الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المعارج
مكية، وهي أربع وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ واقِعٍ • لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ • مِنَ الله ذِي المَعَارِجِ • تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ • فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً • إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا • ونَرَاهُ قَرِيبًا • يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ • وتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ • ولا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا • يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ • وصَاحِبَتِهِ وأَخِيهِ • وفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ • ومَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ • كَلاَّ إنَّهَا لَظَى • نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى • تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتَوَلَّى • وجَمَعَ فَأَوْعَى) 1 - 18]
ضمن (سَأَلَ) معنى دعا، فعدى تعديته، كأنه قيل: دعا داع (بِعَذَابٍ واقِعٍ)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة المعارج
أربعٌ وأربعون آية، مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
قوله: (ضمن {سَأَلَ} معنى: "دعا"). قال الواحديّ: "الباء في {بِعَذَابٍ} زيادة للتوكيد، كقوله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]، والمعنى: سأل سائل عذاباً واقعاً".
من قولك: دعا بكذا. إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله تعالى:(يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ)[الدخان: 55]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هو النضر بن الحارث، قال: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وقيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، استعجل بعذاب للكافرين. وقرئ. «سال سائل» وهو على وجهين: أن يكون من السؤال وهي لغة قريش، يقولون: سلت تسال، وهما يتسايلان؛ وأن يكون من السيلان، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقُرئ: "سال سائل"). نافع وابن عامر: "سال"، بألف ساكنة بدلاً من الهمزة، وهو مسموع من العرب، والباقون: بهمزة، وحمزة يجعلها في الوقف بين بين. وقيل: سال سائل بالألف، أجوف يائي، بدليل: يتسايلان؛ فقوله: "من السؤال" يعني أنه بمعناه، وإلا فذاك مهموز وهذا أجوف.
وبعضهم يقول: ألف "سال" منقلبة عن الهمزة، نحو:"مِنساة" في "مِنسأة"، ولم يذكر المصنف هذا القول هاهنا، وقد ذكره في "المفصل"، لأن هذا الإبدال راجع إلى السماع المحض، فيتبع تجويزه فيما سمع، قال سيبويه:"ليس ذا بقياس مُتْلَئِبٍّ، وإنما يحفظ عن العرب". ولما أمكن حمل "سال" على وجه قياسي، كما نقله من لغة قريش، لم يحمله على ما يكون سماعياً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال أبو علي في "الحُجَّة": "من قرأ "سال" غير مهموز، جعل الألف منقلبة من الواو، التي هي عين مثل: قال وخاف. وحكي أبو عثمان عن أبي زيد، أنه سمع من يقول: هما يتساولان". وقال ابن مالك: "ليس "سال" في القِراءات مُخففاً من "سأل"، إنما هو مثل "هاب""، وقول المصنف:"هما يتسايلان" موافق لهذا القول.
وقول سيبويه: "جاء في بعض المواضع جواز جعلها بين بين، قبلها حرف حركة ما قبلها، وليس ذا بقياس مُتْلَئِبٍّ. ومن جملة ذلك قولهم: منساة بالألف، وكان منسأة بالهمزة". ومنها قولهم: "سال" في "سأل"، قُرئ قوله تعالى:{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} بالألف المحضة. ومن أبيات الكتاب، قول حسان رحمه الله:
سالَتْ هُذيلٌ رسول الله فاحشة ضَلَّتْ هُذيلٌ بما جاءت ولم تُصِبِ
التمس هذيل النبي? ، أن يُبيح لهم الزنا، فقال حسان ذلك. وقول آخر:
سالتان الطَّلاق أن رأتاني قل مالي، قد جئتُماني بنُكْرِ
وقال سيبويه بعد الإنشاد: "فهؤلاء ليس من لغتهم: سلت تسال". وقد مر أنه لغة في سالت، معتل العين كهبت تهاب.
ويؤيده قراءة ابن عباس «سالَ سَيْلٌ» ، والسيل: مصدر في معنى السائل، كالغور بمعنى الغائر، والمعنى: اندفع عليهم وادي عذاب فذهب بهم وأهلكهم. وعن قتادة: سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع؟ فنزلت، و «سَأَلَ» على هذا الوجه مضمن معن-ى: عن-ي واهتم.
فإن قلت: بم يتصل (لِلْكَافِرِينَ)؟
قلت: هو على القول الأول متصل بعذاب صفة له، أي: بعذاب واقع كائن
للكافرين، أو بالفعل، أي: دعا للكافرين بعذاب واقع، أو بواقع؛ أي: بعذاب نازل لأجلهم، وعلى الثاني: هو كلام، مبتدأ، جواب للسائل، أي: هو للكافرين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قراءة ابن عباس: "سال سيل")، على وجه قياسي كما نقله من لغة قريش. قال ابن جني:"السَّيْلُ هاهنا: الماء السائل، وأصله المصدر من قولك: سال الماء سيلاً، إلا أنه أوقع على الفاعل كقوله تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30]، أي: غائراً".
قوله: (انْدَفَعَ عليهم)، الجوهري:"انْدَفَعَ الفَرَسُ، أي: أَسْرَعَ في سيره، واندفعوا في الحديث".
قوله: (هُو على القول الأول). أي: على أن يكون {سَأَلَ} مُضمناً معنى "دعا".
قوله: (وعلى الثاني). أي قول قتادة، {سَأَلَ} مُضمَّن معنى: عُني واهتم، أي: اهتم وعني بعذاب سائلاً عنه، كأنه قيل: لما سأل سائل بعذاب، أي: اهتم سائل بعذاب واقع، اتجه لسائل أن يقول: لمن سأل بالعذاب واهتمَّ به؟ فقيل: هو للكافرين.
فإن قلت: فقوله (مِّنَ الله) بم يتصل؟
قلت: يتصل بواقع، أي: واقع من عنده، أو بدافع؛ بمعنى: ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته وأوجبت الحكمة وقوعه. (ذِي المَعَارِجِ) ذي المصاعد، جمع مَعرج، ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلو والارتفاع فقال:(تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ) إلى عرشه وحيث تهبط منه أوامره (فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ) كمقدار مدة (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) مما يعد الناس. والروح: جبريل عليه السلام، أفرده لتميزه بفضله، وقيل: الروح خلق هم حفظة على الملائكة، كما أن الملائكة حفظة على الناس.
فإن قلت: بم يتعلق قوله (فَاصْبِرْ)؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({ذِي الْمَعَارِجِ} ": ذي المصاعد، جمع مَعْرَج)، روى مُحيي السُّنة عن سعيد بن جُبير: ذي الدرجات. وعن قتادة: ذي الفواضل والنعم، أو معارج الملائكة، وعن ابن عباس: هي السموات لأنها معارج الملائكة. وقال القاضي: "هي الدرجات التي يصعد فيها الكَلِم الطَّيّب والعمل الصالح، أو يرقى فيها المؤمنون في سلوكهم، أو في دار ثوابهم".
قوله: (ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلو)، لم يرد بالوصف المتعارف، قال القاضي:"هو استئناف لبيان ارتفاع تلك المعارج، وبعد مداها على التمثيل، أي: أنها بحيث لو قدر قطعها في زمان، لكان في زمان يقدر خمسين ألف سنة من سني الدنيا". وروى مُحيي السُّنة عن عكرمة وقتادة: "هو يوم القيامة، وأراد أن موقفهم للحساب، حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا".
قلت: بـ (سَأَلَ سَائِلٌ)؛ لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتكذيب بالوحي، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بالصبر عليه، وكذلك من سأل عن العذاب لمن هو، فإنما سأل على طريق التعنت، وكان من كفار مكة. ومن قرأ:«سال سائل» أو «سيل» ، فمعناه: جاء العذاب لقرب وقوعه، فاصبر فقد شارفت الانتقام، وقد جعل (فِي يَوْمٍ) من صلة (واقِعٌ) أي: يقع في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم، وهو يوم القيامة: إما أن يكون استطالة له لشدته على الكفار، وإما لأنه على الحقيقة كذلك. قيل: فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة، وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر
…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وكذلك من سأل)، عطف على قوله:"لأن استعجال النصر بالعذاب"، يعني:{فَاصْبِرْ} مُتعلق بـ {سَأَلَ سَائِلٌ} ، لأن {سَأَلَ}: إما مُضمن معنى "دعا" والداعي هو النضر، وهو غنما دعا على نفسه استهزاءً بمحمد، صلوات الله عليه، فاقتضى ذلك تسليته صلوات الله عليه، وأن ينصره على أعدائه، ، وأن يَتَصبَّر على أذاه. وإما مُضمن معنى "اهتم" و"عُنى" بالسؤال؛ فالسائل لما سمع معنى قوله: اهتم سائل بعذاب واقع، قال مُستهزئاً: لمن هو؟
قوله: (وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر)، روينا في "المُعْتمد" عن محيي السنة في "شرح السُّنة"، عن أبي سعيد: قيل لرسول الله? : يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فما أطول هذا اليوم! فقال رسول الله? :"والذي نفسي بيده، إنه لَيُخَفَّفُ على المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة، يصليها في الدنيا".
الضمير في (فِي يَوْمٍ) للعذاب الواقع، أو ليوم القيامة فيمن علق (فِي يَوْمٍ) بواقع؛ أي: يستبعدونه على جهة الإحالة، (و) نحن (نَرَاهُ قَرِيبًا) هينا في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر، فالمراد بالبعيد: البعيد من الإمكان، وبالقريب: القريب منه. نصب (يَوْمَ تَكُونُ) بقريبا، أي: يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم، أو بإضمار يقع، لدلالة (واقِعٌ) عليه. أو يوم تكون السماء كالمهل. كان كَيت وكيت. أو هو بدل عن (فِي يَوْمٍ) فيمن علقه بواقع. (كَالْمُهْلِ) كدردي الزيت، وعن ابن مسعود: كالفضة المذابة في تلوّنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فيمن عَلق)، أي: في قول من علق {فِي يَوْمٍ} بـ {وَاقِعٍ} . ويُفهم منه أنَّ الضمير إذا كان للعذاب لم يُعلق به.
اعلم أنه ذكر في قوله {فِي يَوْمٍ} وجهين: أحدهما: ما يدل على أنه متعلق بـ {تَعْرُجُ} ، حيث قال:{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، أي: إلى عرشه إلى آخره. وثانيهما: تصريحه بقوله: "وقد جُعل {فِي يَوْمٍ} من صلة {وَاقِعٍ} "؛ فإذا علق بـ {تَعْرُجُ} ، فالمراد من اليوم يوم من أيام الدنيا على تقديره بالمدة، كما قال: في يوم كان مقداره مدة خمسين ألف سنة مما يعد الناس. والقريب والبعيد على حقيقتهما، لأن المراد من العذاب، ما نزل بقريش يوم بدر، يدل عليه قول ابن عباس رضي الله عنهما: السائل نضر بن الحارث، قال:"إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء". وقوله: "وقيل: هو رسول الله? ، استعجل بعذاب للكافرين"؛ فيكون قوله: {مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} ، إلى قوله:{خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} استطراداً، تعظيماً لما استهزؤوا به، أي: يستهزئون عذاب من هذا شأنه وعظمته.
وإذا عُلق بـ {وَاقِعٍ} ، فالمراد من اليوم يوم القيامة، والمدة على حقيقتها، والقرب والبعد على المجاز، لقوله:"البعيد من الإمكان والقريب منه". وقوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا}
(كَالْعِهْنِ) كالصوف المصبوغ ألوانا، لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا بست وطيرت في الجو: أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح. (ولا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا) أي: لا يسأله ب-: «كيف حالك» ولا يكلمه، لأن بكل أحد ما يشغله عن المساءلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
استئناف، فإنه لما قيل: سال سائل بعذاب واقع، وكيت وكيت، أنكره الكافر، قيل: لماذا أنكره الكفار؟ قيل: لأنهم يعتقدون خُلْفَ وعد الله، أو أن لا حَشر ولا نَشر، ويستبعدون إمكانه، فعلى الأول:{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ} منصوب "كان كيت وكيت"، فيحصل لهم عذاب الدارين. وعلى الثاني: منصوب بـ {قَرِيبًا} ، أو بإضمار "يقع"، أو هو بدل عن {فِي يَوْمٍ} .
قوله: (بُسَّتْ): فُتِّتَتْ، أو سِيقت.
قوله: (أي: لا يسأله بكيف حالك؟ )، روي عن المصنف أنه قال: قولي: بكيف حالك، عثرت على مثله في شعر العرب، قال يحيى بن نوفل الحميري:
ولقد أتيت قُبورَهم كيما تُخبرني المقابر
فهتفت عند قُبورِهم يا با سعيد ويا مهاجر
وقال أبو الشعر الضبي:
فسائل بنا إن كنت تجهل أمرنا غداتئذ والعلم يجلو لك الجهلا
(يُبَصَّرُونَهُمْ) أي: يبصر الأحماء الأحماء، فلا يخفون عليهم، فما يمنعهم من المساءلة أن بعضهم لا يبصر بعضا، وإنما يمنعهم التشاغل. وقرئ:«يُبْصِرونهم» ، وقرئ:«ولا يُسأُل» ، على البناء للمفعول، أي: لا يقال لحميم: أين حميمك؟ ولا يطلب منه؛ لأنهم يبصرونهم فلا يحتاجون إلى السؤال والطلب.
فإن قلت: ما موقع يبصرونهم؟
قلت: هو كلام مستأنف، كأنه لما قال (ولا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا)، قيل: لعله لا يبصره، فقيل: يبصرونهم، ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم.
فإن قلت: لم جمع الضميران في (يُبَصَّرُونَهُمْ) وهما للحميمين؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تُنبَّا بكم قد أيمو من نسائكم وكم قد أذاقوا من عجائزك الثكلا
قوله: (الأحماء): جمع: حميم، كأشداء جمع شديد.
قوله: ("ولا يُسأل" على البناء للمفعول)، قال القاضي:"قَرَأها ابن كثير".
قوله: (لأنَّهم يُبصَّرونهم)، التبصير: التعريف والإيضاح.
قوله: (وهما للحَميمين)، قيل: كان القياس: يبصره، ليكون الضمير المستتر عائداً إلى أحد الحميمين، والبارز إلى الحميم الآخر. وقلت: هو من قول الواحدي: معنى: {يُبَصَّرُونَهُمْ} : يُعرفونهم، أي: يُعرف الحميم حميمه حتى يعرفه، ومع ذلك لا يسأل عن شأنه لشغله بنفسه. والآية على حذف الجار، يقال: بَصَّرت زيداً بكذا إذا عرفته إياه، ثم يُحذف الجار فيقال: بصَّرته إياه".
قلت: المعنى على العموم لكل حميمين لا لحميمين اثنين. ويجوز أن يكون (يُبَصَّرُونَهُمْ) صفة، أي: حميما مبصرين معرفين إياهم. قرئ: (يَوْمِئِذٍ)، بالجر والفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن، و «من عذاب يومئذ» ، بتنوين «عذاب» ونصب «يومئذ» وانتصابه ب-- «عذاب» ، لأنه في معنى: تعذيب. و «فصيلته» عشيرته الأدنون الذين فصل عنهم «تؤويه» تضمه انتماء إليها، أو لياذا بها في النوائب. (يُنجِيهِ) عطف على (يَفْتَدِي)، أي: يود لو يفتدي، ثم لو ينجيه الافتداء، أو من في الأرض. وثم: لاستبعاد الإنجاء، يعني: يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه، ثم ينجيه ذلك وهيهات أن ينجيه. (كَلاَّ) ردع للمجرم عن الودادة، وتنبيه على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (المعنى على العموم)، الانتصاف:"فيه دليل على أن الفاعل والمفعول الواقعين في سياق النفي يعم، كما التزم في قوله: والله لا أشرب ماء من إداوة، أنه يعم في المياه والأدوات، خلافاً لبعضهم في الإداوة".
قوله: (ويجوز أن يكون {يُبَصَّرُونَهُمْ} صفة)، عطف على قوله:"كلامٌ مُسْتأنَف". روى محيي السنة عن السدي: "يعرفونهم: أما المؤمن فبياض وجهه، وأما الكافر فبسواد وجهه".
قوله: ({كَلَّا} : ردع للمجرم عن الودادة وتنبيه÷، قال الكواشي:{كَلَّا} : وقف تام، إن جعلتها ردعاً عن الودادة، وإن جعلتها بمعنى "ألا": استفتاحاً، وقفت قبلها. فإن قلت: فكيف جمع المصنف المعنيين معاً؟ قلت: التنبيه لازم ذلك الردع.
ثم قال: (إنَّهَا) والضمير للنار، ولم يجر لها ذكر؛ لأن ذكر العذاب دل عليها. ويجوز أن يكون ضميرا مبهما ترجم عنه الخبر، أو ضمير القصة. و (لَظَى) علم للنار، منقول من اللظى، بمعنى اللهب، ويجوز أن يراد اللهب. و (نزاعة): خبر بعد خبر ل- «إن» ؛ أو خبر ل- (لَظَى) إن كانت الهاء ضمير القصة، أو صفة له إن أردت اللهب، والتأنيث لأنه في معنى النار، أو رفع على التهويل، أي: هي نزاعة. وقرئ: نزاعة، بالنصب على الحال المؤكدة، أو على أنها متلظية نزاعة؛ أو على الاختصاص للتهويل. والشوى: الأطراف أو جمع شواة، وهي جلدة الرأس تنزعها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (و {لَظَى} علم للنار)، قيل: إنه منقول من اسم الجنس، وهو غير منصرف.
قوله: (أو خبر لـ {لَظَى} إن كانت الهاء ضمير القصة)، لأن ضمير القصة والشأن، يستدعي جملة مفسرة.
قوله: (أو رفع على التهويل)، أي: رفع على الاختصاص المفيد للتهويل.
قوله: (أو على أنها مُتَلظِّية نزاعة)، فيكون حالاً منتقلة، قال أبو البقاء:"قيل: هو حال من الضمير في {تَدْعُوا} مقدمة، وقيل: حال بما دلت عليه {لَظَى}؛ أي: تتلظى نزاعة. وقيل: هو حال من الضمير في {لَظَى}، على أن تجعلها صفة غالبة، مثل الحارث والعباس. وقيل: التقدير: أعني".
قوله: (والشوى: الأطراف)، الراغب:"الشوى: الأطراف، كاليد والرِّجل، يقال: رماه فأشواه: أصاب شواه، قال تعالى: {نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى}. ومنه قيل للأمر الهيِّن: شوى، من حيث إن الشَّوى ليس بِمَقتل".
نزعا فتبتكها ثم تعاد، و (تَدْعُوا) مجاز عن إحضارهم، كأنها تدعوهم فتحضرهم، ونحوه قول ذي الرمة:
تدعو أنفه الربب
وقوله:
ليالي اللهو يطبيني فأتبعه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فَتَبتكها)، أي: تَقطعُها.
قوله: (تدعو أنفه الريب)، يصف الثور الوحشى، أوله:
أمسى بوهبين مجتازاً لمرتعه من ذي الفوارس تدعو أنفه الريب
الوَهبين: اسم موضع، مجتازاً لمرتعه: طالباً لها الريب، جمع ربَّة، وهي أول ما ينبت من الأرض. وذو الفوارس: اسم موضع فيه رمل. تدعو أنفه: تجره ليأكل. وفي "المجمل""الرِّبَّة: نبات يبقى في آخر الصيف".
قوله: (ليالي اللهو يطبيني فأتبعه)، تمامه:
كأنني ضارب في غَمْرة لَعِب
يَطْبيني: دعاني، طباه يطبوه: دعاه. الضارب: السابح، وأصل الضَّرب الإسراع في الأرض، يقول: يدعوني ليالي اللهو فأتبعه، كأنني سابح في غمرة من الماء لعب فيه.
وقول أبى النجم:
تقول للرائد أعشبت انزل
وقيل: تقول لهم: إليّ إليّ يا كافر يا منافق، وقيل: تدعو المنافقين والكافرين بلسان فصيح ثم تلتقطهم التقاط الحب، فيجوز أن يخلق الله فيها كلاما كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم، وكما خلقه في الشجرة، ويجوز أن يكون دعاء الزبانية. وقيل: تدعو: تهلك؛ من قول العرب: دعاك الله، أي: أهلكك، قال:
دعاك الله من رجل بأفعى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تقول للرائد: أَعْشَبْتَ انْزِلِ)، قبله:
مُستأسِد ذِبانه في غَيطَل
المستأسد: النبات الطويل الغليظ، يقال: استأسد الزرع إذا قوى، ويقال للأصوات المحتلطة: غيطلة. والذِّبان: جمع ذباب، والرائد: الذي يطلب الماء والكلأ، أعشبت: أي وجدت العُشب، والغبطلة: الجلبة، أي: صياح القوم، يقال للأصوات المختلطة: غيطلة، والكلأ إذا التف وكبر وأزهر كثر ذبابه، وصوتن: أي يقول: الذبان: أصبت حاجتك فاقنع ولا تتجاوز، وقيل: يقول: الأرض المنتجع، وقعت في عشب، انزل. مستأسد: خبر مبتدأ محذوف، أي: نباته مستأسد.
قوله: (دعاك اللع من رجل بأفعى)، تمامه في "الأساس":
إذا نام العيون سَرَت عليكا
(مَنْ أَدْبَرَ) عن الحق (وتَوَلَّى) عنه (وجَمَعَ) المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد الزكاة والحقوق الواجبة فيه، وتشاغل به عن الدين؛ وزهي باقتنائه وتكبر.
[(إنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا • إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا • وإذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا • إلاَّ المُصَلِّينَ • الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ • والَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ • لِلسَّائِلِ والْمَحْرُومِ • والَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ • والَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ • إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَامُونٍ • والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ • إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ • فَمَنِ ابْتَغَى ورَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ • والَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وعَهْدِهِمْ رَاعُونَ • والَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ • والَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ • أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ) 19 - 35]
أريد بالإنسان الناس؛ فلذلك استثنى منه: (إلاَّ المُصَلِّينَ). والهلع: سرعة الجزع عند مس المكروه، وسرعة المنع عند مس الخير؛ من قولهم: ناقة هلواع سريعة السير. وعن أحمد بن يحيى، قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدّة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس. والخير: المال والغنى، والشر: الفقر، أو الصحة والمرض؛ إذا صح الغني منع المعروف وشح بماله، وإذا مرض جزع وأخذ يوصي .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"مِن رَجُل": من: تجريدية.
وفي "الأساس": "دعاه الله بما يكره: أنزله به. وأصابتهم دواعي الدَّهر: صروفه".
قوله: (وعن أحمد بن يحيى)، هو أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني المعروف بـ "ثعلب"، إمام الكوفيين في النحو واللغة في زمانه.
والمعنى: أن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه ورسوخهما فيه، كأنه مجبول عليهما مطبوع، وكأنه أمر خلقي وضروري غير اختياري، كقوله تعالى:(خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ)[الأنبياء: 37]، والدليل عليه أنه حين كان في البطن والمهد لم يكن به هلع، ولأنه ذم والله لا يذم فعله، والدليل عليه: استثناء المؤمنين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والدليل عليه)، أي: على أن المعنى: أنه لإيثاره ذلك، جعل كأنه مجبول عليه، وليس المراد أنه مخلوق كذلك، وإلا فكان لازماً له غير مُنفك عنه كما ذكر. وأيضاً، لو كان فعل الله، لوجب أن لا يُذم عليه.
أما قوله: (والدليل عليه: استثناء المؤمنين)، فهو حجة أخرى من حيث النقل والنص بعد دليل العقل. الانتصاف:"يُنزه ظاهراً، ويشرك باطناً؛ ينزه الله تعالى عن خلق الهلع، ويُشرك معه في استبداد الخلق. وأنت إذا قلت: بريت القلم رقيقاً، فقد نسبت إليك البري والرقة معاً. وقوله: "الله لا يُذَم فعله: ، المذموم: العبد بحُجَّة الله، أنه جعل فيه الاختيار، ولله الحجَّة البالغة".
وقلت: أما الجواب عن قوله: "إنه كان في البطن والمهد لم يكن به هلع"، فما ذكره الراغب في "غُرة التنزيل": "فإن قيل: كيف يصح أن يقال: خُلق الإنسان هلوعاً جزوعاً منوعاً؟ هذا يوجب أن يكون الهَلَع والجَزَع والمنع، موجودة حال خَلْقِ الله له وليس كذلك، لأنه لا يشعر بذلك في حال الطفولية؟ وأجيب: بأن معناه: خُلِقَ حيواناً ضعيفاً لا يصبر على الشدائد إذا دامت عليه، وإجراؤه عليه في حال الخَلق توسع ومجاز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال: الذي أذهب إليه، أن الهلع أصله التسرع والقلق نحو الشيء، والحريص يهلع، والجزوع يقلق، والحريص يتسرع إلى مُشتهاه اتباعاً لهواه وإن كان فيه رداه. والإنسان في حال صغره مطبوع على هذه الخلال، لأنه يتسرع إلى الثدي، ويحرص على الرضاع، وإن مسه ألم جزع وبكى، وإن تمسك بثدي فزوحم فيه، منع بما في قدرته من اضطراب وبكاء، فلا يزال يفعل ذلك إلى آخر عمره".
وروى الإمام عن القاضي عبد الجبار، أنه في قوله:{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} : "نظير قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]، وليس المراد أنه مَخلوق على هذا الوصف. والدليل عليه أنه تعالى ذّمَّه عليه، والله تعالى لا يّذُم فِعله، ولأنه تعالى استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك هذه الخَصْلة المذمومة، ولو كانت هذه الخصلة حاصلة بِخَلق الله تعالى، لما قدروا على تركها".
ثم قال الإمام: "اعلم أن الهلع لفظ واقع على أمرين: أحدهما: الحالة النَّفسانية التي لأجلها يُقْدِم الإنسان على إظهار الجزع والتضرع. والثاني: تلك الأفعال الظاهرة من القول والفعل، الدالة على تلك الحالة النفسانية، فلا شك أنها تحدث بِخَلق الله تعالى، لأنَّ من خُلِقَت نفسه على تلك الحالة، لا يُمكنه إزالتها عن نفسه، لأنها حالة نفسانية مخلوقة فيها على سبيل الاضطرار، بخلاف الأفعال الظاهرة من القول والفعل، فإنها يَسْهل تَرْكُها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والإقدام عليها، لأنها أمور إختيارية". أراد الإمام أن كَون الإنسان مجبولاً على شيء، ليس إليه التَّخلص منه، لكن لا يمنع من إبدال الله إياه بما يُخالفه.
وقال الراغب: "فإن قيل: ما الحكمة في خلق الإنسان على مساوئ الأخلاق؟ قلنا: الحِكمة في خَلق الشَّهوة، أن يمانع نفسه إذا نازعته نحوها، ويُحارب شيطانه عند تزيينه المعصية، فيستحق من الله مثوبة وجنة".
وقال القاضي: "هلوعاً وجزوعاً ومنوعاً، أحوال مُقدَّرة أو محققة، لأنها طبائع جُبِل الإنسان عليها. و {إذَا} الأولى ظرف لـ {جَزُوعًا}، والأُخرى لـ {مَنُوعًا}، و {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} استثناء للموصوفين بالصفات المذكورة، بعد ذكر المطبوعين على الأحوال المذكورة، قيل: بنُضادة تلك الصفات لهم". وقلت: ويمكن أن يجعل الاستثناء منقطعاً، وتكون الآيات المذكورة فيها أوصاف المؤمنين المرتب عليها الثواب، مقابلة لما ذُكر من أوصاف الكافرين المستحق بها العقاب، وهو قوله:{تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (وَجَمَعَ فَأَوْعَى} ، بدليل خَتم الآيات بقوله:{أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} ، ويكون قوله:{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} إلى آخره، تعليلاً لقوله:{وَجَمَعَ فَأَوْعَى} .
الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وظلّفوها عن الشهوات، حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «شرّ ما أعطي ابن آدم شحّ هالع وجبن خالع» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتحريره أنه تعالى لما وصف النار بما وصف، ثم أخبر أنها {تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (وَجَمَعَ فَأَوْعَى} ، وهي أم الرّذائل، وشر خصال وعلل الأخيرين بقوله:{إِنَّ الْإِنسَانَ} إلى آخره، بمعنى: أن قلة الصبر، وشدة الحرص من جبلة الإنسان، وهما اللذان حملاه على جمع المال، والمنع من الإنفاق في سبيل الله، كما قال ابن عباس:"إذا أصابه الفقر لم يَصبر، وإذا أصاب المال لم يُنفق" - استطرد ذكر الذين خصصهم بالفضائل، واستخلص قلوبهم من تلك الرذائل، كقوله تعالى:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3]، فوصفهم بخصال ثمان مُضادة لتلك الخصال الأربع، لأنها دالة على الاستغراق في طاعة الله، والشفقة على خلق الله، وعلى الإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة، وكَسرِ الشّهوات، وإيثار الآجل على العاجل، ثم حكم لهم أنهم في جنات مُكرمون. ثم فرع عليه بالفاء قوله:{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} ، تخصيصاً بعد تعميم، ورجعاً إلى بدء، لأنهم من المستهزئين الذين افْتُتِحت السورة بسؤالهم. والله أعلم.
قوله: (وظَلَّفوها)، الجوهري:"ظَلَفَ نفسه عن الشيء يَظلفها ظلفاً، أي: مَنَعها من أن تَفعله أو تأتيه". وعن بعضهم: يقال: أرض ظلفة، أي: خشنة تمنع عن الشيء.
قوله: (شر ما أُعطي ابن آدم)، الحديث من رواية أبي داود، عن أبي هريرة:"شَرّ ما في الرَّجل شُحٌّ هالع وجُبن خالع". قال صاحب "الجامع": الشُّحّ: أشدُّ البُخل، والهلع: أشد الجزع، والمراد أن الشحيح يجزع جزعاً شديداً، ويحزن على دِرهم يفوته ويخرج عن
فإن قلت: كيف قال: (عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) ثم على صلاتهم يحافظون؟
قلت: معنى دوامهم عليها أن يواظبوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أفضل العمل أدومه وإن قل» ، وقول عائشة:«كان عمله ديمة» . ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها، ومواقيتها، ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وآدابها، ويحفظوها من الإحباط باقتراف المآثم، فالدوام يرجع إلى أنفس الصلوات، والمحافظة إلى أحوالها. (حَقٌّ مَّعْلُومٌ) هو الزكاة، لأنها مقدرة معلومة؛ أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات معلومة. السائل: الذي يسأل (والْمَحْرُومِ) الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم (يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) تصديقا بأعمالهم واستعدادهم له، ويشفقون من عذاب ربهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يده. وهذا من باب قولهم: "ليلٌ نائمٌ ويومٌ عاصف"، أي: ينام فيه، وتَعصف فيه الريح، ويحتمل أن يكون قد قال:"هالع" لمكان "خالع" للازدواج. والخالع: الذي كأنه خُلِعَ فؤاده، لشدَّة خوفه وفزعه".
قوله: (أفضل العمل أدومه)، قولها:(كان عمله ديمة)، أخرج أحمد بن حنبل معنى الحديث الأول، ولفظ الثاني في "مُسنده".
قوله: (ويحفظوها من الإحباط باقتراف المآثم)، مذهبه.
واعترض بقوله: (إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَامُونٍ) أي: لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الطاعة والاجتهاد أن يأمنه، وينبغي أن يكون مترجحا بين الخوف والرجاء. قرئ:«بشهادتهم» ، و «بشهاداتهم» ، والشهادة من جملة الأمانات، وخصها من بينها إبانة لفضلها، لأن في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها، وفي زيها: تضييعها وإبطالها.
[(فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ • عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ • أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ • كَلاَّ إنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ • فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ والْمَغَارِبِ إنَّا لَقَادِرُونَ • عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ ومَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ • فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا ويَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ • يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ • خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ اليَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) 36 - 44]
كان المشركون يحتفون حول النبي صلى الله عليه وسلم حلقا حلقا وفرقا فرقا، يستمعون ويستهزءون بكلامه، ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم، فنزلت. (مُهْطِعِينَ) مسرعين نحوك، مادي أعناقهم إليك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ("بشهادتهم" و {بِشَهَادَاتِهِمْ} ، حفص:{بِشَهَادَاتِهِمْ} على الجمع، والباقون: بغير ألف على التوحيد.
قوله: (في زَيِّها)، أي: مَنْعِها.
قوله: ({مُهْطِعِينَ}: مُسرعين نحوك مادِّي أعناقهم)، الجوهري:"هَطَعَ الرجل: إذا أقبل ببصره على الشيء لا يُقلع منه، يهطع هطوعاً. وأهطع إذا مد عنقه وصوب رأسه، وأهطع في عدوه إذا أسرع".
مقبلين بأبصارهم عليك (عِزِينَ) فرقا شتى جمع عزة، وأصلها عزوة، كأن كل فرقة تعتزى إلى غير من تعتزي إليه الأخرى؛ فهم مفترقون، قال الكميت:
ونحن وجندل باغ تركنا
…
كتائب جندل شتى عزينا
وقيل: كان المستهزئون خمسة أرهط.
(كَلاَّ): ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة، ثم علل ذلك بقوله:(إنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ) إلى آخر السورة، وهو كلام دال على إنكارهم البعث، فكأنه قال: كلا إنهم منكرون للبعث والجزاء؛ فمن أين يطمعون في دخول الجنة؟
فإن قلت: من أي وجه دل هذا الكلام على إنكار البعث؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأصلها عِزوة)، قال أبو البقاء:" {عِزِينَ}: جمع عِزَة، والمحذوف الواو وقيل: الياء؛ من عَزوته إلى أبيه وعزَيته، لأن العِزَة الجماعة، وبعضهم مُنضم إلى بعض، كما أن المنسوب مضموم إلى المضموم إليه. و {عَنِ} مُتعلق بـ {عِزِينَ}، أي: مُتفرقين عنهما، ويجوز أن يكون حالاً".
قوله: (ونحن وجَنْدل) البيت، أي: نحن تركنا كتائب جندل متفرقين، والحال أن جندلاً باغٍ. و"جندل" مبتدأ، و"باغ" خبره، والجملة كالاعتراض، و"تركنا" خبر "نحن".
قلت: من حيث أنه احتجاج عليهم بالنشأة الأولى، كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من التنزيل، وذلك قوله:(خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ) أي: من النطف، وبالقدرة على أن يهلكهم ويبدل ناسا خيراً منهم، وأنه ليس بمسبوق على ما يريد تكوينه لا يعجزه شيء، والغرض أن من قدر على ذلك لم تعجزه الإعادة.
ويجوز أن يراد: إنا خلقناهم مما يعلمون، أي: من النطفة المذرة، وهي منصبهم الذي لا منصب أوضع منه، ولذلك أبهم وأخفى، إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ويقولون: لندخلن الجنة قبلهم.
وقيل: معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد منهم الجنة إلا بالإيمان والعمل الصالح،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وبالقدرة على أن يهلكهم)، عطف على قوله: بـ "النشأة الأولى"، فقوله "بالنشأة الأولى"، إشارة إلى أن قوله تعالى:{إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} ، وقوله:"بالقدرة" إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج: 40]، وهما من قوله تعالى:{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} إلى قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 61 - 62].
قوله: (وقيل: معناه إنا خلقناهم من نُطفة كما خلقنا)، يعني أن المراد من قوله {مِّمَّا يَعْلَمُونَ} النظفة، وذكرها إما لإثبات القدرة على أن يقال: إنا كما قدرنا على خلقهم من ماء، نقدر على إعادتهم، أو لإثبات الإهانة والحقارة، وأنّهم لا يستحقون تلك الكرامة من حيث أنفسهم، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} [آل عمران: 73]، أو انهم وسائر من خلق من الماء مستوون، وإنما التقديم بحسب العمل. قال القاضي: "المعنى أنكم مخلوقون من نُطفة مذرة، وهي غير مناسبة لعالم القُدُس، فمن لم يستكمل بالإيمان والطاعة، ولم يَتَخلَّق
فلم يطمع أن يدخلها من ليس له إيمان وعمل؟ وقرئ: «برب المشرق والمغرب» ، و (يَخْرُجُونَ)، و «يُخرجون» ، و (مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا)، بالإظهار والإدغام، و (نُصُبٍ)، و «نصب» ، وهو كل ما نصب فعبد من دون الله (يُوفِضُونَ) يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة «سأل سائل» أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالأخلاق الزكية، لم يستعد لدخوله. أو أنكم مخلوقون مما تعملون من أجل ما تعلمون، وهو تكميل النفس بالعلم والعمل، فمن لم يستكملها لم يتبوأ في منازل الكاملين".
قوله: (بالإظهار والإدغام، و {نُصُبٍ})، بالإدغام: أبو عمرو، و {نُصُبٍ} بضمتين: ابن عامر وحفص، والباقون: بفتح النون وإسكان الصاد. قال الزجاج: "فمن قرأ "نَصْبٍ"، فمعناه: كأنهم يُدعون إلى علم منصوب لهم. ومن قرأ {نُصُبٍ} ، فمعناه إلى أصنام لهم، كما قال تعالى:{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3].
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة نوح
عليه السلام
مكية، تسعٌ أو ثمان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَاتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ • قَالَ يَا قَوْمِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ • أَنِ اعْبُدُوا الله واتَّقُوهُ وأَطِيعُونِ • يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ ويُؤَخِّرْكُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إنَّ أَجَلَ الله إذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) 1 - 4]
(أَنْ أَنذِرْ) أصله: بأن أنذر، فحذف الجار وأوصل الفعل، وهي أن الناصبة للفعل، والمعنى: أرسلناه بأن قلنا له أنذر، أي: أرسلناه بالأمر بالإنذار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة نوح
ثمان وعشرون آية، مكية، إجماعاً
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (وهي "أَنْ" الناصبة للفعل)، قال في "يونس":"قد سَوغ سيبويه أن توصل أن بالأمر والنهي، وإن كان من حق الصلة أن تكون جملة، تحتمل الصدق والكذب، لأن الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر، والأمر والنهي دالان على المصدر".
ويجوز أن تكون مفسرة، لأن الإرسال فيه معنى القول. وقرأ ابن مسعود:«أنذر» بغير «أن» على إرادة القول. و (أَنِ اعْبُدُوا) نحو (أَنْ أَنذِرْ) في الوجهين.
فإن قلت: كيف قال (ويُؤَخِّرْكُمْ) مع إخباره بامتناع تأخير الأجل، وهل هذا إلا تناقض؟ قلت: قضى الله - مثلا - أنّ قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسع مئة، فقيل لهم: آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى، أي: إلى وقت سماه الله وضربه أمداً تنتهون إليه لا تتجاوزونه، وهو الوقت الأطول تمام الألف. ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت، ولم تكن لكم حيلة، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير.
[(قَالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً ونَهَارًا • فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إلاَّ فِرَارًا • وإني كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وأَصَرُّوا واسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا • ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا • ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا • فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قضى الله - مثلاً - أن قوم نوح عليه السلام إن آمنوا عَمَّرَهم) إلى آخره، ذكره الإمام بعينه في "تفسيره"، وقال الواحدي ومحيي السنة:"المعنى: يعافيكم إلى منتهى آجالكم فلا يُعاقبكم، {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4]، يقول: آمنوا قبل الموت تَسلموا من العقوبات، فإن أجل الموت إذا جاء لا يُؤخر، فلا يمكنكم الإيمان إذا جاء الأجل". وقد مر شيء صالح من هذا البحث في "الفاطر" عند قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} [فاطر: 11].
إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا • يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا • ويُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وبَنِينَ ويَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ ويَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا • مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وقَارًا • وقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا • أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا • وجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا • والله أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا • ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ويُخْرِجُكُمْ إخْرَاجًا • والله جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا • لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا) 5 - 20]
(لَيْلاً ونَهَارًا) دائباً من غير فتور مستغرقا به الأوقات كلها (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي) جعل الدعاء فاعل زيادة الفرار. والمعنى على أنهم ازدادوا عنده فرارا، لأنه سبب الزيادة، ونحوه:(فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ)[التوبة: 125]، (فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا) [التوبة: 124].
(لِتَغْفِرَ لَهُمْ) ليتوبوا عن كفرهم فتغفر لهم، فذكر المسبب الذي هو حظهم خالصاً ليكون أقبح لإعراضهم عنه. سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الإمام: {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، يعني: كُنتم من أهل النظر والعلم، وفيه: أنهم لا نهماكهم في حب الدنيا، كأنهم شاكون في الموت".
قوله: (والمعنى على أنهم ازدادوا عنده فراراً)، يُريد انه من الإسناد المجازي.
قوله: (فَذَكَرَ المسبب الذي هو حظهم خالصاً)، يعني: جرد المسبب عن السبب، ليكون أشنع عليهم، أي: ليس مقصودي من دعوتكم إلى الإيمان والطاعة، سوى المنفعة العائدة عليكم، فما أقبح إعراضكم عما ينفعكم! قال الإمام:"إنما دعاهم نوح عليه السلام إلى العبادة والتقوى، لأجل أن يغفر الله لهم؛ فإن المقصود الأولي هو حصول المغفرة، فالطاعة إنما تطلب للتوسل بها إليها".
(واسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) وتغطوا بها، كأنهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم، أو تغشيهم لئلا يبصروه كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله. وقيل: لئلا يعرفهم؛ ويعضده قوله تعالى: (أَلا إنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ)[هود: 5].
الإصرار: من: أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها؛ استعير للإقبال على المعاصي والإكباب عليها (واسْتَكْبَرُوا) وأخذتهم العزة من إتباع نوح وطاعته، وذكر المصدر تأكيد ودلالة على فرط استقبالهم وعتوهم.
فإن قلت: ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا، ثم دعاهم جهارا، ثم دعاهم في السر والعلن؛ فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف.
قلت: قد فعل عليه الصلاة والسلام كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد، فافتتح بالمناصحة في السر، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان. ومعنى () الدلالة على تباعد الأحوال، لأن الجهار أغلظ من الإسرار؛ والجمع بين الأمرين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أن تغشاهم ثيابهم، أو تُغشيهم)، أي: استغشوا، إما من الغشاء أو التغشية.
قوله: (أَصَرّ الحمار على العانة)، الجوهرى:"صر الفرس أذنيه: ضمهما إلى رأسه". العانة: وهي القطيع من حُمُرِ الوَحش، والكَدْم: العض.
قوله: (استعير للإقبال على المعاصي)، قال رحمه الله: لو لم يكن في ارتكاب المعاصي إلا التشبيه بالحمار، لكفى به مزجرة، فكيف والتشبيه في أسوأ حال وأفحشها، وهو حالة الكَدْم، والطّرد للسِّفاد؟ ".
أغلظ من إفراد أحدهما. و (جِهَارًا) منصوب بدعوتهم نصب المصدر، لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد، لكونها أحد أنواع القعود، أو لأنه أراد ب- (دَعَوْتُهُمْ): جاهرتهم.
ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا، بمعنى دعاء جهاراً، أي: مجاهراً به، أو مصدراً في موضع الحال، أي: مجاهراً؛ أمرهم بالاستغفار الذي هو التوبة عن الكفر والمعاصي، وقدم إليهم الموعد بما هو أوقع في نفوسهم وأحب إليهم من المنافع الحاضرة والفوائد العاجلة، ترغيباً في الإيمان وبركاته والطاعة ونتائجها من خير الدارين، كما قال:(وأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ الله)[الصف: 13]، (ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ) [الأعراف: 96]، (ولَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجِيلَ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ) [المائدة: 66]، (وأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم) [الجن: 16]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقَدّم إليهم الموعد)، أي:{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} الآية. نحوه قوله تعالى: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} [ق: 28]، أي: أوعدتكم بعذاب على ألسنة رُسلي.
قوله: (كما قال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} [الصف: 13]، استشهاد لقوله:"بما هو أوقع لنفوسهم وأحب إليهم من المنافع الحاضرة"، أي: ولكم إلى هذه النعمة المذكورة، نعمة أخرى محبوبة إليكم، وهي {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، أي فتح مكة. وفي {تُحِبُّونَهَا} شيء من التوبيخ على محبة العاجلة.
وقال القاضي: "كأنهم لما أمرهم بالعبادة قالوا: إن كنا على حق فلا نتركه، وإن كنا على باطل، فكيف يقبلنا ويلطف بنا من عصيناه؟ فأمرهم بما يَجُب معاصيهم، ويجلب إليهم المِنَح، ولذلك وعدهم عليه بما هو أوقع في قلوبهم".
وقيل: لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة، حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، وروي سبعين، فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله تعالى الخصب ودفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضي الله عنه، أنه خرج يستسقى، فما زاد على الاستغفار، فقيل له: ما رأيناك استسقيت! فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر؛ شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ. وعن الحسن، أن رجلا شكا إليه الجدب فقال: استغفر الله؛ وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بمجاديح السماء)، المجاديح: واحدها مجدح، والياء زائدة للإشباع. والقياس أن يكون واحدها مجداحاً، وأما مجدح فجمعه المجاديح. والمِجْدح نَجم من النجوم، وقيل: هو الدَّبران. وقيل: هو ثلاثة كواكب كالأثافي، تشبيهاً بالمجدح الذي له ثلاث شُعب. وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر، فجعل الاستغفار مُشبهاً بالأنواء مُخاطبة بما يعرفونه، لا قولاً بالأنواء.
وجاء بلفظ الجمع لإرادة الأنواء جميعها، التي يزعمون أن من شأنها المطر. وعن بعضهم: وقد أجرى الله تعالى إنزال المطر عند طلوع ذلك، ثم رأوا المطر منه لا من الله. وقيل: المِجدح كوكب كان يكثر المطر عند طلوعه، أكثر ما يكون عند طلوع سائر الكواكب.
فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فتلا له هذه الآية. والسماء: المظلة؛ لأن المطر منها ينزل إلى السحاب؛ ويجوز أن يراد السحاب أو المطر، من قوله:
إذا نزل السّماء بأرض قوم
والمدرار: الكثير الدرور، ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، كقولهم: رجل أو امرأة معطار ومتفال. (جَنَّاتٍ) بساتين. (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وقَارًا) لا تأملون له توقيراً أي: تعظيما، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إذا نَزَل السماءبأرض قوم)، تمامه:
رَعَيناها وإن كانوا غِضابا
ويروى: "رعيناه"، على رواية:"إذا نَبَتَ السماء"، أي: العُشْب.
قوله: (ما لكم لا تكونو على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب)، يعني: حَثٌّ على رجاء الوقار لله تعالى.
والمراد: الحث على الإيمان والطاعة الموجبين لرجاء ثواب الله، فهو من الكناية التلويحية، لأن من أراد رجاء تعظيم الله وتوقيره إياه، آمن به وعبده وعمل صالحاً، ومن عمل الصالحات رجاء ثزاب الله وتعظيمه إياه في دار الثواب، فهو من باب مُقدمة الواجب، لأن الحث على تحصيل الرجاء مسبوق بالحث على تحصيل الإيمان، قال الإمام:"إن القوم كانوا يُبالغون في الاستخفاف بنوح عليه السلام، فأمرهم الله بتوقيره، أي: إنكم إذا وقَرتم نوحاً وتركتم استخفافه، كان ذلك لأجل الله، فما لكم لا ترجون لله وقاراً".
و (لِلَّهِ) بيان للموقر، ولو تأخر لكان صلة للوقار. وقوله:() في موضع الحال، كأنه قال: ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به، لأنه خلقكم أطواراً، أي تارات: خلقكم أولاً ترابا، ثم خلقكم نطفاً، ثم خلقكم علقا، ثم خلقكم مضغاً، ثم خلقكم عظاماً ولحماً، ثم أنشأكم خلقاً آخر. أو لا تخافون لله حلما وترك معاجلة العقاب فتؤمنوا؟ وقيل: ما لكم لا تخافون لله عظمة؟
وعن ابن عباس: لا تخافون لله عاقبة، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب، من: وقر؛ إذا ثبت واستقر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بيان للموقر)، بكسر القاف، كأنه لما قيل:{مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} ، فقيل: لمن الوقار؟ فأجيب: لله، أي: لله الوقار فيوقركم، ولو تأخر كان صلة للوقار، لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه. وعن بعضهم: البيان في كلامهم قد يتقدم ويتأخر، فالتقدم كقول الله تعالى:{لِلَّهِ وَقَارًا} ، والتأخر كقولك: مرحباً بك، فـ "بك" بيان. ولكن إذا تقدم هنا وجب أن يكون بياناً، أي: وقاراً. وإذا تأخر فالظاهر أنه صلة، ويجوز أن يكون بياناً، أي: وقاراً، لمن؟ أي: لله.
قوله: (وهي حال موجبة للإيمان)، قال القاضي:"حال مقررة للإنكار، من حيث إنها موجبة للرجاء، لأن خلقهم أطواراً يقتضي ذلك".
قوله: (وقيل: ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ ). قال الفراء: "إنما يوضع الرجاء موضع الخوف، لأن مع الرجاء طرفاً من الخوف من الناس، ومن ثم استعمل الخوف بمعنى العلم، كقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229].
قوله: (من: وقر؛ إذا ثبت واستقر)، الجوهري:"وقر الرَّجل: إذا ثبت، يقر وقاراً وقرة، فهو وقور".
نبههم على النظر في أنفسهم أولا؛ لأنها أقرب منظور فيه منهم، ثم على النظر في العالم وما سوى فيه من العجائب الشاهدة على الصانع الباهر قدرته وعلمه من السماوات والأرض والشمس والقمر (فِيهِنَّ): في السموات، وهو في السماء الدنيا؛ لأن بين السموات ملابسة من حيث أنها طباق، فجاز أن يقال: فيهن كذا وإن لم يكن في جميعهن، كما يقال: في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها.
وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما: أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وظهورهما مما يلي الأرض. (وجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، والقمر ليس كذلك، إنما هو نور لم يبلغ قوة ضياء الشمس. ومثله قوله تعالى:(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً والْقَمَرَ نُورًا)[يونس: 5]، والضياء أقوى من النور.
استعير الإنبات للإنشاء، كما يقال: زرعك الله للخير، وكانت هذه الاستعارة أدل على الحدوث، لأنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات، ومنه قيل للحشوية: النابتة والنوابت، لحدوث مذهبهم في الإسلام من غير أولية لهم فيه، ومنه قولهم: نجم فلان لبعض المارقة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أقرب منظور فيه منهم)، "منهم" صلة "أقرب"، يقال: قَرُب منه. وإضافة "أقرب" إلى النكرة، نحو: زيد أفضل رجل، أي: إذا عدَّد وفصَّل كل واحد من المنظور فيه، واحداً واحداً، تكون أنفسهم أقرب إليهم من الجميع لا محالة.
قوله: (لبعض المارِقة)، النهاية:"المارِقون: الخوارج، وفي الحديث: "يَمرقون من الدِّين مُروق السَّهم من الرَّمِية"، أي: يجوزونه ويتعدَّونه".
والمعنى: أنبتكم فنبتم نباتاً. أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا) مقبورين، ثم «يخرجكم» يوم القيامة، وأكده بالمصدر كأنه قال: يخرجكم حقاً ولا محالة، جعلها بساطاً مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه (فِجَاجًا) واسعة منفجة.
[(قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إنَّهُمْ عَصَوْنِي واتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ ووَلَدُهُ إلاَّ خَسَارًا • ومَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا • وقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ولا تَذَرُنَّ ودًا ولا سُوَاعًا ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا • وقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ ضَلالاً) 21 - 24]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فنبتُّم نباتاً)، في الزجاج:"معنى أَنْبتَكم: تَنبتون. والمصدر على اللفظ: أنبتكم إنباتاً، ونباتاً أبلغ في المعنى"، لما يُشعر بأن الله أراد نباتكم فنبتم.
الانتصاف: "هذا من بديع القرآن، لا ترى العُدول من لفظ إلى آخر إلا لمعنى، والنحوي يقول: أُجري المصدر على غير فعله، وصاحب المعاني يقول: له فائدة في التحقيق وراء هذا، وهو التنبيه على تحتم القدرة وسرعة نفاذ حُكمها، حتى كان إنبات الله تعالى نفس النبات، فقرن أحدهما بالآخر". وقال القاضي: "تقديره: أنبتكم إنباتاً فنبتم نباتاً، فاختصر اكتفاء بالدلالة الإلزامة".
وقلت: نحو هذه الدلالة ما في قوله تعالى: {أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ} [الأعراف: 160]، أي: فَضَربَ فانبجست؛ قال: "فجعل الانبجاس مسبباً عن الإيحاء
(واتَّبَعُوا) رؤوسهم المقدمين أصحاب الأموال والأولاد، وارتسموا ما رسموا لهم من التمسك بعبادة الأصنام، وجعل أموالهم وأولادهم التي لم تزدهم إلا وجاهة ومنفعة في الدنيا زائدة (خَسَارًا) في الآخرة، وأجرى ذلك مجرى صفة لازمة لهم وسمة يعرفون بها، تحقيقا له وتثبيتاً، وإبطالاً لما سواه. وقرئ:(ووَلَدُهُ)، «وولده» بضم الواو وكسرها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بِضَرب الحجر، للدلالة على أن الموحى إليه، لم يتوقف عن اتباع الأمر"، هذا معنى قول صاحب "الانتصاف": "هذا هو التنبيه على تحتم القدرة وسرعة نفاذ حكمها".
قوله: (وارتسموا ما رسموا لهم)، يقال: رسمت له كذا فارتسمه، أي امتثله.
قوله: (زائدة {خَسَارًا} ، {خَسَارًا}: مفعول "زائدة"، و"زائدة" ثاني مفعولي {جَعَلَ} .
قوله: (وأجرى ذلك مجرى صفة لازمة لهم، وسمة يُعرفون بها)، يعني: كنى عن الرؤساء بقوله: {مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} ، كما يُكنى عن الإنسان بقولهم: حي مستوي القامة عريض الأظفار، لأنه صفة لازمة، أي: كاشفة موضحة، فنفى عنهم جميع وجوه الأرباح والمنافع، وأثبت لهم الخسار، وإليه الإشارة بقوله:"تحقيقاً له وإبطالاً لما سواه".
قوله: ("وَوُلْدُه" بضم الواو)، وقال الزجاج:"الوَلَد والوُلْد: بمعنى؛ مثل: العَرَب والعُرْب". قرأ نافع وعاصم وابن عامر: "وَلَدُه"، بفتح الواو واللام، والباقون: بضم الواو وإسكان اللام. وكسر الواو: شاذ.
(ومَكَرُوا) معطوف على (لَّمْ يَزِدْهُ)، وجمع الضمير وهو راجع إلى «من» ؛ لأنه في معنى الجمع. والماكرون هم الرؤساء، ومكرهم: احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح، وتحريش الناس على أذاه، وصدهم عن الميل إليه والاستماع منه، وقولهم لهم: لا تذرون آلهتكم إلى عبادة رب نوح. (مَكْرًا كُبَّارًا) قرئ بالتخفيف والتثقيل. والكبار أكبر من الكبير، والكبار أكبر من الكبار، ونحوه: طوال وطوال. (ولا تَذَرُنَّ ودًا) كأن هذه المسميات كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فخصوها بعد قولهم:(لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ)، وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب، فكان «ود» ل- «كلب» ، وسواع ل- «همدان» ، ويغوث ل- «مذحج» ، ويعوق ل- «مراد» ، ونسر ل- «حمير» ؛ ولذلك سمت العرب بعبد ود وعبد يغوث، وقيل: هي أسماء رجال صالحين، وقيل: من أولاد آدم ماتوا، فقال إبليس لمن بعدهم: لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم، ففعلوا؛ فلما مات أولئك قال لمن بعدهم: إنهم كانوا يعبدونهم؛ فعبدوهم. وقيل: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر. وقرئ:«ودا» بضم الواو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({كُبَّارًا} قُرئ بالتخفيف والتثقيل)، التثقيل: المشهورة، والتخفيف: شاذ.
قوله: (فكان "ود" لـ "كلب") إلى آخره، مثله: رواه البخاري عن ابن عباس مع اختلاف فيه.
قوله: (وقُرئ: "ودًّا"، بضم الواو): نافع، والباقون: بفتحها.
وقرأ الأعمش: «ولا يغوثا ويعوقاً» بالصرف، وهذه قراءة مشكلة، لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ففيهما سببا منع الصرف: إما التعريف ووزن الفعل، وإما التعريف والعجمة؛ ولعله قصد الازدواج فصرفهما، لمصادفته أخواتهما منصرفات: وداً وسواعا ونسرا، كما قرئ:(وضُحَاهَا) بالإمالة، لوقوعه مع الممالات للازدواج
(وقَدْ أَضَلُّوا) الضمير للرؤساء، ومعناه: وقد أضلوا (كَثِيرًا) قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام ليسوا بأول من أضلوهم. أو وقد أضلوا بإضلالهم كثيرا، يعنى أن هؤلاء المضلين فيهم كثرة. ويجوز أن يكون للأصنام، كقوله تعالى:(إنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ)[إبراهيم: 36].
فإن قلت: علام عطف قوله (ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ)؟
قلت: على قوله: (رَّبِّ إنَّهُمْ عَصَوْنِي)، على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد (قَالَ) وبعد الواو النائبة عنه، ومعناه: قال رب إنهم عصوني،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومعناه: وقد أضلوا)، مبتدأ وخبر، وقوله:"ليسوا بأول من أضلوهم"، بدل أو بيان للخبر.
قوله: (وقد أضلوا بإضلالهم) أي: بإضلال المؤمنين (كثيراً)، وهم هم؛ فهو من التجريد، وكان من الظاهر: وقد أضل الرؤساء، إياهم، أي الموصين المخاطبين بقوله:{لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ، فوضع "كثيراً" موضعه على سبيل التجريد؛ فالباء في "بإضلالهم" كالباء في: رأيت بك أسداً.
قوله: (بعد {قَالَ} وبعد الواو)، يريد: أن كلام نوح مذكور بعد {قَالَ} في قوله تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} ، وبعد الواو في قوله تعالى:{وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} ،
وقال: لا تزد الظالمين إلا ضلالاً، أي: قال هذين القولين، وهما في محل النصب، لأنهما مفعولا (قَالَ) كقولك: قال زيد: نودي للصلاة وصل في المسجد؛ تحكي قوليه معطوفاً أحدهما على صاحبه.
فإن قلت: كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته؟
قلت: المراد بالضلال: أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف، لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به، بل لا يحسن الدعاء بخلافه. ويجوز أن يريد بالضلال: الضياع والهلاك، لقوله تعالى:(ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ تَبَارًا)[نوح: 28].
[(مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ الله أَنصَارًا • وقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا • إنَّكَ إن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ ولا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا) 25 - 27]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فحكى الله تعالى الكلامين وعطف أحدهما على الآخر؛ فالواو في قوله: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} من كلام الله لا من كلام نوح، ومن ثم فُسِّر المعنى، وقدره بقوله:"أي: قال هذين القولين".
ولو كان الواو من كلامه عليه السلام، لكان المقول واحداً، ألا ترى كيف جعل ما بعد {قَالَ} ، وهو {رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} ، وما عطف عليه من قوله:{وَاتَّبَعُوا} و {وَمَكَرُوا} و {وَقَالُوا} ، قولاً واحداً؟ ولعل قصده في ذلك: أن الجملة الثانية مُسببة عن الأولى، فكان حقها الفاء، أي: رَبِّ إنهم عصوني، فلا تزدهم إلا ضلالاً، فتركت لمكان الاستئناف، أي: فما تُريد بهذا القول؟ فقال: لا تزد. ويمكن أن تجعل الواو من كلامه عليه السلام، ويفوض الترتيب إلى ذهن السامع.
قوله: (المراد بالضلال أن يخذلوا)، الانتصاف: "هذا من قاعدته: التي عُرف فسادها.
تقديم (مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ) لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان، فإدخالهم النار، إلا من أجل خطيئاتهم، وأكد هذا المعنى بزيادة «ما» . وفي قراءة ابن مسعود «من خطيئاتهم ما أغرقوا» بتأخير الصلة، وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم، وإن كانت كبراهن، وقد نعيت عليهم سائر خطيئاتهم كما نعي عليهم كفرهم، ولم يفرق بينه وبينهن في استيجاب العذاب، لئلا يتكل المسلم الخاطئ على إسلامه، ويعلم أن معه ما يستوجب به العذاب وإن خلا من الخطيئة الكبرى. وقرئ:(خَطِيئَاتِهِمْ) بالهمزة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تقديم {مِّمَّا خَطِيآتِهِمْ} لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان، فإدخالهم النار، إلا من أجل خطيئاتهم). قال الإمام: "من قال من المنجّمين: إن ذلك إنما كان بسبب أنه انقضى في ذلك الوقت نصف الدور الأعظم، كان مُكذباً لصريح هذه الآية، فيجب تكفيره".
قوله: (بتأخير الصلة)، أي: بتأخير "ما" الزائدة عن {خَطِيآتِهِمْ} .
قوله: (وقُرئ: خطيئاتهم، بالهمزة)، أبو عمرو: مما خطاياهم، على لفظ: قضاياهم. والباقون بالياء والتاء والهمزة جمعاً، والقراءتان الأخيرتان شاذتان.
والباقون بالياء والتاء والهمزة جمعاً، والقراءتان الأخيرتان شاذتان.
و «خطياتهم» بقلبها ياء وإدغامها، و «خطاياهم» ، و «خطيئتهم» . بالتوحيد على إرادة الجنس، ويجوز أن يراد الكفر.
(فَأُدْخِلُوا نَارًا): جعل دخولهم النار في الآخرة كأنه متعقب لإغراقهم، لاقترابه، ولأنه كائن لا محالة، فكأنه قد كان. أو أريد عذاب القبر، ومن مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع والطير، أصابه ما يصيب المقبور من العذاب. وعن الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب. وتنكير النار إما لتعظيمها، أو لأن الله أعد لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النار. (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ الله أَنصَارًا) تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله، وأنها غير قادرة على نصرهم، وتهكم بهم، كأنه قال: فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، كقوله تعالى:(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا)[الأنبياء: 43]. (دَيَّارًا) من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما بالدار ديار وديور، كقيام وقيوم؛ وهو فيعال من الدور، أو من الدار؛ أصله ديوار، ففعل به ما فعل بأصل سيد وميت، ولو كان فعالاً لكان دواراً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويجوز أن يراد الكُفر)، يعني: خطيئتهم، على التوحيد: إما أن يُراد به الجنس، فاشتمل على الخطيئات كلها، فهي كالجمع. وإما أن يُراد له العهد، وهي الخطيئة الكبرى، وهي ما كانوا عليه من الكفر.
قوله: (ومن مات في ماء أو نار، أو أكلته السباع والطير: أصابه ما يُصيب المقبور من العذاب)، قال الإمام:"اعلم أن الإنسان هو الذي كان موجوداً من أول عُمُره مع أنه كان صغير الجُثة ثم كَبِر، وإن أجزاءه في التحلل والذوبان دائماً، فالإنسان عبارة عن ذلك الشيء، الذي هو باقٍ من أول عُمُرِه إلى آخره، ثم إنه نَقَلَ ذلك الشيء إلى النار والعذاب".
فإن قلت: بم علم أن أولادهم يكفرون، وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟
قلت: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فذاقهم وأكلهم وعرف طباعهم وأحوالهم، وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه، ويقول: احذر هذا، فإنه كذاب، وإن أبى حذرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك؛ وقد أخبره الله عز وجل أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن؛ ومعنى (ولا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا): لا يلدوا إلا من سيفجر ويكفر، فوصفهم بما يصيرون إليه، كقوله عليه السلام:«من قتل قتيلا فله سلبه» .
[(رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِوَالِدَيَّ ولِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ تَبَارًا) 28]
(ولِوَالِدَيَّ) أبوه لمك بن متوشلخ، وأمه شمخا بنت أنوش، كانا مؤمنين. وقيل: هما آدم وحواء. وقرأ الحسين بن علي: «ولولدي» ، يريد: ساماً وحاماً. (بَيْتِيَ) منزلي، وقيل: مسجدي، وقيل: سفينتي؛ خص أولا من يتصل به؛ لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عم المؤمنين والمؤمنات. (تَبَارًا) هلاكاً.
فإن قلت: ما فعل صبيانهم حين أغرقوا؟
قلت: غرقوا معهم لا على وجه العقاب، ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت، وكم منهم من يموت بالغرق والحرق،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (غَرِقوا معهم لا على وجه العقاب، ولكن كما يموتون)، الانتصاف:"لما علل أحكام الله تعالى بالمصالح، ورُدَّ عليه أن أطفال قوم نوح لم يعملوا ما يقتضي العقوبة، فاجترأ على إنكار عقوبة الأطفال. وأما أهل السنة فقائلون: لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون".
وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون. ومنه قوله عليه السلام: «يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى» ، وعن الحسن: أنه سئل عن ذلك، فقال: علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. وقيل: أعقم الله أرحام نسائهم، وأيبس أصلاب آبائهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة، فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويَصدُرون مصادر شتى)، يعني: يَعُمُّهم الهلاك، فيشمل الصالح والطالح، لكن يُحشرون ويَصدرون على قدر أعمالهم: فريق هالكون، وفريق ناجون كما وَرَدَ في حديث خَسْفِ البيداء.
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة الجن
مكية، وهي ثمان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا • يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا • وإنهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً ولا ولَدًا • وإنهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا • وإنا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) 1 - 5]
قرئ: «أحى» ، وأصله وحي؛ يقال: أوحى إليه ووحى إليه، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الجِنّ
ثمان وعشرون آية، مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
قوله: (قُرئ: "أُحِيَ")، قال ابن جني:" وهي قراءة ابن عائذ، أُحِيَ: من وَحَيت في وزن "فُعِلَ"، يقال: أَوْحيت إليه ووَحَيت إليه. وأصله: وُحي، فلما انضمت الواو ضماً لازماً هُمِزت كقوله تعالى: {أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11]، أي: وُقِّتت، وقالوا في "وجوه": أُجوه".
فقلبت الواو همزة، كما يقال: أعد، وأزن، (وإذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) [المرسلات: 11]، وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة؛ وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإسادة، وإعاء أخيه، وقرأ ابن أبى عبلة:«وحي» على الأصل (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) بالفتح، لأنه فاعل (أُوحِيَ)، و (إنَّا سَمِعْنَا): بالكسر؛ لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم تحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجن كسر؛ وكلهن من قولهم إلا الثنتين الأخريين (وإن المَسَاجِدَ) [الجن: 18]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} ، بالفتح)، ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة من {وَأَنَّهُ} ، {وَأَنَّا} ، {وَأَنَّهُمْ} ، من لَدُن قوله:{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} إلى قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} ، في ابتداء كل آية. والباقون: بكسرها.
وقال أبو البقاء: "ما في هذه السورة من "إن"، فبعضه مفتوح وبعضه مكسور وفي بعضه اختلاف، ما كان معطوفاً على {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} فهو مفتوح لا غير، لأنها مصدرية وموضعها رفع بـ {أُوحِيَ} . وما كان معطوفاً على {إِنَّا سَمِعْنَا} ، فهو مكسور لأنه محكي بعد القول، وما صح أن يكون معطوفاً على الهاء في {بِهِي} ، كان مفتوحاً على قول الكوفيين على تقدير: وبأن، ولا يُجيزه البصريون، لأن حرف الجر يلزم إعادته عندهم هنا.
فأما قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} ، فالفتح فيه على وجهين: أحدهما: أنه معطوف على {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} ، فيكون: قد أُوحي. والثاني: أن يكون مُعلقاً بـ {تَدْعُوا} ، أي: لا تشركوا مع الله أحداً، لأن المساجد، أي: مواضع السجود. وقيل: هو جمع مسجد، وهو مصدر. ومن كَسَرَ استأنف، وأما {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ} ، فيحتمل العطف على {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} ، وعلى {إِنَّا سَمِعْنَا} ".
(وإنهُ لَمَّا قَامَ)[الجن: 19]، ومن فتح كلهن فعطفاً على محل الجار والمجرور في (فَآمَنَّا بِهِ)، كأنه قيل: صدقناه وصدقنا (وإنهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا)، (وإنهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا)، وكذلك البواقي.
(نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ): جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقيل: كانوا من الشيصبان، وهم أكثر الجن عدداً، وعامة جنود إبليس منهم. (فَقَالُوا إنَّا سَمِعْنَا) أي: قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم، كقوله:(فَلَمَّا قُضِيَ ولَّوْا إلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ • قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا)[الأحقاف: 29 - 30]. (عَجَبًا) بديعاً مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه، قائمة فيه دلائل الإعجاز. وعجب مصدر يوضع موضع العجيب، وفيه مبالغة؛ وهو ما خرج عن حد أشكاله ونظائره. (يَهْدِي إلَى الرُّشْدِ) يدعو إلى الصواب، وقيل: إلى التوحيد والإيمان، والضمير في (بِهِ) للقرآن؛ ولما كان الإيمان به إيمانا بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك، قالوا:(ولَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)، أي: ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به في طاعة الشيطان. ويجوز أن يكون الضمير لله عز وجل؛ لأن قوله: (بِرَبِّنَا) يفسره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فعطفاً على محل الجار والمجرور)، أي: فيُعطف عطفاً. وقال الزجاج: "العطف على المجرور رديء، لأنه لا يعطف على الهاء المخفوضة إلا بإظهار الخافض. والوجه أن يكون محمولاً على معنى "آمنا به"، لأن معناه: صدقنا وعلمنا، أي: وصدقنا أنه تعالى جد ربنا".
قوله: (قالوا: {وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} ، وهو جواب لما أرادوا أن عطف قوله:{وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} ، من باب عطف المسبب على السبب، وحرف الجمع يُفوض الترتيب إلى ذهن السامع، وهو أبلغ من الفاء. ويمكن أن يقال: إن مجموع قوله: {فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} : مسبب عن مجموع قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} ؛ فكونه قرآناً عجباً، أي: مُعجزاً بديعاً،
(جَدُّ رَبِّنَا) عظمته، من قولك: جد فلان في عيني، أي: عظم. وفي حديث عمر رضي الله عنه: «كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا» . وروي: «في أعيننا» .
أو ملكه وسلطانه أو غناه، استعارة من الجد الذي هو الدولة والبخت؛ لأن الملوك والأغنياء هم المجدودون، والمعنى: وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته، أو لسلطانه وملكوته أو لغناه. وقوله:(مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً ولا ولَدًا) بيان لذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يوجب الإيمان به، وكونه يهدي إلى الرشد، موجب قلع الشرك من سِنْخه، والدخول في دين الله كله.
قوله: (إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ فينا)، الحديث من رواية البخاري ومسلم، عن أنس، "أن رجلاً كان يكتب للنبي? ، وقد كان قرأ "البقرة" و"آل عمران"، وكان الرجل إذا قرأ "البقرة" و"آل عمران"جدَّ فينا".
قوله: (أو مُلكُه)، عطف على "عظمته".
قوله: (استعارة من الجَدّ)، أي استعار الملك والغنى من "الجَدّ"، وهو يحتمل أن يكون استعارة لفظية أو معنوية؛ فاللفظية أن الجَدّ موضوع للبخت والدولة، وهما لا يستعملان إلا في المحلوف، فاستعير في الله تعالى استعارة المرسن للأنف، والمعنوية أن يمثل ما في الغائب، وهو عظمة الله وماكُه وغناه تعالى، بما في الشاهد من البخت والدولة للملوك، فاستعمل في المشبّه ما كان مستعملاً في المشبّه به، من لفظ الجّدّ والبخت، ونحوه سيق في قوله تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65].
وقرئ: «جدا ربنا» على التمييز، «جدا ربنا» ، بالكسر، أي: صدق ربوبيته وحق إلاهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وذلك أنهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان، تنبهوا على الخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيه الله بخلقه واتخاذه صاحبة وولداً، فاستعظموه ونزهوه عنه. سفيههم: إبليس لعنه الله أو غيره من مردة الجن. والشطط: مجاوزة الحد في الظلم وغيره. ومنه: أشط في السوم إذا أبعد فيه، أي: يقول قولا هو في نفسه شطط؛ لفرط ما أشط فيه، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله، وكان في ظننا أن أحداً من الثقلين لن يكذب على الله ولن يفترى عليه ما ليس بحق،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقُرئ: جدّاً ربنا، على التمييز)، قال ابن جني:"قرأها عكرمة، أي: تعالى ربنا جداً، ثم قدم المميز، نحو قولك: حسن وجهاً زيد".
قوله: ("وجِدُّ رَبِّنا" بالكسر، أي: صدق ربوبيته)، ونحوه: جد العالم، أي: ليس فيه هزل، يعني أن علمه غير مشوب بشيء من الجهل، لقوله عليه السلام:{أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، جواباً على قولهم:{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} ؟ [البقرة: 67]. فمعنى قوله: {جَدُّ رَبِّنَا} في هذا المقام، معنى قوله:{لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا} [الأنبياء: 17]، إذا فُسِّرَ {لَهْوًا} بـ {وَلَدًا} ، ولهذا قال:"وحَقُّ إلهيته عن اتُخاذ الصاحبة والولد".
قوله: (أشط في السَّوم إذا أبعد فيه)، الجوهري:"يُقال: سامت الماشية تَسوم سوماً، إذا رَعَت، فهي سائمة".
قوله: (أي: يقول قولاً هو في نفسه شطط)، أي:"شططاً" صفة لمصدر محذوف. قال القاضي: "أي: قولاً ذا شطط، أو: هو شَطَطٌ لِفَرط ما أشَطّ فيه".
فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه من ذلك، حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم وافتراؤهم كذباً قولا ()، أي: مكذوبا فيه. أو نصب نصب المصدر لأن الكذب نوع من القول. ومن قرأ: «أن لن تقوّل» ، وضع كذبا موضع تقولا، ولم يجعله صفة؛ لأن التقوّل لا يكون إلا كذباً.
[(وإنهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا • وإنهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا) 6 - 7]
والرهق: غشيان المحارم، والمعنى: أن الإنس باستعاذتهم بهم زادوهم كبراً وكفراً؛ وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم؛ فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سدنا الجن والإنس؛ فذلك رهقهم، أو فزاد الجن الإنس رهقا بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم (وإنهُمْ) وأن الإنس (ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ) وهو من كلام الجن، يقوله بعضهم لبعض. وقيل: الآيتان من جملة الوحي، والضمير في (وإنهُمْ ظَنُّوا) للجن، والخطاب في (ظَنَنتُمْ) لكفار قريش.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومن قرأ: "أن لن تقول")، قال ابن جني:"قرأها الحسن ويعقوب، و {كَذِبًا} على هذا منصوب على المصدر من غير حذف موصوف معه، وذلك أن "تقول" في معنى "تَكذِب"، كأنه قيل: أن لن يكذب الإنس والجن على الله كذباً. وأما من قرأ: {أَن لَّن تَقُولَ}، فإنه وصف مصدر محذوف، أي: أن لن تقول على الله قولاً كذباً، أو نصبه نصب المفعول به، أي: أن لن تقول كذباً، كقولك: قلت حقاً، وقلت شِعراً".
قوله: (الآيتان من جُملة الوحي)، يعني: قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ} ، وقولهم:{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} ، من جملة قوله:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ} ، فعلى هذا، الحق أن تُفتح {أَنَّهُ} و {وَأَنَّهُمْ} كما مرَّ آنفاً.
[(وأنا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشُهُبًا • وإنا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا) 8 - 9]
اللمس: المس، فاستعير للطلب؛ لأن الماس طالب متعرف قال:
مسنا من الآباء شيئا وكلنا
…
إلى نسب في قومه غير واضع
يقال: لمسه والتمسه، وتلمسه، (كطلبه وأطلبه وتطلبه)، ونحوه: الجس، وقولهم: جسوه بأعينهم وتجسسوه. والمعنى: طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها. والحرس: اسم مفرد في معنى الحراس، كالخدم في معنى الخدام؛ ولذلك وصف بشديد، ولو ذهب إلى معناه لقيل: شداداً؛ ونحوه:
أخشى رجيلاً أو ركيباً غاديا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (مَسِسنا من الآباء) البيت، بعده:
فلمت بَلغنا الأمّهات وَجَدتُّمُ بَني عَمِّكم كانوا كرامَ المضاجعِ
أي: طلبنا عيباً، لأن الماس طالب مُتعرف، وقوله:"غير واضع" صفة "نسب"، يقول على سبيل المفاخرة مع الأقرباء: طَلَبنا من جانب الآباء، هل فينا من ضَعَةً وفساد، فوجدنا كُلًّا منا ينتمي إلى حسب شريف ونسب كريم يَرفعه ولا يَضعه، فلما بلغنا المفاخرة إلى الأمهات، وجدتم بني عمِّكم، والمراد به أنفسكم، كرام المضاجع. والمضاجع كناية عن الأزواج، وهذا من أحسن المعاريض، لأن المراد: كُنا من طرف الآباءِ سواء، وكانت أمهاتنا أشرف من أمهاتكم.
لأن الرجل والركب مفردان في معنى الرجال والركاب. والرصد: مثل الحرس: اسم جمع للراصد، على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب، ويمنعونهم من الاستماع. ويجوز أن يكون صفة للشهاب بمعنى الراصد، أو كقوله:
ومعى جياعاً
يعني: يجد شهاباً راصداً له ولأجله.
فإن قلت: كأن الرجم لم يكن في الجاهلية، وقد قال الله تعالى:(ولَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ)[الملك: 5]، فذكر فائدتين في خلق الكواكب: التزيين، ورجم الشياطين؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ذوي شهاب) إلى آخره، قيل: حاصل الوجه الأول: أن المراد بقوله: {شِهَابًا} الملائكة، و {رَّصَدًا} صفته على الوجه الذي ذكره. والثاني: أن المراد بالشهاب معناه المشهور من غير حذف المضاف، والرَّصد مفرد لا اسم جمع، وهو صفة "شِهاب". والثالث: أن يكون المراج بالشهاب اسم جمع، كما في قوله:
ومعي جِياعَا
فإن المراد بالمعي الجمع؛ ولهذا وصفه بالجمع.
وقلت: لعل الحاصلين أن {شِهَابًا رَّصَدًا} ، لا يخلو: إما أن يُحْملا على الجميع، كما يقال: ذوي شهاب راصدين. أو على الإفراد، بأن يُقال: شهاباً راصداً، أي: يجد كل واحد من المُستمع شهاباً راصداً له ولأجله. أو يُحمل {شِهَابًا} على الإفراد، و {رَّصَدًا} على الجمع مُبالغة، نحو قوله:"مِعي جياعاً"، تنزيلاً للواحد وهو الموصوف منزلة الجمع؛ فإن المراد أن
قلت: قال بعضهم: حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إحدى آياته، والصحيح أنه كان قبل المبعث؛ وقد جاء ذكره في شعر أهل الجاهلية، قال بشر بن أبى خازم:
والعير يرهقها الغبار وجحشها
…
ينقض خلفهما انقضاض الكوكب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل مكان من أمكنة الأمعاء بمنزلة معي واحد، فكأنه أمعاء لشدة الجوع. كذلك، كل واحد من المستمع بمنزلة جماعة فيُرمى بالراصدين؛ فلما كان الوجهان قرينين، عقبهما بقوله:"يعني: يجد شهاباً راصداً له".
الجوهري: "المعي واحد الأمعاء". وفي الحديث: "المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر في سبعة أمعاء".
وقلت: الحديث رواه البخاري ومسلم ومالك والترمذي، عن أبي هريرة. وأما "معي جياعاً"، فتمامه:
كأن قُتود رَحلي حين ضَمّت حوالب غُرزاً ومِعيً جياعاَ
"حوالب"خبر "كأن"، والقتود عيدان الرَّحل، جمع قَتَد، والحالبان: العِرقان المكتنفان بالسُّرة، والحَلوبة الناقة ذات اللبن تُركت، والحوالب جمعها. وغَزَّرت إذا قل لبنها، فهي غارزة، نزل الموصوف وهو واحد منزلة الجمع، ووصف بالجمع وهو "جياعاً".
قوله: (والعَيرُ يُرهقُها) البيت، "يُرْهقُها": يُكلِّفها ويُغشيها، يعني: العَير يُكلف الأتان
وقال أوس بن حجر:
وانقض كالدري يتبع
…
نقع يثور تخاله طنبا
وقال عوف بن الخرع:
يرد علينا العير من دون إلفه
…
أو الثور كالدري يتبعه الدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويتبع أثرها، ويغشيها بالغبار في العدو، والجحش يعدو خلفها، كما يهوي كوكب الرَّجم. خازم، بالخاء المعجمة.
قوله: (وانْقَضّ كالدُّرِّي) البيت، يصف فرسه، أي: هوى في العدو كالكوكب الدّرّي، يتبعه نقع، أي: غبار، تخاله، أي: تحسب الغبار طُنُباً من امتداده، انقض الطائر: سَقَط، وانقض الطائر: هوى في طيرانه، ومنه انقِضاض الكواكب.
قوله: (يَرُد علينا العير) البيت، يصف عدو فرسه، أي: يَرُد علينا الحمار الوحشي وهو ينقض، أي: يسقط ويهوي في عدوه.
من دون إلفه، أي: قُرب زوجه، مع أنه إذا كان مع إلفه، كان أشدَّ نفاراً وأحدَّ عدواً.
يَتْبعه الدم؛ أي: أنه مجروح. وكالدري، وهو إما صفة للثور أو الفرس، إذا فُسِّرَ الدَّم للتقرب والحُمرة، وهي نار الحاجب.
وقوله: "عوف بن الخَرِع"، صح بالخاء المعجمة والراء والعين المهملة.
ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر الرجم وزاد زيادة ظاهرة؛ حتى تنبه لها الإنس والجن، ومنع الاستراق أصلاً.
وعن معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم. قلت: أرأيت قوله تعالى: (وإنا كُنَّا نَقْعُدُ)؟ فقال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الزهري عن على بن الحسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار، فقال:«ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ فقالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم» . وفي قوله (مُلِئَتْ) دليل على أن الحادث هو الملء والكثرة، وكذلك قوله (نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ)، أي: كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها، وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته.
[(وإنا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) 10]
يقولون: لما حدث هذا الحادث من كثرة الرجم ومنع الاستراق، قلنا: ما هذا إلا لأمر أراده الله بأهل الأرض، ولا يخلو من أن يكون شراً أو رشداً، أي: خيراً، من عذاب أو رحمة، أو من خذلان أو توفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولكن الشياطين)، متعلق بقوله:"أنه كان قبل المبعث".
قوله: (وهذا ذكر ما حَملهم)، أي: هذا ذكر الداعي الذي حملهم. والذكر المشار إليه ما يُفهم من مجموع: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} إلى قوله: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} . ولهذا أوقع "يقولون" بياناً لقوله: "وهذا ذكر ما حملهم". و"لما" مع جوابه، مقول "يقولون".
قوله: (ما هذا إلا لأمر أراده الله تعالى بأهل الأرض، ولا يخلو من أن يكون شراً أو رشداً)، الانتصاف: "ومن عقائدهم، أي: الجن، أن الهدى والضلال جميعاً من خلق الله، فتأدبوا
[(وأنا مِنَّا الصَّالِحُونَ ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) 11]
(مِنَّا الصَّالِحُونَ) الأبرار المتقون، (ومِنَّا دُونَ ذَلِكَ) ومنا قوم دون ذلك، فحذف الموصوف، كقوله:(ومَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ)[الصافات: 164]، وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه، أو أرادوا الطالحين. (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا) بيان للقسمة المذكورة، أي: كنا ذوى مذاهب مفترقة مختلفة، أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة، أو كنا في طرائق مختلفة، كقوله:
كما عسل الطريق الثّعلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بنسبة الرشاد إليه تعالى، وجعلوا الشر مُضمر الفاعل، فجمعوا بين حسن الاعتقاد والأدب الحسن". وقلت: مثله قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7].
قوله: ({كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} بيان للقسمة المذكورة)، قال الزجاج:"قدداً: متفرقين مسلمين وغير مسلمين، وقوله: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ}، تفسير لـ {طَرَائِقَ قِدَدًا} ". اعلم أن {طَرَائِقَ} هو خبر {كَانَ} ، إما بحذف المضاف في الخبر، وهو "ذو" تارة، و {قِدَدًا} صفة، وهو المراد من قوله: كنا ذوي مذاهب متفرقة". وأخرى مثل على منوال: زيد أسد، وكذلك أتى بأداة التشبيه وبين وجه الشبه بقوله: "في اختلاف أحوالنا". وإما على أنه ظرف مُستقر يُحذف "في" في المؤقت، وإليه الإشارة بقوله: "كنا في طرائق مختلفة". ويجوز أن يُترك على ما هو عليه، ويقدر مضافاً في اسم كان، وهو المراد من قوله: "أو كانت طرائقنا طرائق قِدداً".
قوله: (كما عَسَلَ الطريق الثعلب)، أوله:
لَدْن بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه فيه
أو كانت طرائقنا طرائق قدداً، على حذف المضاف الذي هو الطرائق، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه؛ والقدة من قد، كالقطعة من قطع، ووصفت الطرائق بالقدد، لدلالتها على معنى التقطع والتفرّق.
[(وإنا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ ولَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا) 12]
(فِي الأَرْضِ) و (هَرَبًا): حالان، أي: لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء. وقيل: لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا، ولن نعجزه هربا إن طلبنا. والظن بمعنى اليقين؛ وهذه صفة أحوال الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم: منهم أخيار، وأشرار، ومقتصدون؛ وأنهم يعتقدون أن الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب ولا ينجى عنه مهرب.
[(وإنا لَمَّا سَمِعْنَا الهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا ولا رَهَقًا) 13]
(لَمَّا سَمِعْنَا الهُدَى): هو سماعهم القرآن وإيمانهم به (فَلا يَخَافُ) فهو لا يخاف، أي فهو غير خائف؛ ولأن الكلام في تقدير مبتدأ وخبر دخلت الفاء، ولولا ذاك لقيل: لا يخف.
فإن قلت: أي فائدة: في رفع الفعل وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال: لا يخف؟
قلت: الفائدة فيه: أنه إذا فعل ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رمح لدن: أي: لين، عسل: أي: أسرع، والضمير في "فيه" للهز أو "الكف"، أي: عدا في الطريق، وفيه إشكال؛ لأن حُكم مؤقت المكان كحكم غير الظروف، فلا يُحذف "في"، والبيت شاذ. وقيل: منصوب بحذف الجار واتصال الفعل.
قوله: (الفائدة فيه: أنه إذا فعل ذلك)، أي: الرفع والتقدير. خلاصة الجواب: أن العدول من الظاهر لفائدتين: إحداهما: دلالة الثبوت والدوام التي تُعطيها الجملة الاسمية. وثانيتهما: تقديم الفاعل المعنوي المفيد للاختصاص، وأنه هو المختص بذلك دون غيره.
فكأنه قيل: فهو لا يخاف، فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره. وقرأ الأعمش: فلا يخف، على النهي. (بَخْسًا ولا رَهَقًا): أي جزاء بخس ولا رهق، لأنه لم يبخس أحدا حقاً، ولا رهق ظلم أحد فلا يخاف جزاءهما، وفيه دلالة على أن من حق من آمن بالله أن يجتنب المظالم. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:«المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم» ، ويجوز أن يراد: فلا يخاف أن يبخس؛ بل يجزى الجزاء الأوفى، ولا أن ترهقه ذلة، من قوله عز وجل:(وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)[يونس: 27].
[(وإنا مِنَّا المُسْلِمُونَ ومِنَّا القَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) 14 - 15]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({وَلَا رَهَقًا})، الراغب:"رَهِقَه الأمر، أي: غَشِيَه بِقَهر". الأساس: "رهقه: دنا منه، وأرهقناهم الخيل، وصبي مراهق: مدان للحلم". النهاية: "في حديث علي، رضي الله عنه، أنه وعظ رجلاً في صحبة رجل رهق، أي: فيه خِفَّة وحِدة. ويقال: رجل فيه رهق، إذا كان يَخِفُّ إلى الشر ويغشاه".
قوله: (لأنه لم يبخس أحداً حقّاً)، يريد أنه من باب نفي المسبب لانتفاء السبب، وقد وضع موضع ذلك السبب الإيمان بالله؛ ليؤذن بأن الإيمان هو السبب في الاجتناب عن البَخْس والظلم؛ ولذلك استشهد بقوله:"المؤمن من أمنه الناس". والحديث من رواية الترمذي والنسائي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله? : "المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنه الناس على دمائهم وأموالهم".
قوله: (ويجوز أن يراد: فلا يخاف أن يُبْخَس)، عطف على قوله:"أي: جزاء بخس ولا رَهَق".
(القَاسِطُونَ) الكافرون الجائرون عن طريق الحق. وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: أن الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول فى؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم: ما أحسن ما قال! حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل؛ فقال الحجاج: يا جهلة، إنه سماني ظالما مشركاً، وتلا لهم قوله تعالى:(وأَمَّا القَاسِطُونَ)، وقوله تعالى:(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)[الأنعام: 1]، وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً، أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم؛ وكفى به وعداً أن قال:(فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)، فذكر سبب الثواب وموجبه، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والفرق أن القصد في نفي الخوف على الوجه الأول، كان لأجل انتفاء سببه، وعلى الثاني لإثبات منافيه، وهي الأعمال الصالحة، ليترتب عليها الجزاء الأوفى. كما دل الأول على أن من حق المؤمن أن لا يُنقص حق أخيه المسلم ولا يظلمه، دل الثاني على أن من حقه أن يعمل الأعمال الصالحة، ويفهم منه أيضاً، أن من لم يُؤمن بربه الذي أنعم عليه وأحسن إليه بالنعم الظاهرة والباطنة، تُجعل أعماله التي حسبها أعمالاً، هباءً منثوراً.
قوله: ({الْقَاسِطُونَ}: الكافرون الجائرون)، الراغب: " القسط هو النصيب كالنصف والنَّصفة، قال الله تعالى:{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9]. والقَسط بالفتح، هو أن يأخذ قسط غيره، ولذلك قيل: قَسَطَ الرجل: إذا جار، وأَقْسط: إذا عدل، قال تعالى:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15]، وقال تعالى:{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9].
قوله: (فذكر سبب الثواب وموجبه)، وهو قوله:{تَحَرَّوْا رَشَدًا} ، قال: أي: قَصدوا
[(وألَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا • لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ومَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا) 16 - 17]
(وأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا): «أن» مخففة من الثقيلة، وهو من جملة الموحى، والمعنى: وأوحي إلى أن الشأن والحديث: لو استقام الجن على الطريقة المثلى، أي: لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله والطاعة، ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام، لأنعمنا عليهم ولوسعنا رزقهم. وذكر الماء الغدق وهو الكثير بفتح الدال وكسرها؛ وقرئ بهما، لأنه أصل المعاش وسعة الرزق. (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خولوا منه. ويجوز أن يكون معناه: وأن لو استقام الجن الذين استمعوا على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام، لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طريق الحق والرَّشد. وقيل: تحروا: توخَّوا وعمدوا. والضمير في "به" مُبهم، يفسره قوله:"أن قال".
قوله: (بفتح الدال وكسرها، وقُرئ بهما)، الغدق، بالفتح: هي المشهورة، وبالكسر: شاذة.
قوله: (ويجوز أن يكون معناه)، عطف من حيث المعنى على قوله:"لو استقام الجنُّ على الطريقة المثلى". واختلاف التَّفسيرين بحسب تفسير {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} ؛ فعلى الأول مُؤول بالاختيار، وعلى الثاني بالفتنة والهَلَكة. وينصر الثاني التذييل بقوله:{وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} ، لأنه توكيد لمضمون السابق من الوعيد، أي: لنستدجهم فيتبعوا الشهوات التي هي موجبة للبطر والإعراض عن ذكر الله.
لنفتنهم فيه: لتكون النعمة سبباً في إتباعهم شهواتهم، ووقوعهم في الفتنة، وازديادهم إثماً؛ أو لنعذبهم في كفران النعمة. (عَن ذِكْرِ رَبِّهِ) عن عبادته أو عن موعظته، أو عن وحيه. (يَسْلُكْهُ): وقرئ بالنون مضمومة ومفتوحةً، أي: ندخله (عَذَابًا)، والأصل: نسلكه في عذاب، كقوله:(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)[المدثر: 42] فعدي إلى مفعولين: إما بحذف الجار وإيصال الفعل، كقوله:(واخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ)[الأعراف: 155]، وإما بتضمينه معنى «ندخله» ، يقال: سلكه وأسلكه، قال:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة
والصعد: مصدر صعد، يقال: صعد صعداً وصعوداً، فوصف به العذاب، لأنه يتصعد المعذب، أي: يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تصعدني شيء ما تصعدني خطبة النكاح، يريد: ما شق علي ولا غلبني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({يَسْلُكْهُ}، وقُرئ بالنون)، عاصم وحمزة والكسائي: بالياء مفتوحة، والباقون: بالنون.
قوله: (حتى إذا أسْلكوهم في قُتائِدةٍ)، عجزه:
شَلًّا كما تَطْردُ الجمّالةُ الشُّرُدَا
قُتائدةٍ: ثنية معروفة، والشَّلّ: الطَّرد، أي: يشلون شلًّا؛ يصف جيشاً هزموهم، حتى أدخلوهم في هذه الثنية، كما تطرد الجمالة النوق الشُّرُد النافرة.
قوله: (ما تصعّدني شيء ما تَصَعدتني خطبة النكاح)، "ما" الأولى نافية، والثانية مصدرية.
[(وأن المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) 18]
(وإن المَسَاجِدَ) من جملة الموحى. وقيل معناه: ولأن المساجد (لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا)، على أن اللام متعلقة ب- «لا تدعوا» ، أي: فلا تدعوا (مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) في المساجد، لأنها لله خاصة ولعبادته. وعن الحسن: يعني الأرض كلها؛ لأنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم مسجداً. وقيل: المراد بها المسجد الحرام، لأنه قبلة المساجد، ومنه قوله تعالى:(ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)[البقرة: 114]. وعن قتادة: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله، فأمرنا أن نخلص لله الدعوة إذا دخلنا المساجد. وقيل: المساجد أعضاء السجود السبعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النهاية: "يقال: تصعده الأمر إذا شق عليه وصعب، وهو من الصعود: العقبة؛ وقيل: إنما تصعب عليه لقُرب الوجوه من الوجوه، ونظر بعضهم إلى بعض، لأنهم إذا كان جالساً معهم كانوا نظراء وأكفاء، وإذا كان على المنبر كانوا سُوقة ورَعية".
وروي عن المصنف أنه قال: إنما قال عمر رضي الله عنه ذلك، لأنه كان من عادتهم، أنهم كانوا يذكرون في الخطبة جميع ما كان في الخاطب من الأوصاف الموروثة والمكتسبة، فكان يشق عليهم ارتجالاً، أو كان يشق أن يقول الصدق في وجه الخاطب وعشيرته.
قوله: (لأنها جُعِلت للنبي? )، هو من قوله صلوات الله عليه:"جُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً". الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أسجد على سبعة آراب، وهي: الجبهة، والأنف، واليدان، والركبتان، والقدمان» ، وقيل: هي جمع مسجد وهو السجود.
[(وإنهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) 19]
(عَبْدُ اللَّهِ): النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: هلا قيل: رسول الله أو النبي؟ قلت: لأن تقديره: وأوحي إلى أنه لما قام عبد الله، فلما كان واقعا في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه، جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل، أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله لله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر، حتى يكونوا عليه لبداً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أُمِرت أن أسجد على سبعة آراب)، عن العباس بن عبد المطلب، أنه سمع رسول الله? يقول:"إذا سجد العبد سجدة، سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفاه ورُكبتاه وقدماه"، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
قوله: (أو لأن المعنى)، يريد أن قوله:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} ، من جملة الموحى في قوله:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} ، ومعطوف على قوله:{أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ} ، فيكون من تتمة كلامه صلوات الله عليه، لأنه هو المأمور بقوله:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} ، فكان الأصل: قُل أوحي إلى أنه لما قمت تدعو؛ فوضع موضع الضمير عند الله تواضعاً لله تعالى، وتذللاً لجلاله تعليماً من الله وتأديباً له. أو يكون نقلاً لكلام الله تعالى الموحى إليه؛ فتخصيص ذكر العبد إدماج لمعنى أن العبادة من العبد غير مُستبعدة، فلا ينبغي أن نتعجب منه.
ومعنى «قامَ يدعوه» : قام يعبده، يريد: قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن فاستمعوا لقراءته صلى الله عليه وسلم. (كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) أي يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً وساجداً، وإعجاباً بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولعل هذا الثاني أولى وأحرى لاضمحلال رسمه، فراراً في مطاوي الفناء، فكأنه صلوات الله عليه يقول: أنا مُبلغ كلام ربي هذا.
قوله: (قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن)، روى الترمذي عن ابن عباس:"كان الجن يَصعدون إلى السماء يَستمعون الوحي، فإذا سمعوا كلمة زادوا عليه تسعاً، فأما الكملة فتكون حقاً، وأما ما زادوا فيكون باطلاً، فلما بُعث رسول الله? مُنِعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يُرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله? قائماً يُصلي بين جبلين أُراه قال: بمكة، فلقوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حَدَثَ في الأرض". وروى الإمام أحمد ابن حنبل عن عكرمة: "كان رسول الله? ، بنخلةٍ يُصلي العِشاء، كادوا يكونون عليه لِبَداً".
قوله: (وإعجاباً)، عطف على "تعجباً". يقال: تَعَجبت من الشيء، وأعجبني هذا الشيء بِحُسنه. والإعجاب يتعدى بنفسه إلى واحد، فعداه إلى اثنين بزيادة الباء، كأن البعض قال لبعض آخر: انظروا إلى حُسن هذا القرآن، وغرابة نَظْمِه، وغزارة حُكمِه.
وقيل معناه: لما قام رسولاً يعبد الله وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه، كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين. (لِبَدًا): جمع لبدة، وهو ما تلبد بعضه على بعض، ومنها (لبدة الأسد). وقرئ:«لبدا» واللبدة في معنى اللبدة، ولبدا: جمع لابد، كساجد وسجد. ولبدا بضمتين: جمع لبود، كصبور وصبر. وعن قتادة: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من ناوأه. ومن قرأ «وإنه» بالكسر، جعله من كلام الجن، قالوه لقومهم حين رجعوا إليهم حاكين ما رأوا من صلاته وازدحام أصحابه عليه في ائتمامهم به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: معناه: لما قام رسولاً)، ويروى أن رسول الله. وهو من باب سَوق المعلوم مساق غيره، فوضع موضع "رسولاً""عبد الله"، نعياً على المشركين سوء صنيعهم ممن يُحد الله ويعبده وحده، نظيره قوله تعالى:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28]. ويمكن أن يُحمل هذا الوجه، على قراءة من قرأ بكسر الهمزة حكاية لقول الجن.
قوله: (ومنها لبدة الأسد)، الجوهري:"قيل لزُبرة الأسد: لِبدة، وهي الشعر المتراكب بين كتفيه".
قوله: (وقُرئ: "لُبَداً")، هشام: بضم اللام، والباقون: بكسرها.
قوله: (ناوأه)، أي: عاداه. الجوهري: "أصله الهمز، لأنه من النَّوء، وهو النهوض".
قوله: (ومن قرأ: "وإنه"، بالكسر)، في "المعالم": "قرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة،
[(قُلْ إنَّمَا أَدْعُو رَبِّي ولا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا • قُلْ إنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًا ولا رَشَدًا • قُلْ إنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ولَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا • إلاَّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ ورِسَالاتِهِ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا • حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا • قُلْ إنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا • عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا • إلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) 20 - 28]
«قال» للمتظاهرين عليه: (إنَّمَا أَدْعُو رَبِّي)، يريد: ما أتيتكم بأمر منكر، إنما أعبد ربى وحده (ولا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا)، وليس ذاك مما يوجب إطباقكم على مقتي وعداوتي. أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين: ليس ما ترون من عبادتي الله ورفضي الإشراك به بأمر يتعجب منه، إنما يتعجب ممن يدعو غير الله ويجعل له شريكاً. أو قال الجن لقومهم ذلك حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولا رَشَدًا) ولا نفعاً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والباقون بفتحها" وهو عطف من حيث المعنى على قوله: "{عَبْدُ اللَّهِ} : النبي? "، والكلام على ما سبق مبني على "أنه" بالفتح. وقد مر أن قراءة الفتح مبنية على أنه من جملة الموجى، والكسر على أنه من كلام الجن.
قوله: ("قال" للمتظاهرين عليه)، أي: الضمير في "قال إنما أدعو"، لرسول الله? . والتعريف في "المتظاهرين"، معهود خارجي تقديري لما يفهم من قوله الاسابق: "لتظاهرهم عليه
…
مُتراكمين".
قوله: (أو قال الجن لقومهم)، عطف على قوله:"قال للمتظاهرين عليه"، وفي كلامه لفٌّ
أو أراد بالضر: الغي، ويدل عليه قراءة أبى:«غيا ولا رشدا» ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونَشْر. وتقريره: أن قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي} الآية، من كلام رسول الله? ؛ فإذا قُرئ:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} بالفتح، يُقدر أن الله تعالى يحكي كلامه صلوات الله عليه، وهو {إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي} ، وهو لوجهين بناء على تفسير قوله تعالى:{كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} :
فإذا أُريد بهم المشركون كما قال: "كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه"، فالمعنى: إنما أدعو ربي، أي: ما أتيتكم بأمر مُنكر، إنما أعبد ربي وحده، إلى آخره. وإذا أريد بهم الجن، كما قال حين أتاه الجن فاستمعوا لقراته:{كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} ، فالمعنى: ليس ما ترون من عبادتي الله، ورفضي الإشراك به، بأمر مُتعجب منه، إلى آخره. وإذا قُرئ:"إنه لما قام" بالكسر، يكون الجن قد حكوا لقومهم حين قفلوا إليهم، ما رأوا من رسول الله? من قيامه لعبادة الله وما سمعوا منه، من قوله لهم:{إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي} الآية.
قوله: (ويدل عليه قراءة أُبي: "غياً")، يريد أن {رَشَدًا} وقع مقابلاً لـ {ضَرًّا} ، وليس من التقابل الحقيقي؛ فإما أن يُؤول الثاني بما يُطابق الأول أو عكسه، وينصر الثاني قراءة أُبَيّ:"غيًّا".
وقلت: الأسلوب والنظم يقتضيانهما معاً، لأنه صلوات الله عليه، لما ازدحم عليه الجن ازدحاماً عظيماً، وتعجبوا منه تعجباً بليغاً، قيل له: قل لهم: هَونوا على أنفسكم ولا تزدحموا عليّ، لأني عبد مبعوث مُبلغ، ليس إليّ ضَرُّكم ولا نفعكم ولا رشدكم ولا غيكم، فإن ذلك إلى الله تعالى؛ وإنما ذهب إلى هذا الأسلوب، وعَدَل من التقابل الحقيقي، ليجمع بين المعنيين،
والمعنى: لا أستطيع أن أضركم وأن أنفعكم، إنما الضار والنافع الله. أو لا أستطيع أن أقسركم على الغي والرشد، إنما القادر على ذلك الله عز وجل، و (إلاَّ بَلاغًا) استثناء منه، أي: لا أملك إلا بلاغاً من الله. و (قُلْ إنِّي لَن يُجِيرَنِي) جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه، على معنى أن الله إن أراد به سوءا من مرض أو موت أو غيرهما، لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه. والملتحد الملتجأ، وأصله المدخل، من اللحد. وقيل: محيصا ومعدلاً. وقرئ: «قال لا أملك» ، أي: قال عبد الله للمشركين أو للجن. ويجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم. وقيل: (بَلاغًا) بدل من (مُلْتَحَدًا)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد مر في قوله تعالى في "يونس": {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]. فإن قلت: لم ذكر المس في أحدهما والإرادة في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإرادة والإصابة في كل واحد من الضُّر والخير.
قوله: (أو لا أستطيع أن أقسركم على الغي والرشد)، الانتصاف:"الآية لما دلت على أن الله تعالى هو الذي يملك لعباده الرَّشد والغي، فإنه صلوات الله عليه، إنما سلبهما عن نفسه يمحض إضافتهما إلى الله تعالى، أعمل الزمخشري الحيلة، فتارة يحمل الرشد على النفع، وتارة ينظر إلى خصوصية الرشد، فيضيف إليه قيد الإكراه. ومع هذا، فالجن أشد منهم نظراً لما سبق من اعتقادهم الحق".
قوله: (و {إِلَّا بَلَاغًا} استثناء منه)، أي: من قوله: {لَا أَمْلِكُ} ، قال القاضي:"لأن التبليغ إرشاد"، وقال أبو البقاء:"هو استثناء من غير جنس".
قوله: (وقيل: {بَلَاغًا} بدل من {مُلْتَحَدًا} ، فعلى هذا لا يكون قوله:{قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} اعتراضاً.
أي: لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به. وقيل: (إلاَّ) هي (إن لا) ومعناه: إن لا أبلغ بلاغاً كقولك: إن لا قياماً فقعوداً. (ورِسَالاتِهِ) عطف على (بَلاغًا)، وكأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات. والمعنى: إلا أن أبلغ عن الله فأقول: قال الله كذا، ناسباً لقوله إليه، وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان.
فإن قلت: ألا يقال: بلغ عنه، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:«بلغوا عني بلغوا عني» ؟
قلت: «من» ليست بصلة للتبليغ، إنما هي بمنزلة «من» في قوله:(بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ)[التوبة: 1]، بمعنى بلاغاً كائناً من الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إن لا قياماً)، حذف الفعل بعد "إنْ" الشرطية الداخلة على "لا" النافية، وأقام المصدر مقامه، والمعنى: إني لن يجيرني من الله، أن لا أُبلغ بلاغاً، وأن لا أبلغ رسالاته. ومعنى قوله: إن لا قياماً فقعوداً: إن لم تَقُم قياماً فاقعد قعوداً.
قوله: (وأن أُبلِّغ رسالاتِه)، إنما قدَّر: أن أبلغ، لكونه معطوفاً على مصدر "أُبَلِّغ" المضمر، فيدل الأول على إيجاد التبليغ على التأكيد، ولهذا قال:"فأقول الله كذا، ناسياً القول إليه". ةالثاني على تبليغ أشياء واجبة الإرسال، ومن ثم قال:"أن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نُقصان". وهذا من باب العطف على التقدير لا الانسحاب، لما يلزم منه عطف المفعول به على المفعول المطلق.
وقرئ: «فأن له نار جهنم» على: فجزاؤة أن له نار جهنم، كقوله:(فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)[الأنفال: 41]، أي: فحكمه أن لله خمسه. وقال: (خَالِدِينَ) حملاً على معنى الجمع في «من» .
فإن قلت: بم تعلق (حَتَّى)، وجعل ما بعده غاية له؟
قلت: بقوله: (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)[الجن: 19]، على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة، ويستضعفون أنصاره، ويستقلون عددهم (حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ) من يوم بدر وإظهار الله له عليهم، أو من يوم القيامة، (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ أنهم (أَضْعَفُ نَاصِرًا وأَقَلُّ عَدَدًا).
ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال، من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده، كأنه قال: لا يزالون على ما هم عليه، (حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بقوله: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} ، أي:{حَتَّى} غاية قوله: {يَكُونُونَ} . هذا إنما يَستقيم، إذا فسر {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} ، بالتظاهر والتعاون به. وأما إذا فُسِّر بتراكم الجن وتزاحمهم، فالواجب أن يُعلق بمحذوف كما في الوجه الآتي. ونظيره ما في "مريم":{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} [مريم: 75]، قال: تقديره: "قالوا: أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً، {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ}، أي: لا يبرحون يقولون هذا القول، إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين". وها هنا لما سمع المشركون هذا الوعيد والتهديد الشديد، قالوا: متى يكون هذا الموعود؟ إنكاراً له. فقيل لرسول الله? : {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} . وإنما أُعيد {تُوعَدُونَ} ، ليؤذن بأنه كائن لا ريب فيه، فقوله:"قال المشركون" إشارة إلى تقدير سؤال يقتضيه الفصل بقوله: {قُلْ إِنْ أَدْرِي} .
قال المشركون: متى يكون هذا الموعود؟ إنكاراً له، فقيل:(قُلْ) إنه كائن لا ريب فيه، فلا تنكروه؛ فإن الله قد وعد ذلك وهو لا يخلف الميعاد. وأما وقته فما أدري متى يكون؛ لأن الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة.
فإن قلت: ما معنى قوله: (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا)، والأمد يكون قريباً وبيعداً، ألا ترى إلى قوله:(تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)[آل عمران: 30]؟
قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقرب الموعد، فكأنه قال: ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية، أي: هو (عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ) فلا يطلع، و (مِن رَّسُولٍ) تبيين لمن ارتضى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما معنى قوله: {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا})، أي أن الهمزة و"أم" المعادلة يقتضيان أن يقال: أقريب ما توعدون أم بعيد؟ والأمر مشترك بين البُعد والقُرب. وأجاب أن رسول الله? ، لما كان مُهتماً بقُرب الوعد، صرح في الجزء الأول من الكلام ما كان مُقتضياً إثباته. وفي الجزء الثاني أُطلق، على أنه غير مُلبس أن المراد: أم مؤجل ضُربت له غاية.
قوله: (أي: هو {عَالِمُ الْغَيْبِ})، يريد أن {عَالِمُ الْغَيْبِ} ، خبر مبتدأ محذوف، والإضافة مَحضة. وأنت تعلم أن تعريف الخبر يُنبئ عن التخصيص، والكلام وقع تعليلاً لنفي الدراية، كأنه قيل: ما أدري قُرب ذلك الموعد ولا بُعده، إلا أن يُطلعني الله عليه، لأن علم جميع الغيب مُختص به، وهو يُطلع على بعضه بعض الخَلق، على هذه الطريقة المخصوصة المذكورة في هذه الآية، و "الفاء" في {فَلَا يُظْهِرُ} ، لتعقيب حُكم بَعد حُكم،
يعني: أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة، لا كل مرتضى، وفي هذا إبطال للكرامات؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ} للسبب. قال أبو البقاء: " {مَنِ ارْتَضَى} مبتدأ، والخبر: {فَإِنَّهُ}، و {رَصَدًا} مفعول {يَسْلُكُ} "، وقيل: الضمير في "فإنه" للمرتضى.
قوله: (وفي هذا إبطال للكرامات)، قال الإمام: "قوله {عَلَى غَيْبِهِي} لفظ مفرد ليس فيه صفة العموم، فيكفي أن يقال: إن الله لا يُظهر على غيب واحد من غُيوبه أحداً إلا الرسل، فيُحمل على وقت وقوع يوم القيامة، فكيف وقد ذكرها عُقيب قوله {أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} ؟ .
وقلت: هو ضعيف، لأن الرُّسل أيضاً لم يظهروا على ذلك. أما إذا حُمل {مَّا تُوعَدُونَ} على إظهار الله له صلوات الله عليه يوم بدر، فيجوز ذلك.
وقال الإمام: "ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعاً، أي: لا يُظهر على غَيبه المخصوص أحداً. لكن، من ارتضى من رسول، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه، حفظة يحفظونه من مَردة الجن والإنس، لأن هذا الكلام كان جواباً لسؤال مُستهزئٍ".
وقال القاضي: "جوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير وسط، وكرامات الأولياء على المُغيبات، إنما تكون تلقياً عن الملائكة، كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء".
لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين، فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم، لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط. (فَإنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يدي من ارتضى للرسالة. (ومِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين؛ يطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم، حتى يبلغ ما أوحي به إليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الانتصاف: "ادعى الزمخشري عاماً واستدل بخاص، فالدعوى امتناع الكرامات كلها، فيجوز إعطاؤه الكرامات كلها إلا الاطلاع على الغيب. ولعل شُبهة القدرية في إبطالها، ان الله تعالى لا يتخذ منهم ولياً أبداً".
وقلت: الأقرب تخصيص الإطلاع بالضعف والخفاء؛ فإن إطلاع الله الأنبياء على الغيب، أمكن وأقوى من إطلاعه الأولياء، يدل على حرف الاستعلاء في {عَلَى غَيْبِهِي} ، قال الله تعالى:{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]، فضُمّن {يُظْهِرُ} معنى "يُطلع"، أي: فلا يُطلع الله على غيبه إظهاراً تاماً، وكشفاً مرضياً جلياً، إلا لمن ارتضى من رسول الله، فإن الله تعالى إذا أراد أن يُطلع النبي على الغيب، يُوحي إليه أو يُرسل إليه المَلَك، ويحفظ الموحى برصد من الملائكة، يدل عليه ترتيب الكلام في قوله:{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} ، وتعليله بقوله:{لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} .
وأما كرامات الأولياء، فهي من قبيل التَّلويحات واللَّمحات، أو من جنس إجابة دعوة وصدق فراسة؛ فإن كشف الأولياء غير تام كالأنبياء، قال الشيخ العارف أبو القاسم القُشيري
وعن الضحاك: ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك. (لِيَعْلَمَ) الله (أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ) يعني الأنبياء؛ وحد أولاً على اللفظ في قوله: (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ)، ثم جمع على المعنى، كقوله:(فَإنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ)[الجن: 23]، والمعنى: ليبلغوا رسالات ربهم كما هي، محروسة من الزيادة والنقصان؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رحمه الله تعالى: "ظهور الكرامات على الأولياء جائز، لأنه لا يؤدي إلى رفع أصل من الأصول، وظهورها علامة صدق من ظهرت عليه في أحواله"، كما أن ظهور المعجزة، علامة صدق من ادَّعى النُّبوة.
قال الإمام أبو إسحاق: "الأولياء لهم كرامات شبه إجابة الدعوة، وأما جنس ما هو معجزة للأنبياء فلا". وقال الإمام أبو بكر بن فُورك: "الفرق بين المعجزات والكرامات، هو أن الأنبياء صلوات الله عليهم مأمورين بإظهارها، والولي يجب عليه سترها وإخفاؤها. والنبي يدعي ذلك ويقطع القول به، والولي لا يدعي ولا يقطع لجواز الاستدراج".
وقلت: لا يدخل في هذا المعنى حكم المنجم المخذول، لأن ذلك تكرمة وتشريف، والمنجم مطرود مرجوم، قال الزجاج والواحدي وصاحب "المطلع" رحمهم الله:"الآية توجب على من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك، فقد كفر بما في القرآن".
وذكر العلم كذكره في قوله تعالى: (حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ)[محمد: 31]، وقرئ:«ليعلم» ، على البناء للمفعول. (وأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ) بما عند الرسل من الحكم والشرائع، لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفاً، فهو مهيمن عليها حافظ لها، (وأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) من القطر والرمل وورق الأشجار، وزبد البحار، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ و «عدداً»: حال، أي: وضبط كل شيء معدوداً محصوراً، أو مصدر في معنى إحصاء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الجن، كان له بعدد كل جني صدق محمداً صلى الله عليه وسلم وكذب به عتق رقبة» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وذكر العلم كذكره في قوله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ})، والمعنى: لنُعلمه علماً يتعلق به الجزاء، وهو أن يعلمه موجوداً حاصلاً.
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة المزمل
مكية، وهي تسع عشرة أو عشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ • قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً • نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً • أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً) 1 - 4]
(المُزَّمِّلُ) المتزمّل، وهو الذي تزمل في ثيابه: أي تلفف بها، بإدغام التاء في الزاي. ونحوه: المدثر في المتدثر، وقرئ:«المتزمل» على الأصل، والمزمل، بتخفيف الزاي وفتح الميم وكسرها. على أنه اسم فاعل أو مفعول، من زمله، وهو الذي زمله غيره أو زمل نفسه؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً بالليل متزملاً في قطيفه، فنبه ونودي بما يهجن إليه الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته واستعداده للاستثقال في النوم، كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن، ألا ترى إلى قول ذي الرمة:
وكائن تخطت ناقتي من مفازة
…
ومن نائم عن ليلها متزمل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة المُزَّمِّل
عشرون آية، مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
قوله: (وكائن تَخَطّت ناقتي) البيت، "كائن"، معناها: معنى كم الخبرية، يقول: كم من
يريد: الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب، ولا يحمل نفسه المشاق والمتاعب، ونحوه:
سهداً إذا ما نام ليل الهوجل
وفي أمثالهم:
أوردها سعد وسعد مشتمل
…
ما هكذا تورد يا سعد الإبل
فذمه بالاشتمال بكسائه، وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مفازة تخطت ناقتي فيها، وكم من نائم، أي: غافل عن ليل تلك المفازة، مُتزمل في ثوبه غير مُهتم بشأنها. وقيل: الضمير في "ليلها" للناقة، وأراد ليل نفسه، وأضافه إلى ناقته.
قوله: (سُهُداً إذا نام ليل الهَوجل)، أوله:
فَأَتَت به حُوش الفؤاد مُبَطّناً
حُوش الفؤاد، أي: ذكي الفؤاد حديده. مبطناً، أي: خميص البطن. الهوجل: الثقيل الأحمق الكسلان. يقول: أتت الأم بهذا الولد مُتيقظاً حذراً ذكياً ساهراً، إذا نام الكسلان.
قوله: (وفي أمثالهم: أوردها سعد وسعد مشتمل)، قيل: هذا سعد بن زيد مناة، أخو مالك بن زيد مناة الذي يقول في حقه: آبل من مالك، قال الميداني: "هو سبط تميم بن مُرة وكان يتحمق، إلا أنه كان آبل أهل زمانه، ثم إته تزوج وبنى بامرته، فأورد الإبل أخوه سعد ولم يُحسن القيام عليها والرفق بها، فقال مالك:
أوردها سَعد وسَعد مُشتمل ما هكذا تُورد يا سعد الإبل"
وأمر بأن يختار على الهجود التهجد، وعلى التزمل التشمر والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله، لا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تشمر لذلك مع أصحابه حق التشمر، وأقبلوا على إحياء لياليهم، ورفضوا له الرقاد والدعة، وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم واصفرت ألوانهم، وظهرت السيمى في وجوههم وترامى أمرهم إلى حد رحمهم له ربهم، فخفف عنهم.
وقيل: كان متزملا في مرط لعائشة يصلي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: أتى بها الورد، والحال أنه مشتمل ليس بمشمر، فذمه بالاشتمال، وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس. وقيل: ذمه بالاشتمال بكسائه، وادعى أن الخلل كان لميله إلى الدعة، وعلامته الاشتمال.
الانتصاف: "هذا القول والاستشهاد سوء أدب. وجعلت العلماء نداءه بالمزمل وغير ذلك من صفاته تشريفاً له إذ لم يُناده باسمه، واستشهاده على ذلك بأبيات قيلت ذماً في جفاة العرب، أبرأ إلى الله وأربأ برسول الله? منه".
وقلت: ومنه ما رواه عن عكرمة: أنه يا أيها الذي زُمِّل أمراً عظيماً، أي: حمله. وروى السُّلمي عن ابن عطاء: "يا أيها المخفي ما يظهره عليك من آثار الخصوصية، آن أوان كشفه فأظهره، فقد أيدناك بمن يتبعك ويوافقك، ولا يخذلك ولا يخالفك، وهو أبو بكر وعلي رضي الله عنهما".
قوله: (مُتزملاً في مرط لعائشة رضي الله عنها، الانتصاف: "هذه السورة مكية، والبناء
فهو على هذا ليس بتهجين، بل هو ثناء عليه وتحسين لحاله التي كان عليها، وأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه. وعن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت: ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعاً نصفه على وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي، فسئلت: ما كان؟ قالت: والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزي ولا إبريسماً ولا صوفاً؛ كان سداه شعراً ولحمته وبراً. وقيل: دخل على خديجة، وقد جئث فرقا أول ما أتاه جبريل وبوادره ترعد، فقال:«زملوني زملوني» ، وحسب أنه عرض له؛ ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على عائشة كان بالمدينة". وفي "جامع الأصول": "تَزوجها النبي? في شوال سنة عشر من النبوة، قبل الهجرة بثلاث ولها ست سنين، وأعرس بها في المدينة في شوال سنة اثنتين من الهجرة، على رأس ثمانية عشر شهراً، ولها تسع سنين".
قوله: (مِرعِزى)، الجوهري:"المِرعِزى: الزَّغَبُ الذي تحت شعر العنز، وهو "مفعلى"، لأن "فعللى" لم يجئ؛ وإنما كسروا الميم إتباعاً لكسرة العين".
قوله: (وقد جُئت فرقاً)، النهاية:"وفي حديث المبعث: فجئتت منه فرقاً، أي: ذُعرت وخفت؛ يقال: جُئت الرجل، وجُئف، وجُث، إذا فرع".
قوله: (بوادره)، النهاية:"هي جمع بادرة، وهي لحمة بين المنكب والعُنُق".
قوله: (وحسب أنه عُرض له)، الأساس:"عُرض لفلان إذا جُن". روينا عن البخاري ومُسلم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "أول ما بُدئ به رسول الله? من الوحي الرؤيا
فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل: (يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَقِ الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، كذا ثلاثاً، فقال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ، إلى قوله:{مَا لَمْ يَعْلَمْ} . فَرَجع بها رسول الله? ترجف بوادره، فدخل على خديجة بنت خُويلد، فقال: زَمِّلوني زَمِّلوني، فَزَمَّلوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خَشيت على نفسي. فقالت له خديجة: كلا، أَبشر؛ فوالله لا يُخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرَّحِم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به على وَرَقَة بن نوفل، وهو ابن عم خديجة، وكان امرءًا تَنَصّر في الجاهلية، فكتب الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً. فقال له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فأخبرَه رسول الله? ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعاً، ليتني أكون حياً إذ يُخرجُك قومك" الحديث.
قوله: (إذ ناداه جبريل: فقال: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ})، روينا عن البخاري ومسلم، عن جابر، عن رسول الله? ، قال:"جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري هَبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئاً، ونظرت أمامي فلم أرَ شيئاً، ونظرت من خلفي فلم أرَ شيئاً، فَرفعت رأسي فرأيت شيئاً، وفي رواية: "فَرفعت
وعن عكرمة: أن المعنى: يا أيها الذي زمل أمرا عظيما، أي: حمله، والزمل: الحمل، وازدمله: احتمله. وقرئ: «قم الليل» ، بضم الميم وفتحها. قال عثمان ابن جني: الغرض بهذه الحركة التبلغ بها هربا من التقاء الساكنين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رأسي فإذا هو قاعد على عرش في الهواء، يعني جبريل، فَأخذتني رَجفة شديدة"، فَأتيت خديجة فقلت: دَثِّروني، فَدَثّروني، وصَبّوا عليّ ماء، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (قُمْ فَأَنذِرْ (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}. فظهر من هذا هُجْنة ما قاله: (ونُودي بما يَهجن إليه الحالة التي كان عليها)، وحسن ما لَهَجَ به من قال: "يا أيها المخفيّ ما يظهر عليك من آثار الخصوصية".
قوله: (وقُرئ: "قُمُ الليل")، قال ابن جني:"وهي قراءة أبي السّمّال وروح. وقال: عِلّة جواز ذلك، أن الغرض في هذه الحركة، إنما هو التبليغ بها، هرباً من اجتماع الساكنين، فبأي الحركات تُحرِّك فقد وقع الغرض، ولعمري إن الكسر أكثر، فأمّا أن لا يجوز غيره فلا. حكى قُطرب عنهم: قم الليل، وقل الحق؛ من كَسَرَه فعلى الأصل، ومن ضَمَّ أو كسر أيضاً أتبع، ومن فتح فجنوحاً إلى خِفّة الفتح".
وفي الحاشية: ابن جني: بكسر فسكون الياء، وليست بياء النسب، ولكنه في الأصل: كنّي، فَعُرِّبَ وبُني على السكون.
قوله: (التبليغ بها)، أي: الاكتفاء بها.
فبأي الحركات تحرك فقد وقع الغرض. (نِّصْفَهُ): بدل من (اللَّيْلَ)، و (إلاَّ قَلِيلاً): استثناء من النصف، كأنه قال: قم أقل من نصف الليل. والضمير في «منه» و «عليه» للنصف، والمعنى التخيير بين أمرين؛ بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه. وإن شئت جعلت «نصفه» بدلاً من «قليلاً» ، وكان تخييراً بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه وبين قيام الزائد عليه؛ وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل، وإن شئت قلت: لما كان معنى (قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً • نِّصْفَهُ)، إذا أبدلت النصف من الليل: قم أقل من نصف الليل، رجع الضمير في «منه» و «عليه» إلى الأقل من النصف، فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل، أو: قم أنقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلا، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({نِّصْفَهُ} بدل من {الَّيْلَ})، اعلم أنه جعل {نِّصْفَهُ} تارة بدلاً من {الَّيْلَ} ، وأخرى من {قَلِيلًا} ، وجعل كل واحد من التقديرين على وجهين.
واعترض صاحب "الفرائد" على كل الوجوه، قال على الوجه الأول:"لما كان الضمير في {مِنْهُ} و {عَلَيْهِ} راجعاً إلى النصف، كان المعنى: قُم أقل من نصف الليل، أو انقص من نصف الليل، أو زد على نصف الليل، كأنه قال: قُم أقلّ من نصف الليل، أو قُم زد على نصف الليل، وهذا ظاهر الفساد. وقوله: "على البَتِّ" لا دلالة في الآية عليه.
وقال في الوجه الثاني، وهو قوله:"وإن شئت جعلت {نِّصْفَهُ} بدلاً من {قَلِيلًا} " إلى آخره: هذه هو الوجه. وتمامه أن يقال: ذكر {قَلِيلًا} ثم أبدل {نِّصْفَهُ} منه، إشارة إلى أن ما نام فيه من الليل، وإن كان نصفاً منه، فهو بالإضافة إلى النصف القائم قليل، لأن النصف القائم يُضاعف إلى العشرة، كقوله تعالى:{مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والنصف النائم لاستراحة النفس، وإن كان لا يخلو من أن يدخل في العبادة، من حيث إنه استعداد لها، ويد عليه قوله تعالى:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3].
ويمكن أن يقال: القلة في الحقيقة صفة للحاصل في النصف، ثم اعتبرت صفة للنصف، كقولهم: نهاره صائم وليله قائم. فعلى هذا النصف النائم قليل بالإضافة إلى النصف القائم، بالنظر إلى ما في كل واحد منهما، أي من الثواب؛ فجعل القليل مبدلاً منه، والنصف بدلاً، تنبيهاً على هذا المعنى الدقيق. وأمّا التخيير، فليعلم أن هذا ليس مما لا يزيد ولا ينقص، بل مما يحتمل الزيادة والنقصان، أعنى ذكر النصف أولاً. فلو اقتصر عليه، ظن أن الزيادة والنقصان لا يتطرفان عليه، كركعات الصلاة المفروضة، وكأوقات الصلاة، وكالحدود، ولأن في ترك التخيير تعسيراً، وفي وجوده تيسيراً.
ويجوز أن يكون ما يوجد من هذه الأقسام، أعني: النصف، أو الناقص منه، أو الزائد عليه، يكون فرضاً كالقراءة في الصلاة؛ فإن ما قرأ المصلي، وإن كان تمام القراءة كان فرضاً وإن اقتصر على آية أو ثلاث آيات كما عرف، كان مؤدياً للفرض، وكانت صلاته مؤداة بما فُرض عليه من القراءة.
وقال على الوجه الثالث - وهو قوله: "وإن شئت قلت: لما كان معنى {قُمِ الَّيْلَ} إلى آخره -: الاعتراض عليه من وجهين: أحدهما: أن يقال: قوله: قُم أقل من نصف الليل، أو أنقص من ذلك الأقل، أو أزيد من ذلك الأقل، بمنزلة أن يقال: قُم أقل من النصف، أو قُم أقل من النصف، أو قم أقل من النصف؛ لأنه يلزم أن يكون أزيد من أقل النصف بالغاً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النصف، بل يمكن أن يكون أقل من النصف أيضاً، فيكفي في هذا أن يقال: قم أقل من النصف؛ فأي مقادر قام، وهو أقل من النصف، كان مؤدياً ما أُمر به. وثانيهما: أن يقال: الناقص من أقل من النصف، لا يلزم أن يكون ثلثاً، حتى يصحَّ قوله:"فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث".
وقال على الوجه الرابع - وهو قوله: "ويجوز إذا أبدلت {نِّصْفَهُ} من {قَلِيلًا}، وفسرته به" إلى آخره - الاعتراض عليه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن "نصفه" غير مذكور في الثاني، ولو كان مذكوراً لصح أن يكون بدلاً كما في الأول؛ فعلى هذا لزم حذف البدل، وهو غير جائز بالإجماع، ولأنه هو المقصود في الكلام، فلا وجه لحذفه. وثانيها: قوله: "وتجعل المزيد على هذا القليل، أعني الربع، نصف الربع كأنه قيل: أو زد عليه قليلاً نصفه"، يلزم منه حذف البدل والمبدل منه، وهو أبعد من الأول. وثالثها: قوله: "ويجوز أن تجعل الزيادة، لكونها مطلقة، تتمة الثلث" منظور فيه؛ لأن من الإطلاق كما جاز أن يكون تتمة جاز أن يكون غيرها؛ فالحمل على كونها تتمة، يلزم منه الترجيح من غير مُرجح، وهو باطل، وبالله التوفيق.
فنقول: نحن لا نشتغل بتفاصيل الجواب، لأنها تؤدي إلى التطويل المُمل، بل نفسر كلام المصنف ليظهر المقصود. أما الوجه الأول، فمن كلام الزجاج، قال:"إن {نِّصْفَهُ} بدلاً من {الَّيْلَ} "، كما تقول: ضربت زيداً رأسه؛ فإنما ذكرت "زيداً" لتوكيد الكلام، فهو أوكد من قولك: ضربت رأس زيد"، تم كلامه. فالمعنى: قُم نصف الليل إلا قليلاً،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو انقص من النصف، أو زد على النصف كثيراً، أو انقص منه قليلاً؛ كُرّرَ "أو انقص منه قليلاً"، ليؤذن بأن الأول عزيمة والثاني رخصة، كما تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين، تريد أن مجالسة الحسن لا بد منها، فإن لزمتك ضرورة فأنت بالخيار بين مجالسته ومجالسة ابن سيرين. هذا معنى قوله:"على البَتّ".
وقريب منه قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَاذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: 21]، قال:"ليكونن أحد الأمور، يعني: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح، وإن لم يكن كان أحدهما"، وفُهم منه أن إتيان السلطان، لم يكن كأحد هذين العذابين.
وأما بقية الوجوه الثلاثة، فمبنية على تفسير قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20]، على اختلاف القراءتين، أعني: فتح "نصفه" و"ثلثه"، وكسرهما.
أما بيان كيفية مُطابقة الوجه الثاني، وهو أن يكون {نِّصْفَهُ} بدلاً من {قَلِيلًا} ، ويقع التخيير بين الثلاث، فإنه مبني على معنى القراءة بالفتح، أي: تقوم أدنى من ثُلثي الليل وتقوم النصف وتقوم الثلث، كما صرح به في موضعه. وأما الوجه الثالث، وهو أن يكون {نِّصْفَهُ} من {الَّيْلَ} ، ويكون الضمير في {مِنْهُ} و {عَلَيْهِ} للأقل من النصف، فهو مُنزل على القراءة بالكسر، وهي: تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثُلثه. فقوله: "قم أقل من نصف الليل"، هو المراد من تقدير قوله: أدنى نم نصفه. وقوله: "أو قم أو انقص من ذلك الأقل"، هو المراد من تقدير: أدنى من ثلثه. وقوله: "أو أزيد منه قليلاً"، هو المراد من معنى: أدنى من
ويجوز إذا أبدلت «نصفه» من «قليلا» وفسرته به، أن تجعل قليلا الثاني بمعنى نصف النصف: وهو الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلا نصفه، وتجعل المزيد على هذا القليل، أعني الربع، نصف الربع كأنه قيل: أو زد عليه قليلا نصفه. ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث، فيكون تخييراً بين النصف والثلث والربع.
فإن قلت: أكان القيام فرضا أم نفلا؟
قلت: عن عائشة رضي الله عنها أنّ الله جعله تطوعاً بعد أن كان فريضة، وقيل: كان فرضاً قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ثم نسخ بهن إلا ما تطوّعوا به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثلثي الليل. فيكون التخيير بين الأقل من النصف وفيما وراء النصف، وهو أقل من الثلث وأزيد منه؛ فَعُلِمَ منه ان الضمير في قوله:"بينه وبين الثلث"، راجع إلى "ما وراء النصف". والظرف الثاني بدل من الأول، لا كما ظن أنه راجع إلى القليل كما فسر بالنصف.
وأما الوجه الرابع، وهو أن يكون {نِّصْفَهُ} بدلاً من {قَلِيلًا} ، فهو منزل أيضاً على القراءة بالكسر. وتقريره أن القليل الأول كما فُسِّر بالنصف، يُفسر الثاني بنصف النصف لاحتماله. ولما كانت المطابقة بين الآيتين مطلوبة: يجعل نصف النصف الرُّبع، ويحمل المطلق، وهو قوله:{زِدْ عَلَيْهِ} ، لأنه لا يعلم كمية الزيادة، على المقيد وهو نصف النصف، فيحصل الثُّمن، فيضم مع الربع، فيصير الرُّبع والثمن، وهو الثلث تقريباً، فكأنه قيل: قم الليل نصفه أو ربعه أو ثلثه: وإذا لم تحمل الزيادة المطلقة على المقيد، بل تجعل تتمة للثلث، أي: ما يتم به الربع ثلثاً تحقيقاً، فيقع التخيير أيضاً بين النصف والربع والثلث، كما صرح به أيضاً في موضعه، فلينظر هناك. وإياك أن تصحح هذه الوجوه الثلاثة بغير ما ذُكر، فتقع في المتعسف.
قوله: (وقيل: كان فرضاً)، روى محيي السنة عن مقاتل وابن كيسان: "كان هذا بمكة
وعن الحسن: كان قيام ثلث الليل فريضة، وكانوا على ذلك سنة. وقيل: كان واجباً، وإنما وقع التخيير في المقدار، ثم نسخ بعد عشر سنين. وعن الكلبي: كان يقوم الرجل حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين؛ ومنهم من قال: كان نفلاً بدليل التخيير في المقدار، ولقوله تعالى:(ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ)[الإسراء: 79].
ترتيل القرآن: قراءته على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات، حتى يجيء المتلو منه شبيهاً بالثغر المرتل، وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل أن تُفرض الصلاة، ثم نُسِخَ بالصلوات الخمس". ورويناه عن البخاري ومسلم في حديث جابر أيضاً.
قوله: (ومنهم من قال: كان نَفلاً، بدليل التخيير في المقدار)، قال الإمام:"استدل على عدم الوجوب، بأنه تعالى قال: {نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (زِدْ عَلَيْهِ} ففوض ذلك إلى رأي المكلف. وما كان كذلك لا يكون واجباً، وهو ضعيف؛ لأنه لا يبعد أن يقال: أوجبت عليك قيام الليل. فأما تقديره بالقلة والكثرة، فهو مفوض إليك"، وإليه الإشارة بقوله:"كان واجباً، وإنما وقع التخيير في المقدار".
قوله: (ولقوله: {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79])، فيه نظر؛ لأنه فسرها في موضعه بقوله:"إن التَّهجد زيد لك على الصلوات المفروضة، فريضةً عليك خاصةً دون غيرك، لنه تَطوّع لهم".
قوله: (وهو المُفلج)، الجوهري:"الفلج في الأسنان: تباعد ما بين الثنايا والرَّباعيات"،
وألا يهذه هذا ولا يسرده سرداً، كما قال عمر رضي الله عنه: شر السير الحقحقة، وشر القراءة الهذرمة، حتى يشبه المتلو في تتابعه الثغر الألص. وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: لا كسردكم هذا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و"ثَغر رَتَلٌ: إذا كان مستوى النبات". الراغب: "الرَّتل: اتساق الشيء وانتظامه على استقامة، يقال: رجل رَتَل الأسنان. والترتيل: إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة".
قوله: (وألا يَهُذَّه هذا)، الجوهري:"الهذ: الإسراع في القطع وفي القراءة. يقال: هو يَهُذُّ القرآن هذًّا: يَسرده".
قوله: (الحَقْحَقة)، النهاية:"في حديث سلمان: شر السير الحَقْحَقة، هو المتعب من السير. وقيل: هو أن تُحمل الدابة على ما لا تُطيقه".
قوله: (الهَذْرَمة): "هي السرعة في المشي والكلام، ويقال للتخليط: هَذْرَمة".
قوله: (الأَلَص)، الجوهري:"هو المتقارب الأضراس، وفيه لَصَص".
قوله: (وسُئلت عائشة رضي الله عنها، عن قراءة رسول الله? ؟ )، روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، قالت:"ما كان رسول الله? يسرد سردكم هذا، ولكنه يتكلم بكلام يُبينه، فصل، يحفظه من جلس إليه".
النهاية: "يسرد سرداً، أي: يتابعه ويستعجل فيه".
لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها. و (تَرْتِيلاً) تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه ما لا بد منه للقارئ.
[(إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) 5]
هذه الآية اعتراض، ويعني بالقول الثقيل: القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين، خاصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه متحملها بنفسه ومحملها أمته؛ فهي أثقل عليه وأبهظ له. وأراد بهذا الاعتراض: أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن، لأنّ الليل وقت السبات والراحة والهدوء، فلا بد لمن أحياه من مضادة لطبعه ومجاهدة لنفسه. وعن ابن عباس رضى الله عنه: كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد له جلده.
وعن عائشة رضي الله عنها: رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هذه الآية اعتراض)، يعني قوله:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} ، قال القاضي:"والجملة اعتراض لتسهيل التكليف عليه بالتهجد، ودال على أنه مشقة مضادة للطبع مخالف للنفس، أو رصين لرزانة لفظه ومتانة معناه، أو يثقل على المتأمل فيه، لافتقاره إلى مزيد تصفية السّرِّ وتجريد النَّظَر". وقيل: الاعتراض: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} ، لأنها اعترضت بين كلامين مُتصلين معنًى، وهو الكلام في قيام الليل، والأظهر الأول.
قوله: (والهدوء)، الجوهري:"هدأ هدءاً وهدوءاً: سكن، وأتانا وقد هدأت العيون".
قوله: (تربَّد)، النهاية:"في الحديث: كان إذا نزل عليه الوحي اربَدَّ وجهه صلوات الله عليه، أي: تَغيّر إلى الغُبرة".
قوله: (وعن عائشة رضي الله عنها: رأيته ينزل عليه الوحي)، الحديث رواه البخاري
فيفصم عنه، وإن جبينه ليرفض عرقاً. وعن الحسن: ثقيل في الميزان، وقيل: ثقيل على المنافقين، وقيل: كلام له وزن ورجحان، ليس بالسفساف.
[(إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وطْئًا وأَقْوَمُ قِيلاً) 6]
(نَاشِئَةَ اللَّيْلِ): النفس الناشئة بالليل، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة، أي: تنهض وترتفع؛ من نشأت السحابة إذا ارتفعت، ونشأ من مكانه ونشز إذا نهض، قال:
نشأنا إلى خوص برى نيها السرى
…
وألصق منها مشرفات القماحد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومسلم ومالك والترمذي والنسائي، عنها أنها قالت:"ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فَيُفصِم عنه، وإن جبينه ليتفصَّد عرقاً".
النهاية: "فَيُفصِم: أي يُقلع. وأَفْصَمَ المطر إذا أقلع وانكشف". وارفضَّ عرقاً، أي: جرى عرقه.
قوله: (ليس بالسَّفساف)، الجوهري:"السَّفساف: الرديء من كل شيء".
قوله: (نشأنا إلى خُوص) البيت، أي: نهضنا وقمنا، من نشأت السحابة إذا ارتفعت، ونشأ من مكانه ونَشَزَ إذا نهض. والخُوص جمع خوصاء، وهي الناقة المرهفة الأعلى
أو قيام الليل، على أنّ الناشئة مصدر، من: نشأ؛ إذا قام ونهض، على «فاعلة» كالعاقبة، ويدل عليه ما روي عن عبيد بن عمير: قلت لعائشة: رجل قام من أول الليل، أتقولين له قام ناشئة؟ قالت: لا؛ إنما الناشئة القيام بعد النوم؛ ففسرت الناشئة بالقيام عن المضجع، أو العبادة التي تنشأ بالليل، أي: تحدث وترتفع. وقيل: هي ساعات الليل كلها؛ لأنها تحدث واحدة بعد أخرى. وقيل: الساعات الأول منه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضخمة الأسفل، وقيل: الخوص عور العينين، والنَّيُّ: الشحم، ونوت الناقة نياً: سمنت، وألصق: أي طأطأ ونكس. القماحد: جمع القمحدوة، بزيادة الميم: ما خلف الرأس. يقول: قصدنا إلى ناقة مهزولة من السُّرى، ورحلنا.
قوله: (أو قيام الليل)، عطف على قوله:"النفس الناشئة"، ويروى:"قيام" بالنصب، عطفاً على "النفس الناشئة"، إذا روي بالنصب.
قوله: (عن عبيد بن عمير)، في "الجامع":"هو أبو عاصم، عُبيد بن عُمير بن قتادة بن سعد الليثي الحجازي، قاضي أهل مكة، وُلِدَ في زمن رسول الله? ؛ يقال: رآه، وهو معدود في كبار التابعين، سمع عمر وأبا ذر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة رضي الله عنهم".
قوله: (رجل قام)، "رجل": مبتدأ، و"قام" صفته، و"أتقولين" خبره؛ أقحمت همزة الاستفهام بين المبتدأ والخبر للتأكيد، وإنما كان دليلاً على أن المراد بالناشئة: القيام والنهوض من النوم، لقولها:"لا، إن الناشئة القيام من الليل".
وعن علي بن الحسين رضي الله عنهما، أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ويقول: أما سمعتم قول الله تعالى: (إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ)؟ هذه ناشئة الليل. (هِيَ أَشَدُّ وطْئًا) هي خاصة دون ناشئة النهار، أشد مواطأة يواطئ قلبها لسانها؛ إن أردت النفس. أو يواطئ فيها قلب القائم لسانه؛ إن أردت القيام أو العبادة أو الساعات. أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص. وعن الحسن: أشد موافقة بين السر والعلانية، لانقطاع رؤية الخلائق. وقرئ:«أشدّ وطأ» بالفتح والكسر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو يُواطئ فيها قلب القائم لسانه، إن أردت القيام، أو العبادة، أو الساعات)، الانتصاف:"إن جعلت الناشئة للنفس، فالمواطأة فيها حقيقة، وإن جعلتها للساعات أو المصدر فمجاز". قلت: ويجوز أن يكون من المجاز الحُكمي، بأن تسند الوطء إلى القيام أو العبادة أو الساعات على المجازي، وإنه لصاحبها حقيقة، وإليه الإشارة بقوله:"أو يواطئ فيها قلب القائم لسانه"، وأن تجعل لكل واحد منها قلباً ولساناً، وتخيل له مواطأة به على الاستعارة المكنية.
قوله: (أو "أشد موافقة")، عطف على "أشد مواطأة"؛ فعلى هذا: الإسناد في الكل حقيقة؛ فالحاصل: "الناشئة" لا يخلو: إمّا أن يراد بها النفس أو القيام مثلاً، والمواطأة إما أن يعني بها مواطأة القلب اللسان، أو موافقتها لما يراد من الخشوع. فإذا عنيت بها النفس، فإذاً المواطأة حقيقة على التقديرين. وإذا عنيت بها القيام ونحوه، فالمواطأة مجاز على التقدير الأول، حقيقة على الثاني.
قوله: (وقُرئ: "أشد وطأً")، أبو عمرو وابن عامر: بكسر الواو والمد، والباقون: بالفتح وإسكان الطاء.
والمعنى: أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل. أو أثقل وأغلظ على المصلي من صلاة النهار، من قوله عليه السلام:«اللهم اشدد وطأتك على مضر» .
(وأَقْوَمُ قِيلاً) وأسد مقالاً وأثبت قراءة لهدوء الأصوات. وعن أنس رضي الله عنه أنه قرأ: «وأصوب قيلاً» ، فقيل له: يا أبا حمزة، إنما هي: وأقوم؛ فقال: إن أقوم وأصوب وأهيأ واحد. وروى أبو زيد الأنصاري عن أبي سرار الغنوي أنه كان يقرأ: فحاسوا، بحاء غير معجمة، فقيل له: إنما هو (جاسوا) بالجيم، فقال: جاسوا وحاسوا واحد.
[(إنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً) 7]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (اللهم اشدد وطأتك على مُضر)، وقد أخرجناه فيما سبق.
النهاية: "أي: خُذهم أخذاً شديداً، والوطء في الأصل: الدَّوس بالقدم".
قوله: (وعن أنس أنه قرأ: وأصوب)، هذا، ونحوه ما رويَ عن أبي سوار:"فحاسوا"، بالحاء المهملة، مما لا يلتفت إليه.
(سَبْحًا) تصرفاً وتقلباً في مهماتك وشواغلك، ولا تفرغ إلا بالليل؛ فعليك بمناجاة الله التي تقتضي فراغ البال وانتفاء الشواغل. وأما القراءة بالخاء فاستعارة من سبخ الصوف، وهو نفشه ونشر أجزائه؛ لانتشار الهم وتفرق القلب بالشواغل؛ كلفه قيام الليل، ثم ذكر الحكمة فيما كلفه منه، وهو أن الليل أعون على المواطأة وأشد للقراءة، لهدو الرجل وخفوت الصوت، وأنه أجمع للقلب وأضم لنشر الهم من النهار؛ لأنه وقت تفرق الهموم وتوزع الخواطر والتقلب في حوائج المعاش والمعاد. وقيل: فراغاً وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك، وقيل: إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه.
[(واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً • رَّبُّ المَشْرِقِ والْمَغْرِبِ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وكِيلاً • واصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ واهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً) 8 - 10]
(واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ودم على ذكره في ليلك ونهارك، واحرص عليه، وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكر طيب: تسبيح، وتهليل، وتكبير، وتمجيد، وتوحيد، وصلاة، وتلاوة قرآن، ودراسة علم، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغرق به ساعة ليله ونهاره (وتَبَتَّلْ إلَيْهِ) وانقطع إليه.
فإن قلت: كيف قيل (تَبْتِيلاً) مكان تبتلا؟
قلت: لأن معنى تبتل بتل نفسه، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل)، لأنه قيل: قليلاً، طويلاً، فقيل: تبتيلاً، مراعاةً لها، قال صاحب "الفرائد":"يمكن أن يقال: يعني لما كان معنى "تبتل إليه": انقطع إليه، أُقيم التَّبتيل مقامه، وأكد ليدل على أن ذلك الانقطاع إلى الرب، لا يحصل إلا بتكرار التَّبتُّل؛ فالتبتيل يدل على حصول الشدة، والتبتل على التكرار، لأن التفعيل لتكثير الفعل".
(رَّبُّ المَشْرِقِ والْمَغْرِبِ) قرئ مرفوعاً على المدح، ومجروراً على البدل من (رَبِّكَ). وعن ابن عباس: على القسم بإضمار حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، وجوابه:(لا إلَهَ إلاَّ هُوَ)، كما تقول: والله لا أحد في الدار إلا زيد. وقرأ ابن عباس: «رب المشارق والمغارب» . (فَاتَّخِذْهُ وكِيلاً) مسبب على التهليلة؛ لأنه هو وحده هو الذي يجب - لتوحده بالربوبية - أن توكل إليه الأمور. وقيل (وكِيلاً) كفيلاً بما وعدك من النصر والإظهار. الهجر الجميل: أن يجانبهم بقلبه وهواه، ويخالفهم مع حسن المخالقة والمداراة والإغضاء وترك المكافأة. وعن أبى الدرداء رضى الله عنه: إنا لنكشر في وجوه قوم ونضحك إليهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}، قُرئ مرفوعاً)، أبو بكر وابن عامر وحمزة والكسائي:"رَبِّ" بخفض الباء، والباقون: برفعها.
قوله: (وجوابه: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ})، أقسم بما اتفقوا عليه على ما اختلفوا فيه؛ فإنهم اعترفوا أن الله رب المشرق والمغرب، ولكنهم أشركوا معه الأصنام في العبادة، ألا ترى كيف أفحم خليل الله نمرودَ بقوله:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]، وكليم الله موسى فرعون بقوله:{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28].
قوله: (إنا لنكشر في وجوه قوم)، الأساس:"كَشَر الرجل إلى صاحبه: تَبسّم، وكاشره"، قال المتلمس:
إنَّ شَرَّ الناس من يَكشِر لي حين ألقاه، وإن غِبتُ شَتم
وإن قلوبنا لتقليهم. وقيل: هو منسوخ بآية السيف.
[(وذَرْنِي والْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهُمْ قَلِيلاً • إنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وجَحِيمًا • وطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وعَذَابًا أَلِيمًا • يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ والْجِبَالُ وكَانَتِ الجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً) 11 - 14]
إذا عرف الرجل من صاحبه أنه مستهم بخطب يريد أن يكفاه، أو بعدوّ يشتهي أن ينتقم له منه وهو مضطلع بذلك مقتدر عليه قال: ذرني وإياه، أي: لا تحتاج إلى الظفر بمرادك ومشتهاك، إلا أن تخلي بيني وبينه بأن تكل أمره إلىّ وتستكفينيه، فإن في ما يفرغ بالك ويجلى همك، وليس ثم منع حتى يطلب إليه أن يذره وإياه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أنه مُستهم)، الأساس:"اهتم به، ونزل به مُهم. وسمعتم يقولون: استهم لي بكذا"، فيه مبالغة، كانه يقصد قصداً واحداً، أو يطلب من يهم بذلك الأمر ويقصده.
قوله: (وليس ثم منع حتى يطلب إليه أن يذره)، فهو من باب الكناية، قريب من نحو قولك: لا أرينك هاهنا، يعني: أنه تعالى أنهى إلى رسول الله? ، أنه طلب منعه أن يُوقع بالمكذبين، وأنه صلوات الله عليه ما طلب المنع، بل شوهد منه ما نزل منزلة المنع، من ترك الاستكفاء، وتفويض الأمر إليه تعالى. المعنى: مالك لا تستكفينيه، ولا تُفوض أمرك إليّ حتى أستكفيكه وأنتقم لك منه؟
ويجوز أن يكون من باب التهييج والالتفات، وفيه أن من له عدو يضاده ويناوبه، فالله بعزته وجلاله يجب أن يكفي شره، والمظلوم إذا لم يستكف شره من الله كأنه منعه، فإذا فعل ذلك كأنه ظفر به، وتمكن من المراد غاية التمكن، وهو المراد من قوله:"وفيه دليل على الوثوق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما تدور حوله أُمنية المخاطب".
إلا ترك الاستكفاء والتفويض، كأنه إذا لم يكل أمره إليه، فكأنه منعه منه؛ فإذا وكله إليه فقد أزال المنع وتركه وإياه، وفيه دليل على الوثوق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما تدور حوله أمنية المخاطب وبما يزيد عليه. النعمة بالفتح: التنعم، وبالكسر: الإنعام، وبالضم: المسرة؛ يقال: نعم، ونعمة عين، وهم صناديد قريش، وكانوا أهل تنعم وترفه.
(إنَّ لَدَيْنَا) ما يضاد تنعمهم: من أنكال، وهي القيود الثقال؛ عن الشعبي؛ إذا ارتفعوا استقلت بهم، الواحد: نكل ونكل. ومن جحيم: وهي النار، الشديدة الحر والاتقاد. ومن طعام ذي غصة، وهو الذي ينشب في الحلوق فلا يساغ، يعني: الضريع وشجر الزقوم. ومن عذاب أليم: من سائر العذاب، فلا ترى موكولاً إليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إلا ترك الاستكفاء)، قيل: الاستثناء مُنقطع، والظاهر أنه من قبيل قوله تعالى:{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89].
قوله: (نَعَمْ، ونُعْمةَ عَين)، نَعَمْ: حرف إيجاب، يقول المجيب للطالب: نَعَمْ، ونُعْمةَ عَين، قيل: التقدير: أنعم عينك إنعاماً، أي: أقرَّها. وقال: ولم يسمع هذا إلا عندهم. الجوهري: " نُعْمة العين، بضمها: قُرَّتها. ويقال: نُعْمَ عَين، ونُعْمةَ عَين، أي: أفعل ذلك كرامة لك وإنعاماً لعينك، وما أشبهه".
قوله: (فلا ترى موكولاً إليه)، متصل بقوله:{ذَرْنِي} ، لأن الفاء نتيجة لقوله:"إن لدينا ما يُضاد تنعمهم". و"إن لدينا" تعليل لقوله: {ذَرْنِي} ، أي: كل إليَّ أمرهم وذرني وإياهم، فإنك لا ترى أحداً موكولاً إليه [أمرهم]، ولا موذوراً بينه وبينهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام، وهو الأنكال والجحيم والطعام والعذاب؛ فالضمير في "إليه" و "بينه"، يعود إلى الموصوف المحذوف، ولا ضمير في "مَوْكولاً" ولا "مَوْذوراً"، لإسنادهما إلى "أمرهم" وإلى "بينه وبينهم"، و "ينتقم": صفة للموصوف المحذوف، لا للموكول والموذور، لأنَّ الوصف لا يوصف.
أمرهم موذوراً بينه وبينهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق، وعن الحسن: أنه أمسى صائماً، فأتى بطعام، فعرضت له هذه الآية؛ فقال: ارفعه، ووضع عنده الليلة الثانية، فعرضت له، فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة، فأخبر ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء، فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.
(يَوْمَ تَرْجُفُ) منصوب بما في (لَدَيْنَا). والرجفة: الزلزلة والزعزعة الشديدة، والكثيب: الرمل المجتمع، من كثب الشيء إذا جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله، ومنه الكثبة من اللبن، قالت الضائنة: أجز جفالاً، وأحلب كثباً عجالاً، أي: كانت مثل رمل مجتمع هيل هيلاً، أي: نثر وأسيل.
[(إنَّا أَرْسَلْنَا إلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً • فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وبِيلاً) 15 - 16]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بينه وبينهم)، أي: بين من وُكل أمره إلى القائل: {ذَرْنِي} ، وهو الموكول إليه.
قوله: (ومنه الكُثبة من اللبن)، كل شيء جمعته من طعام أو غيره بعد أن يكون قليلاً، فهو كُثبة.
قوله: (قالت الضائنة: أجز جفالاً)، الجوهري:"قالت الضائنة: أولد رخالاً، وأجز جُفالاً، وأحلب كُثباً ثقالاً، ولم تر مثلي مالاً". "الرَّخل، بفتح الراء وكسر الخاء: الأنثى من وَلَدِ الضأن، والجمع رُخال. والجُفال: الصوف الكثير، أي: أجز بمرة واحدة، وذلك أن صوفها لا يسقط على الأرض حتى يُجزَّ كله".
الخطاب لأهل مكة، (شَاهِدًا عَلَيْكُمْ) يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم.
فإن قلت: لم نكر الرسول ثم عرف؟ قلت: لأنه أراد: أرسلنا إلى فرعون بعض الرسل، فلما أعاده، وهو معهود بالذكر أدخل لام التعريف إشارة إل المذكور بعينه. (وبِيلاً) ثقيلاً غليظاً، من قولهم: كلأ وبيل: وخم لا يستمرأ لثقله. والوبيل: العصا الضخمة، ومنه الوابل للمطر العظيم.
[(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيبًا • السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وعْدُهُ مَفْعُولاً) 17 - 18]
(يَوْمًا) مفعول به، أي: فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهو له، إن بقيتم على الكفر، ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً. ويجوز أن يكون ظرفاً، أي: فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا، ويجوز أن ينتصب ب- «كفرتم» على تأويل جحدتم، أي: فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء؛ لأن تقوى الله خوف عقابه. (يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيبًا) مثل في الشدة، يقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال، والأصل فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة)، يعني: إذا جحدتم يوم القيامة وأنكرتموه فلا تعتقدون العقاب، فلا يكون لكم خشية ولا تقوى.
وهذا الوجه أوفق للتأليف، يعني: حوّقناكم بالأنكال والجحيم، وأرسلنا إليكم رسولاً شاهداً يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم، وأنْذرناكم بما فعلنا بفرعون من العذاب الوبيل والأخذ الثقيل، فما نجع فيكم ذلك كله ولا اتَّقيتم الله، فكيف تتقونه وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء؟ وفيه: أنّ ملاك التقوى والخشية الإيمان بيوم القيامة.
أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب، قال أبو الطيب:
والهم يخترم الجسيم نحافة
…
ويشيب ناصية الصبي ويهرم
وقد مر بى في بعض الكتب أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، وأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة، فقال: أريت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون. ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وإن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب. (السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ) وصف لليوم بالشدة أيضا، وإن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ وقرئ:«منفطر ومتفطر» ، والمعنى: ذات انفطار، أو على تأويل:«السماء» بالسقف، أو: السماء شيء منفطر، والباء في «بِهِ» مثلها في قولك: فطرت العود بالقدوم فانفطر به، يعني: أنها تنفطر بشدة ذلك اليوم وهو له، كما ينفطر الشيء بما يفطر به. ويجوز أن يراد: السماء مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمه عليها وخشيتها من وقوعه، كقوله:(ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ)[الأعراف: 187]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كالثَّغامة)، الجوهري:"الثَّغام، بالفتح: نبت يكون في الجبل يبيض إذا يَبِس، يشبَّه به الشَّيب، الواحدة: ثَغامة".
قوله: (ويجوز أن يوصف اليوم بالطول)، يعني: يكون قوله: {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} ، كناية عن طول اليوم.
قوله: (والمعنى: ذات انفطار)، قال أبو البقاء:"مُنفطر، بغير تاء، على النَّسب، أي: ذات انفطار، وقد ذُكر حملاً على معنى السقف، وقيل: السماء تُذكر وتُؤنث".
قوله: (ويجوز أن يُراد: السماء مُثقلة به)، أي: جعل كون السماء مُثقلة، لِعظم اليوم عليها
(وعَدَهَ) من إضافة المصدر إلى المفعول، والضمير لليوم، ويجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل وهو الله عز وعلا، ولم يجر له ذكر لكونه معلوما.
[(إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) 19]
(إنَّ هَذِهِ) الآيات الناطقة بالوعيد الشديد (تَذْكِرَةٌ) موعظة (فَمَن شَاءَ) اتعظ بها واتخذ سبيلاً إلى الله بالتقوى والخشية. ومعنى اتخاذ السبيل إليه: التقرب والتوسل بالطاعة.
[(إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ وطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ومَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وأَعْظَمَ أَجْرًا واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) 20]
(أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) أقل منهما؛ وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل؛ لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت، قل ما بينهما من الأحياز؛ وإذا بعدت كثر ذلك. وقرئ:() بالنصب على: أنك تقوم أقل من الثلثين، وتقوم النصف والثلث،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وخَشيتها من وُقوعه، كأنها مرفوعة مُنفطرة به، كقوله تعالى:{ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 187]، أي: ثَقُلت الساعة فيها، لأن كل شيء لا يُطيقها ولا يقوم لها، فهي ثقيلة فيها.
قوله: (وقُرئ: {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} بالنصب)، الكوفيون وابن كثير: بنصبهما، والباقون: بالخفض، قال أبو البقاء:"بالجر حملاً على {ثُلُثَيِ}، وبالنصب حملاً على {أَدْنَى} ".
وهو مطابق لما مر في أوّل السورة، من التخيير بين قيام النصف بتمامه، وبين قيام الناقص منه وهو الثلث، وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين. وقرئ:«ونصفه وثلثه» بالجر، أي: تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث، وهو مطابق للتخيير بين النصف: وهو أدنى من الثلثين، والثلث: وهو أدنى من النصف، والربع: وهو أدنى من الثلث، وهو الوجه الأخير.
(وطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ويقوم ذلك جماعة من أصحابك (واللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ) ولا يقدر على تقدير الليل والنهار ومعرفة مقادير ساعاتهما إلا الله وحده؛ وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه (يُقَدِّرُ): هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير؛ والمعنى: أنكم لا تقدرون عليه، والضمير في (لَّن تُحْصُوهُ) لمصدر «يقدر» ، أي: علم أنه لا يصح منكم ضبط الأوقات، ولا يتأتى حسابها بالتعديل والتسوية،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهو مطابق لما مرَّ في أول السورة) أي: في الوجه الثاني من الوجوه المذكورة في قوله: {قُمِ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (نِّصْفَهُ} الآية.
قوله: (وهو مطابق) إلى قوله: (وهو الوجه الأخير) أي: الوجه الرابع من الوجوه.
قوله: (وتقديم اسمه تعالى [مبتدأ] مبنياً عليه {يُقَدِّرُ} : هو الدال على [معنى] الاختصاص، هذا خلاف رأي صاحب "المفتاح"، حيث قال:"لا يكون لقولنا: زيد عرف. غير احتمال الابتداء، اللهم إلا بذلك الوجه البعيد، فلا يرتكب عند المعرَّف لكونه على شرط الابتداء؛ وإنما يرتكب عند المُنكر لفوات الشرط". وجوابه ما سبق في سورة الرعد في قوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ} [الرعد: 26]، ان إفادة الاختصاص من خصوصية الاسم جامع
إلا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط، وذلك شاق عليكم بالغ منكم. (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدر، كقوله:(فَتَابَ عَلَيْكُمْ وعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ)[البقرة: 187].
والمعنى: أنه رفع التبعة في تركه عنكم، كما يرفع التبعة عن التائب. وعبر عن الصلاة بالقراءة لأنها بعض أركانها، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود، يريد: فصلوا ما تيسر عليكم، ولم يتعذر من صلاة الليل؛ وهذا ناسخ للأوّل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مع التركيب، لما تجد التفاوت بين ما عليه التلاوة وقولنا: يُقدر الله الليل، وكذا بين قولنا: زيد يَجود، وحاتم يجود.
قوله: (ولم يتعذر من صلاة الليل)، أي: صلوا ما بَعُد من صلاة الليل، وما لم يُنسبوا إلى التقصير فيها، كما تقول: هذا لم يتعذر عليَّ، أي: هو سهل عندي، لأني لم أُقصر في تخصيله. الجوهري:"التعذير في الأمر: التقصير فيه".
قوله: (وهذا ناسخ للأول)، روينا عن الإمام أحمد بن حنبل ومسلم وأبي داود والدرامي وابن ماجه والنسائي، عن سعد بن هشام، قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أُمَّ المؤمنين، أنبئيني عن خُلُق رسول الله? ، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خُلُق نبي الله القرآن. قال: فَهَممت أن أقوم، ولا أسأل عن شيء حتى أموت. ثم بدا لي، فقلت: أنبئيني عن قيام رسول الله? ، قالت: ألست تقرأ: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله قد افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله? وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثنى عشر شهراً في السماء، حتى أنزل الله تعالى في آخر السورة التخفيف، وقام قيام الليل تطوعاً".
ثم نسخا جميعاً بالصلوات الخمس. وقيل: هي قراءة القرآن بعينها؛ قيل: يقرأ مائة آية، ومن قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن، وقيل: من قرأ مائة آية كتب من القانتين. وقيل: خمسين آية.
وقد بين الحكمة في النسخ، وهي تعذر القيام على المرضى، والضاربين في الأرض للتجارة، والمجاهدين في سبيل الله. وقيل: سوى الله بين المجاهدين والمسافرين لكسب الحلال. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أيما رجل جلب شيأ إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً، فباعه بسعر يومه، كان عند الله من الشهداء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أبي داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله: {قُمِ الَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} الآية. قال: نسختها الآية التي فيها {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} الحديث.
قوله: (ثُمَّ نُسخاً جميعاً)، أي: الرُّخصة والعزيمة.
قوله: (وقيل: هي قراءة القرآن بعينها)، عطف على قوله:"وعَبّرَ عن الصلاة بالقراءة". دليل الأول: ترتب {فَاقْرَءُوا} بالفاء على قوله: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} . ودليل الثاني: عطف قوله {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} على {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} . عن البخاري، عن سفيان، قال لي ابن شبرمة: نظرت كم يكفي الرجل من القرآن، فلم أجد سورة أقل من ثلاث آيات، فقلت: لا ينبغي لأحد أن يقرأ أقل من ثلاث آيات".
قوله: (لم يحاجَّه القرآن)، النهاية:"لم يَغلبه بالحُجة. ومنه الحديث: "فحجَّ آدم موسى"، أي: غلبه بالحُجة".
قوله: (سوّى الله بين المجاهدين والمسافرين لكسب الحلال)، وذلك أنه أُعيد ذِكر
وعن عبد الله بن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله، أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رحل، أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله. و (عَلِمَ) استئناف على تقدير السؤال عن وجه النسخ. (وأَقِيمُوا الصَّلاةَ) يعني المفروضة والزكاة الواجبة، وقيل: زكاة الفطر؛ لأنه لم يكن بمكة زكاة، وإنما وجبت بعد ذلك. ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنياً. (وأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) يجوز أن يريد سائر الصدقات، وأن يريد أداء الزكاة على أحسن وجه: من إخراج أطيب المال وأعوده على الفقراء، ومراعاة النية وابتغاء وجه الله، والصرف إلى المستحق، وأن يريد كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال. (خَيْرًا) ثاني مفعولي وجد. و (هُوَ) فصل، وجاز - وإن لم يقع بين معرفتين - لأن «أفعل من»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَآخَرُونَ} ، وقوبل {يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} بقوله {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، ثم جمعا في قوله:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ، لفظاً من حيث الضمير، وحكماً في الأمر بالقراءة على سبيل التيسير. وكان أصل الكلام: عَلِمَ أن سيكون منكم مرضى ومسافرون، فقسمهم قسمين: المُبتغين من فضل الله والمجاهدين، ولم يكتف بذلك، بل قدَّم المسافرين على المجاهدين.
روينا عن أحمد بن حنبل، عن عمرو بن العاص، عن النبي? ، قال لي:"إني أُريد أن أبعثك على جيش فيُسلمك الله ويُغنمك، وأزعب لك من المال زَعبةً صالحةً"، قال: قلت: يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله? ، فقال:"يا عمرو، نِعم المال الصالح للمرء الصالح".
قوله: (و {هُوَ} فصل، وجاز - وإن لم يقع بين معرفتين - لأن أفعل) إلى آخره، "مِنْ"
أشبه في امتناعه من حرف التعريف، المعرفة. وقرأ أبو السمال:«هو خير وأعظم أجراً» ، بالرفع على الابتداء والخبر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المزمل، دفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مُتعلق بـ "أفعل"، أي: لفظه "أفعل من" أشبه المعرفة في امتناعه من حرف التعريف، قال ابن الحاجب:"أَفعل من كذا، مُشبه للمعرفة شبهاً قوياً من حيث المعنى، حتى معنى قولك: أَفضل من كذا: الأفضل، باعتباره: فضيلته معهودة، ولذلك قام مقامه". وقال أيضاً: "ولذلك لم يجمعوا بينهما".
قوله: (وقرأ أبو السّمّال: "هو خير وأعظم أجراً"، بالرفع)، وفي "الموضح": عَدَّ من القُراء أبا السّمّال، وأبا السّماك أيضاً. قال الزجاج:" {خَيْرًا}: منصوب، مفعول ثانٍ لـ "{تَجِدُوهُ} ، ودخلت {هُوَ} فصلاً. ولو كان في غير القرآن لَجازَ:"تَجدوه هو خير"، والنصب أجود في العربية، ولا يجوز غيره، أي: في القرآن".
تمت السورة
بحمد الله وعَوْنِه
*
…
*
…
*
سورة المدثر
مكية، وهي ست وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ • قُمْ فَأَنذِرْ • ورَبَّكَ فَكَبِّرْ • وثِيَابَكَ فَطَهِّرْ • والرُّجْزَ فَاهْجُرْ) 1 - 5]
(المُدَّثِّرُ) لابس الدثار، وهو ما فوق الشعار: وهو الثوب الذي يلي الجسد. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «الأنصار شعار والناس دثار» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة المدثّر
ست وخمسون آية، مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
قوله: (الأنصار شعار والناس دثار)، النهاية:"يعني: أنتم الخاصة والناس العامة".
الراغب: "يقال: دَثَرتُه فتدثر، والدِّثار: ما يتدثر به، وتَدَثّر الفحل الناقة: تَسنّمها، والرجل الفرس: وَثَبَ عليه فركبه، ورجل دثور: خامل مُستتر، وسيف داثر: بعيد العهد بالصقال. ومنه قيل للمنزل الدارس: داثر، لزوال أعلامه، وفلان دِثر المال: حسن القيام به".
وقيل: هي أول سورة نزلت؛ وروى جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كنت على جبل حراء، فنوديت: يا محمد، إنك رسول الله، فنظرت عن يمينى ويساري فلم أر شياً، فنظرت فوقي فرأيت شيئاً» ، وفي رواية عائشة:«فنظرت فوقى فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض، يعني الملك الذي ناداه، فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: «دثروني دثروني» ، فنزل جبريل وقال:(يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (روى جابر بن عبد الله) الحديث، روى البخاري ومسلم وأحمد والترمذي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن. قال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ؟ فقال أبو سلمة: سألت جابراً عن ذلك، وقلت له مثل الذي قلت لي، فقال لي جابر: لا أُحدثك إلا ما حدثنا رسول الله? ، قال: جاورت بحراء شهراً، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دَثِّروني، فدثَّروني وصبوا عليّ ماء بارداً، فنزلتْ:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (قُمْ فَأَنذِرْ (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} . وفي رواية: "فإذا هو قاعدٌ على العرش بين السماء والأرض".
قوله: (فإذا به قاعد)، قيل: هو مبتدأ وخبر، والضمير في "به" لِ "فوق"، ويمكن أن يُجرى على التجريد، أي: حَصَلَ بسببه أو ملتبس به ملك جليل القدر قاعد على العرش. وهو هو. ويجوز أن يكون الباء بمعنى "في"، أي: استقرَّ فيه ملك قاعد كما قال:
أفاءت بنو مروان ظلماً دماءنا وفي الله إن لم يَعدلوا حكم عدل
وعن الزهري: أول ما نزل سورة (اقْرا بِاسْمِ رَبِّكَ) إلى قوله (مَا لَمْ يَعْلَمْ)، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل فقال: إنك نبي الله، فرجع إلى خديجة وقال: دثروني وصبوا علي ماء بارداً، فنزل:(يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ).
وقيل: سمع من قريش ما كرهه فاغتم، فتغطى بثوبه مفكراً كما يفعل المغموم، فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه. وعن عكرمة أنه قرأ على لفظ اسم المفعول، من دثره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: الله حكم عدل؛ فالمعنى مطابق لما روينا عن الأئمة: فإذا هو قاعد على العرش.
قوله: (شَواهِقَ الجبال)، الجوهري:"شَهِقَ يَشْهَقُ، أي: ارتفع. والشاهق: الجبل المرتفع". والصحيح أن هذه الحالة إنما ظهرت عند فترة الوحي، على ما روينا عن البخاري، عن عائشة في حديث طويل، قال:"وفَتَرَ الوحي فترة، حتى حزن النبي? ، فيما بلغنا حزناً شديداً، غدا منه مراراً حتى يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يُلقي نسفه منه، تبدّى له جبريل: فقال: يا محمد، إنّك لرسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه، وتَقَرُّ نفسه فيرجع" الحديث. حِرا: ممدود، مُنصرف على التذكير، غير مُنصرف على التأنيث.
قوله: (على لفظ اسم المفعول)، أي:"المدثر"، بفتح الثاء. قال في "المزمل":"قُرئ: "المزمل"، بتخفيف الزاي وفتح الميم، من: زُمِّلَه، وهو الذي زَمَّله غيرزه". وإليه الإشارة بقوله: كما قال في "المزَّمِّل".
وقال: دثرت هذا الأمر وعصب بك، كما قال في المزمل: قم من مضجعك، أو قم قيام عزم وتصميم (فَأَنذِرْ) فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا. والصحيح أنّ المعنى: فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد (ورَبَّكَ فَكَبِّرْ) واختص ربك بالتكبير، وهو الوصف بالكبرياء؛ وأن يقال: الله أكبر.
ويروى أنه لما نزل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الله أكبر» فكبرت خديجة وفرحت، وأيقنت أنه الوحي؛ وقد يحمل على تكبير الصلاة، ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره. (وثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات؛ لأن طهارة الثياب شرط في الصلاة لا تصح إلا بها، وهي الأولى والأحب في غير الصلاة، وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثاً. وقيل: هو أمر بتقصيرها، ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول، وذلك ما لا يؤمن معه إصابة النجاسات. وقيل: هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ويستهجن من العادات. يقال: فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل والأردان، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو قُم قيام عزم وتصميم)، نحوه قال في "المزَّمِّل":"تَزمّل في قطيفته، واستعداده للاستثقال في النوم، كما يفعل من لا يُهِمه أمر ولا يَعنيه شأن".
قوله: (فافعل الإنذار)، أي: أَنذِر، حُذف مفعوله، وأُجري مجرى اللازم.
قوله: (وما كان فلا تدع تكبيره)، أي: أيُّ شيء حدث ووقع فلا تترك تكبيره، ونحوه قولك: زيداً فاضربه.
قوله: (وقيل: هو أمر بتطهير النفس)، وأنشد الراغب:
وفلان دنس الثياب للغادر؛ وذلك لأن الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه، فكني به عنه، ألا ترى إلى قولهم: أعجبني زيد ثوبه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثياب بني عَوف طهارى نَقيّةٌ
وقال: "أصل الثوب الرجوع إلى الحالة الأولى التي كان عليها، أو إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة، وهي الحالة المشار إليها بقوله: أول الفكرة آخر العمل، فمن الرجوع إلى الحالة الأولى: ثاب فلان إلى داره، ومن الرجوع إلى الحالة المقدرة المقصودة بالفكرة الثَّوب، سمّي بذلك لرجوع الغزل إلى الحالة التي قُدِّر لها، وكذا ثوب العمل.
والثواب: ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله؛ فسمّي الجزاء ثواباً تصوراً أنه هو هو، ألا ترى كيف جعل الجزاء نفس الفعل في قوله:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]، ولم يقل: جزاءه. والثواب يقال في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف عليه في الخير، وكذلك المثوبة؛ وعلى طريق الاستعارة، يقال في الشر كاستعارة البشارة فيه".
قوله: (فكُنّيَ به عنه)، أي: فكنّى بالثوب عما يلابس مما يستقذر من الأفعال.
كما يقولون: أعجبني زيد عقله وخلقه، ويقولون: المجد في ثوبه، والكرم تحت حلته؛ ولأن الغالب أن من طهر باطنه ونقاه، عني بتطهير الظاهر وتنقيته، وأبى إلا اجتناب الخبث وإيثار الطهر في كل شيء. (والرُّجْزَ) قرئ بالكسر والضم، وهو العذاب، ومعناه: اهجر ما يؤدي إليه من عبادة الأوثان وغيرها من المآثم. والمعنى: الثبات على هجره؛ لأنه كان بريئاً منه.
[(ولا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ • ولِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) 6 - 7]
قرأ الحسن: «ولا تمنّ» ، (تَسْتَكْثِرُ) مرفوع منصوب المحل على الحال، أي: ولا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه كثيرا، أو طالباً للكثير؛ نهى عن الاستغزار: وهو أن يهب شيئاً وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب له أكثر من الموهوب، وهذا جائز. ومنه الحديث:«المستغزر يثاب من هبته» ، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون نهياً خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (المجد في ثوبه، والكرم تحت حُلته)، قال صاحب "المفتاح":"قولهم: المجد بين ثوبيه، والكرم بين بُرديه: من الكناية المطلوب بها تخصيص الصفة بالموصوف". أراد القائل أن لا يُصرح بتخصيص المجد والكرم بالممدوح، فجعلهما بين ثوبيه وبُرديه، تنبيهاً بذلك على أن محلهما الثوبان والبُردان، وهما مُشتملان على الممدوح، فتم غرضه بذلك.
قوله: ({وَالرُّجْزَ} قُرئ بالضم والكسر)، بالضم: حفص وحده.
قوله: (المستغرز يُثاب من هبته)، النهاية: "روي عن بعض التابعين: المستغزر: الذي يطلب أكثر مما يُعطي، أي: إذا أهدى لك الغريب شيئاً، يطلب أكثر منه، فأعطه في مُقابلة
لأن الله تعالى اختار له أشرف الآداب وأحسن الأخلاق، والثاني: أن يكون نهي تنزيه لا تحريم له ولأمته. وقرأ الحسن: «تستكثر» بالسكون، وفيه ثلاثة أوجه، الإبدال من تمنن، كأنه قيل: ولا تمنن لا تستكثر؛ على أنه من المن في قوله عز وجل: (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا ولا أَذًى)[البقرة: 262]؛ لأن من شأن المنان بما يعطي أن يستكثره، أي: يراه كثيرا ويعتد به، وأن يشبه «ثرو» بـ «عضد» ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هديته". فـ "مِن" في "من هِبته"، كـ "من" في "ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجِدُّ"، أي: بذلك.
قوله: (وقرأ الحسن: "تَسْتكثِرْ")، قال ابن جني:"يحتمل أن يكون بدلاً، كأنه قال: لا تسكثر. فإن قيل: عبرة البدل أن يصلح إقامة الثاني مقام الأول، نحو: ضربت أخاك زيداً، أي: ضربت زيداً. ولو قلت: لا تستكثر، لم يدل إلا على النهي عن الاستكثار مُرسلاً. وإنما المعنى: ولا تمنن منَّ مُستكثر، أي: امنن من من لا يريد عوضاً، ولا يطلب الكثير عن القليل. فيقال: قد يكون البدل على حذف الأول، وقد يكون على نية إثباته، كقولك: زيد مررت به أبي محمد، فتبدل أبا محمد من الهاء. ولو قلت: زيد مررت بأبي محمد، كان قبيحاً. فقوله: {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ}، من هذا القبيل. ووجه آخر، وهو أن المراد: تَسْتَكْثِرُ، فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات، كما حكى أبو زيد: {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، بإسكان اللام".
قوله: (وأن يُشبه "ثرو" بـ "عَضُد")، أي: الخروج من كسر الثاء إلى ضمة الراء وإلى فتحة الواو في {وَلِرَبِّكَ} ثقيل؛ فخفف الراء. كما أنّ "عَضُد" ثقيل، فخفف الضاد.
فيسكن تخفيفاً، وأن يعتبر حال الوقف. وقرأ الأعمش بالنصب بإضمار «أن» كقوله:
ألا أيهذا الزاجرى أحضر الوغى
وتؤيده قراءة ابن مسعود: «ولا تمنن أن تستكثر» ، ويجوز في الرفع أن تحذف «أن» ويبطل عملها، كما روي:«أحضر الوغى» بالرفع. (ولِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) ولوجه الله فاستعمل الصبر، وقيل: على أذى المشركين، وقيل: على أداء الفرائض، وعن النخعي: على عطيتك، كأنه وصله بما قبله، وجعله صبراً على العطاء من غير استكثار، والوجه أن يكون أمراً بنفس الفعل، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرأ الأعمش بالنصب بإضمار "أن")، قال ابن جني: "هو بدل من قوله: {وَلَا تَمْنُن} في المعنى، لأن معناه: لا يكن منك مَنٌّ واستكثار، أي: لا يكن منك مَنٌّ أن تستكثر، فتضمر {أَنْ} لتكون مع الفعل المنصوب بها بدلاً من المنِّ في المعنى الذي دلَّ عليه الفعل، ونظيره قولهم: لا تشتمه فيشتمك، أي: لا يكن منك شَتم له، ولا منه أن يشتمك، وأنشد أبو زيد:
فقالوا: ما تشاء؟ فقلت: أَلْهو إلى الإصباحِ، آثِرَ ذي أَثير
فوضع "أَلْهو" موضع (اللهو) ".
قوله: (ولِوجه الله، فاستعمل الصبر)، فيه تخصيص ومبالغة؛ فالتخصيص مستفاد من التقديم، والمبالغة من حذف مُتعلق {فَاصْبِرْ} - غير مراد - ولذلك قال بعده:"قيل: على أذى المشركين".
قوله: (والوجه أن يكون أمراً بنفس الفعل)، قيل: هذا هو الوجه الأول، وليس بصواب؛ لأن الوجه الأول مُطلق على إطلاقه، وأطلق هذا الوجه ليتناول كل صبور عليه ومصبور عنه، ثم كنى به عن الصبر على أذى الكفار، على أن الصبر على أذاهم، هو الصبر على كل
وأن يتناول على العموم كل مصبور عليه ومصبور عنه، ويراد الصبر على أذى الكفار؛ لأنه أحد ما يتناوله العام.
[(فَإذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ • فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ • عَلَى الكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) 8 - 10]
والفاء في قوله: (فَإذَا نُقِرَ) للتسبيب، كأنه قال: اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه. والفاء في (فَذَلِكَ) للجزاء.
فإن قلت: بم انتصب «إذا» ، وكيف صح أن يقع (يَوْمَئِذٍ) ظرفا ل- «يوم عسير»؟ قلت: انتصب «إذا» بما دل عليه الجزاء، لأن المعنى: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين، والذي أجاز وقوع (يَوْمَئِذٍ) ظرفا ل- (يَوْمٌ عَسِيرٌ)، أن المعنى: فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير، لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور، واختلف في أنها النفخة الأولى أم الثانية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصبور عليه، على ما سبق في قوله تعالى:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]، أي: أنعمت عليهم بالإسلام، فاُطلق ليتناول كل مُنعَم عليه، ثم كني به عن الإسلام، لأن من أنعم الله تعالى عليه بالإسلام، لم تبق نعمة إلا أصابته واشتملت عليه، ولهذه الدقيقة قال:"والوجه" إلى آخره.
قوله: (والذي أجاز وقوع {يَوْمَئِذٍ} ظرفاً لـ {يَوْمٌ عَسِيرٌ}، أن المعنى). هذا جواب عن السؤال الثاني، يريد: أن المعنى هو الذي يجيز التقدير، لأن النقر في الصور من أمارات يوم القيامو، والقيامة إنما تأتي وتقع حين يُنقر في الصور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال صاحب "الفرائد": "لما كان العسير الذي جعل صفة لليوم، صفة للأمر الواقع فيه على الإسناد المجازي، نحو: نهاره صائم، جعل وقت النَّقر ظرفاً، باعتبار ان المراد منه العُسر على الكفار.
وقيل: لا يمكن جعل قوله: "وقوع {يَوْمَئِذٍ} [ظرفاً لـ] {يَوْمٌ عَسِيرٌ} "، خبراً لقوله {فَذَلِكَ} ، ولا بد من تقدير مضاف، إذ المعنى: زمان النقر يومئذٍ زمان وقوع {يَوْمٌ عَسِيرٌ} ، لأنه لا يمكن جعل {يَوْمَئِذٍ} ظرفاً لما بعده، لأنه يلزم إعمال المصدر، الذي هو المضاف إليه فيما قبل المضاف وفيه نظر، لأن لفظة {ذَلِكَ} إشارة إلى نقر الناقور لا إلى زمان النقر، فيصح حينئذ وقوع {يَوْمٌ عَسِيرٌ} خبراً لـ {ذَلِكَ} ، و {يَوْمَئِذٍ} ظرفاً له، وإليه الإشارة بقوله:"لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور".
فإن قيل: نقر الناقور سبب لوقوع يوم القيامة، لا نفس وقوعه؟ قلت: سببيته لاتنافي ظرفيته كما قال المصنف في آخر سورة "الأحقاف": "لاستواء مؤدى التعليل والظرف في قولك: ضربته لإساءته، وضربته إذا أساء".
قال صاحب "الكشف": " {ذَلِكَ}: ابتداء، وهو إشارة إلى المصدر، أي: فذلك النقر، وهو العامل في {يَوْمَئِذٍ}. و {يَوْمٌ عَسِيرٌ} خبر المبتدأ، والمضاف مُقدر، أي: فذلك النقر في ذلك الوقت نقر يوم عسير. و {عَلَى الْكَافِرِينَ} مُتعلق بـ {عَسِيرٌ} لا بـ {يَسِيرٍ}، لأن ما يعمل فيه المضاف إليه، لا يتقدم على المضاف، على أنهم قالوا: إن "غيراً" في حكم حرف النفي، فيجوز أن يعمل ما بعده فيما قبله. وأجازوا: أنت زيداً غير ضارب، حملاً على: أنت زيداً لا ضارب".
ويجوز أن يكون (يَوْمَئِذٍ) مبنياً مرفوع المحل بدلا من (ذَلِكَ)، و (يَوْمٌ عَسِيرٌ) خبر، كأنه قيل: فيوم النقر يوم عسير.
فإن قلت: فما فائدة قوله: (غَيْرُ يَسِيرٍ)، و (عَسِيرٌ) مغن عنه؟
قلت: لما قال: (عَلَى الكَافِرِينَ) فقصر العسر عليهم، قال:(غَيْرُ يَسِيرٍ) ليؤذن بأن لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً، ليجمع بين وعيد الكافرين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال أبو البقاء: "إذا: ظرف، والعامل ما دل عليه {فَذَلِكَ}، لأنه إشارة إلى النقر. و {يَوْمَئِذٍ} بدل من {إِذَا}، و {ذَلِكَ} مبتدأ، والخبر {يَوْمٌ عَسِيرٌ}. العامل فيه ما دل عليه {عَسِيرٌ}، أي: تعسير، ولا يعمل فيه نفس {عَسِيرٌ}، لأن الصفة لا تعمل فيما قبلها. يخرج على قول الأخفش، وهو أن يكون {إِذَا} مبتدأ، والخبر {فَذَلِكَ}، والفاء زائدة. وأما {يَوْمَئِذٍ} فظرف لـ {ذَلِكَ} ".
وقلت: قد سبق غير مرة أن الشرط والجزاء إذا اتحدا معنى، دل على فخامة الجزاء، وكان الجزاء متضمناً للإخبار أو التوبيخ، وها هنا المشار إليه بقوله: فذلك الذي هو الجزاء، نفس الشرط الذي هو وقت النقر، وانضم معه تكرير {يَوْمَئِذٍ} و {يَوْمٌ عَسِيرٌ} ، فدل على التنبيه على الخطب الجليل والأمر العظيم.
قوله: (ويجوز أن يكون {يَوْمَئِذٍ} مبنياً مرفوع المحل)، قال الزجاج:"إنما بُنِيَ {يَوْمَئِذٍ} على الفتح، لإضافته إلى إذْ، لأنها غير مُتمكنة".
قوله: (فقصر العُسر عليهم)، لم يُرَد به القصر الاصطلاحي، بل يراد به تخصيص إيقاع ذكر العُسر عليهم. وعن بعضهم: نظيره قوله تعالى: {لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 44]، من
وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم، ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا، كما يرجى تيسر العسير من أمور الدنيا.
[(ذَرْنِي ومَنْ خَلَقْتُ وحِيدًا • وجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدودًا • وبَنِينَ شُهُودًا • ومَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا • ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ • كَلاَّ إنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا • سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا • إنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ • فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ • ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ • ثُمَّ نَظَرَ • ثُمَّ عَبَسَ وبَسَرَ • ثُمَّ أَدْبَرَ واسْتَكْبَرَ • فَقَالَ إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ • إنْ هَذَا إلاَّ قَوْلُ البَشَرِ) 11 - 25]
(وحِيدًا) حال من «الله» عز وجل على معنيين، أحدهما: ذرني وحدي معه، فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم، والثاني: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد. أو حال من المخلوق على معنى: خلقته وهو وحيد فريد لا مال له ولا ولد، كقوله:(ولَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[الأنعام: 94].
وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان يلقب في قومه بالوحيد، ولعله لقب بذلك بعد نزول الآية؛ فإن كان ملقباً به قبل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حيث إنه تعريض بظل الجنة، وهذا غيظ لهم. والفرق أن القرينة الثانية على الأول استُجلبت بإثبات حكم مغني مغاير للمذكور، وعلى الثاني بإرادة استمرار الحكم الثابت تفريعاً.
قوله: (أنه عسير لا يُرجى)، قال أبو البقاء:" {عَلَى} مُتعلق بـ {عَسِيرٌ}، أو هي نعت له، أو حال من الضمير الذي فيه، أو متعلق بـ {يَسِيرٍ}، أو بما دل عليه".
قوله: (فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم)، إشارة إلى المعنى الذي سبق في قوله:{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ} [المزمل: 11].
فهو تهكم به وبلقبه، وتغيير له عن الغرض الذي كانوا يؤمونه من مدحه، والثناء عليه بأنه وحيد قومه لرياسته ويساره وتقدّمه في الدنيا إلى وجه الذم والعيب، وهو أنه خلق وحيداً لا مال له ولا ولد، فآتاه الله ذلك، فكفر بنعمة الله وأشرك به واستهزأ بدينه.
(مَّمْدودًا) مبسوطاً كثيراً، أو ممداً بالنماء، من: مد الهر ومده نهر آخر، قيل: كان له الزرع والضرع والتجارة. وعن ابن عباس: هو ما كان له بين مكة والطائف من صنوف الأموال، وقيل: كان له بستان بالطائف لا ينقطع ثماره صيفاً وشتاء وقيل: كان له ألف مثقال، وقيل: أربعة آلاف، وقيل تسعة آلاف، وقيل: ألف ألف، وعن ابن جريج: غلة شهر بشهر.
(وبَنِينَ شُهُودًا) حضوراً معه بمكة لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة، لأنهم مكفيون لوفور نعمة أبيهم واستغنائهم عن التكسب وطلب المعاش بأنفسهم، فهو مستأنس بهم لا يشتغل قلبه بغيبتهم، وخوف معاطب السفر عليهم ولا يحزن لفراقهم والاشتياق إليهم. ويجوز أن يكون معناه: أنهم رجال يشهدون معه المجامع والمحافل، أو تسمع شهاداتهم فيما يتحاكم فيه. وعن مجاهد: كان له عشرة بنين، وقيل: ثلاثة عشر. وقيل: سبعة كلهم رجال: الوليد بن الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاص، وقيس، وعبد شمس؛ أسلم منهم ثلاثة: خالد، وهشام، وعمارة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (غَلّة شهر بشهر)، أي: بحلول شهر. يعني: كان يأخذ غلة عقاره في كل شهر، وقيل: التقدير مستقر مع شهر أو شهر بعد شهر.
قوله: (الوليد بن الوليد، وخالد، وعُمارة، وهشام، والعاص، وقيس، وعبد شمس: أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام وعمارة)، يُفهم منه أن الوليد بن الوليد لم يُسلم، والرواية بخلافه، قال ابن عبد البر في "الاستيعاب":"إن هشاماً من المُؤَلَّفة"، ولم يَذكر عمارة في
(ومَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا) وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه، فأتممت عليه نعمتي المال والجاه؛ واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا. ومنه قول الناس: أدام الله تأييدك وتمهيدك، يريدون: زيادة الجاه والحشمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتابه أصلاً، وذكر أن الوليد بن الوليد "أسلم وشهد مع رسول الله? ، وخالد كان فاراً من مكة، لئلا يرى رسول الله? . وسمع الوليد رسول الله? يقول: لو أتانا خالد لأكرمناه، ومثله سقط عليه الإسلام في عقله، فكتب إليه الوليد فوقع الإسلام في قلب خالد، وكان سبب هجرته".
وذكر البلاذري في "أنساب الأشراف"، أن أولاد الوليد بن المغيرة أربعة: خالداً، وهشاماً، وعمارة، ووليداً. وقال: وأما الوليد بن الوليد، فكام من المستضعفين المؤمنين، وهاجر إلى النبي? ماشياً. وأما هشام فأسلم وحسن إسلامه، وهو الذي بعثه عمر رضي الله عنه إلى الكوفة. وأما عمارة، فكان فتى قريش جمالاً، وشخص مع عمرو بن العاص إلى الحبشة، فعشقته امرأة النجاشي، فدعته فجعل يختلف إليها، وحدث عمراً بذلك وكان بينهما ضغن وحقد، فقال: إن صدقتني فأتني بدهن من دُهن النجاشي، فجاء به، فأتى عمرو النجاشي، وحدثه الحديث، فأخذه النجاشي وقطعه إرباً إرباً، فعلم من ذلك أنه قُتل مشركاً، والله أعلم" ..
قوله: (فأتممت عليه نعمتي المال والجاه)، يريد أن قوله:{وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا} ، تكميل، فعلم من الأول أنه أوتي المال والولد، وقد لا يحصل بهما الجاه، فتمَّم وكمّل بقوله:{وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا} ، وإليه الإشارة بقوله:"واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا"، وقوله: "عند أهلِ
وكان الوليد من وجهاء قريش وصناديدهم؛ ولذلك لقب «الوحيد» و «ريحانة قريش» . (ثُمَّ يَطْمَعُ) استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه، يعني أنه لا مزيد على ما أوتي سعة وكثرة، وقيل: إنه كان يقول: إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي.
(كَلاَّ) ردع له وقطع لرجائه وطمعه (إنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) تعليل للردع على وجه الاستئناف، كأن قائلاً قال: لم لا يزاد؟ فقيل: إنه عاند آيات المنعم وكفر بذلك نعمته، والكافر لا يستحق المزيد. ويروى أنه ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله حتى هلك. (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) سأغشيه عقبة شاقة المصعد، وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعد الذي لا يطاق، وعن النبي صلى الله عليه وسلم:«يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت، فإذا رفعها عادت، وإذا وضع رجله ذابت، فإذا رفعها عادت» ، وعنه عليه السلام: «الصعود جبل من نار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدنيا" تتميم للصيانة، لأن عند أهل الآخرة نقصان الفاء مثلها في قوله تعالى:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54].
التمهيد مأخوذ من: مهد الفراش. الأساس: "مَهَّدَ المَهْد والمَهُد والمِهاد، ومضجع ممهود وممهد، ومَهَّد الفراش فامْتَهَد وتَمهَّد. ومن المجاز: مَهَّد الأمر: وطّأَه وسواه، ومَهّت العُذر تمهيداً".
قوله: (وريحانة قريش)، النهاية:"الرَّيحان يطلق على الرحمة والرزق والراحة، فبالرزق سُمِّي الولد ريحاناً".
يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبداً». (إنَّهُ فَكَّرَ) تعليل الوعيد، كأن الله تعالى عاجله بالفقر بعد الغنى، والذل بعد العز في الدنيا بعناده، ويعاقب في الآخرة بأشد العذاب وأفظعه لبلوغه بالعناد غايته وأقصاه في تفكيره، وتسميته القرآن سحراً. ويجوز أن تكون كلمة الردع متبوعة بقوله:(سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) ردا لزعمه أن الجنة لم تخلق إلا له؛ وإخباراً بأنه من أشدّ أهل النار عذاباً، ويعلل ذلك بعناده، ويكون قوله:(إنَّهُ فَكَّرَ) بدلا من قوله: (إنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) بيانا لكنه عناده، ومعناه: فكر ماذا يقول في القرآن (وقَدَّرَ) في نفسه ما يقول وهيأه (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تعجيب من تقديره وإصابته فيه المحز، ورميه الغرض الذي كان تنتحيه قريش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (سبعين خريفاً)، عن بعضهم: سبعين عاماً، لأن الخريف آخر السنة، لأن فيه تُدرك جميع الثمار، وكذلك الإنسان إذا بلغ آخر عمره قد يخرف.
قوله: ({إِنَّهُ فَكَّرَ} تعليل للوعيد)، يريد أن قوله:{إِنَّهُ كَانَ لِأيَاتِنَا عَنِيدًا} ، تعليل لقطع المزيد المعنى بقوله:{ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (كَلَّا} . وقوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} ، تعليل للوعيد المعني بقوله:{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} لأنه {كَانَ لِأيَاتِنَا عَنِيدًا} ، وذلك بأنه فكر وقدر. وفي الكواشي:"يقف عند قوله: {أَنْ أَزِيدَ}، إن جعلت {كَلَّا} بمعنى "ألا" استفتاحاً. ويتم هنا إن جعلتها ردعاً، وهو أولى، ويبتدئ {إِنَّهُ كَانَ لِأيَاتِنَا عَنِيدًا} ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الزجاج: "كلا: ردع وتنبيه، فيقول: كلا، لمن قال لك شيئاً تنكره، أي: ارتدع عن هذا وتنبه على الخطأ فيه".
وقال ابن الحاجب" وقد تكون بمعنى: حقاً، وعليه حُمل مواضع من القرآن". وفي كتاب "المُرشد": "قال الخليل وسيبويه والأخفش: كلا: ردع وزجر. روى الخليل عن مقاتل ابن سليمان: كل شيء في القرآن من {كَلَّا} ، فهو ردٌّ على الكلام الأول إلا بعضه.
روى ابن الأنباري عن المفسرين، معناها: حقًّا، وحكي عن الكسائي أيضاً. وعن الفراء: هي حرف رد بمنزلة "نعم" و "لا" في الاكتفاء، وإن جعلتها صلة لما بعدها لم تقف عليها كقولك: كلا ورب الكعبة، لأنها بمنزلة قولك: إي ورب الكعبة، قال الله تعالى:{كَلَّا وَالْقَمَرِ} [المدثر: 32]، قال أبو حاتم: وهي على وجهين: أحدهما بمعنى "لا" رداً للأول. والثاني بمعنى ألا، التي هي للتنبيه يُستفتح بها الكلام، قال الأعشى:
كلا زعمتم بأنا لا نقاتلكم إنا لأمثالكم - يا قومنا - قُتُلُ
كأنه قال: ألا زعمتم. فقيل: يُحتمل أن الشاعر قد رد بها زعم القوم".
وأجاب صاحب "المرشد": "إذا صح لأبي حاتم أن يقول: {كَلَّا} في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] بمعنى: ألا، لم يمتنع أن يُحمل البيت عليه. وقيل: ذهب ابن الأنباري أن {كَلَّا} في الآية بمعنى: حقاً. وأجيب: إن هذا أيضاً جائز، على أن كثيراً من أهل العلم يأباه، لأن {كَلَّا} حرف، و"حقاً" مصدر.
أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به، أو هي حكاية لما كرروه من قولهم: قتل كيف قدر، تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره، واستعظامهم لقوله. ومعنى قول القائل: قتله الله ما أشجعه، وأخزاه الله ما أشعره: الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما الوقف عليها، فهي مختلفة الأحوال؛ فمنها ما يوقف عليه، ومنها ما يُبتدأ به، ومنها ما يصلح فيه الأمران، ومنها ما لا يحسن الوقف عليه ولا الابتداء به"، تم كلامه.
وقلت: ضعف قول من زعم أن {كَلَّا} لا يكون بمعنى "حقاً" لكونه حرفاً وذلك اسم، لأن من قال به، ذهب إلى أنها مُعبرة عن متعلق معناه، كما تقول:"من" معناها ابتداء الغاية، و"إلى" معناها انتهاء الغاية، إلى غير ذلك. وقد سبق في أول "البقرة" عند قوله:{فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ} [البقرة: 22].
قوله: (حكاية لما كرّروه)، أي: لما كرره قريش من قولهم: قُتل كيف قدر، في حق الوليد تعجيباً، حكاه الله تعالى عنهم. ويجوز أن يكون من كلام الله، دعا عليه، ولا يكون تعجيباً ولا تكريراً مُجرداً، كما قال الراغب في "غرّة التنزيل": "كان الوليد بن المغيرة لما سئل عن النبي? : قدر ما أتى به من القرآن. فقال: إن قلنا: شاعر، كذبتنا العرب إذا قَدَّرت ما أتى به على الشعر، وكان يقصد بها التقدير تكذيب الرسول? بضرب من الاحتيال، فلذلك كان كل تقدير مستحقاً لعقوبة من الله تعالى، هي كالقتل إهلاكاً له، أي: هلك هلاك المقتول كيف قَدَّر.
وقوله: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} ، أي أنه قال: إنه ليس ما أتى به من كلام الكهنة، فإن ادَّعينا ذلك عليه، كذبتنا العرب إذ رأوا هذا الكلام مخالفاً لكلام الكهان، فهو في تقديره له على كلام الكهنة، مُستحق من العقوبة لما هو كالقتل إهلاكاً له؛ فهو في نفيه عن القرآن الأقسام
روي أن الوليد قال لبني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يعلى؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفاسدة، قاصد إلى إبطاله، وإلى إثبات قسم [لا] يصح إثباته، وهو قوله:{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 24 - 25]؛ وإذا كان كذلك، لم يكن في إعادة {قَدَّرَ} تكرار، بل عُلق به في الثاني مُقدر غير الأول، لفائدة جديدة".
قوله: (لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً)، قال محيي السنة:"إن الله تعالى لما أنزل على النبي? : {حم (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، إلى قوله: {الْمَصِيرُ} [غافر: 1 - 3]، قام النبي? في المسجد، والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي? لاستماعه أعاد القراءة، فانطلق الوليد إلى مجلس قومه بني مخزوم، وقال: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً"، إلى آخر القصة.
قوله: (وإن عليه لطلاوة)، النهاية:"رونقاً وحُسناً، وقد تُفتح الطاء". و "الغَدق، بالغين المعجمة وفتح الدال: المطر الكبار القطر، والمُغْدِق: مُفْعِل منه". الجوهري: "الماء الغَدَق: الكثير، وقد غدِقت عين الماء بالكسر، أي: غَزُرت".
وقلت: لعل هذا التشبيه يُنظر [فيه] إلى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً
فقالت قريش: صبأ - والله - الوليد، والله لتصبأن قريش كلهم؛ فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه، فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه يخنق؟ وتقولون إنه كاهن، فهل رأيتموه قط يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط؟ وتزعمون أنه كذاب، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24]؛ استعار الوليد الشجرة للقرآن على التمثيلية أو المكنية، فجعل له الأعلى الذي هو الفرع، ورشحه بقوله: لمثمر، وأنبت له الأسفل الذي هو الأصل، ورشحه بقوله: لمغدق، وكنّى بقوله:"لمُغدق" عن كونها ثابتاً أصلها ريان فرعها. وتمم معنى ترشيح المثمر بقوله: لحلاوة، وتمم ترشيح المُغدق بقوله: لطلاوة؛ فقوله: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة" كالتمهيد للاستعارة وترشيحها، وقوله:"وإنه يعلو وما يعلى" كالخاتمة للمجموع، والزُّبدة والغاية: ما أفصح هذا الكلام! ولم يكن كذلك إلا لأنه مدح لأحسن الكلام.
قوله: (صبأ والله الوليد)، النهاية:"يقال: صبأ فلان إذا خرج من دين إلى دين غيره، وكانوا يُسموت من يدخل في الإسلام" مَصْبوَّا، لأنهم كانوا لا يهمزون، فأبدلوا من الهمزة واواً، ويُسمون المسلمين الصُّباة بغير همز، كأنه جمع الصابي غير مهموز، كقاضٍ وقضاة، وغازٍ وغُزاة".
قوله: (فهل رأيتموه يُخنق)، كانوا يعتقدون أن الجن تخنق المجنون وتتخبطه. في "المُغرب":"الخنق بكسر النون: مصدر "خَنَقه"؛ إذا عصر حلقه. يُقال: خنقته العبرة، يعني: غصَّ بالبكاء حتى كأن الدموع أخذت بمخنقه".
فقالوا في كل ذلك: اللهم لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكر فقال: ما هو إلا ساحر؛ أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل، فارتج النادي فرحاً،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (اللهم لا)، قال المطرزي:"اللهم: كلمة تستعمل في الدعاء، بمعنى: يا الله، والميم فيها عوض من حرف النداء، ولذلك لا يُجمع بينهما. وقد يجيء في جواب الاستفهام قبل "لا" و "نعم" كثيراً، من ذلك ما قرأت في حديث عمير بن سعد، وقد أتاه رسول عمر رضي الله عنه، وقال له: كيف تركت أمير المؤمنين. فقال: صالحاً، وهو يقرئك السلام. فقال له: ويحك لعله استأثر نفسه، قال: اللهم لا. فقال: لعله فعل كذا، قال: اللهم لا" في حديث طويل.
وكان المتكلم قصد إثبات الجواب مشفوعاً بذكر الله، ليكون أبلغ وأوقع، وفي نفس السامع أنجع، وليعلم أنه على يقين من إيراده وبصيرة في إثباته، قد جعل نفسه في معرض من أقبل على الله تعالى ليجيب فيما سأله مثلاً. ولا شك أن من كانت هذه حاله لا يتكلم إلا بما هو صدق ويقين وحق مبين. وقد يؤتى بها قبل "إلا"، إذا كان المستثنى عزيزاً نادراً، وكان قصدهم بذلك الاستظهار بمشئية الله في إثبات كونه ووجوده، إيذاناً بأنه بلغ في النُّدرة حد الشذوذ، وهذا كثير في كلام الفصحاء".
قوله: (يأثره)، هو من قولك:"أثرت الحديث آثره، إذا ذكرته من غيرك" ذكره الجوهري.
قوله: (فارتج)، أي: اضطرب. المغرب: "ارتج الظلام إذا تراكب والتبس وقيل: ارتج: وقع في رجة، وهي الاختلاط". الجوهري: "ارتج البحر: اضطرب".
وتفرقوا معجبين بقوله متعجبين منه (ثُمَّ نَظَرَ) في وجوه الناس، ثم قطب وجهه، ثم زحف مدبراً، وتشاوس مستكبراً، لما خطرت بباله الكلمة الشنعاء، وهم بأن يرمي بها، وصف أشكاله التي تشكل بها حتى استنبط ما استنبط، استهزاءً به. وقيل: قدر ما يقوله، ثم نظر فيه، ثم عبس لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول. وقيل: قطب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ أَدْبَرَ) عن الحق (واسْتَكْبَرَ) عنه فقال ما قال. و (ثُمَّ نَظَرَ) عطف على (فَكَّرَ وقَدَّرَ) والدعاء اعتراض بينهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وتشاوس)، الجوهري:"الشَّوس، بالتحريك: النظر بمؤخر العين تكبراً أو تغيظاً".
قوله: (وصف أشكاله)، أي: وصف الله تعالى أشكال الوليد وهيأته، وهي:{ثُمَّ نَظَرَ (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} .
قوله: (والدعاء: اعتراض)، أي: قوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} . وليس هذا الاعتراض من قبيل الاعتراض المتعارف، الذي يتخلل تزيين الكلام.
وتقريره: لأن الفاء مانعة من ذلك، بل هو من كلام الغير، ووقع الفاء في تضاعيف كلامه، فأدخل بين الكلامين المتصلين على سبيل الحكاية، وهو مُتعسف، وإنما سلكه لأنه جعل الدعاءين من كلام الغير. وأما إذا جُعلا من كلام الله تعالى استهزاءً كما ذكره، أو دعاء عليه كما ذهب إليه الراغب، وعليه تفسير الواحدي على ما قال ونقل عن صاحب النظم:{فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} : "أي: عذب ولعن كيف قدر، كما يقال: لأضربنه كيف صنع، أي: على أي حال كانت منه"، لتكون الأفعال كلها متناسقة مرتبة، على التفاوت في التعقيب والتراخي زماناً ورتبة كما يقتضيه المقام كان أحسن.
فإن قلت: ما معنى (ثُمَّ) الداخلة في تكرير الدعاء؟
قلت: الدلالة على أن الكرّة الثانية أبلغ من الأولى، ونحوه قوله:
ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمّت اسلمي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجاء النظم على السنن المألوف من التنزيل، وذلك أنه تعالى لما حسم طمع الوليد بقوله:{إِنَّهُ كَانَ لِأيَاتِنَا عَنِيدًا} ، وبين عناده بقوله:{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} ، دعا عليه بالدعاءين بتقديره مرتين، كما ذكره الراغب: قدر أولاً أنه شاعر ثم نفاه حيلة، وقدر ثانياً أنه كاهن كذلك، ثم بعد ذلك نظر في طلب ما يدفع به ويرده، ثم عبس وبسر كالمهتم المتفكر في شيء، ثم أدبر عن الحق واستكبر عن اتباعه، فقال: ما هذا الذي يقرؤه محمد، إلا سحر يُؤثر. والله أعلم.
قوله: (ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثُمت اسلمي)، عجزه:
ثلاث تحيات وإن لم تكلمي
وفي بعض النسخ، العجز من المتن، أي: تبالغي في السلام، ثم تبالغي. وقيل: أي كوني سالمة، يخاطب الرَّبع والدار، والتقدير: أُحيي ثلاث تحيات. قبله:
وما لي من ذنب إليهم علمته سوى أنني قد قلت: يا سَرحة، اسلمي
أي: مالي من ذنب أهتدي إليهم، سوى قولي: يا سرحة، أدام الله سلامك. وسرحة: شجرة، عرض بها باسم امرأة فيهم؛ وإنما كرر ليغايظهم ويناكدهم.
فإن قلت: فما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ قلت: الدلالة على أنه قد تأتى في التأمل وتمهل، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد.
فإن قلت: فلم قيل: (فَقَالَ إنْ هَذَا) بالفاء بعد عطف ما قبله ب- «ثم» ؟ قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب، لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث.
فإن قلت: فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟ قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التوكيد من المؤكد.
[(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ • ومَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ • لا تُبْقِي ولا تَذَرُ • لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ • عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ • ومَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلاَّ مَلائِكَةً ومَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ ويَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا ولا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ والْمُؤْمِنُونَ ولِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ ومَا هِيَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) 26 - 31]
(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) بدل من (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا)، (لا تُبْقِي) شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته؛ وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يعاد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بين الجملتين)، يعني قوله تعالى:{إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} ، وقوله:{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} ، وذلك أن مراده أنه ليس من عند الله، وأنه من عند البشر؛ فكونه سحراً لا يكون من عند الله، بل يكون من عند البشر، فكان قوله:{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} ، من هذا الوجه توكيداً لمتبوعه، ولذلك قال:"أُجري مجرى التوكيد".
قوله: ({سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} بدل من {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا})، هذا إنما يستقيم، إذا جعل مثلاً لما يلقى من العذاب الشاق، وإذا قيل: إنه يكلف أن يصعد عقبة في النار، فلا؛ لقوله:{لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} [المدثر: 28].
أو لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة. (لَوَّاحَةٌ) من لوح الهجير، قال:
تقول: ما لاحك يا مسافر؟
…
يا ابنة عمّى لاحنى الهواجر
قيل: تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سواداً من الليل، والبشر: أعالي الجلود. وعن الحسن: تلوح للناس، كقوله:(ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ)[التكاثر: 7]. وقرئ: «لواحة» نصباً على الاختصاص للتهويل.
(عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) أي يلي أمرها ويتسلط على أهلها تسعة عشر ملكاً، وقيل: صنفاً من الملائكة، وقيل: صفاً وقيل: نقيباً. وقرئ: «تسعة عشر» بسكون العين لتوالي الحركات في ما هو في حكم اسم واحد، وقرئ:«تسعة أعشر» جمع عشير، مثل: يمين وأيمن، جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة، ولا يستروحون إليهم، ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من لوح الهجير)، أي: تغييره وتسويده. الأساس: "لاحته النار والسموم ولوحته: غيرته وسفعت وجهه".
قوله: (تلوح للناس، كقوله: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} [التكاثر: 7])، الأساس:"لاح البرق والنجم وغيرهما وألاح. ومن المجاز: ألاح بسيفه وبثوبه، ولوَّح به: لمع به".
قوله: (وقُرئ: "تسعة عشر" بسكون العين)، قال ابن جنى: "وهي قراءة أبي جعفر يزيد وطلحة. وقرأ أنس بن مالك: تسعة أعشر.
فتؤمن هوادتهم، ولأنهم أشد الخلق بأساً وأقواهم بطشاً. عن عمرو بن دينار: واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر، وعن النبي صلى الله عليه وسلم:«كأن أعينهم البرق، وكأن أفواههم الصياصي يجرون أشعارهم، لأحدهم مثل قوة الثقلين، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار ويرمي بالجبل عليهم» . وروي أنه لما نزلت (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما القراءة بسكون العين، فلأجل كثرة الحركات؛ فإن الاسمين جعلا كالاسم الواحد، فلم يوقف على الأول فيحتاج إلى الابتداء بالثاني، فلما أُمن ذلك أُسكن تخفيفاً، وجُعل ذلك أمارة لقوة الاتصال، ولا يجوز ذلك مع اثنا عشر. وقال أبو جعفر: تسعة أعشر لا وجه له، إلا أن يعني تسعة أعشر، جمع العشير"، وهم الأصدقاء. ورُوي عن المصنف أنه قال: "أي: تسعة من الملائكة، كل واحد منهم عشير لتسعة، فهم مع أتباعهم تسعون، والعشير العُشر، أي: النُّقباء تسعة".
قوله: (فتؤمن هوادتهم)، الأساس:"ما في فلان هوادة رفق ولين".
قوله: (وكأن أفواههم الصياصي)، أي: أنيابهم، كذا في "المعالم" و"الوسيط".
الأساس: "صئصئة الديك: مخلبه في ساقه. وأسنة كصياصي البقر وهي قرونها، والصياصي: الحصون".
قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، فاكفوني أنتم اثنين، فأنزل الله:(ومَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إلاَّ مَلائِكَةً)، أي: ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون.
فإن قلت: قد جعل افتنان الكافرين بعدة الزبانية سبباً لاستيقان أهل الكتاب، وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين، فما وجه صحة ذلك؟
قلت: ما جعل افتتانهم بالعدة سبباً لذلك، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سبباً، وذلك أن المراد بقوله (ومَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا): وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر، فوضع (فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا) موضع (تِسْعَةَ عَشَرَ)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ابن أبي كبشة)، النهاية:"هو رجل من خزاعة، خالف قريشاً في عبادة الأوثان، وعبد الشعرى العبور، فلما خالفهم النبي? في عبادة الأوثان، شبهوه به".
قوله: (فوضع {فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} موضع {تِسْعَةَ عَشَرَ})، وكان أصل الكلام: عليها تسعةَ عشر، وما جعلنا عدة أصحاب النار، إلا هذا العد المخصوص الذي هو سبب فتنة الكفار، فوضع المسبب موضع السبب ليؤذن بأن هذا العدد المخصوص ليس إلا، للابتلاء. قال القاضي: "وما جعلنا عدتهم إلا العدد الذي اقتضى فتنتهم، وهو التسعة عشر، فعبر بالأثر عن المؤثر، تنبيهاً على أنه لا ينفك منه. وافتتانُهم به: استقلالهم له واستهزاؤهم به، واستبعادهم أن يتولى هذا العدد القليل تعذيب أكثر الثقلين.
ولعل المراد بالجعل: القول؛ ليحسن تعليله بقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . أي: ما قلنا: إن عدتهم كذا، إلا ليكتسبوا اليقين بنبوة مُحمد وصدق القرآن، لما رأوا ذلك موافقاً لما في كتابهم".
لأن حال هذه العدة الناقصة واحداً من عقد العشرين، أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته، ويعترض ويستهزئ، ولا يذعن إذعان المؤمن، وإن خفي عليه وجه الحكمة، كأنه قيل: ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها، لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين واستيقان أهل الكتاب، لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين، فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله، وازدياد المؤمنين إيماناً لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل، ولما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أنه كذلك.
فإن قلت: لم قال: (ولا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ والْمُؤْمِنُونَ)، والاستيقان وازدياد الإيمان دالا على انتفاء الارتياب؟ قلت: لأنه إذا جمع لهم إثبات اليقين ونفي الشك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال صاحب "الانتصاف": "السؤال أن الفتنة التي هي في تقدير الصفة؛ إذ معنى الكلام ذات فتنة، جعلت سبباً لما بعدها. والمجيب جعل العدة التي عرضت لها هذه الصفة، سبباً لا باعتبار عُروض الصفة. ويجوز أن يرجع قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ} إلى ما قبل الاستثناء، أي: جعلنا عدتهم سبباً لفتنة الكفار ويقين المؤمنين، وهو أقرب. وما ألجأ الزمخشري إلى خلافه، إلا اعتقاد أن الله ما فتنهم".
وقلت: ما ألجأه إليه إلا أن استيقان أهل الكتاب، وازدياد إيمان المؤمنين، واستهزاء الكافرين والمنافقين، ليس مُسبباً عن جعل العدد فتنة؛ فلموافقته لما في الكتابين، صار سبباً لاستيقان أهل الكتاب، ولما كان من شأنه أن يُفتتن به، صار سبباً لحيرة الكافرين، بل الحق في هذا المقام ما قاله القاضي، لأن نفس جعل العدة الموصوفة ليس سبباً، بل القول به هو السبب.
قوله: (لأنه إذا جمع لهم إثبات اليقين). أراد أن الأسلوب من باب الطرد والعكس، لقوله تعالى:{لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [التحريم: 6].
كان آكد وأبلغ لوصفهم بسكون النفس وثلج الصدر، ولأن فيه تعريضاً بحال من عداهم، كأنه قال: ولتخالف حالهم حال الشاكين المرتابين من أهل النفاق والكفر.
فإن قلت: كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون، والسورة مكية، ولم يكن بمكة نفاق، وإنما نجم بالمدينة؟ قلت: معناه وليقول المنافقون، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة (والْكَافِرُونَ) بمكة:(مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً)؟ وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب، وذلك لا يخالف كون السورة مكية. ويجوز أن يراد بالمرض: الشك والارتياب، لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم قاطعين بالكذب.
فإن قلت: قد علل جعلهم تسعة عشر بالاستيقان وانتفاء الارتياب وقول المنافقين والكافرين ما قالوا، فهب أن الاستيقان وانتفاء الارتياب يصح أن يكونا غرضين، فكيف صح أن يكون قول المنافقين والكافرين غرضاً؟
قلت: أفادت اللام معنى العلة والسبب، ولا يجب في العلة أن تكون غرضاً، ألا ترى إلى قولك: خرجت من البلد لمخافة الشر، فقد جعلت المخافة علة لخروجك وما هي بغرضك. (مَثَلاً) تمييز لهذا، أو حال منه، كقوله:(هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً)[هود: 64].
فإن قلت: لم سموه مثلاً؟
قلت: هو استعارة من المثل المضروب، لأنه مما غرب من الكلام وبدع،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يصح أن يكونا غرضين)، الانتصاف:"لا يُطلق الغرض على الإرادة من الله وأصل السؤال على قاعدته، فأرح فكرك عن سؤاله، فالله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء".
استغراباً منهم لهذا العدد واستبداعاً له. والمعنى: أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب، وأي غرض قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين سواء، ومرادهم إنكاره من أصله، وأنه ليس من عند الله، وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص.
الكاف في (كَذَلِكَ) نصب، وذلك: إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى، أي: مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين ويهدى المؤمنين، يعني: يفعل فعلاً حسناً مبنياً على الحكمة والصواب، فيراه المؤمنون حكمة ويذعنون له لاعتقادهم أن أفعال الله كلها حسنة وحكمة فيزيدهم إيماناً، وينكره الكافرون ويشكون فيه فيزيدهم كفراً وضلالاً. (ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ) وما عليه كل جند من العدد الخاص، من كون بعضها على عقد كامل وبعضها على عدد ناقص، وما في اختصاص كل جند بعدده من الحكمة (إلاَّ هُوَ) ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (استغراباً)، قيل: هو متعلق بقوله: "استعارة"، فكأنه قال: استعاروه من المثل لاستغرابهم هذا العدد.
قوله: (وما في اختصاص كل جُند)، عطف تفسيري على قوله:"وما عليه كل جند". وأما قوله: "وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو"، فعطف على "وما يعلم جنود ربك، وما عليه كل جند" إلى آخره لمغايرته له، وكذلك قوله:"وقيل: هو جواب لقول أبي جهل"، قال محيي السنة:"وهو قول مُقاتل".
ويمكن أن يُقرر هذا القول بأن يقال: إنه تعالى لما ذكر العدد الذي اقتضى فتنة الكفار، وطعن أبو جهل فيه تارة بقوله: أما لرب مُحمد أعوان إلا تسعة عشر؟ ، وأخرى بقوله لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يُخبركم أن خَزَنة النار تسعة عشر وأنتم الدَّهم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ كما سبق في "الكشاف"، فأجيب
كما لا يعرف الحكمة في أعداد السموات والأرضين وأيام السنة والشهور والبروج والكواكب وأعداد النصب والحدود والكفارات والصلوات في الشريعة، أو: وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها وهو يعلمها. وقيل: هو جواب لقول أبى جهل: أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر؟ (ومَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ) إلى قوله: (إلاَّ هُوَ) اعتراض. وقوله: (ومَا هِيَ إلاَّ ذِكْرَى) متصل بوصف (سَقَرَ) و (إلاَّ هُوَ) ضميرها، أي: وما سقر وصفتها إلا تذكرة (لِلْبَشَرِ)، أو ضمير الآيات التي ذكرت فيها.
[(كَلاَّ والْقَمَرِ • واللَّيْلِ إذْ أَدْبَرَ • والصُّبْحِ إذَا أَسْفَرَ • إنَّهَا لإحْدَى الكُبَرِ • نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ • لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) 32 - 37]
(كَلاَّ) إنكار بعد أن جعلها ذكرى، أن تكون لهم ذكرى، لأنهم لا يتذكرون، أو ردع لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيراً. و «دبر» بمعنى أدبر، كقبل بمعنى أقبل، ومنه صاروا كأمس الدابر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} ، أي: ما جعلناهم من جنسكم يُطاقون، عقبة بقوله:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} ، أي: ما يعلم بقوة بطش الملائكة إلا هو، لأنهم جنود الله يُسلطهم على أعدائه، وجبريل عليه السلام منهم، قلع مدائن قوم لوط بريشة من جناحه.
قوله: ({وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ} إلى قوله: {إِلَّا هُوَ} اعتراض). يعني: قوله: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} ، معطوف على قوله:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} وما يتصل بها. وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا} ، إلى قوله:{إِلَّا هُوَ} : استطراد، رداً لطعن الكفار، اعترض بين الكلامين المتصلين اهتماماً.
قوله: (كأمس الدابر)، أمس: هو عند بعضهم مبني، وعند بعضهم غير مُنصرف.
وقيل: هو من دبر الليل النهار إذا خلفه. وقرئ: (إذْ أَدْبَرَ).
(إنَّهَا لإحْدَى الكُبَرِ) جواب القسم أو تعليل ل- (كَلاَّ)، والقسم معترض للتوكيد. و «الكبر»: جمع الكبرى، جعلت ألف التأنيث كتائها، فلما جمعت فعلة على فعل، جمعت فعلى عليها، ونظير ذلك: السوافي في جمع السافياء،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} جواب القسم)، هذا إذا جعل {كَلَّا} إنكاراً للكلام السابق، فعلى هذا يقف القارئ عند {كَلَّا} ويبتدئ بالقسم.
قوله: (أو تعليل لـ {كَلَّا})، هذا إذا جُعل ردعاً لمن يُنكر أن يكون {لَإِحْدَى الْكُبَرِ} نذيراً. أي: حَقُّها إنّها لإحدى الكُبر، والقسم مُعترض وجوابه محذوف، فيقف القارئ عند قوله:{وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} .
قال صاحب "المُرشد": هذا وقف تام، ويستأنف: كلا والقمر، بمعنى: ألا والقمر، والوقف ها هنا على {كَلَّا} ، ليس بحسن وإن كان قد جوزه بعضهم".
وقلت: وفيه معنى الترقي، كأنه قيل: ما هي ذكرى للجاحد ارتدع وتنبه على الخطأ، بل هي إحدى البلايا والدواهي والعظائم على الجاحد من جهة الإنذار.
قوله: (وقُرئ: {إِذْ أَدْبَرَ})، نافع وحمزة وحفص: بالهمز وبإسكان الذال. والباقون: بلا همز وبفتح الذال.
قوله: (السوافي)، الأساس:"الرِّيح تسفي التراب، وسفت عليه الرياح، ولعبت به السوافي".
والقواصع في جمع القاصعاء، كأنها جمع فاعلة، أي: لإحدى البلايا أو الدواهي الكبر، ومعنى كونها إحداهن: أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظيرة لها. كما تقول: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء. و (نَذِيرًا) تمييز من إحدى، على معنى: إنها لإحدى الدواهي إنذاراً، كما تقول: هي إحدى النساء عفافاً. وقيل: هي حال، وقيل: هو متصل بأول السورة، يعني: قم نذيراً، وهو من بدع التفاسير. وفي قراءة أبي:«نذير» بالرفع خبر بعد خبر ل- «أن» ، أو بحذف المبتدأ.
(أَن يَتَقَدَّمَ) في موضع الرفع بالابتداء، و «لمن شاء»: خبر مقدم عليه، كقولك: لمن توضأ أن يصلي؛ ومعناه مطلق: لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر، والمراد بالتقدم والتأخر: السبق إلى الخير والتخلف عنه، وهو كقوله:(فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[الكهف: 29]، ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: هي حال)، قال القاضي:"هو حال مما دلت عليه الكُبرى، أي: كبرت مُنذرة".
قوله: (يعني: قُم نذيراً، وهو من بِدع التَّفاسير)، قال محيي السنة:"قيل: {نَذِيرًا} صفة محمد صلوات الله عليه، ومعناه: يا أيها المدثر، قُم نذيراً للبشر فأنْذِر، هذا معنى قول ابن زيد"، ولما لزم منه خرم النظم، قال: وهو من بدع التفاسير.
قوله: (مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر)، يريد أن مُتعلق "أن يتقدم ويتأخر" غير مَنوي، ومعناه: أن لا إلجاء ولا قسر، والمكلَّف مختار في كل ما يريد أن يأتي ويذر.
ويجوز أن يكون (لِمَن شَاءَ) بدلاً من (لِّلْبَشَرِ) على أنها منذرة للمكلفين الممكنين: الذين إن شاؤوا تقدموا ففازوا، وإن شاؤوا تأخروا فهلكوا.
[(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ • إلاَّ أَصْحَابَ اليَمِينِ • فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ • عَنِ المُجْرِمِينَ • مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ • قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ • ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ • وكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ • وكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ • حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ • فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) 38 - 48]
(رَهِينَةٌ) ليست بتأنيث «رهين» في قوله: (امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)[الطور: 21]، لتأنيث النفس؛ لأنه لو قصدت الصفة لقيل: رهين؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: "احتجت المعتزلة بالآية على كون العبد مُتمكناً من الفعل غير مجبور عليه. وجوابه: أن الآية دلت على أنَّ فعل العبد مُعلق على مشيئته، ولكن مشيئة العبد مُعلقة على مشيئة الله تعالى، لقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ".
قوله: (ويجوز أن يكون في {لِمَن شَاءَ} بدلاً من {لِّلْبَشَرِ})، وهو على تكرير العامل، كقوله:{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75]. فإن قلت: مفعول {شَاءَ} و {أَرَادَ} يُحذف في الكلام الفصيح، اللهم إلا أن تكون فيه غرابة، فأي غرابة فيه حتى ذُكر في هذا الوجه دون الأول؟ قلت: غرابته أن التقدير: والله إنها لإحدى الكُبر، نذيراً للمكلَّفين المختارين المتمكِّنين من فعل الطاعة والمعصية، فكنى عن ذلك بقوله:{لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} ، وقوله:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} أحسن انتظاماً بهذا الوجه لما في الوجه الأول شائبة تهديد ووعيد، ونظيره قوله:{فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] شاهد عليه.
لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه بيت الحماسة:
أبعد الذي بالنّعف نعف كويكب
…
رهينة رمس ذي تراب وجندل
كأنه قال: رهن رمس. والمعنى: كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك (إلاَّ أَصْحَابَ اليَمِينِ)، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق. وعن علي رضى الله عنه، أنه فسر أصحاب اليمين بالأطفال، لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها. وعن ابن عباس رضي الله عنه: هم الملائكة. (فِي جَنَّاتٍ) أي هم في جنات لا يكتنه وصفها (يَتَسَاءَلُونَ • عَنِ المُجْرِمِينَ) يسأل بعضهم بعضاً عنهم، أو يتساءلون غيرهم عنهم، كقولك: دعوته وتداعيناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أبعد الذي بالنَّعف) البيت، النَّعْف: اسم جبل، وقيل: مكان مرتفع. ورهينة بمعنى رهن، مجرور، بدل من "الذي"، والرَّمس: القبر، وألف الاستفهام للإنكار، وبعده:
أذكر بالبُقيا على ما أصابني وبُقياي أني جاهد غير مُؤتل
وهمزة الإنكار تتناول الفعل الذي في صدر البيت الثاني، والمعنى: أبعد الذي دُفن بنعف أذكَّر بالبُقيا؟ أي: أَأُسام الإبقاء على من وترني عليه؟ أي: أجتهد في قتله ولا أُقصر. والبُقيا من الإبقاء. قائله: عبد الرحمن بن زيد، قُتل أبوه، وعُرض عليه سبع ديات، فأبى أن يأخذها، وقال هذا.
قوله: (دعوته وتداعيناه)، أي: دعوته أنا وتداعيناه نحن، كقولك: رأيته أنا وتراأيناه نحن، يعني: إذا كان المتكلم مُفرداً بقوله: دعوته، وإذا كان جماعة يقول: تداعيناه. ونظيره: رَميته
فإن قلت: كيف طابق قوله: (مَا سَلَكَكُمْ) - وهو سؤال للمجرمين - قوله: (يَتَسَاءَلُونَ • عَنِ المُجْرِمِينَ) وهو سؤال عنهم؟ وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين: ما سلككم؟
قلت: (مَا سَلَكَكُمْ) ليس ببيان للتساؤل عنهم، وإنما هو حكاية قول المسئوولين عنهم؛ لأن المسئوولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتراميناه، ورأيت الهلال وتراأيناه. وهذا التفاعل هنا لا يكون من الجانبين، فعلى هذا: يتساءلون بمعنى: يسألون.
قوله: (كيف طابق قوله: {مَا سَلَكَكُمْ})، توجيهه: أن قوله: {مَا سَلَكَكُمْ} ، الظاهر أنه بيان لقوله:{فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (عَنِ الْمُجْرِمِينَ} ، أي: يسأل بعضهم بعضاً عن أحوال أصحاب المجرمين، أو يتساءلون غيرهم عنهم، فحينذ لا يُطابق:{مَا سَلَكَكُمْ} ، إذ لو قيل: ما سلكهم؟ أو قيل: يسألون المجرمين، أو يسألونهم عن أحوالهم، فقيل:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ، لصح كونه بياناً له.
قوله: (وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم)، يعني: لما سألوا أصحابهم عن أحوال المجرمين، أجابوا بأنا سألناهم عن أحوالهم، وقلنا لهم: ما سَلَككم في سَقَر؟ قالوا: لم نَكُ من المصلين، وجيء بالكلام على الحذف. وقريب منه قوله تعالى حكاية عن جبريل أنه قال:{لِأَهَبَ لَكِ} ، وليس هو الواهب، وإنما الواهب هو الله عز وجل، إلا أن جبريل عليه السلام: قال: لأهب لك، على أن الله تعالى أرسلني إليك، وقال لي: قل لها: إن الله تعالى قال: أهَبُ لكِ.
فيقولون: قلنا لهم: ما سلككم (فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ) إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه. الخوض: الشروع في الباطل وما لا ينبغي.
فإن قلت: لم يسألونهم وهم عالمون بذلك؟ قلت: توبيخاً لهم وتحسيراً، وليكون حكاية الله ذلك في كتابه تذكرة للسامعين. وقد عضد بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالأطفال، أنهم إنما سألوهم لأنهم ولدان لا يعرفون موجب دخول النار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الخوض: الشروع في الباطل)، عن بعضهم: الخوض اسم غالب في الشر، كالخلود في إقامة لا انقطاع لها، وكذلك قولهم:"يَذْكُرُك" غالب في الشر، وعليه قوله تعالى:{فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60]، وهذا من الأسماء الغالبة، كـ[الصفات الغالبة والمعاني] الغالبة.
قوله: (وقد عَضَدَ بعضهم)، هذا وجه ثالث في الجواب عن السؤال، و"أنهم" مُتعلق بـ "عضد"، أي: بأنهم. يعني: بعض من قال: إن المراد بقوله: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر: 39]: [الأطفال]، وهو قول عليٍّ رضي الله عنه، أن هذا السؤال إنما يحسن ممن لا يعرف موجب دخول النار.
فإن قلت: أيريدون أن كل واحد منهم بمجموع هذه الأربع دخل النار، أم دخلها بعضهم بهذه وبعضهم بهذه؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعاً.
فإن قلت: لم أخر التكذيب وهو أعظمها؟ قلت: أرادوا أنهم بعد ذلك كله كانوا مكذبين بيوم الدين تعظيما للتكذيب، كقوله (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد: 17]، و (اليَقِينِ) الموت ومقدماته، أي: لو شفع لهم الشافعون جميعاً من الملائكة والنبيين وغيرهم؛ لم تنفعهم شفاعتهم؛ لأن الشفاعة لمن ارتضاه الله وهم مسخوط عليهم، وفيه دليل على أن الشفاعة تنفع يومئذ؛ لأنها تزيد في درجات المرتضين.
[(فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ • كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ • فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ • بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً • كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخِرَةَ • كَلاَّ إنَّهُ تَذْكِرَةٌ • فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ • ومَا يَذْكُرُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وأَهْلُ المَغْفِرَةِ) 49 - 56]
(عَنِ التَّذْكِرَةِ) عن التذكير وهو العظة، يريد: القرآن أو غيره من المواعظ، و (مُعْرِضِينَ) نصب على الحال،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يحتمل الأمرين جميعاً)، أي: يدخل بعضهم النار بمجموع ذلك، وهو: ترك الصلاة، وترك الإطعام، والخوض في الباطل مع الخائضين فيه، والتكذيب بيوم القيامة. وبعضهم بمجرد ترك الصلاة، أو ترك الإطعام. الانتصاف:"هذا تخييل منه على أن تارك الصلاة يخلد في النار. والصحيح أن الآية في الكفار، أي: لم يكن من أهل الصلاة، وكذلك إلى آخرها، ولا تصح منهم هذه الطاعات، وإنما يتأسّفون على فوات ما ينفع". وقال القاضي: "وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع".
كقولك: مالك قائماً؟ والمستنفرة الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له وحملها عليه. وقرئ بالفتح: وهي المنفرة المحمولة على النفار. والقسورة: جماعة الرماة الذين يتصيدونها، وقيل: الأسد، يقال: ليوث قساور، وهي فعولة من القسر، وهو القهر والغلبة، وفي وزنه (الحيدرة) من أسماء الأسد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كقولك: مالك قائماً)، قال صاحب "الكشف":" {مَآ} رفع بالابتداء، والخبر الجار والمجرور، {مُعْرِضِينَ}: حال من المجرور، أي: أي شيء ثابت لهم مُعرضين عن التذكرة، و {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ} حال بعد حال، أي: مُشابهين حُمُراً".
قوله: (في جمعها له وحملها عليه)، أي: جمع النفوس للنِّفار، وحملها على النِّفار. الأساس:"فلان جماع لبني فلان، يأوون إليه ويجتمعون عنده. ويقال: جمعوا لبني فلان إذا حشدوا لقتالهم". وفي كلام المصنف شائبة تجريد.
قوله: (وقُرئ بالفتح)، أي:"مُستنفرة" بفتح الفاء: نافع وابن عامر، والباقون: بكسرها. قال صاحب "الكشف": "القراءتان مبنيتان على أن {مُّسْتَنفِرَةٌ}، جاءت متعدية ولازمة".
قوله: (وفي وزنه: الحيدرة)، بعضهم: إن {قَسْوَرَةٍ} فعولة، وحيدرة: فيعلة،
وعن ابن عباس: ركز الناس وأصواتهم، وعن عكرمة: ظلمة الليل، شبههم في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر والموعظة وشرادهم عنه، بحمر جدت في نفارها مما أفزعها. وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بين، كما في قوله:(كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)[الجمعة: 5]، وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل. ولا ترى مثل نفار حمير الوحش واطرادها في العدو إذا رابها رائب؛ ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل وشدة سيرها بالحمر، وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص.
(صُحُفًا مُّنَشَّرَوؤةً) قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها، أو كتبا كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد؛ وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها: من رب العالمين إلى فلان بن فلان، نؤمر فيها بإتباعك، ونحوه قوله:(ولَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ)[الإسراء: 93]، وقال:(ولَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) الآية [الأنعام: 7]. وقيل: قالوا إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار. وقيل: كانوا يقولون: بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً على رأسه ذنبه وكفارته، فأتنا بمثل ذلك؛ وهذا من الصحف المنشرة بمعزل؛ إلا أن براد بالصحف المنشرة الكتابات الظاهرة المكشوفة. وقرأ سعيد بن جبير:«صحفاً منشرة» بتخفيفهما، على أن «أنشر» الصحف و «نشرها» واحد، كأنزله ونزله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلا أنهما مُلحقان بـ "فعللة"، فلهذا قال: وفي وزنه.
قوله: (وهذا من الصُّحف المُنشرة بمعزل)، أي هذا التأويل الأخير.
ردعهم بقوله (كَلاَّ) عن تلك الإرادة، وزجرهم عن اقتراح الآيات، ثم قال:(بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخِرَةَ)، فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف، ثم ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال:(إنَّهُ تَذْكِرَةٌ) يعني: تذكرة بليغة كافية، مبهم أمرها في الكفاية (فَمَن شَاءَ) أن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينه فعل، فإنّ نفع ذلك راجع إليه. والضمير في (إنَّهُ) و (ذَكَرَهُ) للتذكرة في قوله (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر: 49]؛ وإنما ذكر لأنها في معنى الذكر أو القرآن.
(ومَا يَذْكُرُونَ إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ) يعني إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه، لأنهم مطبوع على قلوبهم، معلوم أنهم لا يؤمنون اختياراً (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وأَهْلُ المَغْفِرَةِ) هو حقيق بأن يتقيه عباده، ويخافوا عقابه، فيؤمنوا ويطيعوا، وحقيق بأن يغفر لهم إذا آمنوا وأطاعوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ردعهم بقوله {كَلَّا} عن تلك الإرادة. في الكواشي: " {صُحُفًا مُّنَشَّرَةً}، عنده وقف تام إن جعلت {كَلَّا} بمعنى "ألا"، وعند {كَلَّا} إن جعلتها ردعاً، ثم تبتدئ: {بَل لَّا يَخَافُونَ الْأخِرَةَ}، وتقف عند {الْأخِرَةَ}، إن لم تجعل {كَلَّا} ردعاً، وعند {كَلَّا} إن جعلتها ردعاً، وتبتدئ: {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} ". والمصنف جعلهما ردعين للكلامين السابقين، وابتدأ بما بعدها.
قوله: ({إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} يعني: إلا أن يقسرهم على الذكر)، قال الإمام:"إنه تعالى نفى الذكر مُطلقاً، واستثنى عنه حال المشيئة المُطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئة يحصل الذِّكر، فحيث لم يحصل الذّكر، علمنا أنه لم تحصل المشيئة. وتخصيص المشيئة بالمشيئة القسرية، ترك للظاهر". وقال القاضي: "وهو تصريح بأن فعل العبد بمشيئة الله".
وروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو أهل أن يتقى، وأهل أن يغفر لمن اتقاه» . وقرئ: (يَذْكُرُونَ) بالياء والتاء مخففا ومشددا.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المدثر أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وكذب به بمكة» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هو أهل أن يُتقى)، روى الترمذي وابن ماجه والدارمي، عن أنس أن رسول الله? ، قال في هذه الآية:"قال الله تعالى: أنا أهل أن أتقى؛ فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهاً، فأنا أهل أن أغفر له".
قوله: (وقُرئ: {يَذْكُرُونَ})، نافع: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء مخففاً، والتشديد: شاذ.
تمت السورة
بعون الله حامداً له
*
…
*
…
*
سورة القيامة
مكية، وهي تسع وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ • ولا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ • أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ • بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّ-سَوِّيَ بَنَانَهُ • بَلْ يُرِيدُ الإنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ • يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القِيَامَةِ) 1 - 6]
إدخال «لا» النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة القيامة
أربعون آية، مكية إجماعاً
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
قوله: (إدخال "لا" النافية على فعل القسم مُستفيض)، في "اللباب":"فيه خمسة أقوال: الأول: قول الجمهور: إن "لا" صلة كقوله: {لِّئَلَّا يَعْلَمَ} [الحديد: 29]. الثاني: قول المبّرد: "لا" تأكيد للقسم، وأنشد:
فلا وأبيك ابنة العامري
البيت
قال امرؤ القيس:
فلا وأبيك ابنة العامري
…
ي لا يدعي القوم أني أفر
وقال غوية بن سلمى:
ألا نادت أمامة باحتمال
…
لتحزنني فلا بك ما أبالي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثالث: قول الفراء: "لا" رد لإنكار المشركين البعث. الرابع: أصله: لأقسم، اعتباراً بقراءة ابن كثير، ثم أُشبع فظهر من الإشباع ألف. وهذا اللام تصحبه نون التوكيد في الأغلب، وقد تُفارقه. الخامس:"لا" نفي للإقسام، لأن الناس يؤكدون أخبارهم بنفي القَسَم، كما يؤكدونها بالقسم؛ فإن ذكر ترك القسم، يقوم مقام المقسم".
قوله: (فلا وأبيك ابنة العامري) البيت، بعده:
تميم بن مُرٍّ وأشياعها وكِندة حولي جميعاً صُبُر
تميم: بدل من "القوم"، أي: لا يدعي القوم تميم أني أَفِرُّ وكندة حولي، والواو للحال، والفاء هي التي رِدف القافية مكسورة، مقابلة للباء في البيت الثاني مضمومة، وهو عيب ويسمى الإجازة.
قوله: (ألا نادت أُمامة باحتمال)، قيل:"ما أبالي" جواب القسم، وقيل:"لا" زائدة، والتقدير: فَبِكِ لا أبالي. أُمامة: امرأة، والاحتمال: الارتحال، ما أبالي: ما أَكترث ولا أحتفل،
وفائدتها توكيد القسم، وقالوا: إنها صلة، مثلها في (لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ) [الحديد: 29]، وفي قوله:
في بئر لا حور سرى وما شعر
واعترضوا عليه بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوله، وأجابوا بأن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض، والاعتراض صحيح؛ لأنها لم تقع مزيدة إلا في وسط الكلام، ولكن الجواب غير سديد؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و"لا" زائدة، أي: فبحقك ما أبالي. يعني: أظهرت هذه المرأة من نفسها ارتحالاً عني لتجلب عليّ حزناً. وفي هذه اليمين تهكم، وقيل: تمثل بهذا البيت في موت الظالم.
قوله: (في بئر لا حُور سرى وما شعر)، قال أبو عبيدة: في بئر حُور. و"لا" زائدة، والحُور: الهلكة.
قوله: (وأجابوا بأن القرآن في حُكم سورة واحدة)، قال الإمام: قالوا: إن القرآن كله في حُكم سورة واحدة؛ بأنه قد يُذكر الشيء في سورة، ويجيء جوابه في أخرى، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]، وجوابه في سورة أخرى، وهو قوله:{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2]. والجواب أن المراد بقولهم: إن القرآن كالسورة الواحدة، في عدم التناقض؛ فأما أن يُقرن بكل آية ما يُقرن بالأخرى، فذلك غير جائز، لأنه يلزم جواز أن يُقرن بكل إثبات حرف النفي الوارد في سائر الآيات، فينقلب كل إثبات نفياً وعكسه.
وقلت: قال حمزة وسعيد بن المسيب: إن البسملة آية من الفاتحة ليس إلا، والقرآن جميعه بمنزلة سورة واحدة، كذا في "الشُّعلة".
وليس في جواز ضرب بعض السور ببعض، وتخليط ألفاظ سورة بسورة، كما يفعله بعض وُعاظ زماننا. نعم، فيه جواز القول بتعلق صدر السورة التالية بخاتمة السابقة لفظاً، وجواز القول بتعلق بعض السور ببعض معنًى، كما جاء {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5]، {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1].
وفي الكواشي: "لما ختم سورة النساء آمراً بالتوحيد والعدل بين العباد، أكَّد ذلك بقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
وفي الحديث الذي جاء عن عثمان في اتصال "الأنفال" بـ "براءة"، شاهد صدق على ذلك. ومن قال باتصال النفي بما قبل السورة، لعلَّه ذهب إلى أنه رد لقوله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ
ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته؟ والوجه أن يقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له، يدلك عليه قوله تعالى:(فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ • وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)[الواقعة: 75 - 76]، فكأنه بإدخال حرف النفي يقول: إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام؛ يعني أنه يستأهل فوق ذلك.
وقيل: إن (لا) نفي لكلام ورد له قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث فقيل: لا، أي ليس الأمر كما ذكرتم، ثم قيل: أقسم بيوم القيامة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52]، كما أن قوله:{كَلَّا بَل لَّا يَخَافُونَ الْأخِرَةَ} [المدثر: 53] ردع له، كأنه كما أراد، أُقسم بيوم القيامة، إنه لا يصل إلى مراده. وقوله:{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} لقوله: {لَّا يَخَافُونَ الْأخِرَةَ} ، أي: لا يعتقدون الآخرة فيخافوا عقابها، والله أعلم.
قوله: (والوجه أن يقال: هي للنفي)، قال الإمام:"وعلى هذا القول وقع اختيار أبي مسلم، وهو الأصح. ويمكن تقديره بأن يقال: كأنه تعالى يقول: لا أُقسم بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب، فإنه أعظم وأجل من أن يُقسم عليه بهذه الأشياء، والغرض تعظيم المقسم عليه. أو يقال: لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب، فإنه أظهر وأجلى أن تحاول إثباته بمثل هذا القسم"، وهذان القولان أحسن من قول المصنف.
قوله: (إن {لَآ} نفي لكلام ورد له). قال أبو البقاء: " {لَآ}: رد لكلام مُقدر، لأنهم قالوا: أنت مفتر على الله في قولك: نُبعث، فقال: {لَآ}، ثم ابتدأ فقال: {أُقْسِمُ}، وهذا كثير في الشعر؛ فإن واو العطف تأتي في مبادئ القصاد كثيراً، يقدر هناك كلام يُعطف عليه".
فإن قلت: قوله تعالى (فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)[النساء: 65] والأبيات التي أنشدتها، المقسم عليه فيها منفي، فهلا زعمت أن «لا» التي قبل القسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له، وقدرت المقسم عليه المحذوف هاهنا منفيا، كقولك:(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ)، لا تتركون سدى؟
قلت: لو قصر الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ، ولكنه لم يقصر، ألا ترى كيف لقى (لا أُقْسِمُ بِهَذَا البَلَدِ) [البلد: 1] بقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ)[التين: 4]، وكذلك (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) [الواقعة: 75]، بقوله:(إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)[الواقعة: 77]؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الإمام: "وفيه إشكال، لأن إعادة حرف النفي مرة أخرى في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}، يقدح فيه".
قوله: ({فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65])، قال في تفسيره:"معناه: فوربك، و"لا" مزيدة لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في {لِّئَلَّا يَعْلَمَ} [الحديد: 29] لتأكيد وجود العلم. و {لَا يُؤْمِنُونَ} جواب القسم.
فإن قلت: هلا زعمت أنها زيدت لتظاهر {لَا} في {لَا يُؤْمِنُونَ} ؟ قلت: يأبى ذلك استواء النفي والإثبات فيه، وذلك قوله:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 38 - 40]"، وإليه الإشارة ها هنا بقوله: "لو قصروا الأمر على النفي دون الإثبات، لكان لهذا القول مساغ". وقد ذكرنا نظر صاحب "التقريب" فيه، حيث قال: "إنه تأكيد النفي في المنفى فقط" إلى آخره. وذكرنا كلام صاحب "الانتصاف" عليه، فلينظر هناك.
وقرئ: «لأقسم» ، على أنّ اللام للابتداء، وأقسم خبر مبتدأ محذوف، معناه: لأنا أقسم. قالوا: ويعضده أنه في الإمام بغير ألف (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) بالنفس المتقية التي تلوم النفوس فيه، أي في يوم القيامة، على تقصيرهن في التقوى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقُرئ: "لأُقسم")، قرأها قُنبل، ورواها النقاش عن أبي ربيعة عن البزي، والباقون: بالألف. قال الإمام: "تقديره: إني لأُقسم بيوم القيامة لشرفها، ولا أقسم بالنفس اللوامة لخستها". وقال ابن جني: "وهي قراءة الحسن، وروي عنه بغير ألف فيهما أيضاً. وهذه اللام لام الابتداء، أي: لأنا أقسم بيوم القيامة، وحُذف المبتدأ للعلم به".
قال الإمام: "وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة، وقال: لو كان المراد هذا، لقال: لأُقسمن، لا يقال: لأفعل كذا، بل لأفعلن. وروى الواحدي جوازه عن سيبويه".
وقال أبو البقاء: "ولم تصحبها النون اعتماداً على المعنى، ولأن خبر الله صدق، فجاز أن يأتي من غير توكيد. وقيل: شُبِّهت الجملة الفعلية بالجملة الاسمية، كقوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]. أو اللام لام توكيد لا لام قسم، دخلت على الفعل المضارع كقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [النحل: 124] ".
قوله: (بالنفس المتقية التي تلوم النفوس فيه)، الراغب: "اللوم: عذل الإنسان بنسبته إلى ما
أو بالتي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان. وعن الحسن: إن المؤمن لا تراه إلا لائماً نفسه، وإن الكافر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه. وقيل: هي التي تتلوم يومئذ على ترك الازدياد إن كانت محسنة، وعلى التفريط إن كانت مسيئة. وقيل: هي نفس آدم، لم تزل تتلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة. وجواب القسم ما دل عليه قوله (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ)، وهو: لتبعثن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه لوم، قال تعالى:{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، فقد قيل: هي النفس التي اكتسبت بعض الفضيلة، فتلوم صاحبها إذا ارتكب مكروهاً، فهي دون النفس المطمئنة، وقيل: بل هي النفس التي اطمأنت في ذاتها، وترشحت لتأديب غيرها؛ فهي فوق النفس المطمئنة".
قوله: (وإن الكافر يمضي قُدماً)، النهاية:"ومضى قُدماً، أي: لم يُعرج. وفي حديث علي: نظر قدماً أمامه، أي: لم يعرج ولم ينثن. وقد تسكن الدال، يقال: قدم بالفتح يقدم قُدماً: أي: تَقدم". وعن بعضهم: قدماً: أي: قُداماً، كما يقال: مضى أُخراً؛ أي: مستأخراً، وهو كقوله:{فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]؛ فإن المؤمن يمتنع ويقف، بخلاف الكافر فإنه يريد ليفجر أمامه.
قوله: (على التفريط إن كانت مُسيئة)، روى السُّلمي عن سهل:"النفس اللوامة: هي النفس الأمارة بالسوء، وهي قرينة الحرص والأمل. وعن أبي بكر الوراق: النفس كافرة في وقت، منافقة في وقت، مرائية في وقت، وعلى الأحوال كلها هي كافرة، لأنها لا تألف الحق أبداً، وهي منافقة لأنها لا تفي بالوعد، وهي مُرائية لأنها لا تحب أن تعمل عملاً، ولا تخطو خطوة إلا لرؤية الخلق؛ فمن كان هذه صفاته، فهي حقيقة بدوام الملامة لها".
وقرأ قتادة: «أن لن نجمع عظامه» على البناء للمفعول، والمعنى: نجمعها بعد تفرقها ورجوعها رميماً ورفاتاً مختلطاً بالتراب، وبعد ما سفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض. وقيل: إن عدي بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق، وهما اللذان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهما:«اللهم اكفني جاري السوء» ، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أو من به، أو يجمع الله العظام؟ فنزلت.
(بَلَى) أوجبت ما بعد النفي وهو الجمع، فكأنه قيل:(بَلَى) نجمعها، و (قَادِرِينَ) حال من الضمير في (نَّجْمَعَ)، أي: نجمع العظام قادرين على تأليف جميعها وإعادتها إلى التركيب الأول إلى أن نسوي بنانه، أي: أصابعه التي هي أطرافه، وآخر ما يتم به خلقه، أو على أن نسوي بنانه، ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض، كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت، فكيف بكبار العظام؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({بَلَى}: أوجبت ما بعد النفي، وهو الجمع)، لأن {بَلَى} وقعت موقع الفعل المحذوف.
قوله: (و {قَادِرِينَ}: حال من الضمير في {نَّجْمَعَ})، وهي حال مقررة لما أُوجب بعد النفي: إما مكملة له على سبيل الترقي كما قال: (قادرين على تأليف جمعها)، إلى قوله:"على أن نُسوي بنانه"، أو واردة مبالغة كما قال:"فكيف بكبار العظام؟ "، أو مُوبخة كما قال:"أي نجعلها مُستوية كخُف البعير وحافر الحمار"، على أسلوب قوله تعالى:{قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات: 18]، في جواب قوله:{أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} [الصافات: 16] الآية.
قوله: (سُلامياته)، النهاية:"السلامي: هي الأُنملة، من أنامل الأصابع. وقيل: واحده وجمعه سواء، ويجمع على: سُلاميات، وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان".
وقيل: معناه: بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي أصابع يديه ورجليه، أي نجعلها مستوية شيئاً واحداً كخف البعير وحافر الحمار لا تفرق بينها، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاٍ مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال، والبسط والقبض، والتأنى لما يريد من الحوائج. وقرئ «قادرون» ، أي: نحن قادرون. (بَلْ يُرِيدُ) عطف على (أَيَحْسَبُ)، فيجوز أن يكون مثله استفهاماً، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر. أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب (لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ) ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({بَلْ يُرِيدُ})، عطف على {أَيَحْسَبُ}. قيل: يجوز أن يكون عطفاً: إما على {أَيَحْسَبُ} بالهمزة، فلا يكون استفهاماً على سبيل التقرير، بل يكون إيجاباً. أو على "يحسب" بدون الهمزة، فيكون مثله استفهاماً. وقلت: معنى قوله: "وأن يكون إيجاباً"، أي: لا يكون استفهاماً مثله، للإنكار المفيد للنفي؛ وهو إما أن يكون استفهاماً على سبيل التقرير فيكون موجباً، أو لا يكون استفهاماً، بل يكون جملة خبرية موجبة.
والمعنى على الأول: ليس الأمر كما ظن وحسب، بل ليس كما أراد واشتهى. وعلى الثاني: أحسب ذلك؟ بل يريد هذا. أي: يدع ذلك الحُسبان الباطل، بل ارتكب أمراً أعظم من ذلك. يعني: ليست إرادته في ذلك الحُسبان مُجرد إنكار البعث، بل غرضه الاشتغال بالشهوات والانهماك في الخلاعة والفجور دائماً. وفيه أنه عالم بوقوع الحشر لكنه مُغتاب. وسنبين إن شاء الله تعالى أن هذا هو الوجه في الآية.
قوله: ({لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}: ليدوم على فجوره)، وإفادة {لِيَفْجُرَ} ، وهو مُستقبل، لمعنى الدوام والاستمرار: لاقترانه مع الإنسان، وانه للجنس يعني: من شأنه ذلك وجبلته يقتضي حُب الشهوات إلا من عصمه الله، لقوله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ} [آل عمران: 14] الآية؛ ولذلك كرر لفظ {الْإِنسَانُ} وصرح به.
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب، حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله وأسوأ أعماله (يَسْأَلُ) سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة في قوله (أَيَّانَ يَوْمُ القِيَامَةِ)، ونحوه:(ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الوَعْدُ)[يونس: 48].
[(فَإذَا بَرِقَ البَصَرُ • وخَسَفَ القَمَرُ • وجُمِعَ الشَّمْسُ والْقَمَرُ • يَقُولُ الإنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ • كَلاَّ لا وزَرَ • إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ • يُنَبَّأُ الإنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وأَخَّرَ • بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ • ولَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) 7 - 15]
(بَرِقَ البَصَرُ) تحير فزعاً؛ وأصله من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره. وقرئ: «برق» من البريق، أي لمع من شدة شخوصه. وقرأ أبو السمال:«بلق» إذا انفتح وانفرج. يقال: بلق الباب وأبلقته وبلقته: فتحته (وخَسَفَ القَمَرُ) وذهب ضوؤه، أو ذهب بنفسه. وقرئ:«وخسف» على البناء للمفعول (وجُمِعَ الشَّمْسُ والْقَمَرُ) حيث يطلعهما الله من المغرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقُرئ: "برق"، من البريق)، قرأ نافع: بفتح الراء، والباقون: بكسرها.
قوله: (برق الرجل: إذا نظر إلى البرق)، نظيره: قمر الرجل، إذا نظر إلى القمر فدهش بصره وكذلك: ذهب وبقر، إذا نظر إلى الذهب والبقر.
الراغب: "البرق: لمعان السحاب، ويقال: بَرِق وأَبْرق، وبَرَق: يقال في كل ما يلمع كسيف بارق، وبَرِق: يقال في العين إذا اضطربت وجالت من خوف، قال تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}، وقُرئ: بَرَقَ، وتصور منه تارة: اختلاف اللون فقيل: البُرقة، لأرض ذات أحجار مختلفة الألوان. وأخرى: ما يظهر من تجويفه، فقيل: برق فلان وأبرق، إذا تهدَّد".
وقيل: وجمعا في ذهاب الضوء، وقيل: يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار. وقيل: يجمعان ثم يقذفان في البحر، فيكون نار الله الكبرى (المَفَرّ) بالفتح: المصدر؛ وبالكسر: المكان. ويجوز أن يكون مصدراً كالمرجع، وقرئ بهما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كأنهما ثوران عقيران)، النهاية:"وفي حديث كعب: أن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار. قيل: لما وصفهما الله تعالى بالسباحة في قوله عز وجل: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33، يس: 40]، ثم أخبر أنه يجعلهما في النار يُعذب بهما أهلها، بحيث لا يبرحانها، صارا كأنهما زمنان عقيران". وقيل: إنما شُبها بالثور للذل، ثم إذا عُقر ازداد الذل.
قوله: (فيكون نار الله الكبرى)، أي: البحر، قال في قوله:{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]: "روى أن الله تعالى يجعل في يوم القيامة البحار كلها ناراً تُسجر بها نار جهنم".
قوله: ({الْمَفَرُّ} بالفتح المصدر، وبالكسر المكان)، قال ابن جني:"بالكسر قراءة ابن عباس وعكرمة والحسن". وقال الزجاج: "المفعل، من مثل جلست بفتح العين: المصدر؛ يقال: جلست مجلساً بفتح اللام، بمعنى جلوساً. فإذا قلت: جلست مجلساً، فأنت تريد به المكان". فمن فتح فهو بمعنى: أين الفرار؟ ومن كسر فعلى: أين مكان الفرار.
(كَلاَّ) ردع عن طلب المفر (لا وزَرَ) لا ملجأ، وكل ما التجأت إليه من جبل أو غيره وتخلصت به فهو وزرك (إلَى رَبِّكَ) خاصة (يَوْمَئِذٍ) مستقرّ العباد، أي استقرارهم. يعني: أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره وينصبوا إليه، أو إلى حكمه ترجع أمور العباد، لا يحكم فيها غيره، كقوله:(لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ)[غافر: 16]، أو إلى ربك مستقرهم، أي: موضع قرارهم من جنة أو نار، أي: مفوض ذلك إلى مشيئته، من شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار (بِمَا قَدَّمَ) من عمل عمله (و) بما (أَخَّرَ) منه لم يعمله، أو بما قدم من ماله فتصدق به، أو بما أخره فخلفه. أو بما قدم من عمل الخير والشر، وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة فعمل بها بعده. وعن مجاهد: بأول عمله وآخره، ونحوه:(فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ ونَسُوهُ). (بَصِيرَةٌ) حجة بينة، وصفت بالبصارة على المجاز، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً) [النمل: 13]، أو عين بصيرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وُصفت بالبصارة على المجاز)، هذا يحتمل أن يكون من الإسناد المجازي، أو استعارة مكنية، كما في الآية المُستشهد بها. قال أبو البقاء:" {الْإِنسَانُ}: مبتدأ، و {بَصِيرَةٌ} خبره، و {عَلَى} مُتعلقة بالخبر. والتأنيث للمبالغة، أي: بصير على نفسه، أو على المعنى، أي: حُجَّة بصيرة على نفسه، ونُسب الإبصار إلى الحجة على أنها دالة. وقيل: بصيرة هنا مصدر، أي: ذو بصيرة، ولا يصح إلا على التَّبيين".
قوله: (أو عين بصيرة)، وفي الأول:{بَصِيرَةٌ} خبر عن {الْإِنسَانُ} ، وعلى الثاني: يُحتمل أن تكون {بَصِيرَةٌ} مبتدأ، وخبره {عَلَى نَفْسِهِي} ، والجملة خبر، كقوله: زيد على رأسه عمامة. والبصيرة على هذا الوجه: الملك الموكل، أو جوارحه. ويُحتمل أن تكون "عين بصيرة" خبراً، ويتعلق قوله:"والمعنى" بالوجهين. وفي قوله: "عين بصيرة" تجريد؛ جُرِّد من الإنسان عين، أي: جاسوس ذو بصيرة، وإليه الإشارة بقوله:"ففيه ما يُجزي عن الإنباء". والضمير في "عليها" للنفس وإن لم يجر لها ذكر، ولذلك قال:"بما عملت".
والمعنى أنه ينبأ بأعماله وإن لم ينبأ، ففيه ما يجزئ عن الإنباء؛ لأنه شاهد عليها بما عملت؛ لأن جوارحه تنطق بذلك (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور: 24]. (ولَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها. وعن الضحاك: ولو أرخى ستوره، وقال: المعاذير: الستور، واحدها معذار، فإن صح فلأنه يمنع رؤية المحتجب، كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب.
فإن قلت: أليس قياس المعذرة أن تجمع معاذر لا معاذير؟ قلت: المعاذير ليس بجمع معذرة، إنما هو اسم جمع لها، ونحوه: المناكير في المنكر.
[(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ • إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وقُرْآنَهُ • فَإذَا قَرَانَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ • ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ • كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ • وتَذَرُونَ الآخِرَةَ • وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ • إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ • ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ • تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) 16 - 25]
والضمير في (بِهِ) للقرآن. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى أن يتمها، مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فإن صح، فلأنه يمنع رؤية المُحتجب)، قال محيي السنة:"هو قول الضحاك والسُّدي. وأهل اليمن يسمون معذاراً، أي: إن أسبل الستر وأغلق الباب ليُخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه".
قوله: (المعاذير ليس بجمع معذرة)، قال صاحب "الفرائد":"يمكن أن يقال: الأصل فيه معاذر، فحصلت الياء بإشباع الكسر، وكذا المناكير".
قوله: (إذا لُقِّن الوحي نازع جبريل)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، عن ابن عباس، في الآية، قال: "كان النبي? يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يُحرك به شفتيه، فأنزل الله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} . قال: جمعه في صدرك،
فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضى إليه وحيه، ثم يقفيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه. والمعنى: لا تحرك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل صلوات الله عليه يقرأ. (لِتَعْجَلَ بِهِ) لتأخذه على عجلة، ولئلا يتفلت منك. ثم علل النهي عن العجلة بقوله:(إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) في صدرك، وإثبات قراءته في لسانك (فَإذَا قَرَانَاهُ) جعل قراءة جبريل قراءته؛ والقرآن: القراءة (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) فكن مقفيا له فيه ولا تراسله،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم تقرؤه، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}. قال: فاستمع وأنصت، ثم إن علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول الله? ، إذا أتاه جبريل عليه السلام بعد ذلك استمع، فإذا انطلق قرأه كما أقرأه". وفي رواية: كما وعده الله عز وجل.
قوله: (والقرآن: القراءة)، الراغب: "القرآن في الأصل مصدر كرجحان، قال تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، قال ابن عباس: إذا جمعناه وأثبتناه في صدرك فاعمل به. وقد خُص بالكتاب المنزل على محمد صلوات الله عليه وسلامه، وصار له كالعلم. قال بعض العلماء: تسمية هذا الكتاب قرآناً من بين كُتب الله عز وجل، لكونه جامعاً لثمرة كُتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم، كما أشار إليه تعالى بقوله:{وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111]، وقوله:{تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقوله:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27].
قوله: (ولا تراسله)، أي: لا تكن رسيلاً له. الأساس: "هو رسيله في الغناء، أي: يباريه في إرساله. قيل: رسيل الرجل: الذي يراسله في نضالٍ أو غيره".
وطأمن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ، فنحن في ضمان تحفيظه (ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) إذا أشكل عليك شيء من معانيه، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعا، كما ترى بعض الحراص على العلم؛ ونحوه (ولا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إلَيْكَ وحْيُهُ) [طه: 114]، (كَلاَّ) ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة وإنكار لها عليه، وحث على الأناة والتؤدة، وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله (بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ) كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم، لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة (وتَذَرُونَ الآخِرَةَ)، وقرئ بالياء وهو أبلغ.
فإن قلت: كيف اتصل قوله (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ)[القيامة: 16] إلى آخره، بذكر القيامة؟
قلت: اتصاله به من جهة هذا للتخلص منه، إلى التوبيخ بحب العاجلة، وترك الاهتمام بالآخرة. الوجه: عبارة عن الجملة، والناضرة: من نضرة النعيم (إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول، ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وطَأمن نفسك)، الجوهري:"طأمنت منه: سكنت".
قوله: (وقُرئ بالياء)، نافع والكوفيون: تحبون وتذرون، فيهما بالتاء الفوقانية، والباقون بالياء. وكونه أبلغ، للالتفات بعد تعميم الخطاب؛ قال:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِي} ، ثم عم وقال:{بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} ، وعلى الغيبة: يُغني من شأن بني آدم العجلة.
قوله: (اتصاله به من جهة هذا للتخلص منه، إلى التوبيخ بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة)، فإن قلت: جوابه غير مطابق للسؤال: سأل عن كيفية اتصال {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} بذكر القيامة، وأجاب عن سبب اتصالهما حيث قال: اتصاله به من جهة هذا للتخلص منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت: الجواب من بليغ الكلام وفصيحه، لأنه منطبق على الجواب مع فوائد أخرى، وهو على أسلوب سؤال الكفرة لمؤمني قوم صالح عليه السلام:{أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 75]. أي: إرساله أمر معلوم مكشوف لا كلام فيه، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به. يعني: اتصاله به أمر ظاهر، إنما السؤال عن اتصال هذا التوبيخ، وهو {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} ، بحديث يوم القيامة.
وخلاصة الجواب، إن اتصال الثاني بالأول من جهة أن يتخلص منه إلى الكلام الثالث. والتخلص هو الانتقال من نوع كلام إلى آخر برابطة مناسبة لهما، ولو لم تكن الرابطة مشتملة على معنى الكلامين لم تصلح للربط. والذي يشتمل عليه الكلام الأول والثاني والثالث من المعنى، هو الاهتمام بعاجل الأمر دون الآجل منه، وهذا المعنى في الكلام الثالث ظاهر.
أما في الأول، فكما سبق في تفسير قوله:{بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ، على أن يكون إضراباً لما سبق إلى موجب؛ لأن من اشتغل بلذات هذا الأدنى، لا يريد الآجل ولا يؤثره عليها، كأنه قيل: انظر إلى هؤلاء وعظيم ما ارتكبوه، حيث آثروا الحياة الدنيا على نعيم العُقبى، واعتبر من حالهم، ولا تقتف آثارهم، بأنه تهتم بعاجل الحال، وتستعجل في أخذ القرآن، وتُنازع جبريل في القراءة خوفاً من فواتها، ولا تنظر إلى آجلها، لأنا ضمنا أن نحفظه عليك:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وتكلَّفنا جمعه وقرآنه، ثم عم الخطاب بقوله:{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} ، أي: بل أنتم يا بني آدم، لأنكم خُلقتم من عَجل تعجلون في كل شيء، ومن ثم تُحبون العاجلة وتذرون الآخرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما كيفية التخلص، فهو أنه عز وجل، لما ساق حديث القيامة، وكان حديثاً مُتضمناً للمعنى المذكور، عن بجانبه الأقدس حديث آخر لنبيه صلوات الله عليه، وهو عادته من العجلة، فأراد أن يردعه على وجه لا يُوحشه ولا ينفره، قال:{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} ، وإليه الإشارة بقوله:({كَلَّا} ردع لرسول الله? عن عادة العجلة، وإنكار لها عليه). ولا يبعد ذلك، لأن تنزيل الآيات مُوزعاً على الأوقات، لقمع صفات البشرية عنه حالاً غب حال، تأديب من الله لحبيبه، رحمة خاصة له وعامة لأمته، ليكون خُلقُه القرآن؛ فوسط بين الكلامين حديث عجلته، وقلة أناته عند نزول القرآن، ليكون كالتمهيد لهذا الرَّدع الفظيع والإنكار الهائل؛ لله در المصنف ولطيف عباراته ودقيق إشاراته!
وقريب مما ذكرنا قول الإمام: "إنه تعالى نقل عن الكفار أنهم يحبون السعادة العاجلة، وذلك قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}، وبين أن التعجيل مذموم مطلقاً، حتى التعجيل في أمور الدين، فقال: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِي}، وقال في آخر الآية: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} ".
أقول قولاً إن أصاب فمن لطف الله تعالى وفيض كرمه، وإلا فأنا أستغفر الله من ذلك: إن قوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} ، متصل بقوله:{وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، أي: يقال للإنسان عند إلقاء معاذيره: كلا، إن أعذارك غير مسموعة، لأنك فجرت وفسقت، وظننت أنك تدوم على فجورك، وأن لا حشر ولا عقاب، وذلك من حبك العاجلة والإعراض عن الآخرة، وكان من عادته صلوات الله عليه، إذا لُقّن الوحي، أن ينازع جبريل القراءة ويتعجل فيها، وقد اتفق عند التلقين بالآيات السابقة، ما جرت به عادته من العجلة، فلما وصل إلى قوله:{أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، أوحى الله تعالى إلى جبريل عليه السلام، بتأديبه في أخذ القراءة، وألقى إليه تلك
ألا ترى إلى قوله: (إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ)[القيامة: 12]، (إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ) [القيامة: 30]، (إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) [السورى: 53]، (وإلَى اللَّهِ المَصِيرُ) [آل عمران: 28]، (وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245]، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88]، كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص؟ ! ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر، ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم، فإنّ المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه محال، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكلمات، ثم عاد إلى إتمام ما بُدئ به بقوله:{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} . مثاله الشيخ إذا لقن درساً تلميذه وألقى فصلاً، ويراه في أثناء ذلك يستعجل ويضطرب، فيقول له: لا تعجل، فإني إذا فرغت إن كان لك إشكال أزيله، أو تخاف فوتاً فإني أكرر لك حتى أحفظكه، ثم يأخذ الشيخ في كلامه ويتمه. وقراءة "يحبون" بالياء، صريح في أن الكلام مع الإنسان، ولا يتعدى إلى غيره.
وقال القاضي: "قوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} اعتراض، بما يؤكد التوبيخ على حب العاجلة، لأن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو أهم الأمور وأصل الدين، فكيف بها في غيره؟ وقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}، أي: بيان ما أُشكل عليك من معانيه، دليل على جواز تأخير البيان من وقت الخطاب".
قوله: (مُحال). خبر لقوله: "اختصاصه بنظرهم إليه"، وقوله:"لو كان منطوراً إليه" جملة مُعترضة، وقوله:"فوجب حمله" جزاء شرط محذوف، يعني أنا لو فرضنا أنه تعالى منظور إليه مع أن العقل يأباه، فإن اللفظ أيضاً لا يُساعد عليه. يعني: دل تقديم قوله: {إِلَى رَبِّهَا} على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: {نَاظِرَةٌ} على الاختصاص، ولا بد من حمله على معنى يصح معه الاختصاص، فإذا حملناه على الحقيقة، وهي النظر إلى وجهه الكريم، لا يستقيم المعنى؛ لأن المنظور إليه حينئذ أشياء لا يحيط بها الوصف، فإذا كان كذلك يجب أن يحمل على المجاز، وهو التوقع والرجاء وهو صحيح، لأنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة حينئذ من غيره.
وأجاب صاحب "التقريب": "إنما خُص به مع أنهم ناظرون إلى أشياء، لأن نظرهم إلى وجهه الكريم يباين النظر، فذلك النظر يختص به".
وقال صاحب "الفرائد": "استدلال ضعيف، لاحتمال أن يكون المراد: أن رؤيتك نعمة زائدة على النعمة منك، ولا يلزم من الاختصاص اللازم من التقديم، أن لا ينظروا يومئذ إلى الله، بل يلزم أن لا ينظروا يومئذ إذا رأوا الله عز وجل في ذلك اليوم إلى شيء غيره، ولأن التوقع الذي ذكر لا يختص بذلك اليوم، ولأن المقام مقام الوعد والجزاء الحسن، فلا يليق ما ذكر. وكيف وقد نُقل عن النبي? ، أنه قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله عز وجل: تُريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم"".
وقلت: الحديث أخرجه مسلم والترمذي عن صهيب. وكيف يستبعد هذا، والعارفون في الدنيا ربما استغرقوا في بحار الحب، بحيث لم يلتفتوا إلى الكون؟ وذلك في مقام الغرق،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو انسداد مسالك الالتفات من القلب، باستيلاء أنوار الكشف عليه قد شغفها حُباً، قال:
فلما استبان الصبح أدرج ضوؤه بإسفاره أنوار ضوء الكواكب
تجرعتهم كأساً لو ابتلى اللظى بتجريعه، طارت كأسرع ذاهب
أنشدهما صاحب "الرسالة".
وقال الإمام: "لا يمكن حمل النظر على الانتظار، لأن لذة الانتظار مع يقين الوقوع حاصلة في الدنيا، ولا بد أن يحصل في الآخرة شيء أزيد منه في معرض الترغيب في الآخرة، وليس ذلك إلا النظر إلى وجهه الكريم".
وقلت: استدلاله بالتقديم ضعيف، إذ ليس كل تقديم مفيداً للاختصاص، بل يكون لمجرد الاهتمام، مع أن الحديث الذي رويناه مؤذن به، وهو قوله:"فما أُعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم"، وحديث جابر "فنظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم"، رواه ابن ماجه، أو لرعاية الفواصل، والفاصلة: ناضرة، باسرة، فاقرة، مع أن النظم لا يساعد إلا على الرؤية. قال أبو البقاء:{وُجُوهٌ} : مبتدأ، و {نَّاضِرَةٌ} خبره. وجاز الابتداء بالنكرة لحصول الفائدة، و {يَوْمَئِذٍ} ظرف للخبر. ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً، أي: ثم وجوه، و {نَّاضِرَةٌ} صفة". يعني: كيف يَلَذُّ العيش في الدنيا، ووثم ما ذكر.
وتحريره: أنه تعالى لما ذكر ردعهم بقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (وَتَذَرُونَ الْأخِرَةَ} ، عقب ذلك بيان حسن عاقبة حب الآخرة، وسوء مغبة حب العاجلة. يعني: كيف يذر العاقل مثل تلك
والذي يصح معه أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بى، تريد معنى التوقع والرجاء، ومنه قول القائل:
وإذا نظرت إليك من ملك
…
والبحر دونك زدتني نعما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسرة التي ليس دونها شيء، بدلاً من هذه اللذة الخسيسة الدَّنيئة؟ أم كيف يُنضر وجهه بهذا السرور، ووراءه ذلك البسور؟ وأما الانتظار الذي ذكره، فهو معدود من جمله قولهم: الانتظار موت أحمر.
ومما ينصر مذهب أهل السنة تفسير أعلم البرية، على ما رويناه عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي، عن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله? ، قال:"إن أدنى أهل الجنة منزلة، لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسروره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غُدوة وعشية، ثم قرأ رسول الله? : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ".
وروي أنه سئل مالك عن من قال: إلى ثواب ربها ناظرة؟ فقال: كذب، لو كان هذا صحيحاً لما أغاظ الكفار بقوله:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. وروى السُّلمي عن أبي سليمان الداراني: "لو لم يكن لأهل المعرفة سرور، إلا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، لاكتفوا به. وأي سرور أتم من وصول المحب إلى حبيبه، والعارف إلى معروفه؟ ".
قوله: (وإذا نظرت إليك) البيت، "من" - في قوله:"من ملك" -: تجريدية. قوله: "والبحر دونك": مُعترضة، يحتمل وجهين: أحدهما: البحر بيني وبينك، وثانيهما: أن البحر
وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم، ويأوون إلى مقائلهم، تقول: عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم، والمعنى: أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه. والباسر: الشديد العبوس، والباسل: أشد منه، ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلو حه. (تَظُنُّ) تتوقع أن يفعل بها فعل هو في شدته وفظاعته (فَاقِرَةٌ) داهية تقصم فقار الظهر، كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير.
[(كَلاَّ إذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ • وقِيلَ مَنْ رَاقٍ • وظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ • والْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ • إلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ) 26 - 30]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أقل منك في الجود، وحينئذ لا يصلح للاستشهاد، وهذا أرجح، قال السجاوندي:"ولا حجة لهم في الشعر، لأن النظر بمعنى التأمل، لا يطلع عليه مخلوق، ولذلك قال: زدتني نعما".
وقال القاضي: "النظر في البيت بمعنى السؤال، فإن الانتظار لا يستوجب العطاء، ولأن النظر بمعنى الانتظار لا يُعدى بـ "إلى"، على أن الانتظار لا يُسند إلى الوجه".
قوله: (سمعت سروية)، النهاية:"السَّر ومحلة في حمير". مُستجدية: مُستعطية، سائلة.
قوله: (كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير)، يُريد: دل معنى التقابل بين الفقرتين، يعني: ناظرة وتظن، على معنى التوقع، وحُمل النظر عليه. وقلت: الظن هاهنا بمعنى اليقين، لأن الكافر لا يتوقه الشر حينئذ، بل يتيقنه عين اليقين، ولأن الفاقرة هي الداهية، فلا تُقابل إلا بما ينتهي غاية النعمة، وليس وراء النظر نعمة، رزقنا الله عز وجل ما نرجوه الآن بفضله وكرمه.
(كَلاَّ) ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قيل: ارتدعوا عن ذلك، وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين. والضمير في (بَلَغَتِ) للنفس وإن لم يجر لها ذكر، لأن الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها، كما قال حاتم:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى
…
إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصّدر
وتقول العرب: أرسلت، يريدون: جاء المطر، ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء. (التَّرَاقِيَ) العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال؛ ذكرهم صعوبة الموت الذي هو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي، ودنا زهوقها، وقال حاضرو صاحبها وهو المحتضر بعضهم لبعض:(مَنْ رَاقٍ) أيكم يرقيه مما به؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أماوي ما يُغني) البيت، ماوي: اسم امرأة، شُبهت بالماء لصفائها، والنسبة إلى الماء: ماوي ومائي، كما يُقال: كساوي وكسائي. وهي ماوية بنت عفرز، وكانت ملكة وهي تحت حاتم. الحشرجة: الغرغرة عند الموت، والثراء: الغنى والثروة، والضمير في "حشرجت" للنفس.
قوله: (لثُغرة النَّحر)، الجوهري:"الثُّغرة بالضم: نُقرة النحر التي بين التُّرقُوتين".
قوله: (وقال حاضر وصاحبها)، تفسير لقوله تعالى:{وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} ، أي: القائلون هم الذين حضروا صاحب الروح التي تُزهق، يقول بعضهم لبعض: من راقٍ؟ أي: أيكم يرقيه رُقية مما به؟ فقوله: "بعضهم لبعض" بدل من "حاضر وصاحبها"، وقوله:"وهو المحتضر" اعتراض بين البدل والمُبدل، تفسير لـ "صاحبها"، و {مَنْ رَاقٍ} مقول لقوله "قال".
وقيل: هو من كلام ملائكة الموت: أيكم يرقى بروحه؟ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ (وظَنَّ) المحتضر (أَنَّهُ الفِرَاقُ) أن هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة (والْتَفَّتِ) ساقه بساقه والتوت عليها عند علز الموت. وعن قتادة: أي: ماتت رجلاه فلا تحملانه، وقد كان عليهما جوالاً. وقيل: شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة، على أن الساق مثل في الشدة. وعن سعيد بن المسيب: هما ساقاه حين تلفان في أكفانه (السَّاقُ) أي: يساق إلى الله وإلى حكمه.
[(فَلا صَدَّقَ ولا صَلَّى • ولَكِن كَذَّبَ وتَوَلَّى • ثُمَّ ذَهَبَ إلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى • أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) 31 - 35]
(فَلا صَدَّقَ ولا صَلَّى) يعني: الإنسان في قوله (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ)[القيامة: 3]، ألا ترى إلى قوله (أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى) [القيامة: 36]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عَلّزِ الموت)، الجوهري:"العَلَزُ: قلق وخفة وهلع يصيب الإنسان".
قوله: (على أن الساق مثل في الشدة)، أي: قيل هذا القول بناء على أن الساق عبارة عن الشدة.
الراغب: "قيل: أراد التفاف البلية بالبلية، نحو: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42]، من قولهم: كشفت الحرب عن ساقها. وقال بعضهم: هو إشارة إلى الشدة، وهو أن يموت الولد في بطن الناقة، فيُدخل المذَمِّر يده في رحمها، فيأخذ بساقه، فيخرجه. ثم جُعل لكل أمر فظيع".
قوله: ({فَلَا صَدَّقَ}، يعني: الإنسان)، يُريد أن فاعل {فَلَا صَدَّقَ} ، هو الإنسان المذكور
وهو معطوف على (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القِيَامَةِ)[القيامة: 6]، أي: لا يؤمن بالبعث، فلا صدق بالرسول والقرآن، ولا صلى، ويجوز أن يراد: فلا صدق ماله، بمعنى: فلا زكاه. وقيل: نزلت في أبى جهل. (يَتَمَطَّى) يتبختر. وأصله يتمطط، أي: يتمدد، لأن المتبختر يمد خطاه. وقيل: هو من المطا وهو الظهر، لأنه يلويه. وفي الحديث:«إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم، فقد جعل بأسهم بينهم» يعني: كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى عنه وأعرض،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في أول السورة عند قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ} ، بدليل قوله:{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، لأنه تكرير للمعنى بعد طول الكلام. فعلى هذا، عطفت هذه الجملة على جملة قوله:{يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} ، تعجباً من حال الإنسان. يعني: سأل أيان يوم القيامة، {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، أي: يسأل، وما استعد له إلا ما يوجب دماره وهلاكه. وأما قوله:{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} ، فجواب عن السؤال، وقوله:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} يخلص إلى ما استطرد من أحوال النبي? ، أُقحم الجواب بين المعطوف والمعطوف عليه لشدة الاهتمام.
قوله: (إذا مشت أمتي المُطيطاء) الحديث، أخرجه الترمذي عن ابن عمر، وفي آخره:"سُلِّطَ شِرارها على خيارها".
النهاية: "المُطيطاء، بالمد والقصر: مشية فيها تبختر ومد اليدين، يقال: مطوت ومططت بمعنى مددت، وهي من المُصغَّرات التي لم يُستعمل لها مُكبَّر".
وقيل: هذا الحديث من دلائل النبوة، لأنه إخبار بالغيب وقد وافق الواقع؛ فإنهم لما فتحوا بلاد فارس والروم، أخذوا أموالهم وسبوا ذراريهم فاستخدموهم، فسلط الله قتلة عثمان رضى الله عنه حتى قتلوه، ثم سلَّط بني أمية على بني هاشم.
ثم ذهب إلى قومه يتبختر افتخاراً بذلك (أَوْلَى لَكَ) بمعنى: ويل لك، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره.
[(أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى • أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى • ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى • فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنثَى • أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ المَوْتَى) 36 - 40]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({أَوْلَى لَكَ}، بمعنى: ويل لك)، وقال القاضي:"قيل: هو أفعل، من الويل بعد القلب كأدنى من أدون. وقيل: أصله: أولاك الله ما تكرهه، واللام مزيدة كما في {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ". قال الواحدي: "هذا تهديد من الله لأبي جهل، والمعنى: وليك المكروه يا أبا جهل وقَرُب منك". وقال محيي السنة: "وقيل: معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحق وأولى به، وقيل: هو أفعل، من الولي وهو القُرب". قال الأصمعي: معناه: قاربه ما يُهلكه، قال ثعلب:"لم يقل أحد في {أَوْلَى} أحسن وأصح مما قاله الأصمعي".
الراغب: " {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}: كلمة تهديد وتخويف، يُخاطب بها من أشرف على هلاك، فيحث بها على التحرز، أو يُخاطب بها من نجا ذليلاً منه فينهي عن مثله ثانياً، وأكثر ما يُستعمل مُكرراً، وكأنه حث على تأمل ما يؤول إليه أمره، ليتنبه للتحرز منه". وقال في "غُرَّة التنزيل": "اللفظة مُشتقة من: ولي يلي، إذا قَرُب منه قُرب مُجاور، فكأنه قال: الهلاك
(فَخَلَقَ) فقدر (فَسَوَّى) فعدل (مِنْهُ) من الإنسان (الزَّوْجَيْنِ) الصنفين (أَلَيْسَ ذَلِكَ) الذي أنشأ هذا الإنشاء (بِقَادِرٍ) على الإعادة. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: «سبحانك بلى» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة القيامة، شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أنه كان مؤمناً بيوم القيامة» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قريب منك قُرب مُجاور لك، بل هو أولى وأقرب. وأما تكرير اللفظ، فالأول يُراد به الهلاك في الدنيا، والثاني في الأخرى، وعلى هذا يخرج عن التكريرات [المعيبة]، فاعرفه".
قوله: (كان إذا قرأها قال: "سُبحانك بلى")، عن أبي داود، عن موسى بن أبي عائشة، عن رسول الله? .
تمت السورة
بحمد الله وعونه
*
…
*
…
*
سورة الإنسان
مدنية، وهي إحدى وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) 1]
(هَلْ) بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة، والأصل: أهل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الإنسان
إحدى وثلاثون آية، مكية، وقيل: مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
قوله: ({هَلْ} بمعنى: "قد" في الاستفهام خاصّة)، أي:"هل" تُستعمل في الاستفهام خاصة، وهو بمعنى "قد"، قال في "المفصل":"عند سيبويه أن "أهل" بمعنى "قد"، إلا أنهم قد تركوا الألف قبلها، لأنها لا تقع إلا في الاستفهام". قال في "الإقليد": "هَلْ: ضعيفة في الاستفهام، ألا تراها تجيء بمعنى "قد" كقوله:
أهل رأوْنا
بدليل قوله:
أهل رأونا بسفع القاع ذى الأكم
فالمعنى: أقد أتى؟ على التقرير والتقريب جميعاً، أي: أتى على الإنسان قبل زمان قريب (حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن) فيه (شَيْئًا مَّذْكُورًا)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلو كان للاستفهام، للزم الجمع بين حرفين، وهما الهمزة وهل، وهو ممتنع".
وقال ابن الحاجب: "أصلها أن يكون بمعنى "قد"، فاقتضت وقوع الفعل؛ فكما لا يقال: قد زيداً ضربت، لا يقال: هل زيداً ضربت؟ ".
قوله: (أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم)، أوله:
سائل فوارس يربوع بشدَّتنا
يقال: سأل بشيء وعن شيء بمعنى، وهما من صلاته. بشدتنا، بفتح الشين: بحملتنا، والأولى بكسرها، أي: بقوتنا. يقول: سائل هذه القبيلة حين جُزنا بجانب القاع ذي الروابي، أي: هل رأوا منا جُبناً وضعفاً؟ البيت شاذ.
قوله: (أقد أتى؟ على التقرير)، قال الواحدي:" {هَلْ} هاهنا خبر وليس باستفهام"،
أي: كان شيئاً منسيا غير مذكور نطفة في الأصلاب، والمراد بالإنسان: جنس بني آدم، بدليل قوله (إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ) [الإنسان: 2]؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو عبيدة: "مجازها: "قد أتى على الإنسان" وليس باستفهام.
قوله: (بدليل قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ})، يعني: تقرر أن الاسم المعرف باللام، إذا أعيد كان الثاني عين الأول، فحين أُعيد {الْإِنسَانَ} وبيَّن بأن المراد بالإنسان الجنس، لقوله:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ} ، عُلِمَ أن السابق كذلك. وإنما أراد بذلك الرد على من ذهب إلى أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام، كالواحدي وغيره. ولعل نظرهم إلى قوله:{مِن نُّطْفَةٍ} ؛ فإن آدم لم يُخلق منها.
والجواب أنه من باب التغليب، أو من قوله:{وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (أَوَ لَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66 - 67]. قال: "فإن قلت: لِمَ جازت إرادة الأناسي كلهم، وكلهم غير قائلين ذلك؟ قلت: لما كانت هذه المقالة موجودة فيمن هو من جنسهم، صح إسناده إلى جميعهم". وعليه النظم؛ فإن {الْإِنسَانَ} الثاني مُظهر وضع موضع المضمر لإفادة الترقي، أي كان الشيء المنسي الذي لا يُلتفت إليه ولا يُذكر، فإنا قلبناه في الأطوار المتباينة والأحوال المُتخالفة، وجعلناه مما يذكر فيه ويعتبر، حيث
(حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ) طائفة من الزمن الطويل الممتد.
فإن قلت: ما محل (لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا)؟ قلت: محله النصب على الحال من الإنسان، كأنه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور. أو الرفع على الوصف ل- (حِينٍ)، كقوله:(يَوْمًا لاَّ يَجْزِي والِدٌ عَن ولَدِهِ)[لقمان: 33]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جعلناه محلاً للمعرفة والعبادة، {سَمِيعًا بَصِيرًا}. ثم فصله بقوله:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} ، وبين افتراقهم بقوله:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} ، وقوله:{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ} ، ففيه جمع وتقسيم وتفريق.
قوله: ({حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ}: طائفة من الزمن الطويل الممتد)، الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه، وعلى ذلك قوله عز وجل:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ} ، ثم يعبر عن كل مدة، وهو خلاف الزمان، فإنه يقع على [المدة] القليلة والكثيرة. ودهر فلان: مُدة حياته. وما روي في الحديث: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر"، قيل: معناه أن الله فاعل ما يضاف إلى الدهر، فإذا سببتم الذي تعتقدون أنه فاعل ذلك فقد سببتموه. وقيل: الدهر الثاني في الخبر غير الأول، وإنما هو مصدر بمعنى الفاعل، أي أن الله هو الداهر، أي: المصرف المدبر والمقيض لما يحدث، والأول أظهر".
قوله: (أو الرفع على الوصف لـ {حِينٌ})، والراجع محذوف، أي: لم يكن فيه شيئاً، كما أن تقدير الآية: لا يجزي فيه.
وعن بعضهم: أنها تليت عنده فقال: ليتها تمت، أراد: ليت تلك الحالة تمت، وهي كونه شيئاً غير مذكور، ولم يخلق ولم يكلف.
[(إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) 2]
(نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) كبرمة أعشار، وبرد أكياش: وهي ألفاظ مفردة غير جموع، ولذلك وقعت صفات للأفراد. ويقال أيضاً: نطفة مشج، قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت
…
على مشج سلالته مهين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعن بعضهم: أنها تُليت عنده، فقال: ليتها تمت)، قيل: هو أبو بكر رضي الله عنه. وفي "الوسيط": "سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلاً يقرأ هذه الآية، فقال: ليت ذلك تم، يعني: ليته بقى على ما كان، فكان لا يلد، ولا يبتلى أولاده".
قوله: (كبُرمة أعشار)، الجوهري:"البُرمة: القدر، وبُرمة أعشار: إذا انكسرت قطعاً".
قوله: (وبُرد أكياش)، في الحاشية: الأكياش: ثوب يُغزل غزله مرتين، وهو من بُرود اليمن.
قوله: (طوت أحشاء مُرتجة) البيت، أرتجت الناقة: إذا أغلقت رحمها على الماء، يُقال: أُرتج عليه، إذا استغلق عليه الكلام. والمُرتجة المُطبقة، أي: أحشاء ناقة مُرتجة، أي: طوت أحشاء نفسها.
ولا يصح (أَمْشَاجٍ) أن يكون تكسيراً له، بل هما مثلان في الإفراد، لوصف المفرد بهما. ومشجه ومزجه بمعنى. والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماءان. وعن ابن مسعود: هي عروق النطفة. وعن قتادة: «أمشاج» : ألوان وأطوار، يريد: أنها تكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة (نَّبْتَلِيهِ) في موضع الحال، أي: خلقناه مبتلين له، بمعنى: مريدين ابتلاءه، كقولك: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، تريد: قاصداً به الصيد غداً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"سلالته" مرفوع بـ "مُرتجة"، أي: مُرتجة سلالته. "على مشج": المشج: المختلط حمرة في بياض، وكل لون من ذلك مشج، والجمع أمشاج، وهو شبه ماء الرجل في بياضه، وماء المرأة في رقته واصفراره. والسلالة: ما ينسل من بين الأصابع من الطين، ومن النُّطفة ما ينسل ويندفق منها. مهين:[حقير] يصف أُنثى قبلت ماء الفحل وحملت منه، يقول: طوت أحشاء أمعاء كأثواب مُرتجة لوقت الولادة، على نُطفة مُختلطة حقيرة. على مشج: صلة "طوت"، أو صلة:"مُرتجة"، أي أغلقت الناقة الرحم بالولد. ويروى:"مُرتجة"، على لفظ الفاعل، و"مهين" بالرَّفع؛ فعلى هذا:"سلالته" مبتدأ، و"مهين" خبره.
قوله: (هي عُروق النُّطفة) في "المطلع"، عن ابن مسعود:"عروق العلق تبدو في النطفة".
قوله: (مررت برجل معه صقر صائداً به غداً)، اعلم أن قوله:{نَّبْتَلِيهِ} هو حال من فاعل {خَلَقْنَا} ، وهو على ظاهر مُشكل، لأن قوله:{فَجَعَلْنَاهُ} عطف على {خَلَقْنَا} بالفاء.
والابتلاء إنما يستقيم إذا حصل للمكلف السمع والبصر، وتأويله على وجوه:
أحدها: أنه من الحال المقدرة، أي خلقنا الإنسان مُقدرين له الابتلاء، فجعلناه سميعاً بصيراً، ليترتب عليه ما قدرنا له من الابتلاء، وإليه ينظر قول القاضي: "نبتليه: في موضع
ويجوز أن يراد: ناقلين له من حال إلى حال، فسمى ذلك ابتلاء على طريق الاستعارة. وعن ابن عباس: نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة. وقيل: هو في تقدير التأخير، يعني: فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه، وهو من التعسف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحال، أي: خلقنا الإنسان مبتلين له، بمعنى: مُريدين اختباره، فجعلناه سميعاً بصيراً، ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات، فهو كالمسبب من إرادة الابتلاء. ولذلك، عُطف بالفاء على الفعل المقيد به، ورُتِّب عليه قوله:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} ، بنصب الدلائل وإنزال الآيات".
وثانيها: أن يكون الابتلاء استعارة للانتقال، استعارة الجحفلة وهي للفرس لشفة الإنسان، على ما سبق في قوله تعالى:{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]؛ استعار الابتلاء للنقل لاستلزام كل منهما ظهور حال غِبَّ حال، ثم سرى منه إلى الفعل على التبعية، فحينئذ يحسن ترتيب ما بعد الفاء على {نَّبْتَلِيهِ}. المعنى: خلقنا الإنسان من نُطفة أمشاج ناقلين له من النُّطفة إلى العلقة ثم إلى المضغة، وهلم جرا، إلى أن جعلناه سميعاً بصيراً.
وثالثها: أن يكون الكلام على التقديم والتأخير، أي: خلقناه من نطفة أمشاج، فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه.
قوله: (هو في تقدير التأخير)، روى الواحدي عن الفراء أنه قال:"المعنى: جعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه. ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء، وهو السمع والبصر". وعلى هذا
[(إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وإمَّا كَفُورًا) 3]
شاكراً وكفوراً: حالان من الهاء في هديناه، أي: مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً. أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع: كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة. ويجوز أن يكونا حالين من السبيل، أي: عرفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً، كقوله:(وهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)[البلد: 10]، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز. وقرأ أبو السمال بفتح الهمزة في (إمَّا)، وهي قراءة حسنة، والمعنى: أما شاكراً فبتوفيقنا، وأما كفوراً فبسوء اختياره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكون فيه قلب وكثرة حذف، لأن الأصل: لأن نبتليه، فحذف حرف الجر، ثم حُذف "أن" ورُفع الفعل؛ فللزوم كثرة الحذف والقلب، قال:"وهو من التعسف".
قوله: (أي: مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً)، فعلى هذا، الهُدى هو الدلالة الموصلة إلى البُغية. قال صاحب "الانتصاف":"هذا من تحريفه، والآية على ظاهرها".
قوله: (أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع)، فعلى هذا: الهُدى: مجرد الدلالة، قال أبو البقاء:" {إمَّا} ها هنا لتفصيل الأحوال، أي: بينا له في كلتي حالتيه".
قوله: (والمعنى: أما شاكراً فبتوفيقنا، وأما كفوراً فبسوء اختياره)، وعن بعضهم: هذا الوجه أقرب إلى التعسف مما ذكره قُبيل هذا في {نَّبْتَلِيهِ} ، لأن ذالك تقديم وتأخير، وهو كثير في الكلام. وفي هذا حذف ذي الحال والعامل وخبر المبتدأ والفاء، إن قُدر: أما إقدارنا إياه فبتوفيقنا، وهو الظاهر في إعرابه. وتعدد المحذوفات سبب ظاهر في التعسف.
الانتصاف: "اختياره هذه القراءة لأجل تقسيم لا يُفيده، فيجوز أن يكون المراد: أما
[(إنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وأَغْلالاً وسَعِيرًا) 4]
ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد. وقرئ: (سَلاسِلَ) غير منون، «وسلاسلاً» ، بالتنوين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاكراً فمثاب، وأما كفوراً فمعاقب". وقال الإمام:"هذه القراءة تُقوي تأويل أهل السنة. المعنى: إنا هديناه السبيل، ثم جعلناه تارة شاكراً وتارة كفوراً، كما في قوله تعالى: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] ".
وقلت: الآية كما سبق، من باب الجمع مع التقسيم مع والتفريق، فمعنى {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}: إنا دللناه على طريقي الخير والشر، بإرسال الرسل وإنزال الكنب ونصب الأدلة، ليمتاز السعيد من الشقي والشاكر من الكفور: أما شاكراً، فبما خلقناه سعيداً، وأما كفوراً، فبإقدارنا إياه شقياً. ثم فرق بينهما بقوله:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} ، وقوله:{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ} .
قوله: (وقُرئ: {سَلَاسِلَا} غير منون، و"سلاسلاً"، بالتنوين)، نافع والكسائي وهشام وأبو بكر، والباقون: بغير تنوين. قال الزجاج: "الأجود أن لا ينصرف، ولكن لما جعلت رأس آية صُرفت، ليكون آخر الآي على لفظ واحد".
وفي الكواشي: "القراءة: "سلاسلاً" منوناً مصروفاً وإن كان جمعاً ليس على وزانه مُفرد، لأن الأصل الصرف. ولذلك طائفة من العرب يصرفون كل ما لا ينصرف، إلا أفعل منك،
وفيه وجهان: أحدهما أن تكون هذه النون بدلاً من حرف الإطلاق، ويجرى الوصل مجري الوقف، والثاني: أن يكون صاحب القراءة به ممن ضري برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وطائفة يصرفونه أيضاً. وقد يُجمع في الحديث: "إنكن أنتن صواحبات يوسف"، وقد جاء: مواليات. وقول من قال: إنها صرفت ليكون أواخر الآي على لفظ واحد فاسد، لأن ذلك إنما يجوز في محل الضرورات، وكذلك قول من قال: إن النون بدل من حرف الإطلاق، فجرى الوصل مجرى الوقف".
وقال صاحب "المطلع": "إن هذا الجمع أشبه الآحاد حتى جمع مرة فقيل: صواحبات يوسف، ومواليات فلان، في جمع الصواحب والموالي؛ فمن حيث جمعوه جمع الآحاد المنصرفة، جعلوه في حكمها فصرفوه".
قوله: (بدلاً من حرف الإطلاق)، عن بعضهم: حرف الإطلاق هو ألف {سَلَاسِلَا} يطلق لسانه، فإذا زيدت النون عند الوصل، صارت النون كالإطلاق عند الوقف. قيل: قوله: "أن يكون صاحب القراءة" إلى آخره، هذا تعليل أبي علي، وهذا ديل على أنه كان يرى الإطلاق لهم زيادة غير موقوفة على النقل المتواتر، وجعل التواتر من جملة غلط اللسان، أي: في القراءة، والأول هو الصحيح.
قوله: (أن يكون صاحب القراءة به ممن ضري برواية الشعر)، الانتصاف: "هو يرى أن القراءات المُستفيضة غير موقوفة على النقل المتواتر، وجعل التواتر من جُملة غلط اللسان.
(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَاسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً *إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) 5 - 10)
(الْأَبْرارَ) جمع برّ أو بارّ، كرب وأرباب، وشاهد وأشهاد. وعن الحسن: هم الذين لا يؤذون الذرّ. والكأس: الزجاجة إذا كانت فيها خمر، وتسمى الخمر نفسها كأسا (مِزاجُها) ما تمزج به (كافُوراً) ماء كافور، وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده. و (عَيْناً) بدل منه. وعن قتادة: تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والحق أنها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي لغةُ من صرف في منثور الكلام جميع مالا ينصرف إلاّ (أَفعل) والقراءات تشتمل على اللغات المختلفة. وقيل: قول من قال: إن القراءات السبع متواترة في ما ليس من قبيل الأداء، كالمدّ والإمالة وتخفيف الهمزة، برخص الزيادة والنقصان في المذكورات.
قوله: (والكأس: الزجاجة إذا كانت فيها خمر)، قال الزجاج ((الكأس الإناء إذا كان فيه الشراب فإذا لم يكن لم يسمّ كأسا)) قال التغلبي:
صددت الكأس عنّا أمّ عمرو**وكان الكأس مجراها اليمينا
وقيل: تخلق فها رائحة الكافور وبياضه وبرده، فكأنها مزجت بالكافور. و (عَيْنًا) على هذين القولين: بدل من محل (مِن كَاسٍ) على تقدير حذف مضاف، كأنه قيل: يشربون فيها خمراً خمر عين، أو نصب على الاختصاص.
فإن قلت: لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولا، وبحرف الإلصاق آخراً؟
قلت: لأن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته؛ وأما العين فبها يمزجون شرابهم، فكان المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل. (يُفَجِّرُونَهَا) يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم (تَفْجِيرًا) سهلاً لا يمتنع عليهم. (يُوفُونَ) جواب من عسى يقول: ما لهم يرزقون ذلك؟ .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: "الكأس: الإناء بما فيه من الشراب، يُسمى كل واحد منهما بانفراده: كأساً. يُقال: كأس خال، ويقال: شربت كأساً، وكأس طيبة يعني بها الشراب، قال تعالى: {وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} [الواقعة: 18] ".
قوله: (و {عَيْنًا} على هذين القولين)، أي: على أن لا يكون {كَافُورًا} اسم عين، بل تكون الخمر قد مُزجت بالكافور، أو خُلق في الخمر رائحته.
فإن قلت: فما الفرق بين الإبدالين؟ قلت: على الأول: {كَافُورًا} علم للعين، فلا يُعتبر فيه معنى هذا الطيب المخصوص، فيصح إبدال {عَيْنًا} من {كَافُورًا}. وعلى الثاني: هذا الطيب منظور فيه، فلا يصح إبداله منه، بل من محل {مِن كَأْسٍ} ، ولما كان المراد بالكأس الخمر، وجب أن يُقدر في البدل مُضاف، بأن يقال: خمر عين، ليصح الإبدال.
قوله: (لأن الكأس مبدأ شُربهم)، الانتصاف:"هذا على القول الأول مُستقيم. أما على أن العين بدل من الكأس، إما لاشتمالها على أوصافه، وهو الكافور المعهود، فلا يتم الجواب بذلك". يريد أن "كأساً"{عَيْنًا} هما مُتحدان حينئذ، فلا يصدق قوله: "لأن الكأس مبدأ
والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات؛ لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله، كان بما أوجبه الله عليه أو في (مُسْتَطِيرًا) فاشياً منتشراً بالغا أقصى المبالغ، من استطار الحريق، واستطار الفجر. وهو من: طار، بمنزلة «استنفر» من: نفر، (عَلَى حُبِّهِ) الضمير للطعام، أي: مع اشتهائه والحاجة إليه، ونحوه (وآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ) [البقرة: 177]، (لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 92] وعن الفضيل بن عياض: على حب الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شربهم، وأما العين فيها يمزجون"، لأن هذه العبارة مُشعرة بالتغاير بين الكأس والعين. "بل الجواب: أنه لما ذكر الشُّرب أولا باعتبار الوقوع في الوجود، ذكره ثانياً مُضمناً للاستدامة، كأنه قال: يشربون منها فيلتذون بها، كذا قال أبو عبيدة".
قال أبو البقاء: " {يَشْرَبُ بِهَا} حال من {يَشْرَبُونَ}؛ أي: يشربون ممزوجاً بها. والأولى أن يكون محمولاً على المعنى؛ أي: يلتذون بها". وقال صاحب "الكشف": "الباء زائدة، أي: يشربها، أي: ماءها".
قوله: (وهو من: طار، بمنزلة "استنفر" من نفر)، أي: استطار من طار، لكن في "استطار" مبالغة، واستنفر ونفر كذلك، لقوله تعالى:{حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ} [المدثر: 50].
قوله: (مع اشتهائه والحاجة إليه)، فيكون من باب التعميم، وقوله:"على حُب الله" هو من باب التكميل، وصفهم اولاً بالجود والبذل، وكمله بأن ذلك عن إخلاص لا رياء فيه.
(وأَسِيرًا) عن الحسن: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: أحسن إليه؛ فيكون عنده اليومين والثلاثة، فيؤثره على نفسه. وعند عامة العلماء: يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. وعن قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه. وعن سعيد بن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة، وعن أبي سعيد الخدري: هو المملوك والمسجون. وسمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أسيراً، فقال:«غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك» . (إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ) على إرادة القول. ويجوز أن يكون قولاً باللسان منعاً لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر؛ لأن إحسانهم مفعول لوجه الله؛ فلا معنى لمكافأة الخلق. وأن يكون قولهم لهم لطفاً وتفقيهاً وتنبيهاً، على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل الرسول: ما قالوا؟ فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار)، قال الزجاج:"الأسير في ذلك الوقت كان من الكفار. وقد مدح الله من يطعم الأسير، وهذا يدل على أن في إطعام أهل الحبوس ثواباً جزيلاً. وأهل الحبوس: الأُسراء". روى محيي السنة عن مجاهد وسعيد بن جُبير وعطاء: "هو المسجون من أهل القبلة، وقال الحسن وقتادة: وفيه دليل على أن إطعام الأسارى وإن كانوا من أهل الشرك حسن، ويُرجى ثوابه".
قوله: (هو الأسير من أهل القبلة)، هذا إنما يستقيم إذا أُنفق الإطعام في دار الحرب من السلم لأسير في أيديهم.
ويجوز أن يكون ذلك بياناً وكشفاً عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئاً. وعن مجاهد: أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه الله منهم فأثنى عليهم. والشكور والكفور: مصدر ان كالشكر والكفر. (إنَّا نَخَافُ) يحتمل: إن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم، لا لإرادة مكافأتكم؛ وإنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدقة. ووصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين: أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم: نهارك صائم؛ روي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، وأن يشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل. والقمطرير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويجوز أن يكون بياناً وكشفاً عن اعتقادهم)، عطف على قوله:"ويجوز أن يكون قولاً باللسان"، يعني: قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} وراد على إرادة القول، وهذا القول يجوز أن يكون بلسان القال، وأن يكون بلسان الحال، والأول على وجهين: أحدهما: يقولون ذلك لئلا يجازيهم المستجدي بالشكر أو بمثله. وثانيهما: يقولون لينبهوهم على ما ينبغي من الإخلاص، قال الزجاج:"وجائز أن يكونوا يُطعمون ولا ينطقون بهذا، ولكن قصدهم في إطعامهم هذا، فترجم عما في قلوبهم، وكذلك: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا}. روى محيي السنة عن مجاهد وسعيد بن جُبير: "إنهم لم يتكلموا به، ولكن علم الله ذلك من قلوبهم فأثنى عليهم". وقلت: دل هذا على إثبات الكلام النفسي.
قوله: (وأن يُشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس)، وعلى الأول من الإسناد المجازي، وعلى هذا من الإستعارة المكنية.
قال الزجاج: يقال: اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت بأنفها؛ فاشتقه من القطر وجعل الميم مزيدة، قال أسد بن ناعصة:
واصطليت الحروب في كل يوم
…
باسل الشر قمطرير الصّباح
[(فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً وسُرُورًا • وجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيرًا • مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا ولا زَمْهَرِيرًا • ودَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً • ويُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ • قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا • ويُسْقَوْنَ فِيهَا كَاسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً • عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً • ويَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا • وإذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا • عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وإسْتَبْرَقٌ وحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا • إنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا) 11 - 22]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وجمعت قُطريها)، الأساس: "يُقال: جمع فلان قُطريه إذا تغير مُغضباً، وأصله في الناقة إذا لقحت فزمت برأسها وشالت بذنبها كبراً. يقال: زم بأنفه: رفع رأسه كِبراً، ورأيته زاماً: شامخاً لا يتكلم.
قوله: (واصطليت الحروب) البيت، اصطلى بهذا الأمر: إذا قاسى حره وشدته، يوم باسل: شديد، ويوم قماطر وقمطرير: شديد، واقمطرَّ يومنا: أي: اشتد، والباسل: الشجاع الذي اشتد كلوحه، وقوله: باسل الشر، كقول الحماسي:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم طاروا إليه زرافات ووُحدانا
(ولَقَّاهُمْ نَضْرَةً وسُرُورًا) أي: أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسروراً في القلوب، وهذا يدل على أن اليوم موصوف بعبوس أهله (بِمَا صَبَرُوا) بصبرهم على الإيثار. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه؛ فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برءا مما بهما، أن يصوموا ثلاثة أيام، فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياماً؛ فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم، فآثروه؛ ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك؛ فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم! وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: أعطاهم بدل عُبوس الفُجار نضرة في الوجوه)، الراغب:"يقال: لقيته بكذا إذا استقبلته به، قال تعالى: {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} [الفرقان: 75]، {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}، وتلقاه كذا، {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ} [النمل: 6]، {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [الأنبياء: 103] ".
فإن قلت: ما معنى ذكر الحرير مع الجنة؟ قلت: المعنى: وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستاناً فيه مأكل هني، وحريراً فيه ملبس بهى. يعني: أن هواءها معتدل، لا حر شمس يحمي ولا شدة برد تؤذي. وفي الحديث: هواء الجنة سجسج، لا حر ولا قر. وقيل: الزمهرير القمر، وعن ثعلب: أنه في لغة طيئ، وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر
…
قطعتها والزمهرير ما زهر
والمعنى: أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها شمس وقمر.
فإن قلت: (ودَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا)، علام عطفت؟ قلت: على الجملة التي قبلها، لأنها في موضع الحال من المجزيين؛ وهذه حال مثلها عنهم، لرجوع الضمير منها إليهم في «عليهم» ، إلا أنها اسم مفرد، وتلك جملة في حكم مفرد، تقديره: غير رائين فيها شمساً ولا زمهريراً، ودانية عليهم ظلالها؛ ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقر ودنو الظلال عليهم وقرئ: «ودانية» بالرفع، على أن «ظلالها» مبتدأ، و «دانية» خبره، والجملة في موضع الحال؛ والمعنى: لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، والحال أن ظلالها دانية عليهم؛ ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وليلة ظلامُها) البيت، اعتكر الظلام: اختلط كأنه تراكم بعضه على بعض نت بُطءِ انجلائه، وزهرت النار زهوراً: أضاءت، وأزهرتها أنا. يقول: رُب ليلة شديدة الظلمة قطعتها بالسُّرى، والحال أن القمر ما طلع وما أضاء.
قوله: (والمعنى: لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا، والحال أن ظلالها دانية)، يُريد: أن "دانية"، إذا قُرئت بالنصب يكون الحال مُفرداً؛ فالواو للعطف على الحال المتقدمة. وإذا
ويجوز أن تجعل (مُتَّكِئِينَ) و (لا يَرَوْنَ) و (ودَانِيَةً) كلها صفات ل- (جَنَّةً). ويجوز أن يكون (ودَانِيَةً) معطوفة على (جَنَّةً)، أي: وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها، على أنهم وعدوا جنتين، كقوله (ولِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46]، لأنهم وصفوا بالخوف:(إنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا)[الإنسان: 10].
فإن قلت: فعلام عطف (وذُلِّلَتْ)؟ قلت: هي، إذا رفعت (ودَانِيَةً)، جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية، وإذا نصبتها على الحال، فهي حال من «دانية» ، أي: تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم، أو معطوفة عليها على: ودانية عليهم ظلالها، ومذللة قطوفها؛ وإذا نصبت (ودَانِيَةً) على الوصف، فهي صفة مثلها؛ ألا ترى أنك لو قلت: جنة ذللت قطوفها كان صحيحاً ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قُرئت بالرفع تكون الجملة الاسمية حالاً؛ فالواو للحال لا للعطف، وذو الحال الضمير في {لَا يَرَوْنَ} ، والحال متداخلة لأن {مُّتَّكِئِينَ} قيل: حال من مفعول {وَجَزَاهُم} ، و {لَا يَرَوْنَ} من ضمير {مُّتَّكِئِينَ}. وإنما قيل:{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ} ، ولم يقل: منهم، لأن الظلال عالية عليهم.
قوله: (أن تجعل {مُّتَّكِئِينَ} و {لَا يَرَوْنَ})، قيل: في جعل {مُّتَّكِئِينَ} صفة ضعف، لأنه حينئذ جار على غير من هو له، فكان يجب إبراز الضمير.
قوله: (جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية)، فيه لطيفة، وهي أن استدامة الظل مطلوبة هناك. واما التذليل للقطف، فهو على التجدد شيئاً غِبَّ شيء، قال الزجاج:"كلما أرادوا أن يقطعوا شيئاً منها ذُلِّلَ لهم ودنا منهم، قعوداً كانوا أو مضطجعين أو قياماً".
وتذليل القطوف: أن تجعل ذللا لا تمتنع على قطافها كيف شاؤوا! أو تجعل ذليلة لهم خاضعة متقاصرة، من قولهم: حائط ذليل، إذا كان قصيراً، (قَوَارِيرَ • قَوَارِيرَ): قرئا غير منونين، وبتنوين الأول، وبتنوينهما. وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق، لأنه فاصلة؛ وفي الثاني لإتباعه الأول، ومعنى (قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ) أنها مخلوقة من فضة، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو تُجعل ذليلة)، قال: الأول: من الذِّلِّ، والثاني: من الذُّلِّ؛ بالضم. قال ابن جني في قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء: 24] بالضم والكسر في "الذل": "الذِّلُّ بالكسر: في الدابة؛ ضد الصعوبة، وبالضم: للإنسان وهو ضد العز؛ كأنهم فرقوا، لأن ما يلحق الإنسان أكبر قدراً مما يلحق الدابة، فاختاروا الضمة لقوتها للإنسان، والكسرة لضعفها للدابة، ولا تستنكر مثل هذا".
قوله: (قُرئا غير مُنونين، وبتنوين الأول، وبتنوينهما)، "نافع والكسائي وأبو بكر: بتنوينهما، ووقفوا عليهما بالألف. وابن كثير: في الأول بالتنوين ووقف عليه بالألف، والثاني بغير تنوين ووقف عليه بغير ألف، والباقون: بغير تنوين فيهما، ووقف حمزة عليهما بغير ألف، ووقف هشام عليهما بالألف صلة للفتحة، ووقف الباقون - وهم أبو عمرو وحفص وابن ذكوان - على الأول بالألف، وعلى الثاني بغير ألف"، قاله صاحب "التيسير".
وقال الزجاج: "من صرف الأول فلأنه رأس آية، ومن صرف الثاني أتبع اللفظ اللفظ، لأن العرب ربما قلبت إعراب الشيء ليتبع اللفظ اللفظ، فيقولون: هذا جُحر ضب خَرِب؛ وإنما الخرب من نعت الجُحر".
فإن قلت: ما معنى «كانت» ؟ قلت: هو من «يكون» في قوله (كُن فَيَكُونُ)[البقرة: 117] أي: تكوّنت قوارير، بتكوين الله تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. ومنه «كان» في قوله:(كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً)، وقرئ:«قوارير من فضة» ، بالرفع على: هي قوارير (قَدَّرُوهَا) صفة ل- «قوارير من فضة» ؛ ومعنى تقديرهم لها: أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدّروا. وقيل: الضمير للطائفين بها، دل عليهم قوله (ويُطَافُ عَلَيْهِم) [الإنسان: 15]، على أنهم قدروا شرابها على قدر الري، وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ولا يعجز. وعن مجاهد: لا تفيض ولا تغيض. وقرئ: «قدروها» ، على البناء للمفعول، ووجهه أن يكون من: قدر، منقولاً من: قدر، تقول: قدرت الشيء وقدرنيه فلان؛ إذا جعلك قادراً له. ومعناه: جعلوا قادرين لها كما شاؤوا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: تكونت قوارير)، "قوارير": حال، كما يقال: خُلِقَتْ قوارير.
قوله: (وقيل: الضمير للطائفين)، أي: الواو في {قَدَّرُوهَا} ، وفي معناه أنشد المصنف لأبي تمام:
فلو صَوَّرت نفسك لم تزدها على ما فيك من كرم الطباع
قوله: (ووجهه أن يكون من قُدر، منقولاً من قدر)، قال صاحب "الكشف":"أو هو من المقلوب، على تقدير: قَدِرت عليهم، أي: على ربهم، كما قالوا: إذا طلعت الجوزاء انتصب العود على الحرباء، أي: انتصب الحرباء على العود".
وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا، سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها، والعرب تستلذه وتستطيبه. قال الأعشى:
كأنّ القرنفل والزنجبيـ
…
ـــل باتا بفيها وأريا مشورا
وقال المسيب بن علس:
وكأن طعم الزنجبيل به
…
إذ ذقته وسلافة الخمر
و(سَلْسَبِيلاً) لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها، يعني: أنها في طعم الزنجبيل وليس فيها لذعه، ولكن نقيض اللذع وهو السلاسة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأريا مشورا)، أي: عسلاً مُستخرجاً من بيت النحل.
قوله: (وقال المسيب بن علس)، قيل: اسمه عمرو؛ وإنما لُقِّب بالمُسيب، لأن أباه أعطاه إبلاً يرعاها، فأبهل أصرتها، فقال له: أحق أسمائك المسيب. الأصرة: جمع صرار، وهو ما يُصر به الضرع، ومعنى أبهل أصرتها: عَطل الحبال التي يُصر بها ضرع الناقة. والضمير في "به" في قوله:
وكأن طعم الزَّنجبيل به
للفم، يصف فم امرأة.
قوله: (وسُلافة الخمر)، السلاف: السائل من عصير العنب قبل أن يُعصر. وقيل: السُّلافة أول ولكل شيء عصرته.
قوله: (وليس فيها لذعة)، اللذع - بالذال المعجمة والعين المهملة -: هو الإحراق.
يقال: شراب سلسلٌ وسلسالٌ وسلسبيل، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية، ودلت على غاية السلاسة، قال الزجاج: السلسبيل في اللغة: صفةٌ لما كان في غاية السلاسة. وقرئ: "سلسبيل"، على منع الصرف، لاجتماع العلمية والتأنيث، وقد عزوا إلى على بن أبى طالبٍ رضي الله عنه أن معناه: سل سبيلاً إليها، وهذا غير مستقيمٍ على ظاهره، إلا أن يراد أن جملة قول القائل: سل سبيلاً، جعلت علماً للعين، كما قيل: تأبط شراً، وذرّى حباً، وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقد عزوا إلى علي رضي الله تعالى عنه) إلى آخره، روى محيي السنة عن مُقاتل بن حيان:"سميت سلسبيلاً لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى اهل الجنان، ويؤيد ذلك قوله: {تُسَمَّى}. وأما إذا جعلت صفة كما قال الزجاج/ فمعنى {تُسَمَّى}: تُوصف". الراغب: "سل الشيء من الشيء نزعه، كسل السيف من الغمد. وتسلسل الشيء: اضطرب، كأنه تصور منه تسلل متردد، فردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه، ومنه السِّلسلة. وماء سَلْسَل: متردد في مقره حتى صفا، قال:
أشهى إلىَّ من الرحيق السَّلسل
وقوله: {سَلْسَبِيلًا} ، أي: سهلاً لذيذاً سلساً، وقيل: هو مركب من سل سبيلاً كالبسملة، وقيل: اسم لكل عين الجرية. وأسلة اللسان: طرفه".
إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح، وهو مع استقامته في العربية تكلفٌ وابتداع؛ وعزوه إلى مثل على رضي الله عنه أبدع، وفي شعر بعض المحدثين:
سل سبيلا فيها إلى راحة النّف-
…
-س براح كأنّها سلسبيل
و(عَيْناً) بدلٌ من (زَنْجَبِيلًا)، وقيل: تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه. أو يخلق الله طعمه فيها. و (عَيْنا) على هذا القول مبدلةٌ من (كَاساً) كأنه قيل: ويسقون فيها كأساً كأس عين، أو منصوبةٌ على الاختصاص؛ شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم باللؤلؤ المنثور. وعن المأمون: أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهلٍ وهو على بساطٍ منسوجٍ من ذهبٍ وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ، فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط، فاستحسن المنظر وقال: لله درّ أبى نواس، وكأنه أبصر هذا حيث يقول:
كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها
…
حصباء درّ على أرض من الذّهب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي شعر بعض المحدثين)، ذكر في "اليتيمة" أنه لحسن بن مطران الشاشي.
قوله: (و {عَيْنًا} بدل من {زَنجَبِيلًا})، وقد مضى مثل هذا الإبدال في قوله تعالى:{مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان: 5].
قوله: (كأن صُغرى وكٌبرى من فواقعها)، "فواقعها": جمع فاقعة، وهي الحُبابة على وجه الخمر والماء، والضمير في "فواقعها" يعود إلى الخمر، قال ابن الأثير:"صُغرى وكُبرى غير جائز؛ فإن "فُعلى" أفعل لا يجوز نزع اللام منها، وإنما يجوز من "فُعلى" التي لا "أفعل" لها
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نحو حُبلى، إلا أن تكون "فُعلى" أفعل مضافة، وهاهنا قد عريت عن اللام والإضافة". وأجاب صاحب "الفلك الدائر":"إنا وجدنا "فُعلى" أفعل في غير موضع، واردة بغير لام ولا إضافة، قال الراجز:
في سعي دُنيا طالما قد مُدت
وقال الآخر:
لا تبخلن بدنيا وهي مُقبلة
والآخر:
وإن دعوت إلى جُلي ومَكرُمة
وقيل: شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه، لأنه أحسن وأكثر ماء (رَأَيْتَ) ليس له مفعولٌ ظاهرٌ ولا مقدرٌ ليشيع ويعم، كأنه قيل: وإذا أوجدت الرؤية ثم، ومعناه: أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيمٍ كثيرٍ وملكٍ كبير، و (ثَمّ) في موضع النصب على الظرف، معناه: في الجنة. ومن قال: معناه: «ما ثم» فقد أخطأ، لأن «ثم» صلة ل- "ما"، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقالوا: طُوبى لك. وفي البيت وجه آخر، وهو ان يجعل "من" في قوله: من فواقعها، زائدة على مذهب الأخفش في الواجب، كقوله تعالى:{فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43]، فعلى هذا هي مضافة في البيت".
قوله: (وقيل: شُبهوا باللؤلؤ الرَّطب إذا نُثر من صدفه)، وعلى هذا: التشبيه في حكم المفرد لأنهم شُبهوا باللؤلؤ، المخصوص. روى محيي السنة عن عطاء:"يريد في بياض اللؤلؤ وحُسنه، واللؤلؤ إذا نُثر من الخيط على البساط، كان أحسن من منظوماً". وعلى الأول مُركب، والوجه مُتعدد؛ لأن الانبثاث على الثاني غير منظور إليه. ويجوز أن يكون مُركباً لتصور النثر من الصدف مع تصوره، ومنه قول البحتري:
إذا نضون شُفوف الرَّيط آونة قشرن عن لؤلؤ البحرين أصدافا
شبه أجسادهن إذا خلعن ثيابهن، بلؤلؤ قُشر عنه الصدف.
(كَبِيراً) واسعاً وهنيئاً.
يروى: "أن أدنى أهل الجنة منزلةً ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه". وقيل: لا زوال له، وقيل: إذا أرادوا شيئاً كان. وقيل: تسلم عليهم الملائكة ويستأذنون عليهم. قرئ: "عاليهم" بالسكون، على أنه مبتدأٌ خبره (ثِيابُ سُندُسٍ)، أي: ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندسٍ. و"عاليهم"بالنصب، على أنه حالٌ من الضمير في (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أو في (حَسِبْتَهُمْ)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({كَبِيرًا}: واسعاً وهنيئاً)، قيل: المراد بالواسع امتداده في الطول والعرض، وبالهنيء سلامته عما ينغص. ثم حقق الأول بقوله:"يروى: أن أدنى" إلى آخره، والثاني بقوله:"لا زوال له"؛ وذلك أن النعمة إذا كانت في معرض الزوال، لا يتلذذ به صاحبه، ولا يستبشر به الاستبشار التام، قال:
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
وإنما فُسر الكبير بالواسع الهنيء لإطلاقه، فاعتبره من جهة اللفظ والمعنى.
وأما رواية قوله: "إن أدنى أهل الجنة منزلة"، [فقد] مضى تخريجه في تفسير قوله تعالى:{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23]، قال القاضي:"وللعارف أكبر من ذلك، وهو أن تنتقش نفسه بجلايا الملك وخفايا الملكوت، فيستضيء بأنوار قُدس الجبروت".
قوله: (قُرئ: "عاليهم" بالسكون)، نافع وحمزة:"عاليهم"، بإسكان الياء وكسر الهاء، والباقون: بفتح الياء وضم الهاء.
أي: يطوف عليهم ولدانٌ عالياً للمطوف عليهم ثيابٌ. أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب سندس. ويجوز أن يراد: رأيت أهل نعيم وملكٍ عاليهم ثيابٌ. و"عاليتهم": بالرفع والنصب على ذلك. و"عليهم". و (خضرٌ وإستبرقٌ) بالرفع، حملاً على الثياب، بالجر على السندس. وقرئ:"وإستبرق" نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي، وهو غلطٌ لأنه نكرةٌ يدخله حرف التعريف؛ تقول: الإستبرق، إلا أن يزعم ابن محيصنٍ أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب)، عطف على {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} ، وهما لف ونشر لما لف أولاً في الحالتين. والفرق أنه إذا كان حالاً من ضمير {عَلَيْهِمْ} ، وهم المؤمنون، كان للمؤمنين ثياب، وهو المراد من قوله:"للمطوف عليهم ثياب". وإذا كان من ضمير {حَسِبْتَهُمْ} ، كان على الغلمان ثياب، وإليه أشار بقوله:"لهم ثياب"، على الابتداء والخبر. "الانتصاف":"في هذا نظر، لأنه جعله داخلاً في مضمون الحسبان، وكيف هذا وهم لابسون السُّندس حقيقة، بخلاف كونهم لؤلؤاً، فإنه تشبيه وتمثيل".
قوله: (و"عاليتهم": بالرفع والنصب على ذلك)، أي: على المذكور من وجه الرفع والنصب.
قوله: (و"عليهم")، أي: وقُرئ: "عليهم"، مكان:"عاليهم".
قوله: (و {خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ}، بالرفع)، حفص: برفعهما، وابن كثير وأبو بكر: بخفض
وقرئ "واستبرق"، بوصل الهمزة والفتح، على أنه مسمى باستفعل من البريق، وليس بصحيح أيضاً، لأنه معربٌ مشهورٌ تعريبه، وأنّ أصله: استبره. (وَحُلُّوا) عطف على (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ)[الإنسان: 15].
فإن قلت: ذكر هاهنا أنّ أساورهم من فضة، وفي موضعٍ آخر أنها من ذهب.
قلت: هب أنه قيل وحلوا أساور من ذهبٍ ومن فضة، وهذا صحيحٌ لا إشكال فيه، على أنهم يسوّرون بالجنسين: إما على المعاقبة، وإما على الجمع، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلي وتجمع بينها، وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران:
سوارٌ من ذهب، وسوارٌ من فضة! (شَراباً طَهُوراً) ليس برجسٍ كخمر الدنيا؛ لأنّ كونها رجساً بالشرع لا بالعقل، وليست الدار دار تكليف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأول ورفع الثاني، وابن عامر وأبو عمرو: برفع الأول وخفض الثاني، وحمزة والكسائي: بخفضهما.
قوله: (كما تزاوج)، بالتاء والزاي والجيم، ويروى:"تُراوح"، بالراء والحاء.
الجوهري: "المُراوحة في العملين: أن يعمل هذا مرة وهذا مرة". "كما تُزاوج" نشر لقوله: "على المعاقبة"، وتجميع لقوله:"على الجمع".
قوله: (بالشرع لا بالعقل)، خبر لـ "أن"، يريد أن كون الخمر رجساً ثابت بحكم الشرع ابتلاء، لأن فيها ما يُنجسه العقل من القاذورات. والآخرة ليست دار ابتلاء واختبار، بل فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فعلى هذا: معنى {طَهُورًا} رفع المانع الشرعي.
أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة، وتدوسه الأقدام الدّنسة، ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها. أو لأنه لا يئول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريحٌ كريح المسك. أي: يقال لأهل الجنة (إِنَّ هذا) وهذا إشارةٌ إلى ما تقدّم من عطاء الله لهم: ما جوزيتم به على أعمالكم وشكر به سعيكم، والشكر مجاز.
[(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) 23 - 26]
تكرير الضمير بعد إيقاعه اسماً ل- "إنّ": تأكيدٌ على تأكيدٍ لمعنى اختصاص الله بالتنزيل، ليتقرّر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: "شراباً طهوراً: يريد به نوعاً آخر تفوق على النوعين المُتقدمين، ولذلك أسند سقيه إلى الله سبحانه وتعالى، ووصفه بالطهورية؛ فإنه يُطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية، والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله، مُلتذاً بلقائه، باقياً ببقائه، وهي مُنتهى درجات الصديقين، ولذلك ختم به على ثواب الأبرار".
قوله: (الأيدي الوضرة)، الجوهري:"الوضر: الدرن والدَّسم"، قال:
أباريق لم يعلق بها وضر الزُّبد
لم يكن تنزيله على أي وجهٍ نزل إلا حكمةً وصواباً، كأنه قيل: ما نزّل عليك القرآن تنزيلاً مفرقاً منجماً إلا أنا لا غيري، وقد عرفتني حكيماً فاعلاً لكل ما أفعله بدواعي الحكمة؛ ولقد دعتني حكمةٌ بالغةٌ إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافة والمصابرة، وسأنزل عليك الأمر بالقتال والانتقام بعد حين (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح، وتأخيره نصرتك على أعدائك من أهل مكة؛ ولا تطع منهم أحداً قلة صبرٍ منك على أذاهم وضجراً من تأخر الظفر، وكانوا مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه يدعونه إلى أن يرجع عن أمره، ويبذلون له أموالهم وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما نزل عليك القرآن تنزيلاً مُفرقاً مُنجماً إلا أنا لا غيري)، هو نحو قولك: ما يقوم إلا زيد لا عمرو، وقد منعه صاحب "المفتاح".
قوله: (وقد عرفتني حكيماً)، حال من فاعل "نَزَّلَ"، وإنما اعتبر في الآية معنى الحكمة، ليترتب عليه قوله:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} .
قوله: (بالمُكافة)، أي: كف الحرب من الطرفين. الأساس: "صافوهم ولافوهم ثم كافوهم، أي: حاجروهم، وتكافوا: تحاجروا".
قوله: ({فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} الصادر عن الحكمة)، أي: نحن نزلنا الأمر بالمكافة والمصابرة، فلا تطلب وجه حكمة في ترك القتال.
قوله: (ويبذلون له أموالهم)، روى محيي السنة عن مُقاتل: أراد بـ "الآثم" عُتبة بن ربيعة، وبـ "الكفور" الوليد بن المغيرة، قالا للنبي? : إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال،
فإن قلت: كانوا كلهم كفرة، فما معنى القسمة في قوله (آثِماً أَوْ كَفُورا)؟
قلت: معناه ولا تطع منهم راكباً لما هو إثمٌ داعياً لك إليه، أو فاعلاً لما هو كفرٌ داعياً لك إليه؛ لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعلٍ هو إثمٌ أو كفر، أو غير إثمٍ ولا كفر، فنهى أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث. وقيل: الآثم عتبة؛ والكفور: الوليد؛ لأنّ عتبة كان ركاباً للمآثم، متعاطياً لأنواع الفسوق؛ وكان الوليد غالباً في الكفر شديد الشكيمة في العتوّ.
فإن قلت: معنى "أو": ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو ليكون نهياً عن طاعتهما جميعاً؟
قلت: لو قيل: ولا تطعهما، لجاز أن يطيع أحدهما؛ وإذا قيل: لا تطع أحدهما، علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما، عن طاعتهما جميعاً أنهى .....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فارجع عن هذا الأمر، قال عتبة: فأنا أُزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر، وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى، فارجع عن هذا الأمر، فأنزل الله هذه الآية".
قوله: (معناه: ولا تُطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً لك إليه، أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه)، قال القاضي:"التقسيم باعتبار ما يدعونه إليه؛ فإن ترتب النهي على الوصفين مُشعر بأنه لأجلهما، وذلك يستدعي أن تكون المطاوعة في الإثم والكفر محظوراً؛ فإن مطاوعتهما فيما ليس بإثم ولا كفر غير محظور".
قوله: (وإذا قيل: لا تطع أحدهما، علم أن الناهي عن طاعة أحدهما: عن طاعتهما جميعاً أنهى)، قيل: جوابه فاسد، لاحتمال أن يكون المطلوب ترك واحد منهما، أي واحد كان، لا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترك كل واحد. ويجوز له الإتيان بواحد منهما، أي واحد كان، بشرط ترك الآخر، لأي الآخر كان. والجواب الصحيح أن "أو" في الإثبات تفيد أحد الأمرين، وفي النفي تُفيد نفي كلا الأمرين جميعاً.
وقلت: هذا السؤال مبني على أن "أو" للتخيير، وهو عين السؤال الذي أورده المصنف، حيث قال:"معنى {أَوْ}: ولا تطع أحدهما، فهلا جيء بالواو" إلى آخره.
واعلم أن جواب المصنف إنما يتمشى إذا حققنا القول في هذا المقام، وذلك أن السؤال الأول وارد على إرادة العموم في قوله:{آثِمًا أَوْ كَفُورًا} ، لقوله:"كانوا كلهم كفرة". و {أَوْ} للتنويع لقوله: "فما معنى القسمة؟ "، وكان الوصف بالكفور والآثم علة للنهي كما سبق.
والسؤال الثاني وارد على أن المراد بالآثم عُتبة بعينه، وبالكفور الوليد نفسه. والمراد بالوصفين الذم، فيرد حينئذ السؤال الذي أورده، وتقريره أن "أو" يوهم أن المنهي عنه طاعة أحدهما لا على التعيين، والحال أن كليهما مُستحقان لأن لا يطاعا لما علم من حالهما، ولو جيء بالواو لأُزيل الوهم، ودل على أن السؤالين مُتفرعان على القولين الفاسدين فيهما.
وتقرير هذا الجواب: أن {أَوْ} حينئذ ليست للتخيير حتى يلزمنا ذلك، وإنما هي للإباحة، لما علم أن طاعة كل واحد منهما محترز عنهما، لما فيهما من تعاطي الإثم المبالغ والكفر الغالي. والمقام يقتضي المبالغة في النهي عن طاعتهما مُنفردين ومُجتمعين، ولو قيل: لا تُطعهما، لدل المنطوق على النهي عن طاعتهما مُجتمعين، وأوهم المفهوم جواز طاعة أحدهما فقيل: لا تُطع أحدهما، ليدل المنطوق على النهي عن طاعة أحدهما لا على التعيين، لأن كليهما مُستحقان لأن لا يُطاعا لما علم من حالهما، ولو جيء بالواو لأزيل الوهم ودل على الفحوى بمساعدة مُقتضى المقام على النَّهي عن طاعتهما جميعاً بالطريق الأولى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الزجاج: " {أَوْ} هاهنا أوكد من الواو، لأنك إذا قلت: لا تُطع زيداً وعمراً، فأطاع أحدهما كان غير عاصٍ. فإن أبدلتها بـ "أَوْ"، فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل لأن يُعصى". ويُعلم من هذا التقرير أن "أو" التي للإباحة، إذا دخلت على الإثبات، كان سبيلها هذا السبيل. فإذا قلت: جالس الحسن أو ابن سيرين، علم أن الأمر وارد على استحقاق كل واحد منهما المجالسة، لما فيهما من الفضل والمزية.
ودل على الفحوى على استحقاقهما المجالسة مجتمعين بالطريق الأولى؛ فالإباحة إنما نشأت من أمر خارج لا من اللفظ، كما أن حظر الإباحة عن طاعة عُتبة والوليد، إنما نشأ من أمر خارج، وهو ما فيهما من الإثم والكُفر الغالي. ويُوافقه قول ابن الحاحب:"إن وضع "أو" لإثبات الحُكم لأحد الأمرين، إلا أنه إن حصلت قرينة يُفهم معها أن الأمر غير حاجز عن الآخر، مثل قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين، سُمِّي إباحة، وإن حجز فهو لأحد الأمرين، وإنما أُخذ نفي الحجز عن الآخر من أمر خارج".
وأما قوله: "وقد استشكل بعضهم وقوع {أَوْ} في النهي، في مثل قوله:{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} ، وهاهنا لو انتهى عن أحدهما لم يمتثل، ولا يعد ممتثلاً إلا بالانتهاء عنهما جميعاً، ومن ثم حملها بعضهم على أنها بمعنى الواو، والأولى أن تبقى على بابها. وإنما جاء التعميم فيهما من أمر وراء ذلك، وهو النهي الذي فيه معنى النفي، لأن المعنى قبل وجود النهي: تُطيع آثماً أو كفوراً، أي: واحداً منهما. فإذا جاء النهي، ورد على ما كان ثابتاً في المعنى، فيصير المعنى: ولا تُطع واحداً منهما، فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي، وهي على بابها فيما
كما إذا نهى أن يقول لأبويه: أف، علم أنه منهيٌ عن ضربهما على طريق الأولى. (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) ودم على صلاة الفجر والعصر (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) وبعض الليل فصل له، يعنى: صلاة المغرب والعشاء، وأدخل "مِنَ" على الظرف للتبعيض، كما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكرناه، لأنه لا يحصل الانتهاء عن احدهما حتى ينتهي عنهما بخلاف الإثبات، فإنه قد يفعل أحدهما دون الاخر"، فليس بطائل، والقول ما قالت حذام.
وتلخيصه: أن {آثِمًا} أو {كَفُورًا} ، إذا أريد بهما الجنس كان الوصف علة للنهي، من حيث هو هو لا من حيث الذات، ولذلك جازت الإطاعة إذا فقد. وإذا عُني بهما العهد، كان النهي عن إطاعة الشخصين المعينين لما فيهما من الخلال الذميمة، فلا يعمل بالمفهوم؛ ولا يجوز طاعتهما على أي حال كان؛ فإذن لا مدخل للنهي في العموم.
قوله: (ودُم على صلاة الفجر والعصر، {وَمِنَ الَّيْلِ} وبعض الليل فصَلِّ له، يعني صلاة المغرب والعشاء)، قيل: الليل اسم لسواد ممتد، والليلة اسم لكل الليل، وأتى بصلاتي النهار وصلاتي الليل ولم يظفر بصلاة الظهر. والأقرب من حيث النّظم: أنه تعالى لما نهى
دخل على المفعول في قوله (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ)[نوح: 4]. (وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) وتهجد له هزيعاً طويلاً من الليل: ثلثيه، أو نصفه، أو ثلثه.
[(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً * نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) 27 - 28]
(إِنَّ هؤُلاءِ) الكفرة (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) يؤثرونها على الآخرة، كقوله:(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا)[الأعلي: 16]. (وَراءَهُمْ) قدّامهم أو خلف ظهورهم لا يعبئون به (يَوْماً ثَقِيلًا) استعير الثقيل لشدّته وهو له، من الشيء الثقيل الباهظ لحامله. ونحوه:(ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: 187]. الأسر: الربط والتوثيق، ومنه: أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ وهو الإسار، وفرسٌ مأسور الخلق، وترسٌُ مأسورٌُ بالعقب. والمعنى: شددنا توصيل عظامهم بعضها ببعض، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب، ومثله قولهم: جارية معصوبة الخلق، ومجدولته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حبيبه صلوات الله عليه، عن طاعة الآثم والكفور، وحثه على الصبر على أذاهم وإفراطهم في العداوة، وأراد أن يرشده إلى مشاركتهم، عقب ذلك الأمر باستغراق أوقاته بالاشتغال بالعبادة ليلاً ونهاراً، بالصلوات كلها من غير تخصيص، وبالتسبيح لما يطيق عليه، لقوله تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97 - 98].
قوله: (هزيعاً طويلاً)، الجوهري:"مضى هزيع من الليل، أي: طائفة، وهو نحو من ثُلثُه أو رُبعه".
قوله: (ومَجدولته)، الجوهري:"جدلت الحبل أجدله جدلاً: فتلته فتلاً مُحكماً، ومنه: جارية مجدولة الخلق: حسنة الجدل".
(وَإِذا شِئْنا) أهلكناهم و (بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ) في شدّة الأسر، يعنى: النشأة الأخرى. وقيل: معناه: بدلنا غيرهم ممن يطيع. وحقه أن يجيء بـ "إن" لا بـ "إذا"، كقوله:(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ)[محمد: 38]، (إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ) [النساء: 133].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وحقه أن يجيء بـ "إن" لا بـ "إذا")، قال المصنف:"إذا: تدخل على الكان كقوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1]، و "إن" تدخل على المقدر كقوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19].
هذا رد للوجه الآخر، لأن تبديل أمثالهم العاصين بالمُطيعين في الدنيا مشكوك فيه، فحقه بأن يُجاء بـ "إن"، ليفرض كما يُفرض ما لا تحقق له.
وأما التبديل بالمعنى السابق، وهو تبديل أمثالهم في شدة الأَسْرِ في النشأة الأخرى فمُحقق لا بد منه، فحقه أن يُجاء بـ "إذا".
والتبديل على الوجه الأول التغيير في الصفات، ولذا قال: في شدة الأَسْر، لأن الذات المحشورة هي هذه الذات.
وعلى الوجه الثاني بمعنى التغيير في الذات، ولذلك بدل قوله:"غيرهم" بقوله: "ممن يُطيع".
[(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَما تَشاءون إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) 29 - 31]
(هذِه) إشارةٌ إلى السورة أو إلى الآيات القريبة (فَمَنْ شاءَ) فمن اختار الخير لنفسه؛ وحسن العاقبة. واتخاذ السبيل إلى الله عبارةٌ عن التقربٍ إليه والتوسل بالطاعة (وَما يَشاؤونَ) الطاعة (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) بقسرهم عليها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والوجه هو الأول، لأن الآية واردة عقب قوله:{إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} . أنكر عليهم رُكونهم إلى هذه العاجلة التي هي لا طائل تحتها، بحيث بلغ إلى المحبة الذاتية، وذُهولهم عما هو مصيرهم إليه من الأمر المهول، بحيث بلغ إلى أن جعلوه كالشيء المتروك المنسي، ثم قال: نحن خلقناهم وشددنا توصيل أعصابهم، ليشتغلوا بعبادتنا عن الالتفات إلى الغير ويشكروا تلك النعمة. ولا بد أن يُفكك هذا التركيب، ويُحلل هذا التوثيق، ثم يعيده كما هو الآن في شدة الأَسْر، للمجازاة على ذلك، وحقق ذلك بقوله:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} .
قوله: ("وما يشاؤون" الطاعة {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} بقسرهم عليها)، الإنصاف: "حَرَّف النص؛ والآية حاضرة بالنفي والإثبات، ككلمة لا إله إلا الله، وما ذكره مُضاد للآية بزعمه، فالمعنى عنده أن مشيئة العبد الفعل، لا يكون إلا إذا قسره الله عليه، والقسر ينافي المشيئة، فحاصله أن مشيئة العبد لا توجد إلا إذا انتفت، فأراد إثبات المشيئة مطلقاً، فنفاها
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً) بأحوالهم وما يكون منهم (حَكِيماً) حيث خلقهم مع علمه بهم. وقرئ: (تشآءُون) بالتاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رأساً". وقال الإمام: "هذه الآيات من جملة الآيات، التي تلاطمت فيها أمواج القدر والجبر، فالقدري يتمسك بقوله:{فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} خاتمة السورة، والجبري يقول: من ضم منعها قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} ، خرج منه صريح مذهبنا".
وقلت: وفي إيقاع {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} خاتمة للسورة، إيذان بإثبات الكسب للمُكلفين، وأنهم به يسلكون سبل النجاة، وبه يتذكرون، وينتفعون بإنزال الكتب وإرسال الرسل. ثم في تعقيبها بقوله:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} ، إعلام بأنهم غير مُستقلين فيه، وأن ذلك الكسب أيضاً بمشيئة الله وإرادته، ليكون اعتمادهم عليه، وتفويضهم للأمور إليه، وعلل ذلك بقوله:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} . والاستثناء مُفرغ، قال أبو البقاء:"وما تشاؤون إلا وقت مشيئة الله تعالى، أو إلا في حال مشيئة الله تعالى".
قوله: (وقُرئ: {تَشَاءُونَ})، نافع وعاصم وحمزة والكسائي: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء.
فإن قلت: ما محل (أَنْ يَشاءَ اللَّهُ)؟ قلت: النصب على الظرف، وأصله: إلا وقت مشيئة الله، وكذلك قراءة ابن مسعود: إلا ما يشاء الله؛ لأنّ "ما" مع الفعل ك- "أن" معه. (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ) هم المؤمنون، ونصب "الظَّالِمِينَ" بفعلٍ يفسره. أعدّ لهم، نحو: أوعد وكافأ، وما أشبه ذلك. قرأ ابن مسعودٍ: و"للظالمين"، على: وأعدّ للظالمين، وقرأ ابن الزبير: و"الظالمون" على الابتداء، وغيرها أولى لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة والمعطوف عليها فيها، مع مخالفتها للمصحف.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (هل أتى) كان جزاؤه على الله جنةً وحريراً» .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وغيرها أولى لذهاب الطباق)، يعني: النَّصب والجرُّ أولى من الرفع، لما يلزم من الرفع المخالفة بين الجملتين، فإن قوله:{يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ} فعلية، و "الظالمون" اسمية، فيختارون النصب على معنى: وبررت عمراً: أعددت له بُراً، فلا يختارون للقرآن إلا أجود الوجوه مع موافقة المصحف".
ومن دعاء المصنف: "اللهم ارزقنا جنة وحريراً، وحررنا من النار تحريراً تحريراً".
تمت السورة
بحمد الله وعونه
وحسن توفيقه
*
…
*
…
*
سورة المرسلات
مكيهٌ، وهي خمسون آيةً
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً * فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً * وَالنَّاشِراتِ نَشْراً * فَالْفارِقاتِ فَرْقاً * فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً) 1 - 6]
أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة، أرسلهنّ بأوامره فعصفن في مضيهن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة المُرسلات
خمسون آية، مكية إجماعاً
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي
قوله: (أقسم سبحانه وتعالى بطوائف)، قيل: إنما قال: بطوائف دون طائفة، ليؤذن بأن "المُرْسلات" جمع المُرسلة، نحو: الملائكة المرسلة.
قوله: (فعصفن في مُضِيِّهن)، جعل الفاء عاطفة داخلة بين الصفتين، نحو قال الشاعر:
يا لهف زيابة للحارث الصـ صابح فالغانم فالآيب
كما تعصف الرياح، تخففاً في امتثال أمره، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي، أو نشرن الشرائع في الأرض، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين، ففرّقن بين الحق والباطل، فألقين ذكراً إلى الأنبياء (عُذْرا) للمحقين (أَوْ نُذْرا) للمبطلين.
أو أقسم برياح عذابٍ أرسلهن فعصفن، وبرياح رحمةٍ نشرن السحاب في الجوّ ففرّقن بينه، كقوله:(وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً)[الروم: 48]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: الذي صبح فغنم فآب، والفاء تدل على ترتيب معانيها في الوجود.
قوله: (بما أوحين)، تنازع فيه الفعلان، وكان الترتيب: فألقين ذكراً إلى الأنبياء، ففرقن بين الحق والباطل، لكنه على منوال:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]، أي: أردن أن يفرقن بين الحق والباطل، فألقين ذكراً. وفي قوله: بطوائف منهم، إشارة إلى أن هذه الطوائف، غير تلك الطوائف، والواو عطفت هذه الطوائف على تلك، قال أبو البقاء:"الواو الأولى للقسم وما بعدها للعطف، ولذلك جاءت الفاء".
وقال القاضي: "أو أقسم بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها، فعصفن ما سوى الحق، ونشرن أثر ذلك في جميع الأعضاء، ففرقن بين الحق بذاته والباطل في نفسه، فرأوا كل شيء هالكاً إلا وجهه، وألقين ذكراً بحيث لا يكون في القلوب والألسنة إلا ذكر الله".
قوله: (ففرَّقن بينه)، الضمير عائد إلى السحاب، أي: الرياح الفارقات نشرن السحاب الواحد في الجو، فجعلته قزعة قزعة، وإليه أشار بقوله:{وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} [الروم: 48].
أو بسحائب نشرن الموات، ففرّقن بين هن يشكر لله تعالى وبين من يكفر، كقوله (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) [الجن: 16]، فألقين ذكرا: ً إمّا عذراً للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها، وإما إنذاراً الذين يغفلون الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء، وجعلن ملقياتٍ للذكر لكونهن سبباً في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (نشرن الموات)، الموات: الأرض. الراغب: "الموتان بإزاء الحيوان، وهي الأرض التي لم تحي للزرع، وأرض موات".
قوله: (إما عُذراً للذين يعتذرون) إلى قوله: (وإما إنذاراً للذين يغفلون)، يشعر بأن "أو" للتنويع، ومن ثم قال الدينوري في "مشكل القرآن":"إنّ "أو" بمعنى الواو".
قوله: (للذين يغفلون)، أي: يتركون، يقال: أغفلت الشيء، أي: تركته على ذُكر منك.
قوله: (وجعلن مُلقيات للذكر)، أي: وجعلت السحائب ملقيات للذكر. والذِّكر: التذكير، أي: سبباً للتذكير، وقالت للمكلَّف: إن عرفت شُكر المنعم بي، فأنت معذور، وإن أنكرته فأنت مُعذب. وحاصل الوجوه أن الصفات الخمس، إما مُجراة على الملائكة، أو على الرِّياح أو السَّحاب.
فإن قلت: ما معنى عرفاً؟
قلت: متتابعةً كشعر العرف، يقال: جاءوا عرفاً واحداً؛ وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه، ويكون بمعنى العرف الذي هو نقيض النكر؛ وانتصابه على أنه مفعولٌ له، أي: أرسلن للإحسان والمعروف؛ والأول على الحال. وقرئ: "عرفا" على التثقيل، نحو "نكرٌ" في "نكر".
فإن قلت: قد فسرت "المرسلات" بملائكة العذاب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومعنى {وَالنَّاشِرَاتِ} على الأول: إما نشر الجناح، أو الشرائع، أو النفوس. ومعنى {فَالْفَارِقَاتِ} ، مزاولة التمييز بين الحق والباطل، ويكون إسناد إلقاء الذكر إسناداً إلى الفاعل الحقيقي. وعلى الثاني، إما نشر الرياح السحاب، ومعنى الفارقات محاولة الافتراق بين أجزاء السحاب، أو نشر السحاب الأرض، والفارقات إظهار الفرق بين الشاكر وغير الشاكر. وأما إلقاء الذكر على التقديرين الأخيرين فعلى الإسناد المجازي، والله أعلم.
قوله: (مُتتابعة كشعر العُرف)، قيل: أصله: متتابعة كتتابع شعر العُرف، فحذف "متتابعة"، فبقى "كتتابع"، ثم حُذف المثل، فبقى: تتابع شعر العُرف، ثم حُذف "التتابع"، ثم "الشعر"، فبقى "عُرفاً".
قوله: (والأول على الحال)، قال القاضي:"عُرفاً: إما نقيض النُّكر، وانتصابه على العلة، أي: أُرسلن للإحسان والمعروف. أو بمعنى: المتتابعة، وانتصابه على الحال".
قوله: (قد فُسِّرت "المرسلات" بملائكة العذاب)، ولو قال: برياح عذاب أرسلهن كان أصوب، لأنه ما سبق وجه يدل على هذا التفسير صريحاً.
فكيف يكون إرسالهم معروفاً؟ قلت: إن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروفٌ للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله لهم منهم.
فإن قلت: ما "العذر" و "النذر"، وبما انتصبا؟
قلت: هما مصدران: من: عذر؛ إذا محا الإساءة، ومن: أنذر؛ إذا خوّف على فعل، كالكفر والشكر، ويجوز أن يكون جمع عذير، بمعنى المعذرة؛ وجمع نذيرٍ بمعنى الإنذار، أو بمعنى العاذر والمنذر. وأما انتصابهما فعلى البدل من "ذكرا"ً على الوجهين الأوّلين، أو على المفعول له. وأما على الوجه الثالث، فعلى الحال بمعنى عاذرين أو منذرين. وقرئا: مخففين ومثقلين.
[(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ * فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) 7 - 15]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأما على الوجه الثالث فعلى الحال)، أي: على أن يكونا بمعنى العاذر والمُنذر، قال أبو البقاء:"على أن يكونا جمع عذير ونذير، حالان من الضمير في {فَالْمُلْقِيَاتِ}؛ أي مُعذرين ومُنذرين".
قوله: (وقُرئا مُخففين ومُثقلين)، {عُذْرًا} ، بالتخفيف: هي المشهورة، وبالتثقيل: شاذة. وأما {نُذْرًا} بالتخفيف: ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وهشام وحفص، والباقون: بالتثقيل.
إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة لكائنٌ نازلٌ لا ريب فيه، وهو جواب القسم، وعن بعضهم أن المعنى: ورب المرسلات (طُمِسَتْ) محيت ومحقت، وقيل: ذهب بنورها ومحق ذواتها، موافقٌ لقوله (انْتَثَرَتْ) و (انْكَدَرَتْ). ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور (فُرِجَتْ) فتحت فكانت أبواباً، قال:
الفارجى باب الأمير المبهم
(نُسِفَتْ) كالحب إذا نسف بالمنسف؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهو جواب القسم)، أي: قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} . قال محيي السنة: "إلى هنا أقسام، وذكرها على قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ}، أي: من أمر الساعة والبعث، {لَوَاقِعٌ}: لكائن، ثم ذكر متى يقع، فقال: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} ".
قوله: (ومُحق ذواتها)، الراغب:"المحق النقصان، ومنه المحاق في آخر الشهر إذا مُحق الهلال، يقال: محقه إذا نقصه وأذهب بركته، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَواا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، وقال: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] ".
قوله: (الفارجي باب الأمير المبهم)، ذكر في "الأساس" أن سيبويه أنشده.
فرج الباب: أي فتحه. هو كقوله تعالى: {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} [الحج: 35]، ووقعت النون للإضافة. يصف القوم بالخطر والجاه، وأنهم إذا أتوا باب الأمير يُفتح لهم، وأبهمت الباب: أغلقته، وأمر مبهم: لا مأتى له.
قوله: (بالمنسف)، الجوهري:"هو ما نُسف به الطعام، وهو شيء طويل منصوب الصدر، أعلاه مرتفع".
ونحوه (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا)[الواقعه: 5]، (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا) [المزمل: 14]. وقيل: أخذت بسرعةٍ من أماكنها، من: انتسفت الشيء إذا اختطفته، وقرئت:"طمست": و"فرجت" و"نسفت" مشدّدة.
قرئ: "أقتت" و "وقتت"، بالتشديد والتخفيف فيهما. والأصل: الواو، ومعنى توقيت الرسل: تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم. والتأجيل: من الأجل، كالتوقيت: من الوقت. (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) تعظيم لليوم، وتعجيبٌ من هوله (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) بيانٌ ليوم التأجيل، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق. والوجه أن يكون معنى (وقتت): بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره، وهو يوم القيامة، وأجلت: أخرت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قُرئ: {أُقِّتَتْ}، و "وُقِّتتْ")، أبو عمرو: بالواو، والباقون: بالهمز. قال الزجاج: "فمن قرأ بالهمز، فإنه أبدلها من الواو لانضمامهما، وكل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة، جاز إبدالها بالهمزة".
قوله: (ومعنى توقيت الرُّسل: تبيين وقتها)، قال القاضي:"معناه: عُين لها وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على الأمم بحصوله، فإنه لا يتعين لهم قبله".
قوله: (والوجه أن يكون معنى "وُقتت": بُلِّغتْ)، أي: بُلغت الرُّسل ميقاتها، قال في "الأساس":"شيء موقوت ومُوقت: محدود، وجاؤوا للميقات وبلغوا الميقات". وإنما كان هذا هو الوجه، لأن قوله تعالى:{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} مجمل يشتمل على أمر القيامة وأماراتها؛ فقوله: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} إلى قوله {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} ، تفصيله، وينصره ما نقلناه عن محيي السنة:"ثم ذكر متى يقع؟ فقال: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} ".
فإن قلت: كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)؟ قلت: هو في أصله مصدرٌ منصوبٌ سادٌّ مسدّ فعله، ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه، ونحوه (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الأنعام: 54]، ويجوز: ويلا، بالنصب؛ ولكنه لم يقرأ به، يقال: ويلاً له ويلاً كيلاً.
[(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) 16 - 19]
قرأ قتادة: "نهلك"، بفتح النون، من هلكه بمعنى أهلكه، قال العجاج:
ومهمةٍ هالك من تعرّجا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا ارتياب أنه سبحانه وتعالى مُخبر عن وقوعها وبلوغ ميقاتها، وحضور الرُّسل والشهداء حينئذ فيها، وليس الكلام في تعيين وقتها للرُّسل، وإنما فُسِّر {أُجِّلَتْ} في هذا الوجه بأُخرت ليناسب بلوغ الميقات، وذكر في الأول أن التأجيل من الأجل كالتأقيت من الوقت، ليناسب {أُقِّتَتْ} في كونهما لبيان الوقت، قال الجوهري:"التوقيت تحديد الأوقات، يقال: وَقَّتُّه ليوم كذا، مثل أجَّلته"، واللام للتأريخ.
قوله: (ويلاً كيلاً)، أي: يُكال له الهلاك كيلاً.
قوله: (ومهمه هالك من تعرَّجا)، إن روي:"هالك" مرفوعاً، فهو خبر مبتدأ محذوف، والجملة صفة "مهمه"، وقيل: تعرج: مال. وفي "ديوان الأدب": "تعرج عليه: أي تحبس"، وقيل:"التعريج على الشيء: الإقامة عليه".
(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ) بالرفع على الاستئناف، وهو وعيدٌ لأهل مكة، يريد: ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين، ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم. ويقويها قراءة ابن مسعود:"ثم سنتبعهم"، وقرئ بالجزم عطفاً على (نهلك)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ} بالرفع على الاستناف)، أي: هو معطوف من حيث الحملية كما مر في قوله تعالى {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، أي هم يسلمون. قال أبو البقاء:"أي: ثم نحن نُتبعهم، وليس بمعطوف؛ لأن العطف يوجب أن يكون المعنى: أهلكنا المجرمين ثم أتبعناهم الآخرين في الهلاك، وليس كذلك؛ لأن إهلاك الآخرين لم يقع بعد"، ولهذا قال المصنف:"ثم أتبعهم الآخرين من قوم شعيب".
قوله: (ويُقويها قراءة ابن مسعود)، أي: يُقوي هذه القراءة، لأن معناها التهديد والوعيد لأهل مكة، بخلاف القراءة بالجزم، لأنه إخبار عن أتباع قوم لوط وشعيب وموسى قوم نوح وعاد وثمود في الإهلاك، و {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} تذييل.
قوله: (وقُرئ بالجزم للعطف على {نُهْلِكِ})، قال ابن جني:"وهي قراءة الأعرج وتحتمل أمرين: أحدهما: ان يُراد بها معنى قراءة الجماعة "نُتبعهم" بالرفع، فأسكن العين استثقالاً لتوالي الحركات. والآخر: أن يُجزم عطفاً على "نُهلك"، فيجري مجرى قولك: ألم تزرني ثم أعطك؟ كقولك: فأُعطك؛ يريد أن قوماً أهلكهم الله عز وجل بعد قوم قبلهم، على اختلاف أوقات المرسلين إليهم شيئاً بعد شيء، {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ}؛ المجرمون من يُهلكهم من بعد، ويجوز من مضى".
ومعناه: أنه أهلك الأولين من قوم نوحٍ وعادٍ وثمود، ثم أتبعهم الآخرين من قوم شعيبٍ ولوطٍ وموسى (كَذلِكَ) مثل ذلك الفعل الشنيع (نَفْعَلُ) بكل من أجرم إنذاراً وتحذيراً من عاقبة الجرم وسوء أثره.
[(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ * إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) 20 - 24]
(إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) إلى مقدارٍ من الوقت معلومٍ قد علمه الله وحكم به، وهو تسعة الأشهر، أو ما دونها، أو ما فوقها (فَقَدَرْنا) فقدّرنا ذلك تقديراً (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) فنعم المقدّرون له نحن، أو فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن؛ والأوّل أولى لقراءة من قرأ "فقدّرنا" بالتشديد، ولقوله (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) [عبس: 19].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والأول أولى)، أي: تفسير "قدَرنا" بـ "قدَّرنا" بمعنى التقدير، أولى من تفسيره بقدَرنا من القدرة، بدليل قراءة من قرأ بالتشديد، وبمجيئه في آية أخرى:{مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19].
وقلت: يمكن أن يقال: إن معنى القدرة لازم لمعنى التقدير، وإبرازه في معرض المدح ظاهر، أو لم يضطر إلى تأويل {قَادِرُونَ} بـ "المقدرون"، ولأن إثبات القدرة أولى، لأن الكلام مع المنكرين بخلاف ذلك. قال أبو البقاء:"قدرنا، بالتخفيف، أجود؛ لقوله: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}، ولم يقل: المقدرون. ومن شدد نبه على التكثير واستغنى عن التكثير بتشديد الاسم، والمخصوص بالمدح محذوف، أي: فنعم القادرون نحن".
قوله: (من قرأ: "فقدرنا" بالتشديد). نافع والكسائي، والباقون: بالتخفيف.
[(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً * أَحْياءً وَأَمْواتاً * وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) 25 - 28]
الكفات: من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه، وهو اسم ما يكفت، كقولهم: الضمام والجماع لما يضم ويجمع، يقال: هذا الباب جماع الأبواب، وبه انتصب (أَحْياءً وَأَمْواتاً) كأنه قيل: كافتةً أحياءً وأمواتاً. أو بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه، وهو: تكفت. والمعنى: تكفتُ أحياءً على ظهرها، وأمواتاً في بطنها. وقد استدل بعض أصحاب الشافعي رحمه الله على قطع النباش، بأنّ الله تعالى جعل الأرض كفاتاً للأموات، فكان بطنها حرزاً لهم؛ فالنباش سارقٌ من الحرز.
فإن قلت: لم قيل أحياءً وأمواتاً على التنكير، وهي كفات الأحياء والأموات جميعاً؟
قلت: هو من تنكير التفخيم، كأنه قيل: تكفت أحياءً لا يعدون وأمواتاً لا يحصرون، على أنّ أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات. ويجوز أن يكون المعنى: تكفتكم أحياءً وأمواتاً، فينتصبا على الحال من الضمير؛ لأنه قد علم أنها كفات الإنس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تكفت أحياء على ظهرها)، روى الواحدي عن الفراء أنه قال:"تكفتهم أحياء على ظهرها في دورهم ومنازلهم، وتكفتهم أمواتاً: تحوزهم"، وهذا قول جماعة المفسرين.
قوله: (ويجوز أن يكون المعنى: تكفتكم)، قيل: هو عطف على قوله: "وبه انتصب {أَحْيَاءً} "، والظاهر أنه عطف [على] قوله:"كافتة أحياءً وأمواتاً"، لأنه على الأول
فإن قلت: فالتنكير في (رَواسِيَ شامِخاتٍ) و (ماءً فُراتاً)؟
قلت: يحتمل إفادة التبعيض؛ لأنّ في السماء جبالاً قال الله تعالى: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ)[النور: 43]، وفيها ماءٌ فراتٌ أيضاً، بل هي معدنه ومصبه، وأن يكون للتفخيم.
[(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ • انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ • لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ • إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ • كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ • وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ • هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ • وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ • وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) 29 - 37]
أي يقال لهم: انطلقوا إلى ما كذبتم به من العذاب، و"انطلقوا" الثاني تكرير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منتصب به على المفعولية، وعلى الثاني على الحالية من "كُم" في "تكفتكم"؛ وإنما لم يذكر لأن {كِفَاتًا} دال عليه، وإليه الإشارة بقوله:"لأنه قد عُلم أنها، أي: الأرض، كفات الإنس". وعلى هذا، لا يراد السؤال وهو قوله: لم قيل أحياءً؟ لن المراد بالتنكير بعض الأحياء وهو الإنس، ومن ثم قربه بقوله:"على أن أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء".
قال أبو البقاء: " {أَحْيَاءً}: مفعول {كِفَاتًا}، أو المفعول الثاني لـ "جعل"، أي: جعلنا بعض الأرض أحياءً بالنبات، و"كفاتاً" على هذا: حال"، قال القاضي:"المعنى بالأحياء: ما ينبت، وبالأموات: ما لا ينبت"، وقال صاحب "الكشف":"جاز أن يكون {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}، بدلين من {كِفَاتًا} ".
قوله: (فالتنكير)، الفاء متفرع على الجواب عن السؤال الأول، أي: عُلم معنى التنكير فيهما بما ذكر، فما معنى التنكير في هذين؟
وقرئ: "انطلقوا" على لفظ الماضي إخباراً بعد الأمر عن عملهم بموجبه، لأنهم مضطرون إليه لا يستطيعون امتناعاً منه (إِلى ظِلٍ) يعنى دخان جهنم، كقوله:(وظل من يحموم)[الواقعة: 43]. (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) بتشعب لعظمه ثلاث شعب، وهكذا الدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب. وقيل: يخرج لسانٌ من النار فيحيط بالكفار كالسرادق، ويتشعب من دخانها ثلاث شعب، فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم؛ والمؤمنون في ظل العرش (لا ظَلِيلٍ) تهكمٌ بهم وتعريضٌ بأن ظلهم غير ظل المؤمنين (وَلا يُغْنِي) في محل الجر، أي: وغير مغنٍ عنهم من حرّ اللهب شيئاً. (بِشَرَرٍ)، وقرئ:"بشرار"(كَالْقَصْر) أي: كل شررةٍ كالقصر من القصور في عظمها. وقيل: هو الغليظ من الشجر، الواحدة قصرة، نحو: جمرةٌ وجمر. وقرئ: "كالقصر" بفتحتين: وهي أعناق الإبل، أو أعناق النخل، .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين)، يعني: أدمج في معنى {لَّا ظَلِيلٍ} معنيين: أحدهما: التهكم بهم، لأن مفهوم الظل للاسترواح وهاهنا عكسه، كما في قوله:{وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 43 - 44]. وثانيهما: تعريض بأن للمؤمنين ظلاً على خلافه، ليزيد في تحسرهم وتشويرهم، ومن ثم قال:"فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم، والمؤمنون في ظل العرش".
قوله: (أي: وغير مُغن عنهم)، قيل: هو من قولهم: أغن عني وجهك، أي: أبعده، ويقال: ما يُغني عنك هذا، أي: ما يُجزئ عنك ولا ينفعك، لأن الغني عن الشيء يباعده، كما أن المحتاج إليه يقاربه؛ وإنما عُدي بـ "عن" ليضمنه معنى "مُبعد".
قوله: (وهي أعناق الإبل، أو أعناق النَّخل)، وإنما كرر الأعناق، ليؤذن بأن الأول غير الثاني. الأساس: "ومن المجاز: أتاتي عنق من الناس، وأقبلت أعناق الرجال، قال العجاج:
حتى بدت أعناق صبح أبلجا
نحو: شجرةٌ وشجر. وقرأ ابن مسعود: ك- "القصر" بمعنى القصور، كرهنٍ ورهن. وقرأ سعيد ابن جبيرٍ:"كالقصر" في جمع قصرة، كحاجةٍ وحوج (جِمالَتٌ) جمع جمال، أو جمالةٌ جمع جمل؛ شبهت بالقصور، ثم بالجمال لبيان التشبيه؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كحاجة وحوج)، وفيه بحث، لأنه لا يجيء مثل هذا الجمع إلا وتقلب واوه ياء، قال في "المفصل" في إعلال العين:"قالوا: تير وديم لإعلال الواحد والكسرة". وجاء في "الصحاح": "الحاجة تجمع على حاج وحاجات وحوج وحوائج". وقيل: لا يبعد أن يقال: هذا الإعلال مشروط بأن يكون هذا الألف في الجمع وإن لك يُذكر في "المفصل"، يدل عليه قول الجوهري:"أصل تير: تيار".
قوله: (ثم بالجمال لبيان التشبيه)، فالضمير في {كَأَنَّهُ} راجع إلى الشرر باعتبار اللفظ، وكذا عن محيي السنة. أي: شُبهت الشرر بالقصور، ثم شبهت بالجمال، ليبين أن المراد من التشبيه الأول هو العظم مع اللون؛ فالجمال والقصر سيان باعتبار العظم، ثم ضم معه {صُفْرٌ} ، فيكون التشبيه الثاني مع الأول، كبدل الاشتمال في نحو: أعجبني زيد كرمه. وعن بعضهم: المراد بقوله لبيان التشبيه تعيين التشبيه وتأكيده، وقال أيضاً:{كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} بيان للتشبيه الأول، ولو لم يكن بياناً لكان بدلاً، وهو لا يجوز.
ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ألا تراهم يشبهوم الإبل بالأفدان)، تعليل لادعاء المساواة بين الجمل والقصر؛ فإن الجمل مثل في العظم، قال:
جِسم الجمال وأحلام العصافير
ولما أن التشبيه الأول كالتوطئة والتمهيد للثاني، قال:"وقد عمى عن قوله: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ}؛ فإنه بمنزلة قوله: كبيت أحمر"، يعني: كطراف. يعني: نظر أبو العلاء إلى التشبيه الأول الذي هو كالتوطئة، وتبجح أن تشبيهه أجمع، ولم ينظر إلى التشبيه الثاني الذي هو المقصود بالذكر. قال الإمام:"شبه الشرر في العظم بالقصر، وفي اللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر"، ثم قال:"هذا أولى من قول أبي العلاء، لأن القصر في المقدار أعظم من "الطراف"، فيلزم منه أن النار التي شرارتها القصر، لا تكون إلا مما لا يوصف كنهها، والجمالات أكثر في العدد منه، وفيها تصوير الحركة أيضاً".
وقلت: مرادهم أن ما في التنزيل من التشبيه، أكثر تفصيلاً مما في بيت أبي العلاء، فيكون أدخل في القبول كما نص عليه صاحب "المفتاح". ومن الممكن أن يقال: إن الضمير في
والمجادل؟ وقرئ: "جمالاتٌ" بالضم: وهي قلوس الجسور، وقيل: قلوس سفن البحر، الواحدة جمالة، وقرئ:(جمالة) بالكسر، بمعنى: جمالٌ، و"جمالةٌ" بالضم: وهي القلس. وقيل: (صُفْرٌ) لإرادة الجنس. وقيل (صُفْرٌ): سود تضرب إلى الصفرة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ} عائد إلى "القصر"، فيذهب به إلى تصوير عجيب وتخييل غريب؛ شُبهت الشرارة حين تنقص من النار في عظمها بالقصر. ثم شبه القصر المشبه به حين يأخذ في الارتفاع والانبساط، فإنه حينئذ ينشق عن أعداد لا نهاية لها، بالجمالات المتكاثرة، فيتصور منها حينئذ العظم أولاً، والاتساق مع الكثرة والصُّفرة والحركة المخصوصة ثانياً، فيبلغ التشبيه إلى الذروة العليا.
قوله: (بالأفدان والمجادل)، الفدن والمجدل: القصر، وليس منه مجدل بالفتح.
قوله: (قُلوس)، هو جمع قلس، وهو حبل تشد به الجسور أو سفن البحار.
قوله: (وقُرئ: {جِمَالَتٌ})، بالكسر والتوحيد: حفص وحمزة والكسائي، والباقون: بالألف على الجمع.
قوله: (وقيل: {صُفْرٌ})، يريد على القراءة بضم الجيم، فإنها لما كانت مُفردة كان المناسب: صفراء، لكن جُمع بالنظر إلى إرادة الجنس.
وفي شعر عمران بن حطانٍ الخارجي:
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم
…
بمثل الجمال الصّفر نزّاعة الشّوى
قال أبو العلاء:
حمراء ساطعة الذّوائب في الدّجى
…
ترمى بكلّ شرارة كطراف
فشبهها بالطراف وهو بيت الأدم في العظم والحمرة، وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (دعتهم بأعلى صوتها)، البيت، يصف جهنم ودعاءها الكفار إلى نفسها، مقتبس من قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج: 15 - 17]، قال ابن عباس: تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح، وتقول: إلَّي إلَّي، ثم تلتقطهم كما يلتقط الطَّير الحبَّ.
الشوى: الأطراف، وهي القوائم والجلود. وقيل: الشَّوى: جمع شواة، وهي من جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلاً، يقال: رماه فأشواه إذا لم يُصب مقتلاً، أي: دعتهم نزاعة الشَّوى، وهي لظى، بأعلى صوتها، ورمتهم بشرر كالقصر، كأنه جمالات صُفر.
قوله: (حمراء ساطعة) البيت، قبله:
الموقدي نار القرى الآصال والـ أسحار بالأهضام والأشعاف
الهضم، بالكسر: المطمئن من الأرض، والجمع أهضام وهضوم، والشعفة، بالتحريك: رأس الجبل، والجمع شعف وشعاف. وقوله "حمراء": بدل من "نار القرى"، والطِّراف فيها من الأدم. والمعنى: أنهم يوقدون للأضياف نيراناً عظيمة شرارهاـ مقدار عظمها مقدار عظم "الطِّراف".
قوله: (قصد بخُبثه أن يزيد على تشبيه القرآن)، زعم أنه طغى بتشبيهه على اللون والعظم،
ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة، جاء في صدر بيته بقوله (حمراء) توطئةً لها ومناداةً عليها، وتنبيهاً للسامعين على مكانها، ولقد عمى، جمع الله له عمى الدارين، عن قوله عز وعلا:(كأنه جمالات صفر)؛ فإنه بمنزلة قوله: كبيتٍ أحمر؛ وعلى أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيهاً من جهتين: من جهة العظم، ومن جهة الطول في الهواء، وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس، تشبيهٌ من ثلاث جهات: من جهة العظم والطول والصفرة، فأبعد الله إغرابه في طرافه، وما نفخ شدقيه من استطرافه.
قرئ بنصب "اليوم"، ونصبه الأعمش، أي: هذا الذي قص عليكم واقع يومئذٍ؛ ويوم القيامة طويلٌ ذو مواطن ومواقيت: ينطقون في وقتٍ ولا ينطقون في وقت؛ ولذلك ورد الأمران في القرآن. أو جعل نطقهم كلا نطقٍ؛ لأنه لا ينفع ولا يسمع. (فَيَعْتَذِرُونَ) عطفٌ على (يُؤْذَنُ) منخرطٌ في سلك النفي، والمعنى: ولا يكون لهم إذنٌ واعتذارٌ متعقبٌ له، من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن؛ ولو نصب لكان مسبباً عنه لا محالة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وزاد على ما في التنزيل وليس بذلك، لأنه لا يخفى على مثل المعري أن الكلام بآخره، لأن الله تعالى شبه الشرارة أولاً حين تنقض من النار بالقصر في العظم، وثانياً حين تأخذ بالارتفاع والانبساط فتنشق عن أعداد لا نهاية لها، بالجمالات في التفرق واللون والعظم والثقل، ونظر في ذلك إلى الحيوان وأن تلك الحركات اختيارية، وكل ذلك مفقود في نيته، قال الإمام:"كان الأولى لصاحب "الكشاف" أن لا يذكر أنه ذكره معارضة للقرآن".
قوله: ({فَيَعْتَذِرُونَ} عطف على {يُؤْذَنُ} منخرط في سلك النفي)، قال في قوله:{يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52]: "يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة، وأنهم لو جاؤوا بمعذرة لم تكن مقبولة، لقوله تعالى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} ".
[(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) 38 - 45]
(جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) كلامٌ موضحٌ لقوله: (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ)، لأنه إذا كان يوم الفصل بين السعداء والأشقياء وبين الأنبياء وأممهم، فلا بدّ من جمع الأولين والآخرين، حتى يقع ذلك الفصل بينهم (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) تقريعٌ لهم على كيدهم لدين الله وذويه، وتسجيلٌ عليهم بالعجز والاستكانة (كُلُوا وَاشْرَبُوا) في موضع الحال من ضمير "المتقين"، في الظرف الذي هو في ظلال، أي: هم مستقرّون في ظلالٍ، مقولاً لهم ذلك.
[(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) 46 - 50]
(وكُلُوا وَتَمَتَّعُوا) حال من المكذبين؛ أي: الويل ثابتٌ لهم في حال ما يقال لهم: كلوا وتمتعوا.
فإن قلت: كيف يصح أن يقال لهم ذلك في الآخرة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال صاحب "الكشف": "التقدير: هذا يوم لا ينطقون بنطق ينفعهم، ولا يعتذرون بعذر ينفعهم، فـ "يعتذرون" داخل في النفي، ولو حملته على الظاهر ناقض، لأنه يصير: هذا يوم لا ينطقون فيعتذرون، لأن الاعتذار نطق أيضاً".
وقال أبو البقاء: "ويجوز أن يكون مستأنفاً، أي: فهم يعتذرون، أي: أنهم لا ينطقون في بعض المواقف، وينطقون في بعضها، وليس بجواب النفي، إذ لو كان جواباً لحذل النون".
قوله: (كيف يصح أن يقال لهم ذلك في الآخرة؟ )، لأن قوله:{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} ، مما يقال في حق الكفار في الدنيا لا في الآخرة، لأنهم متمتعون فيها أياماً قلائل.
قلت: يقال لهم ذلك في الآخرة إيذاناً بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم، وكانوا من أهله تذكيراً بحالهم السمجة وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد. وفي طريقته قوله:
إخوتى لا تبعدوا أبداً
…
وبلى والله قد بعدوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتلخيص الجواب، أن هذا القول كالوسم عليهم، وأيما ساعة وأيما شخص وقع نطره إليهم قال ذلك في حقهم، لتهالكهم في مشتهيات العاجلة والذهول عن تبعاتها في الآجلة. وفائدة ذكره في الآخرة، تذكير سوء اختيارهم، وهو إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم، ونحوه قوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْأخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 44 - 45].
روي عن المصنف أنه قال: "اتصال قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} بقوله: {لِّلْمُكَذِّبِينَ}، كأنه قيل: ويل يومئذ للمكذبين الذين كذبوا، وإذا قيل لهم: اركعوا، لا يركعون. ويجوز أن يكون اتصاله بقوله: {إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ} على طريقة الالتفات، كأنه قيل: هو أحقاء بأن يقال لهم: كلوا وتمتعوا، ثم علل ذلك بكونهم مُجرمين، وبكونهم إذا قيل لهم: صلوا، لا يصلون".
قوله: (إخوتي لا تبعدوا)، ليس فيه نهي ولا طلب، لأنهم هلكوا وبعدوا وأبادوا. ثم قوله:
وبلى والله قد بعدوا
تناهي تحسر وتوجع، يعني: أحقاء بأن يقال لكم في أيام حياتكم: لا تبعدوا أبداً،
يريد: كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بذلك، وعلل ذلك بكونهم مجرمين دلالة على أن كل مجرم ماله إلا الأكل والتمتع أياماً قلائل، ثم البقاء في الهلاك أبداً. ويجوز أن يكون (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) [المرسلات: 46] كلاماً مستأنفاً خطاباً للمكذبين في الدنيا (ارْكَعُوا) اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه واتباع دينه، واطرحوا هذا الاستكبار والنخوة، لا يخشعون ولا يقبلون ذلك، ويصرون على استكبارهم. وقيل: ما كان على العرب أشدّ من الركوع والسجود: وقيل: نزلت في ثقيفٍ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد وقع خلاف ما كنتم تستحقونه. وكذا معنى الآية: كنتم في حياتكم وتمتعتم بملاذها، بحيث وجب لكل ناظر أن يقول في حقكم: كلوا وتمتعوا قليلاً، فإن الذي وقعتم فيه منقض، وتبعته لاحقة بكم، والآن وقع ما كنتم تستحقونه.
قوله: (ويجوز أن يكون {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا} كلاماً مُستأنفاً)، هذا يعد من التعسف وأوفق لتأليف النظم، لأنه مذكور بعد ذكر الترجيع، وبعده {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} .
قوله: (وقيل: ما كان على العرب أشد من الركوع والسجود)، قال القاضي في قوله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} : "واستدل به على أن الأمر للوجوب، وأن الكفار مُخاطبون بالفروع".
قوله: (وقيل: نزلت في ثقيف) إلى آخره، مضى بيانه في قوله تعالى:{لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74].
النهاية: "أصل التَّجبية أن يقوم الإنسان قيام الراكع، وقيل: هو أن يضع يديه على رُكبتيه وهو قائم".
حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة، فقالوا: لا نجبي فإنها مسبةٌ علينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا خير في دين ليس فيه ركوعٌ ولا سجودٌ"(بَعْدَهُ) بعد القرآن، يعنى أنّ القرآن من بين الكتب المنزلة آيةٌ مبصرةٌ ومعجزةٌ باهرة، فحين لم يؤمنوا به فبأي كتابٍ بعده (يُؤْمِنُونَ)، وقرئ:" تؤمنون" بالتاء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (والمرسلات) كتب له أنه ليس من المشركين» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يعني أن القرآن من بين سائر الكتب المنزلة آية مبصرة)، وقد سبق في قوله تعالى:{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 13]، أن لفظة "بعد" مثل "ثم" في إعطاء معنى التراخي في الرُّتبة. ولما قرر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة الكريمة من الآيات، ولم يكن في سائر الكتب المنزلة مثل هذه البيانات الشافية، ختمها بهذه الخاتمة مُصدرة بالفاء، مفيدة ما قرره المصنف.
وقال في أُختها في "الأعراف": "كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يُبادرون [إلى] الإيمان بالقرآن قبل الفوت؟ وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق؟ وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا"؛ لأن ما قبلها من حديث الأجل، وهاهنا الحديث بالوعد والوعيد الذي تُلِيَ عليهم في هذه الآيات.
تمت السورة بعون الله تعالى
*
…
*
…
*
سورة عمّ يتساءلون
مكية، وتسمى سورة النبأ
وهي أربعون آيةً أو إحدى وأربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
[(عَمَّ يَتَساءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) 1 - 3].
(عَمَّ) أصله عما، على أنه حرف جرٍ دخل على ما الاستفهامية وهو في قراءة عكرمة وعيسى بن عمر. قال حسان رضي الله عنه:
على ما قام يشتمني لئيم
…
كخنزير تمرّغ في رماد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة النبأ
مكية، وهي أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (وهو في قراءة عكرمة وعيسى بن عمر)، قال ابن جني:"إثبات الألف أضعف اللغتين"، قال الجرجاني:" (ما) الاستفهامية تُحذف ألفها تفرقة بينها وبين كونها خبراً، وقيل: حُذفت الألف بحرف الجر لتؤذن بشدة الاتصال، وقيل: حُذفت لكثرة الدوران".
قوله: (تمرغ في رماد)، مرغته في التراب: قلبته فيه، وتمرغ، ومراغ الدابة: ممرغها.
والاستعمال الكثير على الحذف، والأصل: قليل. ومعنى هذا الاستفهام: تفخيم الشأن، كأنه قال: عن أي شأنٍ يتساءلون؟ ونحوه ما في قولك: زيدٌ ما زيد؟ جعلته - لانقطاع قرينه وعدم نظيره - كأنه شيءٌ خفي عليك جنسه، فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن جوهره، كما تقول: ما الغول وما العنقاء؟ تريد: أي شيء هو من الأشياء هذا أصله؟ ثم جرد للعبارة عن التفخيم، حتى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية (يَتَساءَلُونَ) يسأل بعضهم بعضاً. أو يتساءلون غيرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نحو: يتداعونهم ويتراءونهم. والضمير لأهل مكة: كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث، ويتساءلون غيرهم عنه على طريق الاستهزاء. (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) بيانٌ للشأن المفخم. وعن ابن كثيرٍ قرأ (عمه) بهاء السكت، ولا يخلو: إما أن يجرى الوصل مجرى الوقف، وإما أن يقف ويبتدئ (يَتَساءَلُونَ) على أن يضمر (يَتَساءَلُونَ) لأنّ ما بعده يفسره، كشيء يبهم ثم يفسر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ("ما" في قولك: زيد ما زيد؟ جعلته، لانقطاع قرينه وعدم نظيره، كأنه شيء خفي عليك جنسه، فأنت تسأل عن جنسه)، ومنه حديث عائشة، رواه البخاري في "صحيحه": قالت الحادية عشرة: "زوجي أبو زرع فما أبو زرع؟ أناس من حُلي أُذني، وملأ من شحم عضدي. أُمُّ أبي زرع؟ عكومها رداح، وبيتها فساح. ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة. بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها، وطوع أمها، وملاء كسائها، وغيظ جارتها". النوس: تحرك الشيء متدلياً، أي: أناس أُذُني مما حلاهما من الشُّنوف والقرطة، والعكوم: جمع عِكم، وهو العدل إذا كان فيه متاع، والرَّداح: العظيمة الثقيلة، والمسل: مصدر بمعنى الشَّل، والشَّطبة: السيف، أي: كما سُل السيف من غمده، والجفرة: الأنثى من ولد المعز.
قوله: ({عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}: بيان للشأن المفخم)، يريد أن قوله:{عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} ليس
فإن قلت: قد زعمت أنّ الضمير في يتساءلون للكفار. فما تصنع بقوله (هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)؟
قلت: كان فيهم من يقطع القول بإنكار البعث، ومنهم من يشك. وقيل: الضمير للمسلمين والكافرين جميعاً، وكانوا جميعاً يسألون عنه. أما المسلم فليزداد خشيةً واستعداداً، وأما الكافر فليزداد استهزاء. وقيل: المتساءل عنه القرآن. وقيل: نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وقرئ: (يسّاءلون بالإدغام)، وستعلمون بالتاء.
[(كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) 4 - 5]
(كَلَّا) ردع للمتسائلين هزءوا. و (سَيَعْلَمُونَ) وعيدٌ لهم بأنهم سوف يعلمون أنّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق؛ لأنه واقعٌ لا ريب فيه. وتكرير الردع مع الوعيد تشديد في ذلك، ومعنى (ثُمَّ) الإشعار بأنّ الوعيد الثاني أبلغ من الأوّل وأشد.
[(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً * وَالْجِبالَ أَوْتاداً * وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً * وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً * وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً * وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً * وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً * وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً * وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) 6 - 16]
فإن قلت: كيف اتصل به قوله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهادا).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصلة {يَتَسَاءَلُونَ} ؛ لأنه أخذ صلته وهي {عَمَّ} ، بل هو صلة محذوف، على طريقة الاستئناف، للبيان، فإنه لما قيل: عن أي شيء عظيم يتساءلون وما ذلك الشيء العظيم الذي يتساءلون عنه؟ فقيل: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} ، الذي هو البعث، وإذا وقف على "عمه" يكون صلة للمذكور، ويقدر مثله: لعمه، قال صاحب "الكشف":{عَنِ النَّبَإِ} لا يجوز أن يكون بدلاً من قوله: عمه بتة، لأنه لو كان بدلاً لوجب تكرار حرف الاستفهام؛ لأنه الجار المتصل بحرف الاستفهام إذا أُعيد أُعيد مع الحرف المستفهم به، كقولك: بكم ثوبك؟ أبعشرين أم بثلاثين؟ ولا يجوز: بعشرين، بغير همزة، فيكون متعلقاً بفعل آخر دون هذا الظاهر. وقال أبو البقاء: "يجوز
قلت: لما أنكروا البعث قيل لهم: ألم يخلق من يضاف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة الدالة على كمال القدرة، فما وجه إنكار قدرته على البعث، وما هو إلا اختراعٌ كهذه الاختراعات؟ أو قيل لهم: ألم يفعل هذه الأفعال المتكاثرة. والحكيم لا يفعل فعلاً عبثاً، وما تنكرونه من البعث والجزاء مؤدّ إلى أنه عابثٌ في كل ما فعل؟ (مِهاداً) فراشاً. وقرئ:(مهدا) ومعناه: أنها لهم كالمهد للصبي: وهو ما يمهد له فينوّم عليه، تسميةً للممهود بالمصدر، كضرب الأمير أو وصفت بالمصدر. أو بمعنى: ذات مهدٍ، أي أرسيناها: بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد. (سُباتاً) موتاً. والمسبوت: الميت، من السبت وهو القطع؛ لأنه مقطوعٌ عن الحركة. والنوم: أحد التوفيين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن يكون بدلاً، وألف الاستفهام، التي ينبغي أن تُعاد، محذوفة".
الراغب: "عظم الشيء: أصله كبر عظمه، ثم استعير لكل كبير، فأجري مجراه، محسوساً كان أو معقولاُ، عيناً كان أو معنى، قال تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15]، {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}، والعظيم إذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة، والكبير يقال في المنفصلة، ثم قد يقال في المنفصل: عظيم، نحو، جيش عظيم ومال عظيم، وذلك في معنى الكبير. والعظيمة: النازلة".
وعن بعضهم: الضمير في {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} تأكيد، وفيه معنى الاختصاص، ولم يكن لقريش اختصاص بالاختلاف، لكن لما كان خوضهم فيه أكثر وتعنتهم له أظهر، جعلوا كأنهم مخصوصون به.
قوله: (والنوم أحد التوفيين)، مقتبس من قوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42].
وهو على بناء الأدواء. ولما جعل النوم موتاً، جعل اليقظة معاشاً، أي: حياةً في قوله: (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً)، أي: وقت معاشٍ تستيقظون فيه وتتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم. وقيل: السبات الراحة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (على بناء الأدواء)، يعني: كالسعال والزكام والجذام.
قوله: (ولما جعل النوم موتاً، جعل اليقظة معاشاً، أي: حياة في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا})، راعى المطابقة بين قوله:{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} وبين قوله: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} ، والمطابقة الحقيقية: جعلنا يقظتكم حياة، فوضع موضع اليقظة النهار؛ لأنها تقع فيه غالباً، وموضع حياة: معاشاً، فبقى قوله:{وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا} جملة مستطردة بين القرينتين لذكر النوم في القرينة الأولى، هذا إذا جعل السُّبات بمعنى الموت، وأما إذا جعل بمعنى الراحة، وهو قول الزجاج: السبات: "أن تنقطع الحركة من بدنه بالنوم"، أي: جعلنا نومكم راحة، يكون قوله:{وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، قرينة لقوله:{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} ، فيصح الطباق بين القرينتين الأوليين؛ لأن جل الاستمتاع بين الزوجين في حالة النوم والراحة.
وقال في قوله: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]: "المقيل: المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والتمتع بمغازلتهن وملامستهن"، ومنه قوله تعالى:{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس: 56]، وبين القرينتين التاليتين، وهما:{وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} ؛ لأنهما نحو قوله: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِي} [القصص: 73]، ويؤيده قول الزجاج:{وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاسًا} أي: لتسكنوا فيه.
قوله: (أي وقت معاش)، قيل: المعاش: مصدر، يقال:"عاش يعيش عيشاً ومعاشاً ومعيشة وعيشة".
(لِباساً) يستركم عن العيون إذا أردتم هرباً من عدوّ، أو بياتاً له. أو إخفاء مالا تحبون الاطلاع عليه من كثيرٍ من الأمور.
وكم لظلام اللّيل عندك من يد
…
تخبّر أنّ المانويّة تكذب
(سَبْعاً) سبع سماوات (شِداداً) جمع شديدة، يعنى: محكمةً قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الأزمان. (وَهَّاجاً) متلألئاً وقاداً، يعنى: الشمس: وتوهجت النار: إذا تلمظت فتوهجت بضوئها وحرّها. "المعصرات": السحائب إذا أعصرت، أي: شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أجز الزرع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وكم لظلام الليل عندك من يد) البيت، قال الواحدي: المانوية: أصحاب ماني، وهو يقول بالنور والظلمة، يقولون: الخير كله في النور، والشر كله في الظلمة. ورد عليهم المتنبي فقال: كم من نعمة في الظلام تبين أن هؤلاء الذين نسبوا إليه الشر كله كاذبون، ثم بين تلك النعمة بقوله:
وقاك ردى الأعداء تسري عليهم وزارك فيهم ذو الدلال المُحجب
وذكر سر النور بقوله:
ويوم كليل العاشقين كمنته أراقب فيه الشمس أيان تغرب
قوله: ({وَهَّاجًا}: متلألئاً)، الراغب:"الوهج: حصول الضوء والحر من النار، والوهجان كذلك، وقوله تعالى: {سِرَاجًا وَهَّاجًا}، أي: مضيئاً. وقد وهجت النار توهج، ووهج يهج، وتوهج اللؤلؤ: تلألأ".
إذا حان له أن يجز. ومنه: أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض. وقرأ عكرمة: (بالمعصرات)، وفيه وجهان: أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، وأن تراد السحائب؛ لأنه إذا كان الإنزال منها فهو بها، كما تقول: أعطى من يده درهماً، وأعطى بيده، وعن مجاهد: المعصرات الرياح ذوات الأعاصير. وعن الحسن وقتادة: هي السماوات. وتأويله: أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب، فكأنّ السماوات يعصرن، أي: يحملن على العصر ويمكنّ منه.
فإن قلت: فما وجه من قرأ: (مِنَ الْمُعْصِراتِ) وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير، والمطر لا ينزل من الرياح؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرأ عكرمة: "بالمعصرات")، قال ابن جني:"وهي قراءة ابن الزبير وابن عباس وغيرهما، ولم يذكر عكرمة، وقال: إذا نزل الماء منها فقد أنزل بها، كقولهم: أعطيته من يدي درهماً وبيدي درهماً، المعنى واحد، وليس "من" هاهنا مثلها في قولهم: أعطيته من الدراهم؛ لأن "من" فيه تبعيضية، وليس المراد أن الدراهم بعض اليد، لكن المراد أن ابتداء العطية من اليد"، فقول المصنف:"إذا كان الإنزال منها فهو بها"، إيذان بأن "من" الابتدائية فيها معنى السببية، كما مر في قوله:{أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [المائدة: 83] أي: من أجله وبسببه، فإذن هي والباء من وادٍ واحد.
قوله: (أي: يحملن على العصر)، يعني: أن المعصرات على الحقيقة هي الرياح؛ لأنها تعصر السحاب لتمطر، وسميت السماء بالمعصرات، لما أن الماء إنما ينزل منها إلى السحاب، فيتمكن الرياح حينئذ من العصر، ولولاها لم يتمكن منه، فأسند إليه، فالهمزة في الإعصار: للتعدية.
قوله: (ذوات الأعاصير)، الجوهري:"الإعصار: ريح تثير الغبار، فيرتفع إلى السماء كأنه عمود، ويقال: هي ريح تثير سحاباً ذات رعد وبرق وتعصر".
قلت: الرياح هي التي تنشئ السحاب وتدرّ أخلافه فصحّ أن تجعل مبدأ للإنزال؛ وقد جاء أنّ الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب، فإن صحّ ذلك فالإنزال منها ظاهر.
فإن قلت: ذكر ابن كيسان أنه جعل المعصرات بمعنى المغيثات، والعاصر هو المغيث لا المعصر. يقال: عصره فاعتصر.
قلت: وجهه أن يريد اللاتي أعصرن، أي حان لها أن تعصر، أي: تغيث، (ثَجَّاجاً) منصباً بكثرة يقال: ثجه وثج نفسه، وفي الحديث:(أفضل الحج: العجّ والثجّ) أي رفع الصوت بالتلبية، وصب دماء الهدى. وكان ابن عباسٍ مثجا يسيل غرباً، يعنى يثج الكلام ثجاً في خطبته. وقرأ الأعرج:(ثجاجا)، ومثاجح الماء: مصابه، والماء ينثجح في الوادي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بمعنى المغيثات)، الراغب:"الغيث: يقال في المطر، والغوث: في النصرة، واستغثته: طلبت الغيث منه والغوث، فأغاثني: من الغوث، وغاثني: من الغيث".
قوله: (اللاتي أعصرن)، فيكون "أعصر" على هذا غير الأول، إذ "المعصرات" يراد بها الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب، فالهمزة للحينونة لا للتعدية، وعن بعضهم: القبول والصبا بمعنى واحد، وهي من المشرق، وهي تجمع السحاب، والجنوب تعصرها وتحلبها، وهي من القبلة، والدَّبور من المغرب، وهي معاونة القبول، والشمال تفرقها. والعصر والحلب ها هنا: الاعتماد.
) حَبًّا وَنَباتاً (يريد ما يتقوّت من الحنطة والشعير وما يعتلف من التبن والحشيش، كما قال: ) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ ([طه: 54]، وَ (الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ)[الرحمن: 12]. (ألْفافاً) ملتفةً ولا واحد له، كالأوزاع والأخياف. وقيل: الواحد لف. وقال صاحب الإقليد: أنشدنى الحسن بن على الطوسي:
جنّة لفّ وعيش مغدق
…
وندامي كلهم بيضٌ زهر
وزعم ابن قتيبة أنه لفاء ولف، ثم ألفاف: وما أظنه واجداً له نظيراً من نحو خضرٍ واخضار وحمرٍ وأحمار، ولو قيل: هو جمع ملتفةٍ بتقدير حذف الزوائد، لكان قولاً وجيها.
[) َإن يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً *يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَاتُونَ أَفْواجاً *فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً *وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) [17 - 20].
(كان ميقاتاً) كان: في تقدير الله وحكمه حدّاً توقت به الدنيا وتنتهي عنده؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({وَنَبَاتًا} يريد ما يتقوت)، النبات: مصدر أريد به النابت. روي عن المصنف: الاستعارة على ضربين: تارة لمعنى وتارة لغير معنى، فلا يطلب هاهنا معنى في النبات.
قوله: (كالأوزاع والأخياف)، الجوهري:"الأوزاع من الناس: الجماعات، والأخياف: المختلف من الناس، وإخوة أخياف: إذا كانت أمهم واحدة والآباء شتى".
قوله: (جنة لف)، البيت، لف: واحد الألفاف، وعيس مُغدق أي: ناعم. والغدق: الماء الكثير، والندامى: جمع الندمان، يقال: نادمني فلان فهو نديمي وندماني. وبيض: حسان، ورجل أزهر أي: أبيض مشرق الوجه؛ يصف طيب الزمان والمكان وكرم الإخوان.
قوله: (حدا توقت به الدنيا وتنتهي عنده)، الراغب: "الوقت: نهاية الزمان المفروض للعمل، ولهذا لا يكاد يقال إلا مُقيداُ، كقولهم: وقت كذا: جعلت له وقتاً، قال تعالى: {إِنَّ
أو حداً للخلائق ينتهون إليه. َوْ (ويوم يُنْفَخُ) بدل من يوم الفصل، أو عطف بيانٍ، (فَتَاتُونَ فْواجاً) من القبور إلى الموقف أمماً، كل أمّةٍ مع إمامهم. وقيل: جماعاتٍ مختلفة. وعن معاذٍ رضي الله عنه أنه سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معاذ، سألت عن أمرٍ عظيمٍ من الأمور، ثم أرسل عينيه وقال: تحشر عشرة أصناف من أمّتي: بعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسون: أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، وبعضهم عمياً، وبعضهم صماً بكماً، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاةٌ على صدورهم: يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوعٍ من نار، وبعضهم أشدّ نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جباباً سابغةً من قطرانٍ لازقةً بجلودهم؛ فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس. وأما الذين على صورة الخنازير: فأهل السحت. وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا، وأما العمى فالذين يجورون في الحكم، وأما الصمّ البكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوعٍ من نارٍ، فالسعاة بالناس إلى السلطان، وأما الذين هم أشدّ نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله في أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103]، والميقات: الوقت المضروب للشيء، والوعد الذي جعل له وقت، قال تعالى:{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} ، وقد يقال: الميقات: للمكان الذي يجعل وقتاً للشيء، كميقات الحج"، وعن بعضهم: الميقات: علم للحد، كالميعاد: علم للوعد، والميلاد: علم وقت الولادة.
قوله: (أرسل عينيه)، أي: أرسل دمع عينيه.
وقرئ: (وفُتِحَتْ)، والتخفيف بالتشديد. والمعنى: كثرة أبوابها المفتحة لنزول الملائكة، كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة، كقوله:(وفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا)[القمر: 12]، كأن كلهاً عيون تتفجر. وقيل: الأبواب الطرق والمسالك، أي: تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً لا يسدها شيء. (فَكَانَتْ سَرَابًا) كقوله: (فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثًا)[الواقعة: 6]. يعني أنها تصير شيئاً كلا شيء، لتفرق أجزائها وانبثات جواهرها.
[(إنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا • لِلطَّاغِينَ مَآبًا • لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا • لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ولا شَرَابًا • إلاَّ حَمِيمًا وغَسَّاقًا • جَزَاءً وفَاقًا • إنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا • وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا • وكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا • فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إلاَّ عَذَابًا) 21 - 30]
المرصاد: الحد الذي يكون فيه الرصد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({وَفُتِحَتِ}، بالتخفيف والتشديد)، بالتخفيف: حمزة والكسائي وعاصم، والباقون: بالتشديد. وعن بعضهم {وَفُتِحَتِ} معطوف على {فَتَأْتُونَ} ، وليس بشرط أن يتوافقا في الزمان كما يظن من ليس واقفاً على هذا النوع. وقلت: هما متوافقان معنى عند من تدرب في هذا النوع، فإن كلاً من المعطوفين يكتسب من معنى الآخر؛ فإن عطف الماضي على المضارع، الدلالة على أنهما واقعان البتة؛ لأن المخبر صادق، وكون المعطوف عليه مضارعاً، مشعر بأنهما حكايتان للحال الآتية، تصويراً لتينك الحالتين الفظيعنتين في مشاهدة السامع، كما في قوله:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12] والله أعلم.
قوله: (الرصد)، جمع راصد، وهم الحراس. الجوهري:"الرصد: القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع".
والمعنى: أن جهنم هي حد الطاغين الذي يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم. أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها، لأن مجازهم عليها، وهي مآب للطاغين. وعن الحسن وقتادة نحوه، قالا: طريقاً وممراً لأهل الجنة. وقرأ ابن يعمر: (أن جهنم) بفتح الهمزة على تعليل قيام الساعة بأن جهنم كانت مرصاداً للطاغين، كأنه قيل: كان ذلك لإقامة الجزاء. قرئ: (لابِثِينَ) و (لَبِثين)، واللبث أقوى، لأن اللابث من وجد منه اللبث، ولا يقال: لبث؛ إلا لمن شأنه اللبث، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفك منه، (أَحْقَابًا) حقباً بعد حقب، كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية، ولا يكاد يستعمل الحقب والحقبة إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها، والاشتقاق يشهد لذلك .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يرصدون فيه للعذاب)، الجوهري:"الراصد للشيء: الراقب له، والمرصد: موضع الرصد. الأصمعي: رصدته أرصده: ترقبته، وأرصدت له: أعددت له، والمرصاد: الطريق".
قوله: (قُرئ: {لَّابِثِينَ} و "لبثين")، "لبثين": حمزة وحده، قال الزجاج:"لبث الرجل فهو لابث، ويقال: هو لبث بمكان كذا، أي: صار اللبث شأنه". قال صاحب "الكشف": فيه جواز أن يقال: حذراً أموراً، ألا تراه قال:{لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} ؟ ".
قوله: (كلما مضى حُقب تبعه آخر)، قال صاحب "الكشف": ذكر {أَحْقَابًا} للكثرة لا لتحديد اللبث، ألا تراك تقول: لبثت فيها سنين وأعواماً، وأنت لا تريد أنك لم تقم غيرها؟ ".
الراغب: " {أَحْقَابًا} قيل: جمع الحُقُب، أي: الدهر، والحِقبة: ثمانون عاماً، وجمعها حِقَب، والصحيح أن الحِقبة: مدة من الزمان مُبهمة، والاحتقاب: شد الحقيبة من خلف
ألا ترى إلى حقيبة الراكب، والحقب الذي وراء التصدير، وقيل: الحقب ثمانون سنة، ويجوز أن يراد: لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقا، ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب. وفيه وجه آخر: وهو أن يكون من: حقب عامنا؛ إذا قل مطره وخيره، وحقب فلان: إذا أخطأه الرزق، فهو حقب، وجمعه أحقاب، فينتصب حالاً عنهم، يعني لابثين فيها حقيبين جحدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراكب، وقيل: احتقبه واستحقبه"، وقال غيره:{لَّابِثِينَ} : حال مقدرة، أي: عاملين اللبث معتقدين له، و {لَّا يَذُوقُونَ}: حال أخرى مُترادفة أو مُتداخلة، أو استئناف.
قوله: (والحقب الذي وراء التصدير)، الجوهري:"الحقب، بالتحريك: حبل يُشد به الرَّحل إلى بطن البعير كيلا يجتذبه التصدير، وهو الحبل الذي يكون على الصدر".
قوله: (أحقاباً: غير ذائقين)، قيل: على هذا قوله: {لَّا يَذُوقُونَ} حال من الضمير في {لَّابِثِينَ} ، ولا يجوز أن يكون صفة {أَحْقَابًا} ؛ لأنه جار على غير من هو له، فكان يجب إبراز الضمير. وعن بعضهم:{لَّابِثِينَ} : حال مقدرة، أي: عاملين اللبث مقدرين له، كقوله:{خَالِدِينَ فِيهَا} أي: مُقدرين الخلود.
قوله: (ثم يبدلون)، عطف من حيث المعنى على قوله:"لابثين" إلى آخره. والحاصل أنهم يُعذبون في تلك الأحقاب بالحميم والغساق، ثم يُعذبون بعد تلك الأحقاب بأنواع أُخر من العذاب. قال القاضي:"وإن كان من قبيل المفهوم يدل على التناهي، فلا يعارض المنطوق الدال على خُلود الكفار"، وفي هذا الاستثناء تهكم.
قوله: (جحدين)، الجوهري:"الجحد، بفتح الجيم وضمها وسكون الحاء، وبفتح الجيم والحاء أيضاً: قلة الخبر، وجحد الرجل، بالكسر، جحداً فهو جحد: إذا كان ضيقاً قليل الخير".
وقوله: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا ولا شَرَابًا) تفسيراً له، والاستثناء منقطع، يعني: لا يذوقون فيها برداً وروحاً ينفس عنهم حر النار، ولا شراباً يسكن من عطشهم، ولكن يذوقون فيها حميماً وغساقاً وقيل: البرد: النوم، وأنشد:
فلو شئت حرمت النساء سواكم
…
وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
وعن بعض للعرب: منع البرد البرد. وقرئ: (غساقاً) بالتخفيف والتشديد؛ وهو ما يغسق، أي: يسيل من صديدهم. (وفَاقًا) وصف بالمصدر، أو ذا وفاق. وقرأ أبو حيوة:(وفاقاً)، فعال من وفقه كذا. (كِذَّابًا) تكذيباً؛ و (فعال) في باب (فعل) كله فاش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (سواكم) نزلها منزلة الجماعة تعظيماً لها واحتراماً، "نقاخاً": النَّقاح: الماء العذب.
قوله: (وقُرئ: "غساقاً")، بالتشديد: حمزة وحفص والكسائي، والباقون: بالتخفيف.
قوله: ({وِفَاقًا}: وصف بالمصدر)، أي: جزوا جزاءً وفاقاً في عمل. الراغب: "الوفق: المطابقة بين الشيئين، قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا}، يقال: وافقت فلاناً ووافقت الأمر: صادفته، والاتفاق: مطابقة فعل الإنسان القدر، ويقال ذلك في الخير والشر، والتوفيق نحوه لكنه مختص في التعارف بالخير دون الشر، قال تعالى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88] ".
قوله: (و"فعال" في باب "فعَّل" كله فاش"، قال الزجاج: "و {كِذَّابًا} بالتشديد أكثر، وهي في مصادر فعلت أجود من: فعال، ومثل "كذاباً" بالتخفيف قول الأعشى:
فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه"
وقال ابن جني: "قال قُطُرب: قالوا: رجل كذاب: صاحب كذب".
في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره؛ وسمعني بعضهم أفسر آية، فقال: لقد فسرتها فساراً ما سمع بمثله. وقرئ: بالتخفيف، وهو مصدر كذب، بدليل قوله:
فصدقتها وكذبتها
…
والمرء ينفعه كذابه
وهو مثل قوله: (والله أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا)[نوح: 17] يعني: وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً. أو تنصبه بكذبوا، لأنه يتضمن معنى كذبوا؛ لأن كل مكذب بالحق كاذب، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه: وكذبوا بآياتنا، فكاذبوا مكاذبة. أو كذبوا بها مكاذبين؛ لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر، فيبلغ فيه أقصى جهده. وقرئ:(كذاباً)، وهو جمع كاذب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو تنصبه بـ "كذبوا")، أي: يكون مفعولاً مطلقاً من غير تقدير، لكن يُجعل المثقل بمعنى المخفف بطريق اللزوم. قال أبو البقاء:" (كذاباً) بالتخفيف: مصدر "كذب" بالتشديد: إذا تكرر منه الكذب، وهو في المعنى قريب من: كذب".
قوله: (أو تنصبه بـ "كذبوا")، أي: يكون مفعولاً مطلقاً من غير تقدير، لكن يجعل المثقل بمعنى المخفف بطريق اللزوم. قال أبو البقاء:" (كذاباً) بالتخفيف: مصدر "كذب" بالتشديد: إذا تكرر منه الكذب، وهو في المعنى قريب من: كذب".
قوله: (وإن جعلته بمعنى المكاذبة)، أي: إن جعلت كذاباً من باب المفاعلة نحو: ماريته مراءً وقاتلته قتالاً، ثم المفاعلة إما على حقيقته وهو المراد من قوله:"فكاذبوا مُكاذبة"، وتفسيره أنهم كانوا عند المسلمين كاذبين، وكان المسلمون عندهم كاذبين، فبينهم مُكاذبة، وإما على المجاز والمبالغة، وهو المراد من قوله: أو كذبوا بها مُكاذبين، وتفسيره أنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب، ففي الكلام لف ونشر.
قوله: (فعل من يُغالب في أمر): مفعول مطلق لمعنى يتكلمون بما هو إفراط في الكذب.
قوله: (وقُرئ: "كذاباً")، قال ابن جني:"قرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "كُذَّاباً"
أي: كذبوا بآياتنا كاذبين؛ وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب، يقال: رجل كذاب، كقولك: حسان، وبخال؛ فيجعل صفة لمصدر كذبوا، أي: تكذيباً كذاباً مفرطاً كذبه، وقرأ أبو السمال: وكل شيء أحصيناه، بالرفع على الابتداء. (كِتَابًا) مصدر في موضع إحصاء، وأحصينا في معنى كتبنا، لالتقاء الإحصاء، والكتبة في معنى الضبط والتحصيل. أو يكون حالاً في معني: مكتوباً في اللوح وفي صحف الحفظة. والمعنى: إحصاء معاصيهم، كقوله:(أَحْصَاهُ الله ونَسُوهُ)[المجادلة: 6] وهو اعتراض. وقوله: (فَذُوقُوا) مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات، وهي آية في غاية الشدة، وناهيك بـ «لن نزيدكم» ، وبدلالته على أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة. وبمجيئها على طريقة الالتفات شاهداً على أن الغضب قد تبالغ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم:«هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بضم الكاف وتشديد الذال؛ جمع كاذب، منصوب على الحال، أي: كذبوا بآياتنا في حال كذبهم، وقال طرفة:
إذا جاء ما لا بد منه، فمرحباً به حين يأتي لا كذاب ولا علل
وقد يجوز أن يكون وصفاً للمصدر، أي: كذبوا بآياتنا كذاباً كُذابا، أي: كِذاباً مُتناهياً في معناه، فكذاباً حينئذ واحد لا جمع كرجل حُسان ووضاء. ويجوز أن يكون جمع كذب؛ لأنه جعله نوعاً ووصفه بالكذب، أي: كذباً كاذباً، فصار كِذاباً كُذاباً، فافهم ذلك".
قوله: (وبمجيئها على طريقة الالتفات شاهداً على أن الغضب قد تبالغ)، وذلك أنه تعالى لما حكى مآب الطاغين واستمرار لبثهم في جهنم، وأن لا ذوق لهم فيها سوى الحميم والغساق، وعلل ذلك على سبيل الشِّكاية إلى الغير بقوله:{إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} ،
[(إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا • حَدَائِقَ وأَعْنَابًا • وكَوَاعِبَ أَتْرَابًا • وكَاسًا دِهَاقًا • لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا ولا كِذَّابًا • جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) 31 - 36].
(مَفَازًا) فوزاً وظفراً بالبغية. أو موضع فوز. وقيل: نجاة مما فيه أولئك. أو موضع نجاة. وفسر المفاز بما بعده. «والحدائق» : البساتين فيها أنواع الشجر المثمر. و «الأعناب» : الكروم. و «الكواعب» : اللاتي فلكت ثدييهن، وهن النواهد. و «الأتراب»: اللدات. «الدهاق» : المترعة. وأدهق الحوض: ملأه حتى قال: قطني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: لا يخافون أن يُحاسبوا، كناية عن أنهم كانوا ينكرون البعث إنكاراً بليغاً، ثم عظم شأن تكذيبهم رسل الله ووحيه بصيغة التعظيم وأكده بقوله: كذاباً، التفت إليهم قائلاً: فذوقوا أيها الجاحدون المكذبون ذلكم الغساق والحميم، وليس لكم عندي سوى المزيد من أنواع العذاب، هذا كما تشكو إلى الناس جانباً، ثم تقبل عليهم إذا حميت في الشكاية مواجهاً بالتوبيخ والذم وإلزام الحُجة. وأما فائدة الاعتراض بقوله:{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} فللإشعار بأن تكذيبهم البعث والرسل والكتب، إنما نشأ من اعتقادهم أنه تعالى لا يعلم جُزيئات أعمالهم وأعمال الرسل، فلا حساب ولا بعثة ولا كتاب.
قوله: (فلكت ثُديهن)، الجوهري:"فلك ثدي الجارية تفليكاً، وتفلك: استدار".
قوله: (والأتراب: اللدات)، الجوهري:"لدة الرجل: تربه، والهاء عوض من الواو الذاهبة من أوله؛ لأنه من الولادة".
قوله: (حتى قال: قطني)، أنشد الزجاج:
امتلأ الحوض وقال قطني مهلاً رويداً قد ملأت بطني
قطك هذا الشيء، أي: حسبك، وقطني وقطي، وإنما دخلت النون ليسلم السكون الذي بُني الاسم عليه، وهذه النون إنما تدخل الفعل الماضي إذا دخلت ياء المتكلم، نحو: ضربني،
وقرئ: (ولا كِذَّابًا) بالتشديد والتخفيف، أي: لا يكذب بعضهم بعضاً ولا يكذبه. أو لا يكاذبه. وعن علي رضي الله عنه أنه قرأ بتخفيف الاثنين (جَزَاءً) مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله: (إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) كأنه قال: جازى المتقين بمفاز. و (عَطَاءً) نصب بـ (جَزَاءً) نصب المفعول به. أي: جزاهم عطاء. و (حِسَابًا) صفة بمعنى: كافياً،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لتسلم فتحة الياء ولوقاية الفعل من الجر، وقد أدخلوها في أسماء مخصوصة نحو: قدني وقطني وعني ولَدُني، ولا يقاس عليها في الصحاح.
قوله: (وقُرئ: {وَلَا كِذَّابًا} بالتشديد والتخفيف)، الكسائي: بالتخفيف، والباقون: بالتشديد، قيل: ذكر للتشديد معنى، وللتخفيف معنيان، أحدهما: أن يكون مصدر "فعل"، وثانيهما: مصدر "فاعل".
قوله: (بتخفيف الآيتين)، أي: بتخفيف: "كذبوا" و"كذابا"، وفي نسخة "الاثنين"، أي:{كِذَّابًا} في الآيتين.
قوله: ({جَزَاءً}: مصدر مؤكد)، إلى قوله:({عَطَاءً} نصب بـ ({جَزَاءً} نصب المفعول به). قال الزجاج: " ({جَزَاءً}: منصوب بمعنى ({إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا}، أي: جازاهم بذلك جزاءً، وكذلك {عَطَاءً}؛ لأن معنى أعطاهم وجازاهم واحد". وبينه أبو البقاء حيث قال: {عَطَاءً} : اسم للمصدر، وهو بدل من {جَزَاءً} .
وأورد صاحب "الفرائد" على ثول المصنف: المصدر إنما يعمل إذا كان مُنزلاً منزلة "أن" مع الفعل، والمنصوب على المصدر لم يكن واقعاً موقعه، وكذا في "اللباب"، قال:"ويعمل عمل فعله ماضياً كان أو غيره إذا لم يكن مفعولاً مطلقاً". وقال شارحه: "لأنه إذا كان مفعولاً نحو: ضربت ضرباً زيداً، فإن العمل للفعل لا للمصدر لوجهين، أحدهما: أن الفعل هو الأصل، فلا يُعدل عنه إلى الفرع بلا موجب، والثاني: أن المصدر إنما يعمل لكونه مصدراً
من: أحسبه الشيء؛ إذا كفاه حتى قال: حسبي. وقيل: على حسب أعمالهم. وقرأ ابن قطيب (حسابا) بالتشديد، على أن الحساب بمعنى المحسب، كالدراك بمعنى المدرك.
[(رَبِّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا • يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والْمَلائِكَةُ صَفًا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وقَالَ صَوَابًا • ذَلِكَ اليَوْمُ الحَقُّ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ مَآبًا) 37 - 39].
قرئ: (رب السموات) و (الرحمن) بالرفع، على: هو رب السموات الرحمن. أو (رب السموات) مبتدأ، و (الرحمن) صفة، و (لا يَمْلِكُونَ): خبر، أو هما خبران. وبالجر على البدل من (رَبِّكَ)، وبجر الأول ورفع الثاني على أنه مبتدأ خبره (لا يَمْلِكُونَ)، أو هو الرحمن لا يملكون، والضمير في (لا يَمْلِكُونَ) لأهل السماوات والأرض، أي: ليس في أيديهم مما يخاطب به الله ويأمر به في أمر الثواب والعقاب خطاب واحد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمعنى "أن" والفعل نحو: أعجبني ضرب زيد عمراً، أي: أن ضرب زيد عمراً، ولا يمكن إذا وقع مفعولاً مطلقاً ذلك، إذ لا يقال: ضربت أن ضرب زيد عمراً، إذ لا يؤكد الفعل بأن بل بالمصدر صريحاً، وإنما يُقدر بالمصدر بـ "أن" والفعل؛ لأن الاسم حقه أن لا يعمل، وأصل العمل للفعل"، والعجب أن الشارح تبع صاحب "الكشاف" في التقريب مع قوله هذا.
قوله: (حتى قال: حسبي)، في "الكواشي": أعطاني فأحسبني، أي: أكثر عليّ، أي: أكثر عليَّ حتى قلت: حسبي.
قوله: (قُرئ: "رب السماوات" و "الرحمن" بالرفع)، الكوفيون وابن عامر:{رَّبِّ} بالخفض، وعاصم وابن عامر:{وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} بالخفض أيضاً، والباقون: برفع الاسمين.
قوله: (ليس في أيديهم مما يُخاطب به الله) إلى قوله: (خطابٌ واحد)، يريد أن التنكير في {خِطَابًا} للتقليل، ومن: بيان، والظرف: حال من {خِطَابًا} . المعنى: ليس في أيديهم خطابٌ كائنٌ من عند الله في أمر الشفاعة قط، أي: ليس لهم ممسك ونص يتصرفون به في أمر الشفاعة.
يتصرفون فيه تصرف الملاك، فيزيدون فيه أو ينقصون منه. أو لا يملكون أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب، إلا أن يهب لهم ذلك ويأذن لهم فيه. (يَوْمَ يَقُومُ) متعلق بلا يملكون، أو بلا يتكلمون. والمعنى: إن الذين هم أفضل الخلائق وأشرفهم وأكثرهم طاعة وأقربهم منه، وهم الروح والملائكة لا يملكون التكلم بين يديه، فما ظنك بمن عداهم من أهل السماوات والأرض؟ والروح: أعظم خلقاً من الملائكة، وأشرف منهم، وأقرب من رب العالمين. وقيل: هو ملك عظيم ما خلق الله بعد العرش خلقاً أعظم منه. وقيل: ليسوا بالملائكة، وهم يأكلون. وقيل: جبريل. هما شريطتان: أن يكون المتكلم مأذونا له في الكلام. وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى، لقوله تعالى (ولا يَشْفَعُونَ إلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى) [الأنبياء: 28].
[(إنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ويَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) 40].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو لا يملكون أن يخاطبوه)، فالتنكير على هذا للنوع؛ ولأن قوله:"أن يُخاطبوه بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب" عبارة عن الشفاعة، ومن: ابتدائية صلة " لا يملكون"، أي: لا يقدرون أن يُخاطبوا الله في الشفاعة، إذ ليس لهم من جهته إذنٌ فيها. روى الواحدي عن مقاتل:"المعنى: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه".
قوله: (فلا يشفع لغير مرتضى)، الانتصاف: هو تعريض أن الشفاعة لا تكون لأرباب الكبائر. والجواب أن المؤمنين مُرتضون، لقوله:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] فجعل الشكر بمعنى الإيمان المقابل للكفر. وقلت: المرتضى هاهنا كالمصطفى في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِي} [فاطر: 32].
وقال الإمام: فإن قيل لما أذن له الرحمن في التكلم، علم أنه حق وصواب، فما الفائدة في قوله:{وَقَالَ صَوَابًا} ؟ الجواب من وجهين، أحدهما: أن التقدير: لا ينطقون إلا بعد
(المَرْءُ) هو الكافر لقوله تعالى: (إنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا)، والكافر: ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم، ويعني (مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ) من الشر، كقوله:(وذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ • ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)[الأنفال: 50 - 51]، (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَذَابَ الحَرِيقِ • ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) [الحج: 9 - 10]، (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [البقرة: 95]، و (ما) يجوز أن تكون استفهامية منصوبة بقدمت، أي ينظر أي شيء قدمت يداه، وموصولة منصوبة بـ «ينظر» ، يقال: نظرته بمعنى نظرت إليه، والراجع من الصلة محذوف، وقيل: المرء عام، وخصص منه الكافر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورود الإذن ثم يجتهدون في أن لا يتكلموا إلا بالحق والصواب، هذا مبالغة في وصفهم بالطاعة، وثانيهما: أن التقدير: لا يتكلمون إلا في شخص أذن له الرحمن في شفاعته، والمشفوع له ممن قال صواباً، وهو قول من قال: لا إله إلا الله؛ لأن قوله: {صَوَابًا} يكفي في صدقه أن يتكلم بالصواب الواحد، فكيف بمن تكلم طول عمره بأشرف الكلمات؟ .
قوله: (وخُصِّص منه الكافر)، يحتمل وجهين، أحدهما: أن المرء عام وخصص منه الكافر بقوله: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ} ، أو عام متناول للمؤمن والكافر، وخصص منه بالذكر الكافر، وعلى هذا الاحتمال ورد عن الواحدي ومحيي السنة قالا:"ومعنى {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أن كل واحد يرى عمله في ذلك اليوم، ما قدم من خير وشر مُثبتاً عليه في صحيفته، فيرجو ثواب الله لى صالح عمله، ويخاف العقاب على سوء عمله". وقلت: النظم يساعد العموم، وذلك أنه تعالى ذكر في فاتحة هذه السورة، أن الميقات المضروب هو يوم الفصل، ووصف اليوم بصفات متعددة، ومن أوصافه قوله:{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (لِّلطَّاغِينَ مَآبًا} وقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} . ولما فرغ من بيان جزاء الفريقين، أراد أن يرجع إلى ذكر ذلك اليوم ويصفه بصفات أخرى، فجعل التخلص إلى ذكرها إبدال رب السموات
وعن قتادة: هو المؤمن. (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) في الدنيا؛ فلم أخلق ولم أكلف. أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم أبعث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من ربك، ووصف ذاته بالجبروت والكبرياء، وأن أحداً لا يملك منه خطاباً، وجعله ذريعة إلى ذكر اليوم، وأن الملائكة والروح لا يشفعون فيه للمرتضى إلا بالإذن، ثم ذكر أنه يوم الحق، أي الكائن الواقع، أو يحكم الله فيه بين عباده بالحق، كقوله تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} [الزمر: 69]، وهذا أولى لما سبق من ذكر المتقين والطاغين، وبيان مفاز أولئك ومآب هؤلاء، ولذلك رتب عليه قوله:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19]، أي: بينا السبيلين للفريقين، فمن سلك سبيل المتقين واتخذ إلى ربه مآبا، فاز وأفلح، ومن اختار سبيل الطاغين خاب وخسر، فقد أزحنا العلل لأنا أنذرناكم عذاباً قريباً، وجعل تخلصاً إلى ذكر الاختتام بما افتتحت السورة به؛ لأن الظرف صفة لـ "عذاباً"، أي: أنذرناكم عذاباً كائناً هذا شأنه، وهو "يوم ينظر المرء ما قدمت يداه"، مثله في الاختتام:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. وقال الإمام: "الأظهر أن المرء عام؛ لن المكلف إن اتقى الله فليس له إلا الثواب، وإن كفر بالله فليس له إلا العذاب، فلا حال للمكلفين حينئذ سوى هذين؛ فطوبى له إن قدم عمل الأبرار، وويل له إن قدم عمل الفجار".
فإن قلت: لم خص قول الكافرين دون المؤمنين؟ قلت: دل قول الكافرين على غاية الخيبة ونهاية التحسر، ودل حذف قول المؤمن على غاية التبجح ونهاية الفرح مما لا يحيط به الوصف.
قوله: (وعن قتادة: هو المؤمن)، قال الامام:"دل عليه قول الكافر: {يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا}، فلما كان هذا بياناً لحال الكافر وجب أن يكون بياناً لحال المؤمن".
وقيل: يحشر الله الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء، ثم يردّه تراباً، فيود الكافر حاله وقيل: الكافر إبليس، يرى آدم وولده وثوابهم، فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [الأعراف: 12].
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ)، سقاه الله برد الشراب يوم القيامة» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (حتى يقتص للجماء من القرناء)، روينا عن مسلم والترمذي، عن أبي هريرة، في قوله تعالى:{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] قال: قال النبي? : "لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء". الجلحاء: التي لا قرن لها.
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة النازعات
مكية، وهي خمس أو ست وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا • والنَّاشِطَاتِ نَشْطًا • والسَّابِحَاتِ سَبْحًا • فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا • فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا • يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ • تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ • قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ • أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ • يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحَافِرَةِ • أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً • قَالُوا تِلْكَ إذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ • فَإنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ • فَإذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) 1 - 14]
أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة النازعات
مكية، وهي خمسٌ وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (التي تنزع الأرواح من الأجساد)، الراغب: "نزع الشيء: جذبه عن مقره، كنزع القوس عن كبده، ويُستعمل ذلك في الأعراض، ومنه نزع العداوة والمحبة من القلب، ونزع فلان كذا، أي: سُلِبَ، ، قال تعالى:{وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ} [آل عمران: 26]. والتنازع والمنازعة: المجاذبة، ويعبر بهما عن المخاصمة والمجادلة، قال تعالى: {تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
وبالطوائف التي تنشطها؛ أي: تخرجها؛ من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها، وبالطوائف التي تسبح في مضيها، أي: تسرع فتسبق إلى ما أمروا به، فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم كما رسم لهم (غَرْقًا) إغراقاً في النزع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. والنزع عن الشيء: الكف عنه، والنزوع: الاشتياق، وذلك هو المعبر عنه بارتحال النفس مع الحبيب".
قوله: (تنشطها؛ أي: تُخرجها، من: نشط الدلو من البئر)، الأساس:"بئر أنشاط: يخرج دلوها بجذبة واحدة"، وفي "الصحاح":"نشط الدلو من البئر: نزعها من غير بكرة". قال محيي السنة: "الناشطات: الملائكة تنشط نفس المؤمن، أي: تحل حلاً رفيقاً فتقبضها كما ينشط العقال من البعير، أي: يُحل برفق". حكى هذا القول الفراء ثم قال: "والذي سمعت من العرب أن يقولوا: أنشطت العِقال: إذا حللته، ونشطته: إذا عقدته بأنشوطة"، وفي الحديث:"كأنما نُشط من عقال".
قال الإمام: "وهي الملاكة التي تنشط روح المؤمن فتقبضها. فالمناسب أن يخصص هذا بالمؤمن، والأول بالكافر، لما بين النزع والنشط من الفرق، فإن النزع: جذب بشدة، والنشط: جذب برفق ولين".
قوله: (كما رسم لهم)، الجوهري:"رسمت له كذا فارتسمته، أي: امتثلته".
قوله: ({غَرْقًا} إغراقاً في النزع)، قيل:{غَرْقًا} : اسم موضوع للإغراق، كالسلام للتسليم. وعن بعضهم: الإغراق نوع من النزع، والنزع جنس. الأساس: "ومن المجاز: أغرق
أي: تنزعها من أقاصي الأجساد من أناملها وأظفارها، أو أقسم بخيل الغزاة التي تنزغ في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها؛ لأنها عراب. والتي تخرج من دار الإسلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرامي النزع، ومنه الإغراق في القول وغيره، وهو المبالغة والإطناب، وأغرق الكأس: ملأها"، وإلى المبالغة أشار بقوله: "ينزعها من أقاصي الأجساد من أناملها وأظفارها"، أي: موضع أظفارها.
قوله: (نزعاً تغرق فيه الأعنة)، الأساس: نزع الدلو من البئر، ونزع في قوسه، والخيل تنزع في أعنتها، قال:
والخيل تنزع غرقاً في أعنتها كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البر
الشؤبوب: الدفعة من المطر وغيره، وجمعه: الشايب، وفي "في أعنتها" مثلها في قوله:
يجرح في عراقيبها نصلي
وقوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاب: 15]؛ جعل النزه بمنزلة اللازم، ثم عداه بـ "في" مبالغة، تنبيهاً على أن الأعنة: مكان وظرف للنزع، وبهذا الاعتبار كان غرقاً: مفعولاً مطلقاً بمعنى نزعاً تغرق فيه الأعنة، قال أبو البقاء:"غرقاً: مصدر على المعنى؛ لأن النازع هو المغرق في نزع السهم، وهو مصدر محذوف الزيادة، أي: إغراقاً".
إلى دار الحرب؛ من قولك: (ثور ناشط) إذا خرج من بلد إلى بلد، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر، وإسناد التدبير إليها؛ لأنها من أسبابه. أو أقسم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب. وإغراقها في النزع: أن تقطع الفلك كله حتى تنحط في أقصى الغرب، والتي تخرج من برج إلى برج، والتي تسبح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (حتى تنحط في أقصى الغرب)، الأساس:"ومن المجاز: ناقة حطوط: سريعة السير، وحطت في سيرها وانحطت، وحط في عرض فلان: إذا اندفع في شتمه وانحط فيه".
قوله: (والتي تخرج من برج إلى برج)، وهو تفسير لقوله:{وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} ، وهو مأخوذ من قوله: ثور ناشط: إذا خرج من بلد إلى بلد. قال الإمام: "دل قوله: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} على حركتها المخصوصة بها في أفلاكها الخاصة، وهو مناسب؛ لأن حركاتها اليومية قسرية، فيناسب النزع، وحركاتها من برج إلى برج إرادية، فيناسب النشط".
وقلت: فمدخول الفاء في {فَالسَّابِقَاتِ} مسبب عن كونها سابحات، وفي {فَالْمُدَبِّرَاتِ} عن كونها سابقات؛ لأن السبح في الفلك: لما كان سيراً مخصوصاً، والسيارة معلومة الاختلاف في السير بتقدير العزيز العليم، فيحصل وجود سير بطيء وآخ سريع، وذلك هو السبق، وبحسب السبق يتفاوت التدبير، فمن سير الشمس يعلم حساب السنة، وتحصل الفصول الأربعة، ومن سير القمر يعلم حساب الشهر والأيام، وهو المراد من قوله:"وتدبر أمراً من علم الحساب"، والوجوه رواها محيي السنة في "المعالم"، وليس في كلامه أن المدبرات هي النجوم.
وقال الزجاج: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} : النجوم، إلى قوله:{فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} : الملائكة.
وقال الإمام: "اعلم أن الوجوه المنقولة من المفسرين، ليست نصاً عن سيد المرسلين صلوات الله عليه حتى لا يمكن الزيادة عليها، وما ذكروها إنما ذكروها لكون اللفظ محتملاً لها،
في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمراً من علم الحساب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فنحن إن وجدنا بين المعاني مفهوماً مشتركاً، حملنا اللفظ على ما يندرج تحته، ولكن لا نقول: إن مراد الله على هذا الجزم، فيمكن حمل هذه الآيات على المراتب الواقعة في رجوع القلب من غير الله إلى الله، أقسم بالأرواح التي تنزع إلى اعتلاق العروة والوثقى، وتنزع غرقاً من تعلق هذا الأدنى، ثم تنشط وتأخذ في السلوك في الأحوال والمقامات إلى مستقره الأصلي:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 27 - 28]، ثم تسبح في بحار الصفات، فتمحو فيها من صفاتها وتفنى في التوحيد، ثم تسبق بعد الفناء إلى البقاء بالله، ثم تعزم على الرجوع إلى تكميل الغير، فتُدبر أمر الدعوة، إلى الله".
وقال القاضي: "هذه صفات النفوس وحال سلوكها، فإنها تنزع من الشهوات، فتنشط إلى عالم القُدس، فتسبح في مراتب الارتقاء، فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المُكملات".
قوله: (فتدبر أمراً من علم الحساب)، مقتبس من قوله تعالى:{لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5]، وإبطال لزعيم المنجمين أنها مدبرة لهذا العالم بالكون والفساد، ويعضده ما روى البخاري، عن قتادة:"خلق الله هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأولها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم". وزاد رزين: "وما علم له به، وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة". وعن الربيع مثله، وزاد: والله، ما جعل الله في نجم حياة أحد ولا رزقه ولا موته، وإنما يفترون على الله الكذب ويتعللون بالنجوم. ذكره صاحب "جامع الأصول".
واعلم أن الشيخ أبا القاسم عبد الكريم بن هوزان القُشيري رحمه الله، عقد باباً في كتابه المسمى بـ "مفاتيح الحجج" في إبطال مذاهب المنجمين وأطنب فيه، وذكر أقوالهم، قال: "وأقربها
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول من قال: هذه الحوادث يحدثها الله تعالى ابتداء بقدرته واختياره، ولكن أجرى العادة بأنه إنما يخلقها عند كون هذه الكواكب في البروج المخصوصة، وتختلف باختلاف سيرها واتصالها ومطارح أشعتها، على جهة العادة من الله سبحانه وتعالى، كما أجرى العادة بخلق الولد عقيب الوطء، وخلق الشبع عقيب الطعام، ثم قال: هذا في القدرة جائز لكن ليس عليه دليل ولا إلى القطع سبيل؛ لأن ما كان على جهة العادة يجب أن يكون الطريق فيه مستمراً، وأقل ما فيه يحصل التكرار، وعندهم لا يحصل وقت في العالم مكرر على وجه واحد؛ لأن إذا كان في سنة الشمس مثلاً في درجة من برج، فإذا عادت إليها في السنة الأخرى، فالكواكب لا يتفق كونها في بروجها كما كانت في السنة الماضية، والأحكام تختلف بالقرانات والمقابلات ونظر الكواكب بعضها إلى بعض، فلا يحصل شيء من ذلك مكرراً. واتفقوا على أنه لا سبيل إلى الوقوف على الأحكام، ولا يجوز القطع على البت لتعذر الإحاطة بها على التفصيل. ومما يدل على أنه لا حجة في قولهم أنهم اختلفوا فيما بينهم في حكم الزَّنج، فلأهل السند والهند عن طريق تخالف طريق أرباب الزَّنج الممتحن".
وفصل الشيخ في الاختلافات بينهم تفصيلاً ثم قال: "ومما يدل على فساد قولهم أن يقال لهم: أخبرونا عن مولودين ولدا في وقت واحد، ليس يجب تساويهما في كل وجه، لا تميز بينهما في الصورة والقد والمنظر، وحتى لا تصيب أحدهما نكبة إلا أصاب الآخر، وحتى لا يفعل هذا شيئاً إلا والآخر يفعل مثله، وليس في العالم اثنان هذه صفتهما؟ قالوا: ومن المحال أن يوجد مولودان في العالم في وقت واحد، ولا بد أن يتقدم أحدهما على الآخر، فيقال: أمحال ذلك في العقل والتدبير أم في الوجود؟ فإن قالوا بالأول: بان فساد قولهم، وإن قالوا بالثاني، قيل: وما يؤمنكم منه؟ فإن قالوا: ليس أمر الكسوفين بصدق، قلنا: ليس أمر الكسوفين من الأحكام، وإنما هو من طريق الحساب، وذلك غير منكر، ويجوز أن يكون أمر سير الكواكب على ما قالوه. وقد ورد في الشريعة في أمر الكسوفين
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بأنه آية من آيات الله تعالى. فإن قالوا: فما قولكم في المنجمين أنهم مخطئون في جميع ما يحكمون مكابرون للعقول؟ قلنا: إنا نقول: إنهم مخطئون في أصولهم عن شبه وقعت لهم، فلا يعرفون بطلان قولهم مكابرة للعقول، ولا بالضرورة، بل جربوا على مقتضى قواعد بنوها على أصول فاسدة وقعت الشبه لسلفهم في أصول قواعدهم، فربما يصيبون في تركيب الفروع على تلك الأصول، فمنزلتهم في الأحكام كمنزلة أصحاب الحدس والتخمين، وأصحاب الزوج والفرد، فربما يصيبون اتفاقاً لا عن ضرورة، وربما يخطئون. وكثيراً ما نجد من الحراثين والملاحين، يعتبرون نوع ما اعتادوا من توقع المطر وهبوب الرياح في أوقات راعوها بدلالات ادعوا أنهم جربوها في السماء والهواء وغير ذلك، فتحصل بعض أحكامهم اتفاقاً لا تحقيقاً".
وقلت: ومنه ما روى ابن جني في "المحتسب"، أن ابنة معفر بن حماد البارقي شامت برقاً فقالت: يا أبه، جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟ فقالت: كأنها عين جمل طريف، فقال: ارعي غنيماتك، فرعت ملياً ثم جاءته فقالت: يا أبه، جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟ فقالت: كأنها فرس دهماء تجر جلالها، فقال: ارعي غنيماتك، فرعت ملياً، ثم جاءته فقالت: يا أبه، جاءتك السماء، فقال: كيف ترينها؟ قالت: سطحت وابيضت، فقال: أدخلي غنيماتك، فجاءت السماء بشيء شطأ له الزرع. والشطء: فراخ الزرع.
وصنف ابن دريد كتاباً في هذا المعنى وفيه هذه القصة، وروايته: كان أعرابي ضرير تقوده ابنته وهي ترعى غنيمات لها، فرأت سحاباً فقالت: يا أبه، إلخ، وفيه: قال: أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، قلت لأعرابي: ما أسح الغيث؟ فقال: ما لقحته الجنوب ومرته
وقيل: النازعات أيدي الغزاة، أو أنفسهم تنزع القسي بإغراق السهام، والتي تنشط الأوهاق والمقسم عليه محذوف، وهو (لتبعثن) لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة. و (يَوْمَ تَرْجُفُ) منصوب بهذا المضمر. و (الرَّاجِفَةُ) الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال، وهي النفخة الأولى: وصفت بما يحدث بحدوثها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصبا ونتجته الشمال، ثم قال: أهلك والليل، وما نرى إلا أنه قد أخذه المطر.
ولنختم الكلام بما روينا عن أبي داود، عن ابن عباس، أن رسول الله? قال:"من اقتبس باباً من علم النجوم لغير ما ذكر الله، فقد اقتبس شُعبة من السحر، المنجم كاهن، والكاهن ساحر، والساحر كافر"، وفي رواية:"من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد". أخرج الثانية الإمام أحمد وأبو داود، والأولى ذكرها رزين.
قوله: (الأوهاق)، الجوهري:"الوهق بالتحريك: حبل كالطول، وقد يسكن نحو: نهر".
وقوله: والتي تنشط، معناه أيدي الغزاة التي تنشط، وأنفسهم التي تنشط، أي: تعقد الحبل الذي يطول للخيل ترعى فيه.
قوله: (وُصفت بما يحدث بحدوثها)، أي: أسند {تَرْجُفُ} إلى {الرَّاجِفَةُ} وهو يحدث بحدوثها، فالإسناد مجازي نحو: جد جده، والأصل، ترجف الأرض بسبب حدوث الراجفة، أي: الواقعة الهائلة، فأُسند إلى السبب مبالغة. قال في قوله تعالى:{إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [الدخان: 5 - 6]: "مفعول به، وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله: {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِي} [فاطر: 2] "، عبر عن النسبة وعن التعلق بالوصف.
(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أي الواقعة التي تردف الأولى، وهي النفخة الثانية. ويجوز أن تكون الرادفة من قوله تعالى:(قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)[النمل: 72]، أي: القيامة التي يستعجلها الكفرة استبعاداً لها، وهي رادفة لهم لاقترابها. وقيل (الرَّاجِفَةُ) الأرض والجبال، من قوله:(يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ والْجِبَالُ)[المزمل: 14] و «الرادفة» : السماء والكواكب، لأنها تنشق وتنتثر كواكبها على أثر ذلك.
فإن قلت: ما محل تتبعها؟
قلت: الحال، أي: ترجف تابعتها الرادفة.
فإن قلت: كيف جعلت (يَوْمَ تَرْجُفُ) ظرفاً للمضمر الذي هو لتبعثن، ولا يبعثون عند النفخة الأولى؟
قلت: المعنى لتبعثنّ في الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع، وهو وقت النفخة الأخرى. ودل على ذلك أن قوله:(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) جعل حالاً عن الراجفة. ويجوز أن ينتصب (يَوْمَ تَرْجُفُ) بما دل عليه (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي: يوم ترجف وجفت القلوب (واجِفَةٌ) شديدة الاضطراب، والوجيب والوجيف: أخوان. (خَاشِعَةٌ) ذليلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: ترجف تابعتها الرادفة)، تابعتها، بنصب التاء وضمها في الرادفة، وهي فاعل "تابعتها"، والإضافة غير محضة، والأصل: تابعة لها الرادفة، أي: ترجف الأرض والجبال، أي حال كون السماء والكواكب تابعتها في الانشقاق والانتثار، وهي الرادفة، وأما تقديره على الوجه الأول فأن يقال: يوم تحدث الحادثة الكبرى، أي: النفخة الأولى حال كون الفنخة الثانية تابعتها، وهي الرادفة.
قوله: (ودل على ذلك)، أي: على أن المراد باليوم: الوقت الواسع الذي فيه النفختان، أن فعل الراجفة مقيد بفعل النفخة الثانية.
فإن قلت: كيف جاز الابتداء بالنكرة؟
قلت: (قُلُوبٌ) مرفوعة بالابتداء، و (واجِفَةٌ) صفتها، و (أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ) خبرها فهو كقوله:(ولَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ)[البقرة: 221].
فإن قلت: كيف صح إضافة الأبصار إلى القلوب؟
قلت: معناه أبصار أصحابها، بدليل قوله:(يَقُولُونَ)(فِي الحَافِرَةِ) في الحالة الأولى، يعنون: الحياة بعد الموت.
فإن قلت: ما حقيقة هذه الكلمة؟
قلت: يقال: رجع فلان في حافرته، أي: في طريقه التي جاء فيها فحفرها، أي: أثر فيها بمشيه فيها: جعل أثر قدميه حفراً، كما قيل: حفرت أسنانه حفراً: إذا أثر الآكال في أسناخها. والخط المحفور في الصخر. وقيل: حافرة، كما قيل: عيشة راضية، أي: منسوبة إلى الحفر والرضا، أو كقولهم: نهارك صائم، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه: رجع إلى حافرته، أي: طريقته وحالته الأولى ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({قُلُوبٌ} مرفوعة بالابتداء، و {وَاجِفَةٌ} صفتها)، وعن بعضهم: لا يجوز أن يكون {يَوْمَئِذٍ} صفة مخصصة للقلوب؛ لأنه جُثة، كما لا يجوز أن يكون خبراً عن الجثة.
قوله: (في أسناخها)، الجوهري:"أسناخ الأسنان: أصولها". قال ابن جني: "قالوا: حُفِرَتْ أسناخها: إذا ركبها الوسخ من ظاهرها ومن باطنها".
قوله: (والخط المحفور)، عطف على "حُفِرَتْ أسنانه".
قوله: (وقيل: حافرة، كما قيل: عيشة راضية)، رد إلى قوله:"رجع فلان في حافرته، أي: في طريقته"، أي: قيل: حافرة، وأريد طريقة منسوبة إلى الحفر، أو طريقة حافرة، أي: صاحبها حافر مؤثر في طريقته، فأسند إليها مجازاً.
قال:
أحافرة على صلع وشيب؟
…
معاذ الله من سفه وعار
يريد: أرجوعاً إلى حافرة. وقيل: النقد عند الحافرة، يريدون عند الحالة الأولى: وهي الصفقة. وقرأ أبو حيوة (في الحفرة) والحفرة بمعنى: المحفورة. يقال: حفرت أسنانه فحفرت حفراً، وهي حفرة؛ وهذه القراءة دليل على أن الحافرة في أصل الكلمة بمعنى المحفورة. يقال:(نخر) العظم فهو نخر وناخر، كقولك طمع فهو طمع وطامع؛ وفعل أبلغ من فاعل؛ وقد قرئ بهما: وهو البالي الأجوف الذي تمر فيه الريح فيسمع له نخير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أحافرة على صلع) البيت، أي: ارجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصبا بعد أن شبت وصلعت؟ ثم قال: معاذ الله، هذا سفه طائر وعار شديد.
قوله: (النقد عند الحافرة)، روى الميداني عن ابن الأنباري: قال ثعلب: "معناه: النقد عند السبق، وذلك أن الفرس إذا سبق أخذ الرهن، والحافرة: الأرض التي حفرها الفرس بقوائمه، فاعلة بمعنى مفعولة، وقال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: النقد عند الحافر معناه عند حافر الفرس، وأصل المثل في الخيل ثم استعمل في غيرها، وقال غيره: النقد عند الحافرة معناه: عند أول كلمة، يقال: رجع فلان في حافرته أي: في أول الأمر"، الراغب: النقد عن الحافرة: يقال لما يُباع نقداً، وأصله في الفرس فيقال: لا يزول حافره أو ينقد ثمنه".
قوله: (وقد قُرئ بهما)، أيو بكر وحمزة والكسائي:"ناخرة" بالألف، والباقون: بغير
و (إِذاً) منصوب بمحذوف، تقديره: أئذا كنا عظاماً نرد ونبعث (كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) منسوبة إلى الخسران، أو خاسر أصحابها. والمعنى: أنها إن صحت فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا استهزاء منهم.
فإن قلت: بم تعلق قوله: (فَإنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ)؟
قلت: بمحذوف، معناه: لا تستصعبوها، فإنما هي زجرة واحدة؛ يعني: لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله عز وجل، فإنها سهلة هينة في قدرته، ما هي إلا صيحة واحدة، يريد النفخة الثانية. (فَإذَا هُم) أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتاً في جوفها؛ من قولهم: زجر البعير، إذا صاح عليه. و (بِالسَّاهِرَةِ): الأرض البيضاء المستوية، سميت بذلك لأن السراب يجرى فيها، من قولهم: عين ساهرة جارية الماء، وفي ضدها: نائمة. قال الأشعث بن قيس:
وساهرة يضحى السراب مجللاً
…
لأقطارها قد جبتها متلثما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ألف. قال الزجاج: " (ناخرة) أجود وأكثر شبهاً للفواصل، و {نَّخِرَةً} جيد أيضاً، يقال: نخر العظم ينخر فهو نخر، مثل: عفن يعفن فهو عَفِن، و"ناخرة" معناه: عظاماً يجيء فيها من هبوب الرياح كالنخير، ويجوز ناخرة نحو: بليت العظام [فهي] بالية".
قوله: ({كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}: منسوبة إلى الخُسران)، قيل: كرة: خبر لـ {تِلْكَ} ، وهو مبين لاسم الاشارة كما ان الصفة مبينة، ولا بد في الترجمة من ذكر الصفة، المعنى: تلك الكرة كرة خاسرة.
قوله: (فإنها سهلة هينة في قدرته)، الانتصاف:"ما أحسن تسهيل أمر الإعادة بقوله: {زَجْرَةٌ} فهي أخف من صيحة، وبقوله: {وَاحِدَةٌ} أي: غير محتاجة إلى مثنوية".
قوله: (وساهرة يُضحى السراب) البيت، مجللاً: مُعطياً وساتراً، لأقطارها: لجوانبها،
أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة. وعن قتادة: فإذا هم في جهنم:
[(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى • إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى • اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى • فَقُلْ هَل لَّكَ إلَى أَن تَزَكَّى • وأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى • فَأَرَاهُ الآيَةَ الكُبْرَى • فَكَذَّبَ وعَصَى • ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى • فَحَشَرَ فَنَادَى • فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخِرَةِ والأُولَى • إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) 15 - 26]
(اذْهَبْ) على إرادة القول. وفي قراءة عبد الله: (أن اذهب)؛ لأن في النداء معنى القول: هل لك في كذا، وهل لك إلى كذا؛ كما تقول: هل ترغب فيه، وهل ترغب إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قطعتها متلثماً: مشدداً للثام من خوف هبوب السموم والحر القاتل. وقيل: متلثماً: واطئاً الأرض بخف البعير.
قوله: (هل لك في كذا، وهل لك إلى كذا؟ )، قال ابن جني:"متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر، فكثيراً ما يجرى أحدهما مجرى صاحبه، فيعدل في الاستعمال إليه، ويحتذى به في تصرفه حذو صاحبه، وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} وأنت إنما تقول: هل لك في كذا؟ لكنه لما دخله معنى: أجذبك إلى كذا، أو أدعوك إليه، قال: {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى}، وعليه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، في معنى الإفضاء إلى نسائكم؛ لا يقال: رفثت إلى المرأة، وإنما: رفثت بها، ومعها، لكنه لما كان الرفث بمعنى الإفضاء عُدي بـ "إلى"، وهذا من أسد مذاهب العربية؛ لأنه موضع يملك فيه المعنى عنان الكلام فيأخذه إليه".
وقلت: الظاهر أن هذا ليس من باب التضمين، بل من باب المجاز والقرينة الجادة. وقال صاحب "الكشف": هل لك في كذا؟ محمول على: أدعوك، فكأنه قال أدعوك إلى التزكي فهل ترغب فيه؟ وقال الواحدي: المبتدأ محذوف، أي: هل لك إلى أن تزكى
(إلَى أَن تَزَكَّى) إلى أن تتطهر من الشرك، وقرأ أهل المدينة:(تزكى)، بالإدغام (وأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ) وأرشدك إلى معرفة الله أنبهك عليه فتعرفه، (فَتَخْشَى) لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة. قال الله تعالى:(إنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ)[فاطر: 28] أي العلماء به، وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر، من خشي الله: أتى منه كل خير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حاجة أو أرب؟ وعن بعضهم: يقال: هل لك في كذا؟ فتقول في الجواب: أشد الهل وأوحي، أي: أسرع.
قوله: (وقرأ أهل المدينة: "تزكى")، الحرميان:"أن تزكى" بتشديد الزاي، والباقون: بتخفيفها.
قوله: (لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة)، روى السلمي عن ابن عطاءٍ: الخشية أتم من الخوف؛ لأنها صفة العلماء، لقوله:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُا} [فاطر: 28]. وعن الواسطي: "أوائل العلم الخشية، ثم الإجلال، ثم التعظيم، ثم الهيبة، ثم الفناء". وعن بعضهم: من خاف مقام ربه علم قيام الله بأسبابه في دار الدنيا، وخاف من وقوفه في القيامة بين يديه، وقال: من تحقق الخوف ألهاه خوفه عن كل مفروح به، وألزمه الكمد إلى أن يظهر له الأمن من خوفه. وروى عن بزرجمهر: اعرفوا الله، فمن عرفه لم يقدر أن يعصيه طرفة عين.
قوله: (لأنها ملاك الأمر)، الأساس: ومن المجاز: هدأ ملاك الأمر، أي: قوامه وما يملك به، والقلب ملاك الجسد، وركب ملاك الطريق: وسطه.
ومن أمن: اجترأ على كل شر. ومنه قوله عليه السلام: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل» . بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا، وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوه، كما أمر بذلك في قوله:(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا)[طه: 44]، (الآيَةَ الكُبْرَى) قلب العصا حية؛ لأنها كانت المقدمة والأصل، والأخرى كالتبع لها، لأنه كان يتقيها بيده، فقيل له: أدخل يدك في جيبك، أو أرادهما جميعاً،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من خاف أَدْلَجَ)، الحديث من رواية الترمذي، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله? يقول: "من خاف أَدْلج ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية"، النهاية:"الإدلاج مخففاً: السير من أول الليل، ومثقلاً: السير من آخره"، والمراد ها هنا: التشمير في أول الليل، فإن من سار من أول الليل كان جديراً ببلوغ المنزل، والسلعة: المتاع.
قوله: (أو أرادهما جميعاً)، يريد: أن الآية الكبرى هي قلب العصا حية، فالصغرى يراد بها اليد البيضاء لأنها متمِّمة لها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لما قصد أن تبقى الحية بيده قيل له:{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} [طه: 22] سبق بيانه في "القصص". أو أن كلتيهما آية واحدة لتلك العلة، والصغرى غيرهما. قال بعضهم: قوله: {فَأَرَاهُ الْأيَةَ الْكُبْرَى} معطوف على فعل محذوف، يد عليه قوله:{اذْهَبْ} ، أي: فذهب فأراه؛ لأنه إذا كان الآمر هو الله تعالى والمأمور موسى، وجد الفور، وهذا مما يعضد
إلا أنه جعلهما واحدة؛ لأن الثانية كأنها من جملة الأولى لكونها تابعة لها. (فَكَذَّبَ) بموسى والآية الكبرى، وسماهما ساحراً وسحراً (وعَصَى) الله تعالى بعد ما علم صحة الأمر، وأن الطاعة قد وجبت عليه. (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى) أي: لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً، يسعى: يسرع في مشيته. قال الحسن: كان رجلاً طياشاً خفيفاً. أو تولى عن موسى يسعى ويجتهد في مكايدته، وأريد: ثم أقبل يسعى، كما تقول: أقبل فلان يفعل كذا، بمعنى: أنشأ يفعل، فوضع (أَدْبَرَ) موضع: أقبل؛ لئلا يوصف بالإقبال. (فَحَشَرَ) فجمع السحرة، كقوله (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ) [الشعراء: 53]. (فَنَادَى) في المقام الذي اجتمعوا فيه معه، أو أمر منادياً في الناس بذلك. وقيل قام فيهم خطيباً فقال تلك العظيمة. وعن ابن عباس: كلمته الأولى: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي)[القصص: 38] والآخرة: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)[النازعات: 24]. (نَكَالَ) هو مصدر مؤكد، كوعد الله، وصبغة الله؛ كأنه قيل: نكل الله به نكال الآخرة والأولى، والنكال بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مذهب أبي حنيفة رحمة الله، أن الأمر للفور، ونظيره قوله تعالى:{أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ} [الأعراف: 160]، وأنشد للمتنبي:
إن تدع يا سيف لتستعينه يُجبك قبل أن تتم سينه
قوله: (فوضع {أَدْبَرَ} موضع "أقبل"؟ )، الانتصاف:"وهو وجه حسن، وأدبر على هذا من أفعال المقاربة". وقلت: ويمكن أن يقال: إن {أَدْبَرَ} استعير لأقبل على التلميحية؛ لأن سعيه كان دابراً عليه.
يعني: الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة. وعن ابن عباس: نكال كلمتيه: الآخرة وهي قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)، والأولى وهي قوله:(مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي)[القصص: 38]، وقيل: كان بين الكلمتين أربعون سنة، وقيل عشرون.
[(أَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا • رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا • وأَغْطَشَ لَيْلَهَا وأَخْرَجَ ضُحَاهَا • والأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا • أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا ومَرْعَاهَا • والْجِبَالَ أَرْسَاهَا • مَتَاعًا لَّكُمْ ولأَنْعَامِكُمْ) 27 - 33]
الخطاب لمنكري البعث، يعنى:(أَنتُمْ) أصعب (خَلْقًا) وإنشاء (أَمِ السَّمَاءُ) ثم بين كيف خلقها فقال: (بَنَاهَا) ثم بين البناء فقال: (رَفَعَ سَمْكَهَا)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يعني: الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة)، فيكون التقدير: أخذه الله نكال الدار الآخرة ونكال الدار الأولى، أو التقدير: أخذه الله نكال الكلمة الآخرة ونكال الكلمة الأولى، وفي تقدير المصنف تكرير؛ لأنه كرر الرواية عن ابن عباس.
قوله: (الخطاب لمنكري البعث)، إشارة إلة أن قوله:{ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} مردود إلى فاتحة السورة، وذلك أنه تعالى أقسم على إثبات الحشر بما أقسم وبالغ فيه، وكان خطاباً لمنكري البعث، ومن ثم قُدر جواب القسم:"لتبعثن" لقرينه قوله: {أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} إنكاراً، وقولهم:{قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} استهزاءً، وأجابهم الله بقوله:{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} ، أي: لا تستصعبوها فإنما هي سهلة هينة في قدرته، بين السهولة بقوله:{ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} ، وحين كان الجواب تسلياً لرسول الله? من استهزائهم، وتهديداً للكافرين لإنكارهم، أوقع قصة موسى وفرعون مجملاً في البين ومزيداً للتهديد، ومن ثم وُسطت القصة بحديث الخشية، حيث قيل:{وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} وختمت به قائلاً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى} .
قوله: (ثم بين كيف خلقها فقال: {بَنَاهَا})، أي: استئناف على سبيل البيان، قال الكسائي
أي: جعل مقدار ذهابها في سمت العلو مديداً رفيعاً مسيرة خمس مئة عام (فَسَوَّاهَا) فعدلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت ولا فطور. أو فتممها بما علم أنها تتم به وأصلحها، من قولك: سوى فلان أمر فلان. غطش الليل وأغطشه الله، كقولك: ظلم وأظلمه. ويقال أيضاً: أغطش الليل، كما يقال أظلم (وأَخْرَجَ ضُحَاهَا) وأبرز ضوء شمسها، يدل عليه قوله تعالى:(وَالشَّمْسِ وضُحَاهَا)[الشمس: 1] يريد وضوئها. وقولهم: وقت الضحى، للوقت الذي تشرق فيه الشمس ويقوم سلطانها؛ وأضيف الليل والشمس إلى السماء،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والفراء: تم الكلام عند قوله: {ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} ، وابتدأ من قوله:{بَنَاهَا} ، الكواشي:{أَمِ السَّمَاءُ} مبتدأ محذوف الخبر، أي: أم السماء أشد؟ وعنده وقف تام إن استأنفت ولم تنصب {بَنَاهَا} تكون "أم" متصلة، وإذا وصل تكون منقطعة، ويكون في الكلام ترق من الأهون إلى الأغلظ.
قوله: (أو فتممها بما علم أنها تتم به)، فعلى الأول: التسوية عبارة عن تعديل ذوات السماوات، وعلى الثاني: عبارة عن إصلاحها بزوائد خارجية، من كونها جعلت مقراً للملائكة المقربين المسبحين، ومسارح نظر المعتبرين، وجعلت مزينة بزينة الكواكب ومنزلاً منها البركات في الأرض وأحكام الدين، لقوله تعالى:{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22].
قوله: (وأضيف الليل والضحى - ويروى: الليل والشمس - إلى السماء)، يريد أن السماء جعلت كالقبة المضروبة والرواق الممدود، وكالبيت المظلم ليس فيه سراج، والشمس هي السراج المثقب في جوها، فإن قيل: إن الليل ظل الأرض، فيجاب: كم لمرأى الناظر من اعتبار؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] أي: مُزينة في مرأى النظر بالكواكب المضيئة، وبه فسر قول المعري:
صغار الشهب أسرعها انتقالا
لأن الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوها. (مَاءَهَا) عيونها المتفجرة بالماء (ومَرْعَاهَا) ورعيها، وهو في الأصل موضع الرعي. ونصب الأرض والجبال بإضمار (دحا) و (أرسى)، وهو الإضمار على شريطة التفسير. وقرأهما الحسن مرفوعين على الابتداء.
فإن قلت: هلا أدخل حرف العطف على أخرج؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون معنى (دَحَاهَا) بسطها ومهدها للسكنى، ثم فسر التمهيد بما لا بدّ منه في تأتي سكناها، من تسوية أمر المأكل والمشرب؛ وإمكان القرار عليها، والسكون بإخراج الماء والمرعى، وإرساء الجبال وإثباتها أوتاداً لها حتى تستقر ويستقر عليها ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الإمام: "إنما أضاف الليل والنهار، لأن الليل والنهار إنما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها، وهما إنما يحصلان بسبب حركة الفلك".
قوله: (ورعيها)، الجوهري:"الرعي بالكسر: الكلأ، وبالفتح: المصدر، والمرعى: الرعي والموضع".
قوله: (وقرأهما الحسن مرفوعين)، أي: الأرض والجبال. قال الزجاج: "القراءة بنصب الأرض على معنى: ودحا الأرض بعد ذلك، وفسر هذا المضمر فقال: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}، وهو أجود من الرفع؛ لأنك أن تعطف بفعل على فعل أحسن".
قوله: (ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سُكناها)، وفي تفسيره لف ونشر، الانتصاف: "هذا الجواب أحسن من الثاني؛ لأنه مناسب لقوله: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (رَفَعَ سَمْكَهَا} .
والثاني: أن يكون (اخْرُجْ) حالاً بإضمار (قد) كقوله: (جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ)[النساء: 90] وأراد بـ (مرعاها): ما يأكل الناس والأنعام. واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله: (يَرْتَعْ ويَلْعَبْ)[يوسف: 12]. والظاهر أنه تغليب، لأنه قوله (مَتَاعًا لَّكُمْ ولأَنْعَامِكُمْ) وارد عليه، ومن حقه أن يغلب ذوي العقول على الأنعام، فعكس تجهيلاً؛ وقرئ:(نرتع)، من الرعي؛ ولهذا قيل: دل الله سبحانه بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح؛ لأنه من الماء. (مَتَاعًا لَّكُمْ) فعل ذلك تمتيعاً لكم، (ولأَنْعَامِكُمْ)؛ لأن منفعة ذلك التمهيد واصلة إليهم وإلى أنعامهم.
[(فَإذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الكُبْرَى • يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسَانُ مَا سَعَى • وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرَى) 34 - 36].
(الطَّامَّةُ) الداهية التي تطم على الدواهي، أي: تعلو وتغلب. وفي أمثالهم: جرى الوادي فطم على القري، وهي القيامة لطمومها على كل هائلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (واستعير الرعي للإنسان)، يعني: استعير الرعي والرتع لتناول الإنسان الطعام، كما يستعار المرسن للأنف، والمشفر للشفة. عن بعضهم:{مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} عبارة عن الأرزاق، جمع الله تعالى جميع ما يُتمتع به في هاتين الكلمتين. ويجوز أن يكون استعارة معنوية. لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة قوله:{ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} كما مر قبل أيها المعاندون الداخلون في زمرة البهائم الملزوزون في قرنها في تمتعكم بالدنيا، وذهولكم عن الأخرى.
قوله: (وقُرئ: "نرتع")، أي: بكسر العين، من الارتعاء، افتعال من الرعي.
قوله: (جرى الوادي فطم على القرى)، قال الميداني:"أي: جرى سبيل الوادي فطم، أي: دفن، يقال: طم السيل الركية، أي: دفنها. والقري: مجرى الماء في الروضة والجمع: أقرية، وقريان، يعني: أتى على القرى أي: أهلكه بأن دفنه، يُضرب عند تجاوز الشر حده".
وقيل: هي النفخة الثانية: وقيل: الساعة التي تساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ) بدل من إذا جاءت، يعني: إذا رأى أعماله مدونة في كتابه تذكرها وكان قد نسيها، كقوله:(أَحْصَاهُ الله ونَسُوهُ)[المجادلة: 6]، و «ما» في (مَا سَعَى) موصولة، أو مصدرية (وبُرِّزَتِ): أظهرت. وقرأ أبو نهيك: (وبرزت). (لِمَن يَرَى) للرائين جميعاً، أي: لكل أحد، يعني: أنها تظهر إظهاراً بينا مكشوفاً، يراها أهل الساهرة كلهم، كقوله:
قد بين الصبح لذي عينين
يريد: لكل من له بصر؛ وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد. وقرأ ابن مسعود: (لمن رأى). وقرأ عكرمة: (لمن ترى) والضمير للجحيم، كقوله:(إذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ)[الفرقان: 12] وقيل: لمن ترى يا محمد.
[(فَأَمَّا مَن طَغَى • وآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا • فَإنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَاوَى) 37 - 39]
(فَأَمَّا) جواب (فَإذَا) أي: فإذا جاءت الطامة فإن الأمر كذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن بعضهم: يقال: طم شعره، أي: جزه، ويقال: جاء السيل فطم الركية، أي: دفنها فسواها، وكل شيء كثر حتى يعلو فقد طم؛ ذكره في باب فعل يفعل بفتح العين، وذكر في باب فعل يفعل بكسرها يكم طميماً، أي: يعدو عدواً سهلاً.
قوله: ({لِمَن يَرَى}: للرائين جميعاً)، الانتصاف:"أي: هو أمر ظاهر لا يتوقف إلا على وجود الحاسة لا غير، ولا مانع من الرؤية ولا حاجب عنها".
قوله: (قد بين الصبح لذي عينين)، قال الميداني:"بين هاهنا بمعنى: تبين، يضرب للأمر الذي يظهر كل الظهور".
قوله: ({فَأَمَّا} جواب {فَإذَا})، وفي "المطلع": المقدر شيء آخر، أي: فإذا جاءت الطامة، وقع ما لا يدخل تحت الوصف، وقوله:{فَأَمَّا} تفصيل لذلك المقدر.
والمعنى: فإن الجحيم مأواه، كما تقول للرجل: غض الطرف، تريد: طرفك، وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة، ولكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره: تركت الإضافة؛ ودخول حرف التعريف في المأوى والطرف: للتعريف؛ لأنهما معروفان، و (هِيَ) فصل أو مبتدأ.
[(وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى • فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَاوَى) 40 - 41]
(ونَهَى النَّفْسَ) الأمارة بالسوء (عَنِ الهَوَى) المردي، وهو إتباع الشهوات، وزجرها عنه وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة)، قال صاحب "الكشف": قال الكوفي: بل التقدير: مأواه، فقام الألف مقام الضمير.
قوله: (ودخول حرف التعريف في المأوى والطرف: للتعريف؛ لأنهما معروفان)، قال الزجاج: ليس الألف واللام بدلاً من الكاف في الطرف وإن كان المعنى: غض طرفك؛ لأن المخاطب يعلم أنك لا تأمره بعض طرف غيره، قال:
فغض الطرف إنك من نُمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا
قوله: (وزجرها عنه)، عطف تفسيري على {وَنَهَى النَّفْسَ} ، وقوله:"وضبطها بالصبر"، تفسير هكذا لـ "زجرها". الراغب: "النهي: الزجر عن الشيء، وهو من حيث المعنى لا فرق بين أن يكون بالقول أو بغيره، وما كان بالقول لا فرق بين أن يكون بلفظة افعل، نحو: اجتنب كذا، وبلفظة لا تفعل، ومن حيث اللفظ هو قولهم: لا تفعل كذا، فإذا قيل: لا تفعل فهو نهي من حيث اللفظ والمعنى جميعاً، نحو:{وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] وقوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} لم يعن به أن يقول لنفسه: لا تفعل، بل أراد قمعها عن شهوتها،
وقيل: الآيتان نزلتا في أبي عزير بن عمير ومصعب بن عمير، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزير يوم أحد، ووقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه.
[(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا • فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا • إلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا • إنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا • كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) 42 - 46].
(أَيَّانَ مُرْسَاهَا) متى إرساؤها، أي إقامتها، أرادوا: متى يقيمها الله ويثبتها ويكوّنها؟ وقيل أيان منتهاها ومستقرّها، كما أنّ مرسى السفنية مستقرها، حيث تنتهي إليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ودفعها عما نزعت إليه وهمت به، وكذا النهي عن المنكر يكون تارة باليد وتارة باللسان وتارة بالقلب. وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [النحل: 90] أي: يحث على فعل الخير ويَذُب عن الشر، وذلك بعضه بالعقل الذي ركبه فينا، وبعضه بالشرع الذي شرعه لنا. والإنهاء في الأصل: إبلاغ النهي، ثم صار متعارفاً في كل إبلاغ، فقيل: أنهيت إلى فلان خبر كذا، أي: بلغت به النهاية، ورجل ناهيك كقولك: حسبك، ومعناه أنه غاية فيما تطلبه، وينهاك عن تطلب غيره، وناقة نهية: تناهت سمناً".
قوله: (في أبي عزيز بن عمير ومصعب بن عمير)، أما أبو عزيز بضم العين، مصغر "عزيز"، فليس له ذكر في "الجامع"، وأما مصعب بن عمير، فذكر أنه مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف القرشي، من أجلة الصحابة وفُضلائهم، قتل يوم أُحد، وفيه نزل:{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. وعن بعضهم: صح "أبو عزيز" بفتح العين وتكرير الزاي، ذكره المصنف في كتاب "متشابه الأسماء".
قوله: (المشاقص)، الجوهري:"المشقص من النصال: ما طال وعرض".
قوله: (كما أن مرسى السفينة: مستقرها)، الانتصاف: "فيه إشعار بثقل اليوم، كقوله
(فِيمَ أَنتَ) في أي شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به، يعني: ما أنت من ذكرها لهم وتبيين وقتها في شيء. وعن عائشة رضي الله عنها، لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة يسأل عنها حتى نزلت، فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها، كأنه قيل: في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها. والمعنى: أنهم يسألونك عنها، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها، ثم قال:(إلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا) أي: منتهى علمها؛ لم يؤت علمها أحداً من خلقه. وقيل: (فِيمَ) إنكار لسؤالهم، أي: فيما هذا السؤال، ثم قيل:(أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا)، أي: إرسالك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل المبعوث في نسم الساعة، ذكر من ذكرها وعلامة من علاماتها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27]؛ فلم يطلق الإرساء إلا على ما فيه ثقل كالجبال والسفينة".
قوله: (وتعجب من كثرة ذكره لها، أي: في أي شغل أنت من ذكراها)، الانتصاف:"وفيه ضعف؛ لأن قوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف: 187] يرده".
قلت: صدق، قال المصنف:{كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} : كأنك بليغ في السؤال عنها، يعني: يسألونك عنها، لأنهم يزعمون أنك بليغ في السؤال عنها، وليس كما يزعمون.
قوله: (ثم قيل: {أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا})، الانتصاف:"فعلى هذا يوقف على قوله: {فِيمَ} ليفصل بين الكلامين".
قوله: (في نسم الساعة)، الجوهري:"نسم الساعة: حين ابتدأت وأقبلت أوائلها، ونسيم الريح: أولها حين تقبل".
فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها. (إنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا) أي: لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون من إنذارك لطفا له في الخشية منها. وقرئ:(منذر) بالتنوين، وهو الأصل؛ والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال؛ فإذا أريد الماضي فليس إلا الإضافة؛ كقولك: هو منذر زيد أمس، أي: كأنهم لم يلبثوا في الدنيا، وقيل: في القبور (إلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا).
فإن قلت: كيف صحت إضافة الضحى إلى العشية؟
قلت: لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما في نهار واحد.
فإن قلت: فهلا قيل: إلا عشية أو ضحى وما فائدة الإضافة؟
قلت: الدلالة على أن مدة لبثهم كأنها لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه؛ فلما ترك اليوم أضافه إلى عشيته، فهو كقوله:(لَّمْ يَلْبَثُوا إلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ)[الأحقاف: 35].
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (وَالنَّازِعَاتِ) كان ممن حبسه الله في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة المكتوبة» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقُرئ: "مُنذر" بالتنوين)، وهي شاذة. قال الزجاج:"المعنى: إنما أنت في حال إنذار من يخشاها وفيما يستقبل أيضاً، ومفعل وفاعل إذا كانا بمعنى الحال والاستقبال نوناً؛ لأنه حينذ بدل من الفعل، والفعل نكرة، وقد يجوز حذف التنوين على الاستخفاف، والنعتى على ثبوت التنوين، فإذا كان لما مضى فهو غير منون البتة".
قوله: (فهو كقوله: {لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف: 35]، روي عن المصنف أنه قال: لهذا الكلام أصل، وهو قوله: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار عيشته أو ضحاه، فوضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا المختصر مكانه. وقلت: الظاهر أن نسبة {مِّن نَّهَارٍ} إلى {سَاعَةً} ، وإضافة "ضُحى" إلى "عيشة": للبيان، ولكن المراد التوكيد، وتحقيقهما، نحو: أخذت بيدي ورأيت بعيني؛ لأنه من الإمكان أن يراد بضُحى وساعة: النهار كله مجازاً، وإليه الإشارة بقوله:"كأن لم يبلغ يوماً كاملاً ولكن ساعة منه".
تمت السورة بعون الله وحمده
وصلى الله على مُحمد
*
…
*
…
*
سورة عبس
مكية، وهي إحدى وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(عَبَسَ وتَولَّى • أَن جَاءَهُ الأَعْمَى • ومَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى • أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى • أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى • فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى • ومَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى • وأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى • وهُوَ يَخْشَى • فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) 1 - 10].
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم؛ وأم مكتوم أم أبيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة عبس
مكية، وهي أربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (أتى رسول الله? ابن أم مكتوم)، الحديث عن مالك بن أنس في "الموطأ"، والترمذي، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: نزلت {عَبَسَ} في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله? فجعل يقول: يا رسول الله، أرشدني، وعند رسول الله? رجل من عظماء المشركين، فجعل رسول الله? يُعرض عنه ويُقبل على الآخر ويقول:"أترى بما أقول بأساً" فيقول: لا، ففيه أُنزل هذا. والضمير في "ترى": لابن أم مكتوم.
واسمه عبد الله بن شريح ابن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي، وعنده صناديد قريش: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم. فقال: يا رسول الله، أقرئني وعلمني مما علمك الله، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: مرحباً بمن عاتبني فيه ربى، ويقول له: هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين؛ وقال أنس: رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية سوداء. وقرئ: (عبس) بالتشديد للمبالغة؛ ونحوه: كلح في كلح. (أَن جَاءَهُ) منصوب بتولي، أو بعبس، على اختلاف المذهبين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (واسمه: عبد الله بن شريح)، وفي "جامع الأصول":"هو عمرو بن قيس بن زائدة ابن الأصم، والأصم هو جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي القُرشي. وقيل: اسمه عبد الله بن عمرو، والأول أكثر وأشهر. وهو ابن أم مكتوم، واسمها: عاتكة بنت عبد الله المخزومية، أسلم قديماً بمكة، استخلفه رسول الله? ثلاث عشرة مرة في غزواته على المدينة، وكان ضريراً، مات بالمدينة، وقيل: قُتل شهيداً بالقادسية"، يوم فتح المدائن أيام عمر. والقادسية: موضع بينه وبين الكوفة خمسة عشر - ميلاً. وأما قول المصنف: وأم مكتوم أم أبيه، أي: جدته، فهو وهم، كما سبق. ونص ابن عبد البر في "الاستيعاب" أنه أمه.
قوله: (على اختلاف المذهبين)، أي: في تنازع الفعلين، وحذف الأمر من {أَن جَاءَهُ} للقياس المستمر، لا لكونه مفعولاً له؛ لأنه ليس فاعلاً لفاعل الفعل المعلل.
قوله: (نحوه كلَّح وكلَح)، وفي نسخة:"كلَّح في كلَح".
ومعناه: عبس؛ لأن جاءه الأعمى. أو أعرض لذلك. وقرئ: (أأن جاءه) بهمزتين وبألف بينهما، ووقف على (عَبَسَ وتَولَّى) ثم ابتدئ، على معنى: الآن جاءه الأعمى فعل ذلك إنكارا عليه؟ وروى أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط، ولا تصدى لغني. وفي الإخبار عما فرط منه، ثم الإقبال عليه بالخطاب: دليل على زيادة الإنكار، كمن يشكو إلى الناس جانباً جني عليه، تم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجهاً له بالتوبيخ وإلزام الحجة. وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقُرئ: "أأن جاءه"، بهمزتين وألف بينهما)، قال ابن جنى:"قرأها الحسن: وأن، معلقة بمحذوف دل عليه {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، أي أأن جاءه الأعمى أعرض عنه وتولى بوجهه؟ قالوقف إذن على تولى والاستئناف بالاستفهام للإنكار. وأما {أَن} على القراءة العامة فمنصوبة بتولى؛ لأنه الأقرب، ومن أعمل الأول نصبها بعبس وقال: عَبَسَ أن جاءه الأعمى وتولى لذلك، والوجه: إعمال الثاني لقربه. وأما أن تنصبه بمجموع الفعلين فلا".
وقلت: المصنف ذه إلى إعمال الأول بناء على مذهب الكوفيين، حيث قال: عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك؛ لأن لطف المعنى معه، فإن الواو إن لم تدل على الترتيب لكن النظم يقتضيه، فلا يناسب أن يقال: تولى لأن جاءه الأعمى وعبس لذلك؛ لأن التولي بعد العبوس كما يشهد له الحال.
قوله: (وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك)، يعني: العدول من اسم العلم إلى الوصف مزيد للإنكار وإلزام الحجة، مثل ما في العدول من الغيبة إلى الخطاب، وبيانه: قوله: كأنه يقول: قد استحق عنده العبوس، إلى آخره، أي: أهذا حق الأعمى أهذا حق الضعيف؟ [إلى] آخره؟ وتحريره: أن في إسناد عبس وتولى إلى ضمير الرسول? في حال الغيبة، إشعاراً بأن ذلك مما لا يليق بمنزلة من في صدد الرسالة، لا سيما أنه ما أُرسل إلا رحمة
كأنه يقول: قد استحق عنده العبوس والإعراض لأنه أعمى، وكان يجب أن يزيده لعماه تعطفاً وترؤفاً وتقريباً وترحيباً، ولقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدبا حسناً، فقد روي عن سفيان الثوري رحمه الله أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء. (ومَا يُدْرِيكَ) وأي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى؟ (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار الإثم. (أَوْ يَذَّكَّرُ) أو يتعظ، (فَتَنفَعَهُ) ذكراك، أي: موعظتك؛ وتكون له لطفاً في بعض الطاعات. والمعنى: أنك لا تدري ما هو مترقب منه، من تزك أو تذكر، ولو دريت لما فرط ذلك منك. وقيل: الضمير في (لَعَلَّهُ) للكافر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للعالمين، وأنه لعلى خلق عظيم؛ فكأن العابس والمتولي غيره، ثم التفت يخاطبه قائلاً: وما يُدريك؟ تأنيباً، أي: مثلك بتلك المنزلة لا ينبغي أن يتصدى لغني ويتلهى عن فقير. وكذلك في صفة الأعمى؛ من حيث اعتبار الجبلة النفسانية منقصة توجب الإعراض والتولي عمن هو متصف بها، ومن حيث مرتبتك من الخلق العظيم، قمع النفس، والعمل بمقتضى الخُلُق العظيم لا بمقتضى شهوة النفس، أو في تلك الصفة إشعار باستعمال التعطف والترؤف، والتقريب والترحيب، لا سيما من مثلك، وقد وصفك الله بالخلق العظيم، أو في تلك الصفة من تمهيد العُذر، وأنه أعمى لم يهتد إلى عدم الإقدام بين يديك، وقطع كلامك عن كلام القوم، اعتذار عند الكرام، خصوصاً عند مثلك وكنت للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. وهذه الآيات أيضاً من خُلُقه صلوات الله عليه؛ لأنها تأديب له، وكان خُلُقه القرآن، ثم في معنى الترجي الذي يعطيه {لَعَلَّهُ} تمهيد عُذر له صلوات الله عليه، جبراً لذلك الخطاب المشتمل على التوبيخ، يعني: أعذرناك لأنك حريص على إسلام القوم، فأدى اجتهادك إلى أن تُقبل عليهم وتُعرض عن الأعمى، ولو دريت ذلك ما فرطت ذلك، أي: وإن كان خفياً عليك يا رسول الله، كأن الله تعالى يعتذر من رسوله? . لله در المصنف ودركه أمثال هذه الرموز الجليلة!
قوله: (الضمير في {لَعَلَّهُ} للكافر)، فعلى هذا {لَعَلَّ} راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
يعني أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام، أو يتذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق؛ وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن. وقرئ:(فتنفعه) بالرفع عطفاً على (يَذَّكَّرُ)، وبالنصب جواباً لـ «لعل» ، كقوله:(فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى)[غافر: 37]، (تَصَدَّى) تتعرض بالإقبال عليه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولذلك قال: "طمعت في أن يتزكى"، وإن ما طمعت فيه كائن، وعلى الأول راجع إلى الله تعالى، إما مجازاً على سبيل الرمز للقطع؛ لأن {لَعَلَّ} من مثل كلام الجبابرة قطع في حصول المطموع فيه، أو تمثيلاً وأنه تعالى يعامل معاملة من يطمع ويرجو، وإلى الأخير الإشارة:{لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} ، أي: يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أو ضار الإثم، وإدخال لفظ "بعض" في الموضعين، للهضم من حقه، والإيذان بأن المطلوب التطهر أو الطاعة وإن حصل البعض منهما، والتفادي عن فواتهما وإن كان عن البعض، والله أعلم.
قوله: (وقُرئ: "فتنفعه" بالرفع)، عاصم: بالنصب، والباقون: برفعها.
قوله: ({فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى})، قال صاحب "المفتاح":"وسبب توليد {لَعَلَّ} معنى التمني في قولهم: لعلي سأحُج فأزورك بالنصب، هو بعد المرجو عن الحصول". وهذه القراءة تقوي مذهب من قال: إن الضمير في {لَعَلَّهُ} للكافر؛ لأن المعنى: ما يُدريك أن ما طمعت فيه وتمنيت من إسلام القوم كائن؟ لأنه مما لا يمكن حصوله، وليس ذلك إلا طمع فارغ، وينصره التفصيل بعده، وهو {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} ، {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى} ؛ لأنه يقتضي أن يكون للكافر أيضاً ذكر في المجمل.
قوله: ({تَصَدَّى}: تتعرض بالإقبال)، في "المطلع": أي: تقبل عليه بوجهك وتميل إليه.
والمصاداة: المعارضة؛ وقرئ: (تصدى) بالتشديد، بإدغام التاء في الصاد. وقرأ أبو جعفر:(تصدى)، بضم التاء، أي: تعرض. ومعناه: يدعوك داع إلى التصدي له، من الحرص والتهالك على إسلامه، وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام (إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ) [الشورى: 48]، (يَسْعَى) يسرع في طلب الخير (وهُوَ يَخْشَى) الله أو يخشى الكفار، وأذاهم في إتيانك. وقيل: جاء وليس معه قائد، فهو يخشى الكبوة. (تَلَهَّى) تتشاغل، من: لهى عنه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والمصاداة: المعارضة)، الراغب: الصدى: صوت يرجع من مكان صقيل. والتصدية: كل صوت يجرى مجرى الصدى في أن لا غناء فيه. وقوله: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] أي: غناءً، ما يوردونه غناء التصدي ومكاء الطير. والتصدي: أن يقابل الشيء مقابلة الصدى، أي: الصوت الراجع من الجبل، قال تعالى:{أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى} .
قوله: (وقُرئ: "تصدى"، بالتشديد)، الحرميان، والباقون: بالتخفيف. قال الزجاج: "الأصل في التخفيف: تتصدى، حذفت الثانية لاجتماع تاءين. وفي التشديد أيضاً: تتصدى، فالتاء أيضاً أُدغمت في الصاد لقرب المخرجين".
قوله: (وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام)، وجعل ما نافية، والجملة: حال مقررة لجهة الإشكال، وجعلها الزجاج استفهامية، أي: أي شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام؟ .
قوله: ({تَلَهَّى}: تتشاغل، من: لهى عنه)، الراغب:"اللهو: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه، يقال: لهوت بكذا ولهيت عن كذا: اشتغلت عنه بلهو، ويعبر عن كل ما به استمتاع: باللهو".
والتهى، وتلهى. وقرأ طلحة بن مصرف:(تتلهى)، وقرأ أبو جعفر:(تلهى) أي: يلهيك شأن الصناديد.
فإن قلت: قوله: (فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى)، (فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى) كأن فيه اختصاصاً.
قلت: نعم، ومعناه: إنكار التصدي والتلهي عليه، أي: مثلك خصوصاً لا ينبغي له أن يتصدى للغني ويتلهى عن الفقير.
[(كَلاَّ إنَّهَا تَذْكِرَةٌ • فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ • فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ • مَرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ • بِأَيْدِي سَفَرَةٍ • كِرَامٍ بَرَرَةٍ) 11 - 16].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرأ أبو جعفر: "تُلهى")، قال ابن جني:"وكذلك قرأ: "تُصدى" بضم التاء وفتح الصاد. المعنى: يدعوك داع من زينة الدنيا وشارتها إلى التصدي له والإقبال عليه، وعلى ذلك تُلهى، أي: تُصرف عنه ويزوي وجهك دونه؛ لأنه لا غنى عنده ولا ظاهر معه، فخرج مخرج التنبيه للنبي? ".
وفي "المطلع": تُلهى على بناء المفعول من التلهية. الجوهري: "لهاه به تلهية، أي: علله كما يتعلل الصبي بشيء من الطعام يتجزى به عن اللبن".
قوله: (نعم، ومعناه إنكار التصدي)، اعلم أن نحو:"أنا عرفت" يحتمل التخصيص وتقوي الحكم، وإذا أريد التخصيص يُقدر تقديم الفاعل المعنوي على عامله، ولا بد من قيام قرينة ترجح أحد الاحتمالين. وقرينة الاختصاص هاهنا إضمار حرف الإنكار قبل الضمير المؤذن بأن الكلام في الفاعل لا في الفعل، وإليه الإشارة بقوله: إنكار التصدي والتلهي عليه، ولما بين لفظة "أنت" و "مثل" في مثل هذا التركيب من الملازمة، جعل "أنت" كناية عن المثل في قوله:"مثلك خصوصاً لا ينبغي أن يتصدى للغني ويتلهى عن الفقير".
(كَلاَّ) ردع عن المعاتب عليه، وعن معاودة مثله، (إنَّهَا تَذْكِرَةٌ) أي: موعظة يجب الاتعاظ والعمل بموجبها. (فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ) أي: كان حافظاً له غير ناس، وذكر الضمير؛ لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ. (فِي صُحُفٍ) صفة لتذكرة، يعني: أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح، (مُّكَرَّمَةٍ) عند الله (مَرْفُوعَةٍ) في السماء. أو مرفوعة المقدار، (مُّطَهَّرَةٍ) منزهة عن أيدي الشياطين، لا يمسها إلا أيدي ملائكة مطهرين. (سَفَرَةٍ) كتبة ينتسخون الكتب من اللوح. (بَرَرَةٍ) أتقياء. وقيل: هي صحف الأنبياء، كقوله:(إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى)[الأعلى: 18] وقيل السفرة: القراء. وقيل: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({فِي صُحُفٍ}: صفة لتذكرة)، قيل للمصنف: قوله تعالى: {فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ} اعتراض؟ قال: لا؛ لأن من شرط الاعتراض أن يكون بواو وبدون واو، فأما بالفاء فلا، ولكنه حث على الذكر والتذكرة، أي: فتذكرها، وعلى كل مسلم أيضاً يجب ذلك.
وقلت: أراد أنه استطراد، وبيانه: أنه لما خاطب النبي? بذلك الخطاب الهائل قيل: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} ، أي: أن تلك المعاتبة موعظة للسامعين؛ فإن النبي? بجلالته إذا عوتب بذلك الخطاب الفظيع لذلك التصدي والتلهي، فما بال غيره؟ وإذا كان كذلك، فتذكرها أيها السامع. وكان من الظاهر أن يؤخر قوله:{فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ} عن وصف التذكرة، فقدم لشدة العناية بها، ولعظم الحادثة عظم الكتب ووصفها بتلك الأوصاف العظيمة، ثم قيل:{قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} ، فجمع في ألفاظ قليلة معاني كثيرة، ثم فصل بقوله:{مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} ، إلى آخره.
قوله: {بَرَرَةٍ} : أتقياء)، وعن بعضهم: قيل: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} ، لأنه لو لم يكن لهم من الكلام إلا هذه الواحدة لكفت به، وهي أنهم مع غنيتهم وأنهم في أعلى عليين، يستغفرون للمؤمنين ويذكرون خيرهم، وأنت لا تذكر أخاك إلا بالسوء والقُبح.
[(قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ • مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ • مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ • ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ • ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ • ثُمَّ إذَا شَاءَ أَنشَرَهُ • كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) 17 - 23]
(قُتِلَ الإنسَانُ) دعاء عليه، وهي من أشنع دعواتهم؛ لأن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها. و (مَا أَكْفَرَهُ) تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله، ولا ترى أسلوباً أغلظ منه. ولا أخشن مساً، ولا أدل على سخط، ولا أبعد شوطاً في المذمة، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للائمة على قصر متنه، ثم أخذ في وصف حاله من ابتداء حدوثه إلى أن انتهى، وما هو مغمور فيه من أصول النعم وفروعها، وما هو غارز فيه رأسه من الكفران والغمط، وقلة الالتفات، إلى ما يتقلب فيه وإلى ما يجب عليه من القيام بالشكر. (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) من أي شيء حقير مهين خلقه؟ ثم بين ذلك الشيء بقوله:(مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) فهيأه لما يصلح له ويختص به. ونحوه (وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)[الفرقان: 2]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولا أجمع للائمة على قصر متنه)، اللائمة: الملائمة. قال الإمام: {قُتِلَ الْإِنسَانُ} : تنبيه على أنهم استحقوا أعظم أنواع العقاب عُرفاً، وقوله:{مَا أَكْفَرَهُ} تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعاً.
قوله: (غارز فيه رأسه)، كناية عن الانهماك في الشيء والذهاب عما عليه. الأساس:"فلان غارز رأسه في سنة، وما طلع السماك إلا غارزاً ذنبه في برد، وهو الأعزل، يطلع لخمس خلت من تشرين الأول".
قوله: (ونحوه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا})، يعني: مثله في عطف {فَقَدَّرَهُ} على {وَخَلَقَ} ، والخلق والتقدير شيء واحد، لكن المراد من التقدير هاهنا التهيؤ والاستعداد، قال: المعنى: أنه أحدث كل شيء إحداثاُ مراعي فيه التقدير والتسوية، فقدره وهيأه لما
نصب «السبيل» بإضمار (يسر) وفسره بـ (يسر) والمعنى: ثم سهل سبيله وهو مخرجه من بطن أمه، أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقى الخير والشر بإقداره وتمكينه، كقوله:(إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ)[الإنسان: 3]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: بين له سبيل الخير والشر. (فَأَقْبَرَهُ) فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ولم يجعله مطروحاً على وجه الأرض جزرا للسباع والطير كسائر الحيوان. يقال: قبر الميت إذا دفنه، وأقبره الميت. إذا أمره أن يقبره ومكنه منه. ومنه قول من قال للحجاج: أقبرنا صالحاً، (أَنشَرَهُ) أنشأه النشأة الأخرى، وقرئ:(نشره). (كَلاَّ) ردع للإنسان عما هو عليه، (لَمَّا يَقْضِ) لم يقض بعد، مع تطاول الزمان وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يصلح له، مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المستوي الذي تراه، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا. وينطبق على هذا قوله:{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} ، على تأويل ابن عباس: ثم بين له سبيل الخير والشر، كما قال:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]. ويشكل إذا قيل: السبيل: مخرجه من بطن أمه من حيث النظم.
قوله: (جزراً للسباع)، الجوهري:"جرز السباع: اللحم الذي تأكله، يقال: تركوهم جزراً، بالتحريك: إذا قتلوهم".
قوله: (أقبرنا صالحاً)، الجوهري:"أقبرته، أي: أمرت بأن يقبر. قال تميم للحجاج: أقبرنا صالحاً، وكان قد قتله وصلبه، أي: ائذن لنا في أن نقبره، فقال لهم: دونكموه. قال ابن السِّكّيت: أقبرته، أي: صيرت له قبراً يدفن فيه". وقيل: هو القابر، وأنشد للأعشى:
لو أسندت ميتاً إلى نحرها عاش ولم يُنقل إلى قابر
قوله: (وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية)، هذا معنى التوقع في لفظ "لما"؛ رويناه
(مَا أَمَرَه) الله حتى يخرج عن جميع أوامره، يعني: أن إنساناً لم يخل من تقصير قط.
[(فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ إلَى طَعَامِهِ • أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًا • ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًا • فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًا • وعِنَبًا وقَضْبًا • وزَيْتُونًا ونَخْلاً • وحَدَائِقَ غُلْبًا • وفَاكِهَةً وأَبًا • مَتَاعًا لَّكُمْ ولأَنْعَامِكُمْ) 24 - 32].
ولما عدد النعم في نفسه، أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه، فقال:(فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ إلَى طَعَامِهِ) إلى مطعمه الذي يعيش به كيف دبرنا أمره، (أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ) يعني الغيث. قرئ بالكسر على الاستئناف، وبالفتح على البدل من الطعام. وقرأ الحسين بن علي رضي الله عنهما:(أنى صببنا) بالإمالة على معنى: فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء. و (ثُمَّ شَقَقْنَا): من شق الأرض بالنبات ويجوز أن يكون من شقها بالكراب على البقر؛ وأسند الشك إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في "صحيح البخاري" عن مجاهد: "لا يقضي أحد ما أُمر به"، أي: لم يقض أحد جميع ما كان مفروضاً؛ لأن الإنسان لا ينفك عن التقصير.
قوله: ({مَا أَمَرَهُ} الله)، قال صاحب "الكشف":"الأصل: ما أمره الله فحذف الباء ثم حذف الهاء الأولى، فصار: ما أمره، فالهاء الباقية للموصولة، والمحذوفة للإنسان".
قوله: (قُرئ بالكسر على الاستئناف)، الكوفيون:{أَنَّا صَبَبْنَا} بفتح الهمزة، والباقون: بكسرها.
قوله: (وأسند الشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب)، الانتصاف: ما رأيت كاليوم عبداً ينازع ربه بقوله: {ثُمَّ شَقَقْنَا} حقيقة، يجعله مجازاًّ ويضيفها إلى الحراث حقيقة.
و «الحب» : كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما. و «القضب» : الرطبة، والمقضاب: أرضه، سمي بمصدر قضبه إذا قطعه؛ لأنه يقضب مرة بعد مرة (وحَدَائِقَ غُلْبًا) يحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء، فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها، كما تقول: حديقة ضخمة، وأن يجعل شجرها غلباً، أي: عظاماً غلاظاً. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب؛ فاستعير؛ قال عمرو بن معد يكرب:
يمشى بها غلب الرقاب كأنهم
…
بزل كسين من الكحيل جلالا
والأب: المرعى؛ لأنه يؤب أي يؤم وينتجع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من نحو الحنطة والشعير)، الراغب:"الحب والحبة: في الحنطة والشعير ونحوهما من المطعومات، والحب والحبة: في بروز الرياحين".
قوله: (والأصل في الوصف بالغُلب: الرِّقاب، فاستعير)، وهو من استعارة المرسن لأنف الإنسان.
قوله: (يمشي بها غُلب الرِّقاب) البيت، الضمير في "بها": عائد إلى الخيل أو الكتيبة غُلْب الرِّقاب، أي غلاظ الأعناق. والبزل: جمع البازل، وهو يطلق على الذكور والإناث من الإبل إذا فطر نابه، إذا جعل الضمير للكتيبة كانت الباء تجريدية، وقيل: يصف أرضاً مأسدة، يقول: يمشي بهذه الأرض أسود غلاظ العُنق، كأنها نوق كسين جلالاً من القطران.
قوله: (والأب: المرعى)، الراغب:"الأب: المرعى المتهييء للرعي، من قولهم: أب لكذا: إذا تهيأ، وأب إلى وطنه: إذا نزع إليه نزوعاً: تهيأ لقصده. وإبان ذلك: فعلان منه، وهو الزمان المهيأ لفعله ومجيئه".
والأبّ والأمّ أخوان قال:
جذمنا قيسٌ ونجد دارنا
…
ولنا الأبّ به والمكرع
وعن أبى بكرٍ الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأب فقال: أيّ سماءٍ تظلني، وأيّ أرضٍ تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به. وعن عمر رضي الله عنه: أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا قد عرفنا، فما الأب؟ ثم رفض عصاً كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدرى ما الأب، ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه.
فإن قلت: فهذا يشبه النهى عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والأب والأم) بفتح الهمزة فيهما (أخوان)، أي: مثلان في معنى القصد.
قوله: (جُذمنا قيس) البيت، الجذم: الأصل، والمكرع: المنهل. يقال: كرعوا فيها أي: تناولوا الماء بأفواهمم، روي عن المصنف: كرعت الإبل: غيبت أكارعها، يقول: أصلنا من قبيلة قيس، ومنهلنا ومرعانا نجد.
قوله: (وعن عمر رضي الله عنه، أنه قرأ هذه الآية)، روينا في "صحيح البخاري"، عن أنس أن عمر قرأ:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} ، قال: فما الأب؟ ثم قال: ما كُلفنا - أو قال: ما أُمِرنا - بهذا.
قوله: (كل هذا)، أي: من الحب والعنب والقضب والزيتون والنخل، ثم رفض عصاه، أشار برفض عصاه إلى: أن ارفضوا هذا.
قلت: لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيءٍ من العلم لا يعمل به تكلفاً عندهم؛ فأراد أنّ الآية مسوقةٌ في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعاً له أو لإنعامه؛ فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك ولم يشكل مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسمٌ له، واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن.
[(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ * مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ * تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) 32 - 41].
يقال: صخّ لحديثه، مثل: أصاخ له، فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً)، الراغب:"الصاخة: شدة صوت ذي النطق، يقال: صخ يصخ فهو صاخ، قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ}: عبارة عن القيامة"، وقال الزجاج:"الصاخة هي الصخة التي تكون عندها القيامة، تصخ الأسماع، أي: تصمها فلا تسمع إلا ما تدعي به أحيائها. ثم فسر في أي وقت تجيء فقال: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ}، ثم وصف أحوال المؤمنين والكافرين بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} الآية". وقال أبو البقاء: {فَإِذَا جَاءَتِ} : العامل فيها جوابها، وهو معنى قوله:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ} ، وقال المصنف في
لأنّ الناس يصخون لها، يَفِرُّ منهم لاشتغاله بما هو مدفوعٌ إليه، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئاً؛ وبدأ بالأخ، ثم بالأبوين؛ لأنهما أقرب منه، ثم بالصاحبة والبنين؛ لأنهم أقرب وأحب؛ كأنه قال: يفرّ من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه. وقيل: يفرّ منهم حذراً من مطالبتهم بالتبعات. يقول الأخ: لم تواسني بمالك، والأبوان: قصرت في برنا، والصاحبة: أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت، والبنون: لم تعلمنا ولم ترشدنا، وقيل: أوّل من يفرّ من أخيه: هابيل؛ ومن أبويه: إبراهيم، ومن صاحبته: نوحٌ ولوط؛ ومن ابنه: نوح، (يُغْنِيهِ) يكفيه في الاهتمام به. وقرئ:(يعنيه)، أي: يهمه، (مُسْفِرَةٌ) مضيئةٌ متهللة، من أسفر الصبح: إذا أضاء. وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: من قيام الليل؛ لما روى في الحديث: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» ، وعن الضحاك: من آثار الوضوء، وقيل: من طول ما اغبرت في سبيل الله (غَبَرَةٌ) غبارٌ يعلوها، (قَتَرَةٌ) سوادٌ كالدخان؛ ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، كما ترى من وجوه الزنوج إذا اغبرت؛ وكأن الله عز وجل يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة، كما جمعوا الفجور إلى الكفر.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (عبس وتولى) جاء يوم القيامة ووجهه ضاحكٌ مستبشر» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ} [النازعات: 34]: [{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ}]: بدل من "إذا جاءت"، يعني: إذا رأى أعماله مدونة في كتابه تذكرها وكان قد نسيها، فالمعنى: فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه.
قوله: (بما هو مدفوع إليه)، أي: من الأمور القادحة التي تثقله كقوله تعالى: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر: 18]. الأساس: دفعت إلى أمر كذا، وأنا مدفوع إليه: مضطر.
تمت السورة
سورة التكوير
مكية، وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ • وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ • وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ • وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ • وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ • وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ • وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ • وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ • بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ • وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ • وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ • وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ • وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ • عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) 1 ـ 14].
في التكوير وجهان: أن يكون من كوّرت العمامة إذا لففتها، أي: يلف ضوءها لفاً فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق، وهو عبارةٌ عن إزالتها والذهاب بها؛ لأنها ما دامت باقيةً كان ضياؤها منبسطاً غير ملفوف. أو يكون لفها عبارةً عن رفعها وسترها؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة التكوير
مكية، وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (أو يكون لفها)، عطف على قوله: أي: يلف ضوءها لفاً، وقوله:"وأن يكون من: طعنه"، عطف على قوله:"أن يكون من كُورت العمامة"، وهو الوجه الثاني، وكلا
لأنّ الثوب إذا أريد رفعه لف وطوي؛ ونحوه قوله: (يَوْمَ نَطْوِي السَّماء)[الأنبياء: 104 َ] وأن يكون من طعنه فجوّره وكوّره: إذا ألقاه، أي: تلقى وتطرح عن فلكها، كما وصفت النجوم بالانكدار. فإن قلت: ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟
قلت: بل على الفاعلية، رافعها فعلٌ مضمرٌ يفسره كوّرت؛ لأنّ «إذا» يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط (انْكَدَرَتْ) انقضت، قال:
أبصر خربان فضاءٍ فانكدر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوجهين كناية. الراغب: "كور الشيء: إدارته وضم بعضه إلى بعض، ككور العمامة. وطعنه فكوره: إذا ألقاه مجتمعاً".
قوله: (فجوره)، بالجيم، الجوهري:"ضربه فجوره، أي: صرعه، مثل: كوره، فتجور".
قوله: ({انكَدَرَتْ}: انقضت)، الراغب:"الكدر: ضد الصفاء، يقال: عيش كدر، والكدرة: في اللون خاصة، والكدرة في الماء والعيش، والانكدار: تغير من انتشار الشيء، قال تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}. وانكدار القوم على كذا: إذا قصدوا متناثرين عليه".
قوله: (أبصر خربان فضاء فانكدر)، قبله في "المطلع":
تقضى البازي إذا البازي كسر داني جناحيه من الطور فمر
انقضت: هوت. خربان: جمع خرب، وهو ذكر الحبارى، فانكدر، أي أبصر البازي الحُبارى فانقض وسقط عليه. والشعر للعجاج يمدح عمر بن معمر.
ويروى في الشمس والنجوم: أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها كما قال: (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)[الأنبياء: 98]، (سُيِّرَتْ) أي على وجه الأرض وأبعدت، أو سيرت في الجوّ تسيير السحاب كقوله (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل: 88]. والعشار في جمع عشراء، كالنفاس في جمع نفساء: وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزها. (عُطِّلَتْ) تركت مسيبة مهملة. وقيل: عطلها أهلها عن الحلب والصر، لاشتغالهم بأنفسهم. وقرئ:(عطلت) بالتخفيف. (حُشِرَتْ) جمعت من كل ناحية؛ قال قتادة: يحشر كل شيءٍ حتى الذباب للقصاص. وقيل: إذا قضى بينها ردّت تراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرورٌ لبنى آدم وإعجابٌ بصورته، كالطاوس ونحوه. وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: حشرها موتها. يقال: إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم حشرتهم السنة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({عُطِّلَتْ}: تُركت مُسيبة)، الراغب:"العطل: فقدان الزينة والشغل، يقال: عطلت المرأة فهي عَطِل وعاطل، وعطلته من الحلي ومن العمل فتعطل، قال تعالى: {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} [الحج: 45]، ويقال لمن يجعل العالم بجهله وبزعمه فارغاً عن صانع أتقنه وزينة: معطل، وعطل الدار عن ساكنيها والإبل عن راعيها".
قوله: (يُحشر كل شيء حتى الذباب)، عن مسلم والترمذي، عن أبي هريرة في قوله تعالى:{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} قال النبي? : "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" وزاد أحمد بن حنبل: وحتى الدرة من الدرة".
قوله: (إذا أجحفت السنة)، بالجيم والحاء المهملة. الأساس:"أجحف بهم الدهر: استأصلهم، وأجحفهم فلان: كلفهم ما لا يطاق، وسنة مجحفة".
وقرئ (حشرت) بالتشديد. (سُجِّرَتْ) قرئ بالتخفيف والتشديد، من سجر التنور: إذا ملأه بالحطب، أي: ملئت وفجر بعضها إلى بعضٍ حتى تعود بحراً واحداً. وقيل: ملئت نيراناً تضطرم لتعذيب أهل النار. وعن الحسن: يذهب ماؤها فلا تبقى فيها قطرة. (زُوِّجَتْ) قرنت كل نفسٍ بشكلها، وقيل: قرنت الأرواح بالأجساد. وقيل بكتبها وأعمالها. وعن الحسن هو كقوله: (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً)[الواقعة: 7] وقيل: نفوس المؤمنين بالحور، ونفوس الكافرين بالشياطين. وأد يئد مقلوبٌ من آد يؤود: إذا أثقل. قال الله تعالى: (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما)[البقرة: 255]؛ لأنه إثقالٌ بالتراب: كان الرجل إذا ولدت له بنتٌ فأراد أن يستحييها: ألبسها جبةً من صوفٍ أو شعرٍ ترعى له الإبل والغنم في البادية؛ وإن أراد قتلها تركها، حتى إذا كانت سداسيةً فيقول لأمها: طيبيها وزينيها، حتى أذهب بها إلى أحمائها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({سُجِّرَتْ} قُرئ بالتخفيف والتشديد)، ابن كثير وأبو عمرو: بالتخفيف، والباقون: بالتشديد.
قوله: (قُرنت كل نفس بشكلها)، في "الكواشي": يُقرن الصالح بالصالح في الجنة، ويُقرن الطالح بالطالح في النار.
قوله: (وعن الحسن: هو كقوله: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً})، فالأزواج على هذا: الأصناف، قال: يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض: أزواج، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا} [طه: 131].
قوله: (فأراد أن يستجيبها)، هو من قوله تعالى:{وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49].
قوله: (سُداسية)، أي: بلغت قامتها ستة أشبار، وعمرها ست سنين.
الأساس: "إزار سديس وسداسي: ست أذرع، وأسدس البعير: ألقى سديسه".
وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب، حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرةً فتمخضت على رأس الحفرة؛ فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، وإن ولدت ابناً حبسته.
فإن قلت: ما حملهم على وأد البنات؟
قلت: الخوف من لحوق العار بهم من أجلهنّ، أو الخوف من الإملاق، كما قال الله تعالى:(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)[الإسراء: 31]، وكانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات به، فهو أحق بهنّ. وصعصعة بن ناجية ممن منع الوأد؛ فيه افتخر الفرزدق في قوله:
ومنّا الّذي منع الوائدات
…
فأحيا الوئيد فلم توأد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومنا الذي) البيت، وفي رواية:
وجدي الذي
الوئيد: فعيل بمعنى مفعول، فلذا لم يؤنث. روي أن صعصعة جد الفرزدق قدم على رسول الله? ، فعرض عليه الإسلام، فقال له: يا رسول الله، عملت أعمالاً في الجاهلية، فهل لي فيها أجر؟ أحييت ثلاث مئة وستين من الموءودة، واشتريت كل واحدة منها بناقتين عشراوين وجمل، قال رسول الله? :"هذا باب من البر ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام"، وبه افتخر الفرزدق، والله أعلم بصحبته.
وعد صاحب "الاستيعاب" صعصعة جد الفرزدق في الصحابة، وقال: روى عنه
فإن قلت: فما معنى سؤال الموءودة عن ذنبها الذي قتلت به؛ وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟
قلت: سؤالها وجوابها تبكيتٌ لقاتلها، نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى:(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتخذوني) إلى قوله: (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ)[المائدة: 116]. وقرئ: (سألت)، أي: خاصمت عن نفسها، وسألت الله أو قاتلها؛ وإنما قيل (قُتِلَتْ) بناءً على أن الكلام إخبارٌ عنها؛ ولو حكي ما خوطبت به حين سئلت. فقيل: قتلت أو كلامها حين سئلت لقيل: قتلت. وقرأ ابن عباسٍ رضي الله عنهما: (قتلت)، على الحكاية، وقرئ (قتلت) بالتشديد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طفيل بن عمرو، وابنه عقال بن صعصعة، وروى عنه الحسن، وكان من أشراف بني تميم وكان في الجاهلية يفتدي الموءودات من بني تميم، وقال الفرزدق فيه:
وجدي الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم تُوأد
قوله: (فما معنى سؤال الموءودة؟ ) الفاء دلت على إنكار على كلامه السابق، أي: ذكرت أن موجب الوأد؛ إما خوف العار أو الإملاق، لا من ذنب صدر عنها، فما معنى سؤال الموءودة، إلى آخره.
قوله: (تبكيت لقائلها)، الأساس:"بكته بالحجة وبكته: غلبه، يقال: بكته حتى أسكته". وتقريره أن المجني عليه إذا سُئل بمحضر من الجاني ونُسب إليه الجناية دون الجاني، كان ذلك بعثاً للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه، فيعثر على براءة ساحة صاحبه، وعلى أنه هو المستحق لكل نكال فيفحم، وهذا نوع من الاستدراج واقع على طريق التعريض.
وفيه دليلٌ بينٌ على أن أطفال المشركين لا يعذبون، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بالذنب، وإذا بكت الله الكافر ببراءة الموؤودة من الذنب: فما أقبح به، وهو الذي لا يظلم مثقال ذرّةٍ أن يكرّ عليها بعد هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى عنده فعل المبكت من العذاب الشديد السرمد! وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك، فاحتجّ بهذه الآية. (نُشِرَتْ) قرئ بالتخفيف والتشديد، يريد: صحف الأعمال؛ تطوى صحيفة الإنسان عند موته، ثم تنشر إذا حوسب. عن قتادة: صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك، ثم تنشر يوم القيامة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يُعذبون)، ودليله أنه إذا بكت الله الكافرين ببراءة الموءودة من الذنب، فما أقبح به، وهو الذي لا يَظلم مثقال ذرة، أن يكر عليها بعد ذلك هذا التبكيت! وهو مبني على مسألة الحسن والقُبح العقلي. وروينا خلافه عن البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي، عن ابن عباس قال: سئل رسول الله? عن أولاد المشركين، فقال:"الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين". تفسيره ما روى أبو داود، عن عائشة رضي الله عنها، قلت: يا رسول الله، ذراري المؤمنين؟ فقال:"من آبائهم"، فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. قلت: يا رسول الله، فذراري المشركين؟ فقال:"من آبائهم"، أي: متصلين بهم، كقوله تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ} [التوبة: 68]. وفي "مسند" الإمام أحمد بن حنبل: سألت خديجة عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله? :"هما في النار".
قوله: ({نُشِرَتْ} قُرئ بالتخفيف)، نافع وعاصم وابن عامر، والباقون: بتشديدها.
فلينظر رجلٌ ما يملى في صحيفته. وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال: إليك يساق الأمر يا ابن آدم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يحشر الناس عراةً حفاةً» ، فقالت أمّ سلمة: كيف بالنساء؟ فقال: شغل الناس يا أمّ سلمة. قالت: وما شغلهم؟ قال: "نشر الصحف فيها مثاقيل الذرّ ومثاقيل الخردل". ويجوز أن يراد: نشرت بين أصحابها، أي فرقت بينهم. وعن مرثد بن وداعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنةٍ عالية، وتقع صحيفة الكافر في يده في سمومٍ وحميم، أي مكتوبٌ فيها ذلك، وهي صحفٌ غير صحف الأعمال. (كُشِطَتْ) كشفت وأزيلت، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء. وقرأ ابن مسعودٍ (قشطت) واعتقاب الكاف والقاف كثير. يقال: لبكت الثريد ولبقته، والكافور والقافور. (سُعِّرَتْ) أو قدت إيقاداً شديداً، وقرئ:(سعرت) بالتشديد للمبالغة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يُحشر الناس عُراة)، الحديث من رواية الترمذي، عن ابن عباس، أن النبي? قال:"تحشرون حفاة عراة غُرلاً". فقالت امرأة: أيبصر أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: "يا فلانة، لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأن يغنيه". وعن البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها، قلت: الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: "الأمر أشد من أن يُهمهم ذلك".
قوله: (لبكت الثريد ولبقته)، الأساس:"لبق طعامه ولبقه، يلبقه، مثل: لبكه: إذا خلطه ولينه، ومنه: رجل لبق ولبيق: [لين] الأخلاق لطيف ظريف".
قوله: (وقُرئ {سُعِّرَتْ} بالتشديد)، نافع وحفص وابن ذكوان، والباقون: بالتخفيف.
قيل: سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم، (أُزْلِفَتْ) أدنيت من المتقين، كقوله تعالى:(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ)[ق: 31]، قيل: هذه اثنتا عشرة خصلة؛ ست منها في الدنيا، وست في الآخرة.
و(عَلِمَتْ) هو عامل النصب في (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) وفيما عطف عليه. فإن قلت: كل نفسٍ تعلم ما أحضرت، كقوله:(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً)[آل عمران: 30]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ست منها في الدنيا)، وهي من قوله:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إلى قوله: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} ، (وست في الآخرة)، وهي من قوله:{وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} إلى قوله: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} .
قوله: (و {عَلِمَتْ} هو عامل النصب في {إِذَا الشَّمْسُ})، قال الزجاج:"التقدير: إذا كانت هذه الأشياء، علمت كل نفس ما أحضرت من خير أو شر تُجزى به". وقال صاحب "الكشف": "هذه اثنتا عشرة خصالاً: من قوله: {إِذَا الشَّمْسُ} إلى قوله: {وَإِذَا الْجَنَّةُ}، كلها مضافة إلى الجمل، لم يتم بها الكلام، وإنما إتمامه بما عمل فيها من قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ}، فهي جملة من فعل وفاعل، ثم ابتدأ فأقسم، فقال: {فَلَا أُقْسِمُ}، وتمامه آخر السورة؛ لأن قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} جواب القسم".
قوله: (كقوله: {مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} [آل عمران: 30])، الراغب: "الحضر: خلاف البدو، والحضارة والحضارة: السكون بالحضر، كالبداوة والبداوة، ثم جُعل ذلك [اسماً] لشهادة مكان أو إنسان أو غيره. {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8]، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180]، نحو: جاء أحدكم الموت، {وَأَعُوذُ بِكَ
لا نفسٌ واحدةٌ، فما معنى قوله:(عَلِمَتْ نَفْسٌ)؟
قلت: هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 98]، فذلك من باب الكناية، أي: أن يحضرني الجن، وكني عن المجنون بالمحتضر وعمن حضره الموت بذلك".
قوله: {مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} ، أي: مُشاهداً مُعايناً عنده.
قوله: (لا نفس واحدة)، يعني: نفس في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} نكرة في سياق الإثبات، فلا يُفيد العموم والمقام يقتضيه. وأجاب الإمام بجوابين، أحدهما: ما ذكره المصنف ثم قال: "وهذا كمن يسأل عالماً عن مسألة ظاهرية ويقول له: هل عندك شيء فيها؟ فيقول ربما حضر شيء، وغرضه الإشارة إلى أن ما عنده في تلك المسألة، ما لا يقوم به غيره، وثانيهما: لعل الكفار كانوا يُتعبون أنفسهم في الدنيا فيما يعتقدونه طاعات، ثم بدا لهم يوم القيامة خلاف ذلك".
وقلت: والتنوين في {نَفْسٌ} إذن: للنوع، أي: علمت نفس كافرة أن ما حسبته طاعة كان وبالاً عليها، ويؤيده قوله:{وَإِذَاالْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} . وأما الواحدي ومحيي السنة فقد قالا: "علمت كل نفس ما أحضرت من خير أو شر"، وقال القاضي:"نفس في معنى العموم، كقولهم: تمرة خير من جرادة".
قوله: (يقصدون به الإفراط فيما يُعكس عنه)، أي: يقصدون الإفراط في الشيء الذي يجعل الكلام معكوساً عنه، مثاله:{نَفْسٌ} فيما نحن بصدده، فإنها تُفيد القلَّة وضعت موضع الكثرة تعكيساً، لإرادة الإفراط في الكثرة.
ومنه قوله عز وجل: (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ)[الحجر: 2] ومعناه: معنى كم، وأبلغ منه وقول القائل:
قد أترك القرن مصفرّا أنامله
وتقول لبعض قوّاد العساكر: كم عندك من الفرسان؟ فيقول: رب فارسٍ عندي. أولا تعدم عندي فارساً، وعنده المقانب: وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه. ولكنه أراد إظهار براءته من التزيد، وأنه ممن يقلل كثير ما عنده، فضلاً أن يتزيد، فجاء بلفظ التقليل، ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قد أترك القرن مُصفراً أنامله)، تمامه:
كأن أثوابه مُجَّت بفرصاد
القرن: مثلك في الشجاعة. مُصفراً أنامله: كناية عن القتل. ومجَّ الماء من فيه: رمى به، الفرصاد: التوت. يقول: أترك قرني في المعركة مقتولاً مُلطخ الثوب بالدم. أراد بالتقليل في قوله: "قد أترك القِرن"، التكثير لمقام المدح.
قوله: (المقانب)، الجوهري:"المقنب: ما بين الثلاثين إلى الأربعين من الخيل".
قوله: (ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين)، وذلك أن العكس في الكلام إنما يُصار إليه للمبالغة، والمتكلم إنما يتمكن منه إذا لم يُنازع فيما عكس فيه، وأنه كالمجمع عليه بقرائن الأحوال، ولذلك قال: وتقول لبعض قُواد العساكر، وعليه قوله تعالى:{رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنّ قارئاً قرأها عنده، فلما بلغ (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) قال: وانقطاع ظهرياه!
[(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) 15 - 18].
(بِالْخُنَّسِ) الرواجع، بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوله، و (الْجَوارِ) السيارة. و (الْكُنَّسِ) الغيب، من كنس الوحشي: إذا دخل كناسه. قيل: هي الدراري الخمسة: بهرام، وزحل، وعطارد، والزهرة، والمشترى، تجرى مع الشمس والقمر، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس؛ فخنوسها: رجوعها، وكنوسها: اختفاؤها تحت ضوء الشمس. وقيل: هي جميع الكواكب، تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل: أي تطلع في أماكنها، كالوحش في كنسها، عسعس الليل وسعسع: إذا أدبر. قال العجاج:
حتّى إذا الصّبح لها تنفّسا
…
وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وقيل: (عسعس): إذا أقبل ظلامه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعطارد والزُّهرة)، عن بعضهم: صح الزُّهَرة، بفتح الهاء.
قوله: (حتى إذا الصُّبح لها تنفَّسا) البيت، الضمير في "عنها" و"لها" و"ليلها": للمفازة. وانجاب: انكشف، وانجابت السحابة: انكشفت.
قوله: (وقيل: {عَسْعَسَ}: إذا أقبل ظلامه)، قال الواحدي:" {عَسْعَسَ}: أدبر وذهب، وقال الحسن: أقبل بظلامه، وهو من الأضداد. ويدل على أن المراد هاهنا أدبر قوله: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}، أي: امتد ضوؤه حتى يصير نهاراً"، ولمن يقول بالأول أن يقول: إن التقابل لا يحصل إلا إذا فُسر بأقبل. وعن بعضهم: {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} أي: أقبل وأدبر، وذلك في مبدأ الليل ومنتهاه، فالعسعسة والعساس: رقة الظلام، وذلك في طرفي الليل، والعَس والعسس: نفض الليل من أهل الريبة، فجعل ذلك نفساً له على المجاز بأدنى ملابسة. وقال الإمام: "ويجوز
فإن قلت: ما معنى تنفس الصبح؟
قلت: إذا أقبل الصبح: أقبل بإقباله روحٌ ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز وقيل: تنفس الصبح.
[(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) 19 - 21].
(إِنَّهُ) الضمير للقرآن، (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هو جبريل صلوات الله عليه، (ذِي قُوَّةٍ) كقوله تعالى:(شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ)[النجم: 5 ـ 6]؛ لما كانت حال المكانة على حسب حال الممكن، قال:(عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) ليدل على عظم منزلته ومكانته (ثَمَّ) إشارةٌ إلى الظرف المذكور، أعنى: عند ذي العرش، على أنه عند الله مطاعٌ في ملائكته المقرّبين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه. وقرئ:(ثم) تعظيماً للأمانة، وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن يشبه النهار الذي غشيه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي يخنس، وإذا تنفس يجد راحة، فالصبح لما تخلص من الظلام، كأنه تخلص من كربه، وهو استعارة لطيفة".
قوله: (لما كانت حال المكانة على حسب حال الممكن)، يعني: وصف جبريل بقوله: {مَكِينٍ} ، وخص من أوصاف الله {ذِي الْعَرْشِ} ، ليدل على عظم منزلة جبريل عند الله ومكانته؛ لأن حال الشخص يتفاوت بتفاوت حال من له عنده المنزلة، فمرتبة من يُلازم السلطان عند سرير الملك، مُباين لمرتبة من يلازمه عند الوضوء. قال القاضي:"معنى قوله: {عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ}: عند الله ذي مكانة".
قال الإمام: معنى: {مَكِينٍ} : ذي الجاه الذي يُعطى ما سأل، يقال: مُكن فلان، بالضم، عند فلان، مكانة.
قوله: (بياناً لأنها أفضل صفاته)؛ لن ثم للتراخي في المرتبة هاهنا.
[(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) 22].
(وَما صاحِبُكُمْ) يعنى: محمداً صلى الله عليه وسلم (بِمَجْنُونٍ) كما تبهته الكفرة، وناهيك بهذا دليلاً على جلالة مكان جبريل عليه السلام وفضله على الملائكة، ومباينة منزلته أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم، إذا وازنت بين الذكرين حين قرن بينهما، وقايست بين قوله:(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)، وبين قوله:(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وناهيك بهذا دليلاً على جلالة مكان جبريل
…
ومُباينة منزلة لمنزلة أفضل الإنس)، الانتصاف:"ما يرضى له جبريل هذا التفسير المقتضي لتنقيص البشير النذير، السراج المنير، وقد قيل: الرسول الكريم محمد صلوات الله عليه، ولو كان جبريل، وقيل بتفضيل الملائكة مثلاً، لما جاز أيضاً؛ لأنهم اتفقوا على أنه لا يجوز تنقيص أحد منهم بتعيين من يفضل عليه بعينه، وفي معناه: "لا تُفضلوني على يونس بن متى"، فلو قلت: زيد أفضل أهل عصره لما شق [على أحد، بخلاف] ما إذا قلت: هو أفضل منك أيها المخاطب. وهذه الصفات إذا سُلمت لجبريل في حق نبينا في آخر الحاقة: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الآية: 40] ".
وإن قيل: هو جبريل: رد بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة: 41]. والزمخشري وافق هناك. وقوله: {ذِي قُوَّةٍ} ، لا نزاع أن جبريل أقوى، وقوله:{مُّطَاعٍ} ، فطاعة الملائكة لنبينا ظاهرة، فقال له ملك الجبال: إن الله أمرني أن أُطيعك، فإن أمرتني أن أُطبق عليهم الأخشبين فعلت. وله الشفاعة: العامة والخاصة. وأما أنه أمين فقوله صلوات الله عليه: "إني أمين في السماء أمين في الأرض".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الإمام ما معناه: "كما أنه سبحانه وتعالى أجرى على جبريل هذه الصفات هاهنا، أجرى على نبينا صلوات الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46]، فإفراد أحد الشخصين بالذكر وإجراء صفاته عليه، لا يدل على انتفاء تلك الصفات عن الآخر".
وقال القاضي: "استدلاله ضعيف، إذ المقصود من ذلك رد قولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]، {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8]، لا تعداد فضلهما والموازنة بينهما".
وقلت: سيقت الآيات لبيان شأن الكتاب، حيث جعل {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} مقسماً عليه بالأقسام السابقة فذُكر محمد صلوات الله عليه، وجبريل عليه السلام تابع لذكره، ونحوه قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 38 - 43]؛ لأنهم كانوا يقولون تارة: إنه مجنون، وأخرى: إنه كاهن، وشاعر، فرد الله عليهم بهذه الآيات، يعني: أنه صلوات الله عليه يتلقى هذا القرآن من لدُن حكيم عليم، بواسطة ملك مقرب، ومن صفاته أنه كيت وكيت، لا من جني متمرد رجيم كما يفترونه، ولذا فالموازنة إذن بين الجني والملك، لا بين محمد صلوات الله عليه والملك.
وأما تسميته مجنوناً في قوله: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} ، فعلى المشاكلة وإطباق الجواب على ما سُمع منهم، ويؤيده قول الزجاج:{وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} جواب القسم، أي: أقسم بهذه الأشياء أن القرآن نزل به جبريل وأن صاحبكم ليس بمجنون؛ لأنهم قالوا: {يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6]. تم كلامه.
[(وَلَقَدْ رءاهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) 23 ـ 25].
(وَلَقَدْ رَأَىهُ) ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل، (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) بمطلع الشمس الأعلى، (وَما هُوَ) وما محمد على ما يخبر به من الغيب، من رؤية جبريل والوحي إليه وغير ذلك، (بِظَنِين) بمتهمٍ من الظنة وهي التهمة. وقرئ:(بضنينٍ)، من الضنّ وهو البخل أي: لا يبخل بالوحي فيزوى بعضه غير مبلغه؛ أو يسأل تعليمه فلا يعلمه؛ وهو في مصحف عبد الله بالظاء، وفي مصحف أبىّ بالضاد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما.
وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب، ومعرفة مخرجيهما مما لا بد منه للقارئ؛ فإنّ أكثر العجم لا يفرّقون بين الحرفين، وإن فرقوا ففرقاً غير صواب، وبينهما بونٌ بعيد؛ فإن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان، .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم إنك إن أمعنت النظر، وقفت على أن في إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا المقام إدماجاً لتعظيم الرسول? ، وأنه بلغ من المكانة وعلو المنزلة عند ذي العرش، بأن جعل السفير بينه وبينه، مثل هذا الملك المُقرب المُطاع الأمين، فالقول في هذه الصفات بالنسبة إلى رسول الله? رفعة منزلته، كالقول في قوله:{ذِي الْعَرْشِ} بالنسبة إلى رفعة منزلة جبريل كما سبق والله أعلم.
قوله: (هو في مصحف عبد الله بالظاء)، ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: بالظاء، والباقون: بالضاد.
وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أضبط، يعمل بكلتا يديه، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين. وأما الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء. ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان، واختلافٌ بين جبلين من جبال العلم والقراءة، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب.
فإن قلت: فإن وضع المصلى أحد الحرفين مكان صاحبه؟
قلت: هو كواضع الذال مكان الجيم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أحد الأحرف الشجرية)، الجوهري: الشجر: ما بين اللحيين، وذلق اللسان: طرفه. وقال الخليل: إن الذلاقة في المنطق إنما هي بطرف أسلة اللسان، وهي مُستدقه.
قوله: (واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة)، يعني: عبد الله بن مسعود وأُبي ابن كعب. تشبيههما بجبلين، إشارة إلى رسوخهما في العلم، قال تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7].
قوله: (والاشتقاق والتركيب)، التركيب من حيث إن الظنين: فعيل بمعنى مفعول، والضنين: اسم فاعل. نسبتهما بجبلين، إشارة إلى رسوخهما في العلم، قال تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7].
قوله: (هو كواضع الذال مكان الجيم)، كنى بهذا بطلان صلاة من بدل الظاء بالضاد، وهو الظاهر من مذهب الشافعي، وجاء في كتاب "الروضة" جواز الإبدال، وقال الإمام: "والمختار الجواز لعُسر التمييز وشدة الاشتباه؛ لأنهما من المجهورة ومن الرِّخوة ومن
والثاء مكان الشين، لأن التفاوت بين الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما. (وَما هُوَ) وما القرآن، (بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي: بقول بعض المسترقة للسمع، وبوحيهم إلى أوليائهم من الكهنة.
[(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ * لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَما تَشاءوُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) 26 - 29].
(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) استضلالٌ لهم كما يقال لتارك الجادّة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق: أين تذهب؟ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) بدلٌ من (للعالمين)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المطبقة، ولأن النطق بالضاد مخصوص بالعرب، لما روى:"أنا أفصح من نطق بالضاد"، فلو اعتبر الفرق بينهما لوقع السؤال عنه في زمن الرسول? وزمن الصحابة، لا سيما عند دخول العجم في الإسلام، ولو وقع لثقل، فلما لم ينقل علم أن التمييز ليس في محل التكليف".
قوله: (كالتفاوت بين أخواتهما)، قال: ذكرت العرب ثلاث لغات في حُظظ بظاءين، وحُضض بضادين، وحُضظ بضاد بعدها ظاء، فلو اتحد الحرفان لما كان لروايتهم فيها ثلاث لغات معنى، وينادى عليه: الخَولان الخَولان؛ لأنه يجلب من بلاد خَولان، وهو دواء للعين تُطلى به الأجفان ولا يُدخل في العين.
قوله: (في بنيات الطريق)، الجوهري:"هي الطرق الصغار تتشعب من الجادة".
وإنما أبدلوا منهم لأنّ الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعظين جميعاً (وَما تَشاءوُنَ) الاستقامة يا من يشاؤها إلا بتوفيق الله ولطفه. أو: وما تشاؤونها أنتم يا من لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "إذا الشمس كورت" أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو: وما تشاءونها أنتم)، وإنما غير العبارة، بأن زاد في الثاني كلمة النفي في (من لا يشاؤها)، ولفظة {أَنتُمْ}؛ لأن الخطاب في قوله تعالى:{لِمَن شَاءَ مِنكُمْ} إما عام وعليه الوجه الأول، وإما خاص والمخاطبون هم المار ذكرهم في قوله:{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} ، وعليه الوجه الثاني، ولذلك سجل على عنادهم بقوله:"يا من لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه".
قال الإمام: "إن مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة الله؛ لأن مشيئة العبد مُحدثة، فلا بد لحدوثها من مشيئة أخرى، فأفعال العباد في طرفي ثبوتها وانتفائها موقوفة على مشيئة الله، وقول المعتزلة: إن هذه المشيئة مخصوصة بمشيئة القسر والإلجاء ضعيف؛ لأنا بينا أن المشيئة الاختيارية حادثة، ولا بد من محدث يُحدثها والله أعلم".
تمت السورة
بعون الله وحسن توفيقه
وصلى الله على محمد
*
…
*
…
*
سورة انفطرت
مكية، وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) 1 - 5].
(انْفَطَرَتْ) انشقت، (البحار فُجِّرَتْ) فتح بعضها إلى بعض، فاختلط العذب بالمالح، وزال البرزخ الذي بينهما، وصارت البحار بحراً واحداً. وروى أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار، فتصير مستوية، وهو معنى التسجير عند الحسن. وقرئ:(فجرت) بالتخفيف، وقرأ مجاهد: فجرت على البناء للفاعل والتخفيف، بمعنى: بغت لزوال البرزخ نظراً إلى قوله تعالى: (لا يَبْغِيانِ)[الرحمن: 20] لأنّ البغي والفجور أخوان. بعثر وبحثر بمعنى، وهما مركبان من البعث والبحث مع راءٍ مضمومةٍ إليهما. والمعنى: يحثت وأخرج موتاها. وقيل: لبراءة المبعثرة؛ لأنها بعثرت أسرار المنافقين.
[(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) 6 - 8]
فإن قلت: ما معنى قوله: (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)؟ وكيف طابق الوصف بالكرم إنكار الاغترار به،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة {انفَطَرَتْ}
مكية، وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (وكيف طابق الوصف بالكرم إنكار الاغترار به؟ )، يعني: أن قوله: {مَا غَرَّكَ} : إنكار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغرور، ووجود الغرور حُكم يصح ترتبه على وصف الكرم؛ لأنه مناسب، فكيف أنكره؟ يدل على المناسبة حديث عليٍّ رضي الله عنه مع غلامه. وأجاب أن وصف الكرم في الآية مُقيد مقرون بقوله:{خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} ، ومعناه: أنه تكرم على الإنسان بأن أخرجه من العدم إلى الوجود أولاً، ثم تفضل عليه ثانياً بأن مكنه من العمل، وعرضه للثواب والعقاب، ليعرف حق تلك النعمة ويشكر ربه، فلما قصر فيه وغفل عنه أنكر عليه بقوله:{يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (الَّذِي خَلَقَكَ} ، يعني: من حق الإنسان أن لا يغتر بهذا الكرم، بل يجتهد في العمل ويقابل تلك النعمة بالشكر ولا يقول: قد أحسن الله إليّ حيث أوجدني من العدم، كذلك يحسن إليَّ إذا أنا مِتُّ فيغفر لي، وهو المراد من قوله:"اغتراراً بالتفضل الأول".
وحاصله: أنه تعيير وتوبيخ، وليس بإطماع، فقوله:"وبتفضله" عطف على "بتكرم الله"، و"حتى": غاية "أن لا يغتر". وقوله: "أن يتفضل": مفعول "يطمع"، و"اغتراراً": علة لقوله: "حتى يطمع أن يتفضل عليه بالثواب". وقوله: "فإنه مُنكر"، مسبب عن قوله:"إن حق الإنسان أن لا يغتر"، إلى آخره. وقوله:"وقيل: للفضيل" جواب عن سؤال مقدر، يعني: إذا كان القيد ما ذكرت، فكيف قيده فُضيل بالستور المرخاة. وأجاب: أن كلامه مبني على الاعتراف بالقصور لا على الاعتذار؛ لأن فُضيلاً كان يغلب عليه الخوف، وأنشد صاحب "المطلع" لمحمد بن السماك في المعنى:
يا كاتم الذنب أما تستحي [و] الله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربك إمهاله وستره طول مساويكا
قال صاحب "الانتصاف": "هذه جعجعة فارغة، فالآية في الكفار لقوله: {كَلَّا بَلْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}، وتخليدهم حق ولكن ليس واجباً على الله، ويجوز عقلاً أن لا يُخلد الكافر وأن يدخله الجنة لولا ورود السمع، فالله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد".
وقلت: الحق العموم في الآية كما ذهب إليه المصنف. وقال الإمام: "في الإنسان قولان، أحدهما: أنه الكافر، لقوله: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ}، والثاني: أنه متناول لجميع العُصاة، وهو الأقرب؛ لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ".
وقلت: والنظم يساعد عليه، وذلك أن قوله:{يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ} إلى قوله: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، كالاعتراض بين قرينتي الجمع والتقسيم. فإن قوله:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} ، عام اشتمل على الفُجار والأبرار، وقوله:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} ، تقسيم تضمن معنى التفريق، فإنه تعالى لما بين أحوال القيامة بانفطار السماء وانتثار الكواكب وانفجار الأبحر والبعث عن القبور، ثم إطلاع كل نفس: برها وفاجرها على عملها، خيرها وشرها، نبه جنس الإنسان عن رقدة الغفلة وسنة الجهالة بقوله:{يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ} ، يعني: أيها الغافل، وراءك هذا الخطب الجسيم والخطر العظيم، وأنت قد اغتررت بما تكرم عليك ربك حيث خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك، فاشتغلت بذلك عن التزود لدار القرار، وأخلدت إلى دار الغرور، ولما كان مؤدى هذه الغفلة، الاغترار إلى الذهول عن المستقر الأصلي، نزله منزلة التكديب بيوم الدين، حتى أضرب عنه بقوله:{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} ، وهذا كما ترى من حال المتمادي في أمور الدنيا من المتسمين بالإسلام، إذا سمع شيئاً من أمر الآخرة تقبض واشمأز لغاية انهماكه في لذات العاجلة. ونظيره في تهديد المطففين:{أَلَا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ} [المطففين: 4]، جعلهم
وإنما يغتر بالكريم، كما يروى عن على رضي الله عنه أنه صاح بغلام له كرّاتٍ فلم يلبه، فنظر فإذا هو بالباب، فقال له: مالك لم تجبني؟ قال: لثقتي بحلمك وأمنى من عقوبتك، فاستحسن جوابه وأعتقه. وقالوا: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه.
قلت: معناه أنّ حق الإنسان أن لا يغتر بتكرم الله عليه، حيث خلقه حياً لينفعه، وبتفضله عليه بذلك حتى يطمع بعد ما مكنه وكلفه فعصى وكفر النعمة المتفضل بها، أن يتفضل عليه بالثواب وطرح العقاب، اغتراراً بالتفضل الأوّل، فإنه منكرٌ خارجٌ من حد الحكمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلاها:«غرّه جهله» ، وقال عمر رضي الله عنه: غرّه حمقه وجهله، وقال الحسن: غره والله شيطانه الخبيث، أي: زين له المعاصي وقال له: افعل ما شئت فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلاً وهو متفضلٌ عليك آخراً، حتى ورطه، وقيل للفضيل ابن عياض: إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك: "ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ"ماذا تقول؟ قال أقول: غرتني ستورك المرخاة. وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر، وليس باعتذارٍ كما يظنه الطماع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسوأ حالاً من الكفار؛ لأنه تعالى أثبت للكفار ظناً في قوله: {إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] ونفاه عنهم. قال القاضي: " {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أي: أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه؟ وذكر {الْكَرِيمِ} للمبالغة في المنع عن الاغترار، فإن محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم، وتسوية الموالي والمعادي والمطيع والعاصي، فكيف إذا انضم إليه صفة القهر والانتقام؟ وعن الاشتغال بما به يغُرُه الشيطان، ويقول: افعل ما شئت، فربك كريم لا يُعذب أحداً ولا يُعاجل بالعقوبة. وللدلالة على أن كثرة كرمه، تستدعي الجِدَّ في الطاعة لا الانهماك في المعصية اغتراراً بكرمه. وقوله: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ}، صفة ثانية مقررة للربوبية، مبنية للكرم، منبهة على أن من قدر على ذلك أولاً، قدر عليه ثانياً".
قوله: (كما يظنه الطماع)، قيل:"ما": مصدرية، والضمير في "يظنه" يعود إلى الظن،
ويظن به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم: إنما قال: (بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) دون سائر صفاته، ليلقن عبده الجواب حتى يقول: غرّني كرم الكريم. وقرأ سعيد بن جبير: (ما أغرّك) إما على التعجب، وإما على الاستفهام؛ من قولك: غرّ الرجل فهو غارّ: إذا غفل، من قولك: بيتهم العدوّ وهم غارّون، وأغرّه غيره: جعله غاراً. (فَسَوَّاكَ) فجعلك سوياً سالم الأعضاء، (فَعَدَلَكَ) فصيرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوتٍ فيه، فلم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا إحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود، ولا بعض الشعر فاحماً وبعضه أشقر. أو جعلك معتدل الخلق تمشى قائما لا كالبهائم. وقرئ:(فعدلك) بالتخفيف، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون بمعنى المشدّد، أي: عدل بعض أعضائك ببعضٍ حتى اعتدلت. والثاني: (فَعَدَلَكَ) فصرفك؛ يقال: عدله عن الطريق يعنى: فعدلك عن خلقة غيرك وخلقك خلقةً حسنةً مفارقةً لسائر الخلق. أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيئات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: ليس باعتذار مثل ظن الطماع ذلك الظن، كما في قولك: عبد الله أظنه منطلق، أي: أظن الظن، منطلق. ولا يجوز أن تكون موصولة، والعائد الضمير؛ لأنه يلزم اقتصار الظن على أحد مفعوليه، وهو غير جائز. وأما ما ذكر في مواضع من هذا الكتاب أن أحد مفعولي حسب محذوف، فهو فيما إذا كان الفاعل والمفعول شيئاً واحداً في المعنى، كقوله تعالى:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ} [النور: 57]، وقد صرح بهذا الشرط في كتابه، حيث قال:"الأصل: لا تحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول، وكان الذي سوغ ذلك، أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد، اقتنع بذكر الاتنين عن ذكر الثالث".
قوله: (وقُرئ: {فَعَدَلَكَ} بالتخفيف)، الكوفيون، والباقون: بالتشديد.
(ما) في (ما شاءَ) مزيدة، أي: ركبك في أيّ صورةٍ اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلقة في الحسن والقبح والطول والقصر، والذكورة والأنوثة، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه.
فإن قلت: هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟
قلت: لأنها بيانٌ لعدلك.
فإن قلت: بم يتعلق الجار؟
قلت: يجوز أن يتعلق بركبك على معنى: وضعك في بعض الصور ومكنك فيه، وبمحذوف أي: ركبك حاصلاً في بعض الصور؛ ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف، ويجوز أن يتعلق بعدلك، ويكون في «أيّ» معنى التعجب، أي فعدلك في صورةٍ عجيبة، ثم قال: ما شاء ركبك. أي ركبك ما شاء من التراكيب، يعنى تركيباً حسناً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هلا عُطفت هذه الجملة؟ )، أي: قوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} ، أي: لِمَ لَمْ يقل: ففي أي صورة، أو: فركَّبك في أي صورة؟ كما عطف ما قبلها، أي: قوله: {فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} .
قوله: (ويجوز أن يتعلق بعَدَلَك)، عطف على قوله:"يجوز أن يتعلق بـ {رَكَّبَكَ} "، وعلى الأول إما صلة له وضمن "ركب" معنى "وضع"، أو حال من المنصوب فيه، وعلى التقديرين الجملة بيان للجملة الأولى، وعلى الوجه الثاني {مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} بيان، فإنه لما قيل:{فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ} على التعجب، والتنكير للتفخيم، قيل: ما ذلك التعديل المفخم العجيب الشأن، وأجيب: لا يحيط الوصف بذلك، فإنه كما شاء الله ركبك، ولا يعلم ذلك إلا هو.
قال صاحب "الكشف": {مَّا} صلة زائدة، و {شَاءَ}: في موضع الجر صفة لـ {صُورَةٍ} ، و {فِي أَيِّ صُورَةٍ}: صلة {رَكَّبَكَ} ، أي: عدلك وركبك في أي صورة شاء، فحُذف لكون
[(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ * كِراماً كاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) 9 - 12].
(كَلَّا) ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله والتسلق به، وهو موجب الشكر والطاعة، إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية. ثم قال:(بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أصلا وهو الجزاء، أو دين الإسلام. فلا تصدّقون ثواباً ولا عقاباً وهو شر من الطمع المنكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجملة الثانية بياناً للأولى. وقال: وقيل: ما: شرطية، وشاء: في موضع الجزم، وركبك: جواب الشرط، ولا يكون الجار على هذا صلة {رَكَّبَكَ}؛ لأنه يقال: إن تضرب زيداً أضرب عمراً، لا يجوز تقديم "عَمراً" على إن، فوجب أن تكون {فِي أَيِّ صُورَةٍ}: صلة مُضمر، ولا تكون من صلة "عدلك"؛ لأنه استفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. فعلى هذا، في كلام المصنف إشكال؛ لأنه جعله من صلة عدلك في الوجه الأخير. والجواب: التقدير: فعدلك فيما يقال في حقه: أي صورة ما شاء ركبك.
قوله: ({كَلَّا} ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله)، يعني:{كَلَّا} : ردع، لما دل عليه قوله:{مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} . وقوله: إلى عكسهما، متعلق بقوله:"والتسلق به". وقوله: "وهو موجب الشكر والطاعة"، حال، أي: انتهوا عن الاغترار بكرم الله والتسلق به إلى الكفران والمعصية، والحال أن التسلق بكرم الله عز وجل موجب الشكر والطاعة.
قوله: (وهو شر من الطمع المنكر)، يعني: في قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} كما سبق، ففيه ترَقٍّ من الأهون إلى الأغلظ. قال القاضي:{بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} : "إضراب إلى بيان ما هو السبب الأصلي في اغترارهم".
الراغب: "بل هاهنا التصحيح الثاني وإبطال الأول، كأنه قيل: ليس هنا ما يقتضي أن يغرهم به تعالى، ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه".
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) تحقيق لما يكذبون به من الجزاء، يعنى أنكم تكذبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها. وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيمٌ لأمر الجزاء، وأنه عند الله من جلائل الأمور؛ ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه، ويجازى به الملائكة الكرام الحفظة الكتبة. وفيه إنذارٌ وتهويلٌ وتشويرٌ للعصاة ولطفٌ للمؤمنين. وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال: ما أشدّها من آية على الغافلين!
[(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ * وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) 13 - 16].
(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) كقوله: (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها)[المائدة: 37]، ويجوز أن يراد: يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تحقيق لما يكذبون به من الجزاء)، بيان "ما"، أي أن قوله:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} ، يقرر أن المراد بالدين هو الجزاء لا دين الإسلام، لأن الحفظة لا يكتبون الجزاء، فيكون قوله:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} : حالاً مقررة لجهة الإشكال، وإليه الإشارة بقوله: إنكم تكذبون بالجزاء، والكاتبون عليكم أعمالكم.
قوله: (وتشوير للعصاة)، الجوهري:"شورت الرجل فتشور، أي: أخجلته فخجل".
قوله: ({وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} كقوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37])، قال في تفسيره:" {هُمْ} دلت على قوة أمرهم فيما أسند إليهم، لا على الاختصاص" بناء على مذهبه. والوجهان اللذان ذكرهما هاهنا، ذكرهما فراراً من معنى الاختصاص الذي يؤدي إليه مذهب أهل الحق ولا محيد له عنه؛ لأن إيلاء الضمير حرف النفي يدل على أن الكلام في الفاعل، لا في الفعل، والمسألة متفق عليها، وقد استقصيناها في البقرة.
يعني: في قبورهم، وقيل: أخبر الله في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات: حال الحياة التي يحفظ فيها عمله، وحال الآخرة التي يجازى فيها، وحال البرزخ وهو قوله:(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ).
[(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) 17 - 19].
يعنى أن أمر يوم الدين بحيث لا ندرك دراية دارٍ كنهه في الهول والشدّة، وكيفما تصورته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه، والتكرير لزيادة التهويل، ثم أجمل القول في وصفه فقال:(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي: لا تستطيع دفعاً عنها ولا نفعاً لها بوجه، ولا أمر إلا لله وحده. من رفع فغلى البدل من (يوم الدين)، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يعني: في قبورهم)، والواو على هذا: للعطف، فيقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، أي: إنهم الآن ليسوا بغائبين عن الجحيم، كما قال تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وعلى الأول: للحال.
قوله: (إن أمر يوم الدين بحيث لا تُدرك دراية دار)، وعن بعضهم:{ثُمَّ} هاهنا للاستبعاد، والاستفهام في "ما" للاستنكار، وجعل ذلك مستبعداً مستنكراً.
قوله: (ولا أمر إلا لله وحده)، الأمر: واحد الأمور، لا واحد الأوامر، قال الواحدي عن قتادة:"ليس أحد يقضي شيئاً أو يضع شيئاً إلا رب العالمين"، ولذلك عقب المصنف قوله: ولا أمر إلا لله وحده، قوله: أي: لا يستطيع دفعاً عنها ولا نفعاً لها بوجه.
قوله: (من رفع فعلى البدل)، ابن كثي وأبو عمرو، والباقون: بنصبها.
أو على: هو يومٌ لا تملك. ومن نصب فبإضمار يدانون؛ لأنّ الدين يدل عليه، أو بإضمار اذكر. ويجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكنٍ وهو في محل الرفع.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ "إذا السماء انفطرت" كتب الله له بعدد كل قطرةٍ من السماء حسنة وبعدد كل قبرٍ حسنةً» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لإضافته إلى غير متمكن)، قال الزجاج:"هو مبني على الفتح لإضافته إلى قوله: {لَا تَمْلِكُ}؛ لأن ما يُضاف إلى غير المتمكن قد يُبني على الفتح وإن كان في موضع رفع أو جر"، والله تعالى أعلم.
تمت السورة
بعون الله وتوفيقه
والحمد لله رب العالمين
*
…
*
…
*
سورة المطففين
مختلف فيها، وهي ست وثلاثون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) 1 - 6].
التطفيف: البخس في الكيل والوزن، لأنّ ما يبخس شيء طفيفٌ حقير .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة المطففين
ست وثلاثون آية، مكية بخلاف
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (لأن ما يُبخس شيء طفيف حقير)، تعليل للتسمية، وكان من الظاهر أن يقال: لأن كل ما يُطفف يُبخس، قال الزجاج:"إنما قيل للفاعل: مُطفف لأنه لا يكادي يُسرف في المكيال والميزان إلا الشيء الحقير الطفيف، وأُخذ من طف الشيء، وهو جانبه".
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلاً، فنزلت، فأحسنوا الكيل. وقيل: قدمها وبها رجلٌ يعرف بأبي جهينة ومعه صاعان: يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر. وقيل: كان أهل المدينة تجاراً يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم، وقال:«خمسٌ بخمسٍ» قيل: يا رسول الله، وما خمسٌ بخمسٍ؟ قال: «ما نقض قومٌ العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: "الطفيف: الشيء النزر، ومنه الطفافة: لما لا يعتد به، وطفف الكيل: قلل نصيب المكيل له في إيفائه واستيفائه".
قوله: (وكانوا من أخبث الناس كيلاً)، روى ابن ماجه، عن ابن عباس، أن رسول الله? لما قدم المدينة كانوا أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى:{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} ؛ فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
قوله: (المنابذة والملامسة والمخاطرة)، النهاية: المنابذة في البيع هو أن يقول الرجل لصاحبه: انبذ إلىَّ الثوب، أو أَنبِذه إليك، ليجب البيع. وقيل: هو أن يقول: إذا انتبذت إليك الحصاة وجب البيع، فيكون البيع مُعاطاة من غير عقد، ولا يصح أن يقال: نبذت الشيء أو لمست ثوبك فقد وجب البيع. وقال: والخطر بالتحريك، في الأصل: الرَّهن، وما يخاطر عليه، ولا يقال إلا في الشيء الذي له قدر ومنزلة. وقيل: المخاطرة: بيع الغرر، مثل بيع الطير في الهواء والسمك في الماء.
ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر». وعن على رضي الله عنه: أنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولاً ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين، بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان؛ وخص الأعاجم؛ لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعاً وكانا مفرّقين في الحرمين: كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون، وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول له: اتق الله وأوف الكيل، فإنّ المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم. وعن عكرمة: أشهد أنّ كل كيالٍ ووزانٍ في النار. فقيل له: إنّ ابنك كيالٌ أو وزانٌ؛ فقال: أشهد أنه في النار. وعن أبىّ رضي الله عنه: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين، لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم: أبدل «على» مكان «من» للدلالة على ذلك. ويجوز أن يتعلق «على» بـ "يستوفون"، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أي: يستوفون على الناس خاصة؛ فأما أنفسهم فيستوفون لها؛ وقال الفراء «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضع؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويفصل الواجب من النَّفل)، أي: يُميزه منه، ويفرق بينهما.
قوله: (ليلجمهم)، النهاية:"يبلغ العرق منهم ما يُلجمهم، أي: يصل إلى أفواههم، فيصير لهم بمنزلة اللجام يمنعهم عن الكلام".
قوله: (ويتحامل فيه عليهم)، الأساس:"تحاملت الشيء: حملته على مشقة، وتحام عليَّ فلان: لم يعدل"، يريد أن {اكْتَالُوا} مما يعدي بمن، فلما ضمن معنى التحامل، كقولك: تحامل عليَّ فلان، عُدي بعلى. وفي "المطلع": كانوا متمكنين من الاحتيال في الأخذ مستوفى في الكيل بزعزة المكيال وميله بقوة وضغط.
لأنه حق عليه؛ فإذا قال اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك؛ وإذا قال: اكتلت منك، فكقوله: استوفيت منك. والضمير في (كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) ضميرٌ منصوبٌ راجعٌ إلى الناس، وفيه وجهان: أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم؛ فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال:
ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً
…
ولقد نهيتك عن نبات الأوبر
والحريص يصيدك لا الجواد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أن يراد: كالوا لهم)، يقال: كلت الطعام، ويقال: كالك أي: كال لك، وكال المُعطي واكتال الآخذ.
قوله: (ولقد جنيتك أكمؤاً وعساقلاً)، البيت. أكمؤاً: جمع كمأة على غير قياس، وفي "المجمل": العساقل: ضرب من الكمأة، الواحد عُسقول، وبنات الأوبر: كمأة صغار على لون التراب رديء، قيل: يُضرب المثل بها، فيقال: إن بني فلان [مثل] بنات أبر، يُظن أن فيهم خيراً ولا خير فيهم؟
قوله: (والحريص يصيدك لا الجواد)، قيل: المعنى: الحريص يصيد لك لا الفرس الجواد، أي: إنما تحصل الأشياء بالحرص والجد لا بمجرد الاستعداد. وقال الميداني: "أراد أن الذي له هوى وحرص على شأنك هو الذي يقوم به، لا القوي عليه ولا هوى له فيك، يُضرب لمن يستغنى عن الوصية لشدة عنايته بك".
بمعنى: جنيت لك، ويصيد لك. وأن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل أو الموزون، ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً للمطففين؛ لأنّ الكلام يخرج به إلى نظمٍ فاسد؛ وذلك أنّ المعنى: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا أعطوهم أخسروا؛ وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك: إذا أخذوا من الناس استوفوا، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا، وهو كلام متنافرٌ، لأنّ الحديث واقعٌ في الفعل لا في المباشر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والمضاف هو المكيل أو الموزون)، أي: كالوا مكيلهم أو وزنوا موزونهم.
قوله: (وهو كلام متنافر؛ لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر)، أي: الحديث في أن هذا الفعل، وهو الإخسار، يصدر منهم، لا أن غيرهم لا يُخسرون.
الانتصاف: "لا تنافر فيه، ولا يجعل هذا العامل في الضمير ليكون دالاً على المباشرة، بل المعنى: إذا كان الكيل من جهة غيرهم استوفوه، وإذا كان من جهتهم خاصة أخسروه، سواء باشروه أم لا. ويدل على أن الضمير لا يُعطي المباشرة أنك تقول: الأمراء هم الذين يُقيمون الحدود لا السوقة، وإن كانوا لا يباشرونه".
وقلت: هذا بمعزل عن مقصد المصنف؛ لأنه يريد أن الضمير إذا جُعل للمطففين أفاد التركيب معنى الحصر، لما يؤدي تقديم الفاعل المعنوي على عامله في قوله: هم يخسرون إلى معنى الاختصاص وأن الخُسران واقع، وإنما الكلام في فاعله ومباشره أنه: هم أو غيرهم، فقيل:{يُخْسِرُونَ} ليفيد ما قال: هم على الخصوص أخسروا دون غيرهم، وليس الكلام إلا في الإخبار عنهم أنهم يُخسرون، فلو أُريد ذلك لخرج الكلام عن مقابلة ما قبله، إذ المقصود بيان اختلاف حالهم في الأخذ والدفع لا في الاختصاص، هذا هو المراد، فظن صاحب
والتعلق في إبطاله بخط المصحف، وأنّ الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه: ركيكٌ؛ لأنّ خط المصحف لم يراع في كثيرٍ منه حدّ المصطلح عليه في علم الخط، على أنى رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضةً لكونها غير ثابتةٍ في اللفظ والمعنى جميعاً؛ لأن الواو وحدها معطيةٌ معنى الجمع، وإنما كتبت هذه الألف تفرقةً بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك: هم لم يدعوا، وهو يدعو؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"الانتصاف" أن غرض المصنف أن الإتيان بالضمير حينئذ لدفع الإسناد المجازي، وإسناد الفعل إلى غير المباشر. لكن الجواب: أن ليس بواجب حينئذ أن يجعل التركيب من باب التقديم ليفيد التخصيص، لاحتمال أن يكون من باب تقوى الحكم، والتقدير أنهم إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا أعطوهم أخسروا البتة، فأفاد أن اهتمامهم بالإخسار بالدفع أتم من اهتمامهم في الاستيفاء عند الأخذ؛ لأن به يظهر أثر الربح، وعليه قوله تعالى:{رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37]، حيث خص البيع دون الشراء على أحد الوجوه. ثم يقال: إن معنى التخصيص من قوله: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} [الانفطار: 16] في السورة السابقة قطعي، لإيلاء حرف النفي الفاعل المعنوي، ولما كان مُخالفاً لمذهبه ذهب إلى أنه مثل {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ} ، في قوة أمرهم فيما أُسند إليهم، لا في الاختصاص، وهاهنا احتمل الأمرين، فقام مقام قرينة إرادة تقوى الحكم، فينبغي أن يرجح جانبها.
قوله: (والتعلق في إبطاله) وهو مبتدأ، وقوله:"ركيك" خبره، أي: التعلق في إبطال كون الضمير منصوباً عائداً إلى الناس بخط المصحف ركيك، والجملة عطف من حيث المعنى على جملة قوله:"لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد"، إلى آخره، عنى به قول الزجاج حيث قال:"الاختيار أن يكون {هُم} في موضع نصب، بمعنى: كالوا لهم، ولو كانت على معنى كالوا، ثم جاءت {هُم} تأكيداً، لكان في المصحف الألف مُثبتة".
فمن لم يثبتها قال: المعنى كافٍ في التفرقة بينهما. وعن عيسى بن عمر وحمزة: أنهما كانا يرتكبان ذلك، أي يجعلان الضميرين للمطففين، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا.
فإن قلت: هلا قيل: أو اتزنوا، كما قيل أَوْ (وَزَنُوهُمْ)؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الضميرين للمطففين ويقفان عند الواوين وقيفة)، هذا يدل على أنهما جعلاهم في الموضعين مبتدأ، فالوجه أن يكون الخبر من أحدهما محذوفاً، أي: إذا كالوهم يُخسرون، وإذا وزنوهم يُخسرون. قال الزجاج:"منهم من يجعل {هُم} تأكيداً لما في كالوا، فيجوز أن يقف على: كالوا"، وكذا في "الكواشي". وقال أبو البقاء:"إنه ضمير منفصل مؤكد لضمير الفاعل، فعلى هذا يُكتبان بالألف".
قوله: (هلا قيل: أو اتزنوا، كما قيل: {أَو وَّزَنُوهُمْ}؟ )، أي: لِمَ لَمْ يوازن بين القرينتين؟ بأن يقال: إذا اكتالوا على الناس، أو اتزنوا عليهم يستوفون، لمكان قوله: وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون؟ أجاب: أنه أتى على ما كانوا عليه، وتُعُورف من أحوالهم؛ لأنهم كانوا لا يأخذون ما يُكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين. قال الزجاج:"المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن، ولم يذكر إذا اتزنوا، لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع بما يُكال ويوزن".
يريد أنه استغنى عن ذكر إحدى القرينتين بالأخرى بدلالة القرينة الآتية عليها. وقلت: الذين إذا اكتالوا إما أن يكون صفة مخصصة أو كاشفة أو جارية على الذم، فعلى الأول لا ينبغي ذكر الوزن؛ لأن سبب النزول - كما سبق - في قوم مخصوصين وفي فعل مخصوص وهو الكيل، وعلى الثاني: كلام الزجاج؛ لأن معنى التطفيف: البخس في الكيل
قلت: كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة؛ لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً. (يُخْسِرُونَ) ينقصون. يقال: خسر الميزان وأخسره، (أَلا يَظُنُّ) إنكارٌ وتعجيبٌ عظيمٌ من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) ومحاسبون على مقدار الذرّة والخردلة. وعن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة. وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابياً قال له: قد سمعت ما قال الله في المطففين: أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيلٍ ولا وزن. وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والوزن، فيدخل في هذا العام من نزلت فيهم الآية دخولاً أولياً، وعلى الثالث: يكون ذكر الوزن لمزيد الذم، يعني: إذا اتفق أحياناً لهم وزن بما هو قانون العدل، لقوله تعالى:{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} ، يُخسرون أيضاً.
قوله: (ويُزَعزِعُون)، ويُروى: ويُدعدعون. الجوهري: "الدعدعة: تحريك المكيال ونحوه ليسعه الشيء، ودعدعت الشيء: ملأته".
قوله: (وفي هذا الإنكار والتعجيب)، يعني: الهمزة الداخلة على النافية: للإنكار والتعجيب. قال أبو البقاء: {أَلَا} ليست للتنبيه؛ لأن ما بعد حرف التنبيه مثبت، وهاهنا نفي، فدل كلمة الظن على التجهيل، واسم الإشارة على التبعيد، ووصف القيامة بيوم عظيم، ثم إبداله بقوله:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} على استعظام ما يستحقرونه وأن الحكمة اقتضت أن لا يهمل ذرة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (وَمَن يَعْمَلْ
ووصفه ذاته برب العالمين: بيانٌ بليغٌ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف، وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط، والعمل على السوية والعدل في كل أخذٍ وإعطاء، بل في كل قولٍ وعمل، وقيل: الظنّ بمعنى اليقين، والوجه ما ذكر؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، وفي تخصيص رب العالمين من بين سائر الصفات إشعار بالمالكية والتربية، فلا يمتنع عليه الظالم القوي، ولا يترك حق المظلوم الضعيف. وليس ذلك كله لأجل التطفيف من حيث هو التطفيف، بل من حيث إن الميزان قانون العدل والاستقامة، وهو الحكمة في الخلق والتكليف والحشر والنشر، ومن تطفف حاول إبطال حكمة الله في الدارين. قال الإمام: "اعلم أن أمر المكيال والميزان عظيم، وبه قامت السموات والأرض، قال الله تعالى:{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7 - 9]، وقال الله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].
وعن بعضهم: الغرض من هذه التعظيمات كلها، تعظيم التطفيف من حيث إن الميزان قانون العدل، كما إذا قال الحالف: والله الطالب الغالب الحي القيوم الذي لا يَخفّى عليه شيء لا أفعل. هذا تعظيم للمقسم عليه لا تعظيم للمقسم به.
قوله: (وقيل: الظن بمعنى اليقين، والوجه ما ذكر)، من أن المراد الإنكار والتعجيب، وأن المعنى أنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً أنهم مبعوثون ومحاسبون على مقدار الذرة، فإذا لا يدخل اليقين في المعنى. وعن بعضهم: أُلحق باخس حقوق الناس بالكفار بقوله: {أَلَا يَظُنُّ} ، كقوله تعالى حكاية عن ظنهم:{إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32]، بل جعلهم أسوأ حالاً من الكفار؛ لأنه أثبت للكفار ظناً ولم يثبت لهؤلاء. وفي اسم الإشارة إشارة إلى الشتيمة.
ونصب (يَوْمَ يَقُومُ) بـ (مبعوثون). وقرئ: بالجر بدلاً من (يَوْمٍ عَظِيمٍ). وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ). بكى نحيبا وامتنع من قراءة ما بعده.
[(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ * كِتابٌ مَرْقُومٌ) 7 - 9].
(كَلَّا) ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر البعث والحساب، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه، ثم أتبعه وعيد الفجار على العموم. وكتاب الفجار: ما يكتب من أعمالهم.
فإن قلت: قد أخبر الله عن كتاب الفجار بأنه في سجين، وفسر سجيناً بكتابٍ مرقوم؛ فكأنه قيل: إن كتابهم في كتابٍ مرقوم. فما معناه؟
قلت: (سِجِّينٍ) كتابٍ جامعٍ هو ديوان الشر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({سِجِّينٍ}: كتاب جامع)، تلخيصه ما قال الإمام:"وأي استبعاد في كون أحد الكتابين في الآخر، إما بأن يوضع كتاب الفُجار في الكتاب الذي هو الأصل المرجوع إليه في تفصيل أحوال الأشقياء، أو بأن ينقل ما في كتاب الفُجار إلى ذلك الكتاب المسمى بالسجين، قال القفال: "كتاب مرقوم": ليس غير السجين، والتقدير: كتاب الفجار لفي سجين، وإن كتاب الفجار كتاب مرقوم، وقد وصف كتاب الفُجار بوصفين، ويكون قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} اعتراضاً".
وقال الإمام: "وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المراد من الكتاب الكتابة، والمعنى: أن كتابة الفجار، أي، كتابة أعمالهم في سجين، ثم وصف السجين بأنه كتاب مرقوم فيه جميع أعمال الفجار".
دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس، وهو كتابٌ مرقومٌ مسطورٌ بين الكتابة، أو معلمٌ يعلم من رآه أنه لا خير فيه، فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبتٌ في ذلك الديوان، وسمى سجيناً: فعيلاً من السجن، وهو الحبس والتضييق، لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، أو لأنه مطروحٌ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروى صاحب "الكشف" عن أبي علي أنه قال في هاتين الآيتين: إن قوله: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} : خبر مبتدأ مُضمر، أي: وما أدراك ما سجين؟ كتاب، أي: هو كتاب، أي: موضع كتاب، وكذا "عِليون"، هو موضع كتاب، فحُذف المبتدأ والمضاف جميعاً، ولا بد منه؛ لأنه ثبت بالدليل أن "عِلّيين" مكان.
روينا عن الترمذي وأبي داود، عن أبي سعيد الخُدري، أن رسول الله? قال:"إن أهل الدرجات العُلى ليراهم من تحتهم كما ترون النجم الساطع من أُفق السماء، وإن أبا بكر وعُمر منهم وأنعما". وفي لفظ أبي داود: "إن الرجل من أهل عِليين ليشرف على أهل الجنة فتضيء الجنة بوجهه كأنه كوكب دُري".
قال صاحب "الجامع": "أنعم فلان النظر في الأمر: إذا بالغ في تدبره والتفكر فيه وزاد فيه، وأحسن فلان إليّ وأنعم، أي: أفضل وزاد في الإحسان، أي: هما منهم وزادا في هذا الأمر وتناهيا فيه إلى غايته. والكوكب الدري هو الكبير المضيء، كأنه نُسب إلى الدّرِّ تشبيهاً".
قوله: (أو لأنه مطروح)، وجه آخر في تعليل التسمية، يعني: سُمِّي كتاب الفُجار سجيناً تسمية للسبب باسم المسبب، أو تسمية للحال باسم المحل. روى الواحدي بإسناده، أن الفلق: جُب في جهنم مُغطى، وسجين: جُبٌّ في جهنم مفتوح.
كما روي تحت الأرض السابعة في مكانٍ وحشٍ مظلم، وهو مسكن إبليس وذرّيته استهانة به وإذالة، وليشهده الشياطين المدحورون، كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون.
فإن قلت: فما "سجينٌ"، أصفةٌ هو أم اسم؟
قلت: بل هو اسم علمٍ منقولٍ من وصفٍ كحاتم. وهو منصرفٌ لأنه ليس فيه إلا سببٌ واحدٌ وهو التعريف.
[(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) 10 - 17].
(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ) مما وصف به للذم لا للبيان،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (استهانة به وإذالة وليشهده الشياطين)، كلها مفعول له لقوله: مطروح، أتى باللام في الثالث، لأنه ليس فعلاً لفاعل الفعل المعلل. وقوله:"كما رُوي" معترض بين الظرف وعامله، وهو قوله:"تحت الأرض". والإذالة: الإهانة، وفي الحديث: نهى عن إذالة الخيل، وهي امتهانها بالعمل والحمل عليها.
قوله: (المدحورون)، أي: المبعدون والمطرودون. الجوهري: "الدحور: الطرد والإبعاد".
قوله: ({الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ} مما وصف به للذم لا للبيان)، يعني: ليس قوله: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ} صفة كاشفة للمكذبين لكونهم معلومين، ولا هي فارقة، لأنه لم يُرد تمييزهم عن غيرهم. بل مرفوع أو منصوب على الذم. ويجوز أن يُبدل ليُناط به قوله:{وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ} ، أي: متجاوز عن النظر. قال في "التقليد": حين استقصر قدرة الله فأعلمه، فاستحال الإعادة. أثيم: مُنهمك في الشهوات الخادعة، بحيث أشغلتع عما وراءها وحملته على الارتكاب لما عداها. و {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}: من فرط جهله وإعراضه عن الحق، فلا تنفعه شواهد النقل كما لا تنفعه دلائل العقل.
كقولك: فعل ذلك فلانٌ الفاسقٌ الخبيث. (كَلَّا) ردعٌ للمعتدى الأثيم عن قوله: (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها: وهو أن يصر على الكبائر ويسوّف التوبة حتى يطبع على قلبه، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه. وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب. يقال: ران عليه الذنب وغان عليه، ريناً وغيناً، والغين: الغيم، ويقال: ران فيه النوم رسخ فيه، ورانت به الخمر: ذهبت به. وقرئ: بإدغام اللام في الراء وبالإظهار، والإدغام أجود، وأميلت الألف وفخمت. (كَلَّا) ردعٌ عن الكسب الرائن على قلوبهم. وكونهم محجوبين عنه: تمثيلٌ للاستخفاف بهم وإهانتهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ردع للمعتدي الأثيم عن قوله)، أي: قوله: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ، قال الإمام:"ليس الأمر كما يقول من أن ذلك أساطير الأولين، بل أفعالهم الماضية صارت سبباً لحصول الدين في قلوبهم".
قوله: (الذنب بعد الذنب حتى يسود القلب)، روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة أن رسول الله? قال:"إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكتت في قلبه نُكتة سوداء، فإذا نزع واستغفر وتاب صُقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم} ".
قوله: (وقُرئ بإدغام اللام في الراء)، أبو بكر وحمزة والكسائي:{بَلْ رَانَ} ، بإمالة فتحة الراء، والباقون: بتفخيمها، وحفص: يسكت على اللام من {بَلْ} . قال الزجاج: "والإدغام في الراء أجود، لقُرب مخرج اللام من الراء، ولغلبة الراء على اللام، وإظهار اللام جائز؛ لأن اللام من كلمة والراء من أُخرى".
قوله: (وكونهم محجوبين عن ربهم: تمثيل للاستخفاف بهم)، أي: مُثلت حالهم في إهانتهم
لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم. قال:
إذا اعتروا باب ذي عبيةٍ رجبوا
…
والنّاس من بين مرجوبٍ ومحجوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عند الله وإنزال السُّخط عليهم بحال من يُحجب عن بعض السلاطين لذلك. "الانتصاف": "هي عند أهل السنة على حقيقتها، وهي من أدلة الرؤية. لما خص الله الكفار بالحجاب، دل على أنه مرفوع عن الأبرار، ولا معنى لرفع الحجاب إلا الإدراك، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ .
وقلت - والعلم عند الله-: ويساعده النظم؛ لأن قوله: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} ، مقابل لقوله:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} ، والسجين - كما فسره المصنف، وعليه أكثر المفسرين -: هو تحت الأرض السابعة، وهو مسكن إبليس وذريته، ولذلك قوبل بقوله:{يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} ، فيكون قوله:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} مقابلاً لقوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} . وقوله: {يَنظُرُونَ} مطلق، ليس فيه أنهم ينظرون إلى ماذا، فدل قوله: محجوبون عن ربهم، على أنهم غير محجوبين عنه. ويؤيده قوله عز وجل:{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} ؛ لأن في معنى قوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [القيامة: 22 - 23]، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وقوله:{يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ} إلى قوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} ؛ لأنه في معنى قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]. وروى محيي السنة أنه سُئل مالك عن هذه الآية، قال:"لما حُجب أعداؤه فلم يروه تجلي لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: فيها دلالة على أن أولياء الله يرون الله، وقال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا".
قوله: (إذا اعتروا باب ذي عُبية) البيت، ذي عُبِّيَّة، أي: ذي كبر ونحوه، فُعلية من
عن ابن عباسٍ وقتادة وابن أبى مليكة: محجوبين عن رحمته، وعن ابن كيسان: عن كرامته.
[(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ * كِتابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) 18 - 21].
(كَلَّا) ردعٌ عن التكذيب. وكتاب الأبرار: ما كتب من أعمالهم. وعليون: علمٌ لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين، منقولٌ من جمع «علىّ» فعيلٌ من العلو، كسجين من السجن، سمى بذلك إمّا لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة، وإمّا لأنه مرفوعٌ في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون، تكريماً له وتعظيماً. روى: «إن الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم: إنكم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وأنه أخلص عمله فاجعلوه في عليين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العُباب، وهو الارتفاع، أي: ذي تكبر، من قوله: صلوات الله عليه، "يا أيها الناس، إن الله قد أذهب عنكم عُبية الجاهلية وتعاظمها". رواه الترمذي عن ابن عمر، يقال: فلان تعروه الأضياف وتعتريه، أي: تغشاه، ويقال: رجبته، بالكسر، أي: هبته وعظمته فهو مرجوب بالجيم، وبه سمِّي رجب؛ لأنهم كانوا يعظمونه. ومعنى قوله:"الناس من بين مرجوب ومحجوب"، أي: يُؤذن على الملوك الوجهاء المكرمون، ويُحجب عنهم الأدنياء المهانون.
قوله: (وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة)، الراغب:"قيل: عِليون: اسم أشرف الجنان، كما أن سجين: اسم شر النيران. وقيل: بل ذلك في الحقيقة اسم سُكانها، وهذا أقرب في العربية إذ كان هذا الجمع يختص بالناطقين. قال: والواحد علي نحو بِطِّيخ، ومعناه: فإن الأبرار في جُملة هؤلاء، فيكون ذلك كقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69] ".
فقد غفرت له؛ وإنها لتصعد بعمل العبد فيزكونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه، وإنه لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين».
[(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ * وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) 22 - 28].
(الْأَرائِكِ) الأسرة في الحجال، (يَنْظُرُونَ) إلى ما شاءوا مدّ أعينهم إليه من مناظر الجنة، وإلى ما أولاهم الله من النعمة والكرامة، وإلى أعدائهم يعذبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك، (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) بهجة التنعم وماءه ورونقه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الأسرة في الحجال)، الجوهري:"الحجلة، بالتحريك: واحد حجال العروس، وهو بيت يُزين بالثياب والأسرة والستور". وعن بعضهم: لا يقال: أريكة إلا للسرير الذي يكون في الكِلَّة، أو شيء يكون في الكلة، والكلة: الستر الرقيق.
قوله: (وما تحجب الحجال أبصارهم)، يُنظر إلى معنى ما سبق في من يضادهم:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} ، فيقال: إذا لم يمنع الحجال أبصارهم عما يستبعد في المشاهد بل يستحيل، وهو أن ينظروا إلى جميع ما أولاهم الله من النعمة والكرامةة من مسافة في غاية البعد مع مانع الحجاب، وإلى أعدائهم يُعذبون في النار، فأي بُعد في أن ينظروا إلى ما هو المقصد الأسنى؟
روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله? قال:"إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسُرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غُدوة وعَشية"، ثم قرأ? :{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23].
كما ترى في وجوه الأغنياء وأهل الترفه، وقرئ:(تعرف) على البناء للمفعول، (ونضرة النعيم) بالرفع. "الرحيق": الشراب الخالص الذي لا غش فيه "مَخْتُومٍ" تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسكٍ مكان الطينة. وقيل (خِتامُهُ مِسْكٌ) مقطعه رائحة مسكٍ إذا شرب. وقيل: يمزج بالكافور، ويختم مزاجه بالمسك. وقرئ:(خاتمه)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروى السلمي عن ابن عطاء: "على أرائك المعرفة ينظرون إلى المعروف، وعلى أرائك القُربة ينظرون إلى الرءوف. وقال جعفر في قوله: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}: تبقى لذة النظر تتلألأ مثل الشمس في وجوههم. وقال الجريري في {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}: يشربون صرفاً على بساط القرب في مجلس الأنس، وفي رياض القُدس، بكأس الرضا على مُشاهدة الحق".
قوله: (وقُرئ: "خاتمه")، الكسائي، والباقون:{خِتَامُهُ} ، وقراءة الكسائي تؤيد تفسير القفال على ما رواه الإمام عنه، أنه قال:"يحتملأن هؤلاء يُسقون من شراب مختوم، قد خُتم عليه تكريماً له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يُكرم ويُصان. ويُفهم منه أن هناك خمراً تجري منها أنها كما قال: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} [محمد: 15]، إلا أن هذا المختوم أشرف من الجاري".
وقلت: ويؤيده قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، وأن الساقي إذا كان ملكاً كان الشراب مصوناً مختوماً، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}. ويمكن أن يقال: إن قوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} ، عطف على قوله:{خِتَامُهُ مِسْكٌ} . والتسنيم هم المعني بالشراب الذي هو أرفع شراب في الجنة. وقوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} في حكم المتأخر، قدم لمكان العناية بشأنه. قال في قوله تعالى:{فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً} [البقرة: 249]: مستثنى من قوله: {فَمَن شَرِبَ
بفتح التاء وكسرها، أي: ما يختم به ويقطع (فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) فليرتغب المرتغبون. (تَسْنِيمٍ) علم لعينٍ بعينها: سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه: إمّا لأنها أرفع شرابٍ في الجنة وإمّا لأنها تأتيهم من فوق، على ما روى أنها تجرى في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم. و (عَيْناً) نصب على المدح. وقال الزجاج: نصب على الحال، وقيل: هي للمقربين، يشربونها صرفا. وتمزج لسائر أهل الجنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}، والجملة الثانية في حكم المتأخرة، إلا أنها قُدمت للعناية، كما قُدم {وَالصَّابِئُونَ} في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى} [المائدة: 69]، وإنما قلنا: إنه في حكم المتأخر؛ لأن المشار إليه بذلك جميع ما سبق من قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} إلى آخره.
وفائدة التقديم: الترغيب والحث على التحري والاجتهاد وإيثار ذلك على طلب العاجلة والمسابقة فيه، ولذلك قدم الظرف، أي: وفي ذلك وخص التنافس مع بناء التفاعل.
النهاية: "التنافس من المنافسة، وهي الرغبة في الشيء والانفراد به، وهو من الشيء النفيس الجيد في نفسه، ونافست في الشيء منافسة ونفاساً: إذا رغبت فيه". وقال بعضهم: ارتغب وتراغب بمعنى إلا أن ارتغب أكثر. وقلت: الفاء في {فَلْيَتَنَافَسِ} جواب شرط محذوف، أي: وما كان فليتنافس المتنافسون في ذلك، فقدم الظرف للاهتمام، ويجوز أن يقدر: وفي ذلك: ليتنافس المتنافسون، وعلى الأول ورد قوله:{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (فَلْيَعْبُدُوا} [قريش: 1 - 3]، وعلى الثاني قوله:{فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58].
قوله: (نصب على الحال)، أي: جارياً، وذو الحال: تسنيم، وهو علم للماء. وقيل: يشرب بها، الباء: زائدة، وقيل: ظرف، وقيل: بمعنى "من".
[(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) 29 - 33]
هم مشركو مكة: أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم: كانوا يضحكون
من عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين ويستهزؤن بهم. وقيل: جاء على ابن أبى طالب رضى الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه، فنزلت قبل أن يصل علىّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (يَتَغامَزُونَ) يغمز بعضهم بعضا، ويشيرون بأعينهم. (فَكِهِينَ) ملتذين بذكرهم والسخرية منهم، أي: ينسبون المسلمين إلى الضلال. (وَما أُرْسِلُوا) على المسلمين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (رأينا اليوم الأصلع)، وفي النسخ المتعددة: ربنا اليوم، أي: رأسُنا اليوم الأصلع، مرفوعاً.
قوله: ({فَكِهِينَ}) قراءة حفص، والباقون: فاكهين.
قوله: (أي: ينسبون المسلمين إلى الضلال)، قال الإمام: "أي: هم على ضلال في ترك التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يُدرى هل له وجود أم لا. ومعنى {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} : أن الله لم يبعث الكفار رُقباء على المؤمنين يحفظون عملهم عليهم، ويتفقدون ما يصنعونه فيعيبون عليهم ما يعتقدونه ويُسمونهم. ضُلالاً. ويعضده قوله تعالى:{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} ، أي: ينظرون إلى جميع ما أولاهم الله من
(حَافِظِينَ) موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم، ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم؛ وهذا تهكم بهم. أو هو من جملة قول الكفار، وإنهم إذا رأوا المسلمين قالوا: إن هؤلاء لضالون؛ وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين إنكاراً لصدّهم إياهم عن الشرك، ودعائهم إلى الإسلام وجدهم في ذلك.
[(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ • عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ • هَلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) 34 - 36]
(عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ) حال من (يَضْحَكُونَ) أي: يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر، ومن ألوان العذاب بعد النعيم والترفه وهم على الأرائك آمنون. وقيل: يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم: اخرجوا إليها؛ فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، يفعل ذلك بهم مرارا، فيضحك المؤمنون منهم. (ثوبه) و (أثابه) بمعنى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النعمة والكرامة الأبدية، وينظرون إلى أعدائهم يُعذبون في النار، وإلى ما أورثهم الله التُّرفة والتنعم بتلك النعم من العقاب السرمدية، ويقال للمؤمنين: هل جازينا هؤلاء الكفار على عملهم، لا سيما على ما كانوا يضحكون منكم ويستهزئون بطريقتكم، كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة مزيداً لسرورهم وتبجحهم، وتشويراً لأعدائهم وتشميتاً بهم؟
قوله: ("ثوبه" و "أثابه" بمعنى)، عن المبرد: ثوب: فعل، من الثواب، أي: رجع إلى فاعله جزاء ما عمله من خير أو شر. والثواب قد يستعمل في المكافأة مطلقاً. قال الإمام: والأولى أن يُحمل على التهكم.
إذا جازاه قال أوس:
سأجزيك أو يجزيك عنى مثوب
…
وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي
وقرئ بإدغام اللام في التاء.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة «المطففين» سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (سأجزيك) البيت، يُخاطب الشاعر محبوبته، وهي سليمة بنت فضالة.
قوله: (بإدغام اللام في الثاء)، حمزة والكسائي وهشام.
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة انشقت
مكية، وهي خمس وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(إذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ • وأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وحُقَّتْ • وإذَا الأَرْضُ مُدَّتْ • وأَلْقَتْ مَا فِيهَا وتَخَلَّتْ • وأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وحُقَّتْ) 1 - 5]
حذف جواب (إذا) ليذهب المقدر كل مذهب. أو اكتفاءً بما علم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار. وقيل: جوابها ما دل عليه (فَمُلاقِيهِ)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الانشقاق
خمس وعشرون آية، مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (جوابها ما دل عليه {فَمُلَاقِيهِ})، قال الإمام:"فعلى هذا قوله: {يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ} معترض، وهو كقول القائل: إذا كان كذا وكذا يا أيها الإنسان، ترى عند ذلك ما عملت من خير وشر، أي: إذا كان يوم القيامة لقى الإنسان عمله".
أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه. ومعناه: إذا انشقت بالغمام، كقوله تعالى:(ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ)[الفرقان: 25]، وعن على رضي الله عنه: تنشق من المجرة. أذن له: استمع له. ومنه قوله عليه السلام: «ما أذن الله لشيء كاذنه لنبي يتغنى بالقرآن» ، وقول حجاف بن حكيم:
أذنت لكم لما سمعت هريركم
والمعنى: أنها فعلت في انقيادها لله حين أراد انشقاقها فعل المطواع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومعناه: إذا انشقت بالغمام)، عن بعضهم: نظيره: انشق الأرض بالنبات، والباء للدلالة، ويكون في ذلك الغمام ملائكة العذاب، وكان ذلك أشد وأفظع، حيث جاء العذاب من موضع الخير، وقلت: والأظهر أن يُراد أن الملائكة ينزلون وبأيديهم صحائف الأعمال، لقوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِي} .
قوله: (تنشق من المجرة)، الجوهري:"المجرة: التي في السماء، سُميت بذلك لأنها كأثر المجر". قال ابن قُتيبة في كتاب "الأنواء": "المجرة: شُرُج السماء كشرج القُبة، وهي: ما يُرى في الشتاء أول الليل في ناحية السماء، وفي الصيف في أول الليل في وسط السماء، تنتقل في آخر الليل في غير موضعها، ويقال إن النجوم تقاربت في المجرة فطُمس بعضهم، فصارت كأنها سحائب".
قوله: (ما أذن الله لنبي)، الحديث. رواه الشيخان وأبو داود والدرامي والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ومعناه: ما استمع إلى شيء كاستماعه إلى صوت نبي قرأ الكتاب المنزل عليه، أي: لا يعتد لشيء كاعتداده إلى هذا.
قوله: (والمعنى: أنها فعلت في انقيادها)، يريد: أن إذن السماء للانشقاق تمثيل، على
الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع، كقوله:(أَتَيْنَا طَائِعِينَ)[فصلت: 11]. (وحُقَّتْ) من قولك هو محقوق بكذا وحقيق به، يعني: وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع، ومعناه الإيذان بأن القادر الذات يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك. (مُدَّتْ) من مد الشيء فامتد: وهو أن تزال جبالها وآكامها وكل أمت فيها، حتى تمتد وتنبسط ويستوي ظهرها، كما قال تعالى:(قَاعًا صَفْصَفًا • لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا ولا أَمْتًا)[طه: 106 - 107]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: مدت مد الأديم العكاظي؛ لأن الأديم إذا مد زال انثناء فيه وأمت واستوى، أو من مده بمعنى أمده، أي: زيدت سعة وبسطة. (وأَلْقَتْ مَا فِيهَا) ورمت بما في جوفها مما دفن فيها من الموتى والكنوز، (وتَخَلَّتْ) وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منوال قوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. قال الإمام: "المعنى: لم يوجد في جرم السماء ما يمنع من تأثير قدرة الله في شقها وتفريق أجزائها، فكانت في قبول ذلك التأثير كالعبد الطائع؛ إذا ورد عليه الأمر من جهة مالكه أذعن ولم يمتنع لذلك". قوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} ، يدل على نفوذ القدرة في التفريق والإعدام والإفناء من غير ممانعة أصلاً.
قوله: (بأن القادر الذات)، الانتصاف:"ما باله لا يقول: الذي عمت قدرته الكائنات، فيُثبت لله تعالى صفة الكمال؟ وإنما قوله: القادر الذات ميل إلى البدعة".
قوله: (وكل أمت)، الجوهري:"الأمت: المكان المرتفع. والأمت التلال الصغار".
قوله: (العُكاظي)، النهاية:"العكاظ: موضع بقرب مكة كانت تُقام بها في الجاهلية سوق يقيمون فيها أياماً".
كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو، كما يقال: تكرم الكريم، وترحم الرحيم: إذا بلغا جهدهما في الكرم والرحمة، وتكلفا فوق ما في طبعهما. (وأَذِنَتْ لِرَبِّهَا) في إلقاء ما في بطنها وتخليها.
[(يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ • فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ • فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا • ويَنقَلِبُ إلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا • وأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ ورَاءَ ظَهْرِهِ • فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا • ويَصْلَى سَعِيرًا • إنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا • إنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ • بَلَى إنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا) 6 - 15]
الكدح: جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها، من كدح جلده: إذا خدشه. ومعنى: (كَادِحٌ إلَى رَبِّكَ) جاهد إلى لقاء ربك، وهو الموت وما بعده من الحال الممثلة باللقاء (فَمُلاقِيهِ) فملاق له لا مجالة لا مفر لك منه، وقيل: الضمير في (ملاقيه) للكدح (يسيراً)، سهلاً هيناً لا يناقش فيه ولا يعترض بما يسوؤه ويشق عليه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الكدح: جهد النفس في العمل)، الراغب:"الكدح: السعي والعناء، قد يستعمل استعمال الكدم في الأسنان. قال الخليل: الكدح دون الكدم".
قوله: (من الحال الممثلة باللقاء)، قال في العنكبوت:"لقاء الله مثل للوصول إلى العاقبة، من تلقى ملك الموت والبعث والحساب والجزاء. مُثلت تلك الحال، بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل، وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضى من أفعاله، أو بضد ذلك لما سخط منها".
قوله: (وقيل: الضمير في "مُلاقيه" للكدح)، وهو على تقدير حذف مضاف، أي: فمُلاق جزاء كدحك من خير وشر، وعلى هذا قوله:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} إلى آخره تفصيل له،
كما يناقش أصحاب الشمال. وعن عائشة رضي الله عنها: هو أن يعرف ذنوبه، ثم يتجاوز عنه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من يحاسب يعذب، فقيل يا رسول الله: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا). قال ذلكم العرض، من نوقش في الحساب عذب» . (إلَى أَهْلِهِ) إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين، أو إلى فريق المؤمنين، أو إلى أهله في الجنة من الحور العين (ورَاءَ ظَهْرِهِ) قيل: تغل يمناه إلى عنقه، وتجعل شماله وراء ظهره، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره. وقيل تخلع يده اليسرى من وراء ظهره، (يَدْعُو ثُبُورًا) يقول: يا ثبوراه. والثبور: الهلاك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] إلى آخره. وعلى الأول الضمير: لله عز وجل، أي: إنك عامل باجتهاد إلى وقت الموت فملاق ربك. قال الإمام: "وفي الآية نكتة لطيفة، وهي أنها تدل على وجوب الكدح والتعب للمؤمن بانتهاء هذه الحياة الدنيوية، ويحصل بعد ذلك محض سعادة الأبدية".
وقلت: ومن ثم قالوا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34 - 35].
قوله: (من يحاسب يُعذب)، الحديث من رواية الشيخين والترمذي وأبي داود، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي? قال:"ليس أحد يُحاسب إلا هلك"، قلت: يا رسول الله، جعلني الله فداءك، أليس الله يقول:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ؟ قال: "ذلك العرض يعرضون، ومن نُوقش الحساب هلك".
النهاية: "نوقش، أي: من استقصى في محاسبته وحوقق. وأصل المناقشة من نقش الشوكة إذا استخرجها من جسمه، وقد نقشها وانتقشها".
وقرئ: (ويصلى سعيراً)، كقوله:(وتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ)[الواقعة: 94]، ويصلى: بضم الياء والتخفيف، كقوله:(ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ)[النساء: 115]. (فِي أَهْلِهِ) فِيما أَهْلِهِ فيما بين ظهرانيهم، أو معهم، على أنهم كانوا جميعا مسرورين، يعني: أنه كان في الدنيا مترفاً بطراً مستبشرا كعادة الفجار الذين لا يهمهم أمر الآخرة ولا يفكرون في العواقب. ولم يكن كئيباً حزيناً متفكرا كعادة الصلحاء والمتقين وحكاية الله عنهم (إنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)[الطور: 26]. (ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ) لن يرجع إلى الله تعالى تكذيباً بالمعاد. يقال: لا يحور ولا يحول، أي: لا يرجع ولا يتغير. قال لبيد:
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقُرئ: "ويصلى سعيراً")، أبو عمرو وعاصم وحمزة: بفتح الياء وإسكان الصاد مخففاً، والباقون: بضم الياء وفتح الصاد وتشديد اللام.
قوله: (مُترفاً)، الجوهري:"أترفته النعمة: أطغته".
قوله: (وحكاية الله)، بالجر: عطف على عادة الصلحاء، أي: ولم يكن كئيباً حزيناً كما حكى الله عنهم، أي: عن المتقين.
قوله: (يحور رماداً بعد إذ هو ساطع)، أوله:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
وعن ابن عباس: ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها: حوري، أي: ارجعي. (بَلَى) إيجاب لما بعد النفي في (لَّن يَحُورَ) أي: بلى ليحورن، (إنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا) وبأعماله لا ينساها ولا تخفى عليه، فلا بد أن يرجعه ويجازيه عليها. وقيل: نزلت الآيتان في أبي سلمة بن عبد الأشد وأخيه الأسود بن عبد الأشد.
[(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ • واللَّيْلِ ومَا وسَقَ • والْقَمَرِ إذَا اتَّسَقَ • لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ) 16 - 19]
الشفق: الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط الشمس، وبسقوطه يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء، إلا ما يروى عن أبى حنيفة رضي الله عنه في إحدى الروايتين: أنه البياض. وروى أسد بن عمرو: أنه رجع عنه، سمى لرقته، ومنه الشفقة على الإنسان: رقة القلب عليه، (ومَا وسَقَ) وما جمع وضم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقال: شهاب ساطع، أي: مرتفع ملتهب.
قوله: (في أبي سلمة بن عبد الأشد)، في "الكشاف":"الأشد بالشين المعجمة. وفي "جامع الأصول": بالسين المهملة. "هو أبو سلمة بن [عبد] الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القُرشي، ابن عمة النبي? ، وكان زوج أُم سلمة قبل النبي? ".
قوله: ({وَمَا وَسَقَ}: وما جمع)، الراغب:"الوسق: جمع المتفرق، وسمي قدر معلوم من الحمل كحمل البعير: وسقا، وقيل: هو ستون صاعاً. قوله: {وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ}، قيل: وما جمع من الظلام، وقيل: عبارة عن طوارق الليل. والوسيقة: الإبل المجموعة، والاتساق: الاجتماع والاطراد".
يقال: وسقه فاتسق واستوسق. قال:
مستوسقات لو يجدن سائقا
ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين: اتسع واستوسع. ومعناه: وما جمعه وستره وآوى إليه من الدواب وغيرها. (إذَا اتَّسَقَ) إذا اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة. قرئ: (لتركبن)، على خطاب الإنسان في (يَا أَيُّهَا الإنسَانُ)، و (لتركبن)، بالضم على خطاب الجنس،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (مستوسقات لو يجدن سائقاً)، أول الرجز في "المطلع":
إن لنا قلائصاً نقانقاً
النقنق: الظليم، وهو ذكر النعام.
قوله: (و {لَتَرْكَبُنَّ}، بالضم: على خطاب الجنس)، الكسائي وابن كثير وحمزة: على الخطاب، والباقون: بضم الباء الموحدة، وبكسر الباء: شاذ، قال محيي السنة:"لتركبن بفتح الباء: خطاب لرسول الله? . قال الشعبي رحمه الله ومجاهد: سماء بعد سماء. قال الكلبي: يعني تصعد فيها ويجوز درجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة في القرب من الله والرفعة". وقال صاحب "الكشف": "عن" بمعنى "بعد"، كقولهم: سادوك كابراً عن كابر، أي: بعد كابر، قال الذبياني:
بقية قدر من قدور تورثت لآل الجلاح كابراً بعد كابر
لأن النداء للجنس؛ ولتركبن بالكسر على خطاب النفس، وليركبن بالياء على: ليركبن الإنسان. والطبق: ما طابق غيره. يقال: ما هذا بطبق لذا، أي: لا يطابقه، ومنه قيل للغطاء الطبق. وإطباق الثرى: ما تطابق منه، ثم قيل للحال المطابقة لغيرها: طبق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي "التيسير": عن ابن عباس وابن مسعود: أي: لتركبن يا محمد أطباق السماء ليلة الإسراء، وهي بشارة بالمعراج. وقال الإمام: وذلك بشارة لرسول الله? بصعوده إلى السموات لمشاهدة ملكوتها وإجلال الملائكة إياه فيها، قال الله تعالى:{سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3، نوح: 15]، وهو مروي عن ابن عباس وابن مسعود؛ فقوله:"عن طبق"، أي:"بعد طبق"، قال:
مازلت أقطع منهلاً عن منهل حتى أنخت ببات عبد الواحد
وقلت: ويؤيد هذا الوجه التوكيد بالجملة القسمية، والتعقيب بالإنكارية بقوله {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ؟ ، وقوله:{وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} .
قوله: (والطبق: ما طابق غيره)، الراغب:"المطابقة من الأسماء المتضايفة، وهو أن تجعل الشيء فوق آخر بقدره، ومنه: طابقت النعل. ثم يستعمل الطباق فيما يكون فوق الآخر تارة، وفيما يوافق غيره تارة، كسائر الأشياء الموضوعة لمعنيين، ثم يستعمل لأحدهما بدون الآخر كالكأس والرواية ونحوهما، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3]، وقال تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ}، أي: يترقى منزلاً عن منزل، وذلك إشارة إلى أحوال الإنسان من ترقيه في أحوال شتى في الدنيا، نحو ما أشار إليه بقوله: {خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} [فاطر: 11]، وأحوال شتى في الآخرة من النشور والبعث والحساب وجواز الصراط، إلى حين المُستقر إلى أحد الدارين".
ومنه قوله عز وعلا: (طَبَقًا عَن طَبَقٍ) أي حالاً بعد حال: كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول، ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة، من قولهم: هو على طبقات، ومنه: طبق الظهر لفقاره. الواحدة: طبقة، على معنى: لتركبن أحوالاً بعد أحوال، هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض، وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها.
فإن قلت: ما محل عن طبق؟
قلت: النصب على أنه صفة لـ (طبقاً)، أي: طبقاً مجاوزاً لطبق، أو حال من الضمير في لتركبن، أي: لتركبن طبقاً مجاوزين لطبق. أو مجاوزاً. أو مجاوزة، على حسب القراءة. وعن مكحول: كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه.
[(فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ • وإذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ • بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ • واللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ • فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ • إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) 20 - 25]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهي الموت وما بعده)، هذا هو الذي يقتضيه النظم وترتب الفاء في {فَلَا أُقْسِمُ} على قوله:{بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 15].
قوله: (على حسب القراءة)، يعني في {لَتَرْكَبُنَّ} من الضم والفتح والكسر، فقوله:{مُجاوزين} على قراءة الضم، والخطاب للجنس، وقوله:"مُجازاً" على قراءة الباء بالفتح؛ على أن الخطاب للرسول? ، و (ليركبن) بالياء كذلك، وقوله:(مُجاوزة) بكسر الواو، على أن (لتركبن) بكسر الباء، والخطاب للنفس.
قوله: (تجدون أمراً لم تكونوا عليه)، يجدون: بفتح الياء وكسر الجيم والدال مخففة، ويروى:"تجدون"، بضم التاء الفوقانية وكسر الجيم والدال مُشددة، من: أجده، أي: جعله جديداً. الجوهري: "تجدد الشيء صار جديداً، وأجده وجدده واستجده: صيره جديداً".
(يَسْجُدُونَ) لا يستكينون ولا يخضعون. وقيل. قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم (واسْجُدْ واقْتَرِبْ)[العلق: 19] فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر، فنزلت. وبه احتج أبو حنيفة رضي الله عنه على وجوب السجدة. وعن ابن عباس: ليس في المفصل سجدة. وعن أبى هريرة رضي الله عنه: أنه سجد فيها وقال: والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. وعن أنس: صليت خلف أبى بكر وعمر وعثمان فسجدوا. وعن الحسن: هي غير واجبة (الَّذِينَ كَفَرُوا) إشارة إلى المذكورين. (بِمَا يُوعُونَ) بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ليس في المفصل)، عن بعضهم: قيل اسم للسابع في أكثر الأحوال، وقيل: من: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا} [محمد: 1].
قوله: (وعن أبي هريرة أنه سجد فيها)، روينا عن الشيخين وأبي داود والنسائي، عن أبي سلمة:"رأيت أبا هريرة قرأ {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} فسجد فيها، وقال: لو لم أر النبي? ، سجد، لم أسجد".
وفي رواية: سجد أبو بكر وعمر في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} ، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، ومن هو خير منهما. وهو سنة عند الشافعي في المفصل، على الجديد.
(إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) استثناء منقطع.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة «انشقت» أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}: استثناء منقطع)، وقال أبو البقاء:"ويجوز أن يكون متصلاً، وأن يكون منقطعاً". وقيل: التقدير: فبشر الناس. وقلت: ليس بذاك، لأن الضمير راجع إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} ، و {الَّذِينَ كَفَرُوا} وضع موضع المظهر، للإشعار بأنهم لا يؤمنون ولا يسجدون عند قراءة القرآن عليهم، لأنهم كافرون مكذبون.
تمت السورة
حامداً لله ومُصلياً
*
…
*
…
*
سورة البروج
مكية، وهي ثنتان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ • والْيَوْمِ المَوْعُودِ • وشَاهِدٍ ومَشْهُودٍ) 1 - 3]
هي البروج الاثنا عشر، وهي قصور السماء على التشبيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة البروج
مكية، وهي ثنتان وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (على التشبيه)، أي: تشبيه السماء بسور المدينة؛ فإنه ذو أبراج، الأساس:"لها وجه مسرج، وعليها ثوب مبرج، وهو الذي عليه تصاوير كبروج السور".
الراغب: "البروج: القصور. وسمي بروج النجوم بها لمنازلها المختصة بها، قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، وثوب مبرج: صور عليه بروج، واعتبر حُسنه، فقيل: تبرجت المرأة، أي: تشبهت به في إظهار المحاسن. وقيل: ظهرت من بُرجها، ويدل عليه قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] ".
وقيل: البروجِ: النجوم التي هي منازل القمر. وقيل: عظام الكواكب. سميت بروجاً لظهورها. وقيل: أبواب السماء. (والْيَوْمِ المَوْعُودِ) يوم القيامة. (وشَاهِدٍ ومَشْهُودٍ) يعني: وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه. والمراد بالشاهد: من يشهد فيه من الخلائق كلهم، وبالمشهود: ما في ذلك اليوم من عجائبه. وطريق تنكيرهما: إما ما ذكرته في قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ)[التكوير: 14] كأنه قيل: وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود. وإما الإبهام في الوصف، كأنه قيل: وشاهد مشهود لا يكتنه وصفهما. وقد اضطربت أقاويل المفسرين فيهما؛ فقيل: الشاهد والمشهود: محمد صلى الله عليه وسلم، ويوم القيامة. وقيل: عيسى وأمته، لقوله:(وكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ)[المائدة: 117] وقيل: أمة محمد، وسائر الأمم. وقيل: يوم التروية، ويوم عرفة، وقيل: يوم عرفة، ويوم الجمعة. وقيل: الحجر الأسود والحجيج، وقيل: الأيام والليالي، وبنو آدم. وعن الحسن: ما من يوم إلا وينادي: إنى يوم جديد وإني على ما يعمل في شهيد؛ فاغتمنى، فلو غابت شمس لم تدركني إلى يوم القيامة؛ وقيل: الحفظة وبنو آدم. وقيل: الأنبياء ومحمد عليه السلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام وصاحب "التيسير" والقاضي: "وهي البروج الاثنا عشر، تسير الشمس فيها في سنة، والقمر في شهر، وقد تعلقت بها مصالح ومنافع، فأقسم بها إظهاراً لقدرها".
وأما قوله: (البروج: النجوم التي هي منازل القمر)، فيرجع إلى المعنى الأول، لأن البروج الاثنى عشر منقسمة إلى ثمان وعشرين منزلاً. وقال الواحدي:"البروج: النجوم، أو منازلها".
قوله: (سُميت بروجاً لظهورها)، مأخوذ من التبرج، وهو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال.
قوله: (وقد اضطربت أقاويل المفسرين فيهما)، والضابط أن الشاهد قد يحمل على الذي يشهد للمدعي على المدعى عليه، أو على الحاضر نحو: فلان شاهد مجلس فلان، ضد غائب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمشهود أيضاً قد يُحمل على المشهود عليه، أو على المشهود فيه. وكل واحد منهما إما حقيقي أو مجازي، وفيه وجوه:
أ- أن الشاهد محمد? ، والمشهود يوم القيامة. روى محيي السنة عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: الشاهد محمد? ، والمشهود يوم القيامة، ثم تلا:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41].
ب- الشاهد عيسى عليه السلام، والمشهود أُمته، وهو من قوله:{وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117].
ج- الشاهد أمة محمد? ، والمشهود سائر الأمم، وهو قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143].
د- الشاهد يوم التروية، والمشهود يوم عرفة، رواه محيي السنة عن سعيد بن المسيب. وعن بعضهم: وصف يوم التروية بصفة أهله، لأنه مشهود عليهم.
هـ- الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم الجمعة، رواه الإمام عن سعيد بن المسيب مُرسلاً.
و- الشاهد الحجر والمشهود الحجيج، لعله أُخذ مما روي أن الحجر الأسود يشهد لمن استلمه يوم القيامة.
ز- الشاهد الأيام والليالي، والمشهود بنو آدم، وهو من قول الحسن كما رواه.
[(قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ • النَّارِ ذَاتِ الوَقُودِ • إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ • وهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ • ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ • الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) 4 - 9]
فإن قلت: أين جواب القسم؟
قلت: محذوف يدل عليه قوله: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ) كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون، يعني كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود؛ وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان، وإلحاق أنواع الأذى، وصبرهم وثباتهم، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرقين بالنار، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم: قتلت قريش، كما قيل: قتل أصحاب الأخدود وقتل: دعاء عليهم، كقوله:(قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)[عيس: 17]، وقرئ:(قتل) بالتشديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (محذوف)، أي: جواب القسم أنهم ملعونون. فعلى هذا، {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} لا يكون دعاء عليهم، بل هي كلمة تعجب، يُعجب الناس من عنادهم وشدة شكيمتهم ومبالغتهم في تعذيب المؤمنين، فيكون كناية عن كونهم ملعونين، كما يقول قائله: لله ما أشجعه! يدل على قوله: "و {قُتِلَ}: دعاء عليه". قال الإمام: "كان مشركو قريش يؤذون المؤمنين على حسب ما اشتهرت به الأخبار عن مبالغتهم في إيذاء عمار وبلال".
وروى الإمام عن الزجاج والأخفش، "أن جواب القسم:{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} ، واللام مضمرة كما قال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا
…
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 1، 9]، أي: لقد أفلح. وقيل: الجواب: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} ، وقيل:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} ، وقيل: الجواب محذوف، والتقدير: إن الأمر حق في الجزاء".
والأخدود: الخد في الأرض وهو الشق، ونحوهما بناء ومعنى: الخق والأخقوق. ومنه فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كان لبعض الملوك ساحر، فلما كبر ضم إليه غلاماً ليعلمه السحر، وكان في طريق الغلام راهب فسمع منه، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس، فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها؛ فقتلها، فكان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص، ويشفي من الأدواء، وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله فقال: من رد عليك بصرك؟ فقال: ربى، فغضب فعذبه. فدل على الغلام فعذبه، فدل على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه، فقد بالمنشار وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته، فدعا فرجب بالقوم، فطاحوا ونجا، فذهب به إلى قرقور فلججوا به ليغرقوه، فدعا فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا ونجا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان)، عن بعضهم: أي: غابت ودخلت قوائم فرس سُراقة بن جعشم، حين اتبع رسول الله? حين خرج من الغار.
النهاية: "وفي حديث المحرم: "فوقصت به ناقته في أخاقيق جُرذان فمات". الوقص: كسر العنق، والباء في "به" كقولك: خذِ الخطام وخذْ بالخطام. ولا يقال: وقصت العنق نفسها، ولكن: وقص الرجل فهو موقوص. والأخاقيق: شقوق في الأرض كالأخاديد، وأحدها أُخقوق، يقال: خق في الأرض، صححه الأزهري".
قوله: (عن النبي? : كان لبعض الملوك)، هذا حديث طويل، أخرجه الإمام أحمد بن حنبل، ومسلم، والترمذي عن صهيب، مع زيادات واختلافات، يطول ذكره.
قوله: (إلى قُرقور فلججوه)، النهاية:"القرقور: هو السفينة العظيمة، وجمعها قراقير".
فقال للملك: لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول: بسم الله رب الغلام، ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات؛ فقال الناس: آمنا برب الغلام؛ فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر؛ فأمر بأخاديد في أفواه السكك وأوقدت فيها النيران، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أماه، اصبري فإنك على الحق؛ فاقتحمت. وقيل: قال لها قعي ولا تنافقي. وقيل: قال لها: ما هي إلا غميضة فصبرت.
وعن علي رضي الله عنه: أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال: هم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم، وكانت الخمر قد أحلت لهم، فتناولها بعض ملوكهم فسكر، فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج، فقالت له: المخرج أن تخطب الناس فتقول: يا أيها الناس، إن الله أحل نكاح الأخوات، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول: إن الله حرمه؛ فخطب فلم يقبلوا منه فقالت له: ابسط فيهم السوط؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلججوه: أي أدخلوه في لجة البحر. وروى عن المصنف أنه قال: هو سفينة صغيرة، وأهل جدة يقولون: سنبوك، وجمعه سنابيك.
قوله: (فاقتحمت)، أي: رمت نفسها من غير روية.
قوله: (قفي)، ويروى:"قعي".
قوله: (وما هي إلا غُميضة)، يقال: أغمض عينها، وغمضها: إذا أطبق أجفانها، والضمير أي: هي، قيل: يعود إلى النار، يعني: ليس العذاب بتلك النار إلا زماناً قليلاً قدر إطباق أجفان العين، ويمكن أن يقال: إن الضمير للقصة، أي: ليس الأمر إلا قدر إطباق العين.
فلم يقبلوا؛ فقالت له: ابسط فيهم السيف، فلم يقبلوا؛ فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها؛ فهم الذين أرادهم الله بقوله:(قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ).
وقيل: وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام، فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا، فأحرق منهم اثني عشر ألفاً في الأخاديد، وقيل: سبعين ألفاً؛ وذكر أن طول الأخدود، أربعون ذراعاً وعرضه اثنا عشر ذراعاً. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ من جهد البلاء. (النَّارِ) بدل اشتمال من الأخدود، (ذَاتِ الوَقُودِ) وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس، وقرئ:(الوقود)، بالضم (إِذْ) ظرف لقتل، أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها. ومعنى (عَلَيْهَا) على ما يدنو منها من حافات الأخدود، كقوله:
وبات على النار النّدى والمحلق
وكما تقول: مرت عليه، تريد: مستعلياً لمكان يدنو منه، ومعنى شهادتهم على إحراق المؤمنين: أنهم وكلوا بذلك وجعلوا شهوداً يشهد بعضهم لبعض عند الملك أن أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من جهد البلاء)، أي: من شدة البلاء والتكليف فوق الطاقة.
قوله: (وبات على النار النَّدى والمحلق)، أوله:
تُشب لمقرورين يصطليانها
تُشب: تُوقد، المقرور: من أصابه البرد، والمحلق: اسم رجل مضى شرحه غير مرة.
ويجوز أن يراد: أنهم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين، يؤدون شهادتهم يوم القيامة (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور: 24]، (ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ) وما عابوا منهم، وما أنكروا إلا الإيمان، كقوله:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم
قال ابن الرقيات:
ما نقموا من بني أمية إلا
…
أنهم يحلمون إن غضبوا
وقرأ أبو حيوة: (نقموا) بالكسر، والفصيح هو الفتح. وذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به ويعبد، وهو كونه عزيزا غالباً قادرا يخشى عقابه حميداً منعماً، يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه، (لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ) فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقديراً؛ لأن (مَا نَقَمُوا مِنْهُمْ)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم)، تمامه:
بهن فُلول من قراع الكتائب
مضى شرحه.
قوله: (ما نقموا) البيت، أي: ما أنكروا من بني أمية إلا ما هو أصل الشرف والسيادة، وهو الحلم عند الغضب، وكظم الغيظ.
قوله: (تقريراً، لأن {وَمَا نَقَمُوا})، "لأن" صلة "تقريراً"، وهو مفعول له، لقوله: "وذكر
هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغي، وإن الناقمين أهل لانتقام الله منهم بعذاب لا يعدله عذاب، (واللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وعيد لهم، يعني أنه علم ما فعلوا، وهو مجازيهم عليه.
[(إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ولَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ • إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الفَوْزُ الكَبِيرُ) 10 - 11]
ويجوز أن يريد بالذين فتنوا: أصحاب الأخدود خاصة، وبالذين آمنوا: المطروحين في الأخدود. ومعنى فتنوهم عذبوهم بالنار وأحرقوهم، (فَلَهُمْ) في الآخرة، (عَذَابُ جَهَنَّمَ) بكفرهم، (ولَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ) وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق بإحراقهم المؤمنين. أو لهم عذاب جهنم في الآخرة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأوصاف"، يعني: إنما لم يكتف بقوله {إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا} ، وذكر اسم الله وأجرى عليه تلك الأوصاف العظيمة، ليقرر أن وصف الإيمان الذي عابوا منهم، وصف عظيم له جلاله، وأن من قصد صاحبه بالانتقام والعيب كان مبطلاً مبالغاً في الغيّ، فإن من يضاد الحق الأبلج، يستحق أن ينتقم منه بعذاب لا يعدله عذاب.
قوله: (كما يتسع الحريق بإحراقهم)، الأساس:"أحرقه بالنار وحرقته، واحترق ووقع الحريق في داره".
يريد أن عطف {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} على {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} يقتضي المغايرة، فيحمل الأول على أنهم استحقوه لكفرهم، والثاني على أنهم كما أحرقوا المؤمنين يُحرقون بنار تشبه الحريق المشاهد في الاتساع، وأخّر عذاب الدنيا عن عذاب الآخرة مراعاة للفواصل؛ قال الإمام في الوجه الأول:"لما كان عذال جهنم بالنسبة إلى عذاب الحريق كلا عذاب، لأنه قد اجتمع فيه أنواع الإحراق، قيل له: عذاب الحريق".
ولهم عذاب الحريق في الدنيا، لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم. ويجوز أن يريد: الذين فتنوا المؤمنين، أي: بلوهم بالأذى على العموم؛ والمؤمنين: المفتونين؛ وأن للفاتنين عذابين في الآخرة: لكفرهم، ولفتنتهم.
[(إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ • إنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ ويُعِيدُ • وهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ • ذُو العَرْشِ المَجِيدُ • فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ) 12 - 16]
البطش: الأخذ بالعنف؛ فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم: وهو بطشه بالجبابرة والظلمة، وأخذهم بالعذاب والانتقام، (إنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ ويُعِيدُ) أي يبدئ البطش ويعيده. يعني: يبطش بهم في الدنيا وفي الآخرة، أو دل باقتداره على الإبداء والاعادة على شدة بطشه، وأوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويجوز أن يريد: الذين فتنوا المؤمنين، أي: بلوهم بالأذى على العموم)، معنى الآية تذييل للكلام السابق، وتوكيد لمعنى قوله:{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} . وعلى الوجه السابق وهو أن يراد: بـ {الَّذِينَ فَتَنُوا} أصحاب الأخدود خاصة، وبـ {الَّذِينَ آمَنُوا} المطروحين، يكون لمجرد معنى {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} ، من باب المظهر الذي وضع أقيم موضع المضمر.
قوله: (أو دل باقتداره على الإبداء)، يريد أن قوله:{إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} ، استئناف على بيان موجب شدة البطش، ولما كان {يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} مُطلقين، تركهما في هذا الوجه على إطلاقهما، لإفادة أنه يُبدئ المخلوقات كلها ويعيدها بأسرها، كقوله تعالى:{إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 4]. فمن كان كذلك كان قادراً على الإطلاق، وكان بطشه شديداً لاقتداره العظيم. وصرح بالمفعول في الوجهين: أما في الأول، فالمفعول البطش لدلالة {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ} ، وأما في الثاني فضمير الكفرة المار ذكرهم، ليؤذن بضرب من الوعيد كما قال.
إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالاعادة، وقرئ:(يبدأ). (الوَدُودُ) الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود: من إعطائهم ما أرادوا. وقرئ: (ذى العرش) صفة لربك، وقرئ:(المجيد) بالجر صفة للعرش. ومجد الله عظمته. (فَعَّالٌ) خبر مبتدأ محذوف. وإنما قيل: فعال؛ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود)، أي: استعار لذاته صفة الودادة على سبيل التمثيل، قال الإمام:"الودود: المحب، وهو قول أكثر المفسرين، قال الكلبي: الودود: المتودد إلى أوليائه بالمغفرة والجزاء. وقال الأزهري: يجوز أن يكون الودود فعولاً بمعنى مفعولاً، كركوب وحلوب، يعني أن عباده الصالحين يُحبونه لما عرفوا من كماله في ذاته وصفاته وأفعاله، وكلتا الصفتين مدح، لأنه تعالى إذا أحب عباده المخلصين فلإفضاله، وإن أحبوه فلجزيل إحسانه".
قوله: (وقُرئ: "المجيد" بالجر)، حمزة والكسائي، والباقون: بالرفع.
قوله: (خبر مبتدأ محذوف)، وعن بعضهم: كأنه فصله لفصل المجرورين والتنكير، وقلت: إنما فصله لأنه كالفذلكة للأوصاف السابقة والخاتمة لها، ونُكرت لضرب من التعظيم، يتلاشى عنده الأوهام والعقول.
قوله: (وإنما قيل: فعال، لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة)، "الانتصاف":"لا فاعل إلا هو، وبهذا تنتظم الآية، فإن أكثر ما أراد الله تعالى عند المعتزلة لم يكن تعالى الله عن ذلك، وهب أنا أعرضنا عن أدلتنا، أليس قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} يقتضي العموم، وأنه تعالى يفعل ما يريد؟ ".
[(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الجُنُودِ • فِرْعَوْنَ وثَمُودَ • بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ • واللَّهُ مِن ورَائِهِم مُّحِيطٌ • بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ • فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ) 17 - 22]
(فِرْعَوْنَ وثَمُودَ) بدل من الجنود، وأراد بفرعون إياه وآله، كما في قوله:(مِّن فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِمْ)[يونس: 83]، والمعنى: قد عرفت تكذيب تلك الجنود الرسل وما نزل بهم لتكذيبهم. (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قومك (فِي تَكْذِيبٍ) أي: تكذيب واستيجاب للعذاب، والله عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن اقتضاء مذهبه يخالف تفسيره؛ فإنهم يقولون: الله يريد من العباد الإيمان والطاعة، ولا يريد الكفر والمعصية، ولا شك أن الثاني أكثر وقوعاً. وأيضاً إن العباد إذا كانوا فاعلين لأفعالهم مستقلين في خلقها، فكأن الكثرة فيها.
وقال الإمام: "احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة خلق الأعمال، قالوا: لا خلاف في أنه يريد الإيمان من المكلف، فوجب أن يكون فاعلاً له، وإذا كان فاعلاً للإيمان، وجب أن يكون فاعلاً للكفر ضرورة، لأنه لا قائل بالفرق. وقال القفال: الفعّال لما يريد: يفعل ما يريد على ما يراه، ولا اعتراض عليه، ولا يغلبه غالب، فيُدخل من يشاء الجنة لا يمنعه مانع، ويُدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر".
قوله: (قد عرفت تكذيب تلك الجنود)، تفسير لقوله {هَلْ أَتَاكَ} ، وفيه أن {هَلْ} هاهنا بمعنى {قَدْ} ، وضُمن معنى التعجب بدلالة {الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} ، ليفيد الترقي من التعجيب إلى التعجب في الإضراب الأول، والترقي من التكذيب إلى التكذيب في الإضراب الثاني. بيان ذلك قوله:"إن أمرهم أعجب من أمر أولئك، لأنهم سمعوا بقصصهم"، إلى قوله:"وكذبوا أشد من تكذيبهم".
والمبالغة في الثاني تفهم من التنكير في قوله {فِي تَكْذِيبٍ} ، ثم ترقى وقال: دع تكذيبهم بذلك، فإن هاهنا ما هو أطَمّ منه، وهو تكذيبهم بهذا القرآن المجيد المثبت في اللوح المحفوظ.
والإحاطة بهم من ورائهم: مثل لأنهم لا يفوتونه، كما لا يفوت فائت الشيء المحيط به. ومعنى الاضراب: أن أمرهم أعجب من أمر أولئك؛ لأنهم سمعوا بقصصهم وبما جرى عليهم، ورأوا آثار هلاكهم ولم يعتبروا، وكذبوا أشد من تكذيبهم. (بَلْ هُوَ) أي: بل هذا الذي كذبوا به (قُرْآنٌ مَّجِيدٌ) شريف عالي الطبقة في الكتب وفي نظمه وإعجازه. وقرئ: (قرآن مجيد) بالإضافة، أي: قرآن رب مجيد. وقرأ يحيى بن يعمر: (في لوح) واللوح: الهواء، يعني: اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح (مَّحْفُوظٍ) من وصول الشياطين إليه، وقرئ:(محفوظ) بالرفع صفة القرآن.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة «البروج» أعطاه الله بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأنهم لا يفوتونه)، اللام صلة "مثل"، وليست للتعليل، أي: مثل لعدم الفوات.
قوله: (وقُرئ: "محفوظ" بالرفع)، قرأها نافع.
قوله: (وكل يوم عرفة)، عرفة: علم للموقف. عن بعضهم: إنما صُرفت هاهنا لأنه أراد تنكير اليوم، ولا طريق إليه إلا بتنكير المضاف إليه.
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة الطارق
مكية، وهي سبع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَالسَّمَاءِ والطَّارِقِ • ومَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ • النَّجْمُ الثَّاقِبُ) 1 - 3]
(النَّجْمُ الثَّاقِبُ) المضيء، كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، كما قيل: دريء؛ لأنه يدرؤه، أي: يدفعه. ووصف بالطارق؛ لأنه يبدو بالليل، كما يقال للآتي ليلاً: طارق: أو لأنه يطرق الجني، أي يصكه. والمراد: جنس النجوم، أو جنس الشهب التي يرجم بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الطارق
سبع عشرة آية، مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (للآتي ليلاً)، أي: كما يقال لمن يأتي في الليل: طارق، كذلك يقال للنجم الطالع في الليل: طارق.
قوله: (أو لأنه يطرق الجني، أي: يصكه)، أي: يضربه. الراغب: "الطرق في الأصل الضَّرب، إلا أنه أخص، لأنه ضرب توقع كطرق الحديد بالمطرقة، ويتوسع فيه توسعهم في
فإن قلت: ما يشبه قوله: (ومَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ • النَّجْمُ الثَّاقِبُ) إلا ترجمة كلمة بأخرى، فبين لي أي فائدة تحته؟
قلت: أراد الله عز من قائل: أن يقسم بالنجم الثاقب تعظيماً له، لما عرف فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة، وأن ينبه على ذلك فجاء بما هو صفة مشتركة بينه وبين غيره، وهو الطارق، ثم قال:(ومَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ)، ثم فسره بقوله:(النَّجْمُ الثَّاقِبُ) كل هذا إظهار لفخامة شأنه، كما قال:(فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ • وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)[الواقعة: 75 - 76] روي: أن أبا طالب كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانحط نجم، فامتلأ ماء ثم نوراً، فجزع أبو طالب وقال: أي شيء هذا؟ فقال عليه السلام: «هذا نجم رمى به، وهو آية من آيات الله» ، فعجب أبو طالب، فنزلت.
[(إن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) 4]
فإن قلت: ما جواب القسم؟
قلت: (إن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ)؛ لأن (إن) لا تخلو فيمن قرأ: (لَّمَّا) مشددة، بمعنى: إلا أن تكون نافية. وفيمن قرأها مخففة_على أن (ما) صلة_تكون مخففة من الثقيلة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضرب. وسمي الماء الكدر طرقاً لطرقه الدواب بالرِّجل، والطارق السالك للطريق، لكن في المتعارف خُص بالآتي ليلاً، وعُبر عن النجم بالطارق لاختصاص ظهوره بالليل، وعن الحوادث التي تأتي بالليل بالطوارق".
قوله: (فانحط نجم)، الأساس:"ناقة حطوط: سريعة السير، وحطت في سيرها وانحطت".
قوله: (لا تخلو فيمن قرأ: {لَّمَّا} مشددة)، قرأ عاصم وابن عامر وحمزة: مشددة، والباقون: مخففة؛ فإن قُرئ "لمَّا" مشددة، يكون "إنْ" في قوله {إِن كُلُّ نَفْسٍ} نافية على تقدير: ما كل نفس
وأيتهما كانت فهي مما يتلقى به القسم، حافظ مهيمن عليها رقيب، وهو الله عز وجل (وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا) [الأحزاب: 52]، (وكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا) [النساء: 85]، وقيل: ملك يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» .
[(فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ • خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ • يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرَائِبِ) 5 - 7]
فإن قلت: ما وجه اتصال قوله (فَلْيَنظُرِ) بما قبله؟
قلت: وجه اتصاله به، أنه لما ذكر أن على كل نفسٍ حافظاً،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلا عليها حافظ. وإذا قُرئ مخففة تكون "إنْ" مخففة من الثقيلة، و"ما" في "لما" صلة، أي: إن كل نفس لعليها حافظ، وأيتهما كانت، فهي مما يتلقى به القسم. قال الزجاج:"استعملت "لما" في موضع "إلا" في موضعين، أحدهما هذا، والآخر في باب القسم، تقول: سألتك لما فعلت، بمعنى: إلا فعلت".
قوله: (وجه اتصاله [به] أنه لما ذكر)، وتحريره أنه تعالى لما أثبت أن على كل نفس حافظاً، يكتب أعمالها دقيقها وجليلها، خيرها وشرها على التوكيد القسمي، عُلم أنه تعالى ما خلق الخلق سُدى وعبثاً، بل خلقهم لأمر خطير وخطب عظيم، وما ذاك إلا ليعرفوا مالكهم وخالقهم، ويعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وعُلم منه أنه لا بد من ثواب المطيع وعقاب العاصي، ومن الرجوع إلى المالك العادل للوصول إلى ما لكل منهما، قال الله تعالى:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} [يونس: 4].
فمن أنكر ذلك، فلينظر إلى نفسه {مِمَّ خُلِقَ} إلى قوله {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} ، وهو المراد من قوله:"أتبعه توصية الإنسان بالنظر في أول أمره"، إلى قوله "ولا يُملي على حافظه من الأعمال إلا ما يَسُرُه في عاقبته".
أتبعه توصية الإنسان بالنظر في أول أمره ونشأته الأولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته؛ و (مِمَّ خُلِقَ) استفهام جوابه (خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ) والدفق: صب فيه دفع. ومعنى دافق: النسبة إلى الدفق الذي هو مصدر دفق، كاللابن والتامر، أو الإسناد المجازي. والدفق في الحقيقة لصاحبه، ولم يقل ماءين لامتزاجهما في الرحم، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه، (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرَائِبِ) من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فظهر من هذا التقدير أن الفاء في {فَلْيَنظُرِ} فصيحة تُفصح عن هذه المقدرات، مثلها في قوله تعالى:{سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ، بعد قوله:{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191].
قوله: (الدفق: صب فيه دفع)، عن بعضهم:{مِن مَّاءٍ دَافِقٍ} ، أي: سائل بسرعة، ومنه استعير: جاؤوا دُفقة، وبعير أدفق، أي: سريع.
قوله: (وترائب المرأة، وهي عظام الصدر)، قال الإمام: "طعن [في هذه الآية] الملحدة، خذلهم الله وأبادهم، وقالوا: إن المني إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع، وينفصل من جميع أجزاء البدن، فيأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته، مستعداً لأن يتولد منه مثل تلك الأعضاء. فإن كان المراد أن معظم أجزاء المني يتولد هناك فهو ضعيف، لأن معظمه
وقرئ: (الصلب) بفتحتين، و (الصلب) بضمتين. وفيه أربع لغات: صلب، وصلب، وصلب وصالب. قال العجاج:
في صلب مثل العنان المؤدم
وقيل: العظم والعصب من الرجل، واللحم والدم من المرأة.
[(إنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ • يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ • فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ ولا نَاصِرٍ) 8 - 10]
(إنَّهُ) الضمير للخالق، لدلالة خلق عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنما يتولد من الدماغ. وإن كان المراد أن مُستقر المني هناك فضعيف أيضاً، لأن مستقره أوعية المني، وهي عروق تلتف بعضها ببعض عند البيضتين".
وأجاب أن "لا شك أن أعظم الأعضاء معونة الدماغ، ومنه النخاع في الصلب، وشعب نازلة إلى مقدم البدن وهي التَّريبة؛ على أن كلامهم محض الوهم والظن الضعيف، وكلام الله المجيد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
قوله: (وقُرئ: "الصَّلب" بفتحتين)، {الصُّلْبِ}: بضم الصاد وسكون اللام: هي المشهورة، والبواقي: شواذ.
قوله: (في صلب مثل العنان المؤدم)، أوله:
ريا العظام فخمة المخدم
يصف صلب امرأة باللين. فخمة المخدم: عظيمة الساق، والعنان: السير الذي يأخذه
ومعناه: إن ذلك الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفة (عَلَى رَجْعِهِ) على إعادته خصوصاً (لَقَادِرٌ) لبين القدرة لا يلتاث عليه ولا يعجز عنه. كقوله:
إنني لفقير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراكب بيده. المؤدم: أي المتخذ من الأديم. وعن بعضهم: جاء الصُّلب، بضمتين، وقد قُرئ به، واستشهد بقول الشاعر.
قوله: (وما معناه: إن ذلك الذي خلق الإنسان)، يعني: إن في مجيء الفعل مجهولاً أولاً، والإضمار قبل الذكر ثانياً، الدلالة على أن الكلام من باب إرخاء العنان. أي: ما أقول: إنني أنا المبدئ والمعيد، بل أقول: إن ذلك الذي تعورف عندكم واشتهر وتقرون أنه الخالق، هو القادر على الإعادة؛ فجيء بإن واللام وتنكير الخبر، ليدل على رد بليغ، وعلى إنكار مبالغ عنهم، بأنه لا حشر ولا نشر، بل إما تعطيل أو أمر آخر كما اختلف فيه المبطلون.
يعني: لا تتعلق القدرة بشيء من الأشياء، إلا بإعادة الأرواح إلى الأجساد، ومن ثم نص على قوله:"على إعادته خصوصاً {لَقَادِرٌ}؛ قال الإمام: "الضمير في {إِنَّهُ} للخالق، مع أنه لم يتقدم ذكره، لأنه قد تقرر في بدائه العقول، أن القادر على هذه التصرفات هو الله تعالى، ولذلك كان كالمذكور".
قوله: (لا يلتاث عليه)، الجوهري:"الالتياث: الاختلاط والالتفات، يقال: التاثت الخطوب والتاثت برأس القلم شعرة". يعني: دل التنكير في {لَقَادِرٌ} على كمال القدرة، كما التنكير في قول الشاعر:
لئن كان يهدي برد أنيابه العلا لأفقر مني، إنني لفقير
يريد: بليغ الفقر جداً، ومضى شرحه في "البقرة".
(يَوْمَ تُبْلَى) منصوب بـ (رَجْعِهِ)، ومن جعل الضمير في (رَجْعِهِ) للماء وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب أو الإحليل، أو إلى الحالة الأولى نصب الظرف بمضمر (تُبْلَى السَّرَائِرُ) ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفي من الأعمال. وبلاؤها: تعرفها وتصفحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({يَوْمَ تُبْلَى} منصوب بـ {رَجْعِهِي})، قال صاحب "الكشف":"لا يجوز أن ينتصب به، للفصل بين الصلة والموصول بقوله {لَقَادِرٌ}، ولا ينتصب أيضاً بقوله: {قَادِرٌ} " لأنه تعالى قادر في كل الأوقات؛ فإذن ينتصب بمُضمر دل عليه قوله {رَجْعِهِي} ، أي: بعثه يوم تبلى السرائر. وإن شت بمضمر دل عليه قوله: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} . ومنع أبو البقاء أن يكون منصوباً بـ {رَجْعِهِي} للعلة المذكورة، وأجاز أن يكون منصوباً بـ {قَادِرٌ}. ويمكن أن يقال: إن الفصل غير مانع لأنه في تقدير التأخير، قُدم مُراعاة للفواصل، على أن الظرف اتسعوا فيه ما لم يتسعوا في غيره.
قوله: (ومن جعل الضمير في {رَجْعِهِي} للماء، وفسَّره برجعه إلى مخرجه) إلى قوله (نصب الظرف بمضمر)، وفي "معالم التنزيل"، قال مجاهد: على رجعه: رد النطفة في الإحليل. وقال عكرمة: على رد الماء إلى الصُّلب الذي خرج منه، وقال الضحاك: إنه على رد الإنسان ماءً كما كان من قبل لقادر، وقال قتادة: إن الله على بعث الإنسان وإعادته بعد الموت قادر، وهذا أولالأقاويل لقوله:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} ، وذلك يوم القيامة، لأنه مردود إلى قوله:{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} ، أي: يوم تبلى ما كتب عليه الملك من أعمال الخير والشر، وكانت خفية عليه وعلى الناس، فحينئذ لا يقدر على دفع ذلك بنفسه، ولا له ناصر يدفع عنه غير الله.
قوله: (نصب الظرف بمضمر)، أي: بـ "اذكر" قبله، أو بقوله:"كان كيت وكيت" بعده.
وعن الحسن أنه سمع رجلاً ينشد:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا
…
سريرة ود يوم تبلى السرائر
فقال: ما أغفله عما في (وَالسَّمَاءِ والطَّارِقِ)! (فَمَا لَهُ) فما للإنسان، (مِن قُوَّةٍ) من منعة في نفسه يمتنع بها (ولا نَاصِرٍ) ولا مانع يمنعه.
[(والسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ • والأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ • إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ • ومَا هُوَ بِالْهَزْلِ) 11 - 14]
سمي المطر رجعاً، كما سمي أوباً قال:
رباء شمّاء لا يأوى لقلتها
…
إلا السحاب وإلا الأوب والسبل
تسمية بمصدري: رجع، وآب؛ وذلك أن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض، ثم يرجعه إلى الأرض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فقال: ما أغفله عما في {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ})، يعني: يشتغل بالشدائد ولا يتفطن لها، إذ لو عقل قوله تعالى:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} ، شغله عن هذه المحبة، لكنه ذُهل عن تلك الشؤون حتى تكلم بهذا. روي عن ابن عمر رضي الله عنهما:"يُبدي الله تعالى يوم القيامة كل خير وشر، فيكون إما زيناً في الوجوه أو شيناً فيها". يعني: من حفظها كان وجهه مشرقاً، ومن ضيعها كان وجهه أغبر.
قوله: (رباء شماء) البيت، وفي "المطلع": زناء، بالزاي والنون المشددة، من: زنأ في الجبل: إذا صعد فيه. ويروى: "رباء"، بالراء والباء الموحدة من تحت، يقال من: ربأ: الرَّبيئة: الديدبان، إذا صعد المربأ وهو المرقب. تم كلامه.
الشمم: ارتفاع الأنف، والنعت منه الأشم. وقيل: شماء مضاف إليه، والسبل: المطر الجود. يصف الهضبة بالارتفاع، والمعنى: هذا الرجل رباء قلعة شماء.
قوله: (كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض)، لعل هذه الوجه غير مرضي، لأن هذا الزعم باطل، وقد مر بطلانه في "البقرة"، ولم يذكره الإمام ولا المفسرون.
أو أرادوا التفاؤل فسموه رجعاً، وأوباً ليرجع ويؤب. وقيل: لأن الله يرجعه وقتاً فوقتاً. قالت الخنساء:
كالرجع في المدجنة السارية
والصدع: ما يتصدّع عنه الأرض من النبات (إنَّهُ) الضمير للقرآن، (فَصْلٌ) فاصل بين الحق والباطل، كما قيل له فرقان (ومَا هُوَ بِالْهَزْلِ) يعني: أنه جد كله لا هوادة فيه. ومن حقه وقد وصفه الله بذلك أن يكون مهيباً في الصدور،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كالرجع في المدجنة الساريه)، أوله:
يوم الوداع ترى دموعاً جاريه
المُدجنة: السحابة المظلمة، والسارية من السحاب: ما بين الغادية والرائحة.
قوله: ({إِنَّهُ}: الضمير للقرآن)، روى الإمام عن القفال أنه قال:"إن المعنى أن ما أخبرتكم به من قُدرتي على إحيائكم يوم تُبلى فيه سراركم، قول حق وكلام فصل"، ثم قال الإمام:"هذا أولى، لأن عود الضمير إلى المذكور السالف أحرى".
وقلت: ويؤيده قضية النظم، وهو أنه تعالى لما بدأ في مفتتح السورة بما دل على إثبات الحشر، وأكده بالإقسام بالنجم الثاقب، ثنى بالإقسام بقوله: لإثبات ذلك المطلوب تشديداً وتقريراً، ولذلك نفى الهزل، وعبر عن إنكارهم بالكيد والحيلة والتلبيس على العوام، قال الإمام:"الكيد: هو إلقاء الشبهات، كقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29]، قال: {مَن يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ".
قوله: (لا هوادة فيه)، الأساس:"بينهم مُهاودة وهوادة، وما في فلان هوادة: رفق ولين".
قوله: (ومن حقه)، وهو خبر، والمبتدأ:"أن يكون مهيباً"، "وقد وصفه الله تعالى بذلك":
معظماً في القلوب، يترفع به قارئه وسامعه، وأن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح، وأن يلقي ذهنه إلى أن جبار السموات يخاطبه فيأمره وينهاه، ويعده وبوعده، حتى إن لم يستفزه الخوف ولم تتبالغ فيه الخشية، فأدنى أمره أن يكون جادا غير هازل، فقد نعى الله ذلك على المشركين في قوله:(وتَضْحَكُونَ ولا تَبْكُونَ • وأَنتُمْ سَامِدُونَ)[النجم: 60 - 61]، (والْغَوْا فِيهِ) [فصلت: 26].
[(إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا • وأَكِيدُ كَيْدًا • فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) 15 - 17].
(إنَّهُمْ) يعني أهل مكة يعملون المكايد في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق، وأنا أقابلهم بكيدي: من استدراجي لهم وانتظاري بهم الميقات الذي وقته للانتصار منهم، (فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ) يعني: لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حال من الضمير المجرور في "حقه"، يريد أنه من المعلوم أن القرآن كله جد وليس بهزل؛ وإنما وصفه الله تعالى بذلك، ليكون مهيباً في الصدور، معظماً في القلوب. روينا عن الترمذي والدرامي، عن الحارث الأعور، عن علي رضي الله عنه، قال:"سمعت رسول الله? يقول: إنها ستكون فتنة. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحُكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله". الحديث.
قوله: (يترفع به قارئه)، أي: يُعظه بأن لا يشتغل بما يخالف تعظيمه، من الإلمام بالهزل، والتفكه بالمزاح. "الأساس":"دخلت عليه فلم يرفع لي رأساً، ورفعت له غاية فسما إليها".
قوله: (أن يُلم)، أي: أن ينزل. الجوهري: "قد ألم به، أي: نزل به".
قوله: (وأن يلقي ذهنه)، عطف على قوله: أن يكون مهيباً" على سبيل البيان، يدل عليه قوله: "أن جبار السموات يخاطبه"، أي: به، لا على قوله: "أن يلمّ" لفساد المعنى.
(أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) أي إمهالاً يسيراً؛ وكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين منه والتصبير.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة «الطارق» ، أعطاه الله بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: إمهالاً يسيراً)، جعله صفة مصدر محذوف، ومنه قوله: ضعه رويداً، أي: وضعاً رويداً؛ قال الإمام: "واعلم أن رُويد": إما اسم للأمر كقولك: رويد زيداً، أي: خله ودعه وارفق به، ولا تنصرف فيه حينئذ لأنه غير متمكن. أو يكون بمنزلة سائر المصادر، تقول: رويد زيد، كما تقول: ضرب زيد. أو يكون نعتاً منصوباً، أي: إمهالاً يسيراً، أو يكون حالاً، أي: أمهلهم غير مستعجل، قال أبو عبيدة: تكبيره: رود، وأنشد:
يمشي ولا تكلم البطحاء مشيته كأنه ثمل يمشي على رود
أي: على مهل ورفق وتؤدة. وذكر أبو علي في باب أسماء الأفعال: "رويد زيداً، يريد: أرود زيداً، وأمهله، وأرفق به".
قوله: (وكرر وخالف بين اللفظتين)، يعني: مَهِّل وأَمْهِل، ومعناهما واحد والباب مختلف. ولما كان الأصل في التكرار الموافقة، فلما خولف آذن أنه لأمر ما؛ فقوله:"لزيادة التسكين"، يتعلق بكل واحد من التكرير والمخالفة، فكأنه قيل: كرر وخالف لمزيد، مزيد التسكين منه.
تمت السورة
بعون الله
*
…
*
…
*
سورة الأعلى
مكية، وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى • الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى • والَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى • والَّذِي أَخْرَجَ المَرْعَى • فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) 1 - 5]
تسبيح اسمه عز وعلا: تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني التي هي إلحاد في أسمائه، كالجبر والتشبيه ونحو ذلك، مثل أن يفسر (الأَعْلَى) بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار، لا بمعنى العلو في المكان والاستواء على العرش حقيقة؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الأعلى
مكية، وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (مثل أن يفسر {الْأَعْلَى})، متصل بقوله:"تنزيهه"، أي: تسبيح اسمه: تنزيهه عما لا يصح فيه، مثل أن يفسر {الْأَعْلَى} بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار، لا بمعنى العلو في المكان.
الراغب: "العلو ضد السفل، والعلو: الارتفاع، وقد علا يعلو علواً، وعلي يعلى علاءً فهو علي؛ فـ "علا" بالفتح: في الأمكنة والأجسام أكثر، والعلي هو الرفيع القدر، من: علي، وإذا
وأن يصان عن الابتذال والذكر، لا على وجه الخشوع والتعظيم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصف الله تعالى به، فمعناه أنه يعلو أن يحيط به وصف الواصفين، بل علم العارفين، وعلى ذلك يقال: تعالى، نحو:{تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3]. وتخصيص لفظ التفاعل مبالغة ذلك، لا على سبيل التكليف كما يكون من البشر. وقوله:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، أي: أعلى من أن يقاس به أو يعتبر بغيره".
قوله: (وأن يصان عن الابتذال)، عطف على قوله:"تنزيهه"، أي: تسبيح اسمه: تنزيه ذاته عما لا يصح فيه من المعاني، وأن يصان اسمه من أن يبتذل، وأن يُذكر إلا على وجه التعظيم. ويجوز أن يُعطف على (أن يفسر)، على أن يجعل من اللف التقدير، بأن يقال: تسبيح اسمه: تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني، وعما لا يليق باسمه من خلاف التعظيم، فالاسم على الأول مُقحم كما في قول القائل:
إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما
وإلى المعنى الأول ينظر قول محيي السنة: "قال قوم: نزه ربك عما يصفه الملحدون، جعلوا الاسم صلة؛ يحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحداً، لأن أحداً لا يقول: سبحان اسم الله، بل: سبحان الله". وإلى المعنى الثاني، يُلمح قوله:"وقال الآخرون: نزه تسمية ربك، بأن تذكره وأنت له معظم ولذكره محترم، جعلوا الاسم بمعنى التسمية".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال الإمام: "إنه كما يجب تنزيه ذاته وصفاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب".
وقال القاضي في "شرح المصابيح": "قال مشايخنا: التسمية هو اللفظ الدال على المسمى، والاسم هو المعنى المسمى به"، كما أن الوصف قد يطلق ويراد به اللفظ، كذلك الاسم يطلق ويراد به المسمى، إطلاقاً لاسم الدال على المدلول، وعليه اصطلحت النحاة. ويدل على أنه للمعنى دون اللفظ قوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} ، و {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} [الرحمن: 78]، وقوله:{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40]؛ فإن من المعلوم أن عبدة الأصنام ما عبدوا اللفظ وإنما عبدوا المسمى.
وقالت المعتزلة: الاسم هو التسمية دون المسمى. قال حجة الإسلام: "الاسم هو اللفظ الدال على المعنى بالوضع لغة، والمسمى هو المعنى الموضوع له، والتسمية: وضع اللفظ وإطلاقه".
وقال الراغب: "ما ذكر من الخلاف في أن الاسم، هل هو المسمى أو هو غيره؟ كلاهما صحيح؛ فإن من قال: إن الاسم وهو زيد أو عمرو هو المسمى، نظر إلى قولهم: رأيت زيداً، وزيد رجل صالح، فإن زيداً هاهنا عبارة عن المسمى، والرؤية به تعلقت. ومن قال: هو غير المسمى، نظر إلى نحو قولهم: سميت ابني زيداً، وزيد اسم حسن، فإنه عنى أني سميت ابني بهذا اللفظ، وأن هذا اللفظ محكوم عليه بالحُسن. فإذن، قولك: زيد حسن، لفظ مشترك يصح أن يعني به أن هذا اللفظ حسن، وأن يعنى به أن المسمى حسن. وأما تصور من قال: لو كان الاسم هو المسمى، لكان من قال: النار أحرقت فمه، فهو بعيد، لأن عاقلاً لا يقول: إن زيداً الذي هو زاي، وياء، ودال، هو الشخص".
ويجوز أن يكون (الأَعْلَى) صفة للرب، والاسم؛ وقرأ علي رضي الله عنه: سبحان ربي الأعلى. وفي الحديث لما نزلت: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اجعلوها في سجودكم» ، فلما نزل سبح اسم ربك الأعلى قال:«اجعلوها في سجودكم» ، وكانوا يقولون في الركوع: اللهم لك ركعت، وفي السجود: اللهم لك سجدت. (خَلَقَ فَسَوَّى) أي خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية، ولم يأت به متفاوتاً غير ملتئم، ولكن على إحكام واتساق، ودلالة على أنه صادر عن عالم، وأنه صنعة حكيم (قَدَّرَ فَهَدَى) قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به؛ يحكى أن الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واعلم أن المصنف قال في تفسير قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِي} [الأعراف: 180]: "ولله الأوصاف الحسنى، وهي الوصف بالعدل والإحسان وانتفاء الشبه بالخلق. وذروا الذين يلحدون في أوصافه، فيصفونه بمشية القبائح، وخلق الفحشاء والمنكر، وبما يدخل في التشبيه كالرؤية ونحوها". وأخفى هذه المعاني في قوله: "هي إلحاد في أسمائه كالجبر والتشبيه ونحو ذلك" هاهنا.
ونحن معاشر أهل السنة، ننزه أسمائه بأن نمجده بأسمائه الحسنى الواردة في النقل الصحيح، وننزه صفاته بأن لا نخوض فيها من تلقاء أنفسنا، بل نصفه بما جاء في الكتاب والسنة، بعد أن نعتقد أنه تعالى ليس كمثله شيء.
قوله: (عن الابتذال)، الجوهري:"ابتذال الثوب وغيره: امتهانه، والتبذل: ترك التصاون".
قوله: (وفي الحديث: لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74])، الحديث رواه أبو داود وابن ماجه والدرامي، عن عقبة بن عامر، وليس فيه:"وكانوا يقولون" إلى آخره.
وقد ألهمها الله أن مسح العين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوي تلك المسافة على طولها وعلى عماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن الله. وهدايات الله للإنسان إلى مالا يحد من مصالحه وما لا يحصر من حوائجه في أغذيته وأدويته، وفي أبواب دنياه ودينه، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض: باب واسع، وشوط بطين، لا يحيط به وصف واصف، فسبحان ربي الأعلى. وقرئ:(قدر) بالتخفيف. (أَحْوَى) صفة لـ «غثاء» ، أي:(أَخْرَجَ المَرْعَى) أنبته. (فَجَعَلَهُ) بعد خضرته ورفيفه، (غُثَاءً أَحْوَى) دربنا أسود. ويجوز أن يكون (أَحْوَى) حالاً من (المَرْعَى)، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وشوط بطين)، الأساس: "ومن المجاز: شأو بطين، أي: بعيد، قال كعب بن زهير:
فبصبصن بين أداني الغضا وبين عُنيزة شأواً بطينا
وتباطن المكان: تباعد. بصبص الكلب وتبصبص: حرك ذنبه، والتبصبص: التملق.
قوله: (وقُرئ: "قدر" بالتخفيف)، الكسائي، والباقون: بالتشديد.
قوله: (ورفيفه)، الجوهري:"رف لونه يرف - بالكسر- رفاً ورفيفاً، أي: برق وتلألأ. ثوب وشجر رفيف: إذا تندت".
قوله: (دريناً أسود)، الجوهري:"الدرين: حطام المرعى إذا قدم، وهو ما يلي من الحشيش، قل ما ينتفع به الإبل".
قوله: (ويجوز أن يكون {أَحْوَى} حالاً من {الْمَرْعَى})، قال صاحب "الكشف":{أَحْوَى} فسروه على وجهين: أحدهما: أسود يابساً، والثاني: أخضر يضرب إلى السواد لشدة الري.
أي: أخرجه أحوى أسود من شدة الخضرة والري، (فَجَعَلَهُ غُثَاءً) بعد حويه.
[(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى • إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ ومَا يَخْفَى) 6 - 7]
بشره الله بإعطاء آية بينة، وهي: أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه، (إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ) فذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته، كقوله:(أَوْ نُنسِهَا)[البقرة: 106] وقيل: كان يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل، فقيل: لا تعجل، فإن جبريل مأمور بأن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن تحفظه؛ ثم لا تنساه إلا ما شاء الله، ثم تذكره بعد النسيان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلى الثاني: في الكلام تقديم وتأخير؛ إذ التقدير: الذي أخرج المرعى أحوى، أي: أخضر، فجعله غثاءً، ولا يكون {فَجَعَلَهُ غُثَاءً} فصلاً بين الصلة ومتعلقه، لأن قوله:{فَجَعَلَهُ} أيضاً في الصلة، والفصل بين الصلة وبعضها جائز.
هذا هو المراد من قول أبي البقاء: "قيل: {أَحْوَى} حال من {الْمَرْعَى}، أي: أخرج المرعى أخضر، ثم صيره غثاءً؛ فقدم بعض الصلة"، ومن ثم قدر المصنف: فجعله غثاءً بعد حوته.
قوله: (فيحفظه ولا ينساه {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ})، اعلم أنه أجرى {مَا شَاءَ اللَّهُ} تارة على حقيقية الاستثناء، وأخرى على المجاز. أما الأول فعلى وجوه:
أحدها: قوله: "فيحفظه ولا ينساه {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ". والمراد بالنسيان على هذا ما هو قسيم النسخ، من رفع الحكم والتلاوة، كما قال تعالى:{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106]. ويلحق بهذا الوجه الوجه الأخير، وهو قوله:" {فَلَا تَنسَى}، على النهي"، كقوله:"إلا ما شاء الله أن ينسيكهه برفع تلاوته للمصلحة".
وثانيها: قوله: "أن تحفظه ثم لا تنساه إلا ما شاء الله"، فإن النسيان على هذا هو المتعارف، ولما كان المراد منه: لا ينساه نسياناً كلياً كما قال في الوجه الأول.
أو قال: إلا ما شاء الله، يعني: القلة والندرة، كما روي أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة، فحسب أبى أنها نسخت، فسأله فقال: نسيتها أو قال: إلا ما شاء الله، الغرض نفي النسيان رأساً كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء الله، ولا يقصد استثناء شيء، وهو من استعمال القلة في معنى النفي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والفرق بين الوجه الأول والثاني، هو أن الإقراء على الأول محمول على رعاية مصالح الدين، فالأنسب أن الإنسان يُحمل على ما يجب أن يُنسى كالنسخ. وعلى الثاني كان الإقراء الحفظ، فاحتيج إلى التكرار؛ وإنما تكرر لأن يستقر ولا يُنسى فيتذكر، وإليه أشار بقوله:"ثم تذكره بعد النسيان".
وثالثها: قوله: "قال: إلا ما شاء الله، يعني: القلة والنُّدرة"، أي: أصل الحكم، أي لا ينساه البتة، لأن النسيان غير مطلوب أصالة، قال الإمام:"ويشترط أن لا يكون ذلك القليل من واجبات الشرع، بل من الآداب والسنن، لأنه لو نسى شيئاً من الواجبات لاختل أمر الشرع".
وأما الثاني، فقوله:"قال: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، والغرض نفي النسيان"، وذلك على سبيل المبالغة، أي أنه تعالى لم يشأ النسيان، فلا يقع على مذهبه لقوله تعالى:{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89]، قال المصنف:"عودهم في ملتهم مما لن يشاءه الله"، وقوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَايْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]، قال:" {إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} في معنى كلمة: تأبيد، كأنه قيل: لا تقولنه أبداً".
قوله: (وهو من استعمال القلة في معنى النفي)، مثاله: قل رجل يقول كذا، أي: ما رجل يقول كذا.
وقيل: قوله (فَلا تَنسَى) على النهي، والألف مزيدة للفاصلة، كقوله:(السَّبِيلا)[الأحزاب: 67] يعني: فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه، إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة، (إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ) يعني: أنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام مخافة التفلت، والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر، فلا تفعل، فأنا أكفيك ما تخافه. أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم، وما ظهر وبطن من أحوالكم، وما هو مصلحة لكم في دينكم ومفسدة فيه، فينسى من الوحي ما يشاء؛ ويترك محفوظاً ما يشاء.
[(ونُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى • فَذَكِّرْ إن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى • سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى • ويَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى • الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى • ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا ولا يَحْيَى) 8 - 13]
(ونُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) معطوف على (سَنُقْرِئُكَ) وقوله: (إنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ ومَا يَخْفَى) اعتراض، ومعناه: ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: قوله {فَلَا تَنسَى} على النهي، والألف مزيدة)، قال أبو علي:"نهاه عن التشاغل والإهمال المؤديين إلى نسيان ما يقرأ، لأن النسيان ليس بفعل الناسي فينهي عنه لأنه من فعل الله، فيحدثه عند إهمال تكريره وترك مراعاته". وقلت: ونحوه قوله تعالى: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، وقولهم: لا أُرينك هاهنا، وإليه الإشارة بقوله:"فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه".
قوله: ({إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} اعتراض)، فعلى الوجه الأول: هو كالتعليل لما ورد عليه قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى} ، وإليه الإشارة بقوله:"إنك تجهر بالقراءة" إلى قوله: "فلا تغفل، فأنا أكفيك ما تخافه". وعلى الثاني: توكيد لمضمون الكلام السابق من مفتتح السورة واللاحق إلى مختتمها، لأنها محتوية على الأمور الدنيوية والأخروية، ولذلك عمم المعنى
يعني: حفظ الوحي. وقيل للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع وأسهلها مأخذاً. وقيل: نوفقك لعمل الجنة.
فإن قلت: كان الرسول صلى الله عليه وسلم مأموراً بالذكرى نفعت أو لم تنفع، فما معنى اشتراط النفع؟
قلت: هو على وجهين، أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوا وطغياناً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفاً، ويزداد جداً في تذكيرهم وحرصاً عليه، فقيل له:(ومَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وعِيدِ)[ق: 45]، فاعرض عنهم وقل سلام،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال: "يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم" إلى آخره، فيكون الخطاب في {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} لكل أحد، ويقويه ما روينا من حديث عقبة بن عامر: "لما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، قال: اجعلوها في سجودكم.
والوجه الأول، وهو ن يختص الخطاب برسول الله? ، أظهر وأوفق لتأليف النظم، لما ذكر أن نبي الله? ، كان يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل عليه السلام، فقيل له: لا تعجل، وسبح باسم ربك الأعلى الذي له تلك القدرة الكاملة من الخلق والتسوية وكيت وكيت، وله ذلك العلم الشامل من الإحاطة بالسر وأخفى. ثم عقب الأمر بقوله بالتسبيح ما كان مهتماً بشأنه من الخلق من قوله:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى} ، {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} ، جزاءً لالتجائه إلى القادر على كل مقدور والعالم بكل معلوم، ووسط أحد الوصفين، أعني العلم، بين المعطوفين، لكونه أقرب من الآخر إلى المقصود، وإليه الإشارة بقوله:"والله يعلم جهرك معه، وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر"، ثم أتبع ذلك ما هو مبعوث به ومرسل إلى الخلق لأجله من قوله:"فذكِّر".
قوله: ({فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]، فأعرض عنهم وقل: سلام)، أي: أعرض عن هؤلاء الذين كررت التذكير معهم، وألزمت الحجة عليهم، وذكر لمن ينفع التذكير
(فَذَكِّرْ إن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى) وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير. والثاني: أن يكون ظاهره شرطاً، ومعناه ذما للمذكرين، وإخباراً عن حالهم، واستبعاداً لتأثير الذكرى فيهم، وتسجيلاً عليهم بالطبع على قلوبهم، كما تقول للواعظ: عظ المكاسين إن سمعوا منك. قاصداً بهذا الشرط استبعاد ذلك، وأنه لن يكون،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معهم ممن يخاف وعيد الله، فيطابقه قوله:{وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].
وقلت: النظم يساعد قول الواحدي ومحيي السنة، قالا:"عِظْ يا محمد أهل مكة إن نفع التذكير أو لم ينفع، لأنه صلوات الله عليه بُعث مبلغاً للإنذار، فعليه التذكير في كل حال نفع أو لم ينفع، تأكيداً للحجة واكتساباً للمثوبة، ولم يذكر الحالة الثانية كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]، ليوافق قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 10 - 12] ".
قوله: {فَذَكِّرْ} ، يعني: منك التذكير، ومنهم الإقبال والقبول أو الاجتناب والإباء، وللأولين الفلاح والنجاح، وللآخرين الصَّلْي بالنار الكبرى. "واعلم أن الناس في أمر المعاد على ثلاثة أقسام: منهم من قطع بصحته، ومنهم من جوز وجوده، ولكنه غير قاطع فيه لا بالنفي ولا بالإثبات، ومنهم من أصر على إنكاره. والقسمان الأولان ينتفعون بالتذكير بخلاف الثالث، ولذلك قال:{سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} . ولما كان الانتفاع بالذكرى مبنياً على حصول الخشية في القلب، وصفات القلوب مما لا اطلاع لأحد عليها، وجب على الرسول تعميم الدعوة تحصيلاً للمقصود، لأن المقصود تذكير من ينتفع بالتذكير، ولا سبيل إليه إلا بتعميم التذكير"، هذا تلخيص كلام الإمام.
قوله: (المكاسين)، أي: العشارين، الجوهري:"المكاس: العشار، والمكس: ما يأخذه العشار".
(سَيَذَّكَّرُ) فيقبل التذكرة وينتفع بها، (مَن يَخْشَى) الله وسوء العاقبة، فينظر ويفكر حتى يقوده النظر إلى إتباع الحق: فأما هؤلاء فغير خاشين ولا ناظرين، فلا تأمل أن يقبلوا منك (ويَتَجَنَّبُهَا) ويتجنب الذكرى ويتحاماها، (الأَشْقَى) الكافر؛ لأنه أشقى من الفاسق. أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. (النَّارَ الكُبْرَى) السفلى من أطباق النار، وقيل:(الكُبْرَى) نار جهنم. والصغرى: نار الدنيا. وقيل: (ثُمَّ) لأن الترجح بين الحياة والموت أفظع من الصلي، فهو متراخ عنه في مراتب الشدة؛ والمعنى: لا يموت فيستريح، ولا يحيى حياة تنفعه.
[(قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى • وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى • بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا • والآخِرَةُ خَيْرٌ وأَبْقَى) 14 - 17]
(تَزَكَّى) تطهر من الشرك والمعاصي، أو تطهر للصلاة، أو تكثر من التقوى، من الزكاء وهو النماء. أو تفعل من الزكاة، كتصدق من الصدقة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن الترجح)، الترجح: التردد، الأساس:"ترجحح في القول: تميل فيه"، قال الزجاج:"لا يموت موتاً يستريح به من العذاب، ولا يحيى حياة يجد معها روح الحياة".
قوله: ({تَزَكَّى}: تطهر من الشرك والمعاصي)، قال الإمام:"هذا التفسير متعين، لأن مراتب أعمال المكلف ثلاث: أولها: إزالة العقائد الفاسدة عن القلب، وإليه الإشارة بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى}. وثانيها: استحضار معرفة الله وصفاته وأسمائه، وهو المراد من قوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِي}. وثالثها: الاشتغال بخدمة الله عز وجل، وإليه الإشارة بقوله: {فَصَلَّى}، لأن من تخلى عن الرذائل وتحلى بالفضائل، لا بد أن يظهر في جوارحه نور ذلك بالخضوع والخشوع".
قوله: (أو تكثر من التقوى: من الزكاء)، قال الزجاج:"ومعنى {تَزَكَّى}: تكثر من تقوى الله، ومعنى الزاكي: النامي الكثير".
(فَصَلَّى) أي: الصلوات الخمس، نحو قوله:(وأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ)[البقرة: 177]، وعن ابن مسعود: رحم الله امرأ تصدق وصلى. وعن علي رضي الله عنه أنه التصدق بصدقة الفطر وقال: لا أبالي أن لا أجد في كتابي غيرها، لقوله:(قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى) أي: أعطى زكاة الفطر، فتوجه إلى المصلى، فصلى صلاة العيد، وذكر اسم ربه فكبر تكبيرة الافتتاح. وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة، لأن الصلاة معطوفة عليها، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل. وعن ابن عباس رضي الله عنه: ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (نحو قوله: {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177])، قال الإمام:"وفيه إشكال، لأن عادة الله تقديم الصلاة على الزكاة، والأولى: تزكى من الشرك والمعاصى ثم صلى، أو تطهر للصلاة ثم صلى".
قوله: (أي: أعطى زكاة الفطر، فتوجه إلى المصلى)، قال الإمام:"وفيه إشكال لأن السورة مكية بالإجماع، ولم يكن حينئذ عيد ولا فطر". وفي "البسيط": "لا يمتنع أن يقال: إن الله تعالى أخبر عما سيكون".
قوله: (وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح، وعلى أنها ليست من الصلاة، لأن الصلاة معطوفة عليها)، قال الإمام:"إن الآية دلت على مدح من ذكر اسم الله فصلى عقيبه، وليس فيها أنها تكبيرة الإحرام، ولعل المراد: ذكر الله بقلبه وذكر ثوابه وعقابه، فدعاه ذلك إلى فعل الصلاة".
وعن الضحاك: وذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد (بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا) فلا تفعلون ما تفلحون به. وقرئ: (يؤثرون) على الغيبة. ويعضد الأولى قراءة ابن مسعود: بل أنتم تؤثرون. (خَيْرٌ وأَبْقَى) أفضل في نفسها وأنعم وأدوم. وعن عمر رضي الله عنه: ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب.
[(إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى • صُحُفِ إبْرَاهِيمَ ومُوسَى) 18 - 19]
(هَذَا) إشارة إلى قوله: (قَدْ أَفْلَحَ) إلى (وأَبْقَى) يعني أن معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وقيل: إلى ما في السورة كلها. وروي: عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم أنزل الله من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة كتب، منها على آدم: عشر صحف، وعلى شيث: خمسون صحيفة، وعلى أخنوخ وهو إدريس: ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم: عشر صحائف والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان. وقيل: إن في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه، عارفاً بزمانه، مقبلاً على شأنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ("يؤثرون" على الغيبة)، أبو عمرو: بالياء التحتانية، والباقون: بالتاء. وعلى الغيبة الضمير لأهل مكة، أُمر رسول الله? بالتذكير نفع أم لم ينفع، ثم أضرب عنه بقوله:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ، ولذلك لا ينجع فيهم الترغيب والترهيب.
وعلى الخطاب عام لكل أحد، والمضروب عنه {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} ، أي: أنتم، يا بني آدم، تؤثرون الحياة الدنيا، لأنه من جبلتكم كما قال:{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (وَتَذَرُونَ الْأخِرَةَ} [القيامة: 20 - 21]، فلا تفعلون ما تفلحون به.
قوله: (إلا كنفجة أرنب)، النهاية:"وفي الحديث: "ما الأُولى عند الآخرة إلا كنَفْجة أرنب"، أي: كوثبته من مجثمه، يريد تقليل مدتها".
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الأعلى، أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد» .
وكان إذا قرأها قال: سبحان ربي الأعلى، وكان علي وابن عباس يقولان ذلك، وكان يحبها وقال: أول من قال (سبحان ربي الأعلى): مكيائيل عليه السلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وكان يحبها)، أي: الرسول? .
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة الغاشية
مكية، وهي ست وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ • وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ • عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ • تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً • تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ • لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إلاَّ مِن ضَرِيعٍ • لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي مِن جُوعٍ) 1 - 7]
(الغَاشِيَةِ) الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها. يعني القيامة، من قوله:(يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العَذَابُ)[العنكبوت: 55]، وقيل: النار، من قوله:(وتَغْشَى وجُوهَهُمُ النَّارُ)[إبراهيم: 50]، (ومِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف: 41]، (يَوْمَئِذٍ) يوم إذ غشيت، (خَاشِعَةٌ) ذليلة. (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ) تعمل في النار عملاً تتعب فيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الغاشية
مكية، وهي ست وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (تعمل في النار عملاً)، ذكر في قوله:{عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} وجوهاً ثلاثةً: الأول مبني على أن العمل والتعب كلاهما في الآخرة، والثاني أن العمل في الدنيا والنصب في الآخرة، والثالث أن العمل والنصب كلاهما في الآخرة. وفي أن يكون العمل والنصب في لدنيا إشكال، لأن {خَاشِعَةٌ (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} أخبار لـ {وُجُوهٌ} ، وقد قُيدت بقوله {يَوْمَئِذٍ} ؛
وهو جرها السلاسل والأغلال، وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل، وارتقاؤها دائبة في صعود من نار، وهبوطها في حدور منها. وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها وتنعمت، فهي في نصب منها في الآخرة، وقيل: عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة. من قوله: (وقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ)[الفرقان: 23]. (وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[الكهف: 104]، (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) [آل عمران: 22] وقيل: هم أصحاب الصوامع، ومعناه: أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب، والتهجد الواصب. وقرئ:(عاملة ناصبة) على الشتم. قرئ: (تَصْلَى) بفتح التاء. و (تصلى) بضمها. وتصلى بالتشديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالوجه أن يُجعلا خبرين لمبتدأ محذوف، حكاية عن الحال الماضية كقوله تعالى:{وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف: 18]، كأنه تعالى يخبر عن أحوالهم في القيامة على سبيل الحكاية عن الحال الماضية.
قوله: (دائبة)، الجوهري:"دأب في عمله، أي: جد وتعب، دأباً ودؤوباً فهو دائب، والدائبان: الليل والنهار".
قوله: (وهبوطها)، عطف على "ارتقاؤها"، و"في صعود" خبره. كما أن "في حدود منها" خبر "هبوطها"، و "دائبة" حال من الضمير في الجار والمجرور. والجملتان مُبينتان لتشبيه العامل بخوض الإبل في الوحل.
قوله: (الواصب)، الجوهري:"وصب الشيء يصب وصوباً: إذا دام"، أي: ما نفعها هذه الأفعال لأنها لم تكن مع الإيمان.
قوله: (وقرئ: {تَصْلَى}، بفتح التاء)، أبو عمرو وأبو بكر: بضم التاء، والباقون: بفتحها، وبالتشديد: شاذ.
وقيل: المصلى عند العرب: أن يحفروا حفيراً فيجمعوا فيه جمراً كثيراً، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه، فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور، فلا يسمى مصلياً. (آنِيَةٍ) متناهية في الحر، كقوله:(وبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ)[الرحمن: 33]. الضريع: يبيس الشبرق، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً، فإذا يبس تحامته الإبل وهو سم قاتل، قال أبو ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى
…
وعاد ضريعاً بأن عنه النّحائص
وقال:
وحبسن في هزم الضريع فكلها
…
حدباء دامية اليدين حرود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: المصلى عند العرب أن يحفروا حفيراً)، قيل على هذا: معنى الآية معنى قوله تعالى: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41]، {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55]، {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16].
قوله: (رعى الشِّبرق) البيت، إذا ذوى: أي ذبل. النحوص: الأتان الحائل.
قوله: (وحبسن)، البيت، الهزم: ما يبس وتكسر من الضريع. وناقة حدباء: إذا بدا عظم وركها، والحرود: قليلة اللبن؛ يصف نوقاً حُبسن في مرعى سوء غير ناجع، وهزلن، وكلهن داميات الأيدي من وضعها على الضريع ذي الشوك، عُصبن من سوء الحال، أو قليلة اللبن.
فإن قلت: كيف قيل (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إلاَّ مِن ضَرِيعٍ) وفي الحاقة (ولا طَعَامٌ إلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ)[الحاقة: 36] قلت: العذاب ألوان، والمعذبون طبقات؛ فمنهم. أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع:(لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ). (لا يُسْمِنُ) مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام، أو ضريع، يعني: أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس، وإنما هو شوك، والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به. وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه. ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه: وهما إماطة الجوع، وإفادة القوّة والسمن في البدن. أو أريد: أن لا طعام لهم أصلاً: لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس؛ لأن الطعام ما أشبع أو أسمن، وهو منهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان ظل إلا الشمس، تريد: نفي الظل على التوكيد. وقيل: قالت كفار قريش: إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت (لا يُسْمِنُ) فلا يخلو: إما أن يتكذبوا ويتعنتوا بذلك وهو الظاهر، فيرد قولهم بنفي السمن والشبع، وإما أن يصدقوا فيكون المعنى: أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم، إنما هو من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع.
[(وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ • لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ • فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ • لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً • فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ • فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ • وأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ • ونَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ • وزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) 8 - 16]
(نَّاعِمَةٌ) ذات بهجة وحسن، كقوله:(تَعْرِفُ فِي وجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)[المطففين: 24] أو متنعمة. (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) رضيت بعملها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب. (عَالِيَةٍ) من علو المكان أو المقدار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فلا يخلو إما أن يتكذبوا ويتعنتوا بذلك) إلى آخره، الانتصاف:"فعلى الأول يكون صفة لازمة شارحة لحقيقة الضريع، وعلى الثاني صفة مخصصة".
(لا تَسْمَعُ) يا مخاطب، أو الوجوه، (لاغِيَةً) أي: لغواً، أو كلمة ذات لغو، أو نفساً تلغو، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({لَّا تَسْمَعُ} يا مخاطب)، أي: هو من الخطاب العام، كقوله:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
قوله: (أو كلمة ذات لغو)، قيل: يريد أن لغواً يجوز أن يكون مصدراً أو صفةً، فإن كان صفةً؛ فإما صفة "كلمة"، أي: كلمة ذات لغو، وإما صفة "نفس" وهو ظاهر، قال صاحب "الكشف":"لاغيةً: لغواً، كالعافية والعاقبة".
قوله: (لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة)، قال الإمام: وهو قول الزجاج، وقال القفال:"أهل الجنة منزهون عن اللغو لأنها منزل جيران الله، وهكذا كل مجلس في الدنيا شريف مكرم يكون مبرءاً عن اللغو". وقلت: ومن ثم وصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، مجلس رسول الله? بقوله:"لا تُثني فلتاته"، أي: لا فلتات ولا إنثاء.
وقرئ: (لا تسمع) على البناء للمفعول بالتاء والياء. (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ) يريد عيوناً في غاية الكثرة، كقوله:(عَلِمَتْ نَفْسٌ)[التكوير: 14]، (مَّرْفُوعَةٌ) من رفعة المقدار أو السمك، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوله ربه من الملك والنعيم. وقيل: مخبوءة لهم، من رفع الشيء إذا خبأه. .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "لا تُسمع" على البناء للمفعول)، ابن كثير وأبو عمرو: بالياء التحتانية. و "لاغية" بالرفع، ونافع: كذلك إلا بالتاء. والباقون: بالتاء المفتوحة، و {لَاغِيَةً} بالنصب.
قوله: (يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14])، قال في قوله:{عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14]: "هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه". وقلت: هذا التعكيس يجيء: تارة على التهكم نحو قوله: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحجر: 2]، وأخرى على التلميح كمان نحن بصدده، وقول الشاعر:
قد أترك القرن مُصفراً أنامله
وقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144].
(مَّوْضُوعَةٌ) كلما أرادوها وجدوها موضوعة بين أيديهم عتيدة حاضرة، لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها. أو موضوعة على حافات العيون معدة للشرب. ويجوز أن يراد: موضوعة عن حد الكبار، أوساط بين الصغر والكبر، كقوله:(قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا)[الإنسان: 16](مَصْفُوفَةٌ) بعضها إلى جنب بعض، مساند ومطارح، أينما أراد أن يجلس على مسورة واستند إلى أخرى. (وزَرَابِيُّ) وبسط عراض فاخرة. وقيل: هي الطنافس التي لها خمل رقيق. جمع زربية، (مَبْثُوثَةٌ) مبسوطة أو مفرقة في المجالس.
[(أَفَلا يَنظُرُونَ إلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ • وإلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ • وإلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ • وإلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ • فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ • لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ • إلاَّ مَن تَوَلَّى وكَفَرَ • فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ • إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ • ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) 17 - 26]
(أَفَلا يَنظُرُونَ إلَى الإبِلِ) نظر اعتبار، (كَيْفَ خُلِقَتْ) خلقاً عجيباً، دالاً على تقدير مقدر، شاهداً بتدبير مدبر، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرها إلى البلاد الشاحطة فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر، ثم تنهض بما حملت، وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمّتها: لا تعاز ضعيفاً ولا تمانع صغيراً،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (جلس على مسورة)، جزاءٌ للشرط، أي: النمارق بعضها مساند وبعضها مطارح، أي: مفارش، أينما أراد أن يجلس جلس على وسادة مثل الفراش، وأُسند إلى وسادة لأن النمارق الوسائد مطلقاً، قال الواحدي:"نمارق: وسائد، على قول الجميع، واحدها نُمرقة بضم النون، وعن الفراء: نِمْرقة، بكسر النون".
قوله: (على مسورة)، الأساس:"جلس على المسورة وجلسوا على المساور، وهي الوسائد".
وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار. وعن بعض الحكماء، أنه حدث عن البعير وبديع خلقه، وقد نشأ في بلاد لا إبل بها، ففكر ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق، وحين أراد بها أن تكون سفائن البر صبرها على احتمال العطش؛ حتى إن أظماءها لترتفع إلى العشر فصاعداً، وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا يرعاه سائر البهائم. وعن سعيد بن جبير قال: لقيت شريحاً القاضي فقلت: أين تريد؟ قال: أريد الكناسة: قلت: وما تصنع بها؟ قال: أنظر إلى الإبل كيف خلقت.
فإن قلت: كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (برأها)، أي: خلقها. الجوهري: "برأ الله الخلق برءاً، والبرية: الخلق". قال المصنف: "البارئ: هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت".
قوله: (لتنوء بالأثقال)، الجوهري:"ناء بالحمل: إذا نهض به مثقلاً، وناء به الحمل إذا أثقله". يعني: الحكمة في خلق طول أعناقها، اقتدارها على النهوض بالأحمال الثقيلة؛ فإن الأعناق وعليها الرؤوس مع تلك الأثقال، كالقرسطون تجعل فيه القناطير، ويجعل في أقصاه مقدار يسير، فيوازي ذلك الثقيل باستعانة الطول فيه.
قوله: (لترتفع إلى العشر)، الجوهري: "العشر بالكسر: ما بين الوردين، وهو ثمانية أيام، لأنها ترد اليوم العاشر. وكذلك الأظماء كلها بالكسر. وليس لها بعد العشر اسم إلا في العشرين، فإذا وردت يوم العشرين قيل: ظمؤها عِشْران، وهو ثمانية عشر يوماً. فإذا جاوزت العشرين فليس لها تسمية، فإنما حوازي بالحاء والزاي. حوز الإبل: ساقها إلى الماء.
قوله: (الكناسة)، الجوهري:"هي القمامة، وهي اسم موضع في الكوفة".
قلت: قد انتظم هذه الأشياء نظر العرب في أوديتهم وبواديهم؛ فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم، ولم يدع من زعم أن الإبل السحاب إلى قوله إلا طلب المناسبة، ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين، وغير ذلك، وإنما رأى السحاب مشبهاً بالإبل كثيراً في أشعارهم، فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز. (كَيْفَ رُفِعَتْ) رفعاً بعيد المدى بالإمساك وبغير عمد. (كَيْفَ نُصِبَتْ) نصباً ثابتاً، فهي راسخة لا تميل ولا تزول، (كَيْفَ سُطِحَتْ) سطحاً بتمهيد وتوطئة، فهي مهاد للمتقلب عليها. وقرأ علي بن أبى طالب رضي الله عنه: خلقت، ورفعت، ونصبت، وسطحت، على البناء للفاعل وتاء الضمير، والتقدير: فعلتها، فحذف المفعول. وعن هرون الرشيد أنه قرأ:(سطحت) بالتشديد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إلا طلب المناسبة)، استثناء مفرغ، أي: لم يدعه شيء إلا طلب المناسبة.
قوله: (على طريق التشبيه والمجاز)، والمجاز عطف على طريق البيان، أي المجاز الذي يقع على طريق التشبيه، وهو الاستعارة، أي: استعار الإبل للسحاب بعد التشبيه به، والقرينة انضمامه مع السماء والجبال.
قوله: (بلا مساك)، الجوهري:"يقال فيه: إمساك ومساك ومساكة، أي: بُخل".
قوله: ("سُطِّحت" بالتشديد)، قال ابن جني:"وإنما جاز التضعيف بالتكرير، من قبل أن الأرض بسيطة فسيحة، فالعمل فيها مكرر على قدر سعتها، كقولك: قُطعت الشاة، لأنها أعضاء يختص بكل عضو منها عمل".
والمعنى: أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه. أي: لا ينظرون، فذكرهم ولا تلح عليهم، ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يذكرون، (إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ) كقوله:(إنْ عَلَيْكَ إلاَّ البَلاغُ)[الشورى: 48]. (لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ) بمتسلط،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث)، بيان لتوافق نظم الآيات بفاتحة السورة، وأن الخطاب بقوله:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} مع العرب، وأن هذه الأشياء المذكورة منتظمة على حسب عُرفهم، وما ثبت في متخيلاتهم في أوديتهم وبواديهم، نبهتهم أولاً بقوله {هَلْ أَتَاكَ} ، وفخم المستفهم منه وعظمه؛ إذ المعنى: تنبهوا لهذا الأمر الخطير والخطب الجسيم، وهُبوا من رقدة الغفلة، فخوفهم بالصلي في النار وبإطعام الضريع، ولما كان حديثاً مناسباً للإبل كما قال، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً، وأراد أن يقرر ذلك، أتى تنبيه آخر على سبيل النظر، ليضم شاهد العقل مع شاهد النص، وأسس الدلائل والشواهد على حسب ما ألفوه في بواديهم وأوديتهم، وعدل من الخطاب إلى الغيبة توبيخاً لهم وتنبيهاً على مظان الافتكار، فقال:{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} إلى آخره. قال الإمام: "لعل الحكمة في ذكر هذه الأشياء المتباينة على أن هذا الوجه من الاستدلال، غير مختص بنوع دون نوع، بل هو عام في الكل كقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِي} [الإسراء: 44]، ولو ذكر نوعاً أو نوعين وراعى بينهما المناسبة لم يكن كذلك، بل ذكر أموراً متباعدة جداً، ليؤذن بأن الأجرام العلوية والسفلية، عظيمها وحقيرها، صغيرها وكبيرها، متساوية في الدلالة على الصانع الحكيم. وهذا وجه حسن مقبول وعليه الاعتماد".
قوله: ({بِمُصَيْطِرٍ}: بمتسلط)، الجوهري: "المصيطر والمسيطر: المسلط على الشيء
كقوله: (ومَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)[ق: 45] وقيل: هو في لغة تميم مفتوح الطاء؛ على أن (سيطر) متعد عندهم وقولهم: تسيطر يدل عليه. (مَن تَوَلَّى) استثناء منقطع، أي: لست بمستول عليهم، ولكن من تولى (وكَفَرَ) منهم؛ فإن لله الولاية والقهر. فهو يعذبه (العَذَابَ الأَكْبَرَ) الذي هو عذاب جهنم. وقيل: هو استثناء من قوله: (فَذَكِّرْ) أي: فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى، فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض. وقرئ:(ألا من تولى) على التنبيه. وفي قراءة ابن مسعود: (فإنه يعذبه). ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليشرف عليه ويتعهد أحواله ويكتب عمله. وأصله من السطر، لأن الكتاب مُسطر، والذي يفعله مسطر ومسيطر، يقال: سيطرت علينا".
قوله: (وقولهم: تُسيطر)، قيل: لما جاء "تُسيطر" بمعنى: تسلط، دل على أن "مسيطر" متعد، كما قالوا: دحرج وتدحرج.
قوله: (وقيل: هو استثناء من قوله: {فَذَكِّرْ})، الكواشي:"هو استثناء متصل، أي: فذكر إلا من لا مطمع لك في إيمانه"، وقال القاضي:"الاستثناء متصل؛ فإن جهاد الكفار وقتلهم تسلط، وكأنه أوعدهم بالجهاد في الدنيا، وما بينهما اعتراض".
وقلت: كأنه قيل: لست عليهم بمسيطر، أي بمتسلط بالقتل والجهاد إلا من تولى وكفر. وقال القاضي:"وما يدل على ترجح الاستثناء المنقطع، قراءة من قرأ: ألا، على التنبيه".
قوله: (وقرئ: "ألا من تولى")، قال ابن جني:"قرأ ابن عباس وزيد بن أسلم وقتادة وزيد ابن علي: ألا، بالتخفيف، وهو افتتاح كلام، و"من" شرط وجوابه "فيعذبه الله"، كقولهم: من قام فيضربه زيد، أي: فهو يضربه زيد، أي: من يتول ويكفر به فهو يعذبه الله".
وقرأ أبو جعفر المدني (إيابهم) بالتشديد. ووجهه أن يكون (فيعالاً) مصدر (أيب) فيعل من الإياب. أو أن يكون أصله أواباً: فعالاً من أوب، ثم قيل: إيواباً كديوان في دوان، ثم فعل به ما فعل بأصل: سيد وميت.
فإن قلت: ما معنى تقديم الظرف؟
قلت: معناه التشديد في الوعيد، وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير. ومعنى الوجوب: الوجوب في الحكمة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة «الغاشية» ، حاسبه الله حساباً يسيراً».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما فعل بأصل سيد)، أي سيود، جعل الواو ياء لكسرة ما قبله وأدغم في الياء، كذا جعل الواو في إيواب ياء وأدغم، قال الزجاج:"أُدغمت الياء في الواو، وانقلبت الواو ياء لأنها سبقت بسكون".
قوله: (التشديد في الوعيد)، وذلك أنه تعالى علل قوله:{فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} بقوله {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} ، والتفت فيه من الغيبة إلى الحكاية، ومن الاسم الجامع إلى صيغة الكبرياء والجبروت، وقدم الظرفين على عامليهما، وإليه الإشارة بقوله:"ليس إلا إلى الجبار المقتدر".
الانتصاف: "وفي "ثم" الدلالة على أن الحساب أشد من الإياب، لأنه موجب العذاب وبدوه".
قوله: (ومعنى الوجوب الوجوب في الحكمة)، الانتصاف: "أخطأ على عادته في قاعدته،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا يجب على الله شيء".
وقال الإمام: "محاسبة الكفار إنما تكون لإيصال العقاب إليهم، وذلك حق على الله، ولا يجب على المالك أن يستوفي حق نفسه. ومعنى الوجوب: امتناع وقوع الخلف من الله تعالى بحكم الوعد".
تمت السورة
بحمد الله
*
…
*
…
*
سورة الفجر
مكية، وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَالْفَجْرِ • ولَيَالٍ عَشْرٍ • والشَّفْعِ والْوَتْرِ • واللَّيْلِ إذَا يَسْرِ • هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ) 1 - 5].
أقسم بالفجر كما أقسم بالصبح في قوله: (والصُّبْحِ إذَا أَسْفَرَ)[المدثر: 34]، (والصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ) [التكوير: 18]، وقيل: بصلاة الفجر. أراد بالليالي العشر: عشر ذى الحجة.
فإن قلت: فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟
قلت: لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي: العشر بعض منها. أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الفجر
مكية، وهي تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها)، يريد أن التنكير للتفخيم والتهويل، وعلى الأول للتقليل؛ فقوله:"بعض منها" بدل من "ليال" إلى آخره، فقسم الأزمان عشراً عشراً وجعله جنساً، وأراد بها بعضاً منها.
فإن قلت: فهلا عرفت بلام العهد، لأنها ليال معلومة معهودة؟
قلت: لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير؛ ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية. وبالشفع والوتر: إما الأشياء كلها شفعها ووترها، وإما شفع هذه الليالي ووترها. ويجوز أن يكون شفعها يوم النحر، ووترها يوم عرفة، لأنه تاسع أيامها وذاك عاشرها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسرهما بذلك. .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة)، يعني: لو عرفت الليالي احتجت لما يراد من اختصاصها بالفضيلة إلى مزيد انضمام قرينة خارجية بخلاف التنكير؛ فإن دلالته على الفضيلة بنفسه؛ لأنه موضوع له مستقل به؛ ولأنها لو عُرفت لم تتميز عن المذكورات فيما قصد منها وانخرطت في سلكها، ولو خصصت منها بشيء من غير تغيير، لدخل في حد اللغز، وهو المراد من قوله:"الأحسن أن تكون اللامات متجانسة ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية".
قوله: (وبالشفع)، معطوف على قوله:(بالليالي العشر).
قوله: (أنه فسرهما بذلك)، روينا عن الإمام أحمد بن حنبل، عن النبي? ، قال:"إن العشر هي عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر". وروى الإمام أحمد والترمذي، عن عمران بن حصين، أن رسول الله? سُئل عن الشفع والوتر، قال:"الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر".
وقلت: هذا هو التفسير الذي لا محيد عنه، وجملة القول ما قاله القاضي:"فلعله تعالى أفردهما بالذكر من أنواع المدلول، لما رآهما أظهر مدخلاً في الدين، أو مناسبة لما قبلهما، أو أكثر منفعة موجبة للشكر، أو أبين دلالة على التوحيد".
وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه، وذلك قليل الطائل، جدير بالتلهي عنه، وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم. (إذَا يَسْرِ) إذا يمضي؛ كقوله:(واللَّيْلِ إذْ أَدْبَرَ) بالمدثر: 33]، (واللَّيْلِ إذَا عَسْعَسَ) [التكوير: 17]. وقرئ: (والْوَتْرِ) بفتح الواو،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: "الشفع ضم الشيء إلى مثله، ويقال للمشفوع شفع، {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}: قيل: الشفع المخلوقات من حيث إنها مركبات، كما قال عز وجل: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49]، والوتر: هو الله تعالى من حيث إن له الوحدة من كل وجه، والشفاعة: الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى منه".
قوله: (قليل الطائل)، الأساس:"وما حليت بطائل: بفائدة، وهذا أمر غير طائل، للدون من الأمر".
قوله: (بالتلهي عنه)، الأساس:"لهيت عنه وتلهيت والتهيت: شُغلت وأعرضت".
قوله: (إذا يمضي، كقوله: {وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33]، {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17])، قال القاضي:"التقييد بذلك لما في التفاوت من قوة الدلالة على كمال القدرة، ووفور النعمة. أو يسري فيه: من قولهم: صلى المقام". وقلت: وخلاصة التقييد أنه تتميم لمعنى القدرة أو النعمة.
قوله: ({وَالْوَتْرِ} بفتح الواو)، حمزة والكسائي: بالكسر، والباقون: بفتحها. قال صاحب
وهما لغتان كالحبر والحبر في العدد، وفي الترة: الكسر وحده. وقرئ: (الوتر) بفتح الواو وكسر التاء: رواها يونس عن أبى عمرو، وقرئ:(والفجر)، و (الوتر)، و (يسر)؛ بالتنوين، وهو التنوين الذي يقع بدلاً من حرف الإطلاق. وعن ابن عباس: وليال عشر بالإضافة، يريد: وليال أيام عشر. وياء (يَسْرِ) تحذف في الدرج، اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة، وقيل: معنى (يَسْرِ) يسرى فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"المطلع": "هما لغتان في العدد، والفتح لغة أهل الحجاز. وأما الوتر بمعنى التِّرة، فبالكسر لا غير". النهاية: "التِّرة: النقص، وقيل: التبعة، والتاء فيه عوض من الواو المحذوفة، مثل: وعدته عِدة".
قوله: (اكتفاء عنها بالكسرة)، قال الزجاج:"حذف الياء أحب إليِّ من إثباتها، لأن القراءة بذلك أكثر، والفواصل تحذف معها الياءات، ويدل عليها الكسرات". وقال محيي السنة: "من أثبت الياء فلأنها لام الفعل، والفعل لا تُحذف منه في الوقف، نحو: هو يقضي، وأنا أقضي". وقال أبو علي: "إن الفواصل والقوافي من مظنة الوقف، والوقف موضع تغيير تُغير فيه الحروف الصحيحة بالتضعيف والإسكان والإشمام والرَّوم، فغير هذه الحروف المشابهة بالزيادة، أولى بالحذف".
قوله: (وقيل: معنى {يَسْرِ}: يُسرى فيه)، روى محيي السنة أن الأخفش سئل عن العلة
(هَلْ فِي ذَلِكَ) أي فيما أقسمت به من هذه الأشياء (قَسَمٌ) أي مقسم به، (لذي حجر) يريد: هل يحق عنده أن تعظم بالإقسام بها. أو: هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر، أي: هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه. والحجر: العقل؛ لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي، كما سمي عقلاً ونهية؛ لأنه يعقل وينهى. وحصاة: من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفراء: يقال: إنه لذو حجر، إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها؛ والمقسم عليه محذوف وهو (ليعذبن) يدل عليه قوله:(أَلَمْ تَرَ)[الفجر: 6]، إلى قوله:(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ)[الفجر: 13].
[(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ • إرَمَ ذَاتِ العِمَادِ • الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ • وثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ • وفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ • الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ • فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ • فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ • إنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) 6 - 14]
قيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد، كما يقال لبني هاشم: هاشم. ثم قيل للأوّلين منهم عاد الأولى وإرم، تسمية لهم باسم جدهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في سقوط الياء، قال: الليل لا يَسري، ولكن يُسرى فيه، فهو مصروف؛ فلما صرفه بخسه حظه من الإعراب، كقوله:{وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28]، ولم يقل: بغية؛ لأنه صرف من: باغية".
قوله: (أي: هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه)، في ذكر مثله أيضاً تعظيم، لأنه نحو قولك: مثلك يجود، والمعنى: قسم عظيم مُكف ومقنع في القسم، قال الإمام:"دل الاستفهام على التأكيد كمن ذكر حجة بالغة، ثم قال: هل فيما ذكرته حجة؟ والمعنى: من كان ذا لُب، علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء، فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية، فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه".
ولمن بعدهم: عاد الأخيرة. قال ابن الرقيات:
مجدا تليداً بناه أوله
…
أدرك عاداً وقبلها إرما
فإرم في قوله: (إرَمَ) عطف بيان لعاد، وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة. وقيل:(إرَمَ) بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها، ويدل عليه قراءة ابن الزبير (بعاد إرم) على الإضافة وتقديره: بعاد أهل إرم، كقوله:(واسْأَلِ القَرْيَةَ)[يوسف: 82]، ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث. وقرأ الحسن:(بعاد إرم)، مفتوحتين. وقرئ:(بعاد إرم) بسكون الراء على التخفيف، كما قرئ:(بورقكم). وقرئ: (بعاد إرم ذات العماد)، بإضافة إرم إلى ذات العماد. والإرم: العلم، يعني: بعاد أهل أعلام ذات العماد. و (ذَاتِ العِمَادِ) اسم المدينة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (مجداً تليداً) البيت، "أوله" مبتدأ، و"أدرك" الخبر؛ أي: حاز مجداً قديماً. والتالد والتلاد ما ورث الرجل من آبائه، بناه أوله، أي: أبوه أدرك عاداً، أي: أدرك المجد عاداً، أراد قدم مجده.
قوله: ("أرم"، بسكون الراء)، الأَرْم: لغة في الأَرَم بمعنى العلم، فمن قرأ بسكون الراء، فهو تخفيف أَرم بكسر الراء، والإيرم أيضاً علم.
قوله: (أهل أعلام ذات العماد)، قال الإمام:"قيل: ذات العماد، لأنهم كانوا أهل البناء الرفيع، وكانوا يعالجون الأعمدة فينصبونها، ويبنون فوقها القصور، قال تعالى في وصفهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً} [الشعراء: 128]، أي: علامةً وبناءً رفيعاً".
الراغب: "الإرَم: علم يبني من الحجارة، وجمعه آرام، وقيل للحجارة: أُرَّم، ومنه قيل للمتغيظ: يحرق الأُرَّم. وقوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} ، إشارة إلى أعلامها المرفوعة المزخرفة،
وقرئ: (بعاد إرم ذات العماد) أي جعل الله ذات العماد رميماً بدلاً من فعل ربك؛ وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة، فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد، أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة، ومنه قولهم: رجل معمد وعمدان: إذا كان طويلاً. وقيل: ذات البناء الرفيع، وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى: أنها ذات أساطين. وروي أنه كان لعاد ابنان: شداد وشديد؛ فملكا وقهرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد، فملك الدنيا ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة فقال أبنى مثلها، فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاث مئة سنة، وكان عمره تسع مئة سنة، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة؛ ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته؛ فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه مما ثم، وبلغ خبره معاوية فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له؛ ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل. (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا) مثل عاد، (فِي البِلادِ) عظم أجرام وقوّة، كان طول الرجل منهم أربع مئة ذراع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وما بها أَرِم وأريم، أي: أحد. وأصله اللازم للازم، وخص به النفي كقولهم: ما بها ديار، وأصله للمقيم في الدار".
قوله: (بعاد أرم ذات العماد)، المشهورة: بتنوين "عادٍ"، وفتح الميم في {إِرَمَ} ، والبواقي: شواذ.
وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحي فيهلكهم، أو لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا. وقرأ ابن الزبير:(لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا)، أي: لم يخلق الله مثلها. (جَابُوا الصَّخْرَ) قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتاً، كقوله:(وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا)[الشعراء: 149] قيل: أول من نحت الجبال والصخور والرخام: ثمود، وبنوا ألفاً وسبع مئة مدينة كلها من الحجارة. قيل له: ذو الأوتاد، لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا، أو لتعذيبه بالأوتاد، كما فعل بماشطة بنته وبآسية. (الَّذِينَ طَغَوْا) أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على: هم الذين طغوا، أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون يقال: صب عليه السوط وغشاه وقنعه، وذكر السوط: إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومضاربهم التي كانوا يضربونها)، المغرب:"وضرب الخيمة، وهو المضرب للقُبة؛ بفتح الميم وكسر الراء، ومنه: كانت مضارب رسول الله في الحل ومُصلاه في الحرم".
قوله: (ضبَّ عليه السوط وغشاه وقنعه)، نقل الإمام عن القاضي:"شبه عذابه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه". وقال الواحدي: "وأجاد الزجاج في تفسير هذه الآية، فقال: جعل سوطه الذي ضربهم العذاب".
الأساس: "ومن المجاز: قنعت رأسه بالعصا وبالسوط".
وعن عمرو بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن عند الله أسواطاً كثيرة، فأخذهم بسوط منها. المرصاد: المكان الذي يترتب فيه الرصد، مفعال من: رصده، كالميقات من: وقته. وهذا مثل لإرصاده. العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه. وعن بعض العرب أنه قيل له: أين ربك؟ فقال: بالمرصاد. وعن عمرو بن عبيد رحمه الله أنه قرأ هذه السورة عند بعض الظلمة حتى بلغ هذه الآية فقال: إن ربك لبالمرصاد يا فلان، عرض له في هذا النداء بأنه بعض من توعد بذلك من الجبابرة، فلله دره أي أسد فراس كان بين ثوبيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (المرصاد: المكان الذي ترقب فيه)، الراغب:"الرصد: الاستعداد للترقب، يقال: رصد له، وترصد وأرصدته له، قال تعالى: {وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 107] ".
قوله: (وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه)، يعني أن قوله:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} استعارة تمثيلية؛ شبه حالة كونه تعالى حفيظاً لأعمال العباد، ومترقباً لها ومجازياً عليها على النقير والقطمير، ولا محيد للعباد عن أن لا يكون مصيرهم إلا إليه، بحالة من قعد على طريق السائلة يترصد، ولا غناء لهم عن عبور البهائم، ثم استعمل هنا ما كان مستعملاً هناك. وروى الواحدي عن الكلبي أنه قال:"لا يفوته شيء من أعمال العباد، كما لا يفوت من بالمرصاد شيءٌ".
قوله: (أي أسد فراس كان بين ثوبيه)، فيه مبالغات ولها مراتب؛ ففي الدرجة الرابعة: هو أسد، على ما تقرر في مراتب التشبيه. ثم فيه أسد على التجريد، كقولك: رأيت فيك أسداً. ثم أسد بين ثوبيه على الكناية، كما تقول: المجد بين ثوبيه. ثم أي أسد على التفخيم
يدق الظلمة بإنكاره، ويقصع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه.
[(فَأَمَّا الإنسَانُ إذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ • وأَمَّا إذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) 15 - 16]
فإن قلت: بم اتصل قوله: (فَأَمَّا الإنسَانُ)؟
قلت: بقوله: (رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) كأنه قيل: إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي؛ فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والتعظيم. ثم وصفه بفراس وفيه مبالغتان: البناء ومعنى التتميم، لأنه كالترشيح للتشبيه. ثم إقحام "كان" للدلالة على أن هذا الوصف لازم، كالخلقي لقوله:{وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]. وعمرو هذا كان معتزلياً، طعن فيه مسلم في "صحيحه"، وقد ذكرنا نبذاً من أخباره في سورة الكهف.
قوله: (ويقصع)، "قصعت الرجل قصعاً: صغرته وحقرته، وقصعت هامته إذا ضربتها بُبسط كفك".
قوله: (كأنه قيل: إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة)، الانتصاف:"هذا من فاسد الاعتقاد، ويُغير بأن يقال: لا يطلب ولا يأمر عباده إلا بالطاعة". وقلت: خلاصة الجواب أن الفاء في {فَأَمَّا الْإِنسَانُ} ، رابطة بين الكلامين، ومؤذنة بالبون بين الأمرين المتنافين، وذلك أنه تعالى يطلب من العباد الطاعة والعبادة، وهو بالمرصاد كالمترقب الذي لا يفوته شيء من أعمال عباده، فيحاسبهم على النقير والقطمير ويجازيهم عليها، والإنسان غافل مولع بالتلهي، ومنغمس في أمور العاجلة، إن أصابه نصيب من الدنيا اطمأن إليه، وإن جاوزه حظ منها ضجر وقنط.
فإن قلت: فكيف توازن قوله، (فَأَمَّا الإنسَانُ إذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) وقوله:(وأَمَّا إذَا مَا ابْتَلاهُ)، وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد أما وأما، تقول: أما الإنسان فكفور، وأما الملك فشكور. أما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك؛ وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك؟
قلت: هما متوازنان من حيث إنّ التقدير: وأما هو إذا ما ابتلاه ربه؛ وذلك أن قوله: (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) خبر المبتدأ الذي هو الإنسان، ودخول الفاء لما في (أما) من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء، فوجب أن يكون (فَيَقُولُ) الثاني خبراً لمبتدأ واجب تقديره.
فإن قلت: كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فكيف توازن قوله {فَأَمَّا الْإِنسَانُ})، تقرير السؤال أن "أما" كلمة تفصيل، ولا يجيء إلا متعدداً، ومن شرط مدخولها التوازن بين الفقرتين، والتقابل بينهما؛ فإن كان بعد الأولى اسماً، فالواجب بعد الثانية الاسم نحو قولك: أما الكافر فكفور، وأما المؤمن فشكور. وإن كان شرطاً فشرطاً نحو قولك: أما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك، وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك. وأما الاسم بعد الأولى والشرط بعد الثانية، فلا توازن بينهما كما في الآية. وأجاب أن الموازنة حاصلة، لأن "أما" التفصيلية تقتضي أن يكون مدخولها مبتدأ وخبره مقيد بالفاء. و"إذا" هاهنا ليست بشرط، بل هي ظرف، و {فَيَقُولُ} خبر المبتدأ، ودخول الفاء لتضمن "أمّا" معنى الشرط، وعلى هذا قوله:{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ} ، فينبغي أن يقدر مبتدأ وهو ضمير "الإنسان"، وإليه الإشارة بقوله:"فوجب أن يكون {فَيَقُولُ} الثاني خبراً لمبتدأ واجب تقديره".
قلت: لأن كل واحد منهما اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر؟ وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع؟ فالحكمة فيهما واحد، ونحوه قوله تعالى:(ونَبْلُوكُم بِالشَّرِّ والْخَيْرِ فِتْنَةً)[الأنبياء: 35].
فإن قلت: هلا قال: فأهانه وقدر عليه رزقه، كما قال فأكرمه ونعمه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هلا قال: فأهانه وقدر عليه رزقه)، يعني: وجه التوافق بين القرينتين أن يقال: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه، فيقول: ربي أكرمني. وأما إذا ما ابتلاه ربه فأهانه وقدر عليه رزقه، فيقول: ربي أهانني. فلم ترك مردوف {قُدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} ، وهو "فأهانه"؟
وخلاصة الجواب: أن سعة الرزق، إن عُد إكراماً، لكن تضييقه ليس بإهانة. وقلت: الأمر عند العارفين والمحققين بالعكس، قال الزجاج:"هذا يعني به الكافر، تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة حظوظ الدنيا وقلته. وصفة المؤمن أن الإكرام عنده توفيق الله إلى ما يؤديه إلى حظ الآخرة". فإذن: التقدير ما ذكره محيي السنة: "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه بالنعمة، فأكرمه بالمال ووسع عليه، فيقول: ربي أكرمني بما أعطاني. وأما إذا ما ابتلاه بالفقر، فقدر عليه رزقه، أي: أعطاه ما يكفيه أو ضيق عليه، فيقول: ربي أذلني بالفقر". ويعضده ما رويناه عن سيد الخلق أنه قال: "عَرض عليَّ ربي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا رب، أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك". أخرجه الترمذي عن أبي أمامة.
قال حجة الإسلام: "بلغنا أنهم كانوا إذا سُلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا، وقالوا: ما لنا والدنيا؟ وما يراد بنا؟ فكأنهم كانوا على جناح خوف. وإذا سُلك بهم سبيل
قلت: لأن البسط إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلا من غير سابقة، وأما التقدير فليس بإهانة له؛ لأن الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة، ولكن تركا للكرامة، وقد يكون المولى مكرما لعبده ومهيناً له، وغير مكرم ولا مهين؛ وإذا أهدى لك زيد هدية قلت: أكرمني بالهدية، ولا تقول: أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد لك.
فإن قلت: فقد قال: (فَأَكْرَمَهُ) فصحح إكرامه وأثبته، ثم أنكر قوله:(رَبِّي أَكْرَمَنِ) وذمه عليه، كما أنكر قوله:(أَهَانَنِ) وذمّه عليه.
قلت: فيه جوابان، أحدهما: أنه إنما أنكر قوله ربى أكرمن وذمّه عليه؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البلاء فرحوا واستبشروا وقالوا: الآن يتعاهدنا ربنا". ويؤيد هذا التأويل كلمة الردع في قوله: {كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} .
قال محيي السنة: "رد الله على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة. المعنى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال والسعة، لأنه تعالى يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقدر على المؤمن لا لهوانه، وإنما يكرم المرء بطاعته، ويهينه بمعصيته" ثم أضرب إلى ذم ما أورثهم غناهم وسعتهم من محبة المال والتمتع بألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة ومنع الحقوق عن المستحقين بقوله: {كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} ، أي: دع ذلك القول وانظر إلى هذا الفعل. الانتصاف: "في تخصيصه البسط أنه إكرام من الله من غير سابقة، بناءً على أصله الفاسد؛ لأن كل نعمة من الله كذلك".
قوله: (فيه جوابان)، أما الجواب الأول فتلخيصه: أن انصباب قوله: {فَأَكْرَمَهُ} غير انصباب {رَبِّي أَكْرَمَنِ} ؛ لأن المعنى بقوله: {فَأَكْرَمَهُ} ، أن الله أعطاه ما أعطاه على
لأنه قال على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته، وهو قصده إلى أن الله أعطاه ما أعطاه إكراماً له مستحقاً مستوجباً على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم، كقوله:(إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)[القصص: 78]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجه التفضل ابتداءً، من غير أن يستوجبه بالتقوى بناءً على مذهبه. وبقوله "أكرمني"، أن الله أعطاني ما أعطاني لا على وجه التفضل باستحقاق نسبي وحسبي. والثاني أنهما متوافقان، وأن الثاني تقرير للأول، لكن المنكر قوله:{رَبِّي أَهَانَنِ} .
الانتصاف: "في الإضراب بقوله: {كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} إلى قوله: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}، إشعار بإبطال الجواب الثاني، لأنه ذهب إلى أن قوله "ربي أكرمني" غير مذموم، لأن معنى قوله {لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} الآية، أن للغني المكرن ببسط الرزق حالتين: إحداهما اعتقاده أن إكرام الله له عن استحقاق، والثانية، وهي أشد، وهو أن لا يعرف بها الإكرام أصلاً، فيكون جاحداً لا يؤدي حق الله فيها".
قوله: (مستحقاً ومستوجباً)، بكسر الحاء والجيم، ويروى بفتحهما. قيل: هو إما حال من مفعول "أعطاه"، أو من الضمير في "له" لأنه مفعول "إكراماً"، وقوله:"على عادة افتخارهم"، بدل من قوله:"على قصد خلاف ما صححه الله تعالى عليه"، أي: قاله على عادة افتخارهم. وقوله: "إنما أعطاه الله" حال من الضمير في "قاله". وقوله: "مما لا يعتد الله" بيان سابقة، أي: أعطاه الله على وجه التفضل من غير أن يسبق منه ما لا يدخل في الاعتداد من الكرامة إلا بذلك وهو التقوى. هذا المعنى مقتبس من قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، ولذلك قال:"دون الأنساب والأحساب"، أي: لم يسبق منه تقوى يستحق به المعطى مما أعطاه الله. وأما الأنساب والأحساب فلا مدخل له في الاستحقاق. الانتصاف: "القدرية أيضاً يرون أن التعظيم الأعظم في الآخرة حق مستحق".
وإنما أعطاه الله على وجه التفضل من غير استيجاب منه له ولا سابقة مما لا يعتدّ الله إلا به، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها. والثاني: أن ينساق الإنكار والذّمّ إلى قوله: (رَبِّي أَهانَنِ)، يعنى أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هوانا وليس بهوان، ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله (فَأَكْرَمَهُ). وقرئ:(فقدر) بالتخفيف والتشديد. وأكرمن، وأهانن: بسكون النون في الوقف، فيمن ترك الياء في الدرج مكتفيا منها بالكسرة.
[(كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَاكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) 17 - 20]
(كَلَّا) ردع للإنسان عن قوله. ثم قال: بل هناك شرّ من القول «3» . وهو: أنّ الله يكرمهم بكثرة المال، فلا يؤدّون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالتفقد والمبرّة، وحض أهله على طعام المسكين ويأكلونه أكل الأنعام، ويحبونه فيشحون به وقرئ: يكرمون، وما بعده بالياء والتاء .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله: {فَأَكْرَمَهُ})، يعني: أن الله تعالى أثبت له الإكرام؛ فقوله {أَكْرَمَنِ} تقرير لذلك، فلا يكون منكراً ولم تثبت له الإهانة، ولم يقل: فأهانه؛ فيكون قوله: {رَبِّي أَهَانَنِ} منكراً.
قوله: (وقرئ: {فَقَدَرَ}، بالتخفيف والتشديد)، ابن عامر: بالتشديد، والباقون: بالتخفيف.
قوله: ("يُكرمون" وما بعده بالياء والتاء)، أبو عمرو: بالياء التحتانية فيها، والباقون: بالتاء.
وقرئ: (تحاضون) أي: يحض بعضكم بعضًا: وفي قراءة ابن مسعود: (ولا تحاضون) بضم التاء، من المحاضة. (أَكْلًا لَمًّا) ذا لمّ وهو الجمع بين الحلال والحرام. قال الحطيئة:
إذا كان لمّا يتبع الذّمّ ربّه
…
فلا قدّس الرّحمن تلك الطّواحنا
يعنى: أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم من الميراث ونصيب غيرهم. وقيل كانوا لا يورّثون النساء ولا الصبيان، ويأكلون تراثهم مع تراثهم. وقيل: يأكلون ما جمعه الميت من الظلمة، وهو عالم بذلك فيلم في الأكل بين حلاله وحرامه. ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال سهلًا مهلًا، من غير أن يعرق فيه جبينه، فيسرف في إنفاقه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: {تَحَاضُّونَ})، بفتح التاء: الكوفيون، أي: تتحاضون، بحذف إحدى التاءين. والباقون: بغير ألف.
قوله: (إذا كان لماً) البيت، فلا قدس: فلا طهر، والطواحن من الأضراس التي تسمى الأرحاء، تقول إذا كان الأكل اللم، أي: كأكل الأنعام من غير تمييز بين الحلال والحرام: يتبع صاحبه ذم الناس، فلا طهر تلك الأسنان التي تطحن ذلك المأكول.
قوله: (من الظلمة)، قيل: أراد بها الميت الظالم، أي: الذي من الظلمة، وفي نسخة: المظلمة.
قوله: (مهلاً)، تابع لـ "سهلاً"، نصل حالاً، أي: حال الرفق والسهولة.
قوله: (فيسرف)، عطف على قوله:"ظفر"، أي: الذي ظفر بالمال فهو يسرف، كقولك: الذي جاءني فيسرع.
ويأكله أكلًا واسعًا جامعًا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه، كما يفعل الورّاث البطالون. (حُبًّا جَمًّا) كثيرًا شديدًا مع الحرص والشره ومنع الحقوق.
[(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ)] 21 - 26 [
(كَلَّا) ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم. ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرّطوا فيه حين لا تنفع الحسرة؛ ويومئذ بدل من (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ) وعامل النصب فيهما (يتذكر). (دَكًّا دَكًّا) دكًا بعد دك. كقوله: حسبته بابًا بابًا، أي: كرّر عليها الدك حتى عادت هباًء منبثًا. فإن قلت: ما معنى إسناد المجيء إلى الله، والحركة والانتقال إنما يجوزان على من كان في جهة؟
قلت: هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه: مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة، ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (دكاً بعد دك، كقوله: حسبته باباً باباً)، أي: التكرير للاستيعاب، قال ابن الحاجب:"يثبت له حسابه باباً باباً، أي مفصلاً. والعرب تكرر الشيء مرتين، فتستوعب تفصيل جميع جنسه باعتبار المعنى الذي دل عليه اللفظ المكرر، فإذا قلت: بينت له الكتاب باباً باباً، فمعناه: بينت له مفصلاً باعتبار أبوابه"، وإليه الإشارة بقوله:"حتى عادت هباءً منبثاً".
قوله: (عن بكرة أبيهم)، عن بعضهم: كان لزان عشرة بنين يُغيرون ويصيدون، فخرجوا يوماً فأناخوا في بعض المراعي، فهجم عليهم العدو فقتلهم وجعل رؤوسهم في
(صَفًّا صَفًّا) ينزل ملائكة كل سماٍء فيصطفون صفًا بعد صف محدقين بالجن والإنس. (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) كقوله: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ)] النازعات: 36 [وروى: أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه، فأخبروا عليًا رضي الله عنه، فجاء فاحتضنه من خلفه وقبله بين عاتقيه؛ ثم قال: يا نبيّ الله، بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم، وما الذي غيّرك؟ فتلا عليه الآية. فقال على: كيف يجاء بها؟ قال: يجيء بها سبعون ألف ملٍك يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردهً لو تركت لأحرقت أهل الجمع.
[(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسَانُ) أي: يتذكر ما فرّط فيه، أو يتعظ، (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) ومن أين له منفعة الذكرى، لا بد من تقدير حذف المضاف، وإلا فبين: يوم (يتذكر)، وبين (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) تناٍف وتناقض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مخلاة، فحملتها ناقة لزبان تدعى الدُّهيم، فجاءت إلى بيت زبان، فلما رأى المخلاة قال: أصاب بني بيض النعام، فضرب بيده فيها فأخرج رأساً منها، فقال: آخر البزِّ على القلوص، يعني: لا تُصيبون بزاً آخر، فذهب مثلاً. وقال الناس: جاؤوا على بكرة أبيهم، أي: ناقة أبيهم. الجوهري: "جاؤوا على بَكرة أبيهم: يضرب للجماعة إذا جاؤوا معاً، ولم يتخلف منهم أحد، وليس هناك بَكرة في الحقيقة".
قوله: (بأبي أنت وأمي)، النهاية:"الباء في "بأبي" متعلقة بمحذوف، قيل: هو اسم، فيكون ما بعده مرفوعاً تقديره: أنت مُفدى بأبي وأمي. وقيل: هو فعل وما بعده منصوب، أي: فديتك بأبي وأمي، وحذف هذا المقدر لكثرة الاستعمال وعلم المخاطب به".
قوله: (فبين [يوم] {يَتَذَكَّرُ} وبين {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} تنافٍ وتناقض)، لأنه تعالى
(قَدَّمْتُ لِحَياتِي) هذه، وهي حياة الآخرة، أو وقت حياتي في الدنيا، كقولك: جئته لعشر لياٍل خلون من رجب؛ وهذا أبين دليٍل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقًا بقصدهم وإرادتهم، وأنهم لم يكونوا محجوبين عن الطاعات مجبرين على المعاصي، كمذهب أهل الأهواء والبدع، وإلا فما معنى التحسر؟ قرئ بالفتح:(يعذب ويوثق)، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبى عمرو أنه رجع إليها في آخر عمره. والضمير للإنسان الموصوف. وقيل: هو أبىّ بن خلف أي: لا يعذب أحد مثل عذابه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أثبت له التذكير أولاً، ثم نفاه عنه آخراً في آنٍ واحد، نحو قوله:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال: 17]. قال الزجاج ورواه محيي السنة: "يومئذ يظهر الإنسان التوبة، ومن أين له التوبة؟ ".
قوله: (وهذا أبين دليل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم)، قال الإمام:"هذا التحسرر على فعلهم الذي كان مسنداً إليهم ظاهراً، وتحقيقه: ليت الله وفقني على فعل الطاعة".
قوله: (قرئ بالفتح: "يعذَّب" و"يوثَق")، الكسائي، والباقون: بكسرهما.
قوله: (والضمير للإنسان الموصوف)، قال أبو علي: "وضع العذاب موضع التعذيب في هذا القول، كما وضع العطاء موضع الإعطاء في قول القائل:
وبعد عطائك المئة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالمصدر الذي هو عذاب مضاف إلى المفعول به. والوثاق أيضاً في موضع الإيثاق". وقال ابن الحاجب في "الأمالي": "العامل في الظرف "يعذب"، وقد جاء ما بعد النفي عاملاً في الظرف في مواضع، والضمير في "عذابه" في قراءة الكسر للإنسان المتقدم ذكره، ولا يحسن أن يكون لله، لأن المعنى: لا يعذب يوم القيامة عذاب الله أحد، فلا يقوى المعنى لما سيق له، وهو تعظيم عذاب الله لهذا الإنسان أكثر من عذاب غيره".
وقلت: ويوافقه أيضاً معنى القراءة بالفتح ويساعده النظم؛ فإن المعنى: كل واحد من الزبانية يعذب أهل النار أنواعاً من الأعذبة، لكن لا يعذب أحد منهم أحداً عذاباً مثل عذاب هذا الإنسان، الذي طغى وتكبر وتجبر، وقابل إكرام الله إياه وإفضاله بالكفران، ومنع من إكرام اليتيم والحض على طعام المسكين، بل أكل نصيبه ونصيب الأيتام من الميراث أكلاً لماً كالأنعام، وأحب المال حباً جماً شديداً مع الشره والحرص، فكما جمع بين هذه الرذائل، يُجمع له بين ما لا نهاية له من التنكيل.
ويمكن أن يقال: إن المراد بالإنسان أُمية بن خلف وذووه لما قال، وقيل: هو أمية بن خلف، وكما قال: إن قوله {فَأَمَّا الْإِنسَانُ} ، متصل بقوله:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . وتحريره أنه تعالى لما بين ما فعل بأولئك الطغاة من قوم عاد وثمود وفرعون، حيث صب عليهم سوط عذاب، أتبعه قوله:{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} تخلصاً. أي: فعل بأولئك ما فعل، وهو ترصد هؤلاء الكفار الذين طغوا على أفضل البشر وسيد الرسل، وامتنعوا مما جاء به من المر بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، والنهي عن سَفسافها ورذائلها، فيصب عليهم في الدنيا سوط عذاب، ويعذبهم في الآخرة عذاباً فوق كل عذاب، وإليه لمح بقوله:"لتناهيه في كفره وعناده".
ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه؛ لتناهيه في كفره وعناده، أو لا يحمل عذاب الإنسان أحد، كقوله:(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)] الإسراء: 15 [. وقرئ: بالكسر، والضمير لله تعالى؛ أي: لا يتولى عذاب الله أحد؛ لأنّ الأمر لله وحده في ذلك اليوم، أو للإنسان؛ أي: لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه.
[(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي)] 27 - 30 [.
(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) على إرادة القول، أي: يقول الله للمؤمن: (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ) إمّا أن يكلمه إكرامًا له كما كلم موسى صلوات الله عليه، أو على لسان ملك. و (الْمُطْمَئِنَّةُ) الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، وهي النفس المؤمنة أو المطمئنة إلى الحق التي سكنها ثلج اليقين فلا يخالجها شك، ويشهد للتفسير الأوّل، قراءة أبىّ بن كعب:(يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثلج اليقين)، الأساس:"ومن المجاز: ثُلج فؤاده وثَلجت فؤاده بالخير، والحمد لله على بلج الحق وثلج اليقين". يريد: أن في قلق الشك واضطراب القلق سُخونة، وفي ضده برودة.
قوله: (ويشهد للتفسير الأول قراءة أُبي بن كعب)، وقلت: النظم أيضاً يساعد عليه، لأن في قوله {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} ، إشعاراً بأن النفس الأمارة بالسوء، تصير حينئذ لوامة، لقوله:{يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} ، قال:
وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل
فحكمه أن لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، وحكم النفس المطمئنة حينئذ
فإن قلت: متى يقال لها ذلك؟ قلت: إمّا عند الموت، وإمّا عند البعث، وإمّا عند دخول الجنة. على معنى: ارجعي إلى موعد ربك (راضِيَةً) بما أوتيت، (مَرْضِيَّةً) عند الله، (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) في جملة عبادي الصالحين، وانتظمي في سلكهم، (وَادْخُلِي جَنَّتِي) معهم، وقيل: النفس الروح. ومعناه: فادخلي في أجساد عبادي. وقرأ ابن عباس: (فادخلي في عبدي). وقرأ ابن مسعود: (في جسد عبدي). وقرأ أبى: (ائتي ربك راضيةً مرضيةً، ادخلي في عبدي) وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن يقال لها: ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي. والذي عليه ظاهر كلام الإمام إيثار المعنى الثاني لقوله تعالى:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، لأن النفس الزكية إذا أخذت في الترقي في سلسلة الأسباب والمسببات، لا تقف إلا عند مقطع الحاجات، ولا تطمئن إلا إليه.
قال ابن عطاء: "النفس المطمئنة هي العارفة بالله الذي لا تصبر عن الله طرفة عين"، وقال القاسم:"يا أيها الروح المتصلة بالحق، اطمأننت ورضيت بما قُضي لك وعليك، ارجعي إلى الذي زينك بهذه الزينة العظيمة، حتى يُصلحك للرجوع منه إليه".
قوله: ({فَادْخُلِي [فِي عِبَادِي]} في جملة عبادي الصالحين)، قال الإمام:"هذه حالة شريفة، لأن الأرواح القدسية تكون كالمرايا المصقولة، فإذا انضم بعضها إلى بعض تنعكس الأشعة، فيظهر في كل منها ما لكلها، فتكون سبباً لتكامل السعادات وتعاظم الدرجات، وذلك هو السعادة الروحانية". وقلت: ومن ثم جيء على وجه التتميم بالسعادة الجسمانية، وقيل: وادخلي جنتي.
وقيل: في خبيب بن عدى الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك، فحوّل الله وجهه نحوها، فلم يستطع أحد أن يحوّله، والظاهر العموم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "الفجر" في الليالي العشر غفر له، ومن قرأها في سائر الأيام، كانت له نورًا يوم القيامة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في خُبيب بن عدي)، في "جامع الأصول":"هو أنصاري أوسي شهد بدراً، وأُسر في غزوة الرجيع، فانطلقوا إلى مكة فاشتراه بنو الحارث بن نوفل، وكان قد قتل الحارث يوم بدر كافراً، فأقام عندهم أسيراً، ثم صلبوه في التنعيم". وروينا في صحيح البخاري عن أبي هريرة حديثاً طويلاً فيه.
تمت السورة
بعون الله وبحمده
*
…
*
…
*
سورة البلد
مكية، وهي عشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ)] 1 - 7 [
أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق مغمورًا في مكابدة المشاق والشدائد؛ واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) يعنى: ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم. عن شرحبيل: يحرّمون أن يقتلوا بها صيدًا ويعضدوا بها شجرةً، ويستحلون إخراجك وقتلك وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجيب من حالهم في عداوته، أو سلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالقسم ببلده،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة البلد
مكية، وهي عشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (أو سلي رسول الله? )، عطف على قوله:"أقسم سبحانه وتعالى بالبلد الحرام"، وفائدة القسم على الأول راجعة إلى تعظيم مُكابدة الإنسان المشاق والشدائد، ثم اعترض بين القسم والمقسوم عليه مكابدة النبي? ، توكيداً لتلك المكابدة ولإرادة ذلك التعظيم.
على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد؛ واعترض بأن وعده فتح مكة تتميمًا للتسلية والتنفيس عنه. فقال: وأنت حل بهذا البلد، يعنى: وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر. وذلك أنّ الله فتح عليه مكة وأحلها له، وما فتحت على أحٍد قبله ولا أحلت له فأحل ما شاء وحرّم ما شاء؛ قتل ابن خطٍل وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقبس بن صبابة وغيرهما، وحرّم دار أبى سفيان، ثم قال: "إنّ الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحل لأحٍد قبلي ولن تحل لأحٍد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعةً من نهار، فلا يعضد شجرها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فسر "وأنت حِلٌ" بقوله: "إن مثلك على عظم حُرمتك"، وجعله من باب: أنت تجود، وقد مر غير مرة أن "أنت"، إذا بُني عليه الخبر في مقام التعظيم، نظير "مثل" في: مثلك يجود. وفائدة الاعتراض إرادة التثبيت من الرسول? ، لجعل حاله مؤكدة للحكم العام الذي عليه جبلة جنس الإنسان، وتعجيب من حال كفار مكة حيث صلحت أن يستشهد بها لذلك. وعلى الثاني راجعة إلى تعظيم المقسم به، ثم إلى تعظيم الرسول? تسلية، ولذلك أتى بلفظة "هذا" دلالة على كمال التمييز كقوله:
هذا أبو الصقر فرداً من محاسنه
ولا شك أن ترك استحلال البلد تعظيم شأنه، ثم أكد تلك الحُرمة بقوله:{وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} ، أي: أنت على الخصوص تستحله دون غيرك لجلالة شأنك، كما جاء:"لم تَحِلَّ لأحد قبلي ولا لأحد بعدي"؛ و"أنت" على هذا من باب التقديم للاختصاص، نحو: أنا عرفت، ولذلك كانت المعترضة تتميماً للتسلية، قال الواحدي:"إن الله تعالى لما ذكر القسم بمكة، دل ذلك على عظم قدرها مع كونها حراماً، فوعد نبيه? أن يحلها له يقاتل فيها، وأن يفتحها على يده ويكون بها حِلاً".
قوله: (فلا يعضد شجرها)، النهاية: "يعضد: يقطع، يقال: عضدت الشجر أعضده
ولا يختلى خلاها، ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا؛ فقال صلى الله عليه وسلم:«إلا الإذخر» .
فإن قلت: أين نظير قوله: (وَأَنْتَ حِلٌّ) في معنى الاستقبال؟
قلت: قوله عز وجل: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)] الزمر: 30 [ومثله واسع في كلام العباد، تقول لمن تعده الإكرام والحباء: أنت مكرم محبو، وهو في كلام الله أوسع؛ لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة. وكفاك دليلًا قاطعًا على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال: أن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة عن وقت نزولها، فما بال الفتح؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عضداً. والخلا مقصور: النبات الرقيق ما دام رطباً، واختلاؤه: قطعه، وأخلت الأرض: كثر خلاها، فإذا يبس فهو حشيش. القين: الحداد".
قوله: (إلا لمنشد)، المنشد: المعرف. عن بعضهم: تأويل الحديث على قول أبي حنيفة رضي الله عنه، تأكيد لئلا يُظن أن حكم لُقَطَة مكة بخلافه في سائر البلدان. وعلى قول الشافعي رضي الله عنه، تخصيص مكة بهذا الحكم، وهو أنه لا يجوز لأحد أخذ اللُّقَطَة إلا لمنشد، بخلاف سائر البلدان. القين: الحدّاد.
قوله: (عن وقت نزولها)، قيل: هو متعلق بقوله "أين" من حيث المعنى، لأنه استفهام إنكار عن مقاربة الهجرة وقت نزول الآية، فكأنه قيل: بعدت الهجرة عن وقت نزلوها بعداً، وإن كانت الهجرة بعيدة فكيف بالفتح؟ وإذا ثبت أن وقت نزول الآية بعيد عن الفتح، فلا يكون قوله {وَأَنتَ حِلٌّ} بمعنى الحال، ويجوز أن يكون حالاً مقدرة وإن كانت جملة، وقد مر في سورة هود عند قوله {بِسْمِ اللَّهِ مَجْراهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]، اعتراض وجواب.
فإن قلت: ما المراد بوالٍد وما ولد؟
قلت: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن ولده، أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه إبراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل، وبمن ولده وبه.
فإن قلت: لم نكر؟
قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب.
فإن قلت: هلا قيل ومن ولد؟
قلت: فيه ما في قوله: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ)] آل عمران: 36 [أي: بأي شيٍء وضعت، يعنى موضوعًا عجيب الشأن. وقيل: هما آدم وولده. وقيل: كل والٍد وولد.
والكبد: أصله من قولك: كبد الرجل كبدًا، فهو أكبد: إذا وجعت كبده وانتفخت، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعٍب ومشقة. ومنه اشتقت المكابدة، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه. وأصله: كبده، إذا أصاب كبده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هو مسقط رأسه)، الأساس:"ومن المجاز: هذا البلد مسقط رأسي، وفلان يحن إلى مسقطه"، قال:
خرجنا جميعاً من مساقط رؤسنا على ثقة منا بجود ابن عامر
قوله: (وبمن ولده وبه)، أي: بمن ولده، أي: بإسماعيل وبه، أي: بالرسول? .
قوله: (فيه ما في قوله {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36])، يعني: أوثر "ما" على "من" لإرادة الوصف، ليفيد في مقام المدح ما لا يكتنه كُنهه من التعظيم.
قال لبيد:
يا عين هلّا بكيت أربد إذ
…
قمنا وقام الخصوم في كبد
أي: في شدة الأمر وصعوبة الخطب. والضمير في (أَيَحْسَبُ) لبعض صناديد قريش الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد. والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوى في قومه المتضعف للمؤمنين: أن لن تقوم قيامة، ولن يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه، ثم ذكر ما يقوله في ذلك اليوم، أنه يقول:(أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً) يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم، ويدعونها معالي ومفاخر، (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس وافتخارًا بينهم، يعنى: أن الله كان يراه وكان عليه رقيبًا. ويجوز أن يكون الضمير للإنسان،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يا عين هلا بكيت) البيت، قبله:
ما إن تعري المنون من أحد لا والد مُشفق ولا ولد
يرثي لبيد أخاه أربد بن ربيعة، وهو الذي جاء النبي? مع عامر بن الطفيل، فدعا رسول الله? عليهما، فأربد أصابته صاعقة، وأصاب عامراً طاعونٌ، فقال: أغُدة كغُدة البعير، والموت في بيت سلولية؟ !
قوله: (هذا الصنديد)، النهاية:"كل عظيم غالب صنديد، والجمع: الصناديد، وهو عظماء القوم ورؤوسهم".
قوله: (ويجوز أن يكون الضمير للإنسان)، عطف على قوله:"والضمير في {أَيَحْسَبُ} لبعض صناديد قريش"، ولما دل اختلاف مرجع الضميرين على اختلاف المعنى، قال:"على أن يكون المعنى: أقسم بهذا البلد"، إلى آخره. فحصل من هذا الاختلاف إشكال، وهو أنه جًعل الضمير للصناديد، لم فرعه على المعنيين السابقين في أول السورة؟ وحين جُعل
على أن يكون المعنى: أقسم بهذا البلد الشريف، ومن شرفه أنك حل به مما يقترفه أهله من المآثم متحرٌج بريٌء، فهو حقيق بأن أعظمه بقسمي به (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي: في مرض، وهو مرض القلب وفساد الباطن، يريد: الذين علم الله منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات. وقيل: الذي يحسب أن لن يقدر عليه أحد هو أبو الأشد، وكان قويًا يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فلا ينزع إلا قطعًا ويبقى موضع قدميه. وقيل: الوليد بن المغيرة. (لُبَداً) قرى: بالضم والكسر: جمع لبدةٍ ولبدة، وهو ما تلبد يريد الكثرة: وقرئ: (لبدا) بضمتين: جمع لبود. ولبدا: بالتشديد جمع لا بد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضمير للإنسان لم كان المعنى ما ذكره وما وقع الاستفهام في {أَيَحْسَبُ} على التقديرين؟ ولم خص قوله: {وَأَنتَ حِلٌّ} على هذا بما خصه؟ ويمكن أن يقال: إن الكبد إذا فسر بالمشاق والشدائد رجع المعنى إلى مقاساة الرسول? من القوم المكابد؛ فحينئذ يكون {أَيَحْسَبُ} وراداً على توبيخ القوم، فيجب أن يكونوا أقواماً مخصوصين. وإذا فُسرت المكابدة بمرض القلب والعقائد الفاسدة، فالواجب أن يراد من جنس الإنسان الموصوف به. والمناسب على هذا أن يجعل {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} ، توكيداً لبراءة ساحته صلوات الله عليه من هذه المكابدة، ومما اقترفوه من المآثم وأمراض القلب، وكالتعليل لتعظيم المقسم به. ولذلك قال:"ومن شرفه أنك حِلٌ به مما يقترفه أهله من المآثم".
قوله: (من المآثم)، الأساس:"وتخرج من كذا: تأثَّم، ووقع في الحرج وهو ضيق المأثم"؛ فقوله: (حل به متحرج بريء)، أخبار مترادفة.
قوله: (وقيل: الذي يحسب)، مردود إلى قوله:"والضمير في "يحسب" لبعض صناديد قريش"، وتعيين للمُبهم.
قوله: (ولُبداً، بالتشديد، جمع لابِد)، قال ابن جني: "هي قراءة أبي جعفر، ويجوز أن
[(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ)] 8 - 16 [
(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) يبصر بهما المرئيات، (وَلِساناً) يترجم به عن ضمائره، (وَشَفَتَيْنِ) يطبقهما على فيه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك، (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي: طريقي الخير والشر. وقيل: الثديين. (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) يعنى: فلم يشكر تلك الأيادي والنعم بالأعمال الصالحة: من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكون بلفظ واحد، مثل: زُمل، وجباء. وبلفظ جمع نحو قائم وقوم، وصائم وصوم". الزمل بالزاي: الجبان الضعيف.
قوله: ({النَّجْدَيْنِ}: أي: طريقي الخير والشر)، قال الزجاج:" {النَّجْدَيْنِ}: الطريقين الواضحين، والنجد: المرتفع من الأرض. المعنى: ألم نبين له طريقي الخير والشر بياناً كبيان الطريقين العاليتين".
قوله: (وقيل: الثديين)، في "المطلع":"الثديين مما تُقسم به العرب، فتقول: أما ونجديها ما فعلت، تريد: وثديي الأم، لأنهما كالنجدين للبطن، وهو كالغور".
قوله: ({فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}، يعني: فلم يشكر تلك الأيادي والأنعام بمعاجلة الأعمال الصالحة)، قال محيي السنة:"ذِكر العقبة هاهنا مثل ضربه الله لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة"، وإليه الإشارة بقوله: "جعل الصالحة:
ثم بالإيمان الذي هو أصل كل طاعة، وأساس كل خير؛ بل غمط النعم وكفر بالمنعم. والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضى النافع عند الله، لا أن يهلك مالًا لبدًا في الرياء والفخار، فيكون مثله (كمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ)] آل عمران: 117 [الآية.
فإن قلت: قل ما تقع (لا) الداخلة على الماضي إلا مكررة، ونحو قوله:
فأي أمر سيّئ لأفعله
لا يكاد يقع، فما لها لم تكرر في الكلام الأفصح؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عقبة، وعملها: اقتحاماً لها"، قال صاحب "الفرائد": "هذا تنبيه على أن النفس لا توافق صاحبها في الإنفاق لوجه الله ألبتة، فلا بد من التكلف وحمل المشقة على النفس. والذي توافقه النفس هو الافتخار والمراءاة، فكأنه تعالى ذكر هذا المثل بإزاء ما قال:{أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا} ، والمراد بيان الإنفاق المفيد، وإن ذلك الإنفاق مُضر". وقلت: في التمثيل بالعقبة بعد ذكر النجدين ترشيح، ثم التقريع عليه بالاقتحام تربية لتلك المبالغة.
قوله: (قل ما تقع "لا" الداخلة على الماضي إلا مكررة)، الراغب: " (لا): يستعمل في العدم المحض، نحو: زيد لا عالم، وهو يدل على كونه جاهلاً، وذلك يكون للنفي. و (لا): ويستعمل في الأزمنة الثلاثة، ومع الاسم والفعل، غير أنه إذا نُفي به الماضي، فإما أن لا يؤتى بعده بالفعل، نحو أن يقال لك: هل خرجت؟ فتقول: لا، أي: لا خرجت. ولكن قل ما يذكر بعده الماضي، إلا إذا فُصل بينهما بشيء نحو: لا رجل ضربت ولا امرأة، أو يكون عطفاً نحو: ما خرجت ولا ركبت، أو عند تكرير نحو:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31]، وعند الدعاء نحو: لا كان ولا أفلح، ونحو ذلك. ومما نُفي به المستقبل قوله تعالى:{لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3]، وقد حُمل على ذلك قوله تعالى:{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 1]. وقوله: {وَمَا
قلت: هي متكررة في المعنى؛ لأن معنى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) فلا فك رقبةً، ولا أطعم مسكينًا. ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك. وقال الزجاج قوله:(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يدل على معنى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)، ولا آمن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ} [النساء: 75]، يصح أن يكون في موضع الحال، أي: ما لكم غير مقاتلين. وقد يكرر {لَا} في المتضادين ويراد إثبات الأمر فيهما جميعاً، نحو: زيد ليس بمقيم ولا ظاعن، أي: يكون تارة كذا وتارة كذا. وقد يقال ذلك ويراد إثبات حالة بينهما، نحو أن يقال: ليس بأبيض ولا أسود، وقوله تعالى:{لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35]، فقد قيل: معناه: إنها شرقية وغربية، وقيل: معناه: مصونة عن الإفراط والتفريط".
قوله: (ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك)، يريد أن المفسِّر والمفسَّر واحد؛ فإن قوله:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} منفي عن تلك العقبة، لأن المعرَّف باللام إذا أعيد معرفاً كان الثاني عين الأول، فتكون الجملة معترضة مُقحمة لبيان العقبة، مقررة لبيان معنى الإبهام والتفسير؛ فإن {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} مفسر بقوله {فَكُّ رَقَبَةٍ (أَوْ إِطْعَامٌ} ، والمفسَّر منفي، والمفسِّر كذلك لاتحادهما في الاعتبار، كأنه قيل: غلا فك رقبة، ولا أطعم مسكيناً.
قوله: (وقال الزجاج: قوله {ثُمَّ كَانَ})، هذا وجه آخر، وصورة كلامه أنه قال:"قلما يتكلم العرب في مثل هذا المكان إلا بـ (لا) مرتين أو أكثر، فلا تقول: لا جئتني، تريد: ما جئتني. وإن قلت: لا جئتني ولا زُرتني صلح. وهذا التكرير هاهنا موجود، لأن قوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} يدل عليه، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن". وقلت: فعلى هذا يكون من اللف التقديري، لأن الضمير في {كَانَ} للمذكور، ولا يمكن الإيمان داخلاً
والاقتحام: الدخول والمجاوزة بشدةٍ ومشقةٍ. والقحمة: الشدة، وجعل الصالحة: عقبةً، وعملها: اقتحامًا لها، لما في ذلك من معاناة المشقة ومجاهدة النفس. وعن الحسن: عقبة والله شديدة، مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان. وفك الرقبة: تخليصها من رق أو غيره. وفي الحديث: أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنة. فقال: تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال: أو ليسا سواء؟ قال: لا، إعتاقها أن تنفرد بعتقها. وفكها: أن تعين في تخليصها من قود أو غرم، والعتق والصدقة من أفاضل الأعمال. وعن أبى حنيفة رضي الله عنه: أن العتق أفضل من الصدقة، وعند صاحبيه الصدقة أفضل، والآية أدل على قول أبى حنيفة لتقديم العتق على الصدقة. وعن الشعبي في رجٍل عنده فضل نفقة: أيضعه في ذي قرابة، أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فك رقبةً فك الله بكل عضٍو منها عضوًا منه من النار"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحت مفهوم العقبة المعبرة عن الأعمال الصالحة، وعلى الأول داخل تحتها جزء منها، لكنه أشرفها. ونُقل عن أبي على الفاري أنه رد قول الزجاج، وقال:"إذا كانت "لا" بمعنى "لم"، كان التكرير غير واجب، وإن تكررت في موضع نحو {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى}، فهو كتكرير {وَلَمْ} نحو: {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] ".
قوله: (وفي الحديث أن رجلاً قال)، الحديث رواه محيي السنة في "شرح السنة"، عن البراء بن عازب.
قوله: (من فك رقبة)، الحديث من رواية البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، قال النبي? :"من أعتق رقبة مسلمة، أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار، حتى فرجه بفرجه".
قرئ: (فك رقبةٍ أو إطعام) على: هي فك رقبة، أو إطعام. وقرئ:(فك رقبة) أو أطعم، على الإبدال من اقتحم العقبة. وقوله:(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) اعتراض، ومعناه: أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله. والمسغبة، والمقربة، والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب في النسب، يقال: فلان ذو قرابتي، وذو مقربتي. وترب: إذا افتقر، ومعناه: التصق بالتراب. وأما أترب فاستغنى، أي: صار ذا ماٍل كالتراب في الكثرة، كما قيل: أثرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقُرئ: "فك رقبة")، ابن كثير وأبو عمرو والكسائي:"فك"، بفتح الكاف، "رقبة": بالنصب، "أو أطعم": بفتح الهمزة وحذف الألف. والباقون: برفع الكاف والخفض وكسر الهمزة وألف بعد العين.
قال أبو البقاء: " {مَا الْعَقَبَةُ}: ما اقتحام العقبة؟ لأنه فسره بقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ}؛ وهو فعل، سواء كان بلفظ الفعل، أو بلفظ المصدر. والعقبة: عين، فلا يفَّر بالفعل، فمن قرأ: "فك
…
أو أطعم"، فسر المصدر بالجملة الفعلية لدلالتها عليه. ومن قرأ {فَكُّ رَقَبَةٍ (أَوْ إِطْعَامٌ}، كان التقدير: هو فك رقبة، والمصدر مضاف إلى المفعول، و {إِطْعَامٌ} غير مضاف إلى المفعول، ولا ضمير فيها، لأن المصدر لا يتحمل الضمير. وذهب بعض البصريين إلى أن المصدر إذا عمل في المفعول، كان فيه ضمير كالضمير في اسم الفاعل. و {يَتِيمًا}: مفعول (إطعام) ". والمصنف أيضاً أشار إلى هذا حيث قال: "لأن معنى {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً".
قوله: (يقال: فلان ذو قرابتي، وذو مقربتي)، قال الزجاج: "وزيد قرابتي قبيح، لأن
وعن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ذا مَتْرَبَةٍ) الذي مأواه المزابل، ووصف اليوم بذي مسغبةٍ نحو ما يقول النحويون في قولهم: هم ناصب: ذو نصب. وقرأ الحسن: (ذا مسغبة) نصبه بإطعام. ومعناه: أو إطعام في يوٍم من الأيام ذا مسغبة.
[(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ)] 17 - 20 [
(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) جاء بـ (ثم) لتراخى الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت؛ لأنّ الإيمان هو السابق المقدّم على غيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القرابة مصدر"، قال:
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور
قوله: (ووصف اليوم بذي مسغبة)، أي: على النسبة، قيل: معناه أنه ثابت له وحاصل. روى الإمام عن الحسن أنه قال: "يوم يُحرص فيه [على] الإطعام، وقال أبو علي: معناه ما قالوا في قولهم: ليله نائم ونهاره صائم، أي: ذو نوم، وذو صوم".
قوله: (جاء بـ {ثُمَّ} لتراخي الإيمان وتباعده في الرُتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت)، ويجوز أن تُجرى على حقيقتها، قال صاحب "الكشف": "يجوز أن يكون
ولا يثبت عمل صالح إلا به. والمرحمة: الرحمة، أي: أوصى بعضهم بعضًا بالصبر على الإيمان والثبات عليه. أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن، وبأن يكونوا متراحمين متعاطفين، أو بما يؤدى إلى رحمة الله. الميمنة والمشأمة: اليمين والشمال، أو اليمن والشؤم، أي: الميامين على أنفسهم والمشائيم عليهنّ. قرئ: (موصدة) بالواو والهمزة، من: وصدت الباب وآصدته: إذا أطبقته وأغلقته. وعن أبى بكر بن عياش: لنا إمام يهمز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لترتيب خبر على خبر، كقوله:{خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]، قال الإمام في وجه: إن من أتى بهذه القرية تقرباً إلى الله تعالى، قبل إيمانه بمحمد صلوات الله عليه، ثم آمن به يُثاب عليه".
وقلت: على هذا، "كان" بمعنى "صار"، ويؤيده ما روينا عن البخاري عن حكيم بن حزام، أنه قال:"يا رسول الله، أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية، من صلة وعتاقة وصدقة، هل لي فيها أجر؟ قال حكيم: قال رسول? : أسلمت على ما سلف من خير".
قوله: (أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه)، قال الإمام:"هذا يدل على أنه يجب على المؤمن، أن يدل الناس على طريق الحق، ويمنعهم من سلوك طريق الباطل؛ وأن الأصل في التصوف أمران: صدق مع الحق، وخُلق مع الخلق".
وقلت: وفيه تحريض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(مؤصدة)؛ فأشتهي أن أسدّ أذني إذا سمعته.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ لا أقسم بهذا البلد" أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({مُّؤْصَدَةٌ})، حمزة وحفص وأبو عمرو: بالهمزة، وحمزة إذا وقف أبدلها واواً. والباقون: بغير همز. في "الكواشي": "من همز جعل من: آصدت الباب: أطبقته. ومن لم يهمز جعل مخفف: آصدت، أبدل الهمزة واواً للضمن قبلها، أو من أوصدت بمعنى آصدت؛ ففاء الفعل واو، فلا يُهمز اسم المفعول، إذ لا أصل له في الهمزة".
تمت السورة
بعون الله
*
…
*
…
*
سورة الشمس
مكية، وهي خمس عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)] 1 - 10 [
ضحاها: ضوءها إذا أشرقت وقام سلطانها؛ ولذلك قيل: وقت الضحى، وكأن وجهه شمس الضحى. وقيل: الضحوة ارتفاع النهار،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الشمس
مكية، وهي خمس عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (ضُحاها: ضوؤها إذا أشرقت)، في: المطلع": "عن مجاهد والكلبي: وضحاها: ضوؤها إذا أشرقت وارتفعت، والإشراق بعد الشروق، لأن الشروق الطلوع، ثم الضحوة، ولذلك قيل: كأن وجهه شمس الضحى".
قوله: (ولذلك)، أي: ولأجل أن المراد بضحاها ضوؤها وإشراقها، أضيف الوقت إليه، فقيل: وقت الضحى، كما يقال: وقت الإشراق.
والضحى فوق ذلك. والضحاء بالفتح والمد: إذا امتد النهار وقرب أن ينتصف، (إِذا تَلاها) طالعًا عند غروبها آخذًا من نورها؛ وذلك في النصف الأوّل من الشهر. وقيل: إذا استدار فتلاها في الضياء والنور. (إِذا جَلَّاها) عند انتفاخ النهار وانبساطه، لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء. وقيل: الضمير للظلمة، أو للدنيا، أو للأرض، وإن لم يجر لها ذكر، كقولهم: أصبحت باردة؛ يريدون الغداة، وأرسلت: يريدون السماء. إذا يغشاها، فتغيب وتظلم الآفاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (آخذاً من نورها؛ وذلك في النصف الأول من الشهر)، قال الفراء:"إن القمر يأخذ الضوء من الشمس، يقال: فلا يتبع فلاناً في كذا، أي: يأخذ منه". وفي "الوسيط": {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} : تبعها؛ يقال: تلا يتلو تُلواً، إذا تبع. قال المفسرون: وذلك في النصف الأول من الشهر، إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور. وقال الإمام:"تلاها في الضياء، أي صار كالقائم مقام الشمس في الإنارة، وذلك في الليالي البيض".
الراغب: "تلاه: تبعه متابعة ليس بينهما ما ليس منهما، وذلك تارة يكون بالجسم وترة بالاقتداء في الحكم، ومصدره تِلو وتُلو. وتارة بالقراءة وتدبر المعنى ومصدره تلاوة، قال تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا}؛ فإنما يراد به هاهنا الاقتداء والمرتبة، وذلك أنه فيما يقال: إن القمر يقتبس النور من الشمس، وهو لها بمنزلة الخليفة".
قوله: (عند انتفاخ النهار)، الأساس:"ومن المجاز: انتفخ النهار: علا".
قوله: (إذا يغشاها، فتغيب وتظلم الآفاق)، قال الإمام: "يغشى الليل فيُزيل ضوءها، وذلك يقوي القول: إن الضمير في {جَلَّاهَا} للشمس، لتتفق الفواصل، وليطابق بين قوله
فإن قلت: الأمر في نصب (إذا) معضل: لأنك لا تخلو إما أن تجعل الواوات عاطفةً فتنصب بها وتجر، فتقع في العطف على عاملين في نحو قولك: مررت أمس بزيد، واليوم عمرو. وإما أن تجعلهن للقسم، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه.
قلت: الجواب فيه أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل إطراحًا كليًا، فكان لها شأن خلاف شأن الباء، حيث أبرز معها الفعل وأضمر، فكانت الواو قائمةً مقام الفعل والباء سادّةً مسدهما معًا، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو، فحققن أن يكون عوامل على الفعل والجار جميعًا، كما تقول: ضرب زيد عمرًا، وبكر خالدًا؛ فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملهما. .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} ، وبين قوله:{وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} ، فلما حسن جعل الليل يغشى الشمس، يحسن أن النهار يجليها. وقال القفال: وهذه الأقسام الأربعة دائرة مع الشمس بحسب أوصافها".
قوله: (مررت أمس بزيد)، أمس: منصوب بـ "مررت"، وزيد: مجرور بالباء؛ فإذا قلت: واليوم عمرو، فقد نصبت اليوم، وجررت عمراً بالواو، وقد جعلت هذه الواو نائبة عن "مررت" وعن الباء. ولا يجوز جعل الضعيف نائباً عن قويين.
قوله: (على استكراهه)، قال صاحب "المطلع":"يعني أن الخليل وسيبويه استقرءا كلام العرب، فعلما أن لا بد لكل قسم من مُقسَم عليه، لأنه هو المطلوب بالقسم؛ فلو زعمت أن الكل قَسم، فقد جئت بأقسام كثيرة ليس لكل واحد مقسم عليه على حدة. وقد سبق القول فيه في فواتح البقرة مشبعاً".
قوله: (أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل)، وعن بعضهم: الأصل: أقسمت بالله؛ فهاهنا تصير الواو نائباً عن الفعل المضمر في "إذا"، ونائباً عن الباء في "الليل"، وإنما لم يجز إظهار الفعل مع الواو، لأن الباء تلصق كل شيء، والواو لا تلصق إلا فعل القسم، فطلباً
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاختصاص أُضمر الفعل معها، لأن الواو فرع عن الباء. وقال ابن الحاجب:"يلزم من مجيء الواو حذف الفعل، كأنهم جعلوها عوضاً من الباء والفعل معاً، ومن ثم أجيب: لما استدل على جواز العطف على عاملين بقوله: {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1 - 2]، بأن واو القسم جرت مجرى الباء والفعل معاً، فصح إعمالها بالاعتبارين، وكانت كأنها عامل واحد، أي: عامل واحد له معمولان، نحو: ضرب زيداً عمراً وبكراً خالداً، ولا خلاف في جواز ذلك".
وقال صاحب "اللُّباب": "ما ذكره صاحب "الكشاف" لطيف، ولكن يرد عليه مثل قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 15 - 18]، حيث صرح العاملين وليس هناك شيء ناب عنهما وعمل علمهما، والأحسن عندي أن "إذا" هاهنا قد انسلخ للظرفية، ويكون منصوب المحل بدلاً من الليل، كأنه قيل: والليل وقت غشيانه، قال:
وبعد غد يا لهف من غدٍ إذا راح أصحابي ولست برائح
حيث أبدل "إذا" من "غد"، أو على حذف مضاف نحو: وغشيان الليل إذا يغشى، و"إذا" ظرف لهذا المضاف، ولا يحسن إعمال فعل القسم فيه إذ القسم مطلق وليس بمقيد بوقت من الأوقات، لصحة الكلام واستقامته في النهار".
وقال صاحب "الانتصاف": "أجاز ابن الحاجب العطف على عاملين، وجعل هذه الآية حجته في مخالفة سيبويه، ورد جواب الزمخشري في {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] بأنه لم يستمر في التكوير، وكان يستحسن من نفسه هذا الاستنباط. ويمكن أن يقال: إن الواو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في قوله: {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] واو القسم، وفي {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] عاطفة، فيطرد ما قال الزمخشري". فإن قيل: خالفتم سيبويه؛ فإنه لا يرى الواو المتعقبة للقسم ابتداء قسم، بل عاطفة، وقد جعلتم الواو الأولى المتعقبة لباء القسم، وهي في {بِالْخُنَّسِ} ، قسماً. قلنا: إنما تكلم سيبويه في واو تعقبت قسماً بالواو، فأما إذا جاءت الواو بعد الباء فلم يذكره؛ فإن الذي ذكره سيبويه فيه تكرار الواو في معنى واحد، وهو مُستكره بخلاف هذا، ألا ترى أنه لو صدر القسم بالواو ثم تلاه قسم بالباء، لتحتم كونهما قسمين. وأيضاً فكان المانع لسيبويه من جعل الواو الثانية قسماً مستقلاً، مجيء الجواب واحداً، واحتياج الواو الأولى إلى محذوف؛ فالعطف يغني عن تقدير محذوف، فلا يلزم اطراده في الباء التي هي أصل للقسم، لا سيما مع التصريح بفعل القسم وتأكيده بزيادة "لا"؛ ففي مجموع ذلك ما يغني عن إفراده بجواب، ولا كذلك الواو، فإنها ضعيفة المكنة في القسم بالنسبة إلى الباء، فلا يلزم من حذف جواب، ويصح الدلالة عليه حذف جواب دونه في الوضوح. فهنا نكثة خصت إيراد السؤال بالواو الثانية في قوله:{وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] دون الثالثة، لأنه لا يلزم منها العطف على عاملين؛ لأنا نجعلها نائبة عن الباء، ونجعل "إذا" فيها منصوبة بالفعل مباشرة، إذ لم يتقدم في جملة الفعل ظرف يُعطف عليه "إذا"، فهو كقولك: مررت بزيد وعمرو اليوم، فاليوم منصوب بالفعل مباشرة؛ فمرورك بزيد غير مطلق غير مقيد بظرف، فالمقيد به عمرو خاصة، فالظرف وإن عمل فيه الفعل مباشرة، فهو مقيد للقسم بالليل لا للقسم بالخُنَّس".
قال الدار الحديثي: "إن الواو في قوله: {وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 17 - 18]، وقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق: 16 - 18]، للقسم لا للعطف، وجواب أحد القسمين محذوف، وهو أسهل تحملاً من ارتكاب العطف على عاملين".
جعلت (ما) مصدريةً في قوله: (وَما بَناها)(وَما طَحاها)(وَما سَوَّاها)، وليس بالوجه لقوله:(فَأَلْهَمَها) وما يؤدى إليه من فساد النظم، والوجه أن تكون موصولة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (جعلت (ما) مصدرية في قوله {وَمَا بَنَاهَا} )، روى الواحدي عن عطاء:"والذي بناها، والكلبي: ومن بناها. وقال الفراء زالزجاج: (ما): بمعنى المصدر". الراغب: "تسوية الشيء: جعله سواء، إما في الرفعة أو الضعة. قوله تعالى {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} [الانفطار: 7]، أي: جعل خلقك على ما اقتضت الحكمة، وقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}، فإشارة إلى القوى التي جعلها مقومة للنفس، فنُسب الفعل إليها، لأن الفعل كما يصح أن ينسب إلى الفاعل، يصح أن ينسب إلى الآلة، نحو: سيف قاطع، وهذا أولى من قول من قال: أراد {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}، يعني: الله، لأن "ما" لا يعبر به عن الله، إذ هو موضوع للجنس، ولم يرد [به] سمع يصح".
قوله: (وما يؤدي إليه من فساد النظم)، وذلك أن ضمير الفاعل في قوله:{فَأَلْهَمَهَا} لله تعالى، والفاء فيه للترتيب؛ فلا يجوز: ونفس وتسويتها فألهمها الله، فلا بد من ذلك التقدير، فإذن يوجب النظم السري الموافقة بين سائر القرائن.
قال الإمام: "أورد القاضي عبد الجبار هذا القول وأبى إلا أن يكون مصدراً، لما يلزم من تقديم الأقسام بغير الله على أقسامه بنفسع عز وجل".
وأجاب الإمام عنه "بأن أعظم المحسوسات الشمس، فذكرها الله تعالى مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمها، ثم ذكر ذاته المقدسة ووصفها بصفات ثلاث، ليحظى العقل بإدراك جلال اللع وعظمته كما يليق به، والحس لا ينازعه، فكان ذلك طريقاً إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات، إلى بيداء أوج كبريائه".
وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية، كأنه قيل: والسماء، والقادر العظيم الذي بناها، ونفس، والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها، وفي كلامهم: سبحان ما سخركن لنا.
فإن قلت: لم نكرت النفس؟
قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يريد نفسًا خاصةً من بين النفوس وهي نفس آدم، كأنه قال: وواحدة من النفوس. والثاني: أن يريد كل نفٍس وينكر للتكثير على الطريقة المذكورة في قوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ)[التكوير: 14]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لإرادة معنى الوصفية)، لأن (ما) يستعمل في الصفات، إذا أردت أن تسأل عن صفو زيد، فقلت: ما زيد؟ والجواب عنه: فقيه أم طبيب. وإذا سألت عن ذاته فقل: من هو؟ والجواب عنه: إنه زيد.
قوله: (الباهر الحكمة الذي سواها)، قال الإمام:"تسويتها: تعديل أعضائها على ما يشهد به علم التشريح، وإعطائها القوة السامعة والباصرة والمخيلة والمفكرة والمذكرة، على ما يشهد به علم النفس". وبهذه الدقيقة خص المصنف تفسير "ما" في {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} بصفة الحكمة.
قوله: (سبحان ما سخركن لنا)، يخاطب النساء، وفي "سبحان" ما في معنى التعجب؛ يتعجب من كونهم مسخرات للرجال، قال الزجاج:"قيل: "ما" هاهنا بمعنى "من"، وحكي عن أهل الحجاز: سبحان ما سبحت له".
قوله: (وينكر للتكثير على الطريقة المذكورة)، وهي أنه من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه. ويجوز أن يكون التنكير فيه للتعظيم والتفخيم، قال الإمام: "يريد
ومعنى إلهام الفجور والتقوى: إفهامهما وإعقالهما، وأنّ أحدهما حسن والآخر قبيح، وتمكينه من اختيار ما شاء منهما بدليل قوله:(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) فجعله فاعل التزكية والتدسية ومتوليهما،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نفساً خاصةً من بين النفوس، وهي النفس القدسية النبوية، وذلك أن كل كثرة لا بد لها من وحدة تكون هي الرئيس؛ فالمركبات جنس تحته أنواع، ورئيسها الحيوان، والحيوان جنس تحته أنواع، ورئيسها الإنسان، والإنسان أصناف ورئيسهم النبي، والأنبياء كثيرون، ورئيسهم المصطفى صلوات الله عليه".
قوله: (بدليل قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا})، يريد أنه لما أسند التزكية والتدسية إلى ذي النفس، عُلم أنه متمكن من اختيار ما شاء من الفجور والتقوى، وعُلم أن المراد من إلهام الفجور والتقوى، إفهام الله لا خلقهما.
الانتصاف: "دس في كلامه نوعين من الباطل:
أحدهما: تفسير "ألهمها" بقوله: "أفهمها الفجور والتقوى، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح". وظن الحسن والقبيح مُدركين للأحكام، إلا أنا لا ننكر أن العقل يدرك الأحكام الشرعية، بل لا بد في كل حكم شرعي من مقدمة عقلية موصلة إلى العقيدة، وسمعية دالة على خصوص الحكم.
وثانيهما: وهي التي كشف القناع عنها، وهي أن التزكية والتدسية ليستا مخلوقتين لله تعالى، وذكر فيها مجرد دعوى مقرونة بسفاهة. فنقول: لا شك أن الضمير يمكن عوده إلى الله تعالى وإلى ذي النفس، لكن عوده إلى الله تعالى أولى لوجهين:
أحدهما: أن الجمل سيقت سياقة واحدة من قوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} ، وضمائرها
والتزكية: الإنماء والإعلاء بالتقوى، والتدسية: النقص والإخفاء بالفجور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلها تعود إلى الله تعالى بالاتفاق، ولم يجر لغير الله تعالى ذكر. ومن ادعى عود الضمير إلى ذي النفس، فإنما يتمحله من حيث المعنى، وعود الضمير إلى ما جرى نطقاً أولى.
والثاني: أن الفعل في الآية التي استشهد بها، وهي قوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، مطاوع "زكي"، فهذا أولى أن يدل لنا، وأن المعنى: قد أفلح من زكاه الله فتزكى، وعنده الفاعل في الآيتين واحد، وأضاف إليه الفعلين المختلفين، ويُحتاج في تصحيحه تعدد اعتبار ونحن عنه في غنى، ونحن لا ننكر أن تُضاف التزكية والتدسية إلى العبد لأنه فاعلهما، كما يضاف إليه طاعته ومعصيته؛ لأن له عندنا قدرة مقارنة، بل ننفي أن تكون قدرة العبد مؤثرة خالقة".
قوله: (والتزكية: الإنماء والإعلاء بالتقوى، والتدسية: النقص والإخفاء بالفجور)، راعى في التقدير معنى اللف والنشر مع الطباق المعنوي، ونبه به على التقابل المعنوي بين قوله:{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} ، وقوله:{وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} ، وأنهما متفرعان على قوله:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ، وقد لمح من القرينتين معنة قوله? :"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله". أخرجه الترمذي عن شداد بن أوس، لأن الكياسة تقتضي الفلاح، وأن يفوز صاحبها ببغيه، ومن أتبع نفسه هواها خاب وخسر: وإنما قلنا: إن قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} ، متفرع على قوله:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ، لأن الأفعال الاختيارية موقوفة على حصول داعية مخلوقة لله تعالى، فليجرب العاقل نفسه، فإنه ربما يكون ذاهلاً عن شيء، فتقع صورته في قلبه، وينبعث منه ميل، ويترتب على الميل حركة الأعضاء، فيصدر منه الفعل.
وأصل دسى: دسس، كما قيل في تقضض: تقضى. وسئل ابن عباٍس عنه فقال: أتقرأ: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)] الأعلى: 14 [(وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)] طه: 111 [.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الواحدي وصاحب "المطلع": "الإلهام أن يوقع في القلب التوفيق والخذلان؛ فإذا أوقع في قلب عبد شيئاً، فقد ألزمه ذلك الشيء"، روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود، عن عمران بن حصين، أن رجلين من مُزينة أتيا رسول الله? ، فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه، أشيء قُضي عليهم ومضى فيهم، من قدر قد سبق، أو فيما يُستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا بل شيء قُضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} .
قوله: (وسئل ابن عباس عنه)، أي: عن فاعل زكى ودسى. وأجاب: أن فاعل {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، وفاعل {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} ، وفاعل {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه: 111]، وفاعل {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} سواء، أي: الضمير المستتر في {زَكَّاهَا} ، عائد إلى "من"، والبارز إلى النفس، وكذا في {دَسَّاهَا} . ولما كان ظاهر هذا التأويل موافقاً لمذهبه، قال:"وأما قول من زعم أن الضمير في "زكى" و"دسَّي" لله، فمن تعكيس القدرية"، وهو كلام خارج عن جراءة عظيمة، لما روينا عن مسلم والنسائي، عن زيد بن أرقم، أن رسول الله? ، قال:"اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها".
وروى الواحدي عن ابن عباس أنه قال: "قد أفلحت نفس زكاها الله تعالى، وأصلحها وطهرها ووفقها للطاعة، وخابت وخسرت نفس أضلها الله وأغواها"، ونحو منه في "معالم التنزيل". وقد تقرر عند صاحب "الانتصاف"، أن النظم لا يساعد إلا هذا التأويل.
وأما قول من زعم أنّ الضمير في زكى ودسي لله تعالى، وأنّ تأنيث الراجع إلى من؛ لأنه في معنى النفس: فمن تعكيس القدرية الذين يورّكون على الله قدرًا هو بريء منه ومتعاٍل عنه، ويحيون لياليهم في تمحل فاحشةٍ ينسبونها إليه.
فإن قلت: فأين جواب القسم؟
قلت: هو محذوف تقديره: ليدمدمنّ الله عليهم، أي: على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما دمدم على ثمود؛ لأنهم كذبوا صالحًا. وأما (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) فكلام تابع لقوله:(فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: "تزكية الإنسان نفسه ضربان: أحدهما بالفعل وهو محمود، وإليه قصد بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى: 14]. والثاني بالقول، وأما قول كتزكية العدل غيره، وهو مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. ونهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلاً وشرعاً، ولذلك قيل: لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقاً؟ قال: مدح الرجل نفسه". وقال أيضاً: "الخيبة: فوت المطلوب، قال تعالى: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15]، {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} ".
قوله: (يُوركون)، أي: ينسبون ويُضيفون إليه. الجوهري: "ورك فلان ذنبه على غيره: أي قرفه به".
قوله: (تقديره: ليُدمدمن الله عليهم)، قال الزجاج:"الجواب: قد أفلح، أي: لقد أفلح؛ حذفت اللام لطول الكلام"، وتبعه القاضي ثم قال: "كأنه لما أراد به الحث على تكميل
[(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها)] 11 - 15 [
الباء في (بِطَغْواها) مثلها في: كتبت بالقلم. والطغوى من الطغيان: فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء، بأن قلبوا الياء واوًا في الاسم، وتركوا القلب في الصفة، فقالوا: امرأة خزيي وصديا، يعنى: فعلت التكذيب بطغيانها، كما تقول: ظلمني بجرأته على الله. وقيل: كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى كقوله: (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ)] الحاقة: 5 [،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النفس والمبالغة فيه، أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع، ووجوب ذاته وكمال صفاته، الذي هو أقصى درجات القوة النظرية، ويذكرهم عظائم آلائه، ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه، الذي هو منتهى كمالات القوة العملية. وقيل: استطرد بذكر بعض أحوال النفس، والجواب محذوف تقديره: لَيُدمْدمن الله"، إلى آخره. كأنه رجح قول الزجاج على قول المصنف. فعلى هذا: يكون قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11]، كلاماً تابعاً على سبيل الاستطراد لقوله:{وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} ؛ فإن الطغيان أعظم أنواع التدسية، وعلى تأويل المصنف: استطراد لجواب القسم على طريق التشبيه.
قوله: (خزيا وصديا)، "خَزْيا" من: خزي الرجل؛ إذا استحيا، والصدى: العطش، يقال: رجل صد وامرأة صديا.
قوله: (وقيل: كذبت بما أوعدت به)، عطف على قوله:"الباء في {بِطَغْوَاهَا}: مثلها في قوله: كتبت بالقلم" فالباء مثل قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66]، ويؤيد الأول قوله تعالى:{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} .
وقرأ الحسن: (بطغواها) بضم الطاء كالحسنى والرجعى في المصادر. (إِذِ انْبَعَثَ) منصوب بكذبت، أو بالطغوى. و (أَشْقاها) قدار بن سالف. ويجوز أن يكونوا جماعة، والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته. بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وكان يجوز أن يقال: أشقوها، كما تقول: أفاضلهم. والضمير في (لَهُمْ) يجوز أن يكون للأشقين والتفضيل في الشقاوة، لأنّ من تولى الفقر وباشره كانت شقاوته أظهر وأبلغ. و (ناقَةَ اللَّهِ) نصب على التحذير، كقولك الأسد الأسد، والصبي الصبي، بإضمار: ذروا أو احذروا عقرها، (وَسُقْياها) فلا تزووها عنها، ولا تستأثروا بها عليها، (فَكَذَّبُوهُ) فيما حذرهم منه من نزول العذاب إن فعلوا (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ) فأطلق عليهم العذاب، وهو من تكرير قولهم: ناقة مدمومة: إذا ألبسها الشحم، (بِذَنْبِهِمْ) بسبب ذنبهم. وفيه إنذار عظيم بعاقبة الذنب، فعلى كل مذنٍب أن يعتبر ويحذر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والتوحيد لتسويتك في أفعل التفضيل إذا أضفته)، تقول: هذان أفضل الناس، وهؤلاء أفضلهم.
قوله: (نصب على التحذير)، أي: اتركوا العَقْر والسُّقيا؛ يقال: سقيته وأسقيته، والاسم: السُّقيا، أي: احذروا سُقيا الناقة، فلا تمنعوا سقياها.
قوله: (ولا تستأثروا بها)، أي: بسُقياها على الناقة؛ يقال: استأثر بالشيء، أي: استبد به.
قوله: ({فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ}: فأطبق عليهم)، الراغب:"دمدم عليهم ربهم: أهلكهم وأزعجهم، وقيل: الدَّمدمة حكاية صوت الهرة، ومنه: دمدم فلان في كلامه، والدِّمام: يُطلى به، وبعير مُدمدم بالشحم".
(فَسَوَّاها) الضمير للدمدمة، أي: فسوّاها بينهم لم يفلت منها صغيرهم ولا كبيرهم. (وَلا يَخافُ عُقْباها) أي: عاقبتها وتبعتها؛ كما يخاف كل معاقٍب من الملوك فيبقى بعض الإبقاء. ويجوز أن يكون الضمير لثمود على معنى: فسواها بالأرض، أو في الهلاك، ولا يخاف عقبى هلاكها. وفي مصاحف أهل المدينة والشام: فلا يخاف. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ولم يخف.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "الشمس"، فكأنما تصدق بكل شيٍء طلعت عليه الشمس والقمر» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في مصاحف أهل المدينة والشام)، أهل المدنة: نافع، (والشام): ابن عامر. والله أعلم.
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة الليل
مكية، وهي إحدى وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)] 1 - 4 [.
المغشي: إما الشمس من قوله: (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها)] الشمس: 4 [وإما النهار من قوله: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ)] الرعد: 3 [وإما كل شيٍء يواريه بظلامه من قوله: (إِذا وَقَبَ)] الفلق: 3 [. (تَجَلَّى) ظهر بزوال ظلمة الليل، أو تبين وتكشف بطلوع الشمس، (وَما خَلَقَ) والقادر العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماٍء واحد، وقيل: هما آدم عليه السلام وحواء. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: (والذكر والأنثى).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الليل
مكية، وهي إحدى وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (من قوله: {إِذَا وَقَبَ})، الجوهري:"وقب الظلام: دخل على الناس، ومنه قوله تعالى: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] ".
قوله: (وفي قراءة النبي? )، رواها البخاري ومسلم والترمذي، عن عبد الله بن مسعود وعن أبي الدرداء عن النبي? . قال ابن جني: " {الذكر والأنثى} بغير {وَمَا
وقرأ ابن مسعود: (والذي خلق الذكر والأنثى). وعن الكسائي: (وما خلق الذكر والأنثى) بالجر على أنه بدل من محل "ما خَلَقَ"، بمعنى: وما خلقه الله، أي: ومخلوق الله الذكر والأنثى. وجاز إضمار اسم الله؛ لأنه معلوم لانفراده بالخلق، إذ لا خالق سواه. وقيل: إنّ الله لم يخلق خلقًا من ذوى الأرواح ليس بذكٍر ولا أنثى. والخنثى، وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله غير مشكٍل، معلوم بالذكورة أو الأنوثة؛ فلو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكرًا ولا أنثى، ولقد لقي خنثى مشكلًا: كان خانثًا؛ لأنه في الحقيقة إمّا ذكرًا أو أنثى، وإن كان مشكلًا عندنا. "شَتَّى" جمع شتيٍت، أي: إنّ مساعيكم أشتات مختلفة، وبيان اختلافهما فيما فصل على أثره.
[(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى)] 5 - 7 [
(أَعْطى) يعنى حقوق ماله، (وَاتَّقى) الله فلم يعصه. (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) بالخصلة الحسنى، وهي الإيمان. أو بالملة الحسنى، وهي ملة الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى: وهي الجنة. (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) فسنهيئه لها من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها. ومنه قوله عليه السلام: «كل ميسر لما خلق له» . .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خَلَقَ}: قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء، وهي شاهدة لقراءة من قرأ:{وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} ، بجر {الذّكرِ} لكونه بدلاً من {مَا} ".
قوله: (فَسَنُهيِّئُه لها)، عن بعضهم: تيسر، كذا. واستيسر: أي: تسهل وتهيأ، وقوله تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} [المزمل: 20]، ويسرت كذا، أي: سهلته وهيأته، قال تعالى:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} .
قوله: (كل ميسر لما خُلق له)، الحديث من رواية البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وأبي داود وابن ماجه، عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله? : "ما منكم من أحد إلا وكُتب مقعده من النار ومقعده من الجنة، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا،
والمعنى فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه وأهونها، من قوله:(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ)] الأنعام: 125 [.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فكل ميسر لما خُلق له". أما من كان من أهل السعادة، فسيصير لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فسيصير لعمل الشقاء، ثم قرأ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} ، الآيتين. وما أدري كيف أورد هذا الحديث هاهنا، وهو يهدم قاعدة مذهبه.
الانتصاف: "هلا أطال لسانه في هذا المقام، لكن قصره الحق، فتراه يتأول الكلام بخلق اللُّطف والخذلان، ويحمله على ما لا يحتمله".
روى محيي السنة عن الخطابي أنه قال: "قولهم: أفلا نتكل على كتابنا؟ مطالبة منهم بأمر يوجب تعطيل العبودية، وروم أن يتخذوا حجة لأنفسهم في ترك العمل، فأعلمهم النبي? بقوله: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، بأمرين لا يُبطل أحدهما بالآخر: باطن هو العلة الموجبة في حُكم الربوبية، وظاهر هو السمة اللازمة في حق العبودية، وهو أمارة مخيلة غير مفيدة حقيقة العلم. ونظيره الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، والأجل المضروب في العمر مع المعالجة بالطب؛ فإنك تجد المغيب فيهما علة موجبة، والظاهر البادي سبباً مخيلاً، وقد اصطلح الناس خاصتهم وعامتهم، أن الظاهر منهما لا يترك بسبب الباطن".
وقلت: تلخيصه: عليكم بشأن العبودية وما خُلقتم لأجله وأُمرتم به، وكِلوا أمور الربوبية المغيبة إلى صاحبها، فلا عليكم بشأنها، والله أعلم.
قوله: (حتى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه وأهونها)، روينا عن أبي داود، عن سالم قال: قال رجل من خزاعة: "ليتني صليت فاسترحت! فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعت
[(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى)] 8 - 11 [.
(وَاسْتَغْنى) وزهد فيما عند الله كأنه مستغٍن عنه فلم يتقه. أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة؛ لأنه في مقابلة (وَاتَّقى). (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) فسنخذله ونمنعه الألطاف، حتى تكون الطاعة أعسر شيٍء عليه وأشدّه، من قوله:(يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ)] الأنعام: 125 [أو سمى طريقة الخير باليسرى،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: أقم الصلاة يا بلال، أرحنا". وفي "الجامع"؛ أنه? ، كان يستروح بأدائها من شغل القلب بها. وقيل: كان اشتغاله بالصلاة راحة له لأنه كان يعد غيرها من الأعمال الدنيوية تعباً، فكأنه يستريح بالصلاة من مناجاة الله، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "وقرة عيني في الصلاة"، وما أقرب الراحة من قُرة العين! .
قوله: (كأنه مُستغن عنه فلم يتقه)، يعني: الذي يقتضيه التقابل أن يقال: وأما من بخل ولم يتق، لقوله:{أَعْطَى وَاتَّقَى} ، لكن وضع موضعه {وَاسْتَغْنَى} ، لما وقع مقابلاً لقوله:{أَعْطَى وَاتَّقَى} ، يقدر تارة: استغنى عن الله، وأخرى: استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الجنة، لأن مقابل له، لأن المتقي {مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} ، فإن له الجنة، وكان ذلك سبباً لأن يقال في حقه:{فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41].
قوله: (أو سمى طريقة الخير)، عطف على قوله:"والمعنى: فسنلطف به"؛ فاليُسرى
لأنّ عاقبتها اليسر؛ وطريقة الشر العسرى، لأن عاقبتها العسر. أو أراد بهما طريقي الجنة والنار، أي: فسنهديهما في الآخرة للطريقين. وقيل: نزلتا في أبى بكٍر رضي الله عنه، وفي أبى سفيان بن حرٍب. (وَما يُغْنِي عَنْهُ) استفهام في معنى الإنكار،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والعُسرى على الأول محمولتان على الطاعة، سُميت بهما لأنه تعالى يسرها على المكلف بمنح الألطاف، أو عسرها عليه بالخذلان، قال القفال:"هو من قوله تعالى: {وَجَزَاؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، فلما سمى الألطاف الداعية إلى الطاعة بتيسير اليُسرى، سمى ترك هذه الألطاف بتيسير العُسرى".
وقال الإمام: "المعنى بتيسير اليُسرى: تسهيلها على من أراده تعالى، حتى لا يعتريه من الكسل والتثاقل ما يعتري المرائي والمنافق، قال تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، و {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء: 142]، {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: 38] ".
وعلى الثاني مفسرتان بالطاعة والمعصية، وهو أحسن طباقاً بالحديث المروي:"كل ميسر لما خُلق له" إلى آخره، وأقرب إلى وصول أهل السنة، كما أن الأول أقرب إلى أصولهم. وقال الإمام:"كل ما أدت عاقبته إلى الراحة والأمور المحمودة، فذلك اليُسرى، وهو وصف كل الطاعات. وكل ما أدت عاقبته إلى التعب والردى، فذلك العُسرى، وهو وصف كل المعاصي. واستدل الأصحاب بهذه الآية على صحة قولهم في التوفيق والخذلان. وأما وجه تأنيث اليُسرى والعُسرى، فإن كان المراد منهما جماعة الأعمال فذلك طاهر، وإن كان المراد عملاً واحداً، يرجع التأنيث إلى الحالة أو الفعلة، ويجوز أن يراد الطريقة، أي: اليُسرى والعُسرى".
قوله: (نزلتا في أبي بكر رضي الله عنه، وفي أبي سفيان)، وروى الواحدي ومحيي السنة،
أو نفي، (تَرَدَّى) تفعل من الردى وهو الهلاك، يريد: الموت. أو تردّى في الحفرة إذا قبر، أو تردى في قعر جهنم.
[(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى)] 12 - 13 [.
(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل وبيان الشرائع. (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي: ثواب الدّارين للمهتدى، كقوله:(وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)] العنكبوت: 27 [.
[(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى)] 14 - 21 [.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، اشترى بلالاً من أمية بن خلف ببردة وعشر أواق، فأعتقه لله تعالى، فأنزل الله إلى قوله:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} ، سعى أبي بكر وأمية. وروى الإمام عن القفال أن السورة نزلت في أبي بكر الصديق وإنفاقع على المسلمين، وفي أمية بن خلف وبُخله وكفره بالله تعالى، لكن معانيها عامة لقوله:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} . وقلت: دل على العموم الحديث الذي رويناه عن الأئمة.
قوله: (إن الإرشاد إلى الحق واجب علينا)، قال القاضي:"إن علينا الإرشاد إلى الحق بموجب قضائنا، أو إن علينا بيان طريقة الهدى لقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل: 9] ". وقال الزجاج: "علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال".
وقرأ أبو الزبير: (تتلظى).
فإن قلت: كيف قال: (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى)(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) وقد علم أن كل شقيّ يصلاها، وكل تقيّ يجنبها، لا يختص بالصلي أشقى الأشقياء، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد نارًا بعينها مخصوصة بالأشقى، فما تصنع بقوله:(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة، لا الأتقى منهم خاصة؟
قلت: الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيٍم من المشركين وعظيٍم من المؤمنين، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل: الأشقى، وجعل مختصًا بالصلى، كأن النار لم تخلق إلا له. وقيل: الأتقى، وجعل مختصا بالنجاة، كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف، وأبو بكر رضي الله عنه. (يَتَزَكَّى) من الزكاء، أي: يطلب أن يكون عند الله زاكيًا، لا يريد به رياًء ولا سمعة. أو يتفعل من الزكاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين)، يعني أبا بكر رضي الله عنه، وأُمية بن خلف قبحه الله كما سبق.
الانتصاف: "بُني على مفهوم الآية لورود صيغة التخصيص، وحاصل جوابه أن التخصيص له فائدة سوى النفي عما عدا المخصص وهي المقابلة، وهذا يلاحظ ما لحظه الشافعي في قوله تعالى:{قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] الآية فإنه لم يقل بمفهوم حصرها، بل جعل فائدة المقابلة الرد لأحكام الجاهلية لا نفي ما عدا المحصور، والزمخشري
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاصة ضاق ذرعه في هذه الآية حذراً على قاعدته، ويأبى الله إلا نقضها، فنقول: الصَّلي في اللغة: أن يحفروا حفيراً فيجمعوا فيه جمراً كثيراً، ثم يعمدوا إلى شاة فيسدوها وسطه؛ فأما ما يُشوى فوق الجمر، أو على المقلى، أو في التنور، فلا يسمى مصلياً. هذا بعينه ذكره الزمخشري في سورة الغاشية؛ فالتصلية أشد أنواع التعذيب. والناس عندنا ثلاثة أنواع: مؤمن فائز، ومؤمن عاص، وكافر. فالفائز يطفئ نوره لهب النار، والعاصي يُعذب في الطبقة الأولى، حتى إن منهم من تبلغ النار إلى كعبيه، وأشدهم من تصل إلى موضع سجوده، ولا يُعذب أحد من المؤمنين بين أطباقها بالصَّلي؛ فلا يصلاها إلا الكافر، وسيُجنبها الأتقى بالكلية لا يسمع حسيسها، فالعاصي ليس بأتقى ولا أشقى؛ فلا يصلاها ولا يُجنبها، بل يعذب بغير الصَّلى".
وقلت: ويؤيد هذا التأويل اللفظتان، أعني {لَا يَصْلَاهَا} و {وَسَيُجَنَّبُهَا} ، فإن إحداهما دلت على معنى البُحبوحة، والأخرى على المعنى البعيد، ولذلك قال:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30].
النهاية: "في حديث عمر رضي الله عنه، قال: "عليكم بالجنبة فإنها عفاف"، قال الهروي: يقول اجتنبوا النساء ولا تقربوا ناحيتهن، يقال: رجل ذو جَنبة، أي: ذو اعتزال عن الناس متجنب لهم".
فإن قلت: ما محل يتزكى؟
قلت: هو على وجهين: إن جعلته بدلًا من (يُؤْتِي) فلا محل له؛ لأنه داخل في حكم الصلة، والصلات لا محل لها. وإن جعلته حالًا من الضمير في (يُؤْتِي) فمحله النصب. (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) مستثنًى من غير جنسه وهو النعمة أي: ما لأحٍد عنده نعمة إلا ابتغاء وجه ربه، كقولك: ما في الدار أحد إلا حمارًا. وقرأ يحيى بن وثاب: (إلا ابتغاء وجه ربه) بالرفع: على لغة من يقول: ما في الدار أحد إلا حمار، وأنشد في اللغتين قول بشر بن أبى حازم:
أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها
…
إلا الجآذر والظّلمان تختلف
وقول القائل:
وبلدة ليس بها أنيس
…
إلّا اليعافير وإلّا العيس
ويجوز أن يكون (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) مفعولًا له على المعنى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والصلات لا محل لها)، قيل: لأن الصلة بعض الاسم، وبعض الاسم لا محل له، ولأن الصلة ليست بقائمة مقام المفرد.
قوله: (على لغة من يقول)، وهي لغة بني تميم، وسبق تقريره في النمل.
قوله: (أضحت خلاء) البيت، بعده:
وقفت فيها قلوصي كي تجاوبني أو يُخبر الرَّسم عنهم آية صرفوا
القفار: جمع قفر، وهي الخالي من المفاوز. والجآذر: أولاد البقر. والظلمان: جمع الظليم، وهو ذكر النعام.
قوله: (ويجوز أن يكون {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ})، مفعولاً له) وعلى هذا المستثنى داخل في المستثنى منه حقيقة، لأن المعنى: لا يؤتي ماله لأمر من الأمور، إلا ابتغاء وجه ربه.
لأنّ معنى الكلام: لا يؤتى ماله إلا ابتغاء وجه ربه، لا لمكافأة نعمةٍ. (وَلَسَوْفَ يَرْضى) موعد بالثواب الذي يرضيه ويقرّ عينه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "والليل"، أعطاه الله حتى يرضى، وعافاه من العسر ويسر له اليسر» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (لا لمكافأة نعمة)، توكيد للاستثناء. والتركيب مما رده صاحب "المفتاح".
تمت السورة
حامداً لله ومُصلياً
*
…
*
…
*
سورة (والضحى)
مكية، وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)] 1 - 3 [
المراد بالضحى: وقت الضحى، وهو صدر النهار حتى ترتفع الشمس وتلقي شعاعها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة {وَالضُّحَى}
مكية، وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (وهو صدر النهار حين ترتفع الشمس)، الراغب:"الضحى: انبساط الشمس وامتداد النهار، وسمي الوقت به، قال تعالى: {وَالضُّحَى (وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى}. وضحى يضحى: تعرض للشمس، وضاحية كل شيء: ناحيته البارزة. الأضحية جمعها أضاحي، وقيل: ضحية وضحايا، وأضحاة وأضحى، وتسميتها بذلك في الشرع لما ورد: "من ذبح قبل صلاتنا هذه فليُعِد".
وقيل: إنما خص وقت الضحى بالقسم؛ لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه السلام، وألقى فيها السحرة سجدًا، لقوله:(وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)] طه: 59 [وقيل: أريد بالضحى: النهار، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: إنما خُص وقت الضحى بالقسم، لأنها الساعة التي كُلم فيها موسى عليه السلام، وسُئلت عنه وعن قوله:{وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى} ، فأجبت: إنه من باب قوله:
وثناياك إنها إغريض
وذلك أن المشركين لما قالوا: إن محمداً ودعه ربه وقلاه، قيل له: كيف يودعك ويقليك وأنت خصصت بوجوب ما تقر عينك من الصلاة في هذين الوقتين، كقوله تعالى {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} [الإسراء: 79]، وقوله? :"كتب علي النحر ولم يُكتب عليكم، وأُمرت بصلاة الضحى ولم تُؤمروا بها"، رواه الدارقطني في كتاب "المجتني" عن ابن عباس، وهما الوقتان اللذان يخلو [فيهما] المحب مع المحبوب، يعني: وحق قربك عندنا، وزُلفاك لدينا، إنا ما ودعناك ولا قليناك. ثم لا يخلو تعلق الوداع بالضحوة والقلي بالليل من لطيفة، قال ابن عطاء:"ما حجبك عن قُربه حين بعثك إلى خلقه".
بيانه قوله: (أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنا ضُحًى)] الأعراف: 98 [في مقابلة (بَياتاً). (سَجى) سكن وركد ظلامه. وقيل: ليلة ساجية: ساكنة الريح. وقيل معناه: سكون الناس والأصوات فيه. وسجا البحر: سكنت أمواجه. وطرف ساٍج: ساكن فاتر. (ما وَدَّعَكَ) جواب القسم، ومعناه: ما قطعك قطع المودع. وقرئ: بالتخفيف، يعني: ما تركك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: ليلة ساجية: ساكنة الريح)، بيان لما سبق. ويجوز أن يكون وجهاً آخر، قال في قوله:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [غافر: 61]: "الليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم: ليل ساج، وساكن لا ريح فيه".
قوله: (وقرئ بالتخفيف، يعني: ما تركك)، قال ابن جني: "وهي قراءة النبي? وعروة ابن الزبير، وهي قليلة الاستعمال، قال سيبويه: استغنوا عن وذر وودع بقولهم: ترك، على أنها جاءت في شعر أبي الأسود، وأنشدناه أبو علي:
ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الحُب حتى ودعه
إلا أنهم قد استعملوا مضارعه". وقلت: وقد جاء في شعر المتنبي:
يَشُقكم بقناها كل سَلْهَبة والضرب يأخذ منكم فوق ما يدع
وإنما حسن هذه القراءة الموافقة بين الكلمتين، كأنه قيل: ما تركك وما قلاك، ومُؤدى معنى المشهورة إلى هذا، لأن التوديع أمارة المحبة، وقصدهم غاية البغض، ولذلك قال:"التوديع: مبالغة في الوداع"، ونظيره ما جاء في الحديث: "دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا
قال:
وثمّ ودعنا آل عمرو وعامر
…
فرائس أطراف المثقّفة السّمر
والتوديع: مبالغة في الودع؛ لأنّ من ودّعك مفارقًا فقد بالغ في تركك. روى أنّ الوحي قد تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيامًا، فقال المشركون: إنّ محمدًا ودعه ربه وقلاه. وقيل: إنّ أم جميٍل امرأة أبى لهب قالت له: يا محمد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الترك ما تركوكم"، لما في كل من الفقرتين من رد العجز على الصدر، وفي كليهما من صنعة الترصيع ما جبر منه.
قوله: (وثم ودعنا آل عمرو) البيت، ودعنا: تركنا. فرائس: جمع فريسة، وهي صيد الأسود. والمثقفة: الرماح المقومة. والسُّمر: جمع أسمر، وهو لونه؛ يقول: تركنا في ذلك المقام قتلى آل عمرو وآل عامر، فرائس أطراف الرماح مجروحين مقتولين.
قوله: (وقيل: إن أم جميل)، عن البخاري ومسلم والترمذي، عن جندب قال: اشتكى رسول الله? ، فلم يقم ليلة أو ليلتين، فجاءته امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، فلم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فنزلت. وفي رواية: أبطأ جبريل عليه السلام على رسول الله? ، فقال المشركون: قد وُدِّع محمد، فأنزل الله تعالى:{وَالضُّحَى} .
ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فنزلت. حذف الضمير من (قَلى) كحذفه من (الذَّاكِراتِ) في قوله:(وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ)] الأحزاب: 35 [يريد: والذاكراتة ونحوه: (فَآوى، فَهَدى، فَأَغْنى)، وهو اختصار لفظي لظهور المحذوف.
[(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)] 4 - 5 [
فإن قلت: كيف اتصل قوله: (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) بما قبله؟
قلت: لما كان في ضمن نفى التوديع والقلي، أنّ الله مواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله ولا ترى كرامةً أعظم من ذلك ولا نعمةً أجل منه: أخبره أن حاله في الآخرة أعظم من ذلك وأجل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهو اختصار لفظي)، يعني: اختصر وحذف المفعول ليوافق الفواصل بدلالة: "ما ودعك" عليه.
قوله: (لما كان في ضمن نفي التوديع والقلى أن الله مواصلك)، قال الإمام:"ويمكن أن يقال: إن المعنى: ولأحوال الآتية خير لك من الماضية، كانه تعالى وعده بأنه سيزيده كل يوم عزاً إلى عز، ومنصباً إلى منصب".
وقال الإمام أيضاً: "لما نزلت {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، حصل له بهذا تشريف عظيم، فكأنه استعظم ذلك، فقيل له: {وَلَلْأخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى}، يعني: هذا التشريف وإن كان عظيماً، إلا ما لك عند الله في الآخرة أعظم وأعلى".
وقلت: ويمكن أن يقال: وللآخرة خير لك في الاتصال والمحبة من الأولى، فيكتسب المعطوف من المعطوف عليه هذا المعنى، كما اكتسب المعطوف عليه منه معنى الأولية؛ فإن {مَا وَدَّعَكَ} و {وَمَا قَلَى} ، معناه: قربك وأحبك في الدنيا، بدليل "وللآخرة"؛ وإن معنى {خَيْرٌ لَّكَ} ، خير فيما يزلفك ويمنحك المحبة، بدلالة {مَا وَدَّعَكَ} و {وَمَا قَلَى} ، إذ لا ينبغي أن يشاب
وهو السبق والتقدّم على جميع أنبياء الله ورسله، وشهادة أمته على سائر الأمم، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته، وغير ذلك من الكرامات السنية. (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) موعد شامل لما أعطاه في الدنيا من الفلج والظفر بأعدائه يوم بدٍر ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجًا، والغلبة على قريظة والنضير وإجلائهم، وبث عساكره وسراياه في بلاد العرب، وما فتح على خلفائه الراشدين في أقطار الأرض من المدائن، وهدم بأيديهم من ممالك الجبابرة وأنهبهم من كنوز الأكاسرة، وما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب من الرعب وتهيب الإسلام، وفشوّ الدعوة واستيلاء المسلمين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاتصال والمحبة بمعنى آخر للطفهما، ويكون قوله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، معطياً جميع ما أحصاه المصنف وما لا يُحصى لإطلاقه. وأيضاً يتصل {وَالضُّحَى (وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى} ، بهذه الآية اتصاله بقوله:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ، فتصير الآيات من التثاني، ويتحقق فيها معنى المثاني.
قوله: (وإعلاء مراتبهم بشفاعته)، الانتصاف:"وإخراج العُصاة من النار بشفاعته".
قوله: (من الفلج)، بالجيم. الجوهري:"الفلج: الظَّفَر والفوز".
النهاية: "وقد فلج أصحابه وعلى أصحابه: إذا غلبهم، والاسم: الفلج، بضم الفاء".
قوله: (وما فتح على خلفائه)، عطف على "ما أعطاه"، و"ما" موصولة، والعائد محذوف، وكذا قوله:"وما قذف".
قوله: (وأنهبهم)، أي: جعلهم متمكنين من النهب. و"أنهب" متعد إلى مفعولين، وحذف أحدهما وهو العائد إلى الموصول، أي: لما أنهبوه، يقال: أنهب الرجل ماله الناس.
قوله: (وفشو الدعوة)، قيل: هو عطف على "ما" لا على "الإسلام". الرعب، "إذ ليس مما قُذف في القلوب، وفيه نظر لما سيجيء".
ولما ادّخر له من الثواب الذي لا يعلم كنهه إلا الله. قال ابن عباٍس رضي الله عنهما: له في الجنة ألف قصٍر من لؤلٍؤ أبيض ترابه المسك.
فإن قلت: ما هذه اللام الداخلة على سوف؟
قلت: هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف تقديره: ولأنت سوف يعطيك، كما ذكرنا في: لا أقسم، أن المعنى: لأنا أقسم؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولما ادخر له من الثواب)، عطف على قوله:(لما أعطاه في الدنيا). واعلم أنه راعى في هذه المعطوفات ترتيباً غريباً، لأن الموعد إما أمر يتعلق بالدنيا أو بالآخرة؛ فما يتعلق بالدنيا: أما ما يختص به صلوات الله عليه، فهو الذي أراده بقوله:"من الفلج والظفر بأعدائه". أو بخلفائه الراشدين، فهو قوله:"ما فتح في أقطار الأرض من المدائن". أو بأمته من بعده، فهو المراد كم قوله:"ما قذف في قلوب أهل الشرق والغرب"، إلى قوله:"واستيلاء المسلمين"، لأن ما يختص بالأمة إما النهب أو الإستيلاء، لأنهم ما فتحوا المشرف والمغرب. ولما فرغ من ذكر أحوال الدنيا وشرع في أحوال الآخرة، أعاد اللام في المعطوف ليؤذن بالفرق بين المعطوفات، فظهر من هذا أن قوله:"وفشو الدعوة"، عطف على "الإسلام"، أي: تهيب فشو الدعوة والاستيلاء.
قوله: (هي لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والمبتدأ محذوف)، قال ابن الحاجب:"هي لام التأكيد وليست لام الابتداء. وقول من قال: إنها لام الابتداء دخل على الخبر بعد حذف المبتدأ فاسد، لأن اللام مع المبتدأ كـ "قد" مع الفعل و "إن" مع الاسم، فكما لا يحذف الاسم والفعل وتبقى "إن" و"قد"، كذلك لا تبقى اللام بعد حذف الاسم. وأيضاً اللام في قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [النحل: 124]، لمجرد التأكيد، مثلها في قولك: إن زيداً لقائم، ولا يصح أن تكون للحال، لأن المعنى هو الاستقبال. وقد صرح في "مفصله": "ويجوز عندنا: إن زيداً لسوف يقوم، ولا يجيزه الكوفيون"، ولو كانت للحال لتناقض مع (سوف) ".
وذلك أنها لا تخلو من أن تكون لام قسٍم أو ابتداٍء؛ فلام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التأكيد، فبقى أن تكون لام ابتداٍء، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر، فلا بد من تقدير مبتدأ وخبر، وأن يكون أصله: ولأنت سوف يعطيك.
فإن قلت: ما معنى الجمع بين حرفي التوكيد والتأخير؟
قلت: معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر، لما في التأخير من المصلحة.
[(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى)] 6 - 8 [
عدّد عليه نعمه وأياديه، وأنه لم يخله منها من أول تربيه وابتداء نشئه، ترشيحًا لما أراد به؛ ليقيس المترقب من فضل الله على ما سلف منه، لئلا يتوقع إلا الحسنى وزيادة الخير والكرامة، ولا يضيق صدره ولا يقل صبره. و (أَلَمْ يَجِدْكَ) من الوجود الذي بمعنى العلم، والمنصوبان مفعولا وجد. والمعنى: ألم تكن يتيمًا، وذلك أنّ أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر، وماتت أمّه، وهو ابن ثماني سنين، فكفله عمه أبو طالب، وعطفه الله عليه فأحسن تربيته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: قد نص في "مريم" أن اللام مخلصة للتأكيد، ولا بأس بحذف المبتدأ، والفرق بين هذه اللام و"إن" و"قد"، أنهما مؤثران في المدخول عليه مع التوكيد بخلاف هذه اللام، لأن مقتضاها أن تؤكد مضمون الجملة لا غير، وهو باق وإن حُذف المبتدأ.
قوله: (بين حرفي التوكيد والتأخير)، أي اللام و"سوف".
قوله: (ترشيحاً لما أراد به)، الأساس:"ومن المجاز: هو مرشح للخلافة، وأصله ترشيح الظبية ولدها تعوده المشي". قيل: "ترشيحاً" مفعول له، لقوله:"فلم يُخله"، أو لقوله:"عدد عليه نعمه".
ومن بدع التفاسير: أنه من قولهم: درّة يتيمة، وأن المعنى: ألم يجدك واحدًا في قريٍش عديم النظير فآواك. وقرئ: (فأوى) هو على معنيين: إما من أواه بمعنى آواه؛ سمع بعض الرعاة يقول: أين آوى هذه الموقسة وإما من: أوى له؛ إذا رحمه، (ضَالًّا) معناه الضلال عن علم الشرائع وما طريقه السمع،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أين آوي هذه الموقسة؟ )، آوي: فعل مضارع من: أوي.
الجوهري: "إن بالبعير لوقساً، إذا قارفه شيء من الجرب، فهو بعير موقوس".
قوله: (الضلال عن علم الشرائع وما طريقه السمع)، قال الواحدي:"أكثر المفسرين: وجدك ضالاً عن معالم النبوة وأحكام الشريعة، غافلاً عنها فهداك إليها، ودليله قوله: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]، وقوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]، وهو اختيار الزجاج"، وسيجيءفي سورة "الكافرون"، أنه? قبل البعثة على أي ملة كان. وقال الجُنيد:"وجدك متحيراً في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ} [النحل: 44]. وقال بعضهم: وجدك غافلاً بقدر نفسك، فأشرفك على عظيم محلك، وأيضاً وجدك ضالاً عن معنى محض المودة، فسقاك كأساً منم شراب القُربة والمودة، فهداك به إلى معرفته. وقال جعفر الصادق: كنت ضالاً عن محبتي لك في الأزل، فممنت عليك بمعرفتي. وقال الجريري: وجدك متردداً في غوامض معاني المحبة، فهداك بلطفه لها". وقلت: هذا ملائم لمعنى الفاتحة.
الراغب: "الضلال: العدول عن الطريق المستقيم، ويضاده الهداية. ويقال الضلال لكل عدول عن النهج، عمداً كان أو سهواً، يسيراً طان أو كثيراً، فإن الطريق المستقيم المرتضى صعب جداً، ولذا قال? : "استقيموا ولن تُحصوا"، وقال بعضهم: كوننا مصيبين من وجه، وكوننا ضالين من وجوه كثيرة؛ فإن الاستقامة والصواب يجري مجرى المقرطس من المرمى،
كقوله: (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ)] الشورى: 52 [. وقيل: ضل في صباه في بعض شعاب مكة، فردّه أبو جهٍل إلى عبد المطلب. وقيل: أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لتردّه على عبد المطلب. وقيل: ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب. فهداك: فعرفك القرآن والشرائع، أو فأزال ضلالك عن جدك وعمك. ومن قال: كان على أمر قومه أربعين سنة، فإن أراد أنه كان على خلوهم عن العلوم السمعية، فنعم؛ وإن أراد أنه كان على دينهم وكفرهم، فمعاذ الله؛ والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوّة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة، فما بال الكفر والجهل بالصانع؟ (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)] يوسف: 38 [وكفى بالنبي نقيصة عند الكفار أن يسبق له كفر. (عائِلًا) فقيرًا. وقرئ: (عيلا) كما قرئ: (سيحات)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وما عداه من الجوانب كلها ضلال. فإذا كان الضلال ترك المستقيم عمداً أو سهواً، قليلاً أو كثيراً، صح أن يستعمل الضلال في من يكون منه خطأ ما، ولذلك نُسب إلى الأنبياء والكفار، وإن كان بينهما بون بعيد، قال في حق نبينا صلوات الله عليه:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} وقال أولاد يعقوب: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [يوسف: 8]، وقال موسى عليه السلام:{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20]، أي من الساهين، وقال تعالى:{أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282]، أي: تنسى. وأما الضلال في معرفة وحدانية الله ومعرفة النبوة ونحوهما، فهو الضلال البعيد، قال تعالى:{وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِي} إلى قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136] ".
قوله: (كما قرئ: "سيحات")، يعني: قرئ بدل {سَائِحَاتٍ} : "سَيِّحات"، وإنما شبهه بذلك لأنه جعل فيها "فيعل" مكان "فاعل".
وعديمًا، (فَأَغْنى) فأغناك بمال خديجة. أو بما أفاء عليك من الغنائم. قال عليه السلام:«جعل رزقي تحت ظل رمحي» وقيل: قنعك وأغنى قلبك.
[(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)] 9 - 11 [
(فَلا تَقْهَرْ) فلا تغلبه على ماله وحقه لضعفه. وفي قراءة ابن مسعود: (فلا تكهر) وهو أن يعبس في وجهه. وفلان ذو كهرورة: عابس الوجه. ومنه الحديث: فبأبي وأمي هو، ما كهرني. النهر، والنهم: الزجر. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رددت السائل ثلاثًا فلم يرجع، فلا عليك أن تزبره» . وقيل: أما إنه ليس بالسائل المستجدي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعديماً)، أي: وقرئ: عديماً، وفي "الموضح" أنها قراءة ابن مسعود.
قوله: (فبأبي وأمي هو، ما كهرني)، الحديث من رواية مسلم وأبي داود والنسائي، عن معاوية بن الحكم السُّلمي، قال:"بينما أنا أصلي مع رسول الله? ، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكل أماه! ما شأنكم تنظرون؟ وجعلوا يضربون أيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمتونني سكت. فلما صلى رسول الله? ، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، فقال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيئ من كلام الناس؛ إنما هو التسبيح والتكبير".
قوله: (أن تزبره)، الجوهري:"الزبر: الزحر والمنع، يقال: زَبَره يزبُره بالضم: إذا انتهره".
قوله: (أما إنه ليس بالسائل المستجدي)، أي: لم يرد بهذا السائل من يطلب الجدوى، أي: العطاء، ولكن أُريد به طالب العلم.
ولكن طالب العلم: إذا جاء فلا تنهره. التحديث بنعمة الله: شكرها وإشاعتها، يريد: ما ذكره من نعمة الإيواء والهداية والإغناء وما عدا ذلك. وعن مجاهد: بالقرآن، فحدث: أقرئه، وبلغ ما أرسلت به. وعن عبد الله بن غالب أنه كان إذا أصبح يقول: رزقني الله البارحة خيرًا: قرأت كذا وصليت كذا، فإذا قيل له: يا أبا فراس مثلك يقول مثل هذا؟ قال: يقول الله تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)] الضحى: 11 [وأنتم تقولون: لا تحدث بنعمة الله. وإنما يجوز مثل هذا إذا قصد به اللطف، وأن يقتدي به غيره، وأمن على نفسه الفتنة. والستر أفضل، ولو لم يكن فيه إلا التشبه بأهل الرياء والسمعة لكفى به. وفي قراءة على رضي الله عنه:(فخبر) والمعنى: أنك كنت يتيمًا، وضالًا وعائلًا، فآواك الله، وهداك: وأغناك؛ فمهما يكن من شيٍء وعلى ما خيلت فلا تنس نعمة الله عليك في هذه الثلاث. واقتد بالله، فتعطف على اليتيم وآوه، فقد ذقت اليتم وهوانه، ورأيت كيف فعل الله بك؛ وترحم على السائل وتفقده بمعروفك ولا تزجره عن بابك، كما رحمك ربك فأغناك بعد الفقر؛ وحدّث بنعمة الله كلها، ويدخل تحته هدايته الضلال، وتعليمه الشرائع والقرآن، مقتديًا بالله في أن هداه من الضلال.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "والضحى"، جعله الله فيمن يرضى لمحمٍد أن يشفع له، وعشر حسناٍت يكتبها الله له بعدد كل يتيٍم وسائٍل» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عن عبد الله بن غالب)، في "الكاشف في أسماء الرجال":"هو عبد الله بن غالب البصري الحُداني، بضم الحاء المهملة والنون، كان عابداً واعظاً قانتاً متبتلاً، روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وروى عنه قتادة والقاسم بن فضل. قتل يوم الجماجم في سنة ثلاث وثمانين".
قوله: (فمهمايكن من شيء)، يريد أن موقع "أما" مع مدخولها بعد قوله {أَلَمْ يَجِدْكَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يَتِيمًا فَآوَى}، موقع الحكم الذي ترتب على الوصف المناسب، فيجب المداومة عليه، لأن معنى "أما" الشرطية على تفسير سيبويه، في نحو قولهم: أما زيد فذاهب، هو: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب. وفائدته التوكيد، يعني أنه لا محالة ذاهب، وأنه منه عزيمة، ولذلك قال:"وعلى ما خَيَّلت، أي: النفس، فلا تنس رحمة الله". وقيل: فاعل "ما خَيَّلت" الحال، أي: على أي حال كنت، يقولون: افعل على ما خَيَّلته، أي: ما شُبهت الحال. واعلم أن في كلامه إشعاراً بأن قوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} ، جاء مقابلاً لقوله:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} ، وقوله:{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} ، مقابلاً لقوله:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} ، لقوله:"وترحم على السائل كما رحمك ربك فأغناك". وأما قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ، فجيء على العموم، فدخل تحته مفهوم القرينة الثانية، وهو قوله:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} أول شيء، وإليه الإشارة بقوله:"وحدث بنعمة الله كلها، ويدخل تحته هدايته الضلال، وتعليمه الشرائع والقرآن، مقتدياً بالله في أن هداه من الضلال".
وقلت: الظاهر أن المراد بالسائل طالب العلم لا المستجدي، ولذلك أتى بكلمة التنبيه وحرف الاستدراك في قوله:"أما إنه ليس بالسائل المستجدي، ولكن طالب العلم"؛ فالجمل الثلاث المصدرة بـ "أما"، كالتفصيل لتلك الحالات الثلاث على الترتيب، ولذلك أتى بالفاء في الأولى، وعطف الآخران عليها بالواو. نعم، الثالثة من الجوامع التي تشتمل على المذكورات وغير المذكورات. ويؤيد هذا التأويل، ما رواه الإمام عن الحسن أنه قال: "المراد من السائل من يسأل العلم، ونظيره من وجه:{عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1]، وحينئذ يحصل الترتيب،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه تعالى قال أولاً: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} ، ثم اعتبر هذا الترتيب فأوصاه برعاية حق اليتيم، ثم برعاية من يسأله عن العلم والهداية، ثم أوصاه بشكر نعم الله عليه". فإن قلت: ما الحكمة في تأخير حق الله عن حق اليتيم والسائل؟ قلنا: فيه وجوه: أحدها كأنه يقول: أنا غني وهما محتاجان، وتقديم المحتاج أولى. وثانيها أنه وضع في حظهما الفعل ورضي لنفسه بالقول. وثالثها أن المقصود من جميع الطاعات استغراق القلب في ذكر الله فختمت به. وأُوثر {فَحَدِّثْ} على "فخبِّر"، ليكون ذلك عنده حديثاً لا ينساه، ويوجده ساعة غب ساعة؛ قاله الإمام.
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة (ألم نشرح)
مكية، وهي ثماني آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ)] 1 - 4 [
استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك؛ ولذلك عطف عليه (وضعنا) اعتبارًا للمعنى. ومعنى: شرحنا صدرك: فسحناه حتى وسع هموم النبوّة ودعوة الثقلين جميعًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ}
مكية، وهي ثماني آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (فأفاد إثبات الشرح وإيجابه)، أي: أنكر عدم الشرح، فإذا أنكر ذلك ثبت الشرح، لأن الهمزة للإنكار، والإنكار نفي، والنفي إذا دخل على النفي عاد إثباتاً، ولا يجوز جعل الهزة للتقرير.
قوله: (فسحناه حتى وسع هموم النبوة ودعوة الثقلين جميعاً)، فإن قلت: لم فسر هاهنا شرح الصدر أجمع وأشرح من تفسيره في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25]، حيث قال: "لما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي، عرف أنه كُلف أمراً عظيماً وخطباً جسيماً،
أو حتى احتمل المكاره التي يتعرض لك بها كفار قومك وغيرهم، أو فسحناه بما أودعناه من العلوم والحكم، وأزلنا عنه الضيق والحرج الذي يكون مع العمى والجهل. وعن الحسن: مليء حكمةً وعلمًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح، فاستوهب ربه أن يشرح صدره؟ ". قلت: إن الهموم بقدر الهمم، ونعم ما قال الصاحب:
وقائلة لم عزتك الهموم وأمرك ممتثل في الأمم؟
فقلت: ذريني على غُصتي فإن الهموم بقدر الهمم
ولكل مقام مقال؛ فإن الكليم حين بعث إلى فرعون الطاغي، طلب الانشراح كما قال:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 24 - 25]، والحبيب لما طُلب إلى مقام {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9]، قيل له:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، كما يجيء في حديث مالك بن صعصعة.
وقال جعفر الصادق: "ألم نشرح لك صدرك لمشاهدتي ومُطالعتي. وقال ابن عطاء: ألم نخل سرك عن الكل، فغبت عن مشاهدة الكون وما سوى الحق، فشرح صدرك للنظر، وشرح صدر موسى للكلام. وقال سهل: ألم نوسع صدرك بنور الرسالة، فجعلناه معدناً للحقائق".
قوله: (وعن الحسن: مُلئ حكمة وعلماً)، لعله يشير إلى ما رويناه عن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، عن مالك بن صعصعة، عن النبي? :"بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، فأُتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم، فشُرح صدري إلى كذا وكذا. قال قتادة: يعني لأنس: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني، قال: فاستخرج قلبي فغُسل بماء زمزم، ثم أُعيد مكانه، ثم حُشي إيماناً وحكمة، ثم أُتي بدابة دون البغل وفوق الحمار" الحديث بطوله.
وعن أبي جعفر المنصور أنه قرأ: (ألم نشرح لك) بفتح الحاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: "لا يبعد أن يكون حصول الدم الأسود الذي غسلوه من قلبه صلوات الله عليه، علامة الميل والركون إلى المعاصي والتحجم عن الطاعات، فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة كون صاحبة مواظباً على الطاعات محترزاً عن السيئات، يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد". الراغب: " أصل الشرح بسط اللحم ونحوه، يقال: شرحت اللحم وشرحته، ومنه شرح الصدر، وهو بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله وروح منه".
قوله: (قرأ: "ألم نشرح" بفتح الحاء)، أصله:"نشرحن"، فحذف وأبقى فتحة الحاء دليلاً على النون في "المنتقى"، قال ابن جنى:"رويت عن أبي جعفر المنصور: "ألم نشرح"، بفتح الحاء، قال ابن مجاهد: "هذا غير جائز أصلاً". وقال ابن جني: "ظاهر الأمر ومألوف الاستعمال ما ذكره ابن مجاهد، لكن جاء مثل هذا فيما قرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد:
من أي يومي من الموت أفر أيوم لم يُقدر أم يوم قُدر؟
قيل: أراد: لم يُقدرن، بالنون الخفيفة، وحذفها عندنا غير جائز، لأن نون التأكيد أشبه شيء به الإسهاب والإطناب، لا الإيجاز والاختصار. وفي نوادر أبي زيد أيضاً بيت آخر، ويقال إنه مصنوع، وهو قوله:
اضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسيف قونس الفرس
وقالوا: لعله بين الحاء وأشبعها في مخرجها، فظنّ السامع أنه فتحها، والوزر الذي أنقض ظهره أي: حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك لثقله مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغمه من فرطاته قبل النبوّة، أو من جهله بالأحكام والشرائع، أو من تهالكه على إسلام أولى العناد من قومه وتلهفه. ووضعه عنه: أن غفر له، أو علم الشرائع، أو مهد عذره بعد ما بلغ وبالغ .....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أراد: اضربن، بالنون الخفيفة، وحذفها".
قوله: (وهو صوت الانتقاض والانفكاك)، وفي "الصحاح":"أنقض الحمل ظهره، أي: أثقله. وأصله الصوت، والنقيض: صوت المحامل والرّحال".
الراغب: "أنقض ظهره: أي: كسره حتى صار له نقيض، ونقيض المفاصل صوتها. والظهر استعارة تشبيهاً للذنوب بالحمل الذي ينوء بحامله".
قوله: (ووضعه عنه: أن غفر له)، مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على مثلها وهي قوله:"والوزر مثل"، أي: استعارة مسبوقة بالتشبيه، فيكون {وَوَضَعْنَا} ترشيحاً لها، لأنه وصف مناسب للمستعار منه. هذا هو المعنى بقوله:"ووضعه عنه: أن غُفر له" إلى آخره؛ فإذا استعير الوزر للذنب، فالمناسب أن يُحمل الترشيح على معنى الغفران، وإذا استعير للجهل بالأحكام، فالملائم أن يجري على تعليم الشرائع، وإذا حُمل على تهالكه صلوات الله عليه على إسلامهم، فالموافق أن يُتأول بتمهيد العُذر، أي: لا تحرص على هداهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، لأنك بالغت في التبليغ، وألزمت عليهم الحجة، ففيه لف ونشر.
وقرأ أنس: (وحللنا وحططنا). وقرأ ابن مسعود: (وحللنا عنك وقرك). ورفع ذكره: أن قرن بذكر الله في كلمة الشهادة والأذان والإقامة والتشهد والخطب، وفي غير موضع من القرآن (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)] التوبة: 62 [، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)] النساء: 13 [، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)] المائدة: 92 [وفي تسميته رسول الله ونبى الله؛ ومنه ذكره في كتب الأولين، والأخذ على الأنبياء وأممهم أن يؤمنوا به.
فإن قلت: أي فائدة في زيادة (لك)، والمعنى مستقل بدونه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرأ أنس: "وحللنا وحططنا")، عن ابن جني، "قال أبان: قلت لأنس: يا أبا حمزة: {وَوَضَعْنَا} ؟ قال: "وضعنا" و"حللنا" و"حططنا" سواء. إن جبريل عليه السلام أتى النبي? ، قال: اقرأ على سبعة أحرف، ما لا تخلط مغفرة بعذاب، وعذاباً بمغفرة".
قلت: قد جاء عن مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي، عن أنس في حديث طويل، وفي آخره:"ثم قال: ليس منها إلا شافٍ كافٍ؛ إن قلت: سميعاً عليماً عزيزاً حكيماً، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحن بعذاب".
قوله: (وفي تسميته رسول الله ونبي الله)، قال جعفر:"لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية، وقال ابن عطاء: جعلت تمام الإيمان بي بذكرك معي".
قوله: (والأخذ على الأنبياء وأُممهم أن يؤمنوا به)، لعله أراد ما دل عليه قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81].
قلت: في زيادة (لك) ما في طريقة الإبهام والإيضاح، كأنه قيل:(ألم نشرح لك)، ففهم أن ثم مشروحًا، ثم قيل:(صدرك)، فأوضح ما علم مبهمًا، وكذلك (لَكَ ذِكْرَكَ) و (عَنْكَ وِزْرَكَ).
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)] 5 - 6 [
فإن قلت: كيف تعلق قوله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) بما قبله؟
قلت: كان المشركون يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في زيادة {لَكَ}). قال المصنف رحمه الله: "يحتمل أن يكون {لَكَ} زيادة للاختصاص، كما في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، وإن كان المعنى مستقلاً بـ "نعبدك"، وأن يكون من قبيل الأهم فالأهم".
وقال السيد ابن الشجري في "الأمالي": "اللام في {لَكَ} لام العلة، نحو قولك: فعلت ذلك لإكرامك، فإن حذفتها قلت: فعلته إكرامك، وإن حذفت المصدر رددت اللام فقلت: فعلت ذلك لك؛ فالمعنى: ألم نشرح لهُداك صدرك؟ كما قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125]، فلما حُذف المصدر وجب إثبات اللام. وكذلك قوله: "ورفعنا لك ذكرك"، أي: رفعنا لتشريفك ذكرك".
قوله: (كان المشركون يُعيرون)، تلخيصه: أن قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، سبب نزوله أن المشركين كانوا يُعيرون رسول الله? والمؤمنين بالفقر، فاهتم لذلك رسول الله? ، فأُزيل ذلك بقوله:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} ، فدل الاستفهام على إنكار نفي الانشراح مبالغة في إثباته، يعني: ألم تر كيف فعل الله بك في بدء أمرك من انشراح الصدر والرفع من الذكر، وأنت غير عالم حينئذ بشيء مما تعلمه الآن، وأنت يومئذ خامل الذكر، ففعلنا بك ما فعلنا، فقس على ذلك ولا تهتم بتعييرهم لك وللمؤمنين بالفقر، فإن مع العسر يسراً.
حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم، فذكره ما أنعم به عليه من جلائل النعم ثم قال:(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) كأنه قال: خوّلناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرًا.
فإن قلت: (إِنَّ مَعَ) للصحبة، فما معنى اصطحاب اليسر والعسر؟
قلت: أراد أن الله يصيبهم بيسٍر بعد العسر الذي كانوا فيه بزماٍن قريب، فقرّب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر، زيادةً في التسلية وتقوية القلوب.
فإن قلت: ما معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: "لن يغلب عسر يسرين"، وقد روى مرفوعًا: أنه خرج صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يضحك ويقول: «لن يغلب عسر يسرين» ؟
قلت: هذا عمل على الظاهر، وبناء على قوّة الرجاء، وأن موعد الله لا يحمل إلا على أو في ما يحتمله اللفظ وأبلغه، والقول في أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقد روي مرفوعاً)، روى مالك في "الموطأ" عن زيد بن أسلم، قال:"كتب أبو عُبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر رضي الله عنه: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن شدة، يجعل الله بعده فرجاً، ولن يغلب عسر يُسرين".
قوله: (هذا عمل على الظاهر)، والمعنى بالظاهر: اللفظ المحتمل الراجح أحد محتملاته بقرينة ناهضة، يعني: ما ذكروه عمل بالظاهر؛ فإن ما في التنزيل يحتمل التكرير والاستئناف، والقرينة التي ترجح أحد الاحتمالين، أي: الاستئناف لأنه أوفاهما وأبلغهما، هي أن مبنى "أن موعد الله لا يُحمل إلا على أوفى الاحتمالين"، عطف تفسيري على قوله:"وبناء على قوة الرجاء"، وهو على "عمل بالظاهر" كذلك. وقوله:"والقول فيه" إلى آخره، بيان للاحتمالين.
تكريرًا للأولى كما كرر قوله: (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)] الطور: 11 [لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب، وكما يكرر المفرد في قولك: جاءني زيد زيد، وأن تكون الأولى عدةً بأنّ العسر مردوف بيسٍر لا محالة، والثانية عدة مستأنفة بأنّ العسر متبوع بيسر، فهما يسران على تقدير الاستئناف، وإنما كان العسر واحدًا لأنه لا يخلو، إما أن يكون تعريفه للعهد، وهو العسر الذي كانوا فيه، فهو هو؛ لأنّ حكمه حكم زيٍد في قولك: إن مع زيٍد مالًا، إن مع زيٍد مالًا. وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضًا. وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفًا غير مكرر، فقد تناول بعضًا غير البعض الأوّل بغير إشكال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلى هذا، لو لم يكرر - كما هي قراءة ابن مسعود، - أفاد المراد المقصود، وذلك أن التنكير في {يُسْرًا} ، يحتمل أن يراد منه بعض من اليسر، وأن يراد منه التفخيم، ولما كان بناء الأمر على قوة الرجاء، رُجح الثاني. والفرق بين هذا والأول أن دلالة الأول على المراد بالوضع كما سيجيء، ودلالة الثاني عليه باللزوم والكناية؛ فإن التفخيم في {يُسْرًا} ، اقتضى أن يتناهي في، ولو لم يكن متناهياً فيه، إذن لم يُرد به يسر الدارين، ولزم من ذلك تعدد اليُسر، وأن يقال:"لن يغلب عسر يسرين"، وإليه الإشارة بقوله:"وذلك يُسران في الحقيقة". وإذا ذُهب إلى هذا المعني في التكرير، كان أبلغ من الاستئناف، ولولا التنبيه بالأثر والحديث على هذه اللطيفة، لم يفهم ذلك. ويمكن أن يقال: لما كان ورود الآية في حق الصحابة الكرام، ووعداً لهم بالفرج بعد الشدة، أوجب أن يُحمل على يسر الدارين: أما في الدنيا، فبالغنى بعد الفقر، والقوة بعد الضعف، وبالعز بعد الذل. وأما في الآخرة، فلا كلام فيه.
قوله: "وإنما كان العسر واحداً)، إلى آخره، اعلم أن لام التعريف عند المحقيين موضوعة للإشارة والعهد، قال صاحب "التخمير": "اعلم أن اللام لنفس الإشارة، لكن الإشارة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقع تارة إلى فرد لمخاطبك به عهد، وأخرى إلى جنس؛ فمعنى اللام واحد على كل حال فاعرفه؛ فإن غلط الناس فيه عظيم، وهي فائدة مذهبية".
قلت: فإذن لا بد له من تقدم مشار إليه، فإذا جاء في الكلام ما يصلح أن يكون مشاراً إليه بأي وجه كان، تعين له، قال البزدوي:"اللام المعرفة للعهد، وهو أن يذكر شيئاً ثم يعاوده، فيكون الثاني هو الأول، مثاله قول علمائنا فيمن أقر بألف مقيداً بقيد، ثم أقر به كذلك أن الثاني هو الأول، وإذا كان كل واحد منهما نكرة، جاء الخلاف في أن اتحاد المجلس شرط لأن يكون الثاني عين الأول، فعند أبي حنيفة رحمه الله: نعم، وعند أبي يوسف: لا".
وروى صاحب "المطلع" عن الفراء، أن العرب إذا ذكرت نكرة ثم أعادتها بنكرة مثلها صارتا اثنتين، كقولك: إذا كسبت درهماً فأنفق درهماً، فالثاني غير الأول، فإذا أعادتها معرفة فهي هي. وذكر الزجاج نحوه.
وقال السيد في "الأمالي": "وإنما كان "العسر" معرفاً و"اليسر" منكراً، لأن الاسم إذا تكرر منكراً فالثاني غير الأول، كقولك: جاءني رجل فقلت لرجل: كذا وكذا، وكذلك إن كان الأول معرفة والثاني نكرة، نحو: حضر الرجل، فقلت لرجل: كيت وكيت؛ فإن كان الأول نكرة والثاني معرفة، فالثاني هو الأول، وكذلك ذكر المعرفة بعد المعرفة، نحو: حضر الرجل. فأكرمت الرجل، ولذلك قال ابن عباس: (لن يغلب عسر يسرين) ".
فإن قلت: فما المراد باليسرين؟
قلت: يجوز أن يراد بهما ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما تيسر لهم في أيام الخلفاء، وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة، كقوله تعالى:(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ)] التوبة: 52 [وهما حسنى الظفر وحسنى الثواب.
فإن قلت: فما معنى هذا التنكير؟
قلت: التفخيم، كأنه قيل: إن مع العسر يسرًا عظيمًا وأاي يسر، وهو في مصحف ابن مسعوٍد مرةً واحدة.
فإن قلت: فإذا ثبت في قراءته غير مكرر، فلم قال: والذي نفسي بيده، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنه لن يغلب عسر يسرين؟
قلت: كأنه قصد باليسرين: ما في قوله: (يُسْراً) من معنى التفخيم، فتأوله بيسر الدارين، وذلك يسران في الحقيقة.
[(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ)] 7 - 8 [.
فإن قلت: فكيف تعلق قوله: (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) بما قبله؟
قلت: لما عدد عليه نعمه السالفة ووعده الآنفة، بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة والنصب فيها، وأن يواصل بين بعضها وبعض، ويتابع ويحرص على أن لا يخلى وقتًا من أوقاته منها، فإذا فرغ من عبادة ذنبها بأخرى. وعن ابن عباس: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فما معنى هذا التنكير؟ )، دل الفاء على إنكار، يعني: إذا أُريد باليسرين ما ذكرت من الوجهين، فالواجب أن يجاء بهما معرفتين، فما معنى التنكير؟
قوله: (فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء)، عطف على قوله:"فإذا فرغ من عبادة ذَنَّبَها بأخرى"، فقوله {فَرَغْتَ فَانصَبْ} كلاهما مطلقان؛ يجوز أن يجريا على إطلاقهما بأن
وعن الحسن: فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة. وعن مجاهد: فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك. وعن الشعبي: أنه رأى رجلًا يشيل حجرًا فقال: ليس بهذا أمر الفارغ، وقعود الرجل فارغًا من غير شغل، أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه، من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة، ولقد قال عمر رضي الله عنه: إني لأكره أن أرى أحدكم فارغًا سبهللًا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة. وقرأ أبو السمال: فرغت بكسر الراء وليست بفصيحة. ومن البدع: ما روى عن بعض الرافضة أنه قرأ: (فانصب) بكسر الصاد، أي: فانصب عليًا للإمامة؛ ولو صح هذا للرافضي لصح للناصبي أن يقرأ هكذا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقال: فإذا فرغت من عبادة ذنبها بأخرى. وأن يُخصصا بالصلاة والدعاء لأن الصلاة أفضل العبادات والدعاء مخها، أو بالغزو والعبادة كما قيل:"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، أو بالدنيا والصلاة، لأن الفراغ أكثر ما يستعمل في الأمور الدنيوية، ومنه الحديث:"فراغك قبل شُغلك"، وهذه الرواية مذكورة في "شرح السنة" عن مجاهد.
قوله: (فارغاً سَبَهللاً)، النهاية:"في حديث عمر رضي الله عنه: "إني لأكره أن أرى أحدكم سَبَهللاً، لا في عمل دنياً ولا في عمل آخرة". التنكير في "دنيا" و"آخرة" يرجع إلى المضاف إليهما، وهو العمل، كأنه قال: لا في عمل من أعمال الدنيا، ولا في عمل من أعمال الآخرة. يقال: جاء يمشي سَبَهللا، إذا جاء وذهب فارغاً في غير شيء".
ويجعله أمرًا بالنصب الذي هو بغض علىّ وعداوته (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) واجعل رغبتك إليه خصوصًا، ولا تسأل إلا فضله متوكلًا عليه. وقرئ:(فرغب) أي: رغب الناس إلى طلب ما عنده.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ (ألم نشرح)، فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (واجعل رغبتك إليع خصوصاً)، التخصيص يفيده تقديم الجار والمجرور على الفعل، قال السيد في "الأمالي":"جامعت الفاء والواو، "وإلى" متعلقة بما بعد الفاء. ومثله {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]؛ انتصب ما قبل الفاء بما بعدها، وهذا من عجيب كلامهم؛ لأن الفاء تعطف أو تدخل في الجواب وما أشبه الجواب، كخبر الاسم الناقص، أي الموصولة التي صلتها الفعل، وهي هاهنا خارجة عما وضعت له".
تمت السورة
بحمد الله وعونه
وحسبنا الله ونعم الوكيل
*
…
*
…
*
سورة التين
مكية، وهي ثماني آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)] 1 - 8 [
أقسم بهما لأنهما عجيبان من بين أصناف الأشجار المثمرة، وروى: أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبٌق من تيٍن فأكل منه وقال لأصحابه: «كلوا، فلو قلت إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه؛ لأنّ فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة التين
مكية، وهي ثماني آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (بلا عجم)، يروى بسكون الجيم وبفتحها. وفي "ديوان الأدب":"العجم بالتحريك: النوى"، وليس في عجم بهذا المعنى.
الجوهري: "العامة تقول: عجم، بالتسكين".
فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس». ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيبًا واستاك به وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة» . وسمعته يقول: «هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي» . وعن ابن عباٍس رضي الله عنه: هو تينكم هذا وزيتونكم. وقيل: جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية: طور تينا وطور زيتا؛ لأنهما منبتا التين والزيتون. وقيل: (والتين) جبال ما بين حلوان وهمذان. و (الزيتون) جبال الشام، لأنها منابتهما، كأنه قيل: ومنابت التين والزيتون. وأضيف الطور وهو الجبل، إلى سينين: وهي البقعة. ونحو سينون: يبرون، في جواز الإعراب بالواو والياء، والإقرار على الياء، وتحريك النون بحركات الإعراب. والبلد: مكة حماها الله.
والأمين: من أمن الرجل أمانة فهو أمين. وقيل: أمان، كما قيل: كرام في كريم. وأمانته: أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. ويجوز أن يكون فعيلًا بمعنى مفعول، من أمنه لأنه مأمون الغوائل، كما وصف بالأمن في قوله تعالى:(حَرَماً آمِناً)] القصص: 57 [بمعنى ذي أمن: ومعنى القسم بهذه الأشياء: الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فإنها تقطع البواسير)، قال القاضي:"التين فاكهة طيبة لا فضل له، وعند الغداء لطيف سريع الهضم، ودواء كثير النفع، فإنه يلين الطبع، ويحل البلغم، ويُطهر الكُليتين، ويُزيل رمل المثانة، ويفتح سدة الكبد والطحال، ويُسمن البدن. والزيتون فاكهة وإدام ودواء، وله دُهن لطيف كثير المنافع مع لذته، لكنه قد ينبت حيث لا دهنية فيه كالجبال".
قوله: (ويذهب بالحفرة)، يقال: حُفرت أسنانه حفراً إذا فسد أسناخها، أي: أصولها، ويقال أيضاً: حفرت حفراً، والحفرة للمرة.
قوله: (فهو أمين، وقيل: أمان)، أي: قالوا: في موضع أمين.
فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومولد عيسى ومنشؤه، والطور: المكان الذي نودي منه موسى، ومكة: مكان البيت الذي هو هدًى للعالمين، ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه. (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية لأعضائه. ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويمة السوية، أن رددناه أسفل من سفل خلقًا وتركيبًا، يعنى: أقبح من قبح صورةً وأشوهه خلقة، وهم أصحاب النار أو أسفل من سفل من أهل الدركات. أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل: حيث نكسناه في خلقه، فقوّس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وتشنن جلده وكان بضًا، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين، وتغير كل شيء منه؛ فمشيه دليف، وصوته خفات، وقوته ضعف، وشهامته خرف. وقرأ عبد الله:(أسفل السافلين).
فإن قلت: فكيف الاستثناء على المذهبين؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تشنن)، الأساس:"تشنن جلده من الهرم، أي: تشنج ويبس. ويقال: شيخ كالشن البالي".
قوله: (بضًّا)، بالباء الموحدة من تحت والضاد المعجمة. الأساس:"قال الأصمعي: أبيض بض. وهو الشديد البياض. وقال المبرد: هو الرقيق البشرة الذي يؤثر فيه كل شيء. وامرأة غَضة بَضة".
قوله: (فمشيه دليف)، الدليف: المشي الرُّويد. الأساس: "دلف الشيخ والمقيد دليفاً ودلوفاً، وهو فوق الدبيب".
قوله: (خَرَف)، الخرف بالتحريك: فساد العقل.
قوله: (فكيف الاستثناء على المذهبين)، عن بعضهم: أراد الحجازية والتميمية وليس بذلك، بل على الوجهين المذكورين كما ينبئ عنه الجواب ودخول الفاء في السؤال.
قلت: هو على الأول متصل ظاهر الاتصال، وعلى الثاني: منقطع. يعنى: ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمي فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله بالشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم.
فإن قلت: (فَما يُكَذِّبُكَ) من المخاطب به؟
قلت: هو خطاب للإنسان على طريقة الالتفات، أي: فما يجعلك كاذبًا بسبب الدين وإنكاره بعد هذا الدليل، يعنى أنك تكذب إذا كذبت بالجزاء، لأنّ كل مكذب بالحق فهو كاذب، فأي شيٍء يضطرك إلى أن تكون كاذبًا بسبب تكذيب الجزاء. والباء مثلها في قوله تعالى:(الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)] النحل: 100 [، والمعنى: أنّ خلق الإنسان من نطفة، وتقويمه بشرًا سويًا وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي، ثم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر، لا ترى دليلًا أوضح منه على قدرة الخالق، وأن من قدر من الإنسان على هذا كله،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هو على الأول متصل)، أي على أن يراد بالرد إلى أسفل سافلين، الرد إلى أسفل من سفل خلقاً وتركيباً، وهم أصحاب النار، أو أسفل من سفل من أهل الدركات. قال الواحدي عن مجاهد:"ثم رددناه إلى النار، والنار أسفل سافلين، لأنه جهنم بعضها أسفل من بعض، ثم استثنى {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، أي: إلا هؤلاء، فإنهم لا يُردون إلى النار".
قوله: (وعلى الثاني منقطع)، أي على أن يُراد بـ "أسفل سافلين"، الرد إلى أسفل من سفل في حُسن الصورة والشكل، ولذلك قال:"لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى، فلهم ثواب دائم".
قوله: ({وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 100])، أي: بسبب الشيطان يشركون بالله. والباء في {بِهِي} ليست بصلة {مُشْرِكُونَ} ، بل صلته محذوفة.
لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك أيها الإنسان بالجزاء بعد هذا الدليل القاطع. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) وعيد للكفار، وأنه يحكم عليهم بما هم أهله. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قرأها قال: (بلى وأنا على ذلك من الشاهدين).
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "التين"، أعطاه الله خصلتين: العافية واليقين ما دام في دار الدنيا، وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: الخطاب لرسول الله? )، عطف على قوله:"هو خطاب للإنسان"، وعلى هذا لا يكون في الكلام التفات، وتكون "ما" بمعنى "من"، أي: فمن يكذبك أيها الرسول الصادق المصدق، بما جئت به من الدين الحق، أو بسبب الدين بعد ظهور هذه الدلائل الدالة على نبوتك؟ أليس الله بأحكم الحاكمين؟ يحكم بينك وبين أهل التكذيب. وإذا قيل: إن الخطاب للإنسان، ينبغي أن يذهب إلى الالتفات، لما سبق من قوله:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ، ويجعل الباء للتسبيب، لأن الإنسان هو المكذب، والمعنى: أيها الإنسان، ما الذي يلجئك إلى أن تكون كاذباً بسبب تكذيب الجزاء. وفي الكلام تعجب وتعجيب؛ وذلك أنه تعالى لما قرر أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم رده إلى أرذل العُمر، دل على كمال قدرته على الإنشاء والإعادة، فسأل بعد ذلك عن سبب تكذيب الإنسان بالجزاء، لأن ما يتعجب منه يُخفي سببه، وهذا كما ترى ظاهر جلي، وإليه الإشارة بقوله:"فما سبب تكذيبك أيها الإنسان بالجزاء، بعد هذا الدليل القاطع؟ "، وعلى هذا قوله:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} ، وعيد للكفار، وأنه يحكم عليهم بما هو أهله.
قوله: (قال: "بلى وأنا على ذلك من الشاهدين")، الحديث من رواية الترمذي وأبي داود، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله? : "من قرأ منكم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، فانتهى إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين".
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة العلق
مكية، وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَا وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)] 1 - 5 [.
عن ابن عباٍس ومجاهد: هي أول سورةٍ نزلت،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة العلق
مكية، وهي تسع عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (هي أول سورة نزلت)، عن الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي، عن يحيى ابن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة عن أول ما نزل من القرآن. قال: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} . قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ؟ قال: سألت جابراً عن ذلك، فقلت له مثل الذي قلت لي. فقال: ما أحدثُك إلا ما حدثنا رسول الله? ، إلى قوله: فنزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} . وفي رواية عن البخاري ومسلم، عن عائشة رضي الله عنها في حديث "في بدء الوحي"، هو "اقرأ باسم ربك
وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم. محل (بِاسْمِ رَبِّكَ) النصب على الحال، أي: اقرأ مفتتحًا باسم ربك، قل: بسم الله، ثم اقرأ.
فإن قلت: كيف قال: (خَلَقَ) فلم يذكر له مفعولًا، ثم قال:(خَلَقَ الْإِنْسانَ)؟
قلت: هو على وجهين: إما أن لا يقدر له مفعول وأن يراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه. وإما أن يقدر ويراد خلق كل شيء، فيتناول كل مخلوق، لأنه مطلق، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض. وقوله:(خَلَقَ الْإِنْسانَ) تخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق؛ لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذي خلق". ويمكن أن يقال: إن وجه التوفيق بين الروايتين، هو أن أول ما بُدئ به من الأمر بإنشاء القراءة هو {اقْرَأْ} ، ومن الأمر بإنشاء الإنذار {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (قُمْ فَأَنذِرْ} .
قوله: (محل {بِاسْمِ رَبِّكَ} النصب على الحال)، في "الكواشي":"الباء دخلت لتدل على الملازمة والتكرير، كأخذت بالخطام وأخذت الخطام، أو دخلت لتدل على البداية باسمه تعالى ومحلها حال، أي: اقرأ مبتدئاً باسم ربك".
قوله: (قل: باسم الله، ثم اقرأ)، الجملة بيان لقوله:"اقرأ مفتتحاً باسم ربك، ولذلك أُخليت من العاطف".
قوله: (لأن التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض)، يعني: هذا من باب قوله: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98]، لكن تقييده الأشرف بقوله:{مَا عَلَى الْأَرْضِ} ، إيماء إلى تفضيل الملائكة. وقال القاضي:"الذي خلق كل شيء، ثم أفرد ما هو أشرف وأظهر صنعاً وتدبيراً"، وقال صاحب "الكشف": "خصص بعد التعميم؛ فهو
ويجوز أن يراد: الذي خلق الإنسان، كما قال:(الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ)] الرحمن: 1_ 3 [فقيل: (الَّذِي خَلَقَ) مبهمًا، ثم فسره بقوله:(خَلَقَ الْإِنْسانَ) تفخيمًا لخلق الإنسان، ودلالةً على عجيب فطرته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3 ٍ؛ فالغيب عام لكل ما غاب عنا، ثم قال:{وَبِالْأخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} . وعكسه قول الشاعر:
وهم العشيرة أن يبطئ حاسد أو أن يلوم لحاجة لوامها
ألا ترى أن اللوم أعم من التبطئة، لأن التبطئة نسب قوم إلى البُطء وهو بعض اللوم. أن يبطئ: أي لأن يبطئ. وقلت: إنما علل تخصيص اإنسان بالذكر بقوله: "لأن التنزيل إليه"، لأن الأمر بقراءة المنزل مترتب على وصف الله عز وجل بخلق الأشياء، ثم تخصيص خلق الإنسان، وذلك لأنه هو المشرف بأن التنزيل إليه.
قوله: (خلق الإنسان، كما قال: {الرَّحْمَنُ (عَلَّمَ الْقُرْآنَ (خَلَقَ الْإِنسَانَ} [الرحمن: 1 - 3 ٍ])، عن بعضهم: إنه استشهد به من حيث إن خلق الإنسان خلق عظيم. وقلت: تقريره أن قوله: {الَّذِي خَلَقَ} كقوله: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} ، في أن المراد منه خلق الإنسان فأُبهم، كما أن المراد من قوله:{عَلَّمَ الْقُرْآنَ} : علم الإنسان القرآن. ثم قال: {خَلَقَ الْإِنسَانَ} : تفسير أو بيان للمجمل، كما قيل:{خَلَقَ الْإِنسَانَ (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3 - 4] كذلك، والفاء في قوله:"فقيل: {الَّذِي خَلَقَ} "، عطفت ما بعدها بقوله:"يُراد"، وما توسط بينهما اعتراض. ويمكن أن يقال: إنه إذا جعلت الصلة {خَلَقَ الْإِنسَانَ} ، كان القصد في علة القراءة هو
فإن قلت: لم قال (مِنْ عَلَقٍ) على الجمع، وإنما خلق من علقة، كقوله:(مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَة)؟
قلت: لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله:(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)] العصر: 2 [. (الْأَكْرَمُ) الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كرم، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عنهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي واطراحهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم، فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم، حيث قال:(الأكرم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)، فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خلق الإنسان، كأنه قيل: اقرأ لأجل أنه خلقك للقراءة كما قال ثمة، وأخر ذكر {خَلَقَ الْإِنسَانَ} عن ذكره، ثم أتبعه إياه ليُعلم أنه إنما خلقه للدين، وليحيط به علماً بوحيه وكتُبه.
قوله: ({الْأَكْرَمُ}: الذي له الكمال في زيادة كرمه)، الكواشي:"الأكرم: الذي لا يوازيه كريم، ولا يعادله في الكرم نظير. أو أكرم بمعنى كريم". وقوله: "ينعم على عباده" بيان للجملة الأولى.
قوله: (حيث قال: {الْأَكْرَمُ (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ})، يعني لما أطلق {الْأَكْرَمُ} وأبرزه في معرض "أفعل"، ليدل على الكمال في زيادة الكرم، وعلى الأنعام التي لا تُحصى، ثم أردفه بقوله:{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، وجعله توطئةً وتمهيداً لقوله:{عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، عُلِمَ أن ليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم، وفي ذكر بدء حال الإنسان وأخسها وهو كونه علقة، وانتهاء حاله وهو صيرورته عالماً، وإيصاله إلى أعلى المراتب، غاية الامتنان. يعني: كان ذليلاً مَهيناً، فاقتضى كرم الربوبية إلى ارتقائه ذروة العِز والشرف بفضله ولُطفه، ثم في جعل {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، توطئة إدماج وتنبية على فضل علم الكتابة.
ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة؛ ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا؛ ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره ودليل إلا أمر القلم والخط، لكفى به. ولبعضهم في صفة القلم:
ورواقم رقش كمثل أراقم
…
قطف الخطا نيّالة أقصى المدى
سود القوائم ما يجدّ مسيرها
…
إلّا إذا لعبت بها بيض المدى
وقرأ ابن الزبير: (علم الخط بالقلم).
[(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَأَىهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)] 6_ 19 [.
(كَلَّا) ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولبعضهم في صفة القلم)، قيل: يعني به نفسه. قُطف الخُطا: ضيقة الخُطا. الرُّقْش كالنقش، والرُّقش جمع الراقش. والأراقم جمع أرقم، وهي حية فيها سواد وبياض. ورواقم من الرقم وهو الكتابة. والمُدي جمع الُمدية وهي السكين العريض. يقول: رب أقلام منقوشة، كمثل الأراقم، متقاربة الخُطوة، لا تجد في السير إلا إذا قطعتها السكين.
قوله: (ردع لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه)، الباء في "بنعمة الله" صلة "كفر" و"بطغيانه"، ومثلها: كتبت بالقلم.
قوله: (وإن لم يُذكر لدلالة الكلام عليه)، أي: وإن لم يُذكر الكافر بنعمة الله الطاغي على ربه، فإن الكلام السابق دل على أنه تعالى خلق الإنسان من العلقة، ثم علمه ما لم يكن يعلم، فرفعه من حضيض الخِسَّة إلى يفاع العلم والمعرفة، كأنه قيل: خلقنا الإنسان من علق،
(أَنْ رءاهُ) أن رأى نفسه. يقال في أفعال القلوب: رأيتني وعلمتني، وذلك بعض خصائصها. ومعنى الرؤية: العلم، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين. و (اسْتَغْنى) هو المفعول الثاني (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان، تهديدًا له وتحذيرًا من عاقبة الطغيان. والرجعى: مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع. وقيل: نزلت في أبى جهل، وكذلك (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى). وروى: أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتزعم أن من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال مكة فضةً وذهبًا، لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، فنزل جبريل فقال: إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاة إبقاء عليهم. وروى عنه لعنه الله أنه قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فو الذي يحلف به، لئن رأيته توطأت عنقه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلمناه ما لم يعلم، ليشكر تلك النعمة الجليلة، فطغى وكفر، {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (أَن رَأَىهُ اسْتَغْنَى}. وكذلك اللاحق وهو التعليل بقوله:{إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (أَن رَأَىهُ اسْتَغْنَى} ، فيقدر بعد قوله {مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، ما يصح أن يكون {كَلَّا} ردعاً له. فعلى هذا، يحسن الوقف على {كَلَّا}. وفي "الكواشي":"يجوز أن يكون {كَلَّا} تنبيهاً فيقف على ما قبلها، وردعاً فيقف عليها". وفي "المرشد": "الوقف على {مَا لَمْ يَعْلَمْ} تام. قالوا: أول ما نزل من القرآن هذه السورة، فلما بلغ هذا الموضع جبريل طوى النمط، فحكى الفراء بأنه وقف تام، لقطع جبريل عليه السلام الكلام عنده، ولأن الكلام تمام لا يحتاج إلى غيره".
قوله: (وروي عنه لعنه الله)، أي عن أبي جهل. الحديث مختصر من رواية الإمام أحمد ابن حنبل والبخاري عن أبي هريرة.
قوله: (قال: فوالذي يحلف به)، أي: فوالذي يحلف به أبو جهل. قال المصنف: "يحكي الراوي حلفه، كي لا يذكر اللات والعُزى الذي يحلف به".
فجاءه ثم نكص على عقبيه، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم، فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من ناٍر وهولًا وأجنحةً، (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى) ومعناه: أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته، إن كان ذلك الناهي على طريقةٍ سديدةٍ فيما ينهى عنه من عبادة الله،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهولاً وأجنحةً)، أي: أولى أجنحةٍ، وهم الملائكة؛ كقوله تعالى:{الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُوْلِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر: 1]. وفي الحديث: "إن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم".
قوله: (ومعناه: أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله)، قال الإمام: "أرأيت إن كان على الهُدى، خطاب لمن؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه خطاب للنبي? ، ولو جعلناه لغيره لاختل النظم، لأن {أَرَءَيْتَ} الأولى والثالثة خطاب له، كأنه تعالى يقول: أيها الرسول، أرأيت إن كان على الهدى واختار الرأي الصائب والاهتداء والأمر بالتقوى، أما كان ذلك خيراً له من الكفر بالله والنهي عن حديثه؟ أي: تلهف عليه أنه كيف فوت على نفسه المراتب العالية.
وثانيهما: أنه خطاب للكافر، لأن الله تعالى كالمشاهد للظالم والمظلوم، والمولى القائم بين يديه المظلوم والظالم، والحاكم الحاضر عنده المدعي والمدعى عليه، يخاطب هذا مرة وهذا مرة، فلما خاطب النبي? بقوله:{أَرَءَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (عَبْدًا إِذَا صَلَّى} ، التفت إلى الكافر وقال: أرأيت يا كافر إن كانت صلاته هدى، ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى، أتنهاه مع ذلك؟ ".
وقلت: بناء الكلام على "إن" الشرطية، وعلى التنكير في {عَبْدًا} معلوم، لأنه الرسول? ، دل على أن المقام مقام إرخاء العنان والكلام المنصف. ولذلك خص المصنف لفظ "البعض" أولاً في قوله:"بعض عباد الله"، وقال كما يعتقد ثانياً، ثم ثلث بقوله:"كما نقول نحن"؛ فحينئذ الواجب أن يكون المخاطب بقوله: {أَرَءَيْتَ} ، غير النبي? وغير الكافر، لقوله:"أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله"، فإن الناهي والمنهي خارجان عن مورد
أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما بأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى) ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك. وهذا وعيد.
فإن قلت: ما متعلق أرأيت؟
قلت: الذي ينهى مع الجملة الشرطية، وهما في موضع المفعولين.
فإن قلت: فأين جواب الشرط؟
قلت: هو محذوف تقديره: إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى، ألم يعلم بأن الله يرى. وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني.
فإن قلت: فكيف صح أن يكون (أَلَمْ يَعْلَمْ) جوابًا للشرط؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخطاب، فكأنه تعالى يجعل الغير حاكماً بين أهل الحق وأهل الباطل، ويهضم من حق أهل الحق، ويقول: أيها الحاكم، أخبرني عمن يزعم أنه على الحق، وينهي عبداً من عباد الله عن عبادة الله وطاعته، لا أقول إنه رسول الله وصفوته من خلقه، بل هو بعض خلقه، أو يأمره بعبادة الأوثان، ويعتقد أنه أمر بالمعروف والتقوى. وأخبرني أيضاً عما نقول نحن: إن ذلك الآمر والناهي حاصل على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح، فما حكمك في ذلك؟ قال بعضهم:{أَرَءَيْتَ} وأُختاها متوجهات إلى {أَلَمْ يَعْلَم} ، وهو مقدر عند الأولين، وترك إظهاره اختصاراً، كما في قوله:{آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]. مثاله أن تقوله: أخبرني عن زيد إن وفدت عليه، أخبرني عنه إن استخبرته عنه، أخبرني عنه إن توسلت إليه، أما يوجب حقي؟
قوله: (تقديره: {أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى})، يعني: الشرط قوله: {إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى} ، وجزاؤه ما دل عليه جزاء الشرط الثاني، وهو {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} ، وترك ذكره اختصاراً.
قوله: (فكيف صح) أي: كيف صح أن يكون الاستفهام جزاء للشرط؟ وخلاصة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب أن الاستفهام دخل بين الشرط والجزاء مؤكدة مقررة للتعجب. قال الزجاج في قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} ؟ [الزمر: 19]: "الهمزة جاءت مؤكدة معادة بين المبتدأ المتضمن للشرط، وبين الخبر للطول"؛ فعلى هذا، لا يقال: إن أكرمتك، أتكرمني؟ إلا مع من استمر معه الإكرام، واستمر منه عدم المبالاة.
فإن قلت: ذكر أن {الَّذِي يَنْهَى} مع الجملة الشرطية، هما في موضع المفعولين، لأنهما مبتدأ وخبر، والخبر شرط وجزاء. هذا صحيح في {أَرَءَيْتَ} الأولى. وأما الثالثة، فليس فيها سوى الجملة الشرطية، وقد تقرر أنه لا يحذف المفعول الأول، إلا إذا كان الفاعل والمفعولان لشيء واحد، نحو قوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169]، على القراءة بالياء التحتانية، أي: لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم في سبيل الله أمواتاً. وإنما جاز الحذف لأنه في الأصل مبتدأ، فيحذف كما يحذف المبتدأ، لكن بذلك الشرط. قلت: إنما لم يجز حذف المفعول الأول للإلباس. فأما إذا قامت قرينة، نحو كون الفاعل والمفعولين شيئاً واحداً، وثم قرينة ظاهرة تدل على المحذوف، كما نحن بصدده من تصريحه بالقرينة الأولى، فما المانع من الجواز؟ وقد سبق عن المالكي وصاحب "التُّحفة" في سورة "القصص" جواز ذلك، على أن {أَرَءَيْتَ} استخبار ومتعلقه الجملة الشرطية. وفاعل {كَذَّب} ضمير راجع إلى الناهي والآمر، فلا يحتاج إلى شيء آخر، كما في قوله تعالى:{قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40]، في وجه.
قلت: كما صح في قولك: إن أكرمتك أتكرمني؟ وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟
فإن قلت: فما "أرأيت" الثانية وتوسطها بين مفعولي "أرأيت"؟
قلت: هي زائدة مكرّرة للتوكيد. وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة. (كَلَّا) ردع لأبى جهل وخسوء له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات، ثم قال:(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عما هو فيه، (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار. والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدّة. قال عمرو بن معديكرب:
قوم إذا يقع الصّريخ رأيتهم
…
من بين ملجم مهره أو سافع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأمره بعبادة اللات)، إشارة إلى تفسيره لقوله:{أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} على زعمه كما قال: "آمراً بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقد".
قوله: (قوم إذا نقع الصريخ) البيت، النقيع: الصراخ، ونقع الصوت واستنقع، أي: ارتفع إذا صوت المصوت. ويروى:
إذا فزعوا الصريخ
والفزع: الرُّعب والنُّصرة أيضاً، والصريخ والصارخ: المستغيث، والمهر: الفتي من الخيل، أو سافع: أي: آخذ بناصية فرسه بالسرعة من غير لجام. الراغب: "السفع: الأخذ بسُفعة الفرس، وهو سواد ناصيته، قال تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15]. وباعتبار السواد يقال للأثافي: سُفع، وبه سُفعة غضب، اعتباراً بنا يعلو من اللون الدخاني وجه من اشتد غضبه". يصف القوم بأنهم يُغيثون المستغيث بسرعة وينصرونه، وبعضهم يُلجمون الخيل، وبعضهم يأخذون ناصية الخيل ولا يُلجمون.
وقرئ: (لنسفعنّ) بالنون المشدّدة. وقرأ ابن مسعود: (لأسفعا). وكتبتها في المصحف بالألف على حكم الوقف، ولما علم أنها ناصية المذكور اكتفى بلام العهد عن الإضافة. (ناصِيَةٍ) بدل من "الناصية"؛ جاز بدلها عن المعرفة وهي نكرة؛ لأنها وصفت فاستقلت بفائدة. وقرئ:(ناصية) على: هي ناصية، و (ناصية) بالنصب، وكلاهما على الشتم. ووصفها بالكذب والخطأ على الإسناد المجازى، وهما في الحقيقة لصاحبها. وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك: ناصية كاذب خاطئ. والنادي: المجلس الذي ينتدي فيه القوم، أي: يجتمعون. والمراد: أهل النادي. كما قال جرير:
لهم مجلس صهب السّبال أذلّة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({نَاصِيَةٍ} بدل من "الناصية") إلى قوله: (وصفت فاستقلت بفائدة)، قال ابن الحاجب:"سُئلت: لم جُمع بين ({بِالنَّاصِيَةِ (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}، فهلا اقتصر على إحداهما؟ فأجبت: أن الأولى ذكرت للتنصيص على ناصية الناهي، والثانية ذكرت تنبيهاً على علة السفع، ليشمل بظاهره على كل ناصية هذه صفتها".
قوله: (ووصفها بالكذب والخطأ)، قال الزجاج:"تأويله: بناصية صاحبها كاذب، كما يقال: نهاره صائم وليله قائم، أي: هو صائم في نهاره وقائم في ليله". وقلت: والمبالغة فيه أن الكافر بلغ في الكذب والخطأ، إلى حيث إن الكذب والخطأ ظاهران من ناصيته، على نحو قولهم: وجهه نصف الجمال.
قوله: (لهم مجلس صُهب السِّبال أذلة)، أي: لهم أهل مجلس. الأساس: "شعر أصهب: بين
وقال زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم
والمقامة: المجلس. روى أن أبا جهٍل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى فقال: ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا، فنزلت. وقرأ ابن أبى عبلة:(سيدعى الزبانية) على البناء للمفعول، والزبانية في كلام العرب: الشرط، الواحد، زبنية، كعفرية، من الزبن وهو الدفع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصُّهبة، وهو حُمرة في سواد. ومن المجاز:"هو أصهب السِّبال" للعدو، قال ابن قيس الرُّقيات:
وظلال السيوف شيبن رأسي واعتناقي في الحرب صُهب السِّبال
قال الميداني: "صُهب السِّبال: كناية عن الأعداء، قال الأصمعي: صهب السبال وسود الأكباد، يضربان مثلاً للأعداء، وإن لم يكونوا كذلك"، وأنشد البيت.
قوله: (روي أن أبا جهل مر برسول الله? )، الحديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس، مع تغيير يسير.
قوله: (زبنية كعفرية)، قال الأخفش:"قال بعضهم: الواحد: زباني، وبعضهم: زابن، وبعضهم: زبنية. قال: والعرب لا تكاد تعرف هذا، وتجعله من الجمع الذي لا واحد له، مثل: أبابيل". وقال الجوهري: "قال أبو عبيدة: العفريت من كل شيء: المبالغ. يقال: فلان عفريت نفريت، وعفرية نفرية، وفي الحديث: "إن الله يبغض العفرية النفرية، الذي لا يُرزأ في أهل ولا مال". والعفرية: المصحح، والنفرية إتباع".
وقيل: زبني، وكأنه نسب إلى الزبن، ثم غير للنسب، كقولهم أمسيٌ، وأصله: زباني، فقيل: زبانية على التعويض؛ والمراد: ملائكة العذاب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا» (كَلَّا ردع) لأبى جهل، (لا تُطِعْهُ) أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقوله:(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ)] القلم: 8 [. (وَاسْجُدْ) ودم على سجودك، يريد: الصلاة (وَاقْتَرِبْ) وتقرّب إلى ربك. وفي الحديث: «أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة العلق، أعطى من الأجر كأنما قرأ المفصل كله» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي الحديث)، عن مسلم وأحمد، عن أبي هريرة، أن رسول الله? ، قال:"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء". وعن مسلم والترمذي وابن ماجه والنسائي، عن معدان بن طلحة قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله? ، فقلت: أخبرني بعمل يُدخلني الله به الجنة، فقال: سألت ذلك رسول الله? ، فقال:"عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة"، والله أعلم.
تمت السورة
بعون الله تعالى
*
…
*
…
*
سورة القدر
مختلف فيها، وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)] 1 - 5 [.
عظم القرآن من ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن أسند إنزاله إليه وجعله مختصًا به دون غيره.
والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادةً له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه. والثالث: الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة القدر
مكية، وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (وجعله مُختصاُ به)، يريد أن التركيب من باب تقديم الفاعل المعنوي، نحو: أنا كفيت مهمك، أنا قضيت حاجتك. وفي إيثار صيغة الجمع تعظيم دونه كل تعظيم.
قوله: (الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه)، فيه لطيفة، حيث قال أولاً:"عُظم القرآن من ثلاثة أوجه"، ثم قال:"الرفع من مقدار الوقت". والظاهر الرفع من مقداره حيث أنزله في هذه الليلة، فعدل ليؤذن بأن الليلة شرفت بنزوله فيها، وصارت ذات خطر
روي أنه أنزل جملةًً واحدةً في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. وأملاه جبريل على السفرة، ثم كان ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجومًا في ثلاٍث وعشرين سنة. وعن الشعبي: المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. واختلفوا في وقتها؛ فأكثرهم على أنها في شهر رمضان في العشر الأواخر في أوتارها، وأكثر القول أنها السابعة منها؛ ولعل الداعي إلى إخفائها أن يحيى من يريدها الليالي الكثيرة طلبًا لموافقتها، فتكثر عبادته ويتضاعف ثوابه، وأن لا يتكل الناس عند إظهارها على إصابة الفضل فيها فيفرطوا في غيرها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وشرف، فيلزم شرفه وخطره بالطريق الأولى، ثم ترقى في الرفع من مقدارها بقوله:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} ، ثم إلى أعلى بقوله:{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ، ثم إلى أعلى بقوله:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} .
قوله: (روي أنه أُنزل جملة واحدة)، فإن قلت: ذكرت في شرح الخطبة أن الإنزال عبارة عن تحريك الشيء من الأعلى إلى الأسفل، وهو مختص بالأجرام فلا يتحقق في الكلام، فوصف بصفة حامله لالتباسه به. وهذا المجاز إنما يستقيم في إنزاله جبريل عليه السلام القرآن على النبي? ، فكيف يستقيم إنزاله من اللوح إلى السماء، لأن ذلك من غير واسطة؟ قلت: الإنزال حينئذ مستعار للمعاني من الأجرام؛ شُبِّه نقل القرآن من اللوح إلى السماء وثبوته فيها، بنزول جسم من عُلو إلى أسفل، وقيل:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} . وعلى هذا، ظهوره في عالم الشهادة، أعني اللوح، من عالم الغيب الذي هو العالم الأعلى، يمكن أن يفسر بالنزول؛ فعلى الأول هو مجاز مرسل، وعلى الثاني مجاز مسبوق بالتشبيه.
قوله: (على أنها في شهر رمضان)، روينا عن مسلم والترمذي وأبي داود، عن زر بن حُبيش، قال: سمعت أُبي بن كعب يقول، وقيل له: إن عبد الله بن مسعود يقول: "من قام السنة أصاب ليلة القدر". فقال أُبي: "والله الذي لا إله إلا هو، إنها لفي رمضان، يحلف ولا
ومعنى ليلة القدر: ليلة تقدير الأمور وقضائها، من قوله تعالى:(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)] الدخان: 4 [وقيل: سميت بذلك لخطرها وشرفها على سائر الليالي، (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) يعنى: ولم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علو قدرها، ثم بين ذلك بأنها (خير من ألف شهر)، وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها؛ من تنزل الملائكة والروح، وفصل كل أمٍر حكيم. وذكر في تخصيص هذه المدّة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رجلًا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون من ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستثني، ووالله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله? بقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين". الحديث.
قوله: (ليلة تقدير الأمور)، نقل الإمام عن الواحدي أن القدر في اللغة بمعنى التقدير، وهو جعل الشيء على مقدار غيره من غير زيادة ولا نقصان. وقال:"سُميت به لأنها ليلة تقدير الأمور والأحكام. عن ابن عباس، أن الله تعالى قدر فيها كل ما يكون في تلك السنة، من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى السنة القابلة، نحو قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]. وليس المراد أن تقدير الله لا يحدث إلا في تلك الليلة؛ فإنه تعالى قدر المقادير في الأزل قبل خلق السموات والأرض، بل المراد إظهار تلك المقادير للملائكة".
قوله: (وقيل: سُميت بذلك لخطرها)، نقل الإمام عن الزهري أنه قال:"ليلة القدر ليلة العظمة والشرف؛ من قولهم: لفلان قدر عند فلان، أي: منزلة وشرف، ويدل عليه قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. وهو يحتمل أن يراد منه، أن من أتى بفعل الطاعات صار ذا قدر وشرف، أو أن الطاعات لها في تلك الليلة قدر زائد وشرف. وعن أبي بكر الوراق: سُميت ليلة القدر، لأنه نُزل فيها كتاب ذو قدر، على لسان ملك ذي قدر، على أمة لها قدر".
وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلةً إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد. (تَنَزَّلُ) إلى السماء الدنيا، وقيل: إلى الأرض، (وَالرُّوحُ) جبريل. وقيل: خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة، (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي: تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة إلى قابل. وقرئ: (من كل امرئ) أي: من أجل كل إنسان. وقيل: لا يلقون مؤمنًا ولا مؤمنةً إلا سلموا عليه في تلك الليلة. (سَلامٌ هِيَ) ما هي إلا سلامة، أي: لا يقدر الله فيها إلا السلامة والخير، ويقضى في غيرها بلاًء وسلامة. أو: ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون على المؤمنين. وقرئ: (مطلع) بفتح اللام وكسرها.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "القدر"، أعطى من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما هي إلا سلامة)، يريد أن {هِيَ} مبتدأ و {سَلَامٌ} الخبر، فقدم وجعل نفس السلام لإعطاء معنى الاختصاص. قال صاحب "الكشف":{هِيَ} ابتداء و {سَلَامٌ} خبر مقدم، وهو بمعنى الفاعل، أي: هي مُسلمة. ولا بد من هذا التقدير ليصح تعليق {حَتَّى} به؛ لأنه إذا حمل على المصدر لم يجز تعليق {حَتَّى} به؛ لأنه لا يفصل بين الصلة والموصول. ويجوز تعليقه بقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} ، ولا يجوز أن تكون {هِيَ} مبتدأ، و {حَتَّى} في موضع الخبر، لأنه لا فائدة فيه؛ إذ كل ليلة بهذه الصفة.
قوله: (وقرئ: {مَطْلَعِ})، الكسائي:"مَطلع"، بكسر اللام، والباقون: بفتحها. قال الزجاج: "فمن فتح فهو المصدر بمعنى الطلوع، يقال: طلع الفجر طلوعاً ومطلعاً. ومن كسر فهو اسم لوقت الطلوع". وعن بعضهم: ولا يجوز أن يراد هنا موضع الطلوع. والله أعلم.
تمت السورة بحمد الله تعالى
*
…
*
…
*
سورة البينة
مكية، وقيل: مدنية، وهي ثماني آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَاتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)] 1 - 8 [.
كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبده الأصنام يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: لا ننفك مما نحن عليه من ديننا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة البينة
مدنية، وهي ثمان آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (لا ننفك مما نحن عليه من ديننا)، روي عن المصنف أنه قال: هذا من باب
ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فحكي الله تعالى ما كانوا يقولونه ثم قال:(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يعنى أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله الغنى، فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقًا، فيقول واعظه: لم تكن منفكًا عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار؛ يذكره ما كان يقوله توبيخًا وإلزامًا. وانفكاك الشيء من الشيء: أن يزايله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفك من مفصله؛ والمعنى: أنهم متشبثون بدينهم ولا يتركونه إلا عند مجيء البينة. و (الْبَيِّنَةُ) الحجة الواضحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحكاية بزعمهم، وقوله:"وما تفرق الذين أوتوا الكتاب" إلزام عليهم؛ حكى الله كلامهم على سبيل التوبيخ والتعيير، وجاء به في بعض النُّسخ بدل قوله:"البينة: الحجة الواضحة": "البينة: القرآن، {أَوَ لَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133]، و {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ}: جبريل، وهو التالي للصحف المطهرة المنتسخة من اللوح، التي ذُكرت في سورة "عبس"، ولا بد من مضاف محذوف وهو الوحي، ويجوز أن يراد النبي? . فإن قلت: كيف نسب تلاوة الصحف المطهرة إليه وهو أمي؟ قلت: إذا تلا مثل المسطور فيها كان تالياً"، وشرح هذه الرواية قوله:{بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} ، معناه أن القرآن فيه بيانن أو حجة ما في الكتب المتقدمة، أو هو مصداقها.
قوله: (التي ذُكرت في سورة عبس)، يعني: قوله {فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ} [عبس: 13]، أي: صحف منتسخة من اللوح، مكرمة عند الله، كقوله تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79].
قوله: (لا بد من مضاف محذوف)، أي: القرآن وحي رسول من الله.
و (رَسُولٌ) بدل من (البينة). وفي قراءة عبد الله: (رسولًا) حالًا من البينة. (صُحُفاً) قراطيس (مُطَهَّرَةً) من الباطل. (فِيها كُتُبٌ) مكتوبات، (قَيِّمَةٌ) مستقيمة ناطقة بالحق والعدل؛ والمراد بتفرقهم: تفرقهم عن الحق وانقشاعهم عنه، أو تفرقهم فرقًا؛ فمنهم من آمن، ومنهم من أنكر، وقال: ليس به؛ ومنهم من عرف وعاند.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (و {رَسُولٌ} بدل من {الْبَيِّنَةُ})، قال الإمام:"وفائدته الإعلام بأن ذاته كانت بينة على نُبوته؛ لأنه كان في نهاية من الجد في تقرير النبوة، وفي غاية من الصدق وكمال من العقل. وروي عن حجة الإسلام أن مجموع الأخلاق الفاضلة، كان بالغاً فيه إلى حد الإعجاز، أو أن معجزاته كانت في غاية الظهور والكثرة". وقلت: الدليل على أن المراد بالبينة رسول الله? ، قوله:"لا تنفك مما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود"، ولعل السر في جعله {الْبَيِّنَةُ} توطئة لذكر الرسول، كما وبخهم بقولهم:{أَوَ لَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} . ولهذا السر أيضاً
أُفرد ذكرهم عن المشركين في قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، كأنهم عُيِّروا بالتفرق وهم أهل الكتاب، لأن جحود العالم أقبح من إنكار الغافل.
قوله: ({صُحُفًا}: قراطيس {مُّطَهَّرَةً})، الراغب:"الصحيفة: المبسوط من الشيء كصحيفة الوجه، والصحيفة التي يُكتب فيها، وجمعها صحائف وصُحف، قال تعالى: {يَتْلُوا صُحُفًا مُّطَهَّرَةً}؛ أُريد بها القرآن، جعله صُحفاً فيها كتب، من أجل تضمنه لزيادة ما في كتب الله. والمصحف ما جُعل جامعاً للصحف المكتوبة". وقال أيضاً: "أراد بقوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}، لأن القرآن مجمع ثمرة كتب الله المتقدمة".
فإن قلت: لم جمع بين أهل الكتاب والمشركين أوّلًا، ثم أفرد أهل الكتاب في قوله:(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)؟
قلت: لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف. (وَما أُمِرُوا) يعنى في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي، ولكنهم حرفوا وبدلوا، ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إلا بالدين الحنيفي)، كنى عن مجموع {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} إلى آخره، بالدين الحنيفي. وفي عطف {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} ، على {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} المقيد بالإخلاص، واختصاصهما بالذكر دون سائر العبادات، الدلالة على شرفهما واستبدادهما بشرط الإخلاص.
وقال الإمام: "ذلك المجموع كله، هو دين الملة المستقيمة المعتدلة، فكما أن مجموع الأعضاء بدن واحد، كذا هذا المجموع دين واحد. واحتج القائلون بأن الإيمان عبارة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل بهذه الآية. وأجيب بأن المشار إليه المجموع، وهو محكوم بأنه الدين القيمة؛ فالدين غير {الدِّينُ الْقَيِّمُ}، لأن الدين القيم هو الدين الكامل المستقل بنفسه، وذلك إنما يكون إذا كان الدين حاصلاً، وكانت آثاره ونتائجه حاصلة معه، من الصلاة والزكاة وغيرهما؛ فإذا لم يوجد هذا المجموع، لم يكن الدين القيم حاصلاً، والنزاع في مجرد الدين".
فيقال: هذا الجواب ضعيف، لأن "القَيِّمَة" على القراءة الشاذة، أي:"وذلك الدين القيمة"، صفة مميزة فارقة للملة المستقيمة عن المعوجة، وهي غير دين المسلمين، لقوله تعالى:{دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 161]. وعلى المشهورة: مضاف إما إلى الملة المستقيمة، أو إلى الأمة القيمة بالحق، إضافة بيان كأنه قيل: وذلك دين المسلمين. الراغب: "الدين أعم من الإسلام، إذ هو يستعمل في الحق والباطل. والإسلام لا
(وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي: دين الملة القيمة. وقرئ: (وذلك الدين القيمة) على تأويل الدين بالملة.
فإن قلت: ما وجه قوله: (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يستعمل إلا في الحق، قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]. وقال: "القيمة هاهنا اسم الأمة القائمة بالقسط المشار إليهم بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110]، وقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] ".
قوله: (أي: دين الملة القيمة)، قال صاحب "الكشف":"لا بد من هذا التقدير، لأنه إذا لم يُحمل على هذا، كان إضافة الشيء إلى صفته، وهي بمنزلة إضافة الشيء إلى نفسه، قال محيي السنة: "أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين، وأنث {الْقَيِّمَةِ} رداً بها إلى الملة. وقيل: الهاء فيها للمبالغة، وقيل:{الْقَيِّمَةِ} هي الكتب التي جرى ذكرها، أي: وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعو إليه وتأمر به. وقال النضر بن شميل: سألت الخليل عنها فقال: "القيمة" جمع القيم، والقيم والقائم واحد، ومجازه: وذلك دين القائمين لله بالتوحيد".
الراغب: "القيمة هاهنا: اسم الأمة القائمة بالقسط، المشار إليهم بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110]، وقوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء: 135] ".
قوله: (ما وجه قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ}؟ )، يعني كان من حق الظاهر أن يقال "بأن يعبدوا الله" بالباء، فما وجه الإتيان باللام؟ فأجاب بأن صلة الأمر محذوفة، واللام للتعليل؛
قلت: معناه: وما أمروا بما في الكتابين إلا لأجل أن يعبدوا الله على هذه الصفة. وقرأ ابن مسعود: (إلا أن يعبدوا)، بمعنى: بأن يعبدوا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالتقدير: "وما أمروا بما في الكتابين إلا لأجل أن يعبدوا الله"، وهو استثناء من أعم عام المفعول له المقيد بقيد الإخلاص، قال الإمام:"هذا يدل على مذهب أهل السنة، حيث قالوا: العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة، أو إلى البُعد من عقاب النار، بل لأجل أنك عبد وهو معبود، وفيه أن من عبد للثواب والعقاب لم يكن مخلصاً. وفي الحقيقى الثواب والعقاب هما معبودان". وروى السُّلمي عن بعضهم، "أن الإخلاص ألا يطلع على عملك إلا الله، ولا ترى نفسك فيه. وتعلم أن المنة لله عليك في ذلك حيث أهلك لعبادته، ووفقك لها ولا تطلب من الله ثواباً. وعن سهل: نظر الأكياس في الإخلاص، وهو أن تكون حركات العابد وسكناته في سره وعلانيته لله تعالى وحده، لا يمازجه شيء".
قوله: (وقرأ ابن مسعود: "إلا أن يعبدوا"، بمعنى: بأن يعبدوا)، قيل: الأولى أن يقال: بمعنى: لأن يعبدوا؛ ليوافق القراءة المشهورة في المعنى؛ وإنما حمله على ذلك أن مقتضى الظاهر هو أن يقال: ما أُمروا إلا لعبادة الله؛ ليكون المأمور به مذكوراً، وإنما عدلنا عن هذا المعنى في المشهورة لوجود اللام، وإذ لم تكن اللام في هذه القراءة، فليُحمل على ما هو الظاهر، ولذلك سأل: ما وجه قوله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} ؟ أي: الأصل أن يقال: بأن يعبدوا الله. وقيل عليه: إنه لما ورد المشهورة على ما ورد، عُلِمَ أن الغرض بيان أنهم إنما أمروا في التوراة بما أمروا، لأجل أن يعبدوا الله بالإخلاص، تحريضاً على الإخلاص وعدم الإشراك في العبادة، فيجب أن تُحمل القراءة الشاذة على المشهورة لهذا الغرض.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: بل الغرض من السياق، إظهار توبيخ أهل الكتاب، والنعي على تعكيس أمرهم، لأن جملة قوله:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} الآية، إما حال من فاعل {تَفَرَّقَ} مقررة لجهة الإشكال، أو عطف على جملة قوله:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، من باب تفويض ترتب الثاني على الأول، على خلاف المقتضي إلى ذهن السامع. يعني: كان من موجب اتفاق الكتابين، أعني ما معهم، وهذا القرآن المجيد على دين التوحيد، الموافقة مع من يوافقهم فيه ومعاضدته والتفادي عن مخالفته، والتفرق عنهم وهم قد عكسوا، قال تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64]. وهذا الغرض كما حصل من التعليل بأن قيل: وما أُمروا، وإنما قيل: في الكتابين لأجل أن يعبدوا الله مخلصين، قد يحصل من هذا التقرير أيضاً بأن يقال: وما أمروا بما في الكتابين إلا بعبادة الله مخلصين، لاسيما ظاهر عطف {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} يناسب الباء. ولذلك قال أبو البقاء في قوله:{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 71 - 72]: "قيل اللام بمعنى الباء، أو هي زائدة".
وقال الزجاج: "فيه وجهان: أحدهما أن يكون التقدير: وأُمرنا لنُسلم ولأن نُقيم، وأن يُحمل على المعنى، لأن المعنى: أُمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة".
وقلت: وأما قضية النظم، فإنه تعالى لما عير أهل الكتاب والمشركين في تقاعدهم عما وعدوا من أنفسهم، وما كانوا يقولون قبل المبعث: لا ننفك عن ديننا حتي يُبعث النبي الموعود، ثم بين ما لهم من الخزي دُنيا والنكال دُنيا وعُقبى، وما لأعدائهم من الذين قاموا على ما وعدوا تشويراً لأولئك وتحسيراً لهم، من قوله:{إِنَّ الَّذِينَ} إلى آخر السورة،
قرأ نافع: (البريئة) بالهمز؛ والقرّاء على التخفيف. والنبيّ، والبرية: مما استمر الاستعمال على تخفيفه ورفض الأصل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسط بين الكلامين النعي على أهل الكتاب خاصة، وأظهر أنهم أشد غياً وعناداً، حيث خالفوا مع ما يوجب الموافقة، والله أعلم.
قوله: (والقُراء على التخفيف)، أي: مُطبقون متفقون على التخفيف، سوى نافع وابن ذكوان عن ابن عامر. وطُعن بقوله:"والنبي، والبرية: مما استمر الاستعمال على تخفيفه ورفض الأصل" على قراءة نافع. قيل: الطعن مردود عليه، لأن تخفيف الهمزة في "نبي" و"برية"، إنما يُتصور على قول من يقول: إن نبياً مشتق من النبأ، والبرية من برأ الله الخلق. وأما من يرى أن النبي من النبوة وهو الارتفاع، والبرية من البرى وهو التراب، فلا مدخل لهما في الهمزة أصلاً، فلا يصح قوله:"استمر تخفيفه ورُفض الأصل". ثم لو سُلم أنه من الهمز، فلا يستمر أيضاً، لأنه قد ثبت أنهم يقولون: نبيئاً وبريئة، فكيف يصح دعوى التزام البراءة والتَّرك مع ثبوتها؟ بل نافع مقدم على جميع القراء، وقد قدمه الشيخ الشاطبي على القُراء كلهم، وقال فيه رحمه الله تعالى:
فأما الكريم السِّر في الطيب نافع فذاك الذي اختار المدينة منزلا
روى أنه إذا كان إذا قرأ القرآن، يفوح طيب المسك من فيه، فقيل له: أتتطيب للقراءة؟ فقال: لا، ولكن رأيت النبي? في المنام، فتفل في فيَّ، فكلما قرأت القرآن يفوح ريح المسك من فيَّ. قال صاحب "النهاية": "قيل: إن النبي مشتق من النباوة، وهي الشيء المرتفع، ومنه حديث البراء قال: قلت: ورسولك الذي أرسلت، فرد عليَّ وقال: ونبيك الذي أرسلت. وإنما رد ليختلف اللفظان ويجمع له الثناءين: معنى النبوة والرسالة، ويكون تعديداً للنعمة في الحالين.
وقرئ: (خيار البرية) جمع خير، كجياد وطياب: في جمع جيد وطيب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ (لم يكن)، كان يوم القيامة مع خير البرية مساًء ومقيلًا» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال سيبويه: ليس أحد من العرب إلا ويقول: تنبأ مسيلمة بالهمز، غير أنهم تركوا الهمز في النبي، كما تركوه في الذُّرية والبرية، إلا أهل مكة فإنهم يهمزونهما ويخالفون العرب في ذلك".
قوله: (وقرئ: "خيار البرية")، روى ابن جني أن إماماً لأهل مكة سُمع يقرأ:"خيار"، فيجوز أن يكون جمع "خير"، فيُكسر فيعل على: فعال، نحو: صائم وصيام، وكيس وكياس.
وأن يكون جمع خائر كقولك: هو مخير وأنا خائر له، وأن يكون جمع خير الذي هو ضد الشر، كقولك: هذا مجبول من خير".
خاتمة
قال القاضي في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} : "ذلك المذكور من الجزاء والرضوان لمن خشي ربه، لأن الخشية ملاك الأمر، والباعث على كل خير" وقلت: ولذلك قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُا} [فاطر: 28].
الراغب: "رضا العبد عن الله: أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد: هو أن يراه مؤتمراً لأمره، ومنتهياً عن نهيه، قال تعالى:{رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، والرضوان: الرضا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكثير. ولما كان أعظم الرضا رضا الله تعالى، خص الرضوان في القرآن بما كان من الله تعالى، قال تعالى:{يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] ".
وقال الجُنيد: "الرضا يكون على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة، والرضا حال يصحب العبد في الدنيا والآخرة، وليس محله محل الخوف والرجاء والصبر والإشفاق، وسائر الأحوال التي تزول عن العبد في الآخرة. بل السعيد يتنعم بالرضا في الجنة، ويسأل الله تعالى حتى يقول لهم: برضائي أُحلكم داري، أي: برضائي عنكم رضيتم. وقال محمد بن الفضل: الروح والراحة في الرضا، واليقين والرضا باب الله الأعظم، ومحل استرواح العابدين"، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة الزلزلة
مختلف فيها، وهي تسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)] 1 - 8 [.
(زِلْزالَها) قرئ بكسر الزاي وفتحها؛ فالمكسور: مصدر، والمفتوح: اسم؛ وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الزلزلة
مدنية، وهي تسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف)، وفي "الكواشي":"وقد جاء "ناقة جزعال" التي تطلع، و"قصطال" اسم للغبار، وليسا من المضاعف. وقيل: أما بهرام وشهرام فعجميان". وأما القهقار فلغة ضعيفة؛ في "الصحاح": "القهقر، بتشديد الراء: الحجر الصلب، وكان أحمد بن يحيى وحده يقول: القهقار".
فإن قلت: ما معنى (زلزالها) بالإضافة؟
قلت: معناه زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة ومشيئة الله، وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده. ونحوه قولك: أكرم التقىّ إكرامه، وأهن الفاسق إهانته، تريد: ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة. أو زلزالها كله وجميع ما هو ممكن منه. الأثقال: جمع ثقل، وهو متاع البيت، وتحمل أثقالكم جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالًا لها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الذي ليس بعده)، أي: ليس بعده زلزال، أي: ليس فوقه وأقوى منه.
المغرب: "وقوله: وإن كان ليس بالذي لا بعد له، أي: ليس بنهاية في الجودة وهو من قولهم: هذا مما ليس بعده غاية في الجودة والرداءة. وربما اختصروا وقالوا: ليس بعده، ثم أُدخل عليه "لا" النافية للجنس، واستعمل استعمال الاسم المتمكن".
قوله: (أو زلزالها كله)، أي: القدر اللائق بها ويضاف إليها. والفرق بينه وبين الوجه السابق، هو أن السابق مستند إلى الفاعل ومقتضٍ مشيئته، ومن ثم قال:"زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة". والثاني وإن دل على الشمول، ولكن دون الأول في الشدة، وفي قوله "تستوجبه في الحكمة" إشارة إلى مذهبه، قال الإمام:"أي الزلزال المكتوب عليها إذا قُدرت تقدير الحي. روي أنها تُزلزل من شدة صوت إسرافيل عليه السلام"، وليس ذلك إلا إذا قُدر أنها حية فزعة، كما كانت متكلمة في قوله:{تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} .
قوله: (جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها)، الراغب:"أثقالها: قيل: كنوزها، وقيل: ما تضمنت من أجساد البشر عند الحشر، وقوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7]: أي: أحمالكم الثقيلة".
(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) زلزلت هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها؛ وذلك عند النفخة الثانية حين تزلزل وتلفظ أمواتها أحياًء، فيقولون ذلك لما يبهرهم من الأمر الفظيع، كما يقولون:(مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا)] يس: 52 [. وقيل: هذا قول الكافر؛ لأنه كان لا يؤمن بالبعث؛ فأما المؤمن فيقول: (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون)] يس: 52 [.
فإن قلت: ما معنى تحديث الأرض والإيحاء لها؟
قلت: هو مجاز عن إحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتى ينظر من يقول مالها إلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت ولم لفظت الأموات؟ وأنّ هذا ما كانت الأنبياء ينذرونه ويحذرون منه. وقيل: ينطقها الله على الحقيقة، وتخبر بما عمل عليها من خيٍر وشر. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" تشهد على كل أحد بما عمل على ظهرها".
فإن قلت: (إِذا) و (يَوْمَئِذٍ): ما ناصبهما؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ({مَا لَهَا} زُلزلت؟ )، قيل: هذه إشارة إلى أن في الكلام حذفاً، وهو حال من الضمير المجرور لأنه مفعول، أي: أي شيء ثبت لها في هذه الحال، لقوله تعالى:{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49].
قوله: (تشهد على كل أحد بما عمل على ظهرها)، روى الإمام أحمد بن حنبل والترمذي، عن أبي هريرة، قال: قرأ رسول الله? هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} ، قال:"أتدرون ما أخبارها؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم [كذا] كذا وكذا، فهذه أخبارها".
قلت: (يَوْمَئِذٍ) بدل من (إِذا)، وناصبهما (تُحَدِّثُ). ويجوز أن ينتصب (إِذا) بمضمٍر، و (يَوْمَئِذٍ) بتحدث.
فإن قلت: أين مفعولا (تُحَدِّثُ)؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أين مفعولاً {تُحَدِّثُ}؟ )، قيل: في السؤال والجواب نظر، لأن "حدث" ليس متعدياً إلى مفعولين، بل هو متعد إلى مفعول واحد، والمحذوف الذي صرح بذكره هاهنا هو المفعول به، وأما المذكور وهو {أَخْبَارَهَا} فمفعول مطلق، وهما لا يُسميان مفعولين في اصطلاح النحاة. نعم، إذا ذُكرت خصوصية المصدر في هذا الباب جُعل منصوباً، ويسميه بعض النحاة حينئذ مفعولاً ثانياً وثالثاً، نحو: حدثت زيداً عمراً قائماً، ويقال حينئذ: هو متعد إلى ثلاثة مفاعيل، وقد ذُكر وحُقق في موضعه أنه ليس كذلك، وأنه متعد إلى واحد، وأن "زيداً قائماً" نصبا لوقوعهما موقع المصدر. وأما إذا ذُكر المصدر بلفظه نحو: حدثته حديثاً وخبراً، فلا يقول أحد/ إنه متعد إلى مفعولين.
والدليل على ما ذكرنا أن ابن الحاجب بعدما بين أن "زيداً قائماً" نُصب في مثل هذا الموضع لوقوعه موقع المصدر، لا لكونه مفعولاً ثانياً وثالثاً، قال:"بقى أن يقال: كيف يصح أن يقع ما ليس بفعل في المعنى مصدراً، وهو المفعول الثاني والثالث؟ " ثم قال: "والجواب عنه أنه لم يكن مصدراً باعتبار كونه زيداً قائماً، ولكن باعتبار كونه حديثاً مخصوصاً، فالوجه الذي صح الإخبار به عن الحديث إذا قلت: حدثني زيد عمرو منطلق، هو الذي صحح وقوعه مصدراً".
وقلت: ويمكن أن يقال: إن "حدثت وأخواتها" متعديات إلى مفعول واحد حقيقة، وجعلها متعديات إلى ثلاثة أو إلى اثنين تجوز أو تضمين؛ قال في "المفصل": "حدثت
قلت: قد حذف أوّلهما، والثاني:(أخبارها)، وأصله تحدث الخلق أخبارها؛ إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيما لليوم.
فإن قلت: بم تعلقت الباء في قوله: (بِأَنَّ رَبَّكَ)؟
قلت: بتحدّث، معناه: تحدّث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث. ويجوز أن يكون المعنى: يومئذ تحدث بتحديث أنّ ربك أوحى لها أخبارها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أُجري مجرى أعلمت لموافقته له في معناه، فعُدي بتعديه". قال صاحب "الإقليد":"الأصل في أنبأ ونبأ، وأخبر وخبر، التعدي إلى مفعول واحد، نحو: أنبأت زيداً بكذا، ثم حُذف الجار فيقال: أنبأته كذا، وفي التنزيل: {مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا} [التحريم: 3]، أي: بهذا، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر: 49]؛ فإذا عُديت إلى ثلاثة، فليس إلا لإجرائها مجرى أعلمت". فظهر أن سؤال المصنف مبني على هذا، وجوابه يدل عليه حيث صرح بقوله:"كأنه قيل: يومئذ تحدث أخبارها، بأن ربك أوحى لها؛ لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا".
قوله: (إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار)، أي: الغرض في الآية هو المفعول الثاني لا الأول، لأن السورة مسوقة في هول القيامة، أي: يوم عظيم تحدث فيه الجمادات.
قوله: (يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها)، والظاهر أن الباء على هذا كالباء في قولك: لئن لقيت فلاناً، لتلقين به رجلاً متناهياً في الخير. المعنى: يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها المتناهية في بابها، فيكون من باب التجريد، ولذلك قال:"على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها: تحديث بأخبارها"؛ قال في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} إلى قوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]: "أراد
على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها: تحديث بأخبارها، كما تقول: نصحتني كل نصيحة، بأن نصحتني في الدين. ويجوز أن يكون (بِأَنَّ رَبَّكَ) بدلًا من (أَخْبارَها) كأنه قيل: يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها؛ لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا، و (أَوْحى لَها) بمعنى أوحى إليها، وهو مجاز كقوله:(أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)] يس: 82 [قال:
أوحى لها القرار فاستقرّت
وقرأ ابن مسعود: (تنبئ أخبارها)، وسعيد بن جبير: تنبئ، بالتخفيف. يصدرون عن مخارجهم من القبور إلى الموقف، (أَشْتاتاً) بيض الوجوه آمنين؛ وسود الوجوه فزعين. أو يصدرون عن الموقف أشتاتًا يتفرق بهم طريقا الجنة والنار،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالثاني الأول بعينه، أي: أخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقاً غليظاً، وعليه المثال: نصحتني بكل نصيحة، بأن نصحتني في الدين؛ جرد من النصحية في الدين النصيحة الكاملة، وعليه قول الشاعر:
فأنالني كل المنى بزيارة كانت مخالسة كخطفة طائر
فلو استطعت إذا خلعت على الدجى لتطول ليلتنا سواد الناظر
قوله: (وهو مجاز)، أي استعار تمثيلية كما سبق في قوله:{كُن فَيَكُونُ} ؛ شبه إرادة إظهار ما فيها من الأحوال بما يُلقى إلى المأمور، لإظهار ما يراد منه من سراعة الامتثال.
ليروا جزاء أعمالهم. وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: (ليروا) بالفتح، وقرأ ابن عباس وزيد بن على:(يره) بالضم. ويحكى أنّ أعرابيا أخر (خَيْراً يَرَهُ) فقيل له: قدّمت وأخرت؛ فقال:
خذا بطن هرشى أو قفاها فإنّه
…
كلا جانبي هرشى لهنّ طريق
والذرّة: النملة الصغيرة، وقيل:(الذرّ) ما يرى في شعاع الشمس من الهباء.
فإن قلت: حسنات الكافر محبطة بالكفر، وسيئات المؤمن معفوّه باجتناب الكبائر، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرّ من الخير والشر؟
قلت: المعنى فمن يعمل مثقال ذرّة خيرًا من فريق السعداء، ومن يعمل مثقال ذرّة شرًا من فريق الأشقياء؛ لأنه جاء بعد قوله:(يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (خُذا بطن هَرشى) البيت، هَرشى: عقبة في طريق مكة قريبة من "الجُحفة" لها طريقات؛ يخاطب صاحبيه ويقول لهما: سيرا في بطن هذه الثنية أو في قفاها، فإن كلا الجانبين طريقاً للإبل، وهذا مثل فيما سهل الطريق من الجانبين. قيل: كان الأعرابي ظن أن التقديم والتأخير في هذا الموضع جائز وهو خطأ، فإنه غفل عن اللطائف القرآنية، ولا معنى لإيراد البيت في هذا المقام، فكان تركه أولى؛ لأن العناية منوطة بالخير، والشر عارض، قال القاضي في قوله تعالى:{مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم: 44 - 45]: " {لِيَجْزِيَ} علة لـ {يَمْهَدُونَ}، والاقتصار على جزاء المؤمن للإشعار بأنه المقصود بالذات".
قوله: (لأنه جاء بعد قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} ، يعني:{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} تفصيل للناس، وهم فريقان: السُّعداء والأشقياء، أي: الآية مختصة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الانتصاف: "سؤاله مبني على قاعدتين:
إحداهما: أن حسنات الكافر مُحطبة بالكفر وفيه نظر؛ فإن أريد به أنها لا يثاب بها فصحيح، وأما تخفيف العذاب فغير مُسلم، وقد وردت فيه الأحاديث أن حاتماً يُخفف الله عنه لكرمه، وفي حق أبي طالب وغيره، فلها أثر في تخفيف العذاب.
وثانيتهما: أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر، فهو خلاف مذهب أهل السنة؛ فتكفير الصغائر بأحد أمرين، إما بالتوبة، وإما بمشيئة الله بالمغفرة؛ فهذا السؤال ساقط عندنا".
وقال الإمام: "يجوز أن يقال: إن حسنات الكافر وإن كانت مُحبطة بكفره، لكن الموازنة معتبرة عندكم، فبقدر تلك الحسنات ينحط من عقاب كفره، وكذا القول في الجانب الآخر، فلا يكون ذلك قادحاً في عموم الآية".
وقلت: الآية تحتمل معنيين: أن يراد بإحدى القرينتين السعداء وبالأخرى الأشقياء لتكرير الموصول، وأن يراد العموم في كل قرينة كما يقال: فمن يعمل مثقال ذرة من المؤمنين والكافرين خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة من المؤمنين والكافرين شراً يره. وعلى الأول ورد كلام المصنف، وما روى محيي السنة والإمام عن محمد بن كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر، فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله، حتى يلقى الآخرة وليس له فيها خير. ومن يعمل مثقال ذرة من شر وهو مؤمن، كُفر ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله، حتى بلغ الآخرة وليس له فيها شر. لكن قصد المصنف في ذلك إدخال مرتكب الكبيرة في زمرة الكفار والأشقياء، لأن حسنات مرتكب الكبيرة محبطة به فلا يرى غير الشر، كما أن صغائر مجتنب الكبائر مكفرة به، فلا يرى غير الخير، يُعلم ذلك من سؤاله. وعلى الثاني ما رواه الواحدي عن مقاتل: فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرة خيراً،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يره يوم القيامة فيفرح به، وكذلك الشر فيراه في كتابه، فيسوؤه ذلك. وروى محيي السنة والإمام عن ابن عباس: ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيراً كان أو شراً، إلا أراه الله تعالى إياه؛ فأما المؤمن فتغفر له سيئاته ويُثيبه بحسناته، وأما الكافر فتُرد حسناته ويعذب بسيئاته. وهذا الاحتمال يساعده النظم والمعنى والأسلوب.
أما النظم، فإن قوله {فَمَن يَعْمَلْ} كما سبق، تفصيل لما عقب به من قوله {يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} ، فيجب التوافق. والأعمال جمع مضاف يفيد الشمول والاستغراق، {يَصْدُرُ النَّاسُ} مقيد بقوله {أَشْتَاتًا} ، فيفيد أنهم على طرائق شتى للنزول في منازلهم من الجنة والنار، بحسب أعمالهم المختلفة، ومن ثم كانت الجنة ذات درجات، والنار ذات دركات.
وأما المعنى، فإنها وردت لبيان الاستقصاء في عرض الأعمال والجزاء عليها، لقوله تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
وأما الأسلوب، فإنها من الجوامع الحاوية لفوائد الدين أصولاً وفروعاً، روينا عن البخاري ومسلم عن أبي هريرة: سُئل رسول الله? عن الحمر، فقال: لم ينزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة، فتلاها.
قوله: عن الحُمر، أي: عن صدقة الحُمر. والفاذة: أي المنفردة في معناها؛ فذ الرجل عن أصحابه إذا شذ عنهم. وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق، أنه
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (إذا زلزلت) أربع مرات، كان كمن قرأ القرآن كله» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ الآية، فقال: حسبي، لا أبالي أن لا أسمع غيرها. وفي "الحقائق": قيل لبعض الحكماء: عظ، فتلا الآية. فقال السائل: فقد انتهيت الموعظة.
قوله: (من قرأ [سورة]{إِذَا زُلْزِلَتِ} أربع مرات، روينا عن الترمذي، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله? : "من قرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ} عُدلت له بنف القرآن".
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة (والعاديات)
مختلف فيها، وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)] 1 - 11 [.
أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح، والضبح: صوت أنفاسها إذا عدون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة {وَالْعَادِيَاتِ}
مدنية، وهي إحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (والضبح: صوت أنفاسها)، الراغب:"قيل: الضَّبح: صوت أنفاس الفرس تشبيهاً بالضُّباح، وهو صوت الثعلب. وقيل: هو الخفيف العدو، وقد يقال ذلك للعدو. وقيل: الضبح كالضبع، وهو مد الضبعة في العدو، وشُبه عدوه به كتشبيهه بالنار في كثرة حركاتها". وع بعضهم: ضبح الخيل في عدوها: إذا سُمع من أفواهها صوت ليس بصهيل ولا حمحمة، يعني: أنهن يضبحن في المعركة عند الكر والفر.
وعن ابن عباس أنه حكاه فقال: أح أح. قال عنترة:
والخيل تكدح حين تضـ
…
ـبح في حياض الموت ضبحا
وانتصاب ضبحًا على: يضبحن ضبحًا، أو بالعاديات، كأنه قيل: والضابحات؛ لأن الضبح يكون مع العدو، أو على الحال، أي: ضابحات. (فَالْمُورِياتِ) تورى نار الحباحب وهي ما ينقدح من حوافرها، (قَدْحاً) قادحات صاكات بحوافرها الحجارة. والقدح: الصك، والإيراء: إخراج النار؛ تقول: قدح فأورى، وقدح فأصلد، وانتصب قدحًا بما انتصب به ضبحًا. (فَالْمُغِيراتِ) تغير على العدو، (صُبْحاً) في وقت الصبح. (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) فهيجن بذلك الوقت غبارًا. (فَوَسَطْنَ بِهِ) بذلك الوقت، أو بالنقع، أي: وسطن النقع الجمع. أو فوسطن ملتبسات به (جَمْعاً) من جموع الأعداء. ووسطه بمعنى توسطه. وقيل: الضمير لمكان الغارة، وقيل: للعدو الذي دلّ عليه (وَالْعادِياتِ) ويجوز أن يراد بالنقع: الصياح،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (نار الحُباحب)، الجوهري:"الحُباحب: اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلا ناراً ضعيفة مخافة الضيفان، فضربوا بها المثل حتى قالوا: نار الحُباحب لما تقدحه الخيل بحوافرها".
قوله: (فأصلد)، الجوهري:"صَلَد الزَّند يَصلد - بالكسر - صُلوداً: إذا صوت ولم يُخرج ناراً، وأصلد الرجل، أي: صلد زنده".
قوله: (وقيل: الضمير لمكان الغارة)، قال الفراء:"الضمير في {بِهِي} للمكان الذي انتهى إليه، والموضع الذي تقع فيه الإغارة، لأن في قوله {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا}، دليلاً على أن الإغارة لا بد لها من موضع". وقال الواحدي: "يقال: وسطت المكان، أي: صرت في وسطه، يعني: صرن بعدوهن وسط جمع العدو".
من قوله عليه السلام: (ما لم يكن نقع ولا لقلقة)، وقول لبيد:
فمتى ينقع صراخ صادق
أي: فهيجن في المغار عليهم صياحًا وجلبة. وقرأ أبو حيوه: (فأثرن) بالتشديد، بمعنى: فأظهرن به غبارًا؛ لأن التأثير فيه معنى الإظهار، أو قلب ثورن إلى وثرن، وقلب الواو همزة، وقرئ:(فوسطن) بالتشديد للتعدية، والباء مزيدة للتوكيد، كقوله:(وَأُتُوا بِهِ)] البقرة: 25 [وهي مبالغة في وسطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما لم يكن نقع ولا لقلقة)، وفي "الاستيعاب" قال:"بلغ عمر بن الخطاب، أن نسوة من نساء بني المغيرة اجتمعن في دار يبكين على خالد بن الوليد، فقال عمر: وما عليهن أن يبكين أبا سليمان، ما لم يكن نقع أو لقلقة".
النهاية: "وفي حديث عمر رضي الله عنه: ما عليهم أن يسفكن من دموعهن على أبي سليمان، ما لم يكن نقع ولا لقلقة، يعني: خالد بن الوليد. النَّقع: رفع الصوت، وقيل: شق الجيوب، وقيل: وضع التراب على الرأس من النقع: الغبار، وهو أولى؛ لأنه قرن به اللَّقلقة، وهي الصوت، فحمل اللفظين على المعنيين أولى من معنى واحد".
قوله: (فمتى ينقع صراخ صادق)، وتمامه في "الصحاح":
يُحلبوه ذات جرس وزجل
"الحلبة: خيل تُجمع للسباق من كل أوب، ولا تخرج من إصطبل واحد، كما يقال للقوم إذا جاؤوا من كل أوب للنُّصرة: قد أحلبوا".
قوله: (وقرئ: "فوسطن" بالتشديد)، قال ابن جني: "قرأها علي رضي الله عنه وابن أبي ليلى وقتادة، أي: أثرن باليد نقعاً، ووسطن بالعدو جمعاً، فأضمر المصدر لدلالة اسم الفاعل،
وعن ابن عباس: كنت جالسًا في الحجر فجاء رجل فسألني عن (الْعادِياتِ ضَبْحاً) ففسرتها بالخيل، فذهب إلى علىّ وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت، فقال: ادعه لي، فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر، وما كان معنا إلا فرسان: فرس للزبير وفرس للمقداد (الْعادِياتِ ضَبْحاً) الإبل من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى؛ فإن صحت الرواية فقد استعير الضبح للإبل، كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمهر، والثفر للثورة وما أشبه ذلك. وقيل: الضبح لا يكون إلا للفرس والكلب والثعلب. وقيل: الضبح بمعنى الضبع، يقال: ضبحت الإبل وضبعت إذا مدت أضباعها في السير، وليس بثبت. وجمع: هو المزدلفة.
فإن قلت: علام عطف (فَأَثَرْنَ)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما أُضمر لدلالة الفعل عليه في قوله: من كذب كان شراً له، أي: كان الكذب شراً له. فأما "وسطن" بالتشديد، فعلى معنى: ميزن به جمعاً، أي: جعلنه شطرين، "قسمين، شقين".
قوله: (إن كانت لأول غزوة)، "إن" مخففة من الثقيلة، واسم "كانت" ضمير الآية، و"بدر" خبر مبتدأ محذوف، غير منصرف في الأصح كقوله تعالى:{ادْخُلُوا مِصْرَ} [يوسف: 99]، للعلمية والتأنيث.
قوله: (والثَّفر للثورة)، الجوهري: "الثَّفر للسباع وكل ذات مخلب، بمنزلة الحياء من الناقة، وربما استعير لغيرها، قال الأخطل:
جزى الله عنا الأعورين ملامة وفروة ثفر الثورة المتضاجم
نصب "ثفر الثورة" بدلاً من "فروة" وهو لقبه، وخفض "المتضاجم" وهو من صفى الثفر على الجوار، كقولك: جُحر ضب خرب". وهو من الأضجم، أي: مُعوج الفم.
قلت: على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه؛ لأنّ المعنى: واللاتي عدون فأورين، فأغرن فأثرن. الكنود: الكفور، وكند النعمة كنودًا، ومنه سمي: كندة؛ لأنه كند أباه ففارقه. وعن الكلبي: الكنود بلسان كندة: العاصي، وبلسان بني مالك: البخيل، وبلسان مضر وربيعة: الكفور، يعنى: أنه لنعمة ربه خصوصًا لشديد الكفران؛ لأن تفريطه في شكر نعمة غير الله تفريط قريب لمقاربة النعمة، لأن أجلّ ما أنعم به على الإنسان من مثله نعمة أبويه، ثم إن عظماها في جنب أدنى نعمة الله قليلة ضئيلة. (عَلى ذلِكَ) على كنوده، (لَشَهِيدٌ) يشهد على نفسه ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره. وقيل: وإنّ الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد. (الْخَيْرِ) المال من قوله تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً)] البقرة: 180] .......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه)، الانتصاف:"والحكمة في مجيئه فعلاً تصوير هذه الأفعال في النفس؛ فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم، لما بينهما من التخالف، وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتباينة، وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي".
وقلت: وحظ هذا المقام من الفائدة، أنها إنما وصفت بالأوصاف الثلاث، ليرتب عليها ما قُصد من الظفر بالفتح وغلبة العدو، فأوقع الفعلين الماضيين مُسببين عن أسماء الفاعلين، فأفاد أن تلك المداومة إنما حققت هاتين البُغيتين.
قوله: (لأن تفريطه) تعليل لقوله: "إنه لنعمة ربه خصوصاً لشديد الكفران"، ومعنى الاختصاص مستفاد من تقديم معمول "لكنود" عليه، ومعنى الشدة من بناء "كنود" من "فعول"، وتصدر الجملة بإن واللام في الخبر.
قوله: (تفريط قريب)، أي: غير مجاوز للحد، وقوله:"لمقاربة" تعليل لقوله: "قريب"؛ من قولهم: شيء مقارب ومؤام وأمم، أي: وسط بين الجيد والرديء.
قوله: ({الْخَيْرِ}: المال)، الراغب: "الخير: ما يرغب فيه الكل، كالعقل والعدل والفضل والشيء النافع والشر ضده.
والشديد: البخيل الممسك، يقال: فلان شديد ومتشدّد. قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى
…
عقيلة مال الفاحش المتشدد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: الخير ضربان: خير مطلق، وهو أن يكون مرغوباً فيه بكل حال، وعند كل أحد، كما ورد في وصف الجنة:"لا خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجنة". وخير وشر مقيدان، وهو أن يكون خيراً لواحد شراً لآخر، كالمال ربما كان خيراً لزيد وشراً لعمرو، ولذلك وصفه الله تعالى بالأمرين فقال في موضع:{إِن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، أي: مالاً، وقال في آخر:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 55 - 56].
وقال بعض العلماء: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيراً ومن مكان طيب؛ روي أن علياً رضي الله عنه دخل على مولى له، فقال له: ألا أوصي؟ قال: لا، لأن الله تعالى قال:{إِن تَرَكَ خَيْرًا} ، وليس لك مال كثير، وعلى هذا قوله:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ، أي: للمال الكثير. والاختيار طلب ما هو خير، وقد يقال لما يراه الإنسان خيراً وإن لم يكن خيراً. والمختار في عُرف المتكلمين، يقال لكل فعل يفعله الإنسان لا على سبيل الإكراه، فقولهم: هو مختار في كذا، فليس يريدون به ما يراد بقولهم: فلان له اختيار؛ فإن الاختيار أَخذ ما يراه الخير".
قوله: (شديد ومُتشدد)، الراغب:"الشديد والمتشدد: البخيل، فالشديد يجوز أن يكون بمعنى مفعول كأنه شُد، كما يقال: غُل عن الأفضال، وإلى نحو هذا أشار بقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64]. ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كالمتشدد، كأنه شد صُرَّتَه".
قوله: (أرى الموت يعتام) البيت، يعتام: يختار، وعقيلة كل شيء أكرمه، والفاحش: البخيل الذي جاوز الحد في البخل. يقول: أرى الموت يختار كرام الناس، وكرائم الأموال التي يُضن بها.
يعني: وإنه لأجل حب المال، وأن إنفاقه يثقل عليه، لبخيل ممسك. أو أراد بالشديد: القوى، وأنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوى مطيق، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس. تقول: هو شديد لهذا الأمر، وقوىّ له: إذا كان مطيقًا له ضابطًا. أو أراد: أنه لحب الخيرات غير هش منبسط، ولكنه منقبض. (بُعْثِرَ) بعث. وقرئ: بحثر وبحث، وبحثر، وحصل على بنائهما للفاعل. وحصل: بالتخفيف. ومعنى (حُصِّلَ) جمع في الصحف، أي: أظهر محصلًا مجموعًا. وقيل: ميز بين خيره وشره، ومنه قيل للمنخل: المحصل. ومعنى علمه بهم يوم القيامة: مجازاته لهم على مقادير أعمالهم؛ لأنّ ذلك أثر خبره بهم. وقرأ أبو السمال: (إنّ ربهم بهم يومئذ خبير).
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من قرأ سورة "والعاديات"، أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً» .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومعنى "حُصل" جُمع في الصحف، أي: مُحصلاً مجموعاً)، الراغب: "التحصيل: إخراج اللُّب من القشور، كإخراج الذهب من حجر المعدن، والبُّر من التبن، قال تعالى:{وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} ، أي: أُظهر ما فيها وجُمع، كإظهار اللُّب من القشر وجمعه، أو كإظهار الحاصل من الحساب. وحوصلة الطير: ما يحصل فيه الغذاء؟ .
قوله: (ومعنى علمه بهم يوم القيامة)، قيل: فيه إشارة إلى أن قوله تعالى: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} ، وهو العامل في "إذا" ومفعولاه محذوفان، أي: أفلا يعلمهم عاملين ما عملوا إذا بُعثر؟ أي: أفلا يجازيهم إذا بعثر؟ أو يقول: أُجري العلم مجرى الفعل اللازم، أي: أفلا يكون له العلم في هذه الحال؟ أي: أفلا يجازيهم حينئذ؟ يعني: يُجازيهم؛ ثم حقق ذلك بقوله: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو البقاء: "العامل في {إِذَا بُعْثِرَ}: "يعلم"، وقيل: العامل فيه ما دل عليه خبر "إن"، وهو "لخبير". والمعنى: إذا بُعثر جُوزوا".
وقال صاحب "الكشف": "لا يجوز أن يعمل فيه "لخبير" بنفسه، لأن ما بعد "إن" لا يعمل فيما قبله".
الجوهري: "يقال: من أين خبرت هذا الأمر؟ أي: من أين علمت؟ والاسم: الخُبر بالضم، وهو العلم بالشيء، والخبير: العالم".
قال الإمام: "دلت هذه الآية على أنه تعالى عالم بالجزيئات الزمانيات وغيرها، لأنه تعالى نص على كونه عالماً بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم، فكيف لا يكون منكره كافراً؟ ".
[تمت السورة]
*
…
*
…
*
سورة القارعة
مكية، وهي عشر آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ)] 1 - 11 [
الظرف نصب بمضمر دلت عليه القارعة، أي: تقرع (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب، كما يتطاير الفراش إلى النار؛ قال جرير:
إنّ الفرزدق ما علمت وقومه
…
مثل الفراش غشين نار المصطلي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة القارعة
مكية، وهي عشر آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (إن الفرزدق) البيت، ما علمت: أي الذي علمته، وهي معترضة. يهجوه وقومه،
وفي أمثالهم: أضعف من فراشةٍ وأذل وأجهل، وسمى فراشًا لتفرّشه وانتشاره. وشبه الجبال بالعهن وهو الصوف المصبغ ألوانًا؛ لأنها ألوان، وبالمنفوش منه؛ لتفرق أجزائها. وقرأ ابن مسعود:(كالصوف). الموازين: جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، أو جمع ميزان. وثقلها: رجحانها؛ ومنه حديث أبى بكر لعمر رضى الله عنهما في وصيته له: (وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقلها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلا الحسنات أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه لاتباعهم الباطل وخفتها في الدنيا، وحق لميزان لا توضع فيه إلا السيئات أن يخف)(فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة: هوت أمّه؛ لأنه إذا هوى أي: سقط وهلك، فقد هوت أمّه ثكلًا وحزنًا قال:
هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا
…
وماذا يردّ اللّيل حين يثوب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: إنهم ضعفاء أذلاء جهلاء، أمثال الفراش غشين، أي: حضرن في غشوة الليل نار الذي يصطلي بها الشاعر وهو جرير. وقيل: غشين: اقتحمن. قيل: "ما" في "ما علمت": مصدرية، والمدة معه مقدرة، أي: أن الفرزدق وقومه دوام علمي بهم ضعفاء.
قوله: (ومنه حديث أبي بكر رضي الله عنه، الحديث رواه صاحب "جامع الأصول"، عن رزين العبدري، وذكرناه بتمامه في "الأعراف".
قوله: (هوت أمه) البيت، قائله: كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه. ما يبعث، من المبعث: من النوم، والغادي: الذي يغدو، وهو حال. وهوت أمه: دعاء لا يراد به الوقوع، بل التعجب والمدح، أي: أي شيء يبعث الصُّبح منه حين يغدو، وأي شيء يرد الليل منه
فكأنه قيل: وأما من خفت موازينه فقد هلك. وقيل: (هاوِيَةٌ) من أسماء النار، وكأنها النار العميقة لهوى أهل النار فيها مهوى بعيدًا، كما روى:(يهوى فيها سبعين خريفا) أي: فمأواه النار. وقيل: للمأوى: أمّ، على التشبيه؛ لأنّ الأمّ مأوى الولد ومفزعه. وعن قتادة: فأمّه هاوية، أي: فأمّ رأسه هاوية في قعر جهنم، لأنه يطرح فيها منكوسًا. (هِيَهْ) ضمير الداهية التي دلّ عليها قوله:(فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) في التفسير الأوّل، أو ضمير (هاوية)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حين يرجع، وحُذف لفظة "منه" في الموضعين لدلالة الكلام عليها، كما حُذف من قوله: السمن منوان بدرهم، وفيه معنى التجريد، أي: يبعث الصبح منه مغيراً والليل غانماً.
قوله: (سبعين خريفاً)، عن بعضهم: عُبر بالخريف عن السنة، لأن الثمار والزروع تنمو في هذا الوقت، ويُعبر بآخر الوقت عن كله.
قوله: (في التفسير الأول)، أي: إذا فُسر "أمه هاوية" بالدعاء، ومن قولهم: هوت أمه؛ وإنما جُعل الضمير للداهية، لأن الشخص إذا سقط وهلك وصارت أمه ثكلى وخزيا، فقد أصابته الداهية. وعلى التفسير الثاني: أمه بمعنى المأوى، و {هَاوِيَةٌ} من أسماء النار. وأظهر التفسيرين الأول، لأن {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} مقابل لقوله:{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} ، والهلاك أنسب إلى العيش لأنه الحياة المختصة بالحيوان، فكما بولغ في القرينة التالية بما أردف به، بولغ في السابقى بالإسناد المجازي.
الراغب: "العيش: الحياة المختصة بالحيوان، وهو أخص من الحياة، لأن الحياة تقال في الحيوان، وفي الباري تعالى، وفي الملك، ويُشتق منه المعيشة لما يتعيش منه، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32]. وقال في أهل الجنة: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}، وقال? في الحديث: "لا عيش إلا عيش الآخرة".
والهاء للسكت، وإذا وصل القارئ حذفها. وقيل: حقه أن لا يدرج لئلا يسقطها الإدراج؛ لأنها ثابتة في المصحف، وقد أجيز إثباتها مع الوصل.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "القارعة"، ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والهاء للسَّكت، وإذا وصل القارئ حذفها)، قال في "المرشد":{مَا هِيَهْ} : وقف كاف. وقال أبو حاتم: وقف جيد، ثم فُسر بقوله:{نَارٌ حَامِيَةٌ} . والله أعلم.
[تمت السورة]
*
…
*
…
*
سورة التكاثر
مكية، وهي ثماني آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)] 1 - 8 [.
ألهاه عن كذا وأقهاه: إذا شغله. و (التَّكاثُرُ) التباري في الكثرة والتباهي بها، وأن يقول هؤلاء: نحن أكثر، وهؤلاء: نحن أكثر. روى أن بني عبد مناٍف وبني سهٍم تفاخروا أيهم أكثر عددًا، فكثرهم بنو عبد مناف فقالت بنو سهم: إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادّونا بالأحياء والأموات، فكثرتهم بنو سهم .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة التكاثر
مكية، وهي ثماني آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (فكثرتهم بنوسهم)، أي: غلبوهم بالكثرة، من قولهم: كاثرته فكثرته. والتكاثر تكلف الكثرة مالاً وعدداً.
والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى إذا استوعبتم عددهم صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات؛ عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكمًا بهم. وقيل: كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلاٍن وهذا قبر فلاٍن عند تفاخرهم. والمعنى: ألهاكم ذلك وهو مما لا يعنيكم ولا يجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم عما يعنيكم من أمر الدين الذي هو أهم وأعنى من كل مهم. أو أراد: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم، منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاستباق إليها والتهالك عليها، إلى أن أتاكم الموت لا همّ لكم غيرها، عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم والعمل لآخرتكم. وزيارة القبور: عبارة عن الموت؛ قال:
لن يخلص العام خليل عشرا
…
ذاق الضّماد أو يزور القبرا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات)، فعلى هذا، {الْمَقَابِرَ} كناية عن الانتقال من ذكر الأحياء إلى ذكر الأموات تفاخراً؛ وإنما كان تهكماً، لأن زيارة القبور شُرعت لتذكر الموت، ورفض حب الدنيا، وترك المباهاة والتفاخر. وهؤلاء عكسوا، جيث جعلوا زيارة القبور سبباً لمزيد القسوة، والاستغراق في حب الدنيا، والتفاخر في الكثرة. روينا عن مسلم وأبي داود والنسائي، عن بريدة قال: قال رسول الله? : "نهيتكم عن زيارة القبور؛ فزوروها". وفي رواية أبي داود: "فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة".
قوله: (أو أراد: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم)، فحاصل الوجوه الثلاثة راجع إلى أن المراد بالزيارة، إما الانتقال من الذكر إلى الذكر، أو إلى حقيقة الزيارة، أو إلى الموت. و"مُنفقين" حال من {أَلْهَاكُمُ} ، و"عما هو أولى بكم" متعلق بألهاكم.
قوله: (لن يخلص العام)، البيت قال في "الفائق": "ضمد المرأة جمعها واتخاذها
وقال:
زار القبور أبو مالك
…
فأصبح الأمّ زوّارها
وقرأ ابن عباس: (أألهاكم)؟ على الاستفهام الذي معناه التقرير. (كَلَّا): ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه ولا يهتم بدينه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخليلين"، قال أبو ذؤيب:
تُريدين كيما تضمديني وخالداً وهل يُجمع السيفات ويحك في غمد
قائله: مقداد بن حسان الزُّبيري، قبله:
إني رأيت الضَّمد شيئاً نُكرا
وكانت المرأة في الجاهلية تتخذ سوى زوجها خليلاً، وهو الضَّمد.
قوله: (عشراً)، أي: عشر ليال، وروي بكسر العين، أي: معاشرة، والمعاشرة: المخالطة، وكذلك التعاشر، والاسم: العِشرة. والخليل: الزوج. المعنى: لن يُخلص زوج معاشرة امرأة عشر ليال، إلا أن يموت. ذاق الضماد: صفة الخليل.
قوله: ({كَلَّا}: ردع وتنبيه)، أي: رد للكلام السابق، وتنبيه على ما دل عليه الكلام التالي، فاعتبر في {كَلَّا} كلا مفهوميه، قال الإمام: "كلا: متصل بما قبله على وجه الرد والتكذيب، أي: ليس الأمر كما يتوهمه هؤلاء من أن السعادة الحقيقية بكثرة العدد والأموال
(سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إنذار ليخافوا فينتبهوا من غفلتهم. والتكرير: تأكيد للردع والإنذار عليهم. و (ثُمَّ) دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل وأشد، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقول لك: لا تفعل، والمعنى: سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدّامكم من هول لقاء الله، وإنّ هذا التنبيه نصيحة لكم ورحمة عليكم. ثم كرّر التنبيه أيضًا وقال:(لَوْ تَعْلَمُونَ) محذوف الجواب، يعنى: لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين، أي: كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور التي وكلتم بعلمها هممكم، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأولاد، ومتصل بما بعده على معنى: حقاً سوف تعلمون، لكن حين يصير الفاسق تائباً، والكافر مسلماً، والحريص زاهداً". وفي كلام المصنف إشعار بهذين المعنيين.
الكواشي: "الوقف على {الْمَقَابِرَ}: تام، إن جعل {كَلَّا} تنبيهاً، وإن جعل ردعاً، الوقف على {كَلَّا} ".
فإن قلت: على ما ذهب إليه المصنف، يلزم استعمال اللفظ المشترك في كلا معنييه المخالف. قلت: ليس كذلك؛ إذ المراد أنه إذا ابتدئ بها وقع الاستئناف عندها، فيقدر السؤال: فما جزاء هؤلاء الغفلة، وما يقال في حقهم؟ فيجاب: حقاً سيعلمون مآل حالهم حين يرون الجحيم، ففي الكلام ردع من حيث المعنى. وإذا وُقف عليها يقع السؤال بعدها، أي: فما يُفعل بهؤلاء المطرودين الذين ارتدعوا؟ فيقال: سوف يعلمون ما يُفعل بهم حين يرون الجحيم؛ فالكلام مستلزم للتنبيه من حيث المعنى. قال صاحب "المرشد": "حتى زرتم المقابر: وقف تام، وتبتدئ {كَلَّا} في معنى التهديد والوعيد".
قوله: (يعني: لو تعلمون ما بين أيديكم)، قيل: المراد بالعلم هاهنا: هو علم الشيء في نفسه، لا علمه على صفته.
لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه؛ ولكنكم ضلال جهلة؛ ثم قال: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) فبين لهم ما أنذرهم منه وأوعدهم به؛ وقد مرّ ما في إيضاح الشيء بعد إبهامه من تفخيمه وتعظيمه، وهو جواب قسم محذوف، والقسم لتوكيد الوعيد، وأن ما أوعدوا به ما لا مدخل فيه للريب؛ وكرره معطوفًا بثم تغليظا في التهديد وزيادة في التهويل. وقرئ:(لترؤن) بالهمز وهي مستكرهة.
فإن قلت: لم استكرهت والواو المضمومة قبلها همزة قياس مطرد؟
قلت: ذاك في الواو التي ضمتها لازمة، وهذه عارضة لالتقاء الساكنين. وقرئ:(لترون) و (لترونها) على البناء للمفعول، (عَيْنَ الْيَقِينِ) أي: الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصته. ويجوز أن يراد بالرؤية: العلم والإبصار (عَنِ النَّعِيمِ) عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ذاك في الواو التي ضمتها لازمة)، قال الزجاج:"القراءة: {لَتَرَوُنَّ}، بضم الواو غير مهموز، فضمت الواو لسكونها وسكون النون، وقد همزها بعضهم، والنحويون يكرهونها لأن ضمتها غير لازمة، لأنها حُركت لالتقاء الساكنين، ويهمزون الواو التي ضمتها لازمة، نحو: أدؤُر، جمع دار، ويجوز: أَدْوُر أيضاً".
قوله: (وقرئ: "لَتُرَونّ")، ابن عامر والكسائي: بضم التاء، والباقون: بفتحها. ولا خلاف في السبعة في قوله: {لَتَرَوُنَّهَا} بفتح التاء.
قوله: ({عَيْنَ الْيَقِينِ}: أي: الرؤية التي هي نفس اليقين)، قيل: أراد أن {عَيْنَ الْيَقِينِ} نُصب على المصدر، والعين هاهنا بمعنى نفس الشيء، كقولك: جاء زيد نفسه وعينه. والصواب أن الرؤية هاهنا بمعنى الإبصار لا العلم.
فإن قلت: ما النعيم الذي يسأل عنه الإنسان ويعاتب عليه؟ فما من أحد إلا وله نعيم؟
قلت: هو نعيم من عكف همته على استيفاء اللذات، ولم يعش إلا ليأكل الطيب ويلبس اللين، ويقطع أوقاته باللهو والطرب، لا يعبأ بالعلم والعمل، ولا يحمل نفسه مشاقهما؛ فأما من تمتع بنعمة الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلا لعباده، وتقوّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل، وكان ناهضًا بالشكر، فهو من ذاك بمعزل؛ وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى: أنه أكل هو وأصحابه تمرًا وشربوا عليه ماًء فقال: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ (ألهاكم التكاثر) لم يحاسبه الله بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا، وأعطى من الأجر كأنما قرأ ألف آية» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: هذا هو الذي أراده بقوله: "ويجوز أن يراد بالرؤية العلم والإبصار"، على العطف التفسيري. وقال القاضي:"عين اليقين: الرؤية التي هي نفس اليقين؛ فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين".
وقال شيخنا شيخ الإسلام قُدس سِره في "العوارف": "علم اليقين ما كان من طريق النظر والاستدلال، وعين اليقين ما كان من طريق الكشوف والنوال، وحق اليقين ما كان بتحقيق الانفصال عن لوث الصلصال، بورود رائد الوصال. وقال الجنيد: حق اليقين ما يتحقق العبد بذلك، وهو أن يُشاهد الغيوب كما يشاهد المرئيات مشاهدة عيان".
قوله: (هو نعيم من عكف همته على استيفاء اللذات)، قال القاضي: "الخطاب بقوله: {ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} ، مخصوص بكل من ألهاه دُنياه عن دينه، لا بالمؤمنين للقرينة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والنصوص الكثيرة، كقوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقوله:{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51]. وقيل: مخصوص بالكفار، وقيل: عام؛ إذ كل يُسأل عن شُكره".
وقلت: ويعضده ما روينا عن مسلم والترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة: خرج رسول الله? ، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: ما أخرجكما عن بيتكما؟ قالا: الجوع. قال: وأنا، والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما. فجاؤوا بيت أنصاري، فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورُطب وذبح لهم، فأكلوا من الشاة والعِذق وشربوا، فلما أن شبعوا وَرَوَوا، قال رسول الله? لهما:"والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة". الحديث مختصر.
وروى الواحدي عن مقاتل: "يعني كفار مكة، كانوا في الدنيا في الخير والنعمة، فيسألون يوم القيامو عن شُكر ما كانوا فيه ول يشكروا رب النعم، حيث عبدوا غيره وأشركوا به، ثم يُعذبون. هذا قول الحسن".
وقلت: ويؤيده أن الخطاب من أول السورة مع المتكاثرين والمتباهين وهم كفرة، على ما سبق. ولما كان الاشتغال بنعيم الدنيا من صفات الغافلين، ويجب على المؤمن أن يجتنب عن رذائل الأخلاق، غلظ رسول الله? حيث قال: لتُسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، لا أنه صلوات الله عليه فسر الآية بما قال.
تمت
*
…
*
…
*
سورة (والعصر)
مكية، وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)] 1 - 3 [
أقسم بصلاة العصر لفضلها، بدليل قوله تعالى:(وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)] البقرة: 238 [صلاة العصر، في مصحف حفصة، وقوله عليه الصلاة والسلام:«من فاتته العصر فكأنما وتر أهله وماله» ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة {وَالْعَصْرِ}
مكية، ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (فكأنما وُتر أهله وماله)، النهاية:"وتر: أي نقص، يقال: وترته إذا نقصته، فكأنك جعلته وتراً بعد أن كان كثيراً. وقيل: هو من الوتر: الجناية؛ فشُبه من فاتته صلاة العصر بمن قتل حميمه، أو سلب أهله وماله. ويروى بنصب الأهل ورفعهـ فمن نصب جعله مفعولاً ثانياً لوتر، وأضمر فيها مفعولاً لم يُسم فاعله عائداً إلى الذي فاتته الصلاة، ومن رفع لم يُضمر وأقام الأهل مقام ما لم يُسم فاعله، لأنهم المصابون المأخوذون؛ فمن رد النقص إلى الرجل نصبهما، ومن رده إلى الأهل والمال رفعهما".
ولأنّ التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار، واشتغالهم بمعايشهم. أو أقسم بالعشي كما أقسم بالضحى لما فيهما جميعًا من دلائل القدرة. أو أقسم بالزمان لما في مروره من أصناف العجائب. والإنسان: للجنس. والخسر: الخسران، كما قيل: الكفر في الكفران. والمعنى: أن الناس في خسران من تجارتهم إلا الصالحين وحدهم؛ لأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا، فربحوا وسعدوا، ومن عداهم تجروا خلاف تجارتهم، فوقعوا في الخسارة والشقاوة (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) بالأمر الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وهو الخير كله: من توحيد الله وطاعته، وإتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) عن المعاصي وعلى الطاعات، وعلى ما يبلو الله به عباده.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (والعصر)، غفر الله له، وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لتهافت)، وهو التساقط قطعة قطعة، وتهافت الفراش في النار: تساقط.
قوله: (أو أقسم بالزمان)، قال الزجاج: "والعصر: الدهر، والعصر: اليوم، والعصر: الليلة، قال حُميد بن ثور:
ولا يلبث العصران يوماً وليلةً إذا طُلبا أن يُدركا ما تيمما
قوله: ({وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: بالأمر الثابت) إلى آخره، الراغب:"الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقروناً بوعظ ونصيحة، من قولهم: أوض واصية: متصلة النبات، يقال: أوصاه ووصاه، وتواصى القوم: إذا أوصى بعضهم بعضاً"، يقال:"قدمت إليه بكذا، إذا أمرته قبل وقت الحاجة إلى الفعل".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: "الآية فيها وعيد شديد، لأنه حكم بالخسار في جميع الناس، إلا من كان آتياً بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فدل ذلك على أن النجاة تتعلق بمجموع هذه الأمور، وكما أنه يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه به، يلزمه في غيره: الدعاء إلى الدين، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يحب له ما يحب لنفسه. ثم كرر التواصي ليتضمن الأول الدعاء إلى الله، والثاني الثبات عليه".
[تمت السورة]
*
…
*
…
*
سورة الهمزة
مكية، وهي تسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)] 1 - 9 [.
الهمز: الكسر، كالهزم. واللمز: الطعن؛ يقال: لمزه ولهزه طعنه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الهمزة
مكية، تسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (الهُمز: الكسر)، عن بعضهم: الهمز كالعصر باليد، [يقال]: همزت الشيء في كفي، ومنه: الهمز في الحروف. وهمز الإنسان: اغتيابه، يقال: رجل هامز وهماز وهُمزة.
والمراد: الكسر من أعراض الناس والغض منهم، واغتيابهم؛ والطعن فيهم. وبناء (فعلة) يدل على أنّ ذلك عادة منه قد ضري بها. ونحوهما: اللعنة والضحكة، قال:
وإن أغيّب فأنت الهامز اللّمزه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والغض منهم)، الجوهري:"وغض منه يُغض بالضم، أي: وضع ونقص من قدره". وعن غيره: منه غض الطرف والصوت: خفضهما، وغض الملامة: كفها.
قوله: (وبناء فُعلة يدل على أن ذلك عادة منه)، الانتصاف:"ما أحسن مُقابلة الهُمزة واللُّمزة بالحُطمة، لأنه لما وسمه بهذه السمة، وبما يدل على الرسوخ والتمكن، توعد فيها بهذه الصفة ليحصل التعادل بين الفعل والجزاء".
وقلت: فيه لطيفة أخرى من حيث التعادل، وهي أن الهمز فيه معنى الكسر من الأعراض، والحطم فيه معنى الكسر من الأضلاع، والنبذ فيه استحقار واستقلال، لأنه كان يزعم أنه من أهل الكرامة، قال في قوله تعالى:{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [القصص: 40]: "شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم، بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر". روى الواحدي عن مقاتل: "هي تُحطم العظام، وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب".
قوله: (وإن أُغَيب فأنت الهامز اللُّمزة)، قيل: أوله:
تُدلي بودي إذا لاقيتني كذباً
وقرئ: (ويل للهمزة اللمزة)، وقرئ:(ويل لكل همزة لمزة) بسكون الميم، وهو المسخرة الذي يأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه ويشتم. وقيل: نزلت في الأخنس ابن شريق وكانت عادته الغيبة والوقيعة. وقيل: في أمية بن خلف. وقيل: في الوليد ابن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغضه منه.
ويجوز أن يكون السبب خاصًا والوعيد عامًا، ليتناول كل من باشر ذلك القبيح،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنشد الزجاج لزياد الأعجم:
إذا لقيتك عن سُخط تُكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللُّمزه
ابن السِّكيت: "الكشر: التبسم، يقال: كشر الرجل وافتر وابتسم، كل ذلك تبدو منه الأسنان".
قوله: (بالأوابد)، الأساس:"ومن المجاز: فلان مولع بأوابد الكلام، وهي غرائبه، وبأوابد الشِّعر، وهي التي لا تُشاكل جودة".
قوله: (ويجوز أن يكون السبب خاصاً والوعيد عاماً)، روى الإمام عن الفراء أنه قال:"كون اللفظ عاماً، لا ينافي أن يكون المراد منه شخصاً معيناً، كما أن إنساناً لو قال لك: لم أزرك أبداً، فتقول: كل من لم يزرني لا أزوره، وهو المسمى في "أصول الفقه" بتخصيص العام بقرينة العُرف".
وليكون جاريًا مجرى التعريض بالوارد فيه، فإنّ ذلك أزجر له وأنكي فيه. (الَّذِي) بدل من كل، أو نصب على الذم. وقرئ:(جمع) بالتشديد، وهو مطابق لـ (عدده).
وقيل: (عَدَّدَهُ) جعله عدة لحوادث الدهر. وقرئ: (وعدده) أي: جمع المال وضبط عدده وأحصاه، أو جمع ماله وقومه الذين ينصرونه، من قولك: فلان ذو عدد وعدد: إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم. وقيل: (وَعَدَّدَهُ) معناه: وعدّه على فك الإدغام، نحو: ضننوا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وليكون جارياً مجرى التعريض بالوارد فيه)، يعني: إذا كان الوارد منه الأخنس أو أمية أو الوليد، ويجاء باللفظ على العموم تعريضاً، كان أزجر له وأنكى فيه، إذ لم يصرح باسمه حتى يلبس لمن كافحه به جلد النمر، بل يبعثه على الفكر في أحوال نفسه، وأنه هل دخل في هذا العام أول الناس بما اغتاب به خير البرية ونقص من حقه؟ الأساس:"نكيت في العدو نكاية: إذا أكثرت الجراح فيهم، يقال: فلان قليل النكاية طويل الشكاية".
قوله: (أو نصب على الذم)، قيل: يجوز أن يكون صفة لـ "كُل" لأنه معرفة، كما ذكر في قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} : أن {مَّعَهَا سَائِقٌ} محلها النصب على الحال من {كُلُّ} ، لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حُكم المعرفة.
قوله: (ضننوا)، أي في قول الشاعر:
مهلاً أعاذل هل جربت من خلقي أني أجود لأقوام وإن ضننوا
(أَخْلَدَهُ) وخلده بمعنى أي: طوّل المال أمله، ومناه الأماني البعيدة، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أنّ المال تركه خالدًا في الدنيا لا يموت، أو يعمل من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجر وغرس الأشجار وعمارة الأرض، عمل من يظن أن ماله أبقاه حيًا. أو هو تعريض بالعمل الصالح، وأنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم؛ فأما المال فما أخلد أحدًا فيه. وروى أنه كان للأخنس أربعة آلاف دينار، وقيل: عشرة آلاف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقوله: "وقيل: {وَعَدَّدَهُ}، معناه: وعده" عطف على قوله: " {وَعَدَّدَهُ}، أي: جمع المال وضبط عدده" فعلى هذا: هو مفعول فعل محذوف على طريقة قوله
علفتها تبناً وماءً بارداً
قوله: (أو يعمل)، عطف على قوله:"يحسب"، وقوله:"أو هو تعريض" عطف على قوله: "أي: طول المال أمله"، إلى آخره، من حيث المعنى. ولذلك غير العبارة؛ فهو وجهان على تقدير وجوه ثلاثة، وتقرير ذلك أن "يحسب" حال من الضمير في "جمع"، والحُسبان: إما حسبان الخلود في الدنيا، أو في النعيم أبداً، كما قال القائل:{وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا} [الكهف: 36]، وقال العاص بن وائل:{وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77]. وعلى الأول: الحُسبان إما حقيقي؛ فهو المراد من قوله: "يحسب أن المال تركه خالداً في الدنيا"، أو مجازي؛ فهو المعنى بقوله:"أو يعمل من تشييد البنيان"، كما قال تعالى:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 128 - 129]. وعلى الثاني: في الآية تعريض.
وعن الحسن: أنه عاد موسرًا فقال: ما تقول في ألوف لم أفتد بها من لئيم ولا تفضلت على كريم؟ قال: ولكن لماذا؟ قال: لنبوة الزمان، وجفوة السلطان، ونوائب الدهر، ومخافة الفقر. قال: إذن تدعه لمن لا يحمدك، وترد على من لا يعذرك. (كَلَّا) ردع له عن حسبانه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم المناسب على الأول أن يجعل {الَّذِي} بدلاً من {كُلِّ} ، لأن المعنى: ويل للذي جمع مالاً وعدده، وطول بعد ذلك أمله ووقع في الغرور، لأنه حسب أن ماله تركه خالداً في الدنيا. وعلى الثاني أن يجعل نصباً على الذم، لأن المعنى: ويل للطاعن الفاسق، أعني: الذي جرأه على الطعن والفسق، جمع المال والاعتماد على الرجال، ومع ذلك يحسب أن ماله يُخلده في النعيم، {كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} ؛ بل الذي يُخلد صاحبه في النعيم المقيم في الجنة، هو العمل الصالح، كقوله تعالى:{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]، فحينئذ يحصل من الوجهين نشر لما لف في قوله:"الذي: بدل من "كل"، أو نصب على الذم"، والله أعلم.
قوله: (لم أفتد بها من لئيم)، أي: ما جعلت مالي فداءً لعرضي منه لأسلم من أذاه، وأنشد:
أصون عرضي بمالي لا أُدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال
قوله: (لنبوة الزمان)، الأساس:"نبا عني فلان: فارقني، وبيني وبينه نبوة، وهو يشكو نبوة الزمان وجفوته".
قوله: ({كَلَّا}: ردع له عن حُسبانه)، قال الإمام:"أي ليس كما ظن أن المال والعدد يُخلِد، بل العلم والصلاح، قال علي رضي الله عنه: "مات خزان المال وهم أحياء والعلماء
وقرئ: (لينبذان) أي: هو وماله. و (لينبذن)، بضم الذال، أي: هو وأنصاره، و (لينبذنه)، (فِي الْحُطَمَةِ) في النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها. ويقال للرجل الأكول: إنه لحطمة. وقرئ: (الحاطمة) يعنى أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد، ولا أشد تألمًا منه بأدنى أذًى يمسه، فكيف إذا اطلعت عليه نار جهنم واستولت عليه. ويجوز أن يخص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة. ومعنى اطلاع النار عليها: أنها تعلوها وتغلبها وتشتمل عليها. أو تطالع على سبيل المجاز معادن موجبها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باقون ما بقي الدهر". أو حقاً لينبذن واللام جواب القسم، فدل على حصول القسم في {كَلَّا}، وفي النبذ الإهانة والتحقير، لأنه كان يزعم أنه من أهل الكرامة".
قوله: (ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد)، الراغب:"الفؤاد كالقلب، لكن يقال له فؤاد، إذا اعتبر فيه معنى التفؤد، أي: التوقد، يقال: فأدت اللحم: شويته، ولحم فئيد: مشوي. وتخصيص الأفئدة في قوله تعالى: {تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ}، تنبيه على فرط تأثير له".
قوله: (أو تُطالع على سبيل المجاز معادن مُوجبها)، وفي اختصاص لفظ "معادن" تلويح إلى عكس معنى قوله? :"الناس معادن كمعادن الذهب والفضة"، ولما كانت أفئدة هؤلاء محل مقر الرجس والخبث من العقائد الفاسدة الموجبة للنار، وأُقر بدء إحراق كل أحد على قدر استحقاقه، قيل: تطالع على المجاز معادن مُوجبها. وفي "التيسير": قال أبو سعيد: إنها تعلم مقدار ما يستحق كل منهم من العذاب، لما كان في قلبه من الكفر والعقائد الفاسدة، من قولك: اطلع فلان على أمرنا، أي: وقف عليه، وعَلمَه، أي: جعلها الله بحيث
(مُؤْصَدَةٌ) مطبقة. قال:
تحنّ إلى أجبال مكّة ناقتي
…
ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة
وقرئ: (في عمد) بضمتين، و (عمد)، بسكون الميم، و (عمد) بفتحتين. والمعنى: أنه يؤكد يأسهم من الخروج وتيقنهم بحبس الأبد، فتؤصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب العمد، استيثاقًا في استيثاق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحرق كل أحد على استحقاقه، لا تزيد ولا تنقص، كأنها وقفت على مبلغ استحقاقه، قال: ولما جاز وصفها بالتغيظ وبأنها تدعو من أدبر وتولى، جاز وصفها بهذا.
قوله: ({مُّؤْصَدَةٌ}: مطبقة)، الراغب:"الوصيدة: حجرة تجعل للمال في الجبل، يقال: أوصدت الباب وآصدته: أطبقته وأحكمته، قال تعالى: ({عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ}، وقرئ بالهمز".
قوله: (وقرئ: "في عُمُد")، أبو بكر وحمزة والكسائي: بضمتين، والباقون: بفتحتين.
قوله: (وتُمدد على الأبوا العُمُد)، قيل: على هذا: {فِي عَمَدٍ} حال من الضمير في {مُّؤْصَدَةٌ} ، أعني العائد إلى الأبواب، وعلى قوله:"موثقين في عمد": حال من الضمير في: {عَلَيْهِمْ} .
ويجوز أن يكون المعنى: أنها عليهم مؤصدة، موثقين في عمد ممدّدة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص، اللهم أجرنا من النار يا خير مستجار.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "الهمزة"، أعطاه الله عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد وأصحابه» .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (مثل المقاطر)، الجوهري:"المقطرة وهي الفلق، وهي خشبة فيها خروق تدخل فيها أرجل المحبوسين". وقلت: الوجه الأول مناسب لما روي أن الآية نزلت في أخنس بن شريق، أو أمية بن خلف، أو الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله? ؛ فإنه تعالى لما بين أن {الْحُطَمَةِ} ، هي النار التي تطالع معادن موجبها، أتبعه قوله:{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} ، أي: النار طالعت على استحقاق هؤلاء بسبب اغتيابهم خير البشر، فكانت عليهم مؤصدة مطبقة، فأكد يأسهم من الخروج، وتيقنهم بحبس الأبد. والثاني موافق لأن يراد بقوله:{لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} العموم، وهو المشار إليه بقوله:"وهو المسخرة الذي يأتي بالأوابد والأضاحيك"، لأنه يطعن في أعراض الناس، كاللص الذي يسرق أموالهم؛ فعلى هذا، يلزم خلودهم في النار.
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة الفيل
مكية، وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ)] 1_ 5 [
روى أنّ أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي، بني كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الفيل
مكية، خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (الأشرم)، الشرم: قطع الأرنبة وثفر الناقة، قيل: سُمي أشرم، لأن أباه ضربه بحربة فشرم أنفه وجبينه.
فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلًا، فأغضبه ذلك. وقيل: أججت رفقة من العرب نارًا فحملتها الريح فأحرقتها، فحلف ليهدمنّ الكعبة، فخرج بالحبشة ومعه فيل له اسمه محمود، وكان قويًا عظيمًا، واثنا عشر فيلًا غيره. وقيل: ثمانية، وقيل: كان معه ألف فيل، وكان وحده؛ فلما بلغ المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى وعبأ جيشه وقدّم الفيل، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول؛ فأرسل الله طيرًا سودًا، وقيل: خضرًا، وقيل: بيضًا، مع كل طائٍر حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفاري، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، ففروا فهلكوا في كل طريق ومنهل؛ ودوى أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه. وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائره يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتًا بين يديه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فقعد فيها ليلاً)، كناية، أي: قضى حاجته.
قوله: (المُغمس)، قيل: موضع بين مكة ومنى.
قوله: (وعبأ جيشه)، الجوهري:"عبيت الجيش تعبية وتعبئة وتعبيئاً، إذ هيأته في مواضعه، وقال أبو زيد: عبأته، بالهمز".
قوله: (ودوي أبرهة)، الدوى مقصور: المرض، يقال: منه: دوي بالكسر، أي: مَرِض، وقيل: أي مرض من الدواء.
قوله: (وآرابه)، الإرب: العضو، يقال: السجود على سبعة آراب.
قوله: (وطائر يُحلق)، تحليق الطائر: ارتفاعه في طيرانه.
وقيل: كان أبرهة جدّ النجاشي الذي كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، وقيل: بثلاث وعشرين سنة. وعن عائشة رضي الله عنها: رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان. وفيه أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير، فخرج إليه فيها، فجهره وكان رجلًا جسيمًا وسيمًا. وقيل: هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، فلما ذكر حاجته قال: سقطت من عيني، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وعصمتكم وشرفكم في قديم الدهر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الذي كان في زمن النبي? )، صفة مميزة للنجاشي، قال صاحب "الجامع":"النجاشي: لقب ملك الحبشة، فالذي أسلم وآمن بالنبي? ، هو أصحمة، أسلم قبل الفتح، ومات قبله، وصلى عليه النبي? ".
قوله: (بأربعين سنة)، أي: قبل مبعثه، و"بأربعين" خبر بعد خبر من "كان" الأول، أي كان موجوداً وملكاً قبل مبعثه? بأربعين سنة، وهذه الرواية أقرب من "ثلاث وعشرين سنة"، لأنه صلوات الله عليه بإجماع أهل النقل وُلد عام الفيل، وبُعث بعد أربعين سنة، وأسلم النجاشي بعد البعثة في السنة الخامسة، روى ابن الجوزي" وُلد رسول الله? ، يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول عام الفيل". وقال ابن إسحاق: "لاثنتي عشرة ليلة مضت منه"، وعن ابن قتيبة، قال:"أجمعوا على أن رسول الله? ، ولد عام الفيل".
قوله: (فيها)، أي: في شأن الإبل واستخلاصها منه.
قوله: (فجهره)، الأساس:"رأيته فجهرته واجتهرته، واستجهرته: رأيته عظيم المرآة. وجهرني فلان: راعني بجماله وهيئته".
فألهاك عنه ذود أخذ لك؛ فقال أنا رب الإبل، وللبيت رب سيمنعه، ثم رجع وأتى باب البيت فأخذ بحلقته وهو يقول:
لا همّ إنّ المرء يمـ
…
ـنع أهله فامنع حلالك
لا يغلبنّ صليبهم
…
ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم وكعـ
…
ـبتنا فأمر ما بدا لك
يا ربّ أرجو لهم سواكا
…
يا ربّ فامنع منهم حماكا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ذود أخذ لك)، الذود من الإبل: ما بين الثلاثة إلى العشرة، كانه قلله وهي كثيرة جداً، تخقيراً وردعاً عن طلبه في تلك الحالة.
قوله: (لاهم إن المرء) الأبيات، لاهم: أصله: اللهم. "رِحالك" - ويروى: "حلالك" - جمع حِلة، وهو الموضع الذي يحل فيه الناس. قيل: حلالك، بكسر الحاء: هم القوم المجتمعون المتاجورون، والمراد سكان الحرم.
الأساس: "حللت بالقوم وحللت الدار، وهي محلتهم وحلتهم، وحي حلة وحلال: حالون في مكان".
قوله: (صليبهم)، يقال: جاء الروم ومعهم الصلبان. والمحالة والمحال: الحيلة، ويقال: المرء يعجز لا محالة. قيل: المحال: العقوبة، وقيل: القوة، من قوله تعالى:{وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13].
قوله: (فأمر ما)، زائدة مؤكدة، أو موصولة، أي: الذي بدا لك من المصلحة. في "النهاية":
فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال: والله إنها لطير غريبة ما هي ببحرية ولا تهامية. وفيه: أنّ أهل مكة قد احتووا على أموالهم، وجمع عبد المطلب من جواهرهم وذهبهم الجور، وكان سبب يساره. وعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سئل عن الطير فقال: حمام مكة منها. وقيل: جاءت عشية ثم صبحتهم. وعن عكرمة: من أصابته جدّرته وهو أوّل جدري ظهر. وقرئ: (ألم تر) بسكون الراء للجد في إظهار أثر الجازم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"غدواً" بالغين المعجمة: "الغدو: أصل الغد، وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك، فحذفت لامه. ولم يستعمل تاماً إلا في الشعر، ومنه قول الشاعر:
وما الناس إلا كالديار وأهلها بها يوم حلوها وغدواً بلاقع
ولم يُرد عبد المطلب الغد بعينه، وإنما أراد القريب من الزمان".
قوله: (الجور)، بفتح الجيم وسكون الواو وبالراء، من نسخة قوبلت بخط المصنف: المال الكثير؛ سمي بذلك لمجاوزته الحد في الجمع. وروي بالحاء والزاي. الجوهري: "الحوز: الجمع، وكل من ضم إلى نفسه شيئاً، فقد حازه حوزاً وحيازة، واحتازه". وروي: "الجؤر"، الجوهري: "غيث جؤر، إذا كان غزيراً كثير المطر، وقيل: جؤر مثل نُغر، وأنشدوا:
لا تسقه صيب عزف جؤر
العزف: دوي الرعد".
والمعنى: أنك رأيت آثار فعل الله بالحبشة، وسمعت الأخبار به متواترة، فقامت لك مقام المشاهدة. و (كَيْفَ) في موضع نصب بـ (فعل ربك)، لا بـ (ألم تر)؛ لما في (كَيْفَ) من معنى الاستفهام (فِي تَضْلِيلٍ) في تضييع وإبطال. يقال: ضلل كيده، إذا جعله ضالًا ضائعًا. ومنه قوله تعالى:(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)] غافر: 25 [، وقيل لامرئ القيس: الملك الضليل؛ لأنه ضلل ملك أبيه، أي: ضيعه، يعنى: أنهم كادوا البيت أوّلا ببناء القليس، وأرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه؛ وكادوه ثانيًا بإرادة هدمه، فضلل بإرسال الطير عليهم (أَبابِيلَ) حزائق،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والمعنى: أنك رأيت آثار فعل الله بالحبشة)، قال القاضي:" {أَلَمْ تَرَ}: خطاب لرسول الله? ، وهو وإن لم يشهد تلك الموقعة، لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنه رآها. وإنما قيل: "كيف فعل"، ولم يقل: ما فعل، لأن المراد أن يُذكر ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته، وعزة نبيه وشرف رسوله، لأنها من الإرهاصات".
وقال الإمام: "الأشياء لها ذوات ولها كيفيات، والكيفيات هي التي يُسميها المتكلمون "وجه الدليل"، واستحقاق المدح إنما يحصل برؤية الكيفيات لا برؤية الذوات، ولهذا قال: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق: 6]. ولا شك أن هذه الواقعة كانت تأسيساً لنبوته وإرهاصاً لرسالته"، وهو من الرِّهص: الساق الأسفل من الجدار، وذلك أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة، كإظلال الغمام لرسول الله? ، وتكلم الحجر والمدر معه.
قوله: (حزائق)، أي: جماعات. الأساس: "بين يديه حزقة وحزيقة وحزيق، أي: جماعة. ويقال: تتابعوا كأنهم حزق الجراد".
الواحدة: إبالة. وفي أمثالهم: ضغث على إبالة، وهي: الحزمة الكبيرة، شبهت الحزقة من الطير في تضامّها بالإبالة. وقيل: أبابيل مثل عباديد وشماطيط لا واحد لها، وقرأ أبو حنيفة رحمه الله:(يرميهم) أي: الله تعالى أو الطير؛ لأنه اسم جمع مذكر؛ وإنما يؤنث على المعنى. وسجيل: كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، كما أن سجينًا علم لديوان أعمالهم، كأنه قيل: بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن، واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال؛ لأنّ العذاب موصوف بذلك، وأرسل عليهم طيرًا، فأرسلنا عليهم الطوفان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: من طيٍن مطبوٍخ كما يطبخ الآجر. وقيل: هو معرب من سنككل. وقيل: من شديد عذابه؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ضغث على إبالة)، قال الميداني:"الإبالة: الحزمة من الحطب، والضغث: قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، ويروى: إيبالة، وبعضهم يقول: إبالةً مخففاً. ومعناه: بلية على أخرى".
قوله: (مثل: عباديد وشماطيط)، الجوهري:"العباديد: الفرق من الناس الذاهبون في كل وجه. والشماطيط: القطع المتفرقة، يقال: جاءت الخيل شماطيط، أي: متفرقة أرسالاً".
قوله: (من الإسجال، وهو الإرسال)، الأساس:"هذا مُسجل، أي: مرسل مُطلق، إن شاء أخذه، وإن شاء لم يأخذه. وأُسجلت البهيمة مع أمها: إذا أُرسلت".
قوله: (وقيل: من شديد عذابه)، قال الزجاج: "والعرب إذا وصفت المكروه بسجيل، فإنها تعني به الشدة، ولا يوصف به غير المكروه، قال ابن مقبل:
ورجلة يضربون البيض ضاحية ضرباً تواصى به الأبطال سجيناً
وفي حاشية كتابه: كذا أنشده أبو عبيدة في "مجازه"، وفي شعر ابن مقبل: سجيناً،
ورووا بيت ابن مقبل:
ضربا تواصت به الأبطال سجّيلا
وإنما هو سجينا، والقصيدة نونية مشهورة في ديوانه؛ وشبهوا بورق الزرع إذا أكل، أي: وقع فيه الأكال: وهو أن يأكله الدود. أو بتبن أكلته الدواب وراثته؛ ولكنه جاء على ما عليه آداب القرآن، كقوله:(كانا يَاكُلانِ الطَّعامَ)] المائدة: 75 [أو أريد: أكل حبه فبقى صفرًا منه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الفيل، أعفاه الله أيام حياته من الخسف والمسخ» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو الصواب. الرجلة: جمعة الراجل، وضاحية كل شيء: ناحيته البارزة، سجيناً: صفة "ضرباً"". وفي غير رواية الزجاج:
البيض عن عُرُض
البيض: السيوف. وعُرض كل شيء، بالغين المعجمة مضمومة: وسطه، وقيل: ناحيته. أي: رب رجلة يضربون السيوف في المعركة عن جوانب مختلفة ضرباً شديداً، كما تواصت به الأبطال.
قوله: (كقوله: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75])، يعني: عُبر عن الروث وعن فضلات الإنسان في الآيتين بما ذُكر مراعاة لحُسن الأدب؛ شُبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث، وفيه مع تلك المراعاة إظهار تشويه حالهم وسوء مآلهم.
قوله: (أُكل حبه فبقى صِفراً)، أي: خالياً من الخير. المعنى: كعصف مأكول الحَبّ، كما يقال: فلان حسن، أي: حسن الوجه، حُذف لكونه معلوماً، وهو قول الحسن.
تمت السورة
سورة قريش
مكية، وهي أربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)] 1 - 4 [
(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) متعلق بقوله: (لْيَعْبُدُوا) أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين.
فإن قلت: فلم دخلت الفاء؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة قريش
أريع آيات، مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (فلم دخلت الفاء)، الفاء دلت على الإنكار، أي: إذا كان "لإيلاف" متعلقاً بقوله "فليعبدوا"، فلِمَ دخلت فاء التعقيب بين العامل ومعموله؟ وأجاب أن الفاء جزاء شرط محذوف ولا بد من هذا التقدير؛ لأنه إذا كان التقدير: فليعبدوه لإيلاف قريش، تبقى الفاء
قلت: لما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: إما لا فليعبدوه لإيلافهم، على معنى: أنّ نعم الله عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة. وقيل: المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش. وقيل: هو متعلق بما قبله، أي: فجعلهم كعصٍف مأكول لإيلاف قريش، وهذا بمنزلة التضمين في الشعر: وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به، وهما في مصحف أبىّ سورة واحدة، بلا فصل. وعن عمر: أنه قراهما في الثانية من صلاة المغرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا متعلق لها. ويجوز أن يُحمل على التوكيد والفاء للتعقيب، كما يقال: لِئِلاف قريش ليعبدوه، فليعبدوا، وكذا قوله تعالى:{فَلْيَفْرَحُوا} ، وقد مر عن الزبير عن الزجاج جوازه، وعليه قوله تعالى:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3]، قال:"دخلت الفاء لمعنى الشرط، كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره".
قوله: (لأن المعنى: إما لا فليعبدوه)، روي عن المصنف أنه قال: تقول العرب: افعل هذا إما لا، أي: إن كنت لا تفعل غيره فافعل هذا، و"ما" مزيدة، عوض من "كان" المحذوفة، وقد أمالوا "لا" لأنه ساد مسد الفعل كبلى، ولقيامهما مقام الفعل، ويقال: أعطني هذا إما لا.
قوله: (فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف فريش)، قال الزجاج:"المعنى: أهلك الله أصحاب الفيل، لتبقى قريش وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف".
قوله: (في الثانية من صلاة المغرب)، أي: في الركعة الثانية، وفي الركعة الأولى سورة والتين، هذا ظاهر بأنهما سورة واحدة.
وقرأ في الأولى: (والتين). والمعنى أنه أهلك الحبشة الذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك، فيتهيبوهم زيادة تهيب، ويحترموهم فضل احترام، حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتهم، فلا يجترئ أحد عليهم، وكانت لقريش رحلتان؛ يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتجرون، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته، فلا يتعرّض لهم، والناس غيرهم يتخطفون ويغار عليهم، والإيلاف من قولك: آلفت المكان أولفه إيلافا: إذا ألفته، فأنا مؤلف. قال:
من المؤلفات الرّهو غير الأوارك
وقرئ: (لئلاف قريش) أي: لمؤالفة قريش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من المؤلفات)، يقال: آلفت المكان أُولفه إيلافاً إذا ألفته، فأنا مؤلف. الزهو غير الإدراك، الزهو: البقل، والزهو أيضاً البُسر الملون. ويقال: زهت الإبل زهواً، إذا سارت بعد الورد ليلة وأكثر. وزهوتها أنا: يتعدى ولا يتعدى. وإبل زاهية: لا ترعى الحمض. وبعضهم يروي: الرهو بالراء، وهو السير السهل، يقال: جاءت الخيل رهواً. الأوارك جمع آركة، وهي الإبل الآكل للأراك. الجوهري:"أركت إذا قامت في الأراك، وهي الحمض، في آركة، والجمع: أوارك".
قوله: (أي: لمؤالفة قريش)، قيل: على هذا، إلاف مصدر فاعل، فيكون بمعنى مؤالفة، نحو: ضارب مضاربة وضراباً.
وقيل: يقال: ألفته إلفًا وإلافًا. وقرأ أبو جعفر: (لإلف قريش)، وقد جمعهما من قال:
زعمتم أنّ إخوتكم قريش
…
لهم إلف وليس لكم إلاف
وقرأ عكرمة: (ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء والصيف). وقريش: ولد النضر بن كنانة، سموا بتصغير القرش: وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن، ولا تطاق إلا بالنار. وعن معاوية أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما: بم سميت قريش؟ قال: بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى. وأنشد:
وقريش هي الّتي تسكن البحـ
…
ـر بها سمّيت قريش قريشاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل)، إشارة إلى أنه مصدر فَعَلَ، نحو: كَتَبَ كتاباً.
قوله: (زعمتم) البيت، بعده:[الوافر]:
أولئك أُومنوا جوعاً وخوفاً وقد جاعت بنو أسد وخافوا
قائله مساور بن هند يهجو بني أسد، ويقول: إنكم لستم من قريش ولا قريش منكم، فدعواكم أخوتهم بهم باطلة؛ لأنهم أُطعموا من جوع وأُومنوا من خوف، ولستم كذلك، قال المصنف رحمه الله: وهذا من أبيات المعاني: المصراع الأول حكاية لدعواهم، والمصراع الثاني احتجاج عليهم وإلزام.
قوله: (وقريش هي التي) البيت، بعده على ما رواه الواحدي ومحيي السنة للجمحي:
قريش هي التي تسكن البحـ ـر، بها سميت قريش قريشاً
تأكل الغث والسمين ولا تتـ ـرك يوماً لذي جناحين ريشا
والتصغير للتعظيم. وقيل: من القرش وهو الكسب: لأنهم كانوا كسابين بتجاراتهم وضربهم في البلاد. أطلق الإيلاف ثم أبدل عنه المقيد بالرحلتين، تفخيمًا لأمر الإيلاف، وتذكيرًا بعظيم النعمة فيه؛ ونصب الرحلة بإيلافهم مفعولا به، كما نصب (يَتِيماً) بـ (إطعام)] البلد: 14 [، وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس، كقوله:
كلوا في بعض بطنكم
وقرئ: (رحلة) بالضم: وهي الجهة التي يرحل إليها. والتنكير في (جُوعٍ) و (خَوْفٍ) لشدتهما، يعنى: أطعمهم بالرحلتين من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، وآمنهم من خوف عظيم وهو خوف أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم.
وقيل: كانوا قد أصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة، وآمنهم من خوف الجذام فلا يصيبهم ببلدهم. .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هكذا في البلاد حي قريش يأكلون البلاد أكلاً كميشا
ولهم آخر الزمان نبي يُكثر القتل فيهم والخُموشا
قوله: (كما نُصب {يَتِيمًا}، بـ {إِطْعَامٌ} [البلد: 14])، قال أبو البقاء:" {يَتِيمًا} مفعول {إِطْعَامٌ}، وذهب بعض البصريين إلى أن المصدر إذا عمل في المفعول، كان فيه ضمير كالضمير في اسم الفاعل".
قوله: (وهي الجهة التي يُرحل إليها)، وفي الكواشي:"أصل الرحلة السير على الراحلة، ثم استعمل لكل سير".
وقيل: ذلك كله بدعاء إبراهيم صلوات الله عليه. ومن بدع التفاسير: وآمنهم من خوف، من أن تكون الخلافة في غيرهم. وقرئ:(من خوف) بإخفاء النون.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (لإيلاف قريش)، أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة الماعون
مكية، وقيل مدنية، وهي سبع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)] 1 - 7 [
قرئ: أريت، بحذف الهمزة، وليس بالاختيار؛ لأن حذفها مختص بالمضارع، ولم يصح عن العرب: ريت،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الماعون
مدنية، وهي ست آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (قرئ: "أَرَيْتَ")، قراءة الكسائي، قال:"إنما سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام"، أي: إذا وقع في أوله حرف الاستفهام، ثقل همزة أخرى بعدها، فحذف.
ولكنَّ الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أوّل الكلام، ونحوه:
صاح هل ريت أو سمعت براع
…
ردّ الضّرع ما قرى في الحلاب؟
وقرأ ابن مسعود: (أرأيتك) بزيادة حرف الخطاب، كقوله:(أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ)] الإسراء: 62 [. والمعنى: هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو؟ إن لم تعرفه (فَذلِكَ الَّذِي) يكذب بالجزاء، هو الذي (يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، أي: يدفعه دفعًا عنيفًا بجفوةٍ وأذًى، ويردّه ردًّا قبيحًا بزجٍر وخشونة. وقرئ:(يدع)، أي: يترك ويجفو، (وَلا يَحُضُّ) ولا يبعث أهله على بذل طعام المسكين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (صاح) البيت، وفي معناه قول أبي الطيب:
وما مضى الشباب بمسترد
…
وما يوم يمر بمُستعاد
أصله: يا صاحب، فرُخم. والقَري جمع الماء في الحوض. والعلبة القدح الذي يُحلب فيه، من الخشب، والجمع: عُلب وعِلاب، يقول: يا صاحب، هل رأيت أو سمعت براع رد إلى الضرع ما حلب من اللبن، وجمعه في القدح.
قوله: (أرأيتك، بزيادة حرف الخطاب)، عن بعضهم: أُكد معنى الخطاب في التاء بالكاف.
قوله: ({وَلَا يَحُضُّ}: ولا يبعث أهله)، الراغب:"الحضُّ: التحريض كالحث، إلا أن الحث يكون بسير وسوق، والحضُّ لا يكون بذلك. وأصله: الحث على الحضيض وهو قرار الأرض".
جعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف، يعنى: أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد، لخشي الله تعالى وعقابه ولم يقدم على ذلك، فحين أقدم عليه: علم أنه مكذب، فما أشده من كلام، وما أخوفه من مقام، وما أبلغه في التحذير من المعصية وأنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان ورخاوة عقد اليقين، ثم وصل به قوله (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) كأنه قال: فإذا كان الأمر كذلك، فويل للمصلين الذين يسهون عن الصلاة قلة مبالاة بها، حتى تفوتهم أو يخرج وقتها، أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف، .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الذين يسهون عن الصلاة)، الراغب: السهو خطأٌ عن غفلة، وذلك ضربان: أحدهما أن يكون من الإنسان جوالبه ومُولداته، كمن شرب خمراً ثم ظهر منه منكر لا عن قصد. والثاني أن لا يكون منه مُولداته، كمجنون سب إنساناً؛ فالثاني معفو عنه، والأول مأخوذ به، وعلى نحو الأول ذم الله تعالى فقال:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} .
قوله: (أو لا يُصلونها)، عطف على قوله:"يَسهون عن الصلاة"، كأنه قال: المراد بقوله: {عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} : إخراجها عن وقتها قلة مبالاة، أو ترك أبعاضها وهيآتها وآدابها والطمأنينة فيها غفلةً وسهواً، ولذلك قال:"ولكن ينقرونها نقر الطائر الحبة".
عن أبي داود والنسائي، عن عبد الرحمن بن شبل:"نهى رسول الله? عن نقرة الغُراب، وافتراش السبع، وأن يوطن الرجل المكان كما يوطن البعير". وعن البخاري والنسائي عن زيد بن وهب، قال: "رأى حذيفة رجلاً يصلي فطفف، فقال له حذيفة: مُذ كم تصلي هذه
ولكن ينقرونها نقرًا من غير خشوع وإخباٍت ولا اجتناٍب لما يكره فيها: من العبث باللحية والثياب وكثرة التثاؤب والالتفات، لا يدرى الواحد منهم عن كم انصرف، ولا ما قرأ من السور، وكما ترى صلاة أكثر من ترى، الذين عادتهم الرياء بأعمالهم ومنع حقوق أموالهم. والمعنى: أنّ هؤلاء أحق بأن يكون سهوهم عن الصلاة التي هي عماد الدين، والفارق بين الإيمان والكفر، والرياء الذي هو شعبة من الشرك، ومنع الزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام، علمًا على أنهم مكذبون بالدين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصلاة؟ قال: منذ أربعين سنة. قال: ما صليت منذ أربعين سنة، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة، مت على غير فطرة محمد? ، ثم قال: إن الرجل ليُخفف ويُتم ويُحسن".
قوله: (والرياء
…
ومنع الزكاة)، هما مرفوعان على العطف على اسم "يكون"، وهو "سهوهم". والخبر:"علماً"، فيقدر للمعطوف عليهما مثل هذا الخبر، على منوال قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض، والرأيُ مختلف
وإنما جُعل المذكورات علماً على أنهم مكذبون بالدين، لما قال آنفاً، ثم وُصل به قوله:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} ، أي: وُصل به اتصال المسبب بالسبب، والجزاء بالشرط، على سبيل الترقي، كأنه قيل: هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو؟ فإن لم تعرفه، فاعرف أنه الدافع لليتيم المانع يره، وهل عرفت أعظم من ذلك وأدهى منه؟ فإن تارك الصلاة والزكاة والمرائي أعظم منه، لأن العبادة هي المقصودة بالذات من خلق العالم.
فعلى هذا، الواجب أن يفسر {الْمَاعُونَ} بمنع الزكاة، تتميماً لذكر الصلاة لا ترقياً، فثبت أن إنكار الجزاء هو الأصل في إبطال الحكمة في خلق السموات والأرض، وشرعية العبادات، والحض على سائر المبرات والخيرات، والعياذ بالله من ذلك.
وكم ترى من المتسمين بالإسلام، بل من العلماء منهم من هو على هذه الصفة، فيا مصيبتاه! وطريقة أخرى: أن يكون (فَذلِكَ) عطفًا على (الَّذِي يُكَذِّبُ) إمّا عطف ذاٍت على ذات، أوصفةٍ على صفةٍ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: "اعلم أن إنكار القيامة كالأصل لجميع أنواع الكفر والمعاصي؛ لأنه تعالى جعل علم التكذيب بالقيامة، الإقدام على إيذاء الضعيف ومنع المعروف. يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد، لما صدر عنه ذلك؛ فموجب الذنب هو التكذيب بالقيامة".
قوله: (إما عطف ذات على ذات، أو صفة على صفة)، وعلى الوجه الأول، الفاء جواب شرط محذوف لقوله:"إن لم تعرفه فذلك"، أي: فاعرف أنه ذلك الذي يكذب بالجزاء، فالتعريف في "الذي"، على تقدير الذات للعهد، وعلى تقدير الوصف يحتمل الجنس أيضاً، ولذلك اختلف المفسرون: عن مقاتل: الذي يكذب بالدين، هو العاص بن وائل. وعن السدي ومقاتل: هو الوليد بن المغيرة. وعن ابن عباس: رجل من المنافقين. هذا في "المعالم". وفي الكواشي: "لا تقف على {الْمِسْكِينِ} إن جعلت {الَّذِى} جنساً، وجعلت "المصلين" داخلاً في جملة الكلام. ويكون جواب "أرأيت" - أي متعلقه- محذوفاً، تقديره: ما تقول فيمن يكذب بالحق ويدفع اليتيم ويؤذي المسكين؟ أحسن فعل؟ ! فويل لهم، فوضع "المصلين" موضع لهم".
قلت: من هذا يعلم أن قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} ، على الأول منقطع عن الكلام السابق، من حيث إن المراد بالمصلين غير المكذب بالدين، لأنه الكافر كالوليد والعاص، و"المصلون": المسلمون. وإنما جعل المنع بالمعروف والإقدام على إيذاء الضعيف علماً للتكذيب بالجزاء، ليؤذن بأنهما من الشدة والغلظة بمكان ينبغي أن يحترز المؤمنون عن أمثالهما، لأنهما من أوصات الكافرين المكذبين بيوم الدين، وإليه الإشارة بقوله:"فما أشده من كلام، وما أخوفه من مقام! ، وأنها جديرة بأن يستدل بها على ضعف الإيمان".
ويكون جواب (أَرَأَيْتَ) محذوفًا لدلالة ما بعده عليه، كأنه قيل: أخبرني، وما تقول فيمن يكذب بالجزاء؟ وفيمن يؤذى اليتيم ولا يطعم المسكين؟ أنعم ما يصنع؟ ثم قال:(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) أي: إذا علم أنه مسيء، فويل للمصلين، على معنى: فويل لهم، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم؛ لأنهم كانوا مع التكذيب وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين، غير مزكين أموالهم.
فإن قلت: كيف جعلت المصلين قائمًا مقام ضمير الذي يكذب، وهو واحد؟
قلت: معناه الجمع، لأنّ المراد به الجنس.
فإن قلت: أي فرٍق بين قوله: (عَنْ صَلاتِهِمْ) وبين قولك: (فِي صَلاتِهِمْ)؟
قلت: معنى: (عَنْ): أنهم ساهون عنها سهو ترك لها وقلة التفات إليها؛ وذلك فعل المنافقين أو الفسقة الشطار من المسلمين. ومعنى (فِي): أنّ السهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان أو حديث نفس، وذلك لا يكاد يخلو منه مسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع له السهو في صلاته فضلًا عن غيره؛ ومن ثم أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والذي يدل على أن المراد بالمصلين غير المكذب، قوله:"ثم وصل به قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} "، كأنه قال:"فإذا كان الأمر كذلك، فويل للمصلين الذين يسهون"، حيث ذكر لفظ "الأمر"، ولم يذكر أن "المصلين" من وضع المظهر موضع المضمر بخلافه في الوجه الأخير، فإنه قال:"أي: إذا عُلم أنه مسيء فويل للمصلين، على معنى: فويل لهم". فعلى هذا، المراد بالمصلين: المكذب كما قال: "لأنهم كانوا مع التكذيب وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة"، قال الإمام:"فعلى هذا التقدير، الآية دالة على أن الكافر له مزيد عقوبة، بسبب إقدامه على محظورات الشرع، وتركه لواجبات الدين، وهو يدل على صحة قول الشافعي: إن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع".
وعن أنس رضي الله عنه: الحمد لله على أن لم يقل: في صلاتهم. وقرأ ابن مسعود: (لاهون).
فإن قلت: ما معنى المراءاة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعن أنس: الحمد لله على أن لم يقل: في صلاتهم)، قال الإمام:"روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه، أنه قال: لو قال تعالى: في صلاتهم ساهون، لكان هذا الوعيد في المؤمنين أولى، لكنه قال: عن صلاتهم ساهون. والساهي عن الصلاة هو الذي لا يذكرها، ويكون فارغاً عنها. وهذا القول ضعيف، لأن السهو عن الصلاة لا يجوز أن يكون مفسراً بترك الصلاة، لأنه تعالى أثبت لهم الصلاة بقوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ}، وأيضاً فإن السهو عن الصلاة بمعنى الترك، لا يكون نفاقاً ولا كفراً. ويمكن أن يجاب عن الأول، بأنه تعالى حكم عليهم بكونهم مصلين نظراً إلى الصلاة، وبأنهم نسوا الصلاة بالكلية نظراً إلى المعنى، كما قال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142] ".
وقلت: ويمكن أن يقال: إن المراد بالمصلين، مَن مِن شأنه أن يؤدي ما عليه من شكر نعم الله، ولذلك أضافها في قوله "عن صلاتهم" إليهم، ليؤذن بأنها حق ثابت لازم على المكلف، ومن حقه أن لا يتجاوز عن الإقامة عليها وحفظ أركانها وهيئاتها وسُننها، إلى السهو فضلاً عن الترك. هذا مبني على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. وقال الإمام:"ويجاب عن الاعتراض الثاني بأن النسيان عن الصلاة، هو أن يبقى ناسياً لذكر الله في جميع أجزاء الصلاة، وهذا لا يصدر إلا عن المنافق الذي يعتقد أن لا فائدة في الصلاة. وأما المسلم الذي يعتقد فيها الفوائد، فيمتنع أن لا يتذكر أمر الدين والثواب والعقاب في شيء من أجزائها. نعم، قد يتطرق له السهو في بعض أجزائها، فثبت أن السهو في الصلاة من أفعال المؤمن، وعن الصلاة من أفعال الكافر".
قلت: هي مفاعلة من الإراءة، لأنّ المرائي يرى الناس عمله، وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به، ولا يكون الرجل مرائيًا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضةً، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها، لقوله عليه الصلاة والسلام:«ولا غمة في فرائض الله"؛ لأنها أعلام الإسلام وشعائر الدين؛ ولأن تاركها يستحق الذم والمقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار؛ وإن كان تطوعًا، فحقه أن يخفى، لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه؛ فإن أظهره قاصدًا للاقتداء به كان جميلًا، وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين، فيثنى عليه بالصلاح. وعن بعضهم: أنه رأى رجلًا في المسجد قد سجد سجدة الشكر وأطالها، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك؛ وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة؛ على أن اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص. ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح الأسود» . "الْماعُونَ" الزكاة، قال الراعي:
قوم على الإسلام لمّا يمنعوا
…
ماعونهم ويضيّعوا التّهليلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولا غُمة)، يروى: ولا غرر في فرائض الله. النهاية: "في حديث وائل بن حُجر: أي: ولا تُستر وتُخفى فرائضه، وإنما تظهر وتُعلن ويُجهر بها".
قوله: (قوم على الإسلام) البيت، المانعون فيه الزكاة، تعريض بأهل الردة، أي: لسنا من أهل الردة حتى تُعاملونا معاملتهم.
وعن ابن مسعود: ما يتعاون في العادة من الفأس والقدر والدلو والمقدحة ونحوها. وعن عائشة: الماء والنار والملح؛ وقد يكون منع هذه الأشياء محظورًا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار، وقبيحًا في المروءة في غير حال الضرورة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (أرأيت)، غفر الله له إن كان للزكاة مؤديًا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما يُتعاور في العادة)، الجوهري:"اعتوروا الشيء، أي: تداولوه فيما بينهم، وكذلك تعوّروه وتعاوروه".
تمت السورة
*
…
*
…
*
سورة الكوثر
مكية، وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)] 1 - 3 [
في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا أنطيناك" بالنون، وفي حديثه صلى الله عليه وسلم:«وأنطوا الثبجة» . والكوثر: فوعل من الكثرة، وهو المفرط الكثرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الكوثر
ثلاث آيات، مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (وأَنطوا الثَّبَجَة)، النهاية:"وهي لغة اليمن. كتب صلوات الله عليه لوائل: أنطوا الثبجة، أي: أعطوا الوسط من الصدقة، لا من خيار المال ولا من رُذالته، وألحقها تاء التأنيث لانتقالها من الاسمية إلى الوصفية".
وقيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر. وقال:
وأنت كثير يا ابن مروان طيّب
…
وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
وقيل: الْكَوْثَرَ نهر في الجنة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قرأها حين أنزلت عليه فقال: «أتدرون ما الكوثر؟ إنه نهر في الجنة وعدنيه ربى، فيه خير كثير» ، وروى في صفته:"أحلى من العسل، وأشد بياضا من اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد؛ حافتاه الزبرجد، وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (ابنَ العَقائِل)، أي: المختارُ من النساء، وعقيلةُ كلِّ شئٍ أكرمُه. والكوثَرُ من الرجالِ: الكثيرُ الخيرِ والعطاء. والبيتُ للكُميت.
قولُه: (إنه نهرٌ في الجنّة)، روينا في صحيحِ البخاري، عن سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عباس، قالَ في الكوثر:«هو الكثيرُ الخير» . قيلَ لابنِ جبير: فإنّ الناسِ يزعمونَ أنه نهرٌ في الجنة؟ فقالَ سعيد: «النهرُ الذي في الجنّةِ، من الخيرِ الذي أعطاه اللهُ تعالى إياه» .
وعن أحمدَ بنِ حنبلٍ والترمذي وابنِ ماجه والدرامي، عن ابنِ عمرَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الكوثرُ نهرٌ في الجنّة، حافَتَاه من ذهب، ومَجْراه على الدُّرِّ والياقوت، تُرْبتُه أطيبُ من المِسْك، ومَاؤُه أحلى من العسل، وأبيضُ من الثلج» .
وفي حديثِ عائشةَ -رضي الله تعالى عنها-: «شاطئاه دُرٌّ مُجَوَّف، وآنيتُه كعددِ نجومِ السماء» ، أخرجه البخاري.
وروي: "لا يظمأ من شرب منه أبدًا: أول وارديه: فقراء المهاجرين: الدنسو الثياب، الشعث الرؤوس، الذين لا يزوجون المنعمات، ولا تفتح لهم أبواب السدد"، يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره، لو أقسم على الله لأبرّه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (لا تُفتحُ لهم أبوابُ السُّدَد)، الحديثُ من روايةِ الترمذيّ عن ثوبان، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:«حوضي مثلُ ما بينَ عَدَنٍ إلى عَمّان البلقاء، ماؤُه أشدُّ بياضًا من الثلج، وأحلى من العسل، وأكوابُه عددُ نجومِ السماء، مَنْ شربَ منه لم يَظمأ بعدَها أبدًا، أولُ الناسِ ورودًا علىَّ فقراءُ المهاجرين، والشُّعثُ رؤوسًا، الدُّنْسُ ثيابًا، الذين لا يَنْكحون المتنعّمات، ولا تُفتح لهم أبوابُ السُّدَد» . وقال الترمذي: قالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز: قد نَكَحتُ المتنعّماتِ فاطمةَ بنَ عبد الملك، وفُتحتْ لي أبوابُ السُّدَد. لا جرمَ لا أغسلُ رأسي حتى يَشْعث، ولا ثوبي الذي يَلي جسدي حتى يَتّسخ.
وفي "الجامع": «السُّدَدُ جمعُ سُدّة، وهي البابُ ها هنا» . وفي "النهاية": «السُّدَةُ كالظُلّةِ على البابِ لتقيَ البابَ من المطر، وقيل: هي السّاحةُ بين يدي الباب، وقيل: هي البابُ نفسُه، أي: لا تفتحُ لهم الأبواب. وفي حديثِ أبي الدّرداء، أنه أتى بابَ معاويةَ فلم يُؤذنْ له، فقالَ: من يَغْشَ سُدَدَ السلطانِ يَقُمْ ويَقْعد» .
وقلتُ: الأشبهُ أن تُحملَ الإضافةُ في أبوابِ السُّددِ على البيان، فيكنّى بها عن أبوابِ الملوكِ والعظماء، على أنْيرادَ بالسُّدةِ الظُلّةُ أو الساحة.
قولُه: (لو أقسمَ على الله لأبرّه)، قالَه صلواتُ اللهِ عليه في حديثِ الرُّبَيِّعَ، روينا عن البخاري ومسلمٍ وأبي داودَ والنسائي، عن أنسِ بنِ مالك، أنّ الرُّبَيِّعَ عَمّتَه كسرتْ ثَنِيّةَ جارية، فَطَلبوا إليها العفوَ فأبَوا، فَعرضوا الأَرْشَ فأبَوا، فأتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأَبوا إلّا
وعن ابن عباس أنه فسر الكوثر بالخير الكثير، فقال له سعيد بن جبير: إن ناسا يقولون: هو نهر في الجنة! فقال: هو من الخير الكثير. والنحر: نحر البدن؛ وعن عطية: هي صلاة الفجر بجمع، والنحر بمنى. وقيل: صلاة العيد والتضحية. وقيل: هي جنس الصلاة. والنحر: وضع اليمين على الشمال، والمعنى: أعطيت ما لا غاية لكثرته من خير الدارين الذي لم يعطه أحد غيرك، ومعطى ذلك كله أنا إله العالمين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القِصاص، فأَمرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالقِصاص، فقالَ أنسُ بنُ النَّضر: يا رسولَ الله، أتُكسرُ ثَنيةُ الرُّبَيِّع؟ لا، فرضيَ القومُ فعَفَوا، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إنّ من عباِ الله مَن لو أقسمَ على اللهِ لأبَّره. معناه: لو سألَ اللهَ لأجابَه. والإقسامُ ها هنا بمعنى الاستعطاف.
قولُه: (ومُعْطي ذلك كلِّه أنا إلهُ العالمين)، إيذانٌ باختيارِ قولِ ابنِ عباس: إنّ الكوثرَ الخيرُ الكثير، وبإفادةِ ضميرِ الجمعِ الدالِّ على العظمةِ والكبرياء، فإن قائلَه ليسَ إلّا إلهَ العالمين، وأنّ المُعطي لم يكن عظيمًا، إلّا أنّ المُعطي عظيم. ولأجلِ تَيْنِك المناسبتين، رُتّبَ عليه قولُه:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ} ، وَوُضعَ المظهرُ موضعَ المضمر، يعني: كما أنّ المعطي والمعطي عظيمان، فأتِ أنتَ بأعظمِ ما يمكنُ من العباداتِ البدنيةِ والمالية.
وإنما أُوثرَ النحرُ ليُدمجَ معنى معطي قطعِ النفسِ عن اللذاتِ العاجلة، ضُمّ مع ذلك {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} تكميلًا لِما بشَّره، قالَ الإمام:«لمّا بَشّره بالنِّعم العظيمة، وقد علمَ أن كمال ذلك إنما يكونُ بقهرِ الأعداء، قيل: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}» .
نَقلَ السُّلميُّ عن جعفرِ الصادق: «إنّا أعطيناك نورًا في قلبك دَلَّكَ عَلَيّ، وقَطَعَك عمّا سواي. وعن القاسمِ: إنّ شانئَك المنقطعُ عن خيراتِ الدّارين» ، واللهُ أعلم.
فاجتمعت لك الغبطتان السنيتان: إصابة أشرف عطاء، وأوفره، من أكرم معط وأعظم منعم؛ فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه، وشرفك وصانك من منن الخلق، مراغما لقومك الذين يعبدون غير الله. (وانحر) لوجهه وباسمه إذا نحرت، مخالفا لهم في النحر للأوثان. (إِنَّ) من أبغضك من قومك لمخالفتك لهم، (هُوَ الْأَبْتَرُ) لا أنت؛ لأنّ كل من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادك وأعقابك، وذكرك مرفوع على المنابر والمنار، وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر، يبدأ بذكر الله ويثنى بذكرك، ولك في الآخرة مالا يدخل تحت الوصف، فمثلك لا يقال له: أبتر، وإنما الأبتر هو شانئك المنسى في الدنيا والآخرة، وإن ذكر ذكر باللعن. وكانوا يقولون: إنّ محمدا صنبور، إذا مات مات ذكره. وقيل: نزلت في العاص بن وائل، وقد سماه الأبتر، والأبتر: الذي لا عقب له، ومنه الحمار الأبتر الذي لا ذنب له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (والمَنَار)، النهاية:«المنَارُ جمع مَنارَة، وهي العلامةُ بين الحدَّيْن. ومنه حديثُ أبي هريرة: "إنّ للإسلامِ صُويّ ومَنارًا"، أي: علاماتٍ وشرائعَ يعرفُ بها» . وقيل: المنائرُ: جمعُ المنارةِ التي يُؤذّنُ عليها، والأصلُ: مَناوِر؛ لأنه من النور، بُدّلَ الهمزةُ من الواو، وقد يُشَبَّهُ الأصليُّ بالزائد، كما قالوا: مَصائب، وأصلُه: مَصاوب.
قولُه: (فمثلُك لا يقالُ له: الأبتر)، وهو نحوُ قولك:"مثلُك لا يَبْخل" في الكناية، أي: مَن هو في صفتِك، مِن أن كلِّ مَن يولدُ من المؤمنين إلى آخرِ الدَّهر أولادٌ له، لا يقالُ له: الأبتر.
قولُه: (صُنْبور)، النهاية:«الأبترُ الذي لا عَقِب له. وأصلُ الصُّنْبورِ سَعَفةٌ تَنْبتُ في جِذْعِ النخلةِ لا في الأرض. وقيل: هي النخلةُ المنفردةُ التي يَدِقُّ أسفلُها. أرادوا أنه إذا قُلعَ انقطعَ ذِكرُه، كما يَذْهبُ أثرُ الصُّنبورِ، لأنه لا عقبَ له» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكوثر، سقاه الله من كل نهر في الجنة، ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر أو يقربونه» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (أَوْ يُقَرِّبونَه)، عن بعضهم:"أو" للتنويع.
تَمَّتِ السُّورة
*****
سورة الكافرون
مكية، وهي ست آيات
ويقال لها ولسورة الإخلاص: المقشقشتان، أي: المبرئتان من النفاق
بسم الله الرحمن الرحيم
[(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)] 1 - 6 [
المخاطبون كفرة مخصوصون قد علم الله منهم أنهم لا يؤمنون. روى أنّ رهطا من قريش قالوا: يا محمد، هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الكافرون
مكية، وهي ست آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قولُه: (ونَتَّبعُ)، عن بعضِهم: هو عطفٌ على محلِّ "فاتَّتبعْ"، لأنه لو كان مضارعًا لكان مجزومًا، أنه جوابُ "هَلُمَّ". وقولُه:"نعبدُ" إلى آخره، تفسير.
فقال: (معاذ الله أن أشرك بالله غيره) فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فنزلت؛ فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم فقرأها عليهم؛ فأيسوا. (لا أَعْبُدُ) أريدت به العبادة فيما يستقبل، لأن (لا) لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، كما أن (ما) لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال، ألا ترى أن (لن) تأكيد فيما تنفيه (لا). وقال الخليل في (لن): إنّ أصله (لا أن) والمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه منى من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي. (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أي: وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه، يعنى: لم تعهد منى عبادة صنم في الجاهلية، فكيف ترجى منى في الإسلام. (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي: وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.
فإن قلت: فهلا قيل: ما عبدت، كما قيل: ما عبدتم؟
قلت: لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث، وهو لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (فاستلمْ)، أَيْ: قَبِّلْ؛ يقال: استلمِ الحجرَ، أي: صافحْه، ثُمّ عَمَّ في كلِّ مُماسّة.
قولُه: (فَهلّا قيل)، يعني: قولُه: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ، قرينةٌ لقوله:{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} ، فلِمَ خولِفَ في الثانية إلى {مَا أَعْبُدُ} ، وكان الظاهر {مَا عَبَدْتُ} ، كما قيل في الأولى {مَا عَبَدْتُمْ} ؟
قولُه: (وهو لم يكنْ يعبدُ اللهَ تعالى في 1 لك الوقت)، الانتصاف: «هذا القولُ خطأٌ أصلًا وفرعًا، أما أصلُه فإنّ القدريّ يعتقدُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكنْ قبلَ البعثِ على دينِ نبيٍّ قبلَه، لأن ذلك غَميزةٌ في حقّه ومنفّرٌ عن اتّباعه، ويعتقدون أن الناسَ كلَّهم متعبّدون بمقتضى العقلِ بوجوبِ النظرِ في آياتِ الله وأدلّةِ توحيدِه ومعرفتِه، وأنّ وجوبَ النظرِ بالعقلِ لا بالسمع؛
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فتلك عبادةُ قبل المبعث، يجبُ أن لا يظنوا به عليه السلام الإخلالَ بها فأصلُهم حينئذٍ يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم كانَ قبلَ المبعثِ يعبدُ اللهَ عز وجل، فحافظَ الزمخشريُّ [على] هذا الأصلِ في عدمِ اتْباعِه لنبيٍّ سابق، فأخلَّ بالتفريعِ على أصلِه الآخرِ في وجوبِ العبادةِ بالعقل. والحقُّ أنه صلى الله عليه وسلم كانَ متعبدًا قبلَ الوحي ويَتَحنّثُ في غارِ حراء؛ فإنْ كانَ مجئُ قولِه {أَعْبُدُ} ، لأن الماضي لم تحصلْ فيه العبادةُ المرادةُ في الآية، فيحملُ الأمرُ فيما عَبَدْتُ، على مدموعِ العبادةِ الحاصلةِ التي لم تُعلمْ إلّا بالشرع، لا على مجرّدِ توحيدِ الله ومعرفتِه؛ فإنّ ذلك لم يَزلْ ثابتًا له عليه السلام قبل البعثة. وأما مجيئُه مضارعًا، فلتصوير عبادتِه في نفسِ السامعِ وتَمكُّنِها، كقولِه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الحج: 63]، والأصلُ: أصبحتْ؛ عُدلَ عنه للمعنى المذكور». وقلتُ: يجوزُ أن يُحملَ على الاستمرارِ في الماضي والآتي بقرينةِ التقابل، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [فاطر: 29]، بعطفِ الماضي على المستقبل. والصحيحُ أنه صلواتُ الله عليه كانَ المبعثِ متعبدًا بشرعٍ.
روى ابنُ الجوزي في كتابِ "الوفا"، عن الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ رحمه اللهُ تعالى: «مَن قالَ: إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ على دينِ قومِه، فهو قولُ سوء، أليسَ انَ لا يأكلُ ما ذُبحَ على النُّصب؟ وقالَ أبو الوفاءِ عليٌّ بنُ عقيل: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم متدينًا قبلَ بعثتِه، بما يَصحُّ عنده أنه مِن شريعةِ إبراهيم عليه السلام، وأما بعدَ بعثتِه، فهل كانَ يتعبّدُ بشريعةِ مَن قبلَه؟
فيه روايتان: إحداهما: أنه كانَ متعبدًا بما صَحَّ مِن شرائعِ مَن قبلَه بطريقِ الوحيِ إليه،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا من جهتِهم ولا نَقلِهم ولا كتبهم المنزلة، واختارها أبو الحسن التميميُّ، وهو قولُ أصحابِ أبي حنيفةَ رحمهم الله.
والروايةُ الثانية: أنه لم ينْ متعبدًا بشئٍ من الشرائعِ، إلّا ما أُوحيَ إليه من شريعتِه، وهو قولُ المعتزلةِ والأشعرية. ولأصحابِ الشافعيّ وجهانِ كالروايتين. واختلفَ القائلون بأنه متعبدٌ بشرعِ مَن قبلَه: بأيِّ شريعةٍ كان متعبدًا؟ قالَ بعضُهم: بشريعةِ موسى عليه السلام إلّا ما نُسخَ في شرعنا. وظاهرُ كلامِ أحمدَ رحمه الله تعالى، أنه كانَ متعبدًا بكلِّ ما صَحَّ أنه شريعةٌ لنبيٍّ قبلَه، ما لم يثبتْ نسخْه، لقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90].
وقالَ ابنُ قتيبة: لم تَزلِ العربُ على بقايا من دينِ إسماعيلَ عليه السلام، من ذلك: حجُّ البيت، والخِتان، وإيقاعُ الطلاقِ إذا كان ثلاثًا، وأن للزوجِ الرّجعةَ في الواحدةِ والاثنين، ودِيّةُ النفسِ مئٌ من الإبل، والغُسلُ من الجنابة، وتحريمُ ذواتِ المحارمِ بالقرابةِ والصِّهر، فكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه من الإيمانِ بالله والعملِ بشرائعهم. وأما قولِه تعالى:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]، يُعنى به: شرائعُ الإيمان، ولم يُردْ به الإيمانُ الذي هو الإقرارُ بالله». تَمَّ كلامُ ابن الجوزي.
وقلتُ: غرضُ المصنفِ من ارتكابِ هذا المحظور، دَفعُ التكرارِ من الكلام باختلافِ الزمانينِ المستقبلِ والماضي؛ فإنه جَعلَ القرينتينِ الأوليينِ للاستقبال والأخُريين للماضي، ولذلك توجّهَ عليه السؤال. والأوجَهُ أن يقال: إن الكلامَ ما وقع في عبادةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أيُّ شئٍ عبد فيما مضى من الزمان، بل وقع فيما يُستقبل، كما يشهدُ له سَببُ النزولِ بقوله:{مَا أَعْبُدُ} ، على ظاهره. وأما قولُه:{مَا عَبَدْتُمْ} على الماضي، فللمبالغةِ مِن التبرّي عنهم وعن عبادتهم، فهو على خلافِ الظاهر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قالَ الإمام: «في الآيةِ قولان: الأولُ: أنه لا تكرارَ فيها، وفيه وجوه:
أحدهُا أنّ الأولَ للاستقبال، لأن "لا" لا تدخلُ إلّا على مضارعٍ في معنى الاستقبال، أي: لا أفعلُ في المستقبلِ ما تطلبونه مني من عبادةِ آلهتِكم، ولا أنتم فاعلون في المستقبلِ ما أطلبُ منكم من عبادةِ إلهي، ثمّ قالَ:{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} ، أي: لستُ في الحالِ بعابدٍ معبوديكم، ولا أنتم في الحالِ بعابدين معبودي.
وثانيها: أن يُقلب، فيجعلَ الأولُ للحالِ والثاني للاستقبال، وعليه كلامُ الزجاجِ والواحدي ومحيي السُّنة؛ قال الواحدي:«وإنما جئَ بـ"ما" بدلَ "من" ليقابلَ قولَه {مَا تَعْبُدُونَ} حملًا للثاني على الأول» . وقال الزجاجُ ومحيي السُّنة: «هذا خطابٌ لمن سبقَ في علمِ الله أن لا يؤمن» .
وثالثُها: قولُ أبي مسلم: المقصودُ من الأُولَيينِ المعبود، و"ما" بمعنى "الذي"، أي: لا أعبدُ الأصنامَ ولا تعبدونَ الله، وفي الأُخريَيْنِ "ما" مصدرية، أي: ولا أنا عابدٌ مثلَ عبادتكم المبنيّةِ على الشك، ولا أنتم عابدون مثلَ عبادتي المبنيّةِ على اليقين.
ورابعُها: أن تُحملَ الأولى على نفي الاعتبارِ الذي ذكروه، والثانيةُ على العامِ بجميعِ الجهات، أي: لا أعبدُ ما تعبدون رجاءَ أن تعبدوا الله، ولا أنتم عابدون رجاءَ أن أعبدَ صنمَكم، ثم قال: ولا أنا عابدٌ صنمَكم لغرضٍ من الأغراض، بوجهٍ من الوجوه، وكذا أنتم لا تعبدون اللهَ لغرضٍ من الأغراض؛ مثالُه: مَن يدعو غيرَه إلى الظلمِ لغرضِ التنعّم، فيقول: لا أظلمُ لغرضِ التنعّم، بل لا أظلمُ أصلًا، سواءٌ كان للتنعّمِ أو غيرِه.
فإن قلت: فلم جاء على (ما) دون (من)؟
قلت: لأن المراد الصفة، كأنه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق. وقيل: إن (ما) مصدرية، أي: لا أعبد عبادتكم، ولا تعبدون عبادتي. (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) لكم شرككم، ولى توحيدي. والمعنى: أنى نبيّ مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا منى ولم تتبعوني، فدعوني كفافًا ولا تدعوني إلى الشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والقولُ الثاني: هو أن يُسلَّمَ حصولُ التكرار، وهو لوجهين: أحدُهما أن التكرارَ يفيدُ التوكيد، وكلّما كانتِ الحاجةُ إلى التوكيدِ أشدَّ كانَ التكريرُ أحسن، ولا موضعَ أحوجُ إلى التأكيدِ من هذا المقام؛ لأنهم رجعوا إليه في هذا المعنى مرارًا، وطمعوا فيه لما رأوا فيه من الحرصِ على إبمانهم.
وقالَ محيي السُّنة: «قالَ أكثرُ أهلِ العلم: إن القرآنَ نزلَ بلسانِ العربِ وعلى مجاري خطابِهم، ومن مذاهبِهم التكرارُ وإرادةَ التأكيدِ والإفهام، كما أن من مذاهبِهم الاختصارَ للتخفيفِ والإيجاز» .
وقلتُ: هذا الوجهُ هو الذي اخترناه لطباقِه المقام، ثُمّ المختارُ الوجهُ الرابعُ من القولِ الأول.
وثانيهما: أنهم ذكروا تلك الكلمةَ مرتين، يعني: تعبدُ آلهتَنا شهرًا ونعبدُ إلهك شهرًا، وتعبد آهتَنا سنةً ونعبدُ إلهك سنة، فأتى الجوابُ على التكرار على وفِق قولِهم، وفيه ضَربُ من التهكُّم؛ فإنّ مَن كرّرَ الكلمةَ الواحدةَ لغرضٍ فاسد، فإنه يُجازى لدفعِ تلك الكلمةِ على سبيلِ التكرارِ استخفافًا». نقل هذا الوجهَ محيي السُّنةِ عن القُتَيْبي، أخصر منه.
قولُه: (فَدَعوني كَفافًا)، النهاية: «الكَفافُ هو الذي لا يفضُلُ عن الشئ، ويكونُ بقَدرِ
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة "الكافرون"، فكأنما قرأ ربع القرآن، وتباعدت منه مردة الشياطين، وبريء من الشرك ويعافى من الفزع الأكبر» .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحاجةِ إليه، وهو نصبٌ على الحال. وقيل: أرادَ به مكفوفًا عنِّي شَرُّهم. وقيل: أن لا تنالوا منّي ولا أنا أنالُ منكم، أي: تكفّونَ عني وأكفُّ عنكم». فإذن، في قولِه {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} معنى المُتاركةِ وتقريرُ كلِّ من الفريقين الآخرَ على دينه، فيكون منسوخًا بآيةِ القتال.
وقال القاضي: «ولي ديني الذي أنا عليه لا أرفضُه، فليس فيه إذنٌ في الكفرِ ولا مَنعٌ عن الجهاد، فلا يكونُ منسوخًا» . وقد فُسِّرَ "الدِّينُ" بالحسابِ والجزاءِ والدعاءِ والعبادة.
قولُه: (فكأنما قرأ ربع القرآن)، روينا عن الترمذي، عن ابنِ عباسٍ وأنس، قالا: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، عَدلتْ له رُبعَ القرآن» .
تَمّتِ السُّورَة
*************
سورة النصر
مدنية وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) 1 - 3)
(إِذا) منصوب بـ (سبح)، وهو لما يستقبل. والاعلام بذلك قبل كونه من أعلام النبوّة. روى أنها نزلت في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع. فإن قلت: ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف عليه؟
قلت: النصر الاغاثة والاظهار على العدوّ. ومنه: نصر الله الأرض غاثها. والفتح: فتح البلاد. والمعنى: نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على العرب. أو على قريش وفتح مكة. وقيل: جنس نصر الله للمؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم، وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة النصر
مدنية وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (أو على قريش وفتح مكّة)، قال القاضي: (قيل: المراد جنس نصر الله وفتح مكّة وسائر البلاد عليهم، وإنما عبّر عن المحصول بالمجيء تجوّزا، للاشعار بأن المقدّرات متوجهة
سنة ثمان، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوازن، وحين دخلها وقف على باب الكعبة، ثم قال:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده"، ثم قال:"يا أهل مكة، ما ترون أنى فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا؛ أخ كريم وابن أخ كريم". قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئًا، فلذلك سمى أهل مكة الطلقاء، ثم بايعوه على الإسلام، (فِي دِينِ اللَّهِ) في ملة الإسلام التي لا دين له يضاف إليه غيرها، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)] آل عمران: 85 [. (أَفْواجاً) جماعات كثيفة؛ كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدًا واحدًا واثنين اثنين. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أنه بكى ذات يوم، فقيل له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الأزلِ إلى أوقاتِها المعيَّنةِ لها، فتَقْرُبُ منها شيئًا فشيئًا، أي: قد قربَ النصرُ من وقتِه، فكن مترقّبًا لوروده مستعدًّا لشكره».
وقلتُ: فيه وفي كلامِ المصنِّفِ نَظَر، لأن فتحَ مكةَ مقدّمٌ على نزولِ السورة، لِما روينا عن مسلم، عن عُبيدِ الله بنِ عبدِ الله بنِ عتبة، قال: قالَ لي ابنُ عباس: «أتدري آخرَ سورةٍ نزلتْ من القرآنِ جميعًا؟ » قلتُ: نعم، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}. قال:"صدقت". وفي كلام المصنّفِ إيذانٌ به، وذلك أنه قال:«وكان فتحُ مكةَ لعشرٍ مَضَيْنَ من شهرِ رمضانَ سنةَ ثمان» . وقيل: إنها نزلتْ في أيامِ التشريقِ بمِنىّ في حجّةِ الوداع، وكانتْ حجّةُ الوداعِ في السَّنةِ العاشرة، لأنه صلواتُ الله عليه، مكثَ تسعَ سنينَ ولم يَحجَّ، ثم أُذنَ له في السنةِ العاشرة.
قولُه: (وعن جابِر بنِ عبدِ الله رضي الله عنه، أنه بكى ذاتِ يوم)، الحديثُ أخرجَه أحمدُ
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخل الناس في دين الله أفواجًا، وسيخرجون منه أفواجًا» وقيل: أراد بالناس أهل اليمن. قال أبو هريرة: لما نزلت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن: قوم رقيقة قلوبهم، الإيمان يمان، والفقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابنُ حنبلٍ عنه، ورواه الدّراميُّ عن أبي هريرة.
قولُه: (الإيمانُ يَمانٍ)، الحديثُ من روايةِ البخاري ومسلم والتّرمذي عن أبي هريرة، قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أتاكم أهلُ اليمن؛ فإنهم أرقُّ أفئدةً، وألينُ قلوبًا، الإيمانُ يَمانٍ، والحكمةُ يَمانِيَة» ، وفي روايةٍ:"الفقهُ يَمان"، الحديث.
النهاية: «إنما قالَ: الإيمانُ يَمانٍ والحكمةُ يَمانِيَة، لأنّ الإيمانَ بدأ من مكة، وهي من تِهامة، وتهامةُ من أرضِ اليمن، ولهذا يقال: الكعبةُ اليمانية. وقيل: إنه صلواتُ الله عليه قالَ هذا القولَ وهو بتبوك، ومكةُ والمدينةُ يومئذٍ بينه وبين اليمن، فأشارَ إلى ناحيةِ اليمنِ وهو يريدُ مكةَ والمدينة. وقيلَ: أرادَ بهذا القولِ الأنصارَ لأنهم يمانيون، وهم نَصروا الإيمانَ والمؤمنين وآوَوْهم، فنُسبِ الإيمانُ إليهم» ، لقولِه تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9]. وعن غيرِه: أريدَ بالحكمةِ السُّنةُ والفقه، لقولِه تعالى:{} [الجمعة: 2].
ويروى: الفقهُ يَمانٍ؛ هذا ثناءٌ على أهلِ اليمنِ لإسراعِهم إلى الإيمانِ، وحُسْنِ قَبولِهم إياه.
وقلتُ: لعلَّ المعنيَّ من الفقهِ، ما عَناهُ الحسنُ في ما روينا عن الدّرامي عن عمران، قال: قلتُ للحسنِ يومًا في شئٍ قاله" يا أبا سعيد، ليسَ هكذا تقولُ الفقهاء. فقال: «ويحك!
يمان، والحكمة يمانية» وقال: "أجد نفس ربكم من قبل اليمن».
وعن الحسن: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أقبلت العرب بعضها على بعض، فقالوا: أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس به يدان، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل وعن كل من أرادهم، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجًا من غير قتال. وقرأ ابن عباس: فتح الله والنصر، وقرئ: يدخلون، على البناء للمفعول.
فإن قلت: ما محل (يدخلون)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ورأيتَ فقيهًا قَطُّ؟ إنّما الفقيهُ الزاهدُ في الدّنيا، الراغبُ في الآخرة، البصيرُ بأمرِ دينه، المداومُ على عبادة ِ ربّه».
قولُه: (أجدُ نَفَسَ ربّكم من قبلِ اليمن)، النهاية:«النّفَسُ مستعارٌ من نَفَس الهواءِ الذي يَرُدُّه التنفُّسُ إلى الجوف، فيُبْرِدُ من حرارتهِ ويُعدِّلُها، أو من نَفَسِ الرِّيحِ الذي يَتنسِّمُه فيستروحُ إليه، أو مِن نَفَسِ الرَّوْضةِ وهو طيبُ روائحها، فَينفرجُ به عنه. يقالُ: أنتَ في نَفَسٍ من أمرك، وأعملْ وأنتَ في نَفَسٍ من عمرك، أي: في سَعَةٍ وفُسْحة» .
قولُه: (أّمَا إذْ ظَفِر)، يُروى "أما" مخفّفُا ومثقلًا. والثاني هو الوجه، لأنّ "أمّا" تفصيلية، أي: أمّا إذا لم يظفرْ بأهلِ الحرم، فكنّا نطمعُ في غَلَبتنا عليه، وأما إذْ ظفرَ به، فليس لنا به يدان.
قلت: النصب إما على الحال، على أن رأيت بمعنى أبصرت أو عرفت. أو هو مفعول ثان على أنه بمعنى علمت. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) فقل: سبحان الله؛ حامدًا له. أي: فتعجب لتيسير الله ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم، واحمده على صنعه. أو: فاذكره مسبحًا حامدًا، زيادة في عبادته والثناء عليه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (فقل: سبحانَ الله: حامدًا له، أي: فتعجبْ)، والباءُ في {بِحَمْدِ رَبِّكَ} للحال، أي: قُلِ التسبيحَ وأنتَ ملتبسٌ بالحمد؛ فإذنْ لا يكونُ القصدُ بذكرِ التسبيح الذكر. قال: «والأصلُ في ذلك أن يسبحَ الله في رُؤيةِ العجيبِ من صنائعِه، ثم كثرَ حتى استُعملِ في كلِّ متعجَّبٍ منه» . "الانتصاف": «الأمرُ على هذا بمعنى الخبر، لأن الأمرَ في صيغةِ التعجّبِ ليسَ مرادًا، والمرادُ أن هه القصةَ من شأنِها أن يُتعجَّبَ منها» .
قولُه: (أو: فاذكرْه مسبِّحًا حامدًا)، فعلى هذا، يكونُ القصدُ بذكرِ التسبيح، الذكرَ على سبيلِ التضمين، ولذلك أوقعَه حالًا، و {بِحَمْدِ رَبِّكَ} حالٌ على التداخلِ، لأن التضمينَ يجعلُ المضمّنَ حالًا في الأكثر. قالَ القاضي:«المعنى: فأثنِ على الله بصفاتِ الجلالِ، حامدًا له على صفاتِ الإكرام» .
وقلتُ: هذا الوجهُ أولى من الأولِ وأحسنُ التئامًا، وقد مَرّ في سورةِ الفتح أنه تعالى، إنما جعلَ فتحَ مكةَ عِلةً للمغفرة، لأنه كان سببًا لأن يؤمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالاشتغالِ بخاصّةِ نفسِه، بعدَ بَذْلِ المجهودِ فيما كُلِّفَ به من تبليغِ الرسالةِ ومجاهدةِ أعداءِ الدين، وبالإقبالِ على العبادةِ والتقوى، والتأهُّبِ للمسيرِ إلى المقاماتِ العليةِ واللُّحوقِ بالرفيقِ الأعلى، وإليه يُلمّحُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقولِه: «إنّ عبدًا خَيَّرَه اللهُ بين الدنيا وبين لقائِه، فاختارَ لقاءَ الله» . ومن ثَمّ بكى عَمُّه العباسُ حين تُليتْ عليه السورة، وقَالَ: نُعيتْ إليك نفسُك.
وهذا المعنى هو الذي فَهمَ منه ابنُ عمِّه حَبْرُ الأمة، حين ردّ على أولئك الشيوخ، وقال: نُعيتْ إليه نفسُه، وصَدَّقَه عمرُ رضي الله عنه. وأما ما روى محيي السُّنة عن محمدِ بنِ جريرٍ أن قولَه:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، راجعٌ إلى قولِه:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى قولِه {وَاسْتَغْفِرْهُ} أي: واستغفره ليغفرَ لك اللهُ؛ فالمرادُ منه أن هذا التعليل متعلقٌ بمضمرٍ بعد قولِه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} ، {لِيَغْفِرَ لَكَ} ، لأن مرجعَ السُّورتين إلى قصةٍ واحدةٍ وحالةٍ متحدة، لا أنّ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} متعلقٌ بقوله:{وَاسْتَغْفِرْهُ} بعينه، لِما يؤدي إلى إخلالِ النظمِ المعجزِ الفائتِ للقُوى والقَدَر، فكيف ونزولُ {إِنَّا فَتَحْنَا} ، كان قبلَ فتحِ مكةَ بعدَ مرجعِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من الحُدَيْبية، وتأخُّرُ نزولِ سورةِ النصرِ عن الفتحِ بسنتين؟ وقد أسلفنا في سورةِ هودٍ قانونًا يضمّ أطرافِ قصةٍ واحدة، في مقاماتٍ شتّى، على أنحاءٍ مختلفة.
فإن قلتَ: قد ذَلَّ اتحادُ القصةِ على هذا المُقدّر، فما تَصنعُ بما روى محيي السُّنةِ أيضًا عن الحسينِ بنِ الفضل، أن قولَه:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} مردودٌ إلى قولِه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، أي: استغفرْ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} ، و {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الفتح: 5].
قلتُ: هذا ممّا يقوي ما آثرناه من التعلّقِ المعنوي؛ لأنك إذا جعلتَ التعلُّقَ فيه لفظيًا، وقعتَ في فيفاءَ، وخبطتَ خبطَ عشواء، ألا ترى كيف قُرِنَ مع {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} قولُه {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وهو عِلةٌ لقولِه {أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4]، المعلَّلِ بقولِه:{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} ، وعُطفَ عليه {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} ، كما قالَ المصنف:«ومن قضيّتِه أن سَكَّن قلوبَ المؤمنين» ، إلى قولِه:«فيستحقوا الثوابَ فيثيبَهم، ويعذّبَ الكافرين والمنافقين» .
وعلى هذا وردَ ما روينا عن مسلمٍ والترمذي، عن أنس: لَمّا نَزلتْ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} إلى {فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح: 1 - 5]، مَرْجِعَه من الجديبية، وهم يخالطُهم الزنُ والكآبة، وقد نَحَرَ الهَدْيَ بالحُدَيْبية، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«لقد أُنزلتْ عليَّ آيةٌ هي أحبُّ إلىَّ من الدنيا جميعًا» . وفي روايةِ الترمذي: «فقالوا: هنيئًا مريئًا يا رسولَ الله، لقد بَيَّنَ لك اللهُ ما يُفعلَ بك، فماذا يفعلُ بنا؟ » فنزلتْ: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . ولعلَّ القائلَ لمَّا نَظرَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، إذا استغفرَ لذنبِه وذنبِ المؤمنين، لا بُدَّ أن يَغفرَ اللهُ له، ويستجيبَ دعاءَه في حقِّ أُمتِه، كما قالَ:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]، عُلِّق به من حيثُ المعنى، ولأجلِ هذه الدَّقيقة، آثر لفظِ راجعٌ ومردودٌ على متعلق، والله أعلم.
لزيادة إنعامه عليك، أو فصل له. روت أمّ هانئ: أنه لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثماني ركعات، وعن عائشة: كان عليه الصلاة والسلام يكثر قبل موته أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك» ، والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين: من الجمع بين الطاعة والاحتراس من المعصية، ليكون أمره بذلك مع عصمته لطفًا لأمته؛ ولأنّ الاستغفار من التواضع لله وهضم النفس، فهو عبادة في نفسه. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:«إني لأستغفر في اليوم والليلة مائة مرة» ، وروى: أنه لما قرأها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على أصحابه استبشروا وبكى العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما يبكيك يا عم» ؟ قال: نعيت إليك نفسك. قال: «إنها لكما تقول» ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (صلاةَ الضحى ثمانيَ ركعات)، الحديثُ رويناه في "صحيح البخاري".
قولُه: (كانَ يكثرُ قبلَ موتِه)، الحديثُ رواه البخاري ومسلم.
قولُه: (والأمرُ بالاستغفارِ مع التسبيحِ تكميل)، التكميلُ في الصناعةِ، هو أن يُؤتى بكلامٍ فيُرى ناقصًا فَيُتمَّمُ بكلامٍ آخر. وها هنا، الأمرُ بالتسبيحِ: أمرٌ بالطاعةِ، والإتيانُ بالطّاعات، لا يكونُ كاملًا ما لم يُضَمَّ معها الاحترازُ عن المعاصي، قالَ القاضي:«واستغفره هضمًا لنفسِك واستقصارًا لعملِك، واستدراكًا لِما فرط منك بالالتفاتِ إلى الغير، وقيل: استغفره لأمتك. وتقديمُ التسبيحِ ثُمّ الحمدِ على الاستغفار، على طريقة النزولِ من الخالقِ إلى الخَلْق» .
قولُه: (إني لأستغفرُ في اليومِ [والليلةِ] مئة مرّة)، رواه البخاريُّ والترمذيُّ عن أبي هريرة.
فعاش بعدها سنتين لم ير فيهما ضاحكا مستبشرا، وقيل: إن ابن عباس هو الذي قال ذلك؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أوتى هذا الغلام علمًا كثيرًا» .
وروى: أنها لما نزلت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين لقائه، فاختار لقاء الله» ، فعلم أبو بكر رضي الله عنه، فقال: فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا. وعن ابن عباس: أن عمر رضي الله عنهما كان يدنيه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبد الرحمن: أتأذن لهذا الفتى معنا وفي أبائنا من هو مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم. قال ابن عباس: فأذن لهم ذات يوم، وأذن لي معهم، فسألهم عن قول الله تعالى:(إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ) ولا أراه سألهم إلا من أجلى؛ فقال بعضهم: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه؛ فقلت: ليس كذلك، ولكن نعيت إليه نفسه؛ فقال عمر: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم، ثم قال: كيف تلومونني عليه بعد ما ترون؟ وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه دعا فاطمة رضي الله عنها فقال: «يا بنتاه إنه نعيت إلىّ نفسي"، فبكت، فقال: "لا تبكى، فإنك أوّل أهلي لحوقًا بي» . وعن ابن مسعود أنّ هذه السورة تسمى سورة التوديع، (كانَ تَوَّاباً) أي: كان في الأزمنة الماضية منذ خلق المكلفين توابًا عليهم إذا استغفروا، فعلى كل مستغفر أن يتوقع مثل ذلك.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (إذا جاء نصر الله)، أعطى من الأجر كمن شهد مع محمٍد يوم فتح مكة» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (وعن ابنِ عباسٍ: أن عمرَ رضي الله عنه يُدْينه) الحديثُ أخرجَه الإمامُ أحمدُ والبخاريُّ والترمذيُّ.
قولُه: (يُدْينه)، أي: يقدّمه ويسوّيه مع الشيوخ، ويأذنُ له في الدخولِ عليه.
قولُه: (دعا فاطمةَ رضي الله عنها، الحديثُ مختصرٌ من روايةِ الدرامي، عن ابنِ عباس.
**************
سورة (تبت)
مكية، وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)] 1 - 5 [
التباب: الهلاك. ومنه قولهم: أشابة أم تابة، أي: هالكة من الهرم والتعجيز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة {تَبَّتْ}
مكية، وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قولُه: (التباب: الهلاك)، الراغب:«التَّبُّ والتَّباب: الاستمرار في الخسران، يقال: تبًّا له وتبٌّ له وتَببْتُه: إذا قلتُ له ذلك، ولتضمّن ِالاستمرار قيل: استتبَّ لفلانٍ كذا، أي: استمرَّ. و " تَبّتْ يدا أبي لهب"، أي: استمرت في الخُسران، قال الله تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101]، أي: تخسير» .
قولهُ: (والتَّعْجيز)، عن بعضهم: عَجَزَتِ المرأةُ وعَجّزتْ: إذا صارت عجوزًا، كما تقول: تَثيّبتِ المرأة، إذا صارت ثَيِّبة.
والمعنى: هلكت يداه؛ لأنه فيما يروى: أخذ حجرًا ليرمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَتَبَّ) وهلك كله، أو جعلت يداه هالكتين. والمراد: هلاك جملته، كقوله تعالى:(بِما قَدَّمَتْ يَداكَ)] الحج: 10 [ومعنى: (وَتَبَّ): وكان ذلك وحصل، كقوله:
جزاني جزاه الله شرّ جزائه
…
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (والمراد: هلاك جُملته)، ونحوه قول الشاعر:
وإنّ امرءًا ضَنَّتْ يَداهُ على امرئٍ
…
بِنَيْلِ يدٍ من غيرِه لبخيلُ
أي: ضنّ على امرئٍ. الجوهري: «يُقال: هذا ما جَنَتْ يداك، أي: جَنَيت» .
قولُه: (ومعنى {وَتَبَّ}: وكان ذلك وحَصَل)، عن بعضهم: فتَبَّ على الأولِ: دعاءٌ، وعلى الثاني: خبر. و «تَبَّتْ» دعاءٌ على كلِّ حال. قال الإمام: «يجوزُ أن يراد بالأولِ هلاكُ عملِه، وبالثاني هلاكُ نفسِه، ووجهُهُ أن المرءَ إنما يسعى لمصلحةِ نفسِه وعملِه، فأخبرَ اللهُ تعالى أنه محرومٌ من الأمرين» .
وقلتُ: النظمُ يساعدُ قولَ الإمام، لأن ما بعدَه بيانٌ وتفسير؛ فإنّ قولَه:{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ، إشارةٌ إلى هلاكِ عملِه، وقولَه:{سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} ، إشارةٌ إلى هلاكِ نفسِه. وقال «تَبَّ» أولًا على الماضي، ليؤذنَ بالقطعِ على سننِ إخبارِ الله عن المستقبل، و {سَيَصْلَى} ثانيًا على الاستقبال، حكايةً للحالِ الآتية، تصويرًا لها في مشاهدةِ السامع.
يؤيدُه أيضًا قراءةُ ابنِ مسعود رضي الله عنه: «وقد تَبَّ» ، لأن «قد» للتحقيق كما في قول الشاعر.
وقد فَعَلْ.
ويدل عليه قراءة ابن مسعود: (وقد تب)، وروى: أنه لما نزل (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)] الشعراء: 214 [رقى الصفا وقال: يا صباحاه، فاستجمع إليه الناس من كل أوب. فقال: يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلًا أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم؛ قال: فإني نذير لكم بين يدي الساعة؛ فقال أبو لهب: تبًا لك، ألهذا دعوتنا؟ فنزلت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقديره: جَزاني جزاء الكلابِ العاويات، ويروى: العاديات، جزاهُ اللهُ شَرَّ جزائِه وقد فعلَ ذلك، أي: كانَ ذلك وقد حَصَل.
قولُه: (وروي أنه لمّا نزل {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214])، الحديث ن رواية البخاريُّ ومسلمٍ والإمام أحمد َ والترمذيِّ، عن ابنِ عباس، قال: " لمّا نزلتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، صعِدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الصَّفا، فجعلَ ينادي: يا بني فِهْر، يا بني عديّ، لبطونِ قريش، حتى اجتمعوا، فجعلَ الرجلُ إذا لم يستطعْ أن يخرجَ، أرسلَ رسولًا لينظرَ ما هو، فجاءَ أبو لهبِ وقريش. فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريدُ أن تغيرَ عليكم، كنتم مصدِّقيّ؟ قالوا: نعم، ما جَربّنا عليك إلا صدقًا. قال: فإني نذيرٌ لكم بين يَدَيْ عذابٍ شديد. فقالَ أبو لهب: تَبًّا لك سائرَ اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلتْ.
قولُه: (يا صَباحاه)، النهاية «هذه كلمةٌ بقولُها المستغيث، وأصلها: إذا صاحوا للغارة؛ لأنهم أكثرُ ما كانوا يُغيرونَ عند الصباح، فكأنه يريد: قد جاءَ الصباحُ فتأهبوا» .
قولُه: (بسَفْحِ هذا الجبل)، سَفْحُ الجبلِ: أسفلُه، حيثُ يُسفحُ فيه الماء.
فإن قلت: لم كناه، والتكنية تكرمه؟
قلت: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكون مشتهرًا بالكنية دون الاسم، فقد يكون الرجل معروفًا بأحدهما، ولذلك تجرى الكنية على الاسم، أو الاسم على الكنية عطف بيان، فلما أريد تشهيره بدعوة السوء، وأن تبقى سمة له، ذكر الأشهر من علميه، ويؤيد ذلك قراءة من قرأ:"يدا أبو لهب"، كما قيل: على بن أبو طالب، ومعاوية بن أبو سفيان؛ لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع، ولفليتة بن قاسم أمير مكة ابنان، أحدهما: عبد الله بالجرّ، والآخر عبد الله بالنصب. كان بمكة رجل يقال له: عبد الله بجرّة الدال، لا يعرف إلا هكذا.
والثاني: أنه كان اسمه عبد العزي، فعدل عنه إلى كنيته.
والثالث: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته؛ فكان جديرًا بأن يذكر بها. ويقال: أبو لهب، كما يقال: أبو الشر للشرير، وأبو الخير للخير، وكما كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا المهلب أبا صفرة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (لئلا يُغيّرَ منه شئٌ فيشكلُ على السامع)، "الانتصاف":«وفيهِ دليلٌ على أن الرّفعَ أسبقُ وحوهِ الإعراب، ألا تراهم حافظوا على صورتِه وصيغته، فاشتُهرَ الاسمُ بهذا، وعُدلَ عن اسمِه عبد العُزّى إلى كُنْيتِه لكراهيتِه» .
قولُه: (ولِفلِيتةَ)، فَلِيتة: بالفاء المفتوحةِ واللام المكسورة، ويُروى:(ولفُكَيْتة) بالكافِ والتصغير.
قولُه: (وكما كنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا المهلَّب: أبا صُفرة)، وليسَ في "جامعِ الأصولِ" له ذِكْر. وأما المهلَّبُ، فهو أبو سعيدٍ، المهلّبُ بنُ أبي صُفرة. وأبو صُفرة اسمُه ظالمُ بن سَرَّاق بنِ صبيح~ الأزدي. ومهلَّبُ صاحبُ الحروبِ المشهورة مع الخوارجِ، مات سنةَ ثلاثٍ وثمانين
بصفرة في وجهه. وقيل: كنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما، فيجوز أن يذكر بذلك تهكمًا به، وبافتخاره بذلك. وقرئ:(أبى لهب) بالسكون، وهو من تغيير الأعلام، كقولهم: شمس بن مالك بالضم. (ما أَغْنى) استفهام في معنى الإنكار، ومحله النصب أو نفى، (وَما كَسَبَ) مرفوع، وما موصولة أو مصدرية بمعنى: ومكسوبه. أو: وكسبه. والمعنى: لم ينفعه ماله وما كسب بماله، يعنى: رأس المال والأرباح، أو ماشيته وما كسب من نسلها ومنافعها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمّرْو الُّروذ، في أيام بد الملك بنِ مروان، وهو من الطبقةِ الأولى من تابعي البصرة، رأى عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه.
قولُه: (وقيل: كُنّي بذلك)، هذا قسيمٌ للوجه الثالث وليسَ بوجهٍ رابع، يعني: أوثرتِ الكنيةُ إما لاشتهارِه بها واختصاصِها به، حتى إنه لو سُمّي لالتبس، أو إنهما سِيِّان، فَعُدلَ إلى الكنيةِ ولو سُمّي لجاز، أو عُدل إليها رعايةُ لنكتة، وهي إما لأنه يكنى بها، أنه جَهَنّميّ، كنايةَ مُجّردة أو مع التهكّم. وقد أشارَ صاحبُ "المفتاح" إلى الوجه الأول، والأولِ من الثالث.
قولُه: (وقرئ: "أبي لَهْبٍ" بالسكون)، ابنُ كثير، والباقونَ: بفتحِ الهاء. قالَ أبو البقاء: " {لَهَبٍ} بالفحِ والإسكانِ لغتان".
قولُه: (ومَحَلُّه النصب)، أي على أنه مفعولٌ مطلق، أَي: أيَّ غناء. ذكرَ أبو البقاءِ الوجهين، وقال:"ما" لا يكونُ بمعنى "الذي". رُوي عن المصنف: المالُ اسمٌ عام؛ فعندَ أهلِ البدوِ استعملَ في الإبل، وعند دَهاقتِهم في الضّيعة.
وكان ذا سابياء، أو ماله الذي ورثه من أبيه والذي كسبه بنفسه، أو ماله التالد والطارف. وعن ابن عباس: ما كسب ولده. وحكي أن بني أبى لهب احتكموا إليه، فاقتتلوا، فقام يحجز بينهم، فدفعه بعضهم فوقع فغضب، فقال: أخرجوا عنى الكسب الخبيث، ومنه قوله عليه الصلاة السلام:«إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» ، وعن الضحاك: ما ينفعه ماله وعمله الخبيث، يعنى كيده في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن قتادة: عمله الذي ظن أنه منه على شيء، كقوله:(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ)] الفرقان: 23 [وروى أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقًا، فأنا أفتدى منه نفسي بمالي وولدي، (سَيَصْلى) قرئ: بفتح الياء وبضمها مخففًا ومشددًا، والسين للوعيد، أي: هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته. (وَامْرَأَتُهُ) هي أم جميل بنت حرب أخت أبى سفيان، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنثرها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: كانت تمشى بالنميمة، ويقال للمشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (وكانَ ذا سايباء)، النهاية:«السَّايباء: النتاج في المواشي وكثرتِها، يقالُ: إنّ لآلِ فلانٍ سايباء، والجمع السَّوابي، وهي في الأصل الجلدةُ التي يخرجُ منها الولد، وقيل: هي المشيمة» . وعن بعضهم: سايباء غيرُ منصرف، وهو اسمُ النتاج.4
قولُه: (التَّالِد)، وهو المالُ القديم، نقيضُ الطارف.
قولُه: (إن أطيبَ ما يأكلُ الرجل)، الحديثُ أخرجه أبو داودَ، عن عائشة-رضي الله عنها.
قولُه: (سَيَصْلى: قرئَ بفتحِ الياء)، وهي المشهورة، وبالضمّ شاذّة.
أي: يوقد بينهم النائرة ويورّث الشر. قال:
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة
…
ولم تمش بين الحىّ بالحطب الرّطب
جعله رطبًا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر، ورفعت عطفًا على الضمير في سَيَصْلى أي: سيصلى هو وامرأته. و (فِي جِيدِها) في موضع الحال، أو على الابتداء، وفي جيدها: الخبر. وقرئ: (حمالة الحطب) بالنصب على الشتم؛ وأنا أستحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميل: من أحب شتم أم جميل. وقرئ: (حمالة للحطب) و (حمالة للحطب): بالتنوين، والرفع والنصب. وقرئ:(ومريته) بالتصغير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (مِن البِيضِ لم تُصْطَدْ) البيت، لم تُصْطَدْ: لم توجَد؛ شُبّهتْ بالمها وأُجري صفتُها عليها. واللامةُ: الأمرُ الذي يُلام عليه، أي: لم توجدْ راكبةَ خصلةٍ تُلامُ عليها؛ يصفُ امرأةً بكرامةِ العِرْض. ويُروى: بالخطرِ الرَّطب. الخطرُ الرطبُ: الخطبُ الذي يُخْطر به، أي: يُجعلْ منه خطيرةٌ، والمعنى: لم يمشِ بالنميمةِ بين الناسِ، فتُلقى فيهم العداوة.
قولُه: (جعلُه رطبًا ليدلَّ على التدخينِ الذي هو زيادةٌ في الشر)، يعني: ما كفى بأن جعلَه خطبًا بل جعلَه رطبًا للإيغالِ والتنميمِ لإرادةِ المبالغة، قال امرؤ القيس:
حملتُ رُدَيْنيًّا كأنّ سنانَه
…
سَنا لهَب لم يتصلْ بدُخان
قولُه: (قُرئَ: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}، بالنصب)، عاصمٌ، والباقون: بالرفع.
المسد: الذي فتل من الحبال فتلًا شديدًا، من ليف كان أو جلد، أو غيرهما، قال:
ومسد أمرّ من أيانق
ورجل ممسود الخلق مجدوله. والمعنى: في جيدها حبل مما مسد من الحبال، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون، تخسيسًا لحالها، وتحقيرًا لها، وتصويرًا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (ومَسَدٍ أُمِرَّ مِن أيانق)، تمامُه عن الزجاج.
صُهْبٍ عِتاقٍ ذاتِ مخٌّ راهقِ
الأصهب، وفي "المطلع": ليسَ بأنيابٍ ولا حقائق. أُمِرّ: أَيْ فُتِل. الأيانقُ جمعُ أَيْنَق، وهو جمعُ ناقة؛ أرادَ أن المسدَ فُتِلَ من جلدِ الأيانق. صُهبٍ: صفةٌ لأيانق. الأصهبُ من الإبل: الذي يخالطُ بياضَه حمرة. راهق: مستعارٌ من راهقَ الغلامُ فهو مراهق. والأنيابُ جمعُ ناب. يعني: هذا المسَد لم يُتَخذ من جلدِ صغيرةٍ ولا كبيرة، وإنما اتخذ من جلدِ فتيّةٍ قويّة.
قولُه: (مجدولُه)، الجوهري:" جاريةٌ مجدولةُ الخَلْق: حسنةُ الجدل".
قولُه: (من المواهِنِ)، جمعُ الماهنة، الَمهْنَةُ بالفتحِ: الخدمة، والماهَنُ: الخادم.
لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها؛ وهما في بيت العز والشرف، وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عير بعض الناس الفضل بن العباس بن عتبة ابن أبى لهب بحمالة الحطب، فقال
ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي
…
أم ما تعيّر من حمّالة الحطب
غرّاء شادخة في المجد غرّتها
…
كانت سليلة شيخ ناقب الحسب
ويحتمل أن يكون المعنى: أن حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك؛ فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم، أو من الضريع وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار؛ كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة (تبت)، رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبى لهب في دار واحدة» .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (لِتَمْتعض)، مَعِضْتُ من ذلك الأمرِ أَمعضُ معضًا، وامتعضتُ منه، إذا غضبتَ وشقَّ عليك.
قولُه: (ماذا أَرَدْتَ) البيتين، أَرَدْتَ: أي: مِلْتَ: ضُمّنَ الإرادةُ معنى الميل وعُدِّي بإلى. الشَّادخة: الغُرَّةُ التي فَشَتْ في الوجهِ من الناصيةِ إلى الأنفِ ولم تُصبْ العينين، يوصفُ بها كرائمُ الخيل. والمرادُ بالشيخِ عبدُ المطلبِ وليسَ به؛ لأنها بنتُ حربٍ، أُختُ أبي سفيانَ كما ذكره.
قولُه: (ويُحتملُ أن يكونَ المعنى أن حالها تكونُ في نارِ جهنّمَ على الصورةِ التي كانت عليها)، فعلى هذا:{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} ، الجملةُ حالٌ من الضميرِ في {سَيَصْلَى} ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو يعطفُ {وَامْرَأَتُهُ} على الضمير. وعلى الأولِ لا يجوزُ الحال، بل عطفُ جملةٍ على جملة، قالَ أبو البقاء:«(امرأتُه) فيه وجهان: أحدهما مبتدأٌ والخبرُ حَمّالة"، وثانيهما هو معطوفٌ على الضمير في {سَيَصْلَى}؛ فعلى هذا، في "حَمّالة" وجهان: أحدهما نعتٌ لِما قبلَه، والثاني تقديرُه: وهي حَمّالة» .
تَمَّتِ السُّورة
************
سورة الإخلاص
مكية، وقيل: مدنية، وهي أربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)] 1 - 4 [
(هُوَ) ضمير الشأن، و (اللَّهُ أَحَدٌ) هو الشأن، كقولك: هو زيد منطلق، كأنه قيل: الشأن هذا، وهو أنّ الله واحد لا ثاني له.
فإن قلت: ما محل (هو)؟
قلت: الرفع على الابتداء والخبر الجملة.
فإن قلت: فالجملة الواقعة خبرًا لا بد فيها من راجع إلى المبتدأ، فأين الراجع؟
قلت: حكم هذه الجملة حكم المفرد في قولك: (زيد غلامك) في أنه هو المبتدأ في المعنى، وذلك أن قوله:(اللَّهُ أَحَدٌ) هو الشأن الذي هو عبارة عنه، وليس كذلك (زيد أبوه منطلق)؛ فإنّ زيدًا والجملة يدلان على معنيين مختلفين، فلا بد مما يصل بينهما. وعن ابن عباس: قالت قريش: يا محمد، صف لنا ربك الذي تدعونا إليه، فنزلت، يعنى: الذي سألتموني وصفه هو الله، و (أحد): بدل من قوله: (الله)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الإخلاص
مكية، وقيل مدنية، وهي أربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قولُه: (الذي سألتموني وَصْفَه هو الله، و {أَحَدٌ} بدل)، قالَ أبو البقاء: «{هُوَ} : مبتدأُ
أو على: هو أحد، وهو بمعنى واحد، وأصله: وحد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمعنى المسؤولِ عنه؛ لأنهم قالوا: ربُّك من نحاس أم من ذهب؟ فعلى هذا: يجوزُ أن يكونَ {اللَّهُ} خبرَ المبتدأ، و {أَحَدٌ} بدل، أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ. يجوزُ أن يكونَ {اللَّهُ} بدلًا، و {أَحَدٌ} الخبر. وهمزةُ {أَحَدٌ} بدل من الواو؛ لأنه بمعنى الواحد»، وإبدالُ الواو المفتوحةِ همزةً قليل، وقيل: الهمزةُ أصلٌ كالهمزة في {أَحَدٌ} المستعمل للعموم.
قولُه: (وهو بمعنى واحد)، وفيه احتمالان: أحدُهما أن يتعلقَ بالوجهِ الثاني، وهو أن يكون {هُوَ} جوابًا عن قولهم: صِفْ لنا ربك، ولفظةُ {هُوَ} ضميرُ المسؤول؛ فإذن لابُدَّ من الفرقِ بين واحد وأَحد؛ قال في " الأحزاب":«أحدٌ في الأصلِ بمعنى وَحَدٍ، وهو الواحد، ثم وضعَ في النفيِ العامِّ مستويًا فيه المذكرُ والمؤنتُ والواحدُ وما وراءَه» .
وروى صاحبُ "النهاية" عن الأزهري أنه قال: «الفرقُ بين الواحدِ والأحدِ: أن الأحدَ بُني لنفيِ ما يُذْكَرُ معه من العدد، تقول: ما جاءني أحد، والواحدُ: اسمٌ بني لمفتتحِ العدد، تقول: جاءني واحد من الناس، ولا تقول: جاءني أحد؛ فالواحدُ منفردٌ بالذاتِ في عدمِ المثلِ والنظير، والأحدُ منفردٌ بالمعنى. وقيل: الواحدُ هو الذي يتجزّأ، ولا يُثنى، ولا يقبلُ الانقسام، ولا نظيرَ له ولا مِثْل، ولا يَجمعُ هذين الوصفين إلى الله تعالى» .
وقال الأزهريُّ في "تفسير أسماء الله الحسنى": «الأحدُ من صفاتِ الله التي استأثرَ اللهُ بها، فلايشركه فيها شئٌ، ولا يوصفُ شئٌ بالأحدِ غيرُ الله؛ لا يقال: رجلٌ احدٌ، ولا درهمٌ أحدٌ؛ وإنما يقال: رجلٌ واحدٌ» .
وقرأ عبد الله وأبىّ: (هو الله أحد) بغير (قُلْ)، وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم:(الله أحد) بغير (قُلْ هُوَ)، وقال: "من قرأ: الله أحد، كان بعدل القرآن). وقرأ الأعمش:(قل هو الله الواحد). وقرئ: (أحد الله) بغير تنوين؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا عُلِمَ هذا، فنقول: إنهم لما قالوا: صِفْ لنا ربَّك الذي تدعونا إليه، قيل لهم: المسؤول عنه الله، وهو واحدٌ متفردٌ بالذاتِ في عدم المثلِ والنظير؛ فإجراءُ الكلامِ للتمييز، والصّفةُ فارقة. وإن استلزمَ التعظيم؛ لأنه ابتداءُ أمرِ الرسول صلى الله عليه وسلم، إرشادًا للقوم، وتنبيهًا على معبودٍ عظيمِ الشأنِ قاهرِ السلطان، فكأنه قيل: قُلْ يا محمدُ: الشأنُ والأمرُ أن الله أحدٌ لا ثاني له، فَدلَّ بقوله:{اللَّهُ} ، على جميعِ صفاتِ الكمال، وبالأحدِ على جميع صفاتِ الجلال؛ فالمناسبُ أن يقالَ: واحدٌ لا ثاني له، لأنه دالٌّ لنفيِ ما يُذكرُ معه. والاحتمالُ الثاني، وهو أن يتعلَّق بالوجهينِ كليهما، أي:{هُوَ} ضميرُ الشأن، أو {هُوَ} بمعنى المسؤول؛ فحينئذٍ لا فرق بين أحدٍ وواحد، قالَ الجوهري:«الأحدُ بمعنى الواحد، وهو أول العدد» ، وقال صاحب "النهاية":«الواحدُ هو الفردُ الذي لم يزل وحدَه، ولم يكن معه آخر» .
قولُه: (كانَ يَعْدلُ القرآن)، قيل: كان قراءتُه يَعْدلُ قراءةَ القرآن، والحديث استشهادٌ لهذه القراءة. ولعلّ المرادَ أن قولَه:{قُلْ هُوَ} كالمقدمةِ والتمهيدِ لقوله {اللَّهُ أَحَدٌ} ، وهو إنما يستقيمُ على جَعْلِ الضميرِ للشأن.
أسقط لملاقاته لام التعريف. ونحوه:
ولا ذاكر الله إلّا قليلا
والجيد هو التنوين، وكسره لالتقاء الساكنين. و (الصَّمَدُ) فعل بمعنى مفعول، من صمد إليه إذا قصده، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (ولا ذاكِرِ اللهَ إلا قليلًا)، أولُه:
فأَلفيتُه غيرَ مستعتبٍ
أي: ذَكّرْتُه. أي: ولا ذاكر، على إرادةِ التنوين، فحذفَ لالتقاءِ الساكنين، فبقى "الله" منصوبًا لا مجرورًا للإضافةِ. و"ذاكر" جُرَّ عطفًا على "مُسْتعتِبٍ"، أي: ولا ذاكرٍ. أي: ذكّرتُه ما كانَ بيننا من المودةِ، فوجدَ غيرَ راجعٍ بالعتابِ من قُبحِ ما فَعَل.
قولُه: (والجيّدُ هو التنوين)، وهي المشهورة.
قولُه: (وهو السَّيدُ المصمودُ إليه في الحوائج)، وأنشدَ الزجاجُ للأسدي:
لقد بَكَّرِ الناعي بِخَيْرَي بني أَسَد
…
بعمرِو بنِ مسعودٍ وبالسيِّدِ الصَّمد
الصَّمد: أي يصمدُ إليه كلُّ شئٍ، أي: الذي خلقَ الأشياء كلَّها، لا يستغنى عنه شئٌ.
روى محيي السُّنة عن ابنِ عباسٍ ومجاهدٍ والحسنِ وسعيدِ بنِ جُبير: «الصَّمَدُ: الذي لا جَوْفَ له، وقال الشعبي: الذي لا يأكلُ ولا يشربُ» .
والمعنى: هو الله الذي تعرفونه وتقرّون بأنه خالق السماوات والأرض وخالقكم، وهو واحد متوحد بالإلهية لا يشارك فيها، وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق ولا يستغنون عنه، وهو الغنى عنهم. (لَمْ يَلِدْ) لأنه لا يجانس، حتى يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا. وقد دل على هذا المعنى بقوله:(أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ)] الأنعام: 101 [. (وَلَمْ يُولَدْ) لأنّ كل مولود محدث وجسم، وهو قديم لا أوّل لوجوده وليس يجسم ولم يكافئه أحد، أي: لم يماثله ولم يشاكله. ويجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح، نفيًا للصاحبة: سألوه أن يصفه لهم، فأوحى إليه ما يحتوى على صفاته، فقوله:(هُوَ اللَّهُ) إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء وفاطرها،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (وقَدْ دَلَّ على هذا المعنى بقوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]، عطفٌ على قوله: (لأنه لا يُجانَس)، يعني:{لَمْ يَلِدْ} : إما كنايةٌ عن كونه تعالى متعاليًا عن الجنسية؛ لأن مَن جانسَ شيئًا اتّخذ من جنسِه صاحبةً، ومَن اتخذَ صاحبةٍ حصَل التوالدُ. أو بالعكس بأن يقال: كيف يكونُ له ولدٌ، وأنه ما اتخذ صاحبةً؟ لأن الولادةَ لا تكونُ إلّا بين زوجين من جنسٍ واحد، وهو متعالٍ عن مجانسٍ؛ فلم يَصحَّ أن تكونَ له صاحبة، فلم تَصحَّ الولادة، قالَه في تفسيرِ هذه الآيةِ في الأنعام.
قولُه: (فقولُه: {هُوَ اللَّهُ})، الفاءُ تفصيليةٌ، والُمجمَلُ قولُه:"ما يحتوي على صفاته". ولمّا كان الله اسمًا للذات، وقرّرَ في فاتحةِ الكتابِ استحالةَ كونِه وصفًا، لكنْ له في كلِّ مقامٍ بحسبِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقتضاه معنى، وخصوصيةُ سؤالِ المشركين، أوجبَ أن يفسّرَ بأنه الخالق، لقوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]؛ فاللهُ ها هنا، جوابًا، إشارةٌ لهم إلى مَن هو خالقُ الأشياء؟ وأنتَ تعلمُ أنّ مُصحّحَ الخالقية هو العلمُ والقُدرةُ، فاندرج تحته هاتانِ الصفتان، وإليه الإشارةُ بقولِه:"وفي طيِّ ذلك وَصَفَه بأنه قادرٌ عالم"، ولا يكونُ قادرًا عالماً، حتى يكونَ عالماً حيًّا سميعًا بصيرًا. ثُم عَقبَ هذه الأوصافَ معنى الوحدانية بقولِه:{أَحَدٌ} . ولما اقتضى الفردانيةُ قَطْعَ السبيلِ من الغير، أثبتَ له صفةَ الصَّمدانية، ليكون الإلتجاءُ إليه.
ولما عُلم من ذلك ثبوتُ الذاتِ المستلزمةِ للصفاتِ من الخالقيةِ والعالمِيةِ والقادريةِ والحييّةِ والإلهية، أريدَ بيانُ كمالهِا وأنها مباينةٌ لصفاتِ المخلوقاتِ فيما مضى ويُستقبل.
والآن قيل: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} ، ولحجةِ الإسلامِ كلامٌ إجماليٌ فيها، قال: «أحدٌ: هو الواحدُ الذي هو مرفوعُ الشركة، والأَحَدُ الذي لا تركيبَ فيه فالواحدُ نفيُ الشريكِ والمثلِ، والأحدُ نفيٌ للكثرةِ في ذاتِه، والصمدُ الغنيُّ المحتاجُ إليه غيرُه، وهو أحديُّ الذاتِ وواحديُّ الصفات، لأنه لو كان له شريكٌ في مُلكِه، لما كانَ غنيًا يحتاجُ إليه غيرُه، بل كانَ محتاجًا في قوامِه ووجودَه إلى أجزاءِ تركيبِه؛ فالصمديّةُ دليلٌ على الوحدانيةِ والأحديةِ، و {لَمْ يَلِدْ} دليلٌ على أن وجوده المستمرّ، ليس مثل وجود الإنسانِ الذي يبقى نوعُه بالتوالدِ والتناسلِ، بل هو وجودٌ مستمرٌ أزليٌ أبديّ، و {وَلَمْ يُولَدْ} دليلٌ على أنّ وجودِه ليس مثلَ وجودِ نفس الإنسان الذي يتحصّلُ بعدَ العدم: يبقى دائمًا إمّا في جنةٍ عاليةٍ لا تفنى، وإمّا في هاويةٍ لا تنقطع.
{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، دليلُ على الوجودِ الحقيقي الذي له تعالى، هو الوجودُ الذي يفيدُ وجودَ غيرِه، ولا يستفيدُ الوجودُ من غيرِه؛ فقوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، دليلٌ على إثباتِ ذاتِه المقدّسةِ المنزَّهة. والصَّمديةُ تقتضي نفي الحاجةِ عنه واحتياجَ غيرهِ إليه،
وفي طيّ ذلك وصفه بأنه قادر عالم؛ لأن الخلق يستدعى القدرة والعلم، لكونه واقعًا على غاية إحكام واتساق وانتظام، وفي ذلك وصفه بأنه حي سميع بصير. وقوله:(أَحَدٌ) وصف بالوحدانية ونفى الشركاء. وقوله: (الصَّمَدُ) وصف بأنه ليس إلا محتاجًا إليه، وإذا لم يكن إلا محتاجًا إليه، فهو غنى، وفي كونه غنيًا مع كونه عالمًا، أنه عدل غير فاعل للقبائح، لعلمه بقبح القبيح وعلمه بغناه عنه. وقوله:(ولَمْ يُولَدْ) وصف بالقدم والأوّلية. وقوله: (لَمْ يَلِدْ) نفى للشبه والمجانسة. وقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) تقرير لذلك وبت للحكم به.
فإن قلت: الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه، فما باله مقدّمًا في أفصح كلام وأعربه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَلَمْ يُولَدْ} في آخر السورة، سلبُ ما يوصفُ به غيره عنه، ولا طريق في معرفة الله تعالى أوضحُ مِن سلبِ صفاتِ المخلوقات عنه».
قولُه: (ليس إلا محتاجًا إليه)، والاستثناءُ مفرّغٌ، أي: ليس الله إلا محتاجًا إليه، أي بالنسبة إلى المخلوقات.
قولُه: (لَغوٌ غير مستقر)، الظرفُ المستقر: هو الذي يفتقرُ تمام الكلامِ إليه، وذلك بأن يكون خبرًا كما في قولك: ما كانَ فيها أحدٌ خيرٌ منك. والَّلغوُ أن يكونَ الكلامُ تامًا بدونه كما في قولك: ما كانَ أحدٌ خيرًا منك فيها؛ وإنما قُدّم في اول المستقرّ لكونه مقصودًا، ةإنما رُفِضَ في الآية الأصل، لأنها سبقت لبيانِ التوحيد. قالَ ابنُ الحاجب:«إنما قُدِّمَ لاهتمامِ تناسبِ الفواصل، فلو قُدِّمَ على " أحد" لحصلَ الغرض، لكن كان يقع الفصلُ بين الجزأين اللذين هما مسندٌ إليه، فقدَّمَ عليهما جميعً وحصلَ الغرض» .
قلت: هذا الكلام إنما سيق لنفى المكافأة عن ذات الباري سبحانه؛ وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف، فكان لذلك أهم شيٍء وأعناه، وأحقه بالتقدم وأجراه. وقرئ:(كفؤا) بضم الكاف والفاء، وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال صاحبُ "الانتصاف": «نقلَ سيبويه أن سمعَ بعضَ الجُفاةِ من العربِ يقرأ: ولم يكنْ أحدٌ كفوًا له، فجرى هذا الجلفُ على عادته، فجفا طبعُه عن لُطفِ المعنى، الذي لأجله اقتضى تقديمَ الظرفِ والخبرِ على الاسم، وذلك أن الغرضَ الذي سيقت إليه الآيةُ، نفيُ المكافأة والمساواةِ عن ذاتِ الله تعالى، فكان تقديم المكافأةِ المقصودةِ بأن تُسلبَ عنه أنه أولى، ثم لما قُدِّمتْ لتسلبَ ذُكرَ معها الظرف، لتُبيَّنَ الذاتُ المقدسةُ بسلبِ المكافأة» . وقلتُ: تلخيصُه أن مراعاةَ المعنى الذي يقتضيه المقامُ، أحرى وأحقُّ وأقدمُ من مراعاةِ اللفظِ والفواصلِ.
قولُه: (وقرئ: {كُفُوًا}، بضم الكاف)، حَفْص: بضِّمها وضِّم الفاء من غيرِ همز، وحمزة: بإسكانِ الفاءِ مع الهمزةِ في الوصل، فإذا وقفَ أبدلَ واوًا مفتوحة، والباقون: بضمِّ الفاءِ مع الهمزة.
فإن قلت: لم كانت هذه السورة عدل القرآن كله على قصر منها وتقارب طرفيها؟ قلت:
لأمر ما يسود من يسود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (عَدْلَ القرآنِ كلِّه)، يُروى بفتح العين وكسرها، قال الأخفش: العِدْلُ بالكسر: المِثْل، والعَدْلُ بالفتح: أصلُه مصدر قولك: عَدَلْتَ بهذا عَدْلًا حسنًا، تجعله اسمًا للمِثْلِ، لِتُفْرُق بينه وبين عِدْل المتاع. وقال الفرّاء: العَدْلُ بالفتح: ما عادلَ الشّئ من غير جنسه، والعِدْلُ بالكسر: المِثْل. وتقول: عندي عِدْلُ غلامك، وعِدْلُ شاتك، إذا كان غلامًا يعدلُ غلامًا، أو شاةً تعدلُ شاة، فإذا أردت قيمته من غير جنسه، نَصبتَ العين، وربّما كَسَرها بعضُ العرب، وكان منهم غلط.
والصحيحُ: ثلثُ القرآن؛ رَوينا عن البخاريّ ومسلم ومالك وأبي داودَ والنسائي، عن أبي سعيد، أن رجلًا سمعَ رجلًا يقرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يردّدها، فلما أصبحَ جاءَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرَ ذلك له، وكأنّ الرجلَ يتَقألُّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«والذي نفسي بيده، إنها لتعدلُ ثُلُثَ القرآن» . قال القاضي: «ولاشتمال هذه السورة مع قِصرِها على جميع المعارفِ الإلهية، والردِّ على مَن ألحدَ فيها، جاء في الحديثِ أنها تعدلُ ثلثَ القرآن، لأن مقاصدِ القرآنِ محصورةٌ في بيانِ العقائد، والأحكام، والقضض، ومَن عَدَلَها بكلِّه اعتبرَ المقصودِ بالذاتِ من ذلك» .
قولُه: (لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَن يَسودُ)، أوله:
عَزَمتُ على إقامةِ ذي صباحِ
وما ذاك إلا لاحتوائها على صفات الله تعالى وعدله وتوحيده، وكفى دليلًا من اعترف بفضلها وصدق بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: إنّ علم التوحيد من الله تعالى بمكان، وكيف لا يكون كذلك والعلم تابع للمعلوم: يشرف بشرفه، ويتضع بضعته؛ ومعلوم هذا العلم هو الله تعالى وصفاته، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و"ما" مزيدةٌ إبهاميّة، أي: لأمرٍ عظيمٍ يُسَوَّدُ مَن يَسود.
قولُه: (وكفى دليلًا من اعترف)، "من اعترف" مفعولُ "كفى"، والفاعلُ ما دلَّ عليه لاحتوائها على صفات الله، والضمير في "بفضلها" للسورة، و"صَدَّقَ" عطفٌ على "اعترف"، و"بقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم متعلقٌ بـ"صَدَّقَ". وقولُه: أن "علم التوحيد" متعلّقٌ بـ"دليلًا" وهو تمييز، أي" كفى ذلك مَن اعترفَ بفضلِ السورة، وصَدَّقَ بقولِ الرسولِ، دليلًا على أن علم التوحيد من الله بمكان. والمرادُ بقولِ النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه في خاتمة السورة: "أُسِّستْ السماواتُ السبعُ" إلى آخره؛ ولم أجدِ الحديثَ في الأصولِ المعتبرة.
وقد وردَ عن الترمذيِّ وأبي داودَ وابن ماجه، عن بريدة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول:«اللهم إني أسألأك بأني أشهدُ أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحدُ الصمد، الذي لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكن له كفوًا أحد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم" والذي نفسي بيده، لقد سألَ اللهَ باسمِه الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئِلَ به أعطى» .
وإنافته على كل علم، واستيلائه على قصب السبق دونه؛ ومن ازدراه فلضعف علمه بمعلومة، وقلة تعظيمه له، وخلوه من خشيته، وبعده من النظر لعاقبته. اللهم احشرنا في زمرة العالمين بك العاملين لك، القائلين بعدلك وتوحيدك، الخائفين من وعيدك.
وتسمى "سورة الأساس" لاشتمالها على أصول الدين، وروى أبىّ وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أسست السماوات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد» ، يعنى ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته التي نطقت بها هذه السورة.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يقرأ: (قل هو الله أحد)، فقال:«وجبت» . قيل: يا رسول الله وما "وجبت"؟ قال: «وجبت له الجنة» .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (فقال: وَجَبَتْ) الحديثُ أخرجه مالكٌ وأحمدُ والترمذيُّ والنسائي عن أبي هريرة.
خاتِمة م كلامِ الشيخ فصيح الدين رحمه الله:
لم يُعطفْ {اللَّهُ الصَّمَدُ} على الجملةِ المتقدمة؛ لأنها محقِّقة لمضمونها ومبينةٌ لها، وكذا {لَمْ يَلِدْ} ؛ لأنها محقِّقةٌ لمضمونِ {اللَّهُ الصَّمَدُ} ؛ لأن الغني المطلقَ الذي يفتقرُ إليه كل شئٍ لا ينبغي أن يكون والدًا ولا مولودًا؛ لأن ذلك يستلزم الافتقار بالضرورة. وعُطفَ {لَمْ يُولَدْ} على {لَمْ يَلِدْ} لأن {لَمْ يُولَدْ} لم يُنبئ عن معنى {لَمْ يَلِدْ} ، فلم يكن محققًا لمعناه، بل الجملتانِ محققتانِ لمضمونِ الجملة السابقة. وعَطفُ {لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، أن مضمونَها لم يكن محققًا لمضمون السابقتين؛ لأنها تُنبئ عن أنه لا يمكنُ أن يكون له مماثلٌ في شئ مِمّا ذُكِرَ في الذاتِ والصفات، فهو واحدٌ لا شريك له تعالى وتقدّسَ وتَعظّم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعُرفَ الخبرُ في {اللَّهُ الصَّمَدُ} ، نفيًا لنفيِ مَن زعم وسمّى غيرَه صمدًا، ونُكِّرَ في {اللَّهُ أَحَدٌ} ، لأنهم لم يُسمّوا أشياءًا "أحدًا" بهذا المعنى.
تَمّتِ السُّورَة
************
سورة الفلق
مختلف فيها، وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)] 1 - 5 [
الفلق والفرق: الصبح، لأن الليل يفلق عنه ويفرق: فعل بمعنى مفعول. يقال في المثل: هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح. ومنه قولهم: سطع الفرقان، إذا طلع الفجر. وقيل: هو كل ما يفلقه الله،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الفلق
مكية، وقيل مدنية وهي خمس آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قولُه: (لأن الليلَ يُفلَقُ عنه)، أي: لأن الليلَ يَنْشقُّ عن الصبحِ، فيخرجُ الصبح؛ فَعَلٌ بمعنى مفعول؛ فالليلُ مفلوقٌ عنه.
قولُه: (وقيل: هو كلُّ ما يَفْلِقُه)، قال القاضي: «وهو يَعمُّ جميعَ الممكنات؛ فإنه تعالى فَلَقَ ظلمةَ العدمِ بنورِ الإيجادِ عنها، سيّما ما يخرجُ عن أصلٍ، كالعيونِ والأمطارِ والنباتِ والأولاد، ويَختْصُّ عُرفًا بالصُّبح، ولذلك فُسِّر به. وتَخْصيصُه لِما فيه من تَغيُرِ الحالِ، وتَبدُّلِ وحشةِ
كالأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن المطر، والأرحام عن الأولاد، والحب والنوى وغير ذلك. وقيل: هو واٍد في جهنم أوجب فيها، من قولهم لما اطمأن من الأرض: الفلق، والجمع: فلقان. وعن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرأى دور أهل الذمّة وما هم فيه من خفض العيش، وما وسع عليهم من دنياهم، فقال: لا أبالي، أليس من ورائهم الفلق؟ فقيل: وما الفلق؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الليلِ بسرورِ النور، ومحاكاةِ الخيرِ بيوم القيامة، والإشعارِ بأن مَن قدَر أن يزيلَ ظلمةَ الليلِ عن هذا العالم، قدَر أن يزيلَ عن العائذِ ما يخافه. ولفظُ الرّبّ ها هنا أوقعُ من سائرِ الأسماء، لأن الإعاذةَ مِن المضارِّ قريبة».
قولُه: (لا أبالي، أليسَ من ورائهم الفَلَق؟ )، أي: لا أبالي بحُسنِ دُورِهم وخفضِ عَيْشِهم. ثم استأنفَ مستفهمًا على سبيل التقرير: أليسَ من ورائهم الفَلَق؟ ونظيرُه ما روينا البخاريِّ ومسلمٍ وأحمدَ والترمذيِّ والنسائي، عن ابنِ عباسٍ في حديثٍ طويل، عن عمرَ رضي الله عنه: دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلّمتُ وهو متكئ على رمالٍ حصيرٍ قد أثر في جنبِه وفه شيئًا ردَّيه، فجلستُ فرفعتُ رأسي في البيت، فوالله ما رأيتُ فيه شيئًا ردَّ البصرَ إلا أَهَبَةَّ ثلاثةً، فقال: يا رسولَ الله، ادع الله أن يوسعَ على أمتك، فقد وَسَّعَ على فارسَ والرومِ وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالسًا، ثم قالَ: أفي شكٍّ أنت يا ابنَ الخطاب؟ أول~ك قومٌ قد عُجِّلتْ لهم طيباتُهم في الحياة الدنيا. فقلت: استغفِرْ لي يا رسولَ الله. الحديث. وأما تفسير الفلقِ بأنه وادٍ في جهنم، فروى محيي السُّنةِ عن ابن عباسٍ في رواية، أن الفلقَ سَجْنٌ في جهنم، وعن الكلبي أنه وادٍ في جهنم.
قال: بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه. (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) من شر خلقه، وشرهم: ما يفعله المكلفون من الحيوان من المعاصي والمآثم، ومضارّة بعضهم بعضًا من ظلم وبغى وقتل وضرب وشتم وغير ذلك، وما يفعله غير المكلفين منه عن الأكل والنهس واللدغ والعض كالسباع والحشرات، وما وضعه الله في الموات من أنواع الضرر كالإحراق في النار والقتل في السم. و"الغاسق": الليل إذا اعتكر ظلامه، من قوله تعالى:(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ)] الإسراء: 78 [ومنه: غسقت العين امتلأت دمعا، وغسقت الجراحة: امتلأت دمًا. ووقوبه: دخول ظلامه في كل شيء، ويقال: وقبت الشمس إذا غابت. وفي الحديث: لما رأى الشمس قد وقبت قال: هذا حين حلها، يعنى صلاة المغرب. وقيل: هو القمر إذا امتلأ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (وشَرُّهم ما يفعله المكلَّفون من الحيوان)، لعلَّ إيقاعَ "من الحيوان" بيانًا للمكلَّفين، لإخراجِ الملائكةِ منهم. قال القاضي:«خُصَّ عالمُ الخلقِ بالاستعاذةِ عنه لانحصارِ الشرِّ فيه؛ فإن عالمَ الأمرِ خيرٌ كلُّه، وشَرُّه اختياريٌ لازمٌ ومتعدٍّ، كالكفرِ والظلم، وطبيعيٌ كإحراقِ النارِ وإهلاكِ السموم» .
قولُه: (إذا اعتكر ظَلامُه)، الجوهري:«اعتكرَ الظلامُ: اختلطَ كأنه كرَّ بعضُه على بعض من بُطْءِ انجلائِه» .
قولُه: (ويقال: وَقَبت الشمس، إذا غابت)، الراغب:«الوَقَبُ كالنُقْرةِ في الشئ، ومنه وَقَبتِ الشمس، والإيقابُ: تَغيّبُها»
قولُه: (هذا حينُ حَلِّها)، برفعِ "حين"، وكسرِ الحاءِ، وجرِّ اللامِ من "حلها". النهاية:
وعن عائشة رضي الله عنها: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأشار إلى القمر فقال: تعوّذي بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب، ووقوبه: دخوله في الكسوف واسوداده. ويجوز أن يراد بالغاسق: الأسود من الحيات، ووقبه: ضربه ونقبه. والوقب: النقب، ومنه: وقبة الثريد؛ والتعوّذ من شر الليل؛ لأن انبثاثه فيه أكثر، والتحرّز منه أصعب، ومنه قولهم: الليل أخفى للويل، وقولهم: أغدر الليل؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (وعن عائشة-رضي الله عنها)، الحديثُ اخرجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيّ، وليسَ فيه: آخذٌ بيدي؛ روى الإمامُ عن ابنِ قتيبة: «إنما سُمي القمرُ غاسقًا، لأنه يُكْسفُ فيغسِق، أي يذهبُ ضوؤُه، ويَسْود، ووقوبُه: دخولُه في ذلك الاسوداد» . وقال: «وقد صَحَّ أن القمرَ في جِرْمه غيرُ مستنير فسمّى بالغاسِق لهذا. ووقوبُه المحاقُ في آخر الشهر، لأنه حينئذٍ قليلُ القوةِ وفي غايةِ الرذالة، ولذلك يشتغلُ السحرةُ فيه بالسحر الذي يورثُ التمريض، وهذا مناسبٌ لسبب نزولِ السورتين «، والله أعلم.
قولُه: (الليلُ أخفى للوَيْل)، قالَ الميداني:«أي: افعلْ ما تريدُ ليلًا، فإنه أسْترُ لسِرِّك. وأولُ مَن قال ذلك ساريةُ بنُ عُويْمرِ بنِ عَدِيٍّ العُقَيلي» ، وسببُه مذكورٌ في كتابه.
قولُه: (أَغدرَ الليل)، قيل: هو من بابِ أَحصدَ الزّرع، أي حانَ وقتُ غَدْره. وقيل: صارَ ذا غَدْر.
لأنه إذا أظلم كثر فيه الغدر، وأسند الشر إليه لملابسته له من حدوثه فيه. النَّفَّاثاتِ: النساء، أو النفوس، أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقدًا في خيوط وينفثن عليها ويرقين، والنفث: النفخ من ريق، ولا تأثير لذلك، اللهم إلا إذا كان ثم إطعام شيء ضار، أو سقيه، أو إشمامه، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه؛ ولكنّ الله عز وجل قد يفعل عند ذلك فعلًا على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوُله: (يَتميز به الثُّبَّتُ على الحقِّ من الحَشْوية)، الانتصاف:«القدريّةُ ينكرونَ السحر، والكتابُ والسُّنةُ واردانِ بوقوعِه، والأمرُ بالتعوّذِ منه دليلٌ عليه. وقد سُحِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، في مُشُطٍ ومُشاطَةٍ وجُفِّ طَلْعةِ ذَكَر» .
وقلتُ: الحديثُ رويناه عن البخاريِّ ومسلمٍ وابنِ ماجه، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت:«سُحِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ليُخَيّلُ إليه أنه فعلَ الشئَ ولم يكن فعلَه، حتى إذا كانَ ذاتَ يومٍ وهو عندي، دعا الله ودَعاه، ثم قالَ: جاءني رجلان، فجلس أحدهُما عند رأسي والآخر عند رِجْليَّ، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وَجَعُ الرجل؟ قال مَطْبوب. قال: ومَن طَبَّه؟ قال: لبيدُ بنُ الأعصمِ اليهوديُّ من بني زُريق. قال: في ماذا؟ قال: في مُشُطٍ ومُشاطةٍ وجُفِّ طَلْعةِ ذَكَرٍ. قال: فأين هو؟ قال: في بئرِ ذي أَرْوان» ، الحديث.
الراغب: «تأثيرُ السحرِ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لم يكن من حيثُ إنه نبي، وإنما كانَ في بَدَنِه من حيثُ إنه إنسانٌ أو بشر، كما كان يأكلُ ويتغوّطُ ويغضبُ ويَشْتهي ويَمْرض، فيصحُّ من حيثُ هو نبيّ، وإنما يكون ذلك قادحًا في النبوة. أو وُجدَ للسحرِ تأثيرٌ في أمر يرجعُ إلى النبوة،
فينسبه الحشوية والرعاع إليهنّ وإلى نفثهن، والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبئون به.
فإن قلت: فما معنى الاستعاذة من شرهن؟
قلت: فيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر ومن إثمهنّ في ذلك. والثاني: أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخدعنهم به من باطلهن. والثالث: أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن. ويجوز أن يراد بهن النساء الكيادات،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما أن جُرْحَه وكسرَ ثناياه يومَ أُحُد، لم يقدحْ فيما ضمنَ اللهُ له من عصمته في قوله:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وكما لا اعتدادَ بما لا يقعُ في الإسلامِ من غلبةِ المشركين على بعضِ النواحي، فيما ذُكرَ من كمالِ الإسلامِ في قوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، قالَ القاضي:«ولا يوجبُ ذلك صِدْقَ الكفرةِ في أنه مسحور، لأنهم أرادوا به أنه مجنونٌ بواسطةِ السحر» .
النهاية: «أنه طُبَّ في مُشُطٍ ومُشاطة، وهو الشعرُ الذي يسقطُ من الرأسِ واللحيةِ عند التسريحِ بالمُشُط» . ويُرْوى: مُشاقة، و «هي ما ينقطعُ من الإبْرَيْسَمِ والكَتّانِ عند تخليصِه وتَسْريحه. والمَشْقُ: جَذْبُ الشئِ ليطول». «الجُفّ: وعاءُ الطلع، وهو الغشاءُ الذي يكونُ فوقه» .
قولُه: (الِّرعَاع)، الأحداثُ والطَّغام.
قولُه: (النساءُ الكيّادات)، شُبِّه كيدُهنّ بالسحر، اختصَره صاحبُ "الانتصاف" ثُم قال:«لو فَسَّرَ غيرُ الزمخشريّ هذا، لَعُدَّ من بِدَعِ التفاسير» .
من قوله: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)] يوسف: 28 [تشبيهًا لكيدهن بالسحر والنفث في العقد. أو اللاتي يفتن الرجال بتعرّضهن لهم وعرضهن محاسنهن، كأنهن يسحرنهم بذلك (إِذا حَسَدَ) إذا ظهر حسده، وعمل بمقتضاه من بغى الغوائل للمحسود؛ لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره فلا ضرر يعود منه على من حسده، بل هو الضارّ لنفسه لاغتمامه بسرور غيره. وعن عمر بن عبد العزيز: لم أر ظالما أشبه بالمظلوم من حاسد. ويجوز أن يراد بشر الحاسد: إثمه وسماجة حاله في وقت حسده، وإظهاره أثره.
فإن قلت: قوله: (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) تعميم في كل ما يستعاذ منه، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد؟
قلت: قد خص شر هؤلاء من كل شر لخفاء أمره، وأنه يلحق الإنسان من حيث لا يعلم، كأنما يغتال به. وقالوا: المداجي الذي يكيدك من حيث لا تشعر.
فإن قلت: فلم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه؟ قلت: عرفت النفاثات؛ لأن كل نفاثة شريرة، ونكر غاسق؛ لأنّ كل غاسق لا يكون فيه الشر، إنما يكون في بعض دون بعض، وكذلك كل حاسد لا يضرّ. ورب حسد محمود، وهو الحسد في الخيرات. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:«لا حسد إلا في اثنتين» ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (كأنما يُغتالُ به)، الأساس:«فلانٌ يَغتالُ مَن يَمرُّ به، وقَنلَه غيلةً، وأخافُ غائلتَه، أي: عاقبةَ شَرِّه» .
قولُه: (لا حَسَدَ إلّا في اثنتين)، روينا عن البخاري، عن أبي هريرة، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا حَسَدَ إلّا على اثنتين: رجلٌ آتاه اللهُ القرآن، فهو يتلوه آناءَ الليلِ والنهار، فسمعَه جارُه فقال: ليتني أوتيتُ مثل ما أوتي فلان، فعملتُ مثل ما يعمل. ورجلٌ آتاه الله مالًا فهة ينفقه في حقه، فقال: يا ليتني أوتيتُ مثل ما أوتي فلان، فعملتُ مثل ما يعمل» .
وقال أبو تمام:
وما حاسد في المكرمات بحاسد
وقال:
إنّ العلا حسن في مثلها الحسد
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ "المعوّذتين"، فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلها» .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (وما حاسدٌ) أولُه:
وإني لمحسودٌ وأعذرُ حاسدي
وقيل: أوله:
هُمُ حَسَدوه -لا ملومين- مَجْدَه
…
وما حاسدٌ في المكرمات بحاسد
وقال:
واعْذِرْ حَسودَك فيما قد خُصِصْتَ به
…
إنّ العُلا حَسَنٌ في مثلِها الحسّدُ
مِثْلُ ها هنا مثلُ ما في قولك: يجود. أي: إن العُلا حَسَنٌ فيها الحسَد.
تَمَّتِ السُّورَة
**********
سورة الناس
مختلف فيها، وهي ست آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)] 1 - 6 [
قرئ: (قل أعوذ) بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام، ونحوه: فخذ أربعة.
فإن قلت: لم قيل (بِرَبِّ النَّاسِ) مضافا إليهم خاصة؟
قلت: لأنّ الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس، فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم، وهو إلههم ومعبودهم، كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الناس
مكية، وقيل: مدنية، وهي ست آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قولُه: (لِمَ قيل: {بِرَبِّ النَّاسِ})، أَيْ أنه ربُّ جميعِ العالمين، فلِمَ خُصَّ بالناسِ ها هنا؟ وأجابَ: إن المستغيثَ هو الناسُ وحدَه إلى ربِّه ومالكِه ومعبودِه، مما يُصيبُه من البلاء.
قولُه: (كما يستغيثُ بعضُ الموالي إذا اعتراهم خَطْبٌ بسيّدهم ومخدومِهم ووالي أمرِهم)، راعى فيه الترقّي في الإغاثة؛ فإن الدّفعَ من جهةِ التوليةِ أقوى من جهةِ الخدمة، ثم من
فإن قلت: (مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ) ما هما من رب الناس؟
قلت: هما عطف بيان، كقولك: سيرة أبى حفص عمر الفاروق. بين بملك الناس، ثم زيد بيانا بإله الناس، لأنه قد يقال لغيره: رب الناس، كقوله:(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)] التوبة: 31 [وقد يقال: ملك الناس. وأمّا (إِلهِ النَّاسِ) فخاص لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان.
فإن قلت: فهلا اكتفى بإظهار المضاف إليه الذي هو الناس مرّة واحدة؟
قلت: لأنّ عطف البيان للبيان، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار. (الْوَسْواسِ) اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأمّا المصدر فوسواس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جهة السيادة أضعفُ من جهةِ الخدمة. كذلك معنى القَهّاريةِ في الألوهيةِ أعلى منه من معنى المالكيّة، ثم من جهةِ الرّبيّة.
وفي بعض التفاسير: إنَّ دَفْعَ شرِّ الشيطانِ ووسوستِه بأحدِ أمورً ثلاثة، إمّا بأن لا يُمكِّنُه من الوسوسةِ من حيثُ كونُه ربًّا، أو بأنْ يُمكِّنُه، لكن يمنعُه قهرًا من حيثُ المالكية، أو بأن ينهاه عن الوسوسةِ زجرًا، لكن يريدُها اختيارًا من حيثُ كونُه إلهًا، أو يُقال: إن العبدَ استعاذَ بالله من الشيطان. وعَلّلَ الاستعاذةَ بأوصافٍ مناسبةٍ على الترقي: وَصْفُه عز وجل أولًا بأنه الرّبُّ، لأن أول ما يَعرفُ العبدُ من ربِّه، كونُه منعِمًا عليه ظاهرِه وباطنِه، ثم ينتقلُ منه إلى المعرفةِ بأنه متصرفٌ فيه ومالكُه، ثم ينتقلُ إلى المعرفةِ بأنه هو المعبودُ على الإطلاق، وأنْ لا مصيرَ إلا إليه.
قولُه: (وقد يقال: مَلِكُ الناس)، الراغب:«المَلِك: هو المتصرِفُ بالأمرِ والنهيِ في الجمهور، وذلك مختصٌ بسياسةِ الناطقين؛ ولذلك يقال: مَلِكُ الناس، ولا يقال: مَلِكُ الأشياء» .
قولُه: (وأما المصدرُ فَوِسواس)، عن بعضِهم: أراد بالوَسواسِ الاسم الذي هو بمعنى الوسوسةِ وهو المصدر. وقال المغاربةُ: الفرقُ بين المصدرِ واسمِ المصدر هو أن المعنى الذي يُعبِّرُ
بالكسر كزلزال، والمراد به الشيطان، سمى بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه؛ لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه. أو أريد ذو الوسواس. والوسوسة: الصوت الخفي، ومنه: وسواس الحلي. و (الْخَنَّاسِ) الذي عادته أن يخنس، منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والبتات، لما روى عن سعيد بن جبير: إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، فإذا غفل وسوس إليه. (الَّذِي يُوَسْوِسُ) يجوز في محله الحركات الثلاث، فالجر على الصفة، والرفع والنصب على الشتم، ويحسن أن يقف القارئ على (الْخَنَّاسِ)، ويبتدئ (الَّذِي يُوَسْوِسُ) على أحد هذين الوجهين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عنه بالفعلِ الحقيقي، الذي هو مبتدأ الفعلِ الصناعي، إذا اعتبرَ فيه تَلَبُّسُ الفاعلِ به وصدورُه منه وتَجدُّدُه؛ فاللفظُ الموضوعُ بإزائه مقيدًا بهذا القيد، سمّي مصدرًا وإن لم يعتبرْ فيه ذلك، فاللفظُ الموضوعُ بإزاءِ ذلك مطلقًا عن هذا القيدِ المذكور، هو اسمُ المصدر.
قولُه: (صَنْعَتُه)، ويُرْوى: ضَيْعتُه. النهاية: «ضَيْعةُ الرجلِ: ما يكونُ منه معاشُه كالصنعةِ والتجارةِ والصناعةِ وغير ذلك» .
قولُه: (منسوبٌ إلى الخُنُوس)، قال: منسوبٌ من حيثُ إنه جعلَ الخنوسَ عادةً له.
قولُه: (إذا ذَكرَ الإنسانُ ربَّه خَنَس)، روينا في "صحيح البخاري" تعليقًا عن ابنِ عباسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشيطانُ جاثمٌ على قلبِ ابنِ آدم؛ فإذا ذَكرَ الله خَنَس، وإذا غَفلَ وَسْوس» .
قولُه: (ويَحْسنُ أن يقف القارئ) إلى قولُه: (على أحدِ هذين الوجهين)، أي: الصَّفةِ والشَّتْم. وفيي "الكواشي": «يكفي الوقفُ على "الخنّاس" إن رفعتَ أو نصبتَ ذمًا، فلا يجوزُ إن جَرَرْتَه: صفةٌ للخناس. وقلتُ: وفي عدمِ الجوازِ نظرًا للفاصلة، قالَ صاحبُ "المرشد": فإذا قلتَ: "الرحمن الرحيم"، كان الوقفُ كافيًا لأنه رأسُ آية، ولا يكونُ تامًا
(مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) بيان للذي يوسوس، على أن الشيطان ضربان: جني وإنسي، كما قال (شياطين الإنس والجن)] الأنعام: 112 [، وعن أبى ذرّ رضي الله عنه قال لرجل: هل تعوّذت بالله من شيطان الإنس؟ ويجوز أن يكون (مِنَ) متعلقا بيوسوس، ومعناه: ابتداء الغاية، أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجنّ ومن جهة الناس، وقيل: من الجنة والناس بيان للناس، وأن اسم الناس ينطلق على الجنة، واستدلوا (بنفر) و (رجال) في سورة الجن. وما أحقه؛ لأن الجن سموا (جنا) لاجتنانهم، والناس (ناسا) لظهورهم، من الإيناس وهو الإبصار، كما سموا بشرا؛ ولو كان يقع الناس على القبيلين، وصح ذلك وثبت: لم يكن مناسبا لفصاحة القرآن وبعده من التصنع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لخلوِّ المجرورِ، أعنى:"مالكِ يومِ الدين"، من العامل، والفصلِ بين النعتِ والمنعوت، وكذا الوقفُ على "المستقيم" جائزٌ وليس بحَسَن، وإنما جُوِّزَ لأنه آخر الآية».
قولُه: (ومن جهة الناس)، مثلُ أن يوسوسَ في قلب المسلمِ من جهة المنجّمين والكُهانِ أنهم يعلمون الغيب، ومن جهةِ الجنِّ أنهم يَضرّون وينفعون. في "المطلع":«وعن بعضهم: على البيانِ يكونُ "من الجِنّةِ والناس"، حالًا من ضمير "الذي يوسوس"» .
قولُه: (وما أحقّه)، يعني: ما أثبته من قولهم: حَقَقْتُ الشئَ أَحُقُّه، أي: أَثبتُه. قال الإمام: «قيل: إن قولَه: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} قسمان مندرجان تحت قولِه: {فِي صُدُورِ النَّاسِ}، كأن القدرَ المشتركَ بين الجنِّ والإنسِ سُمّي إنسانًا، والإنسانُ أيضًا سُمّي إنسانًا، فيكون لفظُ الإنسانِ واقعًا على الجنسِ والنوعِ بالاشتراك. والدليلُ عليه ما رُويَ أنه جاءَ نفرٌ من الجن، فقيل لهم: مَنْ أنتم؟ فقالوا: ناسٌ من الجن. وأيضًا قد سَمّاهم اللهُ رجالًا في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]، فجازَ أن يُسميَهم هنا ناسًا. وهذا القولُث المتعسِّفُ لا يريدُ أنَه ضعيفٌ، لأن جَعْلَ الإنسانِ اسمًا للجنسِ الذي يندرجُ فيه الجنُّ والإنس، بعيدٌ من اللغة» .
وأجود منه أن يراد بالناس: الناسي، كقوله:(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ)] القمر: 6 [كما قرئ: (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ)] البقرة: 199 [، ثم يبين بالجنة والناس؛ لأنّ الثقلين هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله عز وجل.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزلت علىّ سورتان ما أنزل مثلهما، وإنك لن تقرأ سورتين أحب ولا أرضى عند الله منهما» يعنى المعوذتين. ويقال للمعوذتين: المقشقشتان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (وأجودُ منه)، أي: من هذا القولِ المتعسِّف: لا يريدُ أنه وجهٌ فيه جَوْدة، وهو أن يُحملَ "الناسِ" في قولِه:{صُدُورِ النَّاسِ} على الناسي، فحينئذٍ يمكنُ تقسيمُه إلى الجنِّ والإنسِ لأنهما صفتانِ موصوفانِ بنسيانِ حقِّ الله.
قولُه: (المُقَشْقِشَتان)، النهاية:«في الحديثِ: يقالُ لسورتَيْ "قُلْ يا أيها الكافرون"، و"قُلْ هو الله أحد": المُقَشْقِشَتان، أي: المبرِّئتانِ من النفاقِ والشركِ، كما يَبرأُ المريضُ من عِلَّتِه؛ يقال: قد تَقَشْقشَ المريض: إذا أفاقَ وبَرَأ» .
تَمّتِ السُّورَة
************
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[تَذْييلٌ وتَتْميم]
يقولُ العبدُ الفقيرُ إلى الله الغني، الإمامُ العالمُ العامل، والشيخُ الفاضلُ الكامل، الحَبْرُ المُدقّق، والنحريرُ المُدقّق، عَلّامةُ عَصرِه، وفريدُ دَهرِه، مولانا شَرفُ الملَّةِ والدِّين، الحسينُ بنُ عبدِ الله بنِ محمدٍ الطِّيبيّ، مَنَّ الله عليه بأمنِ طريقِه، وسَقاه من الفرحِ كأسِ رَحيقِه، وتَغَمَّده بغُفر انه، وألبسَه جَلابيبَ رحمتِه ورِضوانه، وحَشَرَه مع الذين أنعم اللهُ عليهم، مِن النبيّينَ والصِّدِّيقين والشُّهداءِ والصَّالحين:
وحين انتهى الكلامُ إلى هذا المقام، اقترحوا مشيرينَ إلىَّ أن أُلحقَ خاتمة؛ تذييلًا للكتاب، وتتميمًا لفصلِ الخِطاب، مُضمّنًا خصوصًا قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} [لقمان: 27] الآية، وكانتِ القريحةُ إذْ ذاك خامدةً، والطبيعةُ هامدة، فتضرَّعْتُ مُبتهلًا إلى الله تعالى، مُستنزلًا الواردَ الإلهيَّ والفتحَ الغَيبيَّ، حتى بَرَقتْ بارقةٌ من بوارقِ سحائبِ سيّدِ المرسلين، ولَمعتْ لمعةٌ من لَمعاتِ أنوارِ خاتمِ النبيّين، صلّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه الطِّيّبينَ الطاهرين، أعني: معنى ما أوردَه الأئمةُ في كتبهم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بفاتحةِ الكتابِ، فهو خِداجٌ -ثلاثًا- غيرُ تمام» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقيلَ لأبي هريرة: إنّا نكون وراءَ الإمام. فقال: اقرأ بها في نفسِك، فإني سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:«قالَ اللهُ عز وجل: قَسمت الصلاةَ بيني وبينَ عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قالَ العبدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال اللهُ: حَمِدني عبدي. وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، قال اللهُ تعالى: أثنى عليَّ عبدي. وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قال مجّدني عبدي. وإذا قالَ العبدُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قالَ العبدُ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل» . أخرجه مالكٌ ومسلم، والترمذيُّ وأبو داود، والنسائيُّ وابنُ ماجه، رحمهم الله تعالى.
وكنا قد أسلفنا في شرح الخُطبةِ أنّ المعوّذتينِ على قضيةِ قولِه تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، مشيرتانِ على الافتتاح، وعلى مُوجَبِ قولِه صلى الله عليه وسلم:"الحالُّ المّرتَحِل"، جوابًا عن سؤالِ مَن قال: أيُّ الأعمالِ أحبُّ إلى الله؟ مُناديتانِ بالارتحال، فبالحَرِيّ أنْ نَرجعَ إلى ما كنّا قد تكلَّمنا فيه مفتتحين به، أعني تفسيرَ سورة "الفاتحة"، وأفضل التأويل: تأويلُ مَن نَزلَ عليه التنزيل، وهذا الحديثُ مما احتوى على حقائقِ هذه السّورة، وأسرارِها، ودقائقِها، كما سنكشفُ عنها؛ هيهات، إن البحرَ لا يُستنزَف! {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فَصْل
اعلَمْ أنّ شرحَ هذا الحديثِ مُعْضَل، وتَطبيقَه على معنى السُّورةِ أعضَل؛ ولذلك تكلَّمَ فيه العلماء، واختلفوا اختلافًا متباينًا، فلابُدَّ من إيراده، وباللهِ التوفيق.
وفحوى ما قال التُورِبِشْتي في هذا المقام: هو أنه قد عُرفَ المرادُ من لفظِ الصلاة، بما أردفَه من التفسير والتفصيل: أنها الفاتحة، وقالَ أيضًا: إنّ التصنيفَ مُنصرفٌ إلى آيات الثَّناء وآيات المسألة، نصفُها ثناءٌ ونصفُها دُعاء؛ فإذن ليستْ البسملةُ آيةً من الفاتحة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقالَ الشَّيخ محيي الدِّينِ النّوويّ رحمه الله عليه: «هذا قولٌ واضح، وأجابَ الأصحابُ بوجوه: أحدُها: أنّ التصنيفَ عائدٌ إلى جملةِ الصلاةِ لا إلى الفاتحة، هذا حقيقةُ اللفظ. والثاني: أنه عائدٌ إلى ما يختصُّ بالفتحةِ من الآياتِ الكاملة. والثالث: معناه: فإذا انتهى العبدُ إلى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}» .
هذا وإنّ الفاءَ في قولِ أبي هريرة رضي الله عنه: «فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: وتقريرِ التثليثِ في الألفاظ النبوية تفسيرًا للتنصيف، يكشفان الغطاء؛ فلا مطمَع في على مغزى الكلامِ إلّا ببيانِ موقعِهما؛ أما الأول: فإنّ الفاءَ رَتّبت ما بعدَها على ما قبلَها، ترتيبَ الدليلِ على المدَّعي، لأنه رضي الله عنه استشهدَ بالحديثِ الثاني لإثباتِ الكمالِ لمطلقِ الصلاة، ونفي النقصانِ عنه، لأن الحديثَ القُدسيَّ نصٌ إلهي في الدرجةِ الثانية، وإن كانَ من غيرِ واسطةٍ غالبًا، لأن المنظورَ فيه: المعنى، وفي التنزيل: اللفظُ والمعنى منظوران، كأنه قال: قَسَمتُ الَّصلاة الكاملةَ نصفين، فلا يَدلُّ على نَفيِ حقيقةِ الصلاةِ كما قال، وفيه أيضًا إيجابُ الصلاةِ على حقيقتِها، لأن الكلامَ السابقَ سيقَ لها أصالةً والثاني تابعٌ له، فيكون الفاءُ في قولِه: «فإذا قالَ العبد» للتعقيبِ والشروعِ في بيانِ كيفيةِ التقسيم، لا المقسومِ به كما ظنّ هذا الذي عَناه شارحُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيح بقولِه: «فإذا انتهى العبدُ إلى {الْحَمْدُ لِلَّهِ}» ، وعلى هذا قياسُ سائرِ الأذكارِ فيها.
وتخصيصُ الفاتحة: لتقدمِها وشرفِها وليُنبَّهَ على اشتمالِها على معاني الكتبِ السماوية، على أنّ مرجعَ الكلِّ إلى الدعوةِ إلى تَيْنِكَ الخُلّتين، أعني: العبادةَ والثناء، وإظهارَ الافتقارِ ونفيَ الحولِ والقوة إلا به. وبهذا ظهرَ سِرُّ قولِه صلواتُ الله عليه:"الدّعاءُ مخُّ العبادة"، ولا بُعْدَ أن نتَشبَّثَ بهذا على الوجوب. وتحريرُه: أنّ قولِه: "فهي خِداج" يَحتملُ مَعْنيينِ: نَفيَ الكمالِ كما سبق، ونَفيَ الحقيقة؛ من نَفي الجزء الذي يَنْتفي الكلُّ بانتفائه، رجّحنا الثاني بهذا الاعتبار؛ وذلك أنّ الصلاةَ عبارةٌ عن حركاتٍ مخصوصةٍ أذكارٍ مخصوصةٍ، فكما تَنتفي بإخلالِ معظمِ أذكارِها.
وقد نَقرّر في علم البيان، أنّ إطلاقَ الجزءِ على الكلِّ مشروطٌ بكونِ ذلك الجزءِ أعظمه، كما مّثّل شارحُ الصّحيح بقولِه:"الحَجُّ عَرَفة"، وعليه قولُه سبحانه وتعالى:{وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، [يعني: صلاتَه]، والذي يَشدُّ من عَضُدِ هذا التقريرِ توكيدُ الخِداجِ بالتذكير، وتتميمُه بالتفسير، ولأنّ هذا المنهجَ أحوط، وإلى التحقيقِ أقرب، واللهُ أعلمُ بحقيقةِ الحال.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما الثاني: فعليه ما ذكره الخطّابي: هذا التقسيمُ راجعٌ إلى المعنى لا إلى الألفاظِ المتلوّة، لأنا نجدُُ الشطرَ الآخِرَ يزيدُ على الشطرِ الأولِ من جهةِ الألفاظِ والحروفِ زيادةً بَيّنةً، فينصرفُ النصفُ إلى المعنى، لأن السورةَ من جهةِ المعنى نصفُها ثناءٌ ونصفُها دعاء، وقّسمُ الثناءِ ينتهي إلى قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، وباقي الآيةِ من قسمِ المسألة، فلهذا قالَ في هذه الآية:" بيني وبين عبدي". تمّ كلامُه.
وتحريرُ ذلك: أنه تعالى قسمَ السورةَ في هذا التقرير أثلاثًا، وقالَ في الثلثِ الأول:"حمدني" و"أثنى عليّ" و"مجَّدني"، فأضافها إلى نفسِه. وقال في الثلثِ الآخرِ:" هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل"، فَخصَّه بالعبد، وفي الوسط جَمع بينهما وقال:" هذا بيني وبينَ عبدي". ولأن يَربِطَ النصفَ الأول بالثاني، قَدّمَ فيه العبادةَ على الاستعانة، لأن الوسيلةَ مُقدَّمٌ على طلبِ الحاجة.
وأيضًا إن العبادةَ متفرِّعةٌ على الثلثِ الأول، لأنّ استحقاقَ اختصاصِ العبادةِ به إنما كانَ لأجلِ تلك الأوصافِ الكاملة، وإنّ الاستعانةَ فُرِّعَ عليها الثلثُ الآتي وفُسِّرتْ به؛ فإنَّ التقدير: كيف أُعينُكم؟ فقالوا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .
ولاعتبارِ المعنى ولتَضمُّنِ الثلثِ الأول معنى البسملة، استُغنيَ عنها به، وكذلك ثَلّثَ الثلثَ الأول، وجعلَ الطرفين -أعني:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} - مؤسسينِ على الوسط- أعني: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} - حيث اختصَّه بالثناءِ في قوله: "أثنى عليَّ عبدي"، مع أنّ الكلَّ ثناء.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإنما قلنا مؤسَّسينِ على الوسط، لأنَ الرحمةَ الإلهية والعواطفَ الربانية، هي التي اقتضتْ إخراجَ الخلقِ من العدمِ إلى الوجود، للتزوّدِ للمَسيرِ إلى السَّعاداتِ الأبديّة، والمصيرِ إلى الكمالاتِ السَّرمديّة، وإلى هذا يُلْمحُ ما ورد:"رحمنَ الدنيا ورحيمَ الآخرة".
فإن قلتَ: لِمَ قيّدَ الثّلثَ الثاني والثّالثَ بقولِه: "ولعبدي ما سأل"، وأوقعَه حالًا من "لعبدي"، وأطلق الأول؟
قلتُ: لتضمّنها الطّلبَ والسّؤال؛ أمّا في الأول: فمستفاد من السّين، وفي الثاني: من صيغةِ الأمر. وإنّما وُضع المظهرُ مَوضعَ المُضمرِ الرّاجعِ إلى ذي الجلال، وخُصَّ بالعبدِ وكُرِّر، ليُشعر بأنّ الصّلاةَ معراجُ المؤمن، ولهذا السّر وُصفَ الحبيبُ بالعبد ليلة المعراج، كما أَومأَ إليه بقوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، وظهرَ أيضًا أنّ المصلّى يناجي ربّه، وحُقّ لذلك أن تسمى الفاتحةُ بالصّلاة، وأنّ الصّلاةَ لا تَصحُّ إلّا بها. ولله درُّ الإمامِ حيثُ أوجبها فيها!
اللهمّ يا موليَ النِّعم، ويا راحمَ الأُمم، ويا مُحييَ الرِّمَم، أنتَ المعبودُ وأنت المستعانُ بكرمك، ثَبِّتنا على صراطك، صراطِ الذين أنعمتَ عليهم من النبيينَ والصِّديقين والشُّهداء والصالحين، ووفِّقْنا على ما نُرافقُهم به في دارِ كرامتِك في جناتِ النعيم، وجَنِّبنا بشُمولِ رأفتِك عمّا نوافقُ به الزائغين، ممّا يَكلُمُ الدِّينَ ويُثلُمُ اليقين، آمين، ربَّ العالمين.
ويا سامعَ الأصوات، ويا مجيبَ الدّعوات، ويا مُقيلَ العثرات، تَقبّلْ توبتي، وامحُ حِوبتي، وأقِلْ عَثْرتي فيما صدرَ مني مِمّا لا ترضاه، خصوصًا فيما تَصَدّيتً لإيراده في "فُتوحِ الغَيب"، وفيما تَوخّيتُ إبرازَه "في الكشفِ عن قناعِ الريب".
وصَلِّ على حبيبِ الله، على من بدأ منه البدايات، وانتهى إليه النهايات، رَحْمةِ الله المهداةِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للأُمم، سَلَفِها وخَلَفِها، النازلِ من آلِ إبراهيمَ ذُراها، وبَيتَ شَرَفِها. وعلى أله وعِتْرتِه وأزواجِه وذرِّيتِه، وعلى سائرِ المكرّمين بصُحبتِه، والمتبِعينَ لسُنتِه، الدارجينَ منهم واللاحقينَ لهم.
وارحمْ أبويَّ اللذين قَوّمَا أَوَدي، وأَصْلحا عِوَجي، ودَعَواني إليك بكلِّ خير، وأَعاذاني بك من كلِّ شر. واجْزِ عَنّا أئمةَ الإسلام وأعلامَ الطريقةِ ومشايخي خيرًا، سيّما مَنْ علّمنا، وأدَّبنا، ونَصَحَنا فيك وهَدانا إليك.
واخْلُفنا في أهالينا وذَرارينا، واسلكْ بنا وبهم صراطَك المستقيم، وأَرِهم سبيلَ المتقين، واجعَلْهم مِن عبادِك الصالحين، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.