبرد فيها يشتد وذلك لانصرافه، وبه سميت الصوفة، ويشبه ذلك السراج يشتد ضوؤه، قبل أن يطفأ".

وقال الجوهري: "صنابر الشتاء: شدة برده، كذلك الصنبر بتشديد النون وكسر الباء، وبسكونها: يوم من أيام العجوز، والوبر أيضًا". وأما قول الشاعر:

ص: 611

{ومَن قَبْلَهُ} يريد: ومن عنده ومن تباعه، وقرئ:{ومَن قَبْلَهُ} ، أي: ومن تقدمه. وتعضد الأولى قراءة عبد الله وأبي. "ومن معه"، وقراءة أبي موسى:"ومن تلقاءه".

{والْمُؤْتَفِكَاتُ} قرى قوم لوط {بِالْخَاطِئَةِ} بالخطأ، أو بالفعلة، أو الأفعال ذات الخطأ العظيم {رَّابِيَةً} شديدة زائدة في الشدة، كما زادت قبائحهم في القبح، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد، {لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} [الروم: 39].

[{لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وتَعِيَهَا أُذُنٌ واعِيَةٌ} 11 - 12]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبآمر وأخيه مؤتمر

فهما يومان من أيام العجوز، كان الأول يأمر الناس بالحذر، والآخر يشاورهم في الظعن أو المقام. والمعلل يوم من أيام العجوز، لأنه يعلل الناس بشيء من تخفيف البرد. "والكفاء بالمد والكسر، شقة أو شقتان تنصح إحداهما بالأخرى، ثم يحمل به مؤخر الخباء"، تقول: منه أكفأت البيت إكفاء.

قوله: (وقرئ: {وَمِن قَبْلِهِ})، أبو عمرو والكسائي: بكسر القاف وفتح الباء، والباقون: بفتح القاف وإسكان الياء.

ص: 612

{حمَلْنَاكُمْ} حملنا آباءكم {فِي الجَارِيَةِ} في سفينة نوح؛ لأنهم إذا كانوا من نسل المحمولين الناجين، كان حمل آبائهم منة عليهم، وكأنهم هم المحمولون، لأن نجاتهم سبب ولادتهم {لِنَجْعَلَهَا} الضمير للفعلة، وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة {تَذْكِرَةً} عظة وعبرة. {أُذُنٌ واعِيَةٌ} من شأنها أن تعي وتحفظ ما سمعت به ولا تضيعه بترك العمل، وكل ما حفظته في نفسك فقد وعيته، وما حفظته في غير نفسك فقد أوعيته، كقولك: أوعيت الشيء في الظرف.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال لعلي رضي الله عنه عند نزول هذه الآية: "سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي" قال علي رضي الله عنه: فما نسيت شيئا بعد، وما كان لي أن أنسى.

فإن قلت: لم قيل: {أُذُنٌ واعِيَةٌ} على التوحيد والتنكير؟

قلت: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم؛ وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله، فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالي بهم بالة وإن ملؤوا ما بين الخافقين.

وقرئ: "وتعيها" بسكون العين للتخفيف؛ شبه "تعي" بـ"كبد".

[{فَإذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ * وحُمِلَتِ الأَرْضُ والْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً واحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وقَعَتِ الوَاقِعَةُ * وانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ * والْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} 13 - 18].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وما كان لي أن أنسى)، أي: ولا يمكنني ولا ينبغي أن أنسى وإن تكلفت ذلك.

قوله: (لا يبالي بهم بالة)، الجوهري:"الأصل: بالية، مثل: عافاه عافية؛ حذفوا الياء منها بناء على قولهم: لم أبل، وليس من باب الطاعة والطاقة". وقلت: لعله يعرض بأهل السنة المسلمين بالسواد الأعظم، كما طعن فيهم عند قوله تعالى:{وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100].

ص: 613

أسند الفعل إلى المصدر، وحسن تذكيره للفصل، وقرأ أبو السمال:"نفخة واحدة" بالنصب، مسندا الفعل إلى الجار والمجرور.

فإن قلت: هما نفختان فلم قيل: واحدة؟ قلت: معناه أنها لا تثني في وقتها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (معناه: أنها لا تثنى في وقتها) أي: تقع النفخة الأخرى بعدها بزمان، روي عن المصنف رحمه الله أنه قال:"النفخة: المرة، ودلالتها على النفخ اتفاقية غير مقصودة، وحدوث الأمر العظيم بها وعلى عقبها، إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة، لا من حيث إنه نفخ، فنبه على ذلك بقوله: {وَاحِدَةٌ} ".

فإن قلت: هذا مضاد لقول ابن الحاجب في "شرحه": "إن {نَفْخَةٌ} لم توضع للدلالة على الوحدة على حيالها، وإنما وضعت للدلالة على النفخ، والدلالة على الوحدة ضمن "لا"، مقصود بوضع اللفظ المركب له".

قلت: لا مناقضة، لأن المصنف راعى مقتضى المقام، وأن مثل {نَفْخَةٌ} حامل لمعنيين: الجنسية والعدد. لما كان المعني الذي يساق إليه الحديث، وهو حدوث الأمر العظيم، اقتضى العدد، شفع بما يؤكد، فدل به على أن العناية به أتم. ولو قيل: ونفخ في الصور نفخة ولم يؤكدها، لم يحسن، وخيل أنه أثبت معنى النفخ لا المرة. ذكر نحوه في قوله:{لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل: 51].

وابن الحاجب نظر إلى ظاهر اللفظ من غير اعتبار المقام، واستقلال النفخة في معنى ما وضعت له، وأن دلالاتها على الوحدة ضمن. وقوله: شفع بما يؤكد، ليس بنص على أن "الواحدة" تأكيد لا صفة، لمجيء الصفة المؤكدة على هذا النهج.

ص: 614

فإن قلت: فأي النفختين هي: قلت الأولى، لأن عندها فساد العالم، وهكذا الرواية عن ابن عباس، وقد روي عنه أنها الثانية.

فإن قلت: أما قال بعد: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} والعرض إنما هو عند النفخة الثانية؟ قلت: جعل اليوم اسما للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والوقوف والحساب، فلذلك قيل:{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} كما تقول: جئته عام كذا؛ وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته.

{وحُمِلَتِ} ورفعت من جهاتها بريح بلغت من قوة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال، أو بخلق من الملائكة، أو بقدرة الله من غير سبب. وقرئ:"وحُمِّلت" بحذف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال صاحب "الكشف": {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} كقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل: 51]، وقولهم: أمس الدابر لا يعود، ولا ينافي البيان كما عليه ظاهر كلام صاحب "المفتاح" في قوله:{إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 51]، ولا التأكيد أيضًا؛ إذ التوابع كالبدل وعطف البيان والصفة والتأكيد، بيان من وجه للمتبوع عند أرباب المعاني.

قوله: (وقرئ: "وحملت"، بحذف المحمل) أي: بحذف ما حملها، وهو أحد الثلاثة المذكورة، من الريح أو الملائكة أو القدرة، فعدي في القراءة الأولى إلى المفعول بواسطة

ص: 615

المحمل وهو أحد الثلاثة. {فَدُكَّتَا} فدكت الجملتان: جملة الأرضين وجملة الجبال، فضرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيبا مهيلا وهباء منثورا، والدلع أبلغ من الدق. وقيل فبسطتا بسطة واحدة، فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، من قولك: اندك السنام إذا انفرش، وبعير أدك وناقة دكاء، ومنه: الدكان.

{فَيَوْمَئِذٍ وقَعَتِ الوَاقِعَةُ} فحينئذ نزلت النازلة وهي القيامة {واهِيَةٌ} مسترخية ساقطة القوة جدا بعد ما كانت محكمة مستمسكة، {والْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} يريد: والخلق الذي يقال له الملك، ورد إليه الضمير مجموعا في قوله:{فَوْقَهُمْ} على المعنى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البناء، وإليه الإشارة بقوله:"ورفعت من جهاتها بريح"، وفي الثانية بالتضعيف.

قال ابن جني: "روي عن ابن عامر مشددة الميم، قال ابن مجاهد: ما أدري ما هذا".

وقال ابن جني: "وهو صحيح واضح، وذلك أنه أسند الفعل إلى المفعول الثاني، حتى كأنه في الأصل: وحملنا قدرتنا، أو ملكًا من ملائكتنا، أو نحو ذلك، الأرض. ولو جئت بالمفعول الأول لأسندت الفعل إليه، فقلت: وحملت قدرتنا الأرض، ونحوه قولك: أليست زيدًا الجبة، فلو أقمت المفعول الأول مقام الفاعل، قلت: ألبس زيد الجبة. وإن حذفت المفعول الأول، أقمت الثاني مقامه، فقلت: ألبست الجبة. نعم، ويجوز أيضًا مع استيفاء المفعول الأول، أن يبنى الفعل للمفعول الثاني، فتقول: ألبست الجبة زيدًا، على طريق القلب للاتساع" تم كلامه.

قوله: (والدك أبلغ من الدق)، الراغب: "الدك: الأرض اللينة السهلة، وقد دكه دكا.

ص: 616

فإن قلت: ما الفرق بين قوله: {الْمَلَكُ} ، وبين أن يقال:"والملائكة"؟

قلت: الملك أعم من الملائكة، ألا ترى أن قولك: ما من ملك إلا وهو شاهد، أعم من قولك: ما من ملائكة؟ {عَلَى أَرْجَائِهَا} على جوانبها، الواحد رجا مقصور،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله تعالى: {وحُمِلَتِ الأَرْضُ والْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً واحِدَةً} ، أي: جعلت بمنزلة الأرض اللينة، قال تعالى:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] ".

قوله: (الملك أعم من الملائكة) قال صاحب "التقريب": "لأن الجنس يقع على الواحد والكثير، والجمع لا يقع إلا على الكثير، فأفراد الجنس أكثر؛ فكلما وجد الكثير وجد الجنس ولا ينعكس"، وفيه نظر.

وقال صاحب "الانتصاف": كل من المفرد والجمع معرف تعريف الجنس، فالواحد والجمع سواء".

وقال في "الانتصاف": "استشهاد الزمخشري بقوله: "ما من ملك"، أنه أعم، ضعيف؛ فإنه ما حصل العموم إلا من النفي، قوله: "أعم من: ما من ملائكة"، لأن الأول ينفي عن كل واحد ومثله، والثاني ينفي عن كل جماعة، لا عن كل واحد". ومثله قول صاحب "المفتاح": "استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، ويتبين ذلك بأن ليس يصدق: لا رجل في الدار، في نفي الجنس إذا كان فيها رجل أو رجلان، ويصدق: لا رجال في الدار".

ص: 617

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: لا فرق بين المنفي والمثبت لما سبق في "البقرة"، أن استغراق الجنس في الواحد، بحسب تناوله الأفراد فردًا فردًا، إلى أن ينتهي إلى الواحد. وفي الجمع، يحتمل أن يكون وحدانه المجموع جمعًا جمعًا، إلى أن ينتهي إلى الاثنين أو الثلاثة. ولهذا قال صاحب "المفتاح":"ومن هذا يعرف لطف قوله: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4]، دون: وهن العظام، من حيث يوصل باختصار اللفظ إلى الإطناب".

وقال البزدوي: "قولك: والله لا أتزوج النساء ولا أشتري العبيد: إن ذلك يقع على الأقل ويحتمل الكل، لأن هذا جمع صار مجازًا عن اسم الجنس؛ لأنا إذا أبقيناه جميعًا لغي حرف العهد، وإذا جعلناه جنسًا بقي اللام لتعريف الجنس، وبقي معنى الجمع من وجه في الجنس".

ثم يقال لصاحب "الانتصاف": إن صح النفي في الاستشهاد كيف يصح في قوله: {والْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} ؟ [الحاقة: 17]. وقال الراغب: "النحويون جعلوا "الملك" من لفظ

ص: 618

يعني: أنها تنشق، وهي مسكن الملائكة، فينضوون إلى أطرافها وما حولها من حافتها، {ثَمَانِيَةَ} أي: ثمانية منهم.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية". وروي: ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة، والعرش فوق رؤوسهم، وهم مطرقون مسبحون. وقيل: بعضهم على صورة الإنسان،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الملائكة، وجعلوا الميم زائدة. وقال بعض المحققين: هو من الملك، قال: والمتولي من الملائكة شيئًا من السياسات، يقال له: ملك بالفتح، ومن البشر يقا له: ملك بالكسر. قال: فكل ملك ملائكة من غير عكس، بل الملك هو المشار إليه بقوله تعالى:{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، {فَالْمُقَسِّمَاتِ} [الذاريات: 4]، {والنَّازِعَاتِ} [النازعات: 1]. ومنه ملك الموت، {والْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} ".

قوله: (فينضوون إلى أطرافها)، الجوهري:"ضويت إليه، بالفتح، أضوي ضويًا، إذا أويت إليه وانضممت".

قوله: (في تخوم الأرض)، الجوهري:"التخم: منتهى كل قرية أو أرض، والجمع تخوم، مثل فليس وفلوس. وقال ابن السكيت: سمعت أبا عمرو يقول: هي تخوم الأرض، والجمع تخم، مثل: صبور وصبر".

ص: 619

وبعضهم على صورة الأسد، وبعضهم على صورة الثور، وبعضهم على صورة النسر.

وروي: ثمانية أملاك في خلق الأوعال، ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما. وعن شهرين بن حوشب: أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك. وعن الحسن: الله أعلم كم هم، أثمانية أم ثمانية آلاف؟ وعن الضحاك: ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلا الله. ويجوز أن تكون الثمانية من الروح، أو من خلق آخر، فهو القادر على كل خلق {سبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ومِنْ أَنفُسِهِمْ ومِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس: 36].

العرض: عبارة عن المحاسبة والمساءلة، شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله. وروي أن في يوم القيامة ثلاث عرضات: فأمل عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ، وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب، فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله {خَافِيَةٌ} سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا بستر الله عليكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وروي: ثمانية أملاك في خلق الأوعال) عن الترمذي وأبي داود وابن ماجه، عن العابس بن عبد المطلب في حديث:"وفوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهن وركبهن ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهور هن العرش، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء".

قوله: (أن في يوم القيامة ثلاث عرضات) الحديث من رواية أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"يغرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما العرضة الثالثة، فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله".

ص: 620

[{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ} 19 - 24].

{فَأَمَّا} تفصيل للعرض. "ها": صوت يصوت به فيفهم منه معنى (خذ) كاف وحس، وما أشبه ذلك. و {كِتَابِيَهْ} منصوب بـ {هَاؤُمُ} عند الكوفيين وعند البصريين بـ {اقْرَءُوا} ، لأنه أقرب العاملين؛ وأصله: هاؤم كتابي اقرؤما كتابي فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، ونظيره {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، قالوا: ولو كان العامل الأول لقيل: اقرؤوه وأفرغه، لهاء للسكت في {كِتَابِيَهْ} وكذلك في {حِسَابِيَهْ} و {مَالِيه} و {سُلْطَانِيَهْ} ، وحق هذه الهاءات أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أخرجه الترمذي، قال: "لا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.

ورواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى".

قوله: ({فَأَمَّا}: تفصيل للعرض)، يعني: يومئذ تعرضون، خطاب شامل للفريقين، وقوله: ({فَأَمَّا مَن} ، وقوله:{وَأَمَّا مَن} : تفصيل له.

قوله: (فيفهم منه معنى: "خذ") قال الزجاج: "هاؤم: أمر للجماعة بمنزلة: هاكم.

تقول الواحد: هاء يا رجل، وللاثنين: هاؤما يا رجلان، وللثلاثة: هاؤم يا رجال، وللمرأة: هاء، بكسر الهمزة، والثنتين: هاؤما، ولجماعة النساء: هاؤن".

قوله: (وحس)، وهي كلمة تقال عند الوجع.

قوله: (ولو كان العامل الأول لقيل: اقرؤوه وأفرغه) قال اليمني: "إن الفعلين إذا تنازعا: إن أعملت الأول أضمرت الفاعل في الثاني؛ إذ لا يجوز حذفه، وأما المفعول فيجوز

ص: 621

وقد استحب إيثار الوقف إيثارا لثباتها في المصحف، وقيل: لا بأس بالوصل والإسقاط. وقرأ ابن محيصن بإسكان الياء بغير هاء، وقرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف جميعا لاتباع المصحف. {ظَنَنتُ}: علمت؛ وإنما أجري الظن مجرى العلم، لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام، ويقال: أظن ظنا كاليقين أن الأمر كيت وكيت. {رَّاضِيَةٍ} منسوبة إلى الرضا، كالدراع والنابل، والنسبة نسبتان: نسبة بالحرف، ونسبة بالصيغة. أو جعل الفعل لها مجازا وهو لصاحبها {عَالِيَةٍ} مرتفعة المكان في السماء، أو رفيعة الدرجات، أو رفيعة المباني والقصور والأشجار {دَانِيَةٌ} ينالها القاعدة والنائم، يقال لهم {كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا} . أو هنئتم هنيئا في المصدر {بِمَا أَسْلَفْتُمْ} بما قدمتم من الأعمال الصالحة {فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ} الماضية من أيام الدنيا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حذفه، نحو: ضربني وضربت زيدًا. والاختيار أن يقال: ضربني وضربته، لأن التقدير: ضربني زيد وضربته، فالهاء عائدة إلى "زيد"، وهو فاعل الأول، ورتبته التقدم. وأما حذفها، فالمفعول مستغنى عنه، وهذا دليل على إعمال الثاني في قوله تعالى:{آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]، و {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} ، لأنه لو أعمل الأول، لأضمر المفعول في الثاني لأنه أولى، ولا يليق بفصاحة القرآن ترك الأولى".

قوله: (وقرأ جماعة بإثبات الهاء) وفي "التيسير": "حمزة: "مالي" و"سلطاني"، بحذف الهاءين في الوصل، والباقون: بإثباتهما في الحالين"، وإسكان الياء شاذ.

وقال الزجاج: "الوجه أن يوقف على هذه الهاءات ولا يوصل، لأنها أدخلت للوقف،

ص: 622

وعن مجاهد: أيام الصيام، أي: كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله. وروي: يقول الله عز وجل: يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وخمصت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، {كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ} .

[{وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * ولَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} 25 - 29].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهذه رؤوس الآيات. وقد حذفها قوم في الوصل، ولا أحب مخالفة المصحف"، وإليه الإشارة بقوله: "وقد استحب إيثار الوقف إيثارًا لثباتها في المصحف".

قال صاحب"الانتصاف": "تعليل القراءة باتباع المصحف غلط؛ وإنما القراءة ومعتمدها النقل المتواتر"، وفيه نظر، لأن الوقف والابتداء غير موقوفة على النقل. ولذلك حد الكواشي السبعة:"ما صح سنده، واستقام وجهه في العربية، ووافق لفظه خط الإمام، وما لم يوجد فيه مجموع هذه الثلاثة، أو التواتر وموافقة خط الإمام فهو شاذ".

قوله: (قلصت)، أي: انضمت وانزوت.

ص: 623

الضمير في {يَا لَيْتَهَا} للموتة، يقول: يا ليت الموتة التي متها {كَانَتِ القَاضِيَةَ} أي: القاطعة لأمري، فم أبعث بعدها؛ ولم ألق ما ألقي، أو للحالة، أي: ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت علي، لأنه رأى تلك الحالة أبشع وأمر مما ذاقه من مرارة الموت وشدته؛ فتمناه عندها {مَا أَغْنَى} نفي أو استفهام على وجه الإنكار، أي: أي شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار؟ "هلك عني سلطاني" ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا، وعن ابن عباس: أنها نزلت في الأسود بن عبد الأشد.

وعن فناخسرة الملقب بالعضد، أنه لما قال:

عضد الدولة وابن ركنها .... ملك الأملاك غلاب القدر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عضد الدولة وابن ركنها)، أي: وابن ركن الدولة. أوله في "التاريخ الكامل":

ليس شرب الكأس إلا في المطر .... وغناء من جوار في سحر

غانيات سالبات للنهى .... ناغمات في تضاعيف الوتر

مبرزات الكأس من مطلعها .... ساقيات الراح من فاق البشر

عضد الدولة وابن ركنها .... ملك الأملاك غلاب القدر

وقد ارتكب هنا بعد الجرأة على الله في الملاهي والمناهي عظيمتين: إحداهما: التسمية ب"ملك الأملاك"، وعليه الاستشهاد.

وروينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إن أخنع اسم عند الله، رجل تسمى ملك الأملاك"، وفي رواية:"لا مالك إلا الله".

ص: 624

لم يفلح بعده وجن، فكان لا ينطلق لسانه إلا بهذه الآية. وقال ابن عباس: ضلت عنى حجتي، ومعناه: بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا.

[{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ * ولا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ اليَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * ولا طَعَامٌ إلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَاكُلُهُ إلاَّ الخَاطِئُونَ} 30 - 37]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: سفيان: مثل شاهن شاه. وعن أحمد بن حنبل: "سألت أبا عمرو عن أخنع؟ قال: أوضع".

وثانيتهما: التفوه ب"غلاب القدر"؛ فإنه غلو، بل كاد أن يكون كفرًا، وعليه قول ابن دريد:

ولو حمى المقدار، عنه، مهجة .... لرامها، أو يستبيح ما حمى

نعوذ بالله من الخذلان.

قوله: (وقال ابن عباس: ضلت عني حجتي) عطف على قوله: "هلك عني سلطاني: ملكي"، الراغب: "السلاطة: التمكن من القهر، يقال: سلطته فسلط، قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 90]، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6]، ومنه سمي السلطان. والسلطان يقال في السلاطة، نحو:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33]، وقد يقال لذي السلاطة وهو الأكثر. وسمي الحجة سلطانًا، لما يلحق من الهجوم على القلوب، لكن أكثر تسلطه على أهل العلم والحكمة من المؤمنين،

ص: 625

{ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ} ثم لا تصلوه إلا الجحيم، وهي النار العظمى، لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس؛ يقال: صلي النار وصلاة النار. سلكه في السلسلة: أن تلوى على جسده حتى تلتف عليه أثناؤها؛ وهو فيما بينها مرهق مضيق عليه لا يقدر على حركة؛ وجعلها سبعين ذراعا إرادة الوصف بالطول، كما قال:{إن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80]، يريد: مرات كثيرة، لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد.

والمعنى في تقديم السلسلة على السلك، مثله في تقديم الجحيم على التصلية؛ أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر: 35]، وقوله تعالى:{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} ، يحتمل السلطانين. وسلاطة النساء: القوة على المقال، وذلك في الذم أكثر استعمالًا".

قوله: (ثم لا تصلوه إلا الجحيم)، هذا تفسير لتقديم {الجَحِيمَ} على عاملها.

قوله: (أثناؤها)، الجوهري:"أثناء الشيء: تضاعيفه، وثني الحبل: ما ثنيت".

قوله: (مرهق)، الأساس:"من المجاز: رهقه الدين، وأرهقوا الصلاة: أخروها حتى كادت تفوت". ومنه قوله: {وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73].

قوله: (كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق) أي: كأن السلسة أفظع من سائر أدوات الإرهاق، فوضع موضعها "مواضع" مبالغة، لأنها لما التفت عليه تضاعيفها، صارت كأنها وعاء له.

ص: 626

ومعنى {ثُمَّ} الدلالة على تفاوت ما بين الفل والتصلية بالجحيم، وما بينها وبين السلك في السلسلة، لا على تراخي المدة. {إنَّهُ} تعليل على طريق الاستئناف، وهو أبلغ؛ كأنه قيل: ما له يعذب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب بذلك.

وفي قوله: {ولا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} دليلان على قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين، أحدهما: عطفه على الكفر، وجعله قرينة له، والثاني: ذكر الحض دون الفعل، ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بتارك الفعل؟ ! وما أحسن قول القائل:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أحدهما: عطفه على الكفر وجعله قرينة له) نحو قوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 181]، جعل {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ} قرينة لقوهم:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} ، إيذانًا بأنهما في العظم أخوان، وأنه ليس بأول ما ركبوا من العظائم. كذا جعل ترك الحض على طعام المسكين من صفات الكفار، فعلى المؤمن أن يجتنب منه. قال القاضي:"وفيه دليل على تكليف الكفار بالفروع، ولعل تخصيص الأمرين بالذكر، لأن أقبح العقائد الكفر بالله، وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب".

قوله: (ذكر الحض دون الفعل)، الراغب:"الحض: التحريض كالحث، إلا أن الحث يكون بسير وسوق، والحض لا يكون بذلك. وأصله من الحث على الحضيض، وهو قرار الأرض".

ص: 627

إذا نزل الأضياف كان عذورا .... على الحي حتى تستقل مراجله

يريد حضهم على القرى واستعجلهم وتشاكس عليهم.

وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، وكان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا نخلع نصفها الآخر؟ وقيل: هو منع الكفار؛ وقولهم: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47]، والمعنى على بذل طعام المسكين. {حَمِيمٌ} قريب يدفع عنه ويحزن عليه، لأنهم يتحامونه ويفرون منه، كقوله:{ولا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 10]، والغسلين: غسالة أهل النار وما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم؛ فعلين من الغسل. {الخَاطِئُونَ} الآثمون أصحاب الخطايا، وخطئ الرجل: إذا تعمد الذنب، وهم المشركون. عن ابن عباس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إذا نزل الأضياف) البيت، العذور: السيء الخلق. تستقل: أي: تنصب على الأثافي، المراجل: القدور العظيمة. يقول: "إنه مطاع في الحي لسيادته وجلالة محله، فإذا نزل ضيف قام بنفسه في إقامة القرى، ولا يعتمد على أحد، ويعرض في خلقه عجلة، فيشدد في الأمر والنهي على أهل الحي، حتى ينصب المراجل ويهيء الطعام، فإذا تال مرامه عاد إلى خلقه الأول".

قوله: ({حَمِيمٌ}: قريب) قال صاحب"الكشف": " {فَلَيْسَ لَهُ اليَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ}، الجاز والمجرور خير "ليس" ليصح قوله: {وَلا طَعَامٌ} ، ولا يكون الخبر {هَاهُنَا} ، لأنه يصير

ص: 628

وقرئ: "الخاطئون" بإبدال الهمزة ياء، و"الخاطون" بطرحها. وعن ابن عباس: ما الخاطون؟ كلنا يخطو، وروى عنه أبو الأسود الدؤلي: ما الخاطون؟ إنما هو الخاطئون؛ ما الصابون؟ إنما هو الصائبون. ويجوز أن يراد: الذين يتخطون الحق إلى الباطل، ويتعدون حدود الله.

[{فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * ومَا لا تُبْصِرُونَ * إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ * ولا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ}] 38 - 42].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التقدير: ولا طعام هاهنا إلا من غسلين، وهو غير جائز؛ إذ هناك طعام غير غسلين. ولا يكون {اليَوْمَ} خبرًا، لأن حميمًا جثة، وظرف الزمان لا يكون خبرًا الجثة".

قوله: (وقرئ: "الخاطيون"، بإبدال الهمزة ياء) حمزة عند الوقف، قال ابن جني:"قرأها الزهري والحسن، وهو يحتمل وجهين: أحدهما: تخفيف الهمزة، لكن على مذهب أبي الحسن في قوله تعالى: {يَسْتَهْزِؤُونَ} [الأنعام: 5]، بإخلاص الهمزة في اللفظ ياء لانكسار ما قبلها، وسيبويه يجعلها بين بين. وثانيها: أن يكون قد بقي من الهمزة شيء على مذهب سيبويه، إلا أنه يلطف على القراء، فيقرؤون بإخلاص الياء".

قوله: (و"الخاطون" بطرحها) أي: بطرح الهمزة ونقل حركتها إلى الطاء. عن عكرمة: قرأناها عند ابن عباس، فقال: مه، كلنا نخطو، ثم قال:{إلا الخَاطِئُونَ} ؛ ذكره الواحدي، وروى عن الكلبي أنه قال:"يعني: من يخطئ بالشرك". ولعل ابن عباس يفرق بين الهمزة

ص: 629

هو إقسام بالأشياء كلها على الشمول والإحاطة، لأنها لا تخرج من قسمين: مبصر وغير مبصر. وقيل: الدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإنس والجن، والخلق والخالق، والنعم الظاهرة والباطنة، إن هذا القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ، أي: يقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله {ومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} ولا {كَاهِنٍ} كما تدعون، والقلة في معنى العدم، أي: لا تؤمنون ولا تذكرون البتة. والمعنى: ما أكفركم وما أغفلكم! {تَنزِيلٌ} ، بيانا لأنه قول رسول نزل عليه {مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ}

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في {الخَاطِئُونَ} و {الصًّابِؤُونَ} [البقرة: 62، الحج: 17] وبين غيرها من جهة الإصلاح واللغة.

قوله: (والمعنى: ما أكفركم! )، يعني: قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} ، تتميم للمعنى السابق، وفيه معنى التعجب كقول الشاعر:

وجار جساس أبانا بنابها .... كليبًا، غلت ناب كليب بواؤها

والقلة بمعنى العدم.

قوله: (هو تنزيل، بيانًا)، "بيانًا": مفعول له لمحذوف، يريد:{تَنزِيلٌ} خبر مبتدأ محذوف؛ فالجملة مفصولة عن الأولى للبيان، لأن كونه قول رسول، لا يكون إلا تنزيلًا، لأن الرسول لا يتلكم من تلقاء نفسه.

ص: 630

وقرأ أبو السمال: "تنزيلا" أي: نزل تنزيلا. وقيل: "الرسول الكريم" جبريل عليه السلام، وقوله:{ومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} دليل على أنه محمد صلى الله عليه وسلم، لأن المعنى على إثبات أنه رسول، لا شاعر ولا كاهن.

[{ولَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وإنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وإنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ * وإنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكَافِرِينَ * وإنَّهُ لَحَقُّ اليَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} 44 - 52].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({ومَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ}، دليل على أنه محمد صلوات الله عليه، لأن المعنى على إثبات أنه رسول، لا شاعر ولا كاهن)، قال الإمام:"إنه تعالى ذكر في سورة "كورت" مثل هذا الكلام، والأكثرون على أن المراد منه جبريل عليه السلام، وهاهنا المراد محمد صلى الله عليه وسلم. قالوا: لأنه تعالى لما قال: {إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}، قال بعده: إنه ليس بقول شاعر ولا كاهن. والقوم ما كانوا يصفون جبريل بالشعر والكهانة، بل كانوا يصفون رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذين الوصفين". وأما في سورة "كورت"، فلما قال:{إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19]، قال بعده:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25]، كأن المعنى: إنه لقول ملك كريم، لا قول شيطان رجيم. وعند هذا يتوجه سؤال: وذلك أن القرآن كلام الله المجيد، فكيف أسند تارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرى إلى جبريل عليه السلام؟ فيقال: إنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب؛ فهو كلام الله المجيد، من حيث إنه تكلم به، وهو كلام جبريل، لأنه هو الذي أنزله من السماء، وهو كلام محمد، صلوات الله عليه، لأنه هو الذي أظهره للحق، ودعاهم إلى الإيمان به، وجعله حجة لنبوته.

ص: 631

التقول: افتعال القول، لأن فيه تكلفا من المفتعل، وسمى الأقوال المتقولة "أقاويل" تصغيرا بها وتحقيرا، كقولك: الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول، والمعنى: ولو ادعى علينا لم نقله لقتلناه صبرا، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول؛ وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته. وخص اليمين عن اليسار، لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف، أخذ بيمينه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وسمى الأقوال المتقولة "أقاويل" تصغيرًا بها)، الانتصاف:"هو معتل غريب عن قياس التصريف، ويحتمل أن يكون "الأقاويل" جمع جمع كالأناعيم، جمع أقوال وأنعام".

قوله: (لقتلناه صبرًا)، النهاية:"قتل الصبر: هو أن يؤخذ شيء من الحيوان، ثم يرمى بشيء حتى يموت. ومنه الحديث في الذي أمسك رجلًا وقلته آخر، [فقال]: "اقتلوا القاتل، واصبروا الصابر"، أي: احبسوا الذي جسه للموت. وكل من قتل في غير معركة، ولا حرب ولا خطأ، فهو مقتول صبرًا".

قوله: (وأن يكفحه)، الجوهري:"كافحوهم: إذا استقبلوهم في الحرب بوجوههم ليس دونها ترس ولا غيره".

ص: 632

ومعنى {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} لأخذنا بيمينه، كما أن قوله. {لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ}: لقطعنا وتينه، وهذا بين، والوتين: نياط القلب وهو حبل الوريد، إذا قطع مات صاحبه. وقرئ:"ولو تقول" على البناء للمفعول.

قيل {حَاجِزِينَ} في وصف {أَحَدٍ} ؛ لأنه في معنى الجماعة، وهو اسم يقع في النفي العام مستويا فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ومنه قوله تعالى:{لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285]{لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32]، والضمير في {عَنْهُ} للقتل، أي: لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه أو لرسول الله، أي: لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه؛ والخطاب للناس،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهذا بين) أي: لقطعنا وتينه، ظاهر في المقصود. والأول محتمل لما يوهم منه، أن {مِنْهُ} صلة {أَحَدٌ} ، وليس كذلك. والذي عليه التلاوة، فيه إجمال وتفصيل على نحو:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1].

قوله: (وقرئ: "ولو تقول") قال ابن جني: "وهي قراءة محمد بن ذكوان، وفيها تعريض بما صرحت به القراءة العامة؛ ذلك أن {تَقُولَ} لا تستعمل إلا مع التكذب، مثل تخرص وتزيد. وأما "يقول"، فليست مختصة بباطل دون حق".

ص: 633

وكذلك في قوله تعالى: {وإنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ} ، وهو إيعاد على التكذيب، وقيل: الخطاب للمسلمين، والمعنى: أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن.

{وإنَّهُ} الضمير للقرآن {لَحَسْرَةٌ} على الكافرين به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدقين له، أو للتكذيب. وإن القرآن لليقين حق اليقين، كقولك: هو العالم حق العالم، وجد العالم، والمعنى: لعين اليقين، ومحض اليقين. {فَسَبِّحْ} الله بذكر اسمه العظيم هو قوله سبحان الله؛ واعبده شكرا على ما أهلك له من إيحائه إليك.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حسابا يسيرا".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمعنى: أن منهم ناسًا سيكفرون بالقرآن) وهم المرتدون في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وبعض الخوارج في عهد علي رضي الله عنه.

قوله: (وجد العالم)، قيل: إن معناه: من سواه من العلماء، فهو بالإضافة إليه هزل والإضافة فيه وفي "حق العالم"، بمعنى "من". مضى تحقيقه في آخر "الواقعة".

قوله: (والمعنى: لعين اليقين)، قال الإمام:" {لَحَقُّ اليَقِينِ}، معناه: أنه حق معين لا بطلان فيه، ويقين لا ريب فيه، ثم أضيف أحد الوصفين إلى آخر للتأكيد". وقال غيره: اليقين اسم لعلم تقدمه لبس، وإذا لم يتقدمه لبس لا يكون يقينًا. من يقن الماء في الحوض، إذا استقر فيه.

تمت السورة

بعون الله وحسن توفيقه

ص: 634