المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

[(قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ - فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) - جـ ٣

[الطيبي]

فهرس الكتاب

[(قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ* مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) 97 - 98].

روي: أن عبد الله بن صوريا من أحبار فدك حاج رسول الله، وسأله عمن يهبط عليه بالوحي، فقال:"جبرئل"، فقال: ذاك عدونا، ولو كان غيره لآمنا بك، وقد عادانا مراراً، وأشدها: أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بختنصر، فبعثنا من يقتله، فلقيه ببابل غلاماً مسكيناً، فدفع عنه جبرئل، وقال: إن كان ربكم أمره بهلاككم فإنه لا يسلطكم عليه، وإن لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه؟ وقيل: أمره الله أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا. وروي: أنه كان لعمر رضي الله عنه أرض أعلى المدينة، وكان ممره على مدراس اليهود، فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم، فقالوا: يا عمر، قد أحببناك، وإنا لنطمع فيك. فقال: والله ما أجيئكم لحبكم، ولا أسألكم لأني شاك في ديني، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد، وارى آثاره في كتابكم. ثم سألهم عن جبرئيل، فقالوا: ذاك عدونا، يطلع محمداً على أسرارنا، وهو صاحب كل خسف وعذاب، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلام. فقال لهم: وما منزلتهما من الله؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فلقيه ببابل)، النهاية: بابل: الصقع المعروف بالعراق وألفه غير مهموزة.

قوله: (غلاماً) هو توطئة للحال التي هي "مسكيناً" كقوله تعالى: (قُرْآناً عَرَبِيّاً).

قوله: (مدراس اليهود)، النهاية: المدراس: صاحب كتب اليهود، مفعل ومفعال من أبنية المبالغة. والمدراس أيضاً: البيت الذي يدرسون فيه، ومفعال غريب في المكان.

ص: 5

قالوا: أقرب منزلة جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وميكائيل عدو لجبرئيل. فقال عمر: لئن كانا كما تقولون فما هما بعدوين، ولأنتم أكفر من الحمير، ومن كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر، ومن كان عدواً لهما كان عدواً لله. ثم رجع عمر فوجد جبرئيل قد سبقه بالوحي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد وافقك ربك يا عمر"، فقال عمر: لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر. وقرئ: (جبرئيل) بوزن: قفشليل، و (جبرئل) بحذف الياء، و (جبريل) بحذف الهمزة، و (جبريل) بوزن: قنديل، و (جبرال) بلام شيدة، و (جبرائيل) بوزن: جبراعيل، و (جبرائل) بوزن: جبراعل.

ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة. وقيل: معناه: عبد الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولأنتم أكفر من الحمير) قال الميداني: قولهم: هو أكفر من حمار. وهو رجل من عاد يقال له: حمار بن مويلع، قال الشرقي: هو حمار بن مالك بن [نصر] الأزدي. كان مسلماً، وكان له واد طوله مسيرة يوم في عرض أربعة فراسخ لم يكن ببلاد العرب أخصب منه، فخرج بنوه يتصيدون فأصابتهم صاعقة فهلكوا، فكفر وقال: لا أعبد من فعل هذا، ودعا قومه إلى الكفر. فمن عصاه قتله، فأهلكه الله وأخرب واديه، فضرب به المثل في الكفر، قال الشاعر:

ألم تر أن حارثة بن بدر

يصلي وهو أكفر من حمار

وقيل: لأن الكفر من الجهل، ولا شيء أبلد وأجهل من الحمار، كأن هذا أنسب لعدم الطباق بين الجمع في "الكتاب"، والإفراد في "المثل".

قوله: ("جبرئيل" بوزن: قفشليل) حمزة والكسائي، و"جبريل" بفتح الجيم وكسر الراء من

ص: 6

الضمير في (نَزَّلَهُ) للقرآن، ونحو هذا الإضمار- أعني إضمار ما لم يسبق ذكره- فيه فخامة لشأن صاحبه؛ حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه، ويكتفى عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته. (عَلَى قَلْبِكَ) أي: حفظه إياك وفهمكه. (بِإِذْنِ اللَّهِ) بتيسيره وتسهيله. فإن قلت: كان حق الكلام أن يقال: على قلبي. قلت: جاءت على حكاية كلام الله كما تكلم به، كأنه قيل: قل: ما تكلمت به من قولي: من كان عدواً لجبريل فإنه نزَّله على قلبك. فإن قلت:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

غير همزة: ابن كثير، و"جبريل" بوزن: قنديل: نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص، و"جبرئل" بحذف الياء: أبو بكر عن عاصم، والبواقي: شواذ.

قوله: (أي: حفظكه) ويروى: "حفظه إياك وفهمكه"، هذا تفسير لجملة قوله:(نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ)[البقرة: 97] لمح فيه معنى الاستعلاء والاستيلاء، يعني: إذا نزل جبريل بالقرآن على قلبه استولى على القلب، وجعل مجامعه مغمورة به، وتمكن فيه، فلا يشذ منه شيء، ولهذا قال في "الشعراء": حفظكه وفهمك إياه، وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى، كقوله تعالى:(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى)[الأعلى: 6] وفي عكسه: نزلت عن الأمر. قال صاحب "النهاية": كأنك كنت مستعلياً عليه، ومستولياً فنزلت.

ص: 7

كيف استقام قوله: (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) جزاءً للشرط؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: إن عادى جبرئيل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته؛ حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب بين يديه، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم. والثاني: إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك الكتابة مصدقاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كيف استقام قوله: (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) جزاءً للشرط؟ ) أي: من حق الجزاء أن يكون مسبباً عن الشرط، وقوله:(فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) لا يستقيم أن يكون مسبباً عن قوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ) وخلاصة الجواب: أن الجزاء هنا ما دل بالإخبار والإعلام إنكاراً على اليهود، وبيانه من وجهين:

أحدهما: قوله: (فلا وجه لمعاداته) يعني: من كان من هؤلاء اليهود عدواً لجبريل، فإني أعلمكم أنه معاند مكابر، لا إنصاف له، فلا وجه لمعاداته لأنه نزله كتاباً مصدقاً لكتابه، وكان الواجب أن يتلقاه بالقبول، لكن ما أنصف، وهو المراد بقوله:"فلو أنصفوا لأحبوه"، ونظيره ما قرره ابن الحاجب في قوله تعالى:(وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ)[النحل: 53].

وثانيهما: قوله: (إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه) نزله على قلبك، وهو نحو قولك: إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس، يعني: عداوته سبب لما أخبركم به، وهو أنه نزل على قلبك ما يكرهونه، يدل عليه قوله:"إن عاداك فلان، فقد آذيته" قالوا: في هذا الكلام وصف السبب في الجزاء؛ ألا ترى أنك تقول: من شكرني فأنا جواد سخي؟ فلا تأتي بالضمير، بل تشتغل بالسبب، وفيه ضمير معنى، كأنه قال: من كان عدواً لجبريل فله عذر من هذا السبب، ونظيره قوله تعالى:(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً)[فاطر: 10] فلا ضمير في اللفظ، ولكنه ثابت معنى، أي: فليطلبها عندي، أو فليعتزز بالله، أو في مظانها.

ص: 8

لكتابهم وموافقاً له وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم؛ ولذلك كانوا يحرفونه ويجحدون موافقته له، كقولك: إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه.

أفرد الملكان بالذكر؛ لفضلهما، كأنهما من جنس آخر، وهو مما ذكر أن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات. وقرئ:(ميكال) بوزن قنطار، و (ميكائيل) كميكاعيل، و (ميكائل) كميكاعل، و (ميكئل) كميكعل، و (ميكئيل) كميكعيل. قال ابن جني: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه. (عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) أراد: عدو لهم، فجاء بالظاهر؛ ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر، وإذا كانت عداوة الأنبياء كفراً فما بال الملائكة وهم أشراف! والمعنى: من عاداهم عاداه الله .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أفرد الملكان بالذكر) يعني: ذكر جنس الملائكة، ثم أفرد جبرئيل وميكائيل منهم، وعطفهما عليهم، ليدل على فضلهما، كأنهما ليسا من جنس الملائكة لاختصاصهما بمزايا وفضائل؛ لأن التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في الذات. قال أبو الطيب:

وإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

أي: المسك لا يعد من الدماء لما فيه من الخصلة التي لا توجد في الدم.

قوله: (وقرئ: ميكال) أي: بغير همز ولا ياء: أبو عمرو وحفص، و"ميكائل" بهمزة مكسورة بغير ياء: نافع، والباقون: بياء بعد الهمزة، والبواقي: شاذة.

قوله: (والمعنى: من عاداهم عاداه الله) تلخيص معنى الشرط والجزاء، ولو قال: من عادى جبريل عاداه الله كان أظهر، لأن القوم إنما أظهروا عداوة جبريل فحسب، فذكر الله والملائكة والرسل للتوطئة نحو قوله تعالى:(الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[الأحزاب: 57].

ص: 9

وعاقبه أشد العقاب.

[(وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ* أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) 99 - 101].

(إِلاَّ الْفَاسِقُونَ) إلا المتمردون من الكفرة. وعن الحسن: إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي؛ وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره. وعن ابن عباس:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عاقبه أشد العقاب) لزم المعاقبة من معنى العداوة؛ لأن معنى عداوة الله، إنزال النكال، ولزم شدة العقاب من إعادة ذكر اسم الله تعالى في الجزاء، وتخصيص اسم الذات الجامع المفيد في هذا المقام معنى القهارية، وتصريح ذكر الكافرين حيث لم يقل: عدو لهم، أي: فما بال العداوة التي يتولاها الله تعالى بنفسه، فإنه لجلاله يعاقب من عاداه بما لا يدخل تحت الوصف.

الراغب: العدو: التجاوز ومنافاة الالتئام، فتارة يعتبر بالقلوب، فيقال له: العداوة، وتارة في المشي فيقال له: العدو، وتارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له: العدوان. وحقيقة معاداة الإنسان له عز وجل: البعد عنه، ومخالفته في تحري الصدق في المقال، والحق في الفعال، وأن لا يستحق أن يوصف بشيء من أوصافه نحو العادل والجواد والكريم، والقريب منه والمحب له هو أن لا يخالفه في ذلك، وأن يصح أن يوصف بتلك الصفات. وتلك المعاني هي المقتضية لمعاداة الله وأوليائه والداعية إلى ارتكاب المعاصي.

ص: 10

قال ابن صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية فنتبعك لها. فنزلت. واللام في (الْفَاسِقُونَ) للجنس، والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب. (أَوَكُلَّمَا) الواو للعطف على محذوف معناه: أكفروا بالآيات البينات؟ ! وكلما عاهدوا. وقرأ أبو السمال بسكون الواو على أن (الْفَاسِقُونَ) بمعنى: الذين فسقوا، فكأنه قيل: وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة. وقرئ: (عوهدوا)، و (عهدوا). واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والأحسن أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب) يعني أن اللام في (الْفَاسِقُونَ) مع أنها جائز أن تكون للجنس، ويدخل فيه اليهود دخولاً أولياً على سبيل المبالغة، لكن الأحسن الحمل على العهد، ووجه حسنه إفادة التخصيص المستفاد من "ما" و"لا" ليسجل عليهم خاصة بالتمرد والفسق.

المعنى: لا يصدر مثل هذا الفسق إلا من هؤلاء، والترقي من الأهون إلى الأغلظ في الإنكار، وهو الكفر بآيات الله، لاسيما على قراءة أبي السمال في الإضراب؛ أثبت أولاً أنهم مبالغون في الفسق ثم أضرب عنه بقوله:(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ)[البقرة: 100] أي: ليس هذا أول فسقهم وكفرهم بآيات الله يا محمد، بل كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم من الذين مضوا، ثم أضرب عن هذا إلى ما هو أعلى منه بقوله:(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي: ما صدر النبذ من فريق منهم فقط بل أكثرهم كافرون.

قوله: (وقرأ أبو السمال)، وأبو السمال باللام، وابن السماك بالكاف. فعلى هذا يكون قوله:"أوكلما" معطوف من حيث المعنى على صلة الموصول، وعلى الأول: اللام حرف تعريف.

ص: 11

وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا! وكم عاهدهم رسول الله فلم يفوا! (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ)[الأنفال: 56]. والنبذ: الرمي بالذمام ورفضه. وقرأ عبد الله: (نقضه فريق منهم). وقال: (فَرِيقٍ مِنْهُمْ)؛ لأن منهم من لم ينقض. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بالتوراة، وليسوا من الدين في شيء، فلا يعدون نقض المواثيق ذنباً، ولا يبالون به. (كِتَابَ اللَّهِ): يعني: التوراة؛ لأنهم بكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم المصدق لما معهم كافرون بها نابذون لها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال ابن الحاجب في قوله تعالى: (إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ)[الأعراف: 21]"لكما" متعلق بالناصحين؛ لأن المعنى عليه؛ لأن الألف واللام لما كانت صورته صورة الحرف المنزل جزءاً من الكلمة، صارت كغيرها من الأجزاء التي لا تمنع التقديم.

وقال المرزوقي وأبو البقاء في قول الحماسي:

فتى ليس بالراضي بأدنى معيشة

ولا في بيوت الحي بالمتولج

"في" متعلق بالمتولج. على أن تحمل اللام على التعريف، ويجوز أن تحملها بمعنى "الذي" وتعلق "في" بمحذوف و "أو" بمعنى "بل" لا للشك.

قال ابن جني: "أو" هذه هي التي بمعنى "أم" المنقطعة؛ وكلتاهما بمعنى "بل" موجودة في الكلام كثيراً، يقول الرجل لمن يهدده: والله لأفعلن بك كذا، فيقول صاحبه: أو يحسن الله رأيك، أو يغير الله ما في نفسك، وأنشد الفراء لذي الرمة:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها، أو أنت في العين أملح

ص: 12

وقيل: كتاب الله: القرآن نبذوه بعدما لزمهم تلقيه بالقبول. (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنه كتاب الله لا يدخلهم فيه شك، يعني: أن علمهم بذلك رصين، ولكنهم كابروا وعاندوا. ونبذه وراء ظهورهم مثل لتركهم وإعراضهم عنه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكذا قال في قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)[الصافات: 147] أي: بل يزيدون، وقال ابن جني: لا يجوز أن يكون سكون الواو على أنها حرف عطف كقراءة الكافة، لأن حرف العطف لم يسكن، وإنما يسكن ما بعدها في نحو:(وَهُوَ اللَّهُ)[الأنعام: 3].

قوله: (وقيل: كتاب الله: القرآن) يعني: كتاب الله مظهر أقيم مقام المضمر الدال عليه (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) فإن أريد المصدق كان القرآن، وإن أريد لما معهم كان التوراة.

قوله: (لا يدخلهم فيه شك) قيل: هو خبر بعد خبر لأن، أي: كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله، ولا يعلمون أنه بريء من أن يحوم الشك حوله، أو في تأويل مصدر، أي: كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله علم تحقيق، أو حال من فاعل "لا يعلمون"، أي: كأنهم لا يعلمون في حال يقينهم.

قوله: (أن علمهم بذلك رصين) فإن قلت: من أين استفاد هذا التوكيد ورصانة العلم؟

قلت: من وضع "الذين أوتوا الكتاب" موضع الضمير، يعني عرفوه حق معرفته لما قرؤوا في كتابهم نعته، ودارسوه حتى استحكم بذلك علمهم. وكذا في اختصاص كتاب الله ووضعه موضع ضمير ما دل عليه (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) للدلالة على عظم ما ارتكبوه، وأن المنبوذ كتاب الله المجيد.

قوله: (مثل لتركهم وإعراضهم) يعني شبه تركهم كتاب الله وإعراضهم عنه بحالة شيء يرمى به وراء الظهر. والجامع عدم الالتفات وقلة المبالاة، ثم استعمل هنا ما كان مستعملاً

ص: 13

مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه. وعن الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤونه، ولكنهم نبذوا العمل به. وعن سفيان: أدرجوه في الديباج والحرير، وحلوه بالذهب، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه.

[(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) 102].

(وَاتَّبَعُوا): أي: نبذوا كتاب الله واتبعوا (مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ) يعني: واتبعوا كتب السحر والشعوذة التي كانت تقرؤها (عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هناك، وهو النبذ وراء الظهر. والضمير في قوله:"نبذوه وراء ظهورهم" للكتاب المذكور في التنزيل، وهو محتمل لأن يراد به التوراة، وأن يراد به القرآن، فإذا حمل على التوراة كان كناية عن قلة مبالاة بها فقط؛ لأن النبذ الحقيقي لم يكن منهم، ولهذا قال:"وهو بين أيديهم يقرؤونه" وقال أيضاً: "وأدرجوه في الديباج والحرير"، والحمل على القرآن لا ينافي إرادة حقيقة النبذ فهو كقولك: فلان طويل النجاد؛ يحتمل أن لا يكون له نجاد ويحتمل أن يكون.

قوله: (كتب السحر والشعوذة) في نسخة الصمصام بنصب الشعوذة. قال الإمام: الشعوذة إظهار الرجل الحاذق عمل شيء يشغل به أذهان الناظرين وأعينهم لعمل شيء آخر على سبيل السرعة، ليخفى الأمر على الناظر.

ص: 14

أي: على عهد ملكه وفي زمانه؛ وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة، وقد دونوها في كتب يقرؤونها ويعلمونها الناس، وفشا ذلك في زمن سليمان حتى قالوا: إن الجن تعلم الغيب. وكانوا يقولون: هذا علم سليمان، وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم، وبه تسخر الإنس والجن والريح التي تجري بأمره. (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ): تكذيب للشياطين، ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل به، وسماه كفراً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: على عهد ملكه وفي زمانه) هذا يؤذن أن لابد من تقدير مضاف وجعل "على" بمعنى "في"؛ لأن الملك لا يصلح أن يكون مقروءاً عليه، ولا العهد المقدر ممن يقرأ عليه شيء فيجعل "على" بمعنى "في" ليستقيم المعنى، أي: يقرؤونه في زمانه وعهده.

قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يكون "تتلوا" مضمناً معنى الإملاء، فلذلك عدي بـ "على".

وقلت: فعلى هذا أيضاً، لابد من تقدير المضاف. المعنى: واتبعوا ما أملى الشياطين على رجال عهد ملك سليمان.

قوله: (يلفقونها)، الجوهري: أحاديث ملفقة، أي: أكاذيب مزخرفة.

قوله: (تسخر) أي: اتخذ الجن سخرة لنفسه. الجوهري: سخره تسخيراً، أي: كلفه عملاً بلا أجرة، وكذلك تسخره.

قوله: (بهتت به) أي: قالوا عليه ما لم يفعله، فقوله:"ودفع لما بهتت به" تفسير لقوله: "تكذيب للشياطين" وقوله: "وسماه كفراً" حال بتقدير "قد" من المجرور في "ما بهتت به" ويجوز أن يكون عطفاً على "دفع لما بهتت به" من حيث المعنى، أي: دفع ما بهتت به وسماه كفراً.

ص: 15

(وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ) هم الذين (كَفَرُوا) باستعمال السحر وتدوينه، (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ): يقصدون به إغواءهم وإضلالهم. (وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ): عطف على (السِّحْرَ)، أي: ويعلمونهم ما أنزل على الملكين. وقيل: هو عطف على (مَا تَتْلُوا)، أي: واتبعوا ما أنزل. و (هَارُوتَ وَمَارُوتَ): عطف بيان للملكين علمان لهما، والذي أنزل عليهما هو علم السحر؛ ابتلاء من الله للناس؛ من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً، ومن تجنبه أو تعلمه لئلا يعمل به ولكن ليتوقاه، ولئلا يغتر به؛ كان مؤمناً:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يقصدون به إغواءهم) تفسير لـ "يعلمون الناس"، وإنما أوله به لأنه استئناف على سبيل التعليل لقوله:(وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) ومجرد تعليم السحر لا يوجب التكفير، فلابد من التأويل كما نص عليه، ودل عليه قوله تعالى:(وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ).

وقال أبو البقاء: "يعلمون" في موضع نصب على الحال من الضمير في "كفروا"، وقيل: هو حال من الشياطين، وليس بشيء؛ لأن "لكن" لا يعمل فيها.

قوله: ((وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) عطف على (السِّحْرَ)) وهو من باب عطف البيان على المبين، فكذلك إذا كان معطوفاً على (مَا تَتْلُوا).

قوله: (أو تعلمه لئلا يعمل به) إلى قوله: (كان مؤمناً) فيه إشعار بأن تعلمه واجب لإيقاع قوله: "كان مؤمناً" مسبباً عما قبله لكونه جزاء للشرط المقيد، ولاستشهاده بقوله:

عرفت الشر لا للشر

لكن لتوقيه

ومن لا يعرف الشر

من الناس يقع فيه

ص: 16

عرفت الشر لا للشر

لكن لتوقيه

كما ابتلي قوم طالوت بالنهر: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي)[البقرة: 249]. وقرأ الحسن: (على الملكين) بكسر اللام على أن المنزل عليهما علم السحر كانا ملكين ببابل. وما يعلم الملكان أحداً حتى ينبهاه وينصحاه ويقولا له:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وصرح بوجوبه الإمام، وجعله مقدمة للواجب.

وأما قوله: "إن اجتنابه أصلح" فمستنبط من الآية بحسب الإدماج، ومؤذن بعدم الوجوب، فيتناقض كلامه، اللهم إلا أن يقال: إن المراد بقوله: "كان مؤمناً" لم يكفر.

قال القاضي: المراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس، فإن التناسب شرط في التضام والتعاون، وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي، وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية، أو يريه صاحب خفة اليد فغير حرام، وتسميته سحراً على التجوز لما فيه من الدقة، لأنه في الأصل لما خفي سببه. وبهذا ظهر أن تعلمه لئلا يعمل به ولكن ليتوقاه حرام أيضاً، وقال صاحب "الروضة": ويحرم فعل السحر بالإجماع، وأما تعلمه وتعليمه ففيه ثلاثة أوجه: الصحيح الذي قطع به الجمهور أنهما حرامان، والثاني: مكروهان، والثالث: مباحان.

ص: 17

(إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي: ابتلاء واختبار من الله (فَلا تَكْفُرْ): فلا تتعلم معتقداً أنه حق فتكفر. (فَيَتَعَلَّمُونَ) الضمير لما دل عليه (مِنْ أَحَدٍ) .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال أيضاً: اعلم أن التكهن وإتيان الكهان والتنجيم والضرب بالرمل وبالشعير والحصى والشعبذة وتعليمها حرام، وأخذ العوض عليها حرام بالنص الصحيح في حلوان الكاهن، والباقي: بمعناه، وأما الحديث الصحيح:"كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك" فمعناه: من علمتم موافقته له فلا بأس، ونحن لا نعلم الموافقة، فلا يجوز.

قال الإمام: وفي الآية ما يدل على أن الشياطين إنما كفروا لأنهم كانوا يعلمون السحر، لأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية.

وقلت: يريد أنه تعالى قطع قوله: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ) عن قوله: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) لأنها جملة استئنافية واردة على بيان العلية، ولما كان تعليم الملكين الناس للابتلاء، صرح بقوله:(وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ)، قال الواحدي: امتحن الناس

ص: 18

أي: فيتعلم الناس من الملكين (مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) أي: علم السحر الذي يكون سبباً في التفريق بين الزوجين؛ من حيلة وتمويه، كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز والخلاف ابتلاء منه، لا أن السحر له أثر في نفسه، بدليل قوله:(وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ)؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالملكين، وجعل المحنة في الكفر والإيمان، بأن يقبل القابل تعلم السحر فيكفر، ويؤمن بترك تعلمه، ولله أن يمتحن عباده بما شاء.

قوله: (أي: فيتعلم الناس من الملكين) جعل أحداً بمعنى الناس. قيل: الفرق بين الواحد والأحد بعد اشتراكهما في معنى التوحيد، أن الأحد في موضع النفي يعم القليل والكثير بصفة الاجتماع والافتراق، يقال: ما في الدار أحد ولا اثنان ولا ثلاثة، ولا مجتمعون ولا متفرقون، بخلاف الواحد فإنه يصح أن يقال: ما في الدار واحد بل اثنان.

قال الزجاج: قيل (فَيَتَعَلَّمُونَ) عطف على ما يوجبه معنى الكلام، أي: إنما نحن فتنة فلا تكفر، ولا تتعلم، ولا تعمل السحر، فيأبون فيتعلمون، والأجود أنه عطف على يعلمان المقدر، أي: يعلمان فيتعلمون.

قوله: (الفرك)، الجوهري: الفرك بالكسر: البغض، ولم يسمع هذا في غير الزوجين.

قوله: (لا أن السحر له أثر في نفسه) قال صاحب "الروضة": روي عن أبي جعفر

ص: 19

لأنه ربما أحدث الله عنده فعلاً من أفعاله وربما لم يحدث. (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ)؛ لأنهم يقصدون به الشر. وفيه: أن اجتنابه أصلح، كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية، .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأستراباذي من أصحابنا أنه قال: لا حقيقة للسحر، وإنما هو تخييل. والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة.

وقال الإمام: الخلاف فيما أن الساحر هل يبلغ بسحره إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة وتغيير البنية والشكل، أم لا؟ فالمعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك، لأنه لا يعرف حينئذ صدق الأنبياء. وأجيب: أن من ادعى النبوة، وكان كاذباً فيه، [فإنه] لا يجوز من الله تعالى إظهار هذه الأشياء، لئلا يحصل التلبيس.

قوله: (كتعلم الفلسفة) قال صاحب "الروضة": ووراء العلوم الشرعية أشياء تسمى علوماً، منها محرم ومكروه ومباح، فالمحرم كالفلسفة والشعوذة والتنجيم والرمل وعلوم الطبيعيين، وكذا السحر على الصحيح، وتتفاوت درجات تحريمه، والمكروه كأشعار المولدين المشتملة على الغزل والبطالة، والمباح كأشعارهم التي ليس فيها سخف، ولا ما ينشط إلى الشر ويثبط عن الخير.

ص: 20

ولقد علم هؤلاء اليهود أن من اشتراه- أي: استبدل ما تتلو الشياطين على كتاب الله- (مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ): من نصيب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي في وصية أوصى بها بعض من أخذ منه: أوصيه أن يسد سمعه عن أباطيل الفلاسفة فضلاً عن الإصغاء إليها، والتعلم منها، فإنها لم تزل مشؤومة على أهلها، ولو مزجت كلمة منها بالبحر لمزجته، ثم إنها لا تثمر إلا الهوان في الدنيا والخزي في الآخرة، ونعوذ بالله من ذلك.

وللإمام حجة الإسلام كتاب "التهافت" وكتاب "المنقذ من الضلال"، ولشيخنا إمام الموحدين أبي حفص السهروردي كتاب مسمى بـ "الرشف في نصائح الإيمانية، والكشف عن فضائح اليونانية". والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

قوله: (ولقد علم هؤلاء اليهود) بيان لضمير علموا، للتنبيه على أنه راجع إلى من سيق له الكلام أولاً، وأن قصة السحر مستطردة. بيانه: أن قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ* وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ)[البقرة: 101 - 102] الآيات، بيان لجهلهم وتركهم الحق الواضح إلى الباطل الظاهر بطلانه، وإليه الإشارة بقوله:"أي: استبدل ما تتلوا الشياطين من كتاب الله" وكان من الظاهر أن يكتفي عن قوله: (مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) بقوله: واتبعوا السحر، لكن كنى به عنه حتى يحسن استطراد (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) وما اتصل به، تصويراً لقبح ما ارتكبوه، حيث بدلوا علوم الدين بعلوم الشياطين، ومن هذا القبيل وضع "من اشتراه" في قوله:(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ) الآية موضع

ص: 21

(وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ) أي: باعوها. وقرأ الحسن: (الشياطون)، وعن بعض العرب: بستان فلان حوله بساتون، وقد ذكر وجهه فيما بعد. وقرأ الزهري:(هاروت وماروت) بالرفع على: هما هاروت وماروت

ـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"لقد علموا أن ذلك الاشتراء خسران"، ليثبت لهم العلم بخسران أنفسهم بالطريق البرهاني وعلى البت والقطع.

وفي لفظة: (تَتْلُو الشَّيَاطِينُ) إشارة إلى هذا المعنى: إما على سبيل المشاكلة التقديرية يشعر به قوله: "هو بين أيديهم يقرؤونه" كأنه قيل: تركوا قراءة كتاب الله، واشتغلوا بقراءة كتاب الشياطين، أو الاستعارة التهكمية؛ لأن التلاوة عرفاً خصت بقراءة القرآن.

الراغب: تلاه: تبعه متابعة ليس بينهما ما ليس منهما، وذلك تارة يكون بالجسم وتارة بالاقتداء في الحكم، وتارة بالقراءة، وتختص بإتباع كتب الله المنزلة بالقراءة، وقوله تعالى:(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ) فاستعمل فيه لفظ التلاوة لما كان يزعم الشياطين أن ما يتلونه من كتب الله.

قوله: (وقد ذكر وجهه فيما بعد) أي: يذكر. ووجهه أنه رأى آخره كآخر يبرين وفلسطين، فتخير بين أن يجري الإعراب على النون وبين أن يجريه على ما قبله فيقول: الشياطين والشياطون، كما تخيرت العرب بين أن يقولوا: هذه يبرون ويبرين، وفلسطين وفلسطون، وحقه أن تشتقه من الشيطوطة، وهي الهلاك كما قيل له الباطل، هذا ما ذكره المصنف في "سورة الشعراء".

ص: 22

وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف، ولو كانا من الهرت والمرت، وهو الكسر- كما زعم بعضهم- لانصرفا. وقرأ طلحة:(وما يعلمان) من أعلم. وقرئ: (بين المُرْءِ) بضم الميم وكسرها مع الهمز، و (المَرِّ) بالتشديد على تقدير التخفيف والوقف، كقولهم: فرج، وإجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ الأعمش:(وما هم بضاري) بطرح النون والإضافة إلى (أَحَدٍ) والفصل بينهما بالظرف. فإن قلت: كيف يضاف إلى (أَحَدٍ) وهو مجرور بـ (مِنْ)؟ قلت: جعل الجار جزءاً من المجرور ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال غيره: الشيطان يحتمل أن يكون من شطن، وأن يكون من شاط، فجمعه على حال الرفع جمع السلامة بعد رده إلى المصدر، وهو الشياط، كما قيل: خاط خياطاً، فأقامه مقام الاسم، وفي غير حال الرفع جمعه على فياعيل، نحو شياطينهم، فعلى هذا فالشيطان فيعال من: شطن، وعلى الوجه الآخر فعلان من: شاط.

قوله: (وقرئ: بين المُرء) قال ابن جني: "المُرء" بضم الميم وسكون الراء والهمز: قراءة ابن أبي إسحاق، و"المرء"بكسر الميم والهمز: قراءة الأشهب، وهما لغتان، و"المَرِّ" بالتشديد: قراءة الزهري، ووجهه أنه أراد التخفيف، ووقف فصار "المَر" بسكون الراء، ثم ثقل للوقف على قول من قال: هذا خالد، وهو يجعل، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فأقر التثقيل بحاله.

قوله: ("وما هم بضاري" بطرح النون) قال ابن جني: هذا من أبعد الشواذ، وأمثل ما يقال فيه: أن يكون "وما هم بضاري أحد به، ثم فصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، وفيه شيء آخر وهو أن هناك أيضاً "من" في (مِنْ أَحَدٍ) غير أنه أجرى الجار مجرى جزء من

ص: 23

فإن قلت: كيف أثبت لهم العلم أولاً في قوله: (وَلَقَدْ عَلِمُوا) على سبيل التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قوله:(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)؟ قلت: معناه: لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه.

[(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ* مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) 103 - 105].

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) برسول الله والقرآن (وَاتَّقَوْا) الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ)، وقرئ:"لمثوبة" كمشورة ومشورة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المجرور، فكأنه قيل: وما هم بضاري به أحد. قيل: يقرب هذا من قول سيبويه في: لا أبا لك على الإضافة، واللام لتأكيد الإضافة ولا يجوز أن يكون طرح النون من "بضاري" نحو طرحها في قول الشاعر:

الحافظو عورة العشيرة

لأن طرحها على هذا الحد إنما يجوز في المعرف باللام.

قوله: (وقرئ: لمثوبة) أي: بفتح الواو، قرأ بها قتادة وابن بريدة وأبو السمال.

ص: 24

(لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أن ثواب الله خير مما هم فيه، وقد علموا، ولكنه جهلهم لترك العمل بالعلم.

فإن قلت: كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب "لو"؟ قلت: لما في ذلك من الدلالة على إثبات المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصب إلى الرفع في (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد: 24] لذلك. فإن قلت: فهلا قيل: لمثوبة الله خير؟ قلت: لأن المعنى: لشيء من الثواب خير لهم. ويجوز أن يكون قوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كيف أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية؟ ) قال الزجاج: لمثوبة في موضع جواب "لو" لأنها تنبئ عن قولك: لأثيبوا. المعنى: ثواب الله خير لهم من كسبهم بالسحر والكفر. وقال القاضي: وحذف المفضل عليه إجلالاً للمفضل من أن ينسب إليه.

قوله: (لأن المعنى: لشيء من الثواب خير لهم) يعني: المقام يقتضي الترغيب في الثواب، والزجر عن المعاصي، والمعنى: لشيء قليل من ثواب الله خير مما شروا به أنفسهم من إتباع ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.

قلت: إنما جمع بين معنى الدوام والقلة ليؤذن أن قدراً يسيراً من الثواب في الآخرة مع الدوام، خير من كثير ثواب الدنيا مع الزوال، فكيف وثواب الله كثير دائم!

قوله: (ويجوز أن يكون قوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا)) عطف على قوله: "ولو أنهم آمنوا برسول الله والقرآن" على أن "لو" للتمني، و"لمثوبة" جملة مبتدأة، وعلى الأول "لو" لامتناع الشيء لامتناع غيره، وجوابه "لمثوبة" وإنما خص رسول الله والقرآن بالذكر ليؤذن باتصال الآية بقوله:(وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ)[البقرة: 101]، وأتى

ص: 25

تمنياً لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم له، كأنه قيل: وليتهم آمنوا، ثم ابتدئ:(لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ).

كان المسلمون يقولون لرسول الله إذا ألقى عليهم شيئاً من العلم: راعنا يا رسول الله! أي: راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهمه ونحفظه، وكانت لليهود كلمة يتسابون بها عبرانية أو سريانية؛ وهي (راعينا)، فلما سمعوا بقول المؤمنين:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقوله: "فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين" لينبه أيضاً على اتصاله بقوله: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ)[البقرة: 102].

قوله: (تمنياً لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم له) إشارة إلى مذهبه، وارتكب فيه أمراً عظيماً؛ لأن التمني أصله أن يستعمل فيما لا يتوقع حصوله، ولا يصح حمل هذا على إرادة الله إيمانهم، لا حقيقة ولا مجازاً؛ لأن الله تعالى إذا أراد شيئاً أن يقول كن فيكون.

فإن قلت: التمني مجاز عن بلوغ تماديهم في الطغيان إلى حد لا يمكن تصور الإيمان منهم.

يقال: فإذن يلزم أن يكون مراد الله مغلوباً بمرادهم. والحق أن يكون التمني من جهة العباد تنبيهاً من الله تعالى على إرادة الكفر منهم على معنى: أن من عرف حالهم قال ذلك على منوال: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ)[الصافات: 147] كما عليه مذهب أهل السنة.

المعنى: حصول إيمانهم غير ممكن؛ لأن الله تعالى يريد الكفر منهم، وإذ لا يمكن حصول الإيمان فيطلب كما تطلب المحالات بأن يقال في حقهم: ليتهم آمنوا!

قوله: (ثم ابتدئ: (لَمَثُوبَةٌ) أي: استؤنف. كأنهم لما تمنوا لهم ذلك، قيل لهم: ما هذا التحسر والتمني؟ فأجابوا: لأنا نعلم أن هؤلاء المجازفين حرموا ما شيء قليل منه خير من الدنيا وما فيها، وهم لا يعلمون ذلك، فـ "لو" الثانية أيضاً للتمني.

قوله: (وكانت لليهود كلمة يتسابون بها، عبرانية أو سريانية وهي:"راعينا" يعني: قولة

ص: 26

راعنا افترضوه وخاطبوا به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم يعنون به تلك المسبة؛ فنهي المؤمنون عنها، وأمروا بما هو في معناها؛ وهو:(انظُرْنَا) من نظره؛ إذا انتظره. وقرأ أبي: (أنظرنا) من النظرة، أي: أمهلنا حتى نحفظ. وقرأ عبد الله بن مسعود: (راعونا) على أنهم كانوا يخاطبونه بلفظ الجمع؛ للتوقير. وقرأ الحسن: (راعناً) بالتنوين من الرعن؛ وهو الهوج، أي: لا تقولوا قولاً راعناً، منسوباً إلى الرعن بمعنى رعنياً، كدارع ولابن؛ لأنه لما أشبه قولهم:(راعينا)، وكان سبباً في السب؛ اتصف بالرعن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"راعينا" كلمة ذات وجهين تحتمل المدح والذم، أما المدح فباعتبار العربية، والسب بالعبرانية، فجعلوا كلمة الحق باطلاً، والمدح ذماً، فهذا أيضاً من تعاكيسهم كاستبدال كلام الشياطين بكلام الله.

قوله: (راعنا) من راعيت الأمر، نظرت إلام يصير، وأنا أراعي فلاناً، أنظر ماذا يفعل. الجوهري: راعيت الأمر: نظرت إلى أين يصير. وراعيته: لاحظته.

الراغب: الرعي: حفظ الغير في أمر يعود بمصلحته، ومنه رعي الغنم، ورعي الوالي الرعية، وعنه نقل: أرعيته سمعي، وتشبيهاً برعي الغنم، قيل: رعيت النجوم، إذا راقبتها.

قوله: (من الرعن وهو الهوج) الأهوج: الطويل الأحمق. وصف الكلام به مبالغة كما يقال: كلمة حمقاء. قال الزجاج: معنى قراءة الحسن راعناً بالتنوين، لا تقولوا حمقاً من الرعونة.

قوله: (لأنه لما أشبه) تعليل لتسمية قولهم: راعناً بالرعن ووصفه بالرعونة. يعني: لم يكن قصدهم فيه هذا المعنى، لكن لما أشبه قولهم قولهم، فكانت المشابهة سبباً لافتراضهم السب سمي بالرعن؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبب، والفرق بين القراءتين: أن تعليل النهي في قراءة الحسن منصوص عليه، وفي الأولى مطلق.

ص: 27

(وَاسْمَعُوا): وأحسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الهل ويلقي عليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة؛ حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة؛ أو: اسمعوا سماع قبول وطاعة، ولا يكن سماعكم مثل سماع اليهود حيث قالوا:(سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)[البقرة: 93]؛ أو: واسمعوا ما أمرتم به بجد؛ حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه؛ تأكيداً عليهم ترك تلك الكلمة. وروي: أن سعد بن معاذ سمعها منهم، فقال: يا أعداء الله! عليكم لعنة الله! والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((وَاسْمَعُوا): وأحسنوا سماع ما يكلمكم) أي: أجيدوا. قال في قوله تعالى: (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ)[السجدة: 7] حقيقته: يحسن معرفته. أي: يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان. وإنما فسر "واسمعوا" بما فسر من الوجوه الثلاثة لينبه على أن المسلمين كانوا يسمعون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن سماع مقصر غير واع، فأمروا بأن يسمعوا حق السماع.

أولها: فسره بمعنى إلقاء الذهن وإحضار القلب، يعني: أنكم إنما احتجتم إلى قولكم "راعنا" لأنكم لم تكونوا تحسنون السماع، وكان ذلك مستلزماً لذلك المحذور، فأحسنوا السماع لئلا يلزم ذلك.

وثانيها: أن يراد بقوله: "واسمعوا" القبول والطاعة، نهاهم أولاً بقوله:"لا تقولوا راعنا" على إرادة: تأن بنا حتى نحفظه عن مجرد جعل الحفظ غاية للتأني كما قدره، ثم أمرهم بقوله:(وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا)[البقرة: 104] إعلاماً بأن السماع المعتبر أن يجمعوا بين الفهم والعمل حتى تكون غاية الفهم العمل تعريضاً باليهود حيث سمعوا ولم يعملوا وعصوا.

وثالثها: أن يكون "اسمعوا" تكريراً للتأكيد كما تقول: لا تضرب زيداً واسمع أمري، فهو تأكيد للكلام المسموع. يعني: إذا تلقيتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً تلقوه بجد وعزيمة حتى لا تحتاجوا إلى أن تقولوا: راعنا.

ص: 28

لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأضربن عنقه. فقالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت. (وَلِلْكَافِرِينَ): ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه (عَذَابٌ أَلِيمٌ).

"من" الأولى للبيان؛ لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان: أهل الكتاب والمشركون، كقوله تعالى:(لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ)[البينة: 1]؛ والثانية مزيدة لاستغراق الخير، والثالثة لابتداء الغاية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((وَلِلْكَافِرِينَ): ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن قوله: للكافرين مظهر وضع موضع ضمير اليهود؛ للإشعار بأن قولهم ذلك كان تهاوناً بالرسول، ومن أهان نبي الله وحبيبه كان غالياً في الكفر، كاملاً فيه مستحقاً لأن يعذب بعذاب أليم، أي: مبالغ في الإيلام نحو جد جده.

فإن قلت: لِمَ لَمْ يجعل التعريف للجنس ليدخل اليهود فيه دخولاً أولياً؟ قلت: ليس بظاهر؛ لأن الكلام مع المؤمنين فلا يصح قوله: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[البقرة: 104] أن يكون تذييلاً، بخلافه في قوله:(فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)[البقرة: 89] وإذا جعل التعريف للعهد اختص باليهود بقرينة السياق، وكان تعريضاً بالمؤمنين وتغليظاً للوصف.

قوله: ("من" الأولى للبيان) أي: في قوله تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ)[البقرة: 105]، "والثانية مزيدة" أي: في قوله: (مِنْ خَيْرٍ) لأنها واقعة في سياق النفي، فتفيد النكرة العموم، وهو المراد من قوله:"لاستغراق الخير" أي: لتأكيد استغراق الخير، "والثالثة لابتداء الغاية" أي: في قوله: (مِنْ رَبِّكُمْ). المعنى: أن الكفر في الفريقين يقتضي عدم ودادتهم إنزال الخير من الله، وفي تخصيص أهل الكتاب وإيقاع الكفر صلة للموصول وبيانه بقوله:(مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) وإقامة المظهر مقام المضمر، الإشعار بأن كتابهم يدعوهم إلى متابعة الحق، لكن كفرهم يمنعهم.

ص: 29

والخير: الوحي وكذلك الرحمة، كقوله:(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ)[الزخرف: 32]، والمعنى: أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم؛ فيحسدونكم، وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي، (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ) بالنبوة (مَنْ يَشَاءُ)، ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة، (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ): إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم، كقوله تعالى:(إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً)[الإسراء: 87].

[(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ* أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ*

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفيه: أن الكفر شر كله؛ لأنه هو الذي يورث الحسد، ويحمل صاحبه على أن يبغض الخير ولا يحبه البتة، وأن الإيمان خير كله؛ لأنه يحمل صاحبه على تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى.

قوله: (والخير: الوحي، وكذلك الرحمة) فعلى هذا قد أقيم المظهر، وهو الرحمة، مقام المضمر، وهو ضمير الوحي من غير لفظه السابق؛ ليؤذن بأن الوحي هو عين الرحمة، كما أن إرساله صلى الله عليه وسلم محض الرحمة لقوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107] وكذلك لفظة "الله" في قوله: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)[البقرة: 105] أقيم مقام ضمير "ربكم" لينبه به على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض ملائم للألوهية، كما أن إنزال الخير على العموم مناسب للربوبية.

قوله: (إشعار بأن إيتاء النبوة من الفضل العظيم) جعل إيتاء النبوة بعضاً من الفضل العظيم؛ لأن الفضل العظيم يعم جميع الأفضال، فقوله تعالى:(وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تذييل، أو لكون الكلام في النبوة دخلت فيه دخولاً أولياً.

ص: 30

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) 106 - 110].

روي أنهم طعنوا في النسخ، فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً! فنزلت. وقرئ:(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ) و (ما ننسخ) بضم النون من أنسخ (أو ننسأها) وقرئ: (نُنسِهَا)، و (نُنَسِّها) بالتشديد، و (تَنْسَها)، و (تُنْسَها) على خطاب الرسول، وقرأ عبد الله:(ما ننسك من آية أو ننسخها)، وقرأ حذيفة:(ما ننسخ من آية أو ننسكها). ونسخ الآية: إزالتها بإبدال أخرى مكانها،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ("ما ننسخ" بضم النون) ابن عامر، وبالفتح الباقون، "أو ننسأها" بالهمز: ابن كثير وأبو عمرو، والباقون: بغير همز، والبواقي: شواذ.

والمصنف جمع المعنيين، أي: النساء والإنساء في الإذهاب بالكلية. قال القاضي: نسخ الآية: بيان انتهاء التعبد بقراءتها، أو الحكم المستفاد منها، أو بهما جميعاً.

قوله: (ونسخ الآية: إزالتها بإبدال أخرى) أي: آية أخرى مكانها، ولابد من هذا التقدير؛ لأن "خيراً منها" صفة موصوف محذوف، ولابد من القرينة الدالة على خصوصيته،

ص: 31

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهي قوله: (مِنْ آيَةٍ) كما قدرها المصنف، ولو قدرت غيرها لركبت شططاً، ونظيره قوله تعالى:(مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)[آل عمران: 7]، أي: آيات أخر؛ هذا مشعر بأن الناسخ للكتاب ينبغي أن يكون الكتاب لا شيئاً غيره، وهو موافق لما ذهب إليه الإمام الشافعي؛ لأنه منع نسخ القرآن بالخبر المتواتر، وهو موافق لما ورد عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلامي لا ينسخ كلام الله، وكلام الله ينسخ بعضه بعضاً"، رواه الدارقطني، وكيف يخفى على الإمام ما خفي على غيره وهو من أعلام المختصين وقد قال ابن الصلاح: أعيى الفقهاء وأعجزهم معرفة ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه. وكان للشافعي رضي الله عنه اليد الطولى والسابقة الأولى. وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما عرفنا المجمل من المفسر، ولا الناسخ في الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي. والآيات التنزيلية شواهد صدق؛ ذلك لأن الناسخ لابد أن يكون خيراً من المنسوخ أو مثله قوله تعالى:(نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)[البقرة: 106] والسنة ليست بخير من القرآن ولا مثله، وأيضاً قال:(نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) والضمير في "نأت" لله تعالى فيكون الآتي بالناسخ هو الله تعالى.

وأجاب الجمهور عن الأول: أن المراد بالنسخ، هو نسخ الحكم لا اللفظ؛ لأن القرآن

ص: 32

وإنساخها: الأمر بنسخها، وهو أن يأمر جبريل بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها. ونسؤها: تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل. وإنساؤها: أن يذهب بحفظها عن القلوب. والمعنى: أن كل آية نذهب بها على ما توجبه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا تفاضل فيه، ويجوز أن يكون حكم السنة خيراً من حكم القرآن، أو مثلاً له؛ لأنه يجوز أن يكون حكم السنة أصلح للمكلف من حكم القرآن.

وعن الثاني: أنه يصح إطلاق "نأت" على ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما أتى به الرسول عليه السلام أيضاً من عند الله لقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)[النجم: 3 - 4].

قلت: أما قولهم: إن المراد بالنسخ هو نسخ الحكم لا اللفظ، فهو تخصيص من غير مخصص، على أن الآية ورودها في شأن أهل الكتاب ورد ودادتهم أن لا ينزل الله تعالى على رسوله صلوات الله عليه هذا الكتاب الشريف فينسخ به كتابهم لفظاً وحكماً.

ورد أنه صلى الله عليه وسلم اختص به دونهم، وأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي يبدله من تلقاء نفسه بشهادة سبب النزول، ويدل عليه قوله تعالى:(مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ)[البقرة: 105] إلى قوله تعالى: (مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)[البقرة: 107]، فإذن كيف يتصور خلاف هذه المعاني!

وعن قولهم: أن يكون حكم السنة أصلح، فإنه قريب من القول بالاعتزال مع أن قوله تعالى:(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)[البقرة: 107] يقلع هذا الزعم؛ لأن معناه أن الله تعالى إنما يحسن منه النسخ، لكونه مالكاً للخلق، ومستولياً عليهم، لا لثواب يحصل ولا لعقاب يدفع، ولا لغرض من الأغراض، لأن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية.

ص: 33

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما قولهم: "إنه يصح إطلاق "نأت" على ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم فمردود جداً، لما يلزم منه فك التركيب، وارتكاب المحذور، أما فك التركيب، فإن الضمائر في "ننسخ" و"ننسها" و"نأت" دالة على تعظيم الفاعل، ومنادية على جلالته واستبداده بما فعله، فإذا دخل الغير يفوت الغرض المطلوب، ولاشك أنه لا مدخل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في "ننسها"، فإذا فرق الضمائر، ينخرم النظم، وأن ضمير الخطاب في قوله:(أَلَمْ تَعْلَمْ) - إذا خص بالنبي صلى الله عليه وسلم أو عم- والاستفهام المفيد للتقرير ينافي اشتراكه صلى الله عليه وسلم في تلك الضمائر، وكذا وضع المظهر موضع المضمر، وتخصيصه بذكر اسم الذات في قوله تعالى:(أَنَّ اللَّهَ) مكرراً.

وأما ارتكاب المحذور، فهو إذا جعل الفاعل في قوله:"ننسخ" و"نأت" الله، والغير؛ فلا يخلو، إما أن يكون حقيقة فيه دون الله سبحانه وتعالى، أو مجازاً، أو مشتركاً بينهما، فالكل باطل؛ أما بطلان الأول والثاني فظاهر، لأنه يستلزم اجتماع إرادة الحقيقة والمجاز معاً. وأما الثالث، فيستلزم تعدد الفاعل، وحينئذ يفوت التعظيم المطلوب.

وأما استدلالهم بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)[النجم: 3 - 4] فضعيف أيضاً؛ لأن الكلام هناك في المنزل؛ لأن الكفار كانوا ينسبونه إلى الجن، ويسمون قائله مجنوناً بشهادة الآيات المناسبة لها كقوله تعالى:(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) إلى قوله: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)[التكوير: 22] وقوله: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) وقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ)[الحاقة: 40 - 41] ولهذا عقبة بقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)[النجم: 3 - 5]، فإذن لا تدخل في المعنى الأحاديث الواردة منه صلى الله عليه وسلم.

ص: 34

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما نقل ابن الحاجب عنهم: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" نسخ الوصية بالوالدين والأقربين، والرجم للمحصن نسخ الجلد، فضعيف أيضاً، لما روى الإمام عن الشافعي رضي الله عنه: أن الوصية للأقربين منسوخة بآيات المواريث، وأن آية الجلد مخصوصة بما روى عمر رضي الله عنه: أن قوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها" كان قرآناً، فلعل النسخ إنما وقع به.

وقلت: رواه البخاري ومسلم ومالك والترمذي وابو داود وابن ماجة عن ابن عباس قال: سمعت عمر رضي الله عنه، وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: إن الله بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله تعالى آية الرجم، فقرأناها ووعيناها. ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى في كتابه، فإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، وايم الله لولا أن يقول الناس: زاد [عمر] في كتاب الله لكتبتها"، وفي رواية مالك وابن ماجة: وقد قرأ بها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما". وقال مالك: الشيخ والشيخة: الثيب والثيبة.

وأما حديث: "لا وصية لوارث" فلا يتم استدلالهم به، لأنهم شرطوا التواتر في الحديث الناسخ، وهذا لم يبلغ إلى الدرجة القصوى في الصحة، فكيف بالتواتر؛ لأن أئمة الحديث

ص: 35

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأساطين النقل مثل: البخاري ومسلم ومالك والنسائي، ما أوردوه في كتبهم، بل ذكره الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته عام حجة الوداع [يقول]: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث" أو على تقدير تواتره، فقوله: أعطى كل ذي حق حقه، إشارة إلى آية المواريث، فالحديث موضح لدلالة نسخ آية المواريث لهذه الآية. والحمد لله الذي هدانا لنصرة الحق، وترجيح مذهب الإمام المطلبي رضي الله عنه.

والعجب أن الأصحاب خالفوا أصولهم في القول بالأصلح، وأبوا متابعة إمامهم، وأولوا ظاهر النص القاطع، وأن المصنف خالف أصحابه ووافقنا، فإن شئت فجرب ذوقك في المتلو من قوله تعالى:(مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)[البقرة: 105] إلى آخر قوله: (مَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)[البقرة: 107]، ثم انظر: هل تجد مجالاً أن تقحم فيه فعل الغير أو كلامه.

فائدة في معرفة التواتر من "كتاب ابن صلاح" و"مختصره" لمحيي الدين النواوي

ص: 36

المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معاً، أو من إزالة أحدهما إلى بدل أو غير بدل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رحمهما الله: التواتر عبارة عن الخبر الذي ينقله من يحصل العلم بصدقه ضرورة، ولابد في إسناده من استمرار هذا الشرط في رواته من أوله إلى منتهاه، ومن سئل عن إبراز مثال لذلك فيما يروى من الحديث أعياه تطلبه، وحديث:"إنما الأعمال بالنيات" ليس من ذلك بسبيل، وإن نقله عدد التواتر وزيادة؛ لأن ذلك طرأ عليه في وسط إسناده، ولم يوجد في أوائله، نعم حديث "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" نراه مثالاً لذلك، فإنه نقله من الصحابة العدد الجم، وهو في "الصحيحين" مروي عن جماعة منهم، روى بعض الحفاظ: أنه رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنان وستون من الصحابة، وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وقيل: أكثر من ذلك، وقيل: لا يعرف حديث اجتمع عليه العشرة إلا هذا، وقال الشيخ ابن صلاح: ثم لم يزل عدد رواته في ازدياد، وهلم جراً على التوالي والاستمرار، والله أعلم.

قوله: (من إزالة لفظها وحكمها معاً) عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن" أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود.

قوله: (أو من إزالة أحدهما إلى بدل، أو غير بدل) هذا مبني على قوله أولاً: "نسخ الآية: إزالتها بإبدال أخرى مكانها" ونسؤها: تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل".

فإن قلت: كيف يستقيم قوله: وإذهابها لا إلى بدل مع قوله تعالى: (نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)[البقرة: 106]؟

قلت: لابد في كلامه من تقدير محذوف وتعسف ليستقيم. فقوله: "إلى بدل" يتعلق بقوله:

ص: 37

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"إزالة لفظها وحكمها معاً أو من إزالة أحدهما" وهو معنى النسخ، وقوله:"أو غير بدل" لا يتعلق بالمذكور، بل بالإنساء. المعنى: ما ننسخ من آية نأت بخير منها أو مثلها، وما ننس من آية لم نأت بدلها، فحذف في الجزاء أحد ما يقابل به "ما" في الشرط.

وقلت وبالله التوفيق: الحق أن الآية دالة على شيئين: على النسخ وعلى الإنساء، وعلى أن لكل واحد منهما بدلاً، فالمناسب للنسخ أن يؤتى بآية أخرى، سواء أثبت بها حكم آخر مع إزالة الآية الأولى، أو أزيل بها الحكم الثابت، والمناسب للإنساء أن يؤتى بأخرى لكن لا على طريق النسخ. والحاصل: أن ما اعتبر فيه إزالة الحكم هو النسخ، وما لا يعتبر فيه ذلك هو الإنساء. ويعضده ما روينا عن مسلم، عن أبي موسى:"إنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة بـ "براءة" فأنسيتها غير أني حفظت منها: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة) "، فتنزيله على هذه القاعدة أن يقال: إنه يمكن أن الله تعالى أنزل بعد هاتين السورتين المنسيتين سوراً وآيات غير مشتملة على إبطالهما وإزالتهما.

روينا عن البخاري عن ابن عباس قال: "آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا".

وعن مسلم عن عبيد الله بن عبد الله قال: قال لي ابن عباس: "أتدري آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً؟ " قلت: نعم، "إذا جاء نصر الله والفتح"، قال:"صدقت".

ص: 38

(نأتِ بـ) آية (خَيْرٍ مِنْهَا) للعباد، أي: بآية العمل بها أكثر للثواب (أَوْ مِثْلِهَا)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويمكن تنزيل قول المصنف على هذا التقرير، فإن قوله:"إلى بدل أو غير بدل" مشير إلى النسخ والإنساء في الشرط، وقوله:"نأت بخير منها للعباد" إلى معنى الجزاء، أي: بخير منها، إما على طريقة النسخ والإبدال، أو على غير هذه الطريقة. والمقام يساعد هذا التقرير؛ لأن الكلام جار في أمر المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطاله كتب اليهود والنصارى، والكتب المنسوخة مشتملة على أحكام وغيرها، والناسخ كذلك، فقوله:(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا) تفصيل لكيفية إبدال المنزل عن الكتب السابقة على سبيل العموم، لأن تلك الأحكام، بعضها منسوخة، وبعضها مقررة، وغير الأحكام مثل القصص والتوحيد ومكارم الأخلاق منسي، ومتروك التلاوة مأمور بالإنساء عنها.

وأما نسخ القرآن بالقرآن، فمستفاد من عموم الآية على طريقة إشارة النص وأسلوب الإدماج، فإذن لابد في النسخ بالإتيان بآية أخرى، ولا يرد قولهم: قد جاء النسخ بلا بدل كما في قوله تعالى: (إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً)[المجادلة: 12] لمجيء البدل وهو قوله: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الدال بمفهومه على إباحة الصدقة.

قوله: ((بـ) آية (خَيْرٍ مِنْهَا) للعباد، أي: بآية العمل بها أكثر للثواب) يشير إلى أن الخيرية في الآية من حيث الثواب، لا اللفظ؛ لأن القرآن لا تفاضل فيه بحسب اللفظ، وفيه بحث.

فإن قلت: إذا كان جواز النسخ معللاً بكون الناسخ خيراً منه من حيث كون العمل بها أكثر ثواباً، لزم جواز ذلك بالحديث بهذه العلة.

قلت: لا يلزم؛ لأن الخيرية من هذه الحيثية ليست علة مستقلة، بل مع قيد عدم التفاضل في اللفظ، فإن الثواب الحاصل من نفس قراءة القرآن لا يوازيه قراءة الحديث.

ص: 39

في ذلك (عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على الخير وما هو خير منه. وعلى مثله في الخير.

(لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) فهو يملك أموركم ويدبرها ويجريها على حسب ما يصلحكم، وهو أعلم بما يتعبدكم به من ناسخ ومنسوخ

لما بين لهم أنه مالك أمورهم ومدبرها على حسب مصالحهم من نسخ الآيات وغيره وقررهم على ذلك بقوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ)، أراد أن يوصيهم بالثقة به فيما هو أصلح لهم مما يتعبدهم به وينزل عليهم، وان لا يقترحوا على رسولهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فهو يملك أموركم ويدبرها) الفاء سببية. يعني: إنما رتب حكم النسخ على هذه الصفة، وهي أنه مالك السماوات والأرض ليؤذن أنه تعالى يدبر مصالحكم في النسخ والإنساء؛ لأن من دبر أمراً هو أعظم لا يمتنع عليه الأهون، وعندنا من هو مالك للأمور كلها، له التصرف في ملكه ما يشاء.

قوله: (لما بين لهم أنه مالك أمورهم) إلى قوله: "أراد أن يوصيهم بالثقة به" بيان لربط قوله: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ)[البقرة: 108] الآية مع الآيات السابقة، يعني لما رد على اليهود قولهم في النسخ والطعن فيه، وعم الخطاب للكل في قوله:(أَلَمْ تَعْلَمْ)[البقرة: 106] إلى قوله: (لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)[البقرة: 107] لأنه من أسلوب قوله صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين" رجع إلى المسلمين بخطابهم فيما يشبه حالهم حال اليهود من سؤالهم لما يضرهم ويرديهم، توصية لهم بالثقة بالله، وبما ينزل عليهم من القرآن، وأن لا يكونوا كاليهود في اقتراحهم على نبيهم، ثم لما أراد أن يؤكد النهي عن اقتفائهم آثار اليهود ذكر بعض ما صدر منهم من الحسد وتمني الكفر لهم قال:(وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)[البقرة: 109].

ص: 40

ما اقترحته آباء اليهود على موسى من الأشياء التي كانت عاقبتها وبالاً عليهم، كقولهم:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قلت: فسر المصنف تبدل الكفر بالإيمان بترك الثقة بالآيات المنزلة على العموم، فلم خصت الآيات بالقرآن في قولك: وبما ينزل عليهم من القرآن؟

قلت: لا ارتياب أن قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ) الآية، تذييل للكلام السابق على سبيل التهديد والوعيد، والتذييل ما يؤتى في آخر الكلام بما يشتمل على المعنى السابق؛ توكيداً له، فبالنظر على كونه تذييلاً فسر المفسر بالعموم، وبالنظر إلى ما سيق له الكلام وأنه وارد في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتراحهم ما اقترحوه؛ خصصناه بالقرآن.

قوله: (ما اقترحه آباء اليهود على موسى) جاء في بعض الروايات في "التفسير الكبير": أن المراد بهذا السؤال اقتراحهم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط. على ما رويناه عن أبي واقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين، مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها:"ذات أنواط"، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا غلهاً كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم" أخرجه الترمذي، وزاد رزين:"حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم، فلا أدري أتعبدون العجل أم لا". هذا، وأما استشهاده بقوله:(أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً)[النساء: 153] فمحض تعصب.

ص: 41

(اجْعَل لَنَا إِلَهاً)[الأعراف: 138]، (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) [النساء: 153] وغير ذلك. (وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ): ومن ترك الثقة بالآيات المنزلة وشك فيها واقترح غيرها (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ). روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم، ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل، ونحن أهدى منكم سبيلاً. فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد، قال: فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت. فقالت اليهود أما هذا فقد صبأ، وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخواناً. ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال:"أصبتما خيراً وأفلحتما"؛ فنزلت. فإن قلت: بم تعلق قوله: (مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ)؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال صاحب "النهاية": ذات أنواط: اسم سمرة بعينها كانت للمشركين ينوطون بها سلاحهم، أي: يعلقونها ويعكفون حولها.

قوله: (وشك فيها) عطف تفسيري على "ترك الثقة بالآيات".

قوله: (فيه وجهان): أحدهما: أن يتعلق بـ "ود" على معنى وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم" وثانيهما: "أن يتعلق بـ "حسداً" أي: منبعثاً من أنفسهم" جعل "من" ابتدائية، وتصور معنى الظرفية في "عند" و"من" ثم قال: "من قبل أنفسهم": منبعثاً من أنفسهم.

قال السيد ابن الشجري في "الأمالي" رداً على مكي بن أبي طالب المغربي في الوجهين:

ص: 42

أن يتعلق بـ (وَدَّ) على معنى أنهم تمنوا أن ترتدوا عن دينكم، وتمنيهم ذلك من عند أنفسهم، ومن قبل شهوتهم، لا من قبل التدين والميل مع الحق؛ لأنهم ودوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق، فكيف يكون تمنيهم من قبل الحق؟ وإما أن يتعلق بـ (حَسَداً) أي: حسداً متبالغاً منبعثاً من أصل نفوسهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن قول النحويين: هذا الجار متعلق بهذا الفعل يريدون أن العرب وصلته به، واستمر سماع ذلك منهم، فقالوا: رضيت عن جعفر، ورغبت في زيد، كذلك قالوا: حسدت زيداً على علمه، ولم يقولوا: حسدته من ابني. وكذلك وددت لم يعلقوا به "من" فثبت بهذا أن قوله: (مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ) لا يتعلق بـ (حَسَداً) ولا بـ (وَدَّ)، لكنه متعلق بمحذوف يكون وصفاً لـ (حَسَداً) أو وصفاً لمصدر (وَدَّ)، أي: حسداً كائناً من عند أنفسهم أو وداً كائناً من عند أنفسهم. والجواب: أن القول بإفضاء عمل الفعل إلى معمولِ معمولِه سائغ وقد قرره في قوله تعالى: (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِماً)[يونس: 27] وأيضاً باب التضمين والمجاز واسع.

قوله: (حسداً متبالغاً) أي: متناهياً يقال: ابتلغ فيه الحسد وتبالغ متناهياً من قولهم: تبالغ فيه المرض والهم.

الأساس: تبلغت به العلة، إذا اشتدت. وإنما كان متناهياً، لأنه انبعث من عند أنفسهم، وكان ذاتياً كقوله تعالى:(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)[الحشر: 9] قال: وقد أضيف الشح إلى النفس لأنه غريزة فيها، ونفس الرجل كزة حريصة على المنع.

قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره: إن النفوس مجبولة على

ص: 43

(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة (حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) الذي هو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم. (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو يقدر على الانتقام منهم. (مِنْ خَيْرٍ) من حسنة: صلاة أو صدقة أو غيرهما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

غرائز وطبائع هي من لوازمها وضرورتها خلقت من تراب وصلصال من حمأ مسنون، ولها بحسب تلك الأصول التي هي مبادئ تكونها، صفات من البهيمية والسبعية والشيطنة.

وقلت: من الشيطنة نشأ الحسد، ولهذا قال المارد: خلقتني من نار، وخلقته من طين، والنارية في الإنسان من قوله تعالى:(كَالْفَخَّارِ)[الرحمن: 14].

قال أبو البقاء: حسداً مصدر وهو مفعول له، والعامل (وَدَّ) أو (يَرُدُّونَكُمْ)، (مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ) "من" متعلقة بـ (حَسَداً) أي: ابتداء الحسد من عند أنفسهم.

قوله: (فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح) العفو: ترك عقوبة المذنب. والصفح: ترك تثريبه، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح، يقال: صفحت عنه، أي: أوليته مني صفحة جميلة معرضاً عنه، أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه.

والعفو عنهم لا يكون على وجه الرضا بما فعلوا، بل دفعاً لاشتعال نائرتهم وزيادة إيذائهم، ولهذا علق بقوله:(حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)[البقرة: 109] وإنما أوثر العفو على الصبر على أذاهم والإعراض عنهم، ليؤذن بتمكين المؤمنين ترهيباً للكافرين.

ص: 44

(تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) تجدوا ثوابه عند الله. (إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) عالم لا يضيع عنده عمل عامل.

[(وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) 111 - 112].

الضمير في: (وَقَالُوا) لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، والمعنى: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فلف بين القولين؛ ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال القاضي: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه منسوخ بآية السيف، وفيه نظر؛ إذ الأمر غير مطلق يعني: أن (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) مقيدان بقوله: (حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ).

وأورد الإمام هذه الشبهة حيث قال: كيف يكون منسوخاً وهو متعلق بغاية كقوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)[البقرة: 187] وإذا لم يكن ورود الليل ناسخاً لم يكن ورود إتيان الأمر ناسخاً.

وأجاب: أن الغاية التي يتعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً، لم يخرج ذلك الوارد عن أن يكون ناسخاً، ويحل محل (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) إلى أن أنسخه لكم.

وقلت: ويؤيده حكم التوراة والإنجيل لأنه ذكر فيهما أن انتهاء مدة الحكم بهما إرسال النبي الأمي بنحو قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ)[الأعراف: 157] فكان ظهوره صلوات الله عليه نسخاً، والله أعلم.

ص: 45

وأمناً من الإلباس؛ لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه، ونحوه:(وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)[البقرة: 135] والهود: جمع هائد، كعائذ وعوذ، وبازل وبزل. فإن قلت: كيف قيل: (كَانَ هُوداً) على توحيد الاسم وجمع الخبر؟ قلت: حمل الاسم على لفظ (مَن)، والخبر على معناه، كقراءة الحسن:(إلا من هو صالو الجحيم). وقوله: (فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا)[الجن: 23]. وقرأ أبي بن كعب: (إلا من كان يهودياً أو نصرانياً). فإن قلت: لم قيل: (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ)، وقوله:(لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) أمنية واحدة؟ قلت: أشير بها إلى الأماني المذكورة وهو أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي: تلك الأماني الباطلة أمانيهم، وقوله:(قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) متصل بقولهم: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى). و (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) اعتراض،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كعائذ)، الجوهري: العوذ: الحديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل، واحدتها عائذ، ويجمع أيضاً على عوذان.

قوله: (و (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ) اعتراض) فإن قلت: من حق الاعتراض أن يكون مؤكداً للمعترض فيه، فأين مقتضاه ها هنا؟ قلت: قوله: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى) حكاية دعواهم الباطلة، وقد أكدوها بلفظة "لن" على سبيل الحصر، وقوله:(قُلْ هَاتُوا)، أي: بيانكم إن كنتم صادقين، بيان لبطلانها، وأن تلك الدعوى بمجرد القول لا برهان لهم فيها، وقوله:"تلك" إشارة لبعدها عن التحقيق وتحقير شأنها، ومن ثم سماها أماني، والأماني لا ثبوت لها، وأما على تقدير حذف المضاف فهي أبلغ في باب الاعتراض، يعني أن هذه الأمنية ليست ببدع منهم، بل كان أمانيهم مثل هذه.

ص: 46

أو أريد أمثال تلك الأمنية أمانيهم، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه يريد: إن أمانيهم جميعاً في البطلان مثل أمنيتهم هذه. والأمنية أفعولة من التمني، مثل الأضحوكة والأعجوبة. (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) هلموا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة:(إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) في دعواكم، وهذا أهدم شيء لمذهب المقلدين. وأن كل قول لا دليل عليه فهو باطل غير ثابت.

و"هات" صوت بمنزلة هاء بمعنى: أحضر. (بَلَى) إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة. (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ): من أخلص نفسه له لا يشرك به غيره

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو أريد أمثال تلك الأمنية أمانيهم) فعلى هذا المشار إليه بـ "تلك": هذه المقالة، وإنما بعدها لعظم شأنها وتفخيمها.

الانتصاف: أو الأمنية الواحدة جمعت إشعاراً بأنها بلغت منهم كل مبلغ، كما قالوا: معي جياعاً، جمعت لزيادة تأكيد الواحد وإبانة زيادته على نظرائه.

الإنصاف: وإنما جمع ليدل على تردد الأمنية في نفوسهم، وتكررها، فتصير أماني حقيقة، أو أن الأماني هي الأباطيل والأقاويل كما نقله المهدوي، وهذه الجملة أقاويل؛ لأنها نفت دخول غيرهم الجنة، وأثبتت دخول النصارى الجنة ودخول اليهود الجنة، وهي أقاويل وأباطيل حقيقة.

قوله: (من أخلص نفسه له)، الراغب: أصل الوجه: العضو المقابل، فاستعير للمقابل من كل شيء حتى قيل: واجهته ووجهته، وقيل للقصد: وجه، وللمقصد: وجهة، وعلى ذلك:

ص: 47

(وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله (فَلَهُ أَجْرُهُ) الذي يستوجبه. فإن قلت: (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) كيف موقعه؟ قلت: يجوز أن يكون (بَلَى) رداً لقولهم، ثم يقع (مَنْ أَسْلَمَ) كلاماً مبتدأ، ويكون (مَنْ) متضمناً لمعنى الشرط، وجوابه:(فَلَهُ أَجْرُهُ)، وأن يكون (مَنْ أَسْلَمَ) فاعلاً لفعل محذوف أي: بلى يدخلها من أسلم، ويكون قوله:(فَلَهُ أَجْرُهُ) كلاماً معطوفاً على "يدخلها من أسلم"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(أَسْلَمَ وَجْهَهُ)[البقرة: 112] و (وَجَّهْتُ وَجْهِي)[الأنعام: 79] وقيل: الوجه في هذه المواضع اسم للعضو مستعار للذات، وقوله:(أَسْلَمَ وَجْهَهُ) أي: نفسه.

قوله: ((وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله) وهو ينظر إلى الألفاظ النبوية صلوات الله على قائلها بعد ما أجاب عن الإيمان والإسلام والإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" وقد فسر بالإخلاص في العمل.

قوله: (كلاماً مبتدأ) أي: مستأنفاً جواباً عن سؤال مقدر، فإنهم لما نفوا دخول الجنة عن غيرهم، وأثبتوا لأنفسهم، رد عليهم هذا التحكم الباطل بـ "بلى"، أي: ليس الأمر كما تزعمون، ثم اتجه لسائل أن يقول: فما الحكم الحق والقضاء العدل؟ فقيل: (وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ) الآية [البقرة: 112]، فظهر أن السؤال على هذا عن الحكم، وعلى الوجه الثاني لا يكون استئنافاً، ويجوز أن يكون استئنافاً كأنه لما قيل: بلى يدخلها، قيل: مَن؟ قيل: من أسلم، هذا هو الوجه؛ لأن الكلام وقع في الفاعل لا في الحكم، على أنه ذلك الوجه أيضاً مستتبع للحكم، وبيانه: أن اليهود والنصارى لما ادعوا أنهم وحدهم يدخلون الجنة، وأن

ص: 48

[(وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ* وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) 113 - 114].

(عَلَى شَيْءٍ): على شيء يصح ويعتد به، وهذه مبالغة عظيمة؛ لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء، فإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه فقد بولغ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

غيرهم لا نصيب لهم، حيث بنوا كلامهم على النفي والإثبات المفيد للقصر، أي: نحن ندخل لا غيرنا، فقيل لهم: بل يدخل غيركم. ولما أراد أن يوقفهم على خطيئتهم في تلك المقالة على وجه يبعثهم على التفكر وتوخي الصواب، ويرشد غيرهم إلى تحري ما به يفوزون بالفلاح عاجلاً وآجلاً، قال:(مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي: يدخل الجنة من اجتنب الشرك الجلي والخفي، عقيدة وعملاً، وتواطأ ظاهره مع باطنه إخلاصاً وإحساناً كائناً من كان، فإذا نظر الزاعمون في هذا الكلام الذي سلك فيه طرائق الإنصاف، وتفكروا في حال أنفسهم، وما هم فيه من مساوئ الأعمال والاعتقاد الباطل والقول الكاذب وحال المؤمنين وإخلاصهم لله ظاهراً وباطناً، وصدقهم في المقال أذعنوا للحق.

ثم إنه تعالى ما اكتفى بهذا القدر من الجواب، بل ضم إليه على وجه التتميم قوله:(فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) وأطلق الأجر، ليشمل ما لا يدخل تحت الوصف، وجعله من عند مالكه ومدبر أمره، الرب الرؤوف الرحيم، وأردفه بما ينبئ عن حصول الأمن التام عاجلاً وآجلاً، فقال:(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). ولما فرغ من بيان قدحهم في غيرهم، أتبعه بما كان يختص بهم، وبما بينهم من القدح وقال:(وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ) الآية [البقرة: 113]. والله أعلم.

قوله: (وهذه مبالغة عظيمة، لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء)، الانتصاف: لا

ص: 49

في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده، وهذا كقولهم: أقل من لا شيء. (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ) الواو للحال، والكتاب للجنس، أي: قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي؛ لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني، شاهد بصحته، وكذلك كتب الله جميعاً متواردة في تصديق بعضها بعضاً. (كَذَلِكَ) أي: مثل ذلك الذي سمعت به على ذلك المنهاج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يصح قوله على مذهب أهل السنة ولا المعتزلة؛ لأن الأباطيل التي يستحيل وجودها لا تسمى شيئاً اتفاقاً.

قوله: (أي: مثل ذلك الذي سمعت به) قال أبو البقاء: الكاف في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف منصوب بـ "قال"، وهو مصدر مقدم على الفعل. والتقدير: قولاً مثل قول اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون، فعلى هذا (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) منصوب بـ "يعلمون" على أنه مفعول به، ويجوز أن يكون "الكاف" في موضع رفع بالابتداء، والجملة بعده خبر عنه، والعائد إلى المبتدأ محذوف. أي: قاله. (مِثْلَ قَوْلِهِمْ): صفة مصدر محذوف، أو مفعول ليعلمون، والمعنى: مثل قول اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى.

وقلت: وعلى أن يكون "مثل قولهم" صفة مصدر محذوف يمكن أن يجرى القول مجرى العلم، أي: مثل ذلك القول قال الذين لا يعلمون علماً يشبه علمهم؛ لأنهم أهل كتاب، وهم مشركون ومعطلة، وعليه ظاهر كلام المصنف.

قال في "النهاية": سمع علي رضي الله عنه امرأة تندب عمر رضي الله عنه، فقال: أما والله ما قالته ولكن قولته. أي: لقنته وعلمته.

ص: 50

(قَالَ) الجهلة (الَّذِينَ) لا علم عندهم، ولا كتاب، كعبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم؛ قالوا لأهل كل دين: ليسوا على شيء. وهذا توبيخ عظيم لهم؛ حيث نظموا أنفسهم- مع علمهم- في سلك من لا يعلم. وروي: أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى والإنجيل، وقالت النصارى لهم نحوه، وكفروا بموسى والتوراة. (فَاللَّهُ يَحْكُمُ) بين اليهود والنصارى (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب الذي استحقه. وعن الحسن: حكم الله بينهم أن يكذبهم ويدخلهم النار ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي الحديث: "قولوا بقولكم" أي: بقول أهل دينكم وملتكم.

وفي التشبيه مبالغة على نحو قوله تعالى: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)[البقرة: 275]، وتخصيص من جهة التقديم.

قوله: ((يَحْكُمُ) بين اليهود والنصارى) فإن قلت: لم خصهما بالذكر بعد قوله: (قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) فهذا أعم، فيدخل اليهود والنصارى دخولاً أولياً؟

قلت: المراد توبيخ اليهود والنصارى حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم شيئاً، فالواجب تهديد هؤلاء خاصة. والدليل عليه الفاء في قوله تعالى:(فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)، وإيقاع "لا يعلمون" على "مثل قولهم".

قوله: (بما يقسم لكل فريق) يعني "يحكم" يستدعي جارين: الباء "وفي" كما يقال: حكم الحاكم في هذه الدعوى بكذا، فحذف في التنزيل المتعلق بالباء، ليعم المقدر، ولذلك قال "بما يقسم" أولاً و"أن يكذبهم" ثانياً.

ص: 51

(أَنْ يُذْكَرَ) ثاني مفعولي (مَّنَعَ)؛ لأنك تقول: منعته كذا، ومثله:(وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ)[الإسراء: 59]، (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) [الإسراء: 94]، ويجوز أن يحذف حرف الجر مع "أن"، ولك أن تنصبه مفعولاً له بمعنى: منعها كراهة أن يذكر، وهو حكم عام لجنس مساجد الله، وأن مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم. والسبب فيه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أَنْ يُذْكَرَ) ثاني مفعولي (مَّنَعَ) يعني تعدى "منع" إلى المفعولين بنفسه، واستدل بقوله:"منعته كذا" وبالآيتين، وقال في "مقدمة الأدب": منعته عن الأمر ومنعته الأمر، ثم قال:"ويجوز أن يحذف حرف الجر" ويوصل بالفعل، وعلى التقديرين، لابد لقوله:(مَسَاجِدَ اللَّهِ) من تقدير مضاف، أي: أهل مساجد الله بدليل قوله: "يمنعون الناس" وقوله: منع المشركين رسول الله".

وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون "أن يذكر" في موضع نصب على البدل من "مساجد" بدل الاشتمال، المعنى: ومن أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد الله اسمه، أو على أنه مفعول له، أو التقدير: من أن يذكر، فحذف "من" ونصب.

وفي "الصحاح" منعت الرجل عن الشيء، ومن هذا قيل: إن قوله: "ويجوز أن يحذف" جواب سؤال، أي: كيف يكون أن يذكر ثاني مفعولي "منع"، ولا يجوز لـ "منع" مفعول ثان إلا بواسطة حرف الجر؟ فقال في جوابه:"ويجوز أن يحذف" إلى آخره. ويقال: الواو في "ويجوز" مانع للحمل على الاستئناف على تقدير السؤال والجواب.

قوله: (والسبب فيه) أي: في نزول الآية. وقوله: "وقيل: منع المشركين" عطف على قوله: "والسبب فيه" وكذا قوله: "وينبغي أن يراد بـ "من منع" العموم" عطف عليه، وقوله:"ولا يراد الذين" بيان على سبيل التأكيد لقوله: "أن يراد بـ "من منع" العموم"، فالوجوه ثلاثة: الأول خاص، وأن المراد بـ "من منع": النصارى، وبالمساجد: بيت المقدس.

ص: 52

أن النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه، وان الروم غزواً أهله فخربوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا. وقيل: منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية. فإن قلت: كيف قيل (مَسَاجِدَ اللَّهِ) وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد هو بيت المقدس أو المسجد الحرام؟ قلت لا بأس أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً: ومن أظلم ممن آذى الصالحين، وكما قال الله عز وجل:(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)[الهمزة: 1]، والمنزول فيه الأخنس بن شريق. (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) بانقطاع الذكر أو بتخريب البنيان، وينبغي أن يراد بـ "من منع" العموم كما أريد بمساجد الله، ولا يراد الذين منعوا بأعيانهم من أولئك النصارى أو المشركين. (أُوْلَئِكَ) المانعون (مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا) أي: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله (إِلاَّ خَائِفِينَ)، على حال التهيب وارتعاد الفرائض من المؤمنين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والثاني: خاص بالمشركين وبالمسجد الحرام، والسؤال:"كيف قيل: مساجد الله؟ " وارد على هذين الوجهين.

والثالث: عام وهو أوفق لتأليف النظم لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)[البقرة: 115]، ولهذا قال:"إنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس، فقد جعلت لكم الأرض مسجداً".

قوله: (لا بأس أن يجيء الحكم عاماً، وإن كان السبب خاصاً 9 فعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله: (مِمَّنْ مَنَعَ) على العموم، كما أن "مساجد الله" عام، فإن الجمع إذا أضيف صار عاماً ليتطابقا، ويلزم العمل بالدليلين، فظهر أن الوجه الثالث أرجح الوجوه، وأظهر، وللتأليف أوفق كما سبق.

قوله: (وارتعاد الفرائص)، الجوهري: الفريصة: اللحمة بين الجنب والكتف التي لا تزال

ص: 53

أن يبطشوا بهم، فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها، والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم. وقيل: ما كان لهم في حكم الله يعني أن الله قد حكم وكتب في اللوح أنه ينصر المؤمنين ويقويهم، حتى لا يدخلوها إلا خائفين. روي: أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً مسارقة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ترعد من الدابة، وجمعها: فرائص، وفرائص العنق: أوداجها الواحدة فريصة، وهو كناية عن شدة الخوف.

قوله: (أن يبطشوا) هو مفعول "خائفين" نحو قولك: هذا زيد ضارباً عمراً الآن أو غداً، و"فضلاً" متعلق بقوله:"أن يدخلوا".

قوله: (ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة)، فإن قلت: لولا لامتناع الشيء لوجود غيره، فيلزم من وجود الظلم انتفاء الوجوب، وليس كذلك، وأما وجود الظلم، فكما روي أن بيت المقدس بقي أكثر من مئة سنة في أيدي النصارى بحيث لم يتمكن أحد من المسلمين من الدخول فيه إلا خائفاً إلى أن استخلصه الملك الناصر صلاح الدين.

قلت: المعنى ما أوجب على أولئك المانعين ولا ألزم عليهم بحيث لا يسعهم تركه إلا أن يدخلوها خائفين، لكنهم لعتوهم وعنادهم غيروا الواجب، وتمردوا كما أن من وجبت عليه الصلاة إذا تركها لم يسقط عنه الواجب، لكنه لعصيانه تركه. ويؤيده ما قال الإمام: ما فرض الله ولا أوجب إلا ذلك.

أو المعنى: ما حكم الله بشيء إلا بأن ينصر المؤمنين حتى لا يدخل النصارى إلا خائفين، فقد حصل الحكم فلا يجب في عموم الأوقات، وهو المراد بقوله:"إن الله قد حكم وكتب [في اللوح] أنه ينصر المؤمنين ويقويهم، حتى لا يدخلوها إلا خائفين".

ص: 54

وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا أنهك ضرباً وأبلغ إليه في العقوبة. وقيل: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان" وقرأ أبو عبد الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أنهك ضرباً) أي: بولغ في ضربه، الجوهري: نهكه السلطان عقوبة ينهكه نهكاً ونهكة: بالغ في عقوبته.

قوله: (وابلغ إليه في العقوبة)، الأساس: أبلغت إلى فلان: فعلت به ما بلغ به الأذى والمكروه البليغ، ففيه تضمين معنى الإفضاء.

قوله: (وقيل: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم عطف على قوله: (روي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى" وفيه تقسيم لقوله: "أولئك المانعون" المراد بهم النصارى والمشركون مطلقاً، لقوله: "ولا يراد الذين منعوا بأعيانهم من أولئك النصارى والمشركين".

قوله: (ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك) الحديث رويناه في "صحيح" البخاري ومسلم و"سنن أبي داود" والدارمي والنسائي عن أبي هريرة: "أن أبا بكر رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره [عليها] رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان".

قال الإمام: وفي الآية بشارة للمسلمين بأن الله سيظهرهم على المسجد الحرام، وعلى سائر المساجد، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام منهم أحد إلا خائفاً، وقد أنجز الله هذا الوعد بمنعهم من دخول المسجد الحرام، فيحمل هذا الخوف على ظهور أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبته عليهم بحيث يصيرون خائفين منه ومن أمته أبداً.

ص: 55

(إلا خيفاً) وهو مثل صيم. وقد اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد: فجوزه أبو حنيفة، ولم يجوزه مالك، وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره.

وقيل: معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه، كقوله:(وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ)[الأحزاب: 53]. (خِزْيٌ): قتل وسبي، أو ذلة بضرب الجزية، وقيل: فتح مدائنهم قسطنطينية ورومية وعمورية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: "إلا خيفاً"[وهو] مثل صيم) أي: في قلب الواو ياء. روي عن المصنف: القياس خوف وصوم، ولكن لقربه من الطرف اجترئ على إعلاله، وقبح "صيام" في "صوام" لبعده من الطرف.

قوله: (وفرق الشافعي) روى الإمام عن الشافعي رضي الله عنه أنه يمنع من دخول المسجد الحرام لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ)[التوبة: 28] والمراد الحرام لقوله تعالى: (مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى)[الإسراء: 1] وأسرى من بيت أم هانئ. واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بما روي أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلهم المسجد، ولأن للكافر الدخول في سائر المساجد وفاقاً، وكذلك المسجد الحرام. وأجاب بالفرق للتعظيم، وان الحديث مختص ببدء الإسلام.

قوله: (وقيل: معناه النهي عن تمكينهم من الدخول) عطف على قوله: "ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله" وعلى الأول إخبار وعلى الثاني نهي. نهي المؤمنون عن تمكينهم الكفار من الدخول وهو أبلغ من صريح النهي، لأن الكناية أبلغ، فإنك إذا قلت لصاحبك: لا ينبغي لعبدك أن يفعل كذا على إرادة النهي للسيد، كان أبلغ من النهي له ابتداء، فعلى هذا لا يجب المصير إلى تخصيص العام الذي وقع خلافه، ومن ثم أخر هذا البحث.

ص: 56

[(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) 115].

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) أي: بلاد المشرق والمغرب. والأرض كلها لله هو مالكها ومتوليها. (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا) ففي أي مكان فعلتم التولية؛ يعني تولية وجوهكم شطر القبلة، بدليل قوله:(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) أي: جهته التي أمر بها ورضيها والمعنى: أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام وفي بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها، وافعلوا التولية فيها، فإن التولية ممكنة في كل مكان، لا يختص إمكانها في مسجد دون مسجد، ولا في مكان دون مكان. (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ) الرحمة، يريد التوسعة على عباده، والتيسير عليهم. (عَلِيمٌ) بمصالحهم. وعن ابن عمر: نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت. وعن عطاء: عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا. وقيل معناه:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فعلتم التولية) يعني: أجرى "تولوا" مجرى اللازم؛ لأن مفعوله الأول وهو "وجوهكم" منسي غير منوي نحو: فلان يعطي ويمنع، وقوله:"يعني تولية وجوهكم شطر القبلة" بيان لأصل المعنى لا تفسير لقوله: "فعلتم التولية".

قوله: (أي: جهته التي أمر بها ورضيها) اعلم أنه جيء بالوجه إما: مجازاً عند المعتزلة، أو كناية عندنا عن رضا الله؛ لأن من رضي عنه مخدومه، لا يمنعه أن يستقبل بوجهه إليه، بل يستبشر له ويرضى عنه، وسيجيء نحو هذا البحث في قوله تعالى:(وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) في آل عمران [77].

قوله: (فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا) قال القاضي: وفي قول ضعيف: لو اجتهد المجتهد وأخطأ، ثم تبين له أنه أخطأ، لم يلزمه التدارك، تمسكاً بهذه الآية.

ص: 57

فأينما تولوا للدعاء والذكر، ولم يرد الصلاة. وقرأ الحسن:(فأينما تولوا) بفتح التاء من التولي يريد فأينما توجهوا القبلة.

[(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) 116].

(وَقَالُوا) وقرئ بغير واو، يريد الذين قالوا: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله، والملائكة بنات الله. (سُبْحَانَهُ): تنزيه له عن ذلك وتبعيد. (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) هو خالقه ومالكه، ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((وَقَالُوا): وقرئ بغير واو) قرأها ابن عامر وعلى الأول: الجملة عطف على قوله: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ)[البقرة: 113] وعلى الثاني استئناف، كأن سائلاً سأل: هل انقطع حبل افترائهم على الله، أو امتد ولم ينقطع؟ فقيل: بل قالوا أعظم من ذلك، وهو نسبة الولد إلى الله سبحانه وتعالى:(تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) الآية [الشورى: 5].

قوله: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) هو خالقه ومالكه ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح) وتقرير هذا المعنى هو: أنه تعالى عم أولاً في قوله: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)[البقرة: 116] مع أن سوق الكلام فيمن عبد من دون الله من العقلاء لقوله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) إتباعاً لأولي العلم غير أولي العلم للإعلام بأنهم في غاية من القصور عن معنى الربوبية، وفي نهاية من النزول إلى معنى العبودية، إهانة لهم وتنبيهاً على إثبات مجانستهم بالمخلوقات المنافية للألوهية، ثم ثنى بتغليب العقلاء على غيرهم في قوله:(كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) إيذاناً بأن الأشياء كلها في التسخير والانقياد بمنزلة المطيع المنقاد الذي يؤمر فيمتثل، لا يتوقف

ص: 58

(كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) منقادون لا يمتنع شيء منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته، ومن كان بهذه الصفة لم يجانس، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد. والتنوين في (كل) عوض من المضاف إليه أي: كل ما في السموات والأرض، ويجوز أن يراد كل من جعلوه لله ولداً. (لَهُ قَانِتُونَ): مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم. فإن قلت: كيف جاء بـ: "ما" التي لغير أولي العلم مع قوله: (قَانِتُونَ)؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن الأمر ولا يمتنع عن الإرادة. ولما كان القصد في الإيراد إلى من عبد من دون الله من العقلاء انخرطوا في هذا السلك انخراطاً أولياً، واتصفوا بصفة العجز والتسخير أولوياً، فحينئذ يقال ما قال المصنف:"من كان بهذه الصفة لم يجانس، ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد" وفيه إشارة إلى أن العقلاء إذا نسبوا إلى الألوهية كانوا بمنزلة الجمادات، والجمادات إذا نسبت إلى العبودية كانت بمنزلة العقلاء.

قوله: (ويجوز أن يراد كل من جعلوه): عطف على قوله: "كل ما في السماوات والأرض"، ويجوز أن يعطف على قوله:(لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) وهو خالقه"، فعلى هذا (مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) لم يكن عاماً، بل مجرى على العقلاء لإرادة الوصفية، فحينئذ يتوجه عليه: كيف قرن "ما" الذي لغير أولي العلم مع قوله: (قَانِتُونَ) وهو لأولي العلم؟ ويكون الجواب: أن حاله كحال قولك: سبحان ما سخركن لنا، هذا توطئة للجواب، ولهذا عطف عليه قوله: فكأنه جاء بـ "ما" دون من، تحقيراً على سبيل البيان، أي: الظاهر أن يقال: له من في السماوات والأرض، أي: ممن عبد دون الله من الملائكة والمسيح وعزير، فوضع "ما"، وهي لغير أولي العلم، موضع "من" إرادة للوصفية، وهي المملوكية، تحقيراً لشأنهم، حيث نسبوا إلى الله سبحانه وتعالى بالوالدية، كما حقر شأن الملائكة في قوله تعالى:(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً)[الصافات: 158]، لهذه العلة سماهم جنة، وهم ملائكة مكرمون؛ لأنهم نسبوا إلى الله تعالى.

ص: 59

قلت: هو كقوله: سبحان ما سخركن لنا، وكأنه جاء بـ "ما" دون "من"؛ تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم، كقوله:(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً)[الصافات: 158]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما الفرق بين الوجهين فهو: أن التحقير على الأول يعلم من قوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ) بطريق المفهوم، والتسخير من قوله:(كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) كذلك، وعلى الثاني بطريق التصريح، وكم بين الدلالتين! وذلك أن الدعوى مع الكناية كدعوى الشيء للبينة، وكذلك قررنا التفسير بطريق أدى إلى المقصود بالطريق الأولى.

الراغب: قيل: إنما وقع لهم الشبهة في نسبة الولد إلى الله تعالى؛ لأن في الشرائع المتقدمة كانوا يطلقون على البارئ تعالى اسم الأب، وعلى الكبير منهم اسم الإله، حتى إنهم قالوا: إن الأب هو الرب الأصغر وإن الله تعالى هو الأب الأكبر، وكانوا يريدون بذلك أنه تعالى هو السبب الأول في وجود الإنسان، وأن الأب هو السبب الأخير في وجوده، وأن الأب هو معبود الابن من وجه، أي: مخدومه، يقصدون معنى صحيحاً كما يقصد علماؤنا بقولهم: الله تعالى محب ومحبوب ومريد ومراد، ونحو ذلك من الألفاظ، وقولهم: رب الأرباب وإله الآلهة وملك الملوك، وكان عيسى يقول: أنا ذاهب إلى أبي، ثم تصور الجهلة منهم معنى الولادة الطبيعية.

قوله: (سبحان ما سخركن لنا)، يخاطب النساء، وفيه معنى التعجب، يتعجب من كونهن- مع الدهاء والحيلة- مسخرات للرجال.

وفي "الإقليد": كأنه قيل: ليس من شأنكن أن تكن مسخرات لنا، فسبحان الملك القادر الذي سخركن لنا بكمال ملكوته وتمام قدرته وعظمته.

ص: 60

[(بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) 117].

يقال: بدع الشيء فهو بديع، كقولك بزع الشيء فهو بزيع. و (بَدِيعُ السَّمَوَاتِ) من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، أي: بديع سماواته وأرضه. وقيل: البديع بمعنى المبدع كما أن السميع في قول عمرو:

أمن ريحانة الداعي السميع

بمعنى المسمع، وفيه نظر. و (كُنْ فَيَكُونُ) من كان التامة، أي:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بزع الشيء) بالزاي والعين المهملة، الأساس: غلام بزيع ظريف: ذكي، وقد تبزع الغلام: تظرف.

قوله: (في قول عمرو)، قال الزجاج: هو عمرو بن معدي كرب:

أمن ريحانة الداعي السميع

يؤرقني وأصحابي هجوع

معنى السميع: المسمع. تم كلامه.

قيل: ريحانة: اسم امرأة. وقيل: اسم موضع.

يؤرقني: يوقظني، هجوع: نيام، الداعي: دواعي الشوق الذي يدعوه ويسمعه الصوت، يؤرقني: حال من الضمير الذي تحول من الفعل إلى الظرف، وهو قوله:"من ريحانة"، إن قلنا:"الداعي": مبتدأ والمقدم خبره، وإن قلنا:"الداعي": فاعل، فالجملة حال منه، والأولى أن يكون "يؤرقني": جملة مستأنفة.

الجوهري: السميع: السامع، والسميع: المسمع، واستشهد بالبيت.

ص: 61

احدث فيحدث، وهذا مجاز من الكلام وتمثيل، ولا قول ثم، كما لا قول في قوله:

إذ قالت الأنساع للبطن الحق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال المصنف: "في كون السميع بمعنى المسمع نظر"، لجواز أن يكون بمعنى السامع؛ لأن داعي الشوق لما دعا الشاعر صار سامعاً للقول الذي أجيب به، أو لقول نفسه، فإيراد السميع ترشيح للاستعارة. سلمنا لكنه شاذ.

قوله: (وهذا مجاز من الكلام)، "من": بيان مجاز، أي: هذا يسمى في أساليب كلام البلغاء بالمجاز، وقوله:"وتمثيل": عطف تفسيري، أي: وارد على سبيل الاستعارة التمثيلية، شبهت الحالة التي تتصور من تعلق إرادته جل وعز بشيء من المكونات، ودخوله تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف بحالة أمر الآمر النافذ تصرفه في المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل، ولا يتوقف، ولا يكون منه الإباء، فيقول: افعل كذا فيمتثل، ثم استعير لهذه الحالة ما كان مستعملاً في تلك الحالة، فإذن لا قول ثمة، وعليه قول الزجاج والإمام القاضي.

قال البزدوي: أريد ذكر الأمر، والتكلم بها على الحقيقة لا المجاز عن الإيجاد، بل كلام بحقيقته من غير تشبيه ولا تعطيل، وقد أجرى سنته في الإيجاد بعبارة الأمر.

وقال صاحب "المطلع": (كُنْ فَيَكُونُ) ليس هو قولاً من الله بالكاف والنون، ولكنه عبارة عن أوجز كلام يؤدي المعنى التام المفهوم.

قوله: (إذ قالت الأنساع للبطن الحق). تمامه:

قدماً فآضت كالفنيق المحنق

النسعة هي: التي تنسج عريضاً للتقدير والجمع نسع ونسع وأنساع، الفنيق: فحل

ص: 62

وإنما المعنى أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه، فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه الإباء. أكد بهذا استبعاد الولادة؛ لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها. وقرئ:(بديع السماوات) مجروراً على أنه بدل من الضمير في "له". وقرأ المنصور بالنصب على المدح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مكرم، والمحنق: من الحنق وهو الحقد، والقول من الأنساع تمثيل، إذ لا قول ثمة، قدماً: القدم بضم القاف، الجوهري: مضى قدماً: لم يعرج ولم ينثن، يعني سريعاً، الحق: أمر من: لحق- بالكسر- لحوقاً، أي: ضمر.

قوله: (أكد بهذا استبعاد الولادة)، يعني: علم من قوله تعالى: (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) إلى قوله: (كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) استبعاد الولادة، فأكد ذلك المعنى بقوله:(بَدِيعُ السَّمَوَاتِ) إلى قوله: (فَيَكُونُ)، وذلك أنه تعالى لما حكى قولهم:(اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) وأضرب بقوله: (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) دل بمنطوقه على كونه مالكاً للكل، لا يخرج شيء من ملكه وملكوته، وقوله:(كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) دل على كونه تعالى قهاراً، وأن الأشياء كلها مقهورة تحت تصرفه، لا يمتنع شيء منها على تكوينه وتقديره، ولو فرض شيء لوجب دخوله تحت ملكه وقهره بدلالة هذا العموم، فكيف يتصور له ولد؟ ! لأنه لا يجانسه في المالكية والقهارية. وغليه الإشارة بقوله:"ومن كان بهذه الصفة لم يجانس" إلى آخره.

هذا، وإن معنى قوله:(بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أنه مخترعهما وموجدهما من غير مثال ولا احتذاء، فدل بمفهومه على كونه تعالى مالكاً لها، فيكون مؤكداً لقوله:(لَهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) وقوله: (وَإِذَا قَضَى أَمْراً) الآية، معط معنى القهارية الذي يعطيه معنى قوله:(كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) كما سبق، وفي كلامه سابقاً ولاحقاً إشارة إلى هذا المعنى.

قوله: (وقرأ المنصور) وهو أبو جعفر، الثاني من خلفاء بني العباس.

ص: 63

[(وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَاتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) 118].

(وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ): وقال الجهلة من المشركين. وقيل: من أهل الكتاب. ونفى عنهم العلم؛ لأنهم لم يعملوا به، (لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ): هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى؛ استكباراً منهم وعتواً، (أَوْ تَاتِينَا آيَةٌ)؛ جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آيات الله آيات، واستهانة بها. (تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) أي: قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى، كقوله:(أَتَوَاصَوْا بِهِ)[الذاريات: 53]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (استكباراً): مفعول له، أي: وقال الجهلة: فهلا يكلمنا الله، استكباراً، يعني: نحن عظماء كالملائكة والنبيين، فلم اختصوا به دوننا!

قال صاحب "المطلع": فإن قيل: أليس في قولك: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مقنع في التشبيه حتى كرر ذلك بقوله: (مِثْلَ قَوْلِهِمْ)؟

قلنا: ليس التكرير في تشبيه واحد، بل هما تشبيهان، الأول: في نفس الاقتراح، والثاني: في المقترح.

قلت: ويجوز أن يكون التشبيه الأول توطئة للثاني، فقوله:(مِثْلَ قَوْلِهِمْ) مفعول مطلق لقوله: (قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) و (كَذَلِكَ): خبر مبتدأ محذوف، أي: الشأن والأمر مثل ذلك، أي: جرت عادة الناس على ما شوهد من هؤلاء، ثم استؤنف بقوله:(قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) بياناً وتفسيراً للشأن والأمر.

قوله: (واستهانة بها) عطف على قوله: "جحوداً"، أي: قالوا: إنها ليست بآيات الله جحوداً واستهانة بها، والعجب أنهم عظموا أنفسهم وهي أحقر الأشياء، واستهانوا بآيات الله وهي أعظمها.

قوله: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ)) أولها: (مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ*

ص: 64

(قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ) ينصفون فـ (يُوقِنُونَ) أنها آيات يجب الاعتراف بها، والإذعان لها، والاكتفاء بها عن غيرها.

[(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) 119].

(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ) لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان، وهذه تسلية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أَتَوَاصَوْا بِهِ) [الذاريات: 52 - 53]، الضمير في (بِهِ) للقول، أي: أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول حتى قالوا جميعاً متفقين عليه، والهمزة في (أَتَوَاصَوْا) لتعجيب اتفاق القولين.

قوله: (قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ) ينصفون فـ (يُوقِنُونَ) أنها آيات). هذا التقدير يؤذن أن قوله: (يُوقِنُونَ) مجاز من إطلاق المسبب على السبب، ولهذا قدر "ينصفون فيوقنون" بالفاء، يعني: إنما تنفع الآيات لمن يؤدي إنصافه إلى الإيقان، وهذه الخاتمة كالتخلص من عد قبائح الكفار إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم لما اشتملت على التعريض بهؤلاء، يعني: هؤلاء قوم ديدنهم الجحد والتكبر، فلا تجدي فيهم الآيات والنذر، وإنما تنفع الآيات لمن فيه الإنصاف، فلا تحرص على هداهم ولا تتساقط حسرات على توليهم؛ لأنك لست عليهم بمسيطر، إن أنت إلا نذير وبشير، فلذلك علل بقوله:(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً)، فالجملة مصدرة بـ "إن" من غير عاطف، وفيه معنى إقامة غير المنكر منكراً لما استشعر منه من ملابسة ما ينكر عليه، ولهذا فسره بقوله:"إنا أرسلناك لأن تبشر وتنذر لا لتجبر على الإيمان"، فهو قصر إفرادي.

ص: 65

لرسول الله، وتسرية عنه؛ لأنه كان يغتم ويضيق صدره لإصرارهم وتصميمهم على الكفر. ولا نسألك (عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلَّغْتَ وَبلَغْتَ جهدك في دعوتهم؟ كقوله:(فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)[الرعد: 40]. وقرئ: (ولا تسأل) على النهي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وتسرية عنه)، النهاية: هو من قولهم: سري عنه الهم، أي: انكشف عنه، يقال: سروت الثوب وسريته: إذا خلعته.

قوله: (ولا تسأل) أي: لا تسأل أنت يا محمد، بضم التاء والرفع، وهي قراءة الجماعة سوى نافع، فإنه تفرد بقراءة:"ولا تسأل" بفتح التاء وجزم اللام على النهي.

قال الزجاج: أما الرفع فعلى وجهين: أحدهما: أنه استئناف، كأنه قيل: ولست تسأل عن أصحاب الجحيم، كأنه قال:(فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ)[الرعد: 40].

وثانيهما: أنه حال، أي: أرسلناك غير سائل عن أصحاب الجحيم.

وقلت: المعنى على القراءة الأولى: إذا كان حالاً كان قيداً للفعل، وعلى أن يكون استئنافاً يكون تذييلاً، ومرجعهما إلى معنى: إنا أرسلناك؛ لأن تبشر وتنذر لا لتسأل عن أصحاب الجحيم، يعني: ما كلفناك بأن تجبرهم على الإيمان، وفيه فائدتان: إحداهما: الإيذان بانشراح الصدر، وأنه في فسحة منهم إن لم يؤمنوا، وهو المراد بقوله:"وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه". وثانيتهما: إظهار أن الحجة قد لزمت الكفار، وأنه صلى الله عليه وسلم بلغ ما كان عليه؛ لأن هذا القيد إنما يصار إليه إذا تجاوز رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشارة والنذارة إلى ما يوهم منه الإجبار، وإليه الإشارة بقوله:"ما لهم لم يؤمنوا".

ص: 66

روي أنه قال: "ليت شعري ما فعل أبواي؟ ! " فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله. وقيل: معناه: تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب، كما تقول: كيف فلان؟ سائلاً عن الواقع في بلية، فيقال لك: لا تسأل عنه. ووجه التعظيم: أن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه؛ لفظاعته، فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره. أو أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره؛ لإيحاشه السامع وإضجاره، فلا تسأل. وتعضد القراءة الأولى قراءة عبد الله:(ولن تسأل)، وقراءة أبي:(وما تسأل)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما القراءة بالجزم فالنهي: إما مجرى على ظاهره والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وهو المراد بقوله:"نهي عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله" أو عبارة عن تعظيم الأمر وتهويله والمخاطب كل من يتأتى منه السؤال، ثم التهويل إما عائد إلى المستخبر بفتح الباء، وهو المراد من قوله:"إن المستخبر يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته"، أو إلى المستخبر، بكسر الباء، وإليه الإشارة بقوله:"أو: أنت يا مستخبر لا تقدر على استماع خبره".

قوله: (ما فعل أبواي؟ ! )، أي: ما فعل بهما، وفي الحديث "يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ "، أي: إلى أي شيء انتهى عاقبة أمره، فلو قيل: يا أبا عمير: ما فعلت بالنغير، لم يكن في الاهتمام بذلك.

قوله: (وتعضد القراءة الأولى) أي: (تُسْئَلُ) بضم التاء والرفع لكونهما إخبارين لا إنشاءين، كما أنها إخبار، بخلاف القراءة الثانية لأنها إنشاء، أي: نهي.

ص: 67

[(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) 120].

كأنهم قالوا: لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا؛ إقناطاً منهم لرسول الله عن دخولهم في الإسلام، فحكى الله عز وجل كلامهم؛ ولذلك قال:(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) على طريقة إجابتهم عن قولهم، يعني: إن هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى بالحق والذي يصح أن يسمى هدى،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإن أبلغت في طلب رضانا). هذه المبالغة مستفادة من قوله: (وَلَنْ تَرْضَى) لما مر أن "لن": رد لجواب منكر مبالغ.

قوله: (إقناطاً منهم) يعني: محال منك أن تتبع ملتهم، فإذن لا يتبعون ملتك.

قوله: (ولذلك قال) تعليل لقوله: "كأنهم قالوا"؛ لأن قوله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ) حكاية لمعنى كلامهم، وأن كلامهم هو: لن نرضى عنك ولا نتبع ملتك حتى تتبع ملتنا، وإلا فقوله:(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) بظاهره غير مطابق لقوله: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) ووجه المطابقة مع المقدر هو انهم ما قالوا: لا نتبع ملتك حتى تتبع ملتنا إلا وزعموا أن دينهم حق، ودين الإسلام باطل، فأجيبوا بقوله:(قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) على القصر القلبي، يعني: أن دين الله هو الدين الحق وأن دينكم هو الباطل، وإليه الإشارة بقوله: "إن هدى الله، الذي هو الإسلام، هو الهدى

، وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى، وإنما هو هوى". وفي الآية مبالغات، منها:

إضافة "الهدى" إلى الله تعالى، ومقارنته بـ "إن"، وإعادة "الهدى" في الخبر على نحو:

أنا أبو النجم وشعري شعري

ص: 68

وهو الهدى كله ليس وراءه هدى، وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى، إنما هو هوى، ألا ترى إلى قوله:(وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ)؟ أي: أقوالهم التي هي أهواء وبدع (بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ) أي: من الدين المعلوم صحته بالبراهين الصحيحة.

[(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ* يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) 121 - 123].

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ): هم مؤمنو أهل الكتاب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتسمية الدين بالهدى لمجيئه جواباً عن قولهم: "ملتنا"، وجعله مصدراً، وتوسيط ضمير الفعل، وتعريف الخبر بلام الجنس، ولهذا أكد كلامه بقوله:"والذي يصح أن يسمى هدى، وهو الهدى كله". هذا في جانب الإثبات، وأما في جانب النفي فقال:"ليس وراءه هدى وما تدعون إلى اتباعه ما هو بهدى، إنما هو هوى".

قوله: (أَهْوَاءَهُمْ) أي: أقوالهم). قال القاضي: الأهواء: الآراء الزائفة، والهوى: رأي يتبع الشهوة.

وقلت: في كلام المصنف إشعار بأن أهواءهم مظهر وضع موضع المضمر من غير لفظه السابق، وذلك أن قوله تعالى:(وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) حكاية حكاها الله تعالى عن قولهم، وأن قولهم هو: لن نتبع ملتك حتى تتبع ملتنا، فيكون الأصل: ولئن اتبعتها، ليرجع الضمير إلى مقالتهم تلك، ثم في الدرجة الثانية: ولئن اتبعت أقوالهم، وإنما جمعها باعتبار القائلين بها، ولما لم يكن هذا القول عن هدى ورشد، بل عن ضلالة وزيغ، وضع موضعه أهواءهم في الدرجة الثالثة.

ص: 69

(يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ): لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله، (أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ) بكتابهم دون المحرفين (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) من المحرفين (فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) حيث اشتروا الضلالة بالهدى.

[(وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ* وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) 124 - 125].

(ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ): اختبره بأوامر ونواه، واختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين: ما يريد الله، وما يشتهيه العبد،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه) يريد أن قوله: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) دل على أن الكلام تعريض بمن يتلونه على غير هذه الحالة، وهم الذين عرف منهم واشتهر التحريف والتغيير، ولما أتى باسم الإشارة وعقب بقوله:(يُؤْمِنُونَ بِهِ) وفهم تعريضاً أيضاً بأن أولئك لا يؤمنون به، بنى عليه قوله:(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) تذييلاً، فقوله:"حيث اشتروا الضلالة بالهدى" إشارة إلى أن قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) مؤذن بأن قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) كفر خاص، وأنه مفسر بالاستبدال، وفيه إدماج أنهم إنما حرفوا وبدلوا وما تلوه حق تلاوته؛ لأنهم أخذوا الرشى على ذلك، كقوله تعالى:(وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً)[البقرة: 41].

قوله: (ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) اختبره)، الراغب: الابتلاء: الاختبار، لكن الابتلاء: طلب إظهار الفعل، والاختبار: طلب الخبر، وهما يتلازمان.

قوله: (واختبار الله عبده: مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين)، أي: الطاعة والمعصية، يعني مكن الله تعالى إبراهيم على الفعل والترك وأن يختار أيهما شاء، وفي قوله:"ما يريد الله وما يشتهيه العبد" اعتزال خفي، وإنما كان اختبار الله العبد مجازاً؛ لأن الابتلاء والامتحان في

ص: 70

كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. وقرأ أبو حنيفة رحمه الله، وهي قراءة ابن عباس:(إبراهيم ربه) رفع "إبراهيم" ونصب "ربه"، والمعنى: أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهن أم لا. فإن قلت: الفاعل في القراءة المشهورة يلي الفعل في التقدير، فتعليق الضمير به إضمار قبل الذكر. قلت: الإضمار قبل الذكر أن يقال: ابتلى ربه إبراهيم، فأما "ابتلى إبراهيم ربه" أو "ابتلى ربه إبراهيم" فليس واحد منهما بإضمار قبل الذكر؛ أما الأول: فقد ذكر فيه صاحب الضمير قبل الضمير ذكراً ظاهراً؛ واما الثاني: فإبراهيم فيه مقدم في المعنى، وليس كذلك "ابتلى ربه إبراهيم"؛ فإن الضمير فيه قد تقدم لفظاً ومعنى؛ فلا سبيل إلى صحته. والمستكن في (فَأَتَمَّهُنَّ) في إحدى القراءتين لإبراهيم، بمعنى: فقام بهن حق القيام، وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان. ونحوه:(وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)[النجم: 37]،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشاهد لاستفادة علم خفي على الممتحن من الممتحن، وذلك غير جائز في حق الله سبحانه وتعالى؛ لأنه تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها من الأزل إلى الأبد، فهو استعارة تبعية واقعة على طريق التمثيل كما سبق في قوله:(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ودل على سبق التشبيه قوله: "فعل المختبر

" حيث نصب "فعل" على المصدر، أي: فعل معه فعلاً مثل فعل المختبر.

قوله: (والمستكن في (فَأَتَمَّهُنَّ) في إحدى القراءتين)، أي: المشهورة، وفي الأخرى، أي: قراءة أبي حنيفة.

ص: 71

وفي الأخرى لله تعالى بمعنى: فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً. ويعضده ما روي عن مقاتل: انه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً)[البقرة: 126]، (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) [البقرة: 128]، (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة: 129]، (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) [البقرة: 127]. فإن قلت: ما العامل في "إذ"؟ قلت: إما مضمر، نحو: واذكر إذ ابتلى، أو: إذ ابتلاه كان كيت وكيت؛ وإما (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ). فإن قلت: فما موقع (قَالَ)؟ قلت: هو على الأول استئناف، كأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويعضده)، أي: يعضد أن يكون الضمير في "أتمهن" لله تعالى، على قراءة أبي حنيفة: الرواية عن مقاتل؛ لأن الابتلاء حينئذ من إبراهيم عليه السلام والإتمام من الله، أما الابتلاء فقوله:(رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً) ونحوه، والإتمام: إجابة دعائه على سبيل توفية مطلوبه، أي: اختبر إبراهيم عليه السلام ربه بدعائه أنه تعالى: هل يجيبه إليه ويسعف مطلوبه وينجح مآربه أم لا؟

قوله: (هو على الأول)، أي: على إضمار عامل "إذ"، وإن كان هذا الوجه في التقدير وجهين لكن يجمعهما معنى إضمار العامل، ومن ثم قال: "إما مضمر

وإما (قَالَ)" وعلى الثاني، أي: على أن يكون العامل (قَالَ) فيكون (قَالَ) في التقدير مقدماً على "إذ" رتبة؛ لأنه عامله، ومؤخراً عن حرف العطف، والجملة معطوفة على جملة قبلها، وهو قوله:(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)[البقرة: 122] عطف قصة على قصة، وما أعني بالمعطوف عليه هذه القربى، بل القصياء وأولاهن به؛ لأن هذه معادة خاتمة تقريراً للامتنان على بني إسرائيل وعوداً إلى بدء، وتخلصاً إلى قصة جدهم وبيان ما أنعم الله عليه من نعمة كل نعمة دونها،

ص: 72

وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها، ويجوز أن يكون بياناً لقوله:(ابْتَلَى)، وتفسيراً له؛ فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والإسلام قبل ذلك في قوله:(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكيف لا وقد اشتمل على بيانه أكرم البقاع، ودعائه لأفضل الخلق بتلاوة أشرف الكتب، وهو قوله تعالى:(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ)[البقرة: 129]، ونحوه قوله تعالى:(إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا) إلى قوله: (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ)[النمل: 91 - 92]، فعلى هذا أولى الوجوه في الآية: تقدير: اذكر، وجعل "قال" بياناً وإن أخره.

قوله: (ويجوز أن يكون بياناً لقوله: (ابْتَلَى))، والعامل في "إذ": اذكر، والضمير في "أتمهن" لإبراهيم عليه السلام، ويراد بالكلمات: ما ذكره من الإمام وغيرها إلى آخر الآيات، وإنما استقام أن يكون بياناً لأن ما بعد (قَالَ) إلى آخر (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) كالشرح والتفصيل لما أجمله في قوله:(بِكَلِمَاتٍ)، وصح أن يبتلى بها لما يتضمن كل واحد منها المشقة، قال القاضي: الابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء. تم كلامه.

وسميت كلمات لأنها أوامر أو في تأويلها، كما سمي قوله:(كُنْ فَيَكُونُ) كلمة، وقد سمى الله تعالى قوله:(إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي) كلمة بقوله: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)[الزخرف: 26 - 28].

الراغب: الكلمات قد تقع على الألفاظ المنظومة وعلى المعاني التي تحتها، فقوله:(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)[الأنعام: 115] أي: قضيته وحكمه، وقال:(لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي)[الكهف: 109] للمعاني التي يبرزها بالكلمات، ولم يرد

ص: 73

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اللفظ، فإن ما يحصره اللفظ يحصره الخط، ولما لم يكن يؤثر عليه السلام على اختبار الله في شيء مما ابتلاه من الكلمات قيل فيهن:(فَأَتَمَّهُنَّ)، وقال:(وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)[النجم: 37]، ويعلم منه أن الكلمات، إذا لم تفسر بالمذكورات جاز أن تفسر بالعشر إلى آخره، وحينئذ لم يكن بياناً، بل كان استئنافاً على بيان الموجب، يعني: لما قام إبراهيم عليه السلام بما كلف به من الكلمات قيل: ما فعل الله به جزاء لما فعل، فقيل:(قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) أي: وعده بما يتلوه من الإكرام والإفضال، وأما تقرير التفضيل وتطبيق المبين على المجمل فإن يقال: إنه تعالى أمره:

أولاً: بقوله: (أَسْلِمْ)، وأتمه إبراهيم عليه السلام بما ينبئ عنه قوله:(أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[البقرة: 131] وإن كان هذا متأخراً تلاوة لكنه متقدم معنى، ومن ثم قال المصنف:"والإسلام قبل ذلك".

وثانياً: ابتلاه بقوله: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) أي: استعد للإمامة وهيئ أهبتها، فإني جاعلك للناس إماماً، فأتمه بما دل عليه قوله:(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، فإن الجواب مبني على الأسلوب الحكيم، أي: إن نفسي منقادة مطواعة لا تتأبى عن أمرك لما تفضلت علي وجعلتني أهلاً لذلك، لكن اجعل بعض ذريتي أهلاً لها.

وثالثاً: ابتلاه بقوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) فأتمه بما دل عليه قوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)[البقرة: 125]، وأن الأمر باتخاذ الناس مقامه مصلى يقتضي أن يكون مقامه ذلك صالحاً لأن يثوب الناس إليه ويصلى فيه، وإنما كان كذلك إذا كان مأموراً من عند الله بجعل مقامه صالحاً لذلك. والذي يدل على وجود ذلك الأمر قوله:(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ)، فعبر عن الأمر الوارد على المثابة بالإخبار للدلالة على سرعة امتثاله.

ص: 74

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعني: لما أردنا أن نجعل البيت مثابة للناس أمرنا إبراهيم بذلك فامتثل الأمر وحصل المأمور به وقلنا للناس: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى).

والذي عليه ظاهر كلام المصنف من قوله: "ما ذكره من الإمامة وتطهير البيت" أن قوله: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) كالمقدمة للأمر بتطهير البيت، وقوله:(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) جاء مستطرداً معترضاً للاهتمام.

ورابعاً: ابتلاه بقوله: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ)، فالأمر هو (طَهِّرَا)، على أن (عَهِدْنَا) أيضاً فيه معنى الأمر، فأتمه بما دل عليه قوله:(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ)، أي: قبلت يا رب ما أمرتني به، وتوسلت إليك قبل الشروع بهذا الدعاء؛ لأن هؤلاء إنما يمكنهم الطواف والعكوف والصلاة إذا كان البلد آمناً ذا رزق، ثم بعد الدعاء شرعاً في المأمور به.

وأنت- أيها السامع- استحضر ذهنك لتلك الحالة العجيبة الشأن، وهي: إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل داعيين لله متضرعين إليه، إلى أن ختما الدعاء بالمطلوب السني، وهو قوله:(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ)، وإلى هذه المعاني أشار مجملاً بقوله:"فيراد بالكلمات: ما ذكره من الإمامة، وتطهير البيت، ورفع قواعده والإسلام قبل ذلك".

والحاصل أن قوله تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) صريح في المطلوب، فيلزم منه ومن ذلك الإجمال حمل البواقي على هذا المعنى ليصح التفصيل واستنباط معنى الأمر من الله، والامتثال من إبراهيم عليه السلام، والله أعلم. وهذا وجه متين قوي، وهو اختيار الإمام.

ص: 75

وقيل في الكلمات: هن: خمس في الرأس: الفرق، وقص الشارب، والسواك، والمضمضة والاستنشاق. وخمس في البدن: الختان، والاستحداد، والاستنجاء، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط. وقيل: ابتلاه من شرائع الإسلام بثلاثين سهماً: عشر في براءة: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ)[التوبة: 112]، وعشر في "الأحزاب":(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ)[الأحزاب: 35]، وعشر في "المؤمنون"[1 - 9]، و (سَأَلَ سَائِلٌ) إلى قوله:(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[المعارج: 1 - 34]. وقيل: هي مناسك الحج؛ كالطواف، والسعي، والرمي، والإحرام، والتعريف، وغيرهن. وقيل: ابتلاه بالكوكب، والقمر، والشمس، والختان، وذبح ابنه، والنار، والهجرة.

والإمام: اسم من يؤتم به، على زنة الإله، كالإزار لما يؤتزر به، أي: يأتمون بك في دينهم. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي): عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً. (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وقرئ: (الظالمون)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونقل محيي السنة عن مجاهد: هن الآيات التي بعدها في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً

) إلى آخر القصة. وقال الواحدي: وأكثر المفسرين أنها تلك العشرة المذكورة، وهن: الفرق وقص الشارب إلى آخرها، وكذا في "شرح السنة" عن ابن عباس.

قوله: (الفرق)، الجوهري: رجل أفرق: الذي ناصيته [كأنها] مفروقة بين الفرق.

قوله: (والاستحداد)، أي: استعمال الحديد من حلق العانة. "والتعريف": الوقوف بعرفة.

قوله: (كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً)، وفي "المطلع": أي: قل: وزيداً. وقيل: يقال لمثل ذلك العطف عطف تلقين، كأن إبراهيم عليه السلام يلقن ويقول، قل: وبعض ذريتي.

ص: 76

أي: من كان ظالماً من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال من كان عادلاً بريئاً من الظلم. وقالوا: في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته، ولا يجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة؟ ! وكان أبو حنيفة رحمه الله، يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علي رضي الله عنه، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهكذا قدر صاحب "المطلع" أيضاً في قوله: (وَمَنْ كَفَرَ)، أي: قل: ومن كفر. وهذا الاسم مناسب للمعنى. قلت: وفيه نظر؛ لأن الخليل عليه السلام إنما عطف قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على تقدير: وجاعل من ذريتي إماماً، على جملة كلام الله تعالى، على تقدير العامل لا الانسحاب؛ فإذاً ليس من عطف التلقين في شيء، نعم إذا ذهب إلى الانسحاب، لكن المصنف لم يذهب إليه، وعلى هذا المنوال جاء الحديث على ما رويناه عن البخاري ومسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم ارحم المحلقين"، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "اللهم ارحم المحلقين"، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: "والمقصرين".

قوله: (زيد بن علي) أي: زيد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم.

قوله: (على اللص المتغلب)، اللام: للجنس، وفي جعل اللام للجنس ووصفه باللص وإيقاع "كالدوانيقي" مثالاً له والتلقيب به من المبالغة في تحقير شأنه ما لا يخفى، وقيل: سمي دوانيقياً لأنه زاد في الخراج دانقاً، ومثل هذا التحقير لا يليق بمنصب من انتصب

ص: 77

كالدوانيقي وأشباهه، وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل، فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لإمامة المسلمين. وذكر صاحب "كامل التاريخ"، أن اسمه: عبد الله وكنيته أبو جعفر ولقبه المنصور: هو ثاني خلفاء بني العباس، وكان كريماً وسيماً، جم العطاء، أعلم الناس بالحديث، ذا رأي وتدبير، وكان من رأيه أنه لما عزم أن يفتك بأبي مسلم فزع من ذلك عيسى بن موسى، فكتب إليه:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبر

فإن فساد الرأي أن تتعجلا

فوقع المنصور:

إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة

فإن فساد الرأي أن تترددا

ولا تمهل الأعداء يوماً بقدرة

وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا

قال الإمام: قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين: الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له، واختلفوا في أن الفسق الطارئ: هل يبطل الإمامة أم لا؟

ص: 78

المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماماً قط، وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة، فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر:"من استرعى الذئب ظلم". و"البيت: " اسم غالب للكعبة، كالنجم للثريا. (مَثَابَةً لِلنَّاسِ): مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه، أي: يثوب إليه أعيان الذين يزورونه أو أمثالهم، (وَأَمْناً): وموضع أمن، كقوله:(حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)[العنكبوت: 67]؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأرادوني على عد آجره لما فعلت)، ذكر في "جامع الأصول": ولما أشخص المنصور أبا حنيفة رحمه الله إلى العراق، أراده على القضاء فأبى، فحلف عليه ليفعلن، وحلف أبو حنيفة أن لا يفعل، وتكررت الأيمان بينهما، فحبسه المنصور، ومات في الحبس، وقيل: إنه افتدى نفسه بأن يولى عد اللبن، ولم يصح.

قوله: (مَثَابَةً لِلنَّاسِ): مباءة)، الجوهري: المثابة: الموضع الذي يرجع إليه مرة بعد أخرى، وإنما قيل للمنزل: مثابة لأن أهله يتفرقون في أمورهم ثم يثوبون إليه، وهو المراد بقوله:"يتفرقون عنه ثم يثوبون"، ثم التفرق والإثابة: إما حقيقي، وهو المراد بقوله:"أعيان الذين يزورونه"، أي: أنفس الذين يزورونه، أو أمثالهم من غيرهم، أو ينصرف عنه أشراف الذين يزورونه ثم يرجعون هم إليه دون سائر الناس، قال في "الأساس": ومن المجاز: هم من أعيان الناس: من أشرافهم. يعني: من له قدم صدق في الدين إذا حج البيت رأى فيه مهابط الرحمة ومنازل البركات، فلا يهم بشيء سوى العود إليه.

روى الإمام، عن ابن عباس:"لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه". فالتعريف في الناس: للجنس، والجنس إذا حمل على البعض في مقام المدح أريد به الكمال

ص: 79

ولأن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج. وقرئ: (مثابات)؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والفضل، قال الله تعالى:(هُدًى لِلنَّاسِ)[البقرة: 185]، وقال:(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)[البقرة: 2]. ومن ثم فسره بقوله: "أعيان الذين يزورونه"، وإما مجازي، وهو المراد بقوله:"أو أمثالهم". أي: أمثال الذين يزورونه، أي: من هم على صفتهم في كونهم وفد الله وزوار بيته. فالثابت إذاً: من هو متصف بصفة الوفادة لا عين الشخص، والتعريف أيضاً للجنس، كقولهم: دخلت السوق في بلد كذا، يريد سوقاً من الأسواق. يعني: جعلنا البيت مثابة للزائرين زواراً إثر زوار.

قوله: (ولأن الجاني) عطف على قوله: "كقوله: (حَرَماً آمِناً .... ) "، يريد أن معنى (آمِناً):"ذا أمن"، وموضع أمن كقوله تعالى:(بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)[إبراهيم: 37]؛ لأن من سكن فيه آمناً إلى الحرم أمن من خطف الناس، فالحرم إذاً موضع أمن على الحقيقة، أو لأن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له، فيأمن حتى يخرج. فعلى هذا إسناد (آمناً) إلى الحرم على سبيل المجاز؛ لأن المقصود: أمن الملتجئ إليه، فأسند إليه مبالغة، وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، واستدل بظاهر الآية.

وروى الإمام، عن الشافعي رضي الله عنه: من دخل البيت ممن وجب عليه الحد يؤمر بالتضييق عليه حتى يخرج، وإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز، وأول الأمن بأن يكون آمناً من القحط وعن نصب الحروب فيه، وعن إقامة الحدود، وليس اللفظ من العام حتى يحمل على الكل، أما حمله على الأمن كما ذكرنا فأولى، لأنا لا نحتاج حينئذ إلى حمل لفظ الخبر على الأمر، ونحتاج على ذلك إليه.

قال القاضي: (أَمْناً)، أي: يأمن حاجه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله.

ص: 80

لأنه مثابة لكل من الناس لا يختص به واحد منهم. (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)[الحج: 25]. (وَاتَّخَذُوا) على إرادة القول، أي: وقلنا: اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه، وهي على وجه الاختيار والاستحباب دون الوجوب.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال: "هذا مقام إبراهيم" فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ يريد: أفلا نؤثره لفضله بالصلاة فيه؛ تبركاً به وتيمناً بموطئ قدم إبراهيم؟ فقال: "لم أؤمر بذلك"، فلم تغب الشمس حتى نزلت.

وعن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: إذا فسرت الكلمات بالأمر، على ما سبق، مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه راجح.

قوله: (لأنه مثابة لكل من الناس): تعليل لقراءة الجمع، يريد أن البيت وإن كان مثابة في نفسه لكنه مثابات باعتبار القاصدين؛ لكل منهم مثابة تختص به، فإذن لا يختص به واحد منهم، والمراد بالناس: الذين يقصدونه من كل جانب، فلا يحتاج إلى التكرار بالمرات.

روى محيي السنة، عن مجاهد وسعيد بن جبير: يثوبون إليه من كل جانب: يحجون به، فالتعريف في "الناس" استغراق عرفي.

قوله: (أنه أخذ بيد عمر رضي الله عنه، الحديث من رواية البخاري ومسلم وابن ماجة والدارمي، عن أنس وابن عمر رضي الله عنهما، أن عمر رضي الله عنه قال: وافقت ربي في ثلاث:

ص: 81

(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى). وقيل: (مُصَلًّى): مدعى. ومقام إبراهيم: الحجر الذي فيه أثر قدميه، والموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع عليه قدميه، وهو الموضع الذي يسمى مقام إبراهيم. وعن عمر رضي الله عنه: أنه سأل المطلب بن أبي وداعة: هل تدري أين كان موضعه الأول؟ قال: نعم، فأراه موضعه اليوم. وعن عطاء:(مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ): عرفة والمزدلفة والجمار؛ لأنه قام في هذه المواضع ودعا فيها. وعن النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم. وقرئ: (واتخذوا) بلفظ الماضي عطفاً على (جَعَلْنَا)، أي: واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها. (عَهِدْنَا): أمرناهما (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي) بأن طهرا، أو: أي: طهرا. والمعنى: طهراه من الأوثان، والأنجاس، وطواف الجنب ولحائض، والخبائث كلها. أو: أخلصاه لهؤلاء لا يغشاه غيرهم، (وَالْعَاكِفِينَ): المجاورين الذين عكفوا عنده، أي: أقاموا لا يبرحون أو المعتكفين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت:(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)، وقلت: يا رسول الله، يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن يتحجبن! فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة، فقلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت كذلك.

قوله: (واتخذوا، بلفظ الماضي): نافع وابن عامر، والباقون بلفظ الأمر. وقد مضت فائدة العدول في قوله:(فَأَتَمَّهُنَّ).

ص: 82

ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين، بمعنى: القائمين في الصلاة، كما قال:(لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[الحج: 26]، والمعنى: للطائفين والمصلين؛ لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي.

[(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) 126].

أي: اجعل هذا البلد، أو هذا المكان (بَلَداً آمِناً): ذا أمن، كقوله:(عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ)[الحاقة: 21]، أو: آمناً من فيه، كقولك: ليل نائم. و (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من (أَهْلَهُ)، يعني: وارزق المؤمنين من أهله خاصة، (وَمَنْ كَفَرَ) عطف على (مَنْ آمَنَ)، كما عطف (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على الكاف في (جَاعِلُكَ) [البقرة: 124]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كما قال: (لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ)) أي: وضع في سورة "الحج" مكان العاكفين: القائمين، فيجعل ها هنا "العاكفين" بمعنى القائمين حتى يتطابقا، والمعنى على هذا: للطائفين والمصلين، فجعل جملة القيام والركوع والسجود مجازاً عن الصلاة. وعلى الوجه الأول يقدر للطائفين والعاكفين والمصلين؛ لأن العكوف بمعنى المجاورة لا يجعل مجازاً عن الصلاة لفقدان العلاقة المعتبرة، بخلاف القيام.

قوله: (أو آمناً من فيه) أي: هو من باب الإسناد المجازي.

قوله: (وارزق المؤمنين) بضم القاف في نسخة المعزي، للإتباع.

قوله: (كما عطف (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) على الكاف) يعني هو مثله في الاعتبار، وقد سمي بعطف التلقين، ذكر في الحواشي: إنما قلنا ها هنا: هو عطف التلقين، وفيما سبق: كأنه عطف التلقين، رعاية للأدب، وذلك أن يكون الملقن هو الله تعالى لإبراهيم عليه السلام أولى من العكس.

ص: 83

فإن قلت: لم خص إبراهيم صلوات الله عليه المؤمنين حتى رد عليه؟ قلت: قاس الرزق على الإمامة فعرف الفرق بينهما؛ لأن الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعي، وأبعد الناس عن النصيحة الظالم، بخلاف الرزق فإنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة له، والمعنى: وأرزق من كفر فأمتعه.

ويجوز أن يكون (وَمَنْ كَفَرَ) مبتدأ متضمناً ومعنى الشرط، وقوله:(فَأُمَتِعُهُ) جواباً للشرط، أي: ومن كفر فأنا أمتعه. وقرئ: (فأمتعه)،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: وفيه نظر؛ لأنه من عطف جملة كلام الله على جملة كلام خليله؛ ولذلك كرر المصنف العامل؛ ليكون من عطف التقدير لا الانسحاب قطعاً كما سبق في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ).

قوله: (وإلزاماً للحجة له)، والظاهر أن يقال: للحجة عليه، أي: رزقهم ليزيح عللهم، ويقيم الحجة عليهم، لكن اللام الأولى صلة الإلزام، والثانية للتعليل، والضمير لله تعالى، أي: قد يكون إعطاء الرزق استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة للرازق عليهم.

ومعنى الاستدراج ما في قوله: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي: سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم.

قوله: (والمعنى: وأرزق من كفر فأمتعه)، أي: قل: ارزق من كفر، أي: ادع، فأنا أستجيب، وأرزق من كفر فأمتعه: عطف على هذا المقدر.

قوله: (فأمتعه) على الحكاية، فالتخفيف: ابن عامر، والتثقيل: الباقون.

ص: 84

(فأضطره): فألزه إلى عذاب النار لز المضطر الذي لا يملك الامتناع مما اضطر إليه. وقرأ أبي: (فنمتعه قليلاً ثم نضطره)، وقرأ يحيى بن وثاب:(فإضطره) بكسر الهمزة. وقرأ ابن عباس: (فأمتعه قليلاً ثم نضطره)، وقرأ يحيى بن وثاب:(فإضطره) بكسر الهمزة. وقرأ ابن عباس: (فأمتعه قليلاً ثم اضطره) على لفظ الأمر، والمراد الدعاء من إبراهيم، دعا ربه بذلك. فإن قلت: فكيف تقدير الكلام على هذه القراءة؟ قلت: في (قَالَ) ضمير إبراهيم، أي: قال إبراهيم بعد مسألته اختصاص المؤمنين بالرزق: ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم اضطره

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فألزه)، الجوهري: لزَّه يلزُّه لزّاً ولززاً، أي: شدَّه وألصقه.

قوله: (لزَّ المضطرِّ): مفعول مطلق فيه معنى الاستعارة، شبَّه حالة الكافر الذي درَّ الله تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلاً قليلاً إلى ما يهلكه، بحالة من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه، فاستعمل في المشبَّه ما كان مستعملاً في المشبَّه به.

قوله: (وقرأ ابن عباس: فأمتعه قليلاً) وهي شاذة.

قال ابن جني: "هذه القراءة تحتمل وجهين:

أحدهما: وهو الظاهر: أن يكون الفاعل في (قَالَ) ضمير إبراهيم عليه السلام، وحسن إعادة "قال" لأمرين: أحدهما: طول الكلام، والآخر: أنه انتقل من دعاء قوم إلى دعاء آخرين، كأنه أخذ في كلام آخر".

والوجه الثاني: أن يكون الفاعل هو الله تعالى، أي: وأمتعه يا خالق يا قادر، يخاطب بذلك نفسه، كقول الأعشى:

وهل تطيق وداعاً أيها الرجل

ص: 85

وقرأ ابن محيصن: (فأطره) بإدغام الضاد في الطاء، كما قالوا اطجع، وهي لغة مرذولة؛ لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها ولا تدغم هي فيما يجاورها، وهي حروف: ضم شفر.

[(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ* رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) 127 - 129].

(يَرْفَعُ) حكاية حال ماضية. و (الْقَوَاعِدَ) جمع قاعدة، وهي الأساس والأصل لما فوقه، وهي صفة غالبة، ومعناها: الثابتة، ومنه: قعدك الله، أي: اسأل الله أن يقعدك، أي: يثبتك. ورفع الأساس البناء عليها؛ لأنها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر. ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء؛ لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهذا يتصل بباب غريب لطيف، وهو باب التجريد، كأنه يجرد نفسه منها يخاطبها، هذا خلاصة كلامه. وعلى هذين الوجهين لا يكون العطف للتلقين.

قوله: (ضم شفر)، الجوهري: الشفر، بالضم: واحد أشفار العين، وهي حروف الأجفان التي ينبت عليها الشعر، وهو الهدب.

قوله: (وهي الأساس والأصل لما فوقه)، والأصل: عطف تفسيري لقوله: "الأساس"، فالضمير في "فوقه": عائد إلى الأساس، والمستتر في الظرف: عائد إلى "ما"، وانتصاب "قعدك" على المصدر، والأصل: اسأل الله أن يقعدك تقعيداً.

ص: 86

ومعنى رفع القواعد: رفعها بالبناء؛ لأنه إذا وضع سافاً فوق ساف فقد رفع السافات، ويجوز أن يكون المعنى: وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت أي: استوطأ يعني: جعل هيئته القاعدة المستوطئة مرتفعة عالية بالبناء. وروي: أنه كان مؤسساً قبل إبراهيم فبنى على الأساس. وروي: أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة، له بابان من زمرد شرقي وغربي، وقال لآدم عليه السلام: أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي، فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشياً وتلقته الملائكة فقالوا بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور، ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرفه جبريل مكانه.

وقيل: بعث الله سحابة أظلته، ونودي أن ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص. وقيل: بناه من خمسة أجبل: طور سيناء وطور زيتا، ولبنان، والجودي، وأسسه من حراء،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: الساف: كل عرق من الحائط. المغرب: الساف: الصف من اللبن والطين. الأساس: بنى سافاً وسافين وثلاث سافات.

قوله: (ما قعد من البيت)، فعلى هذا الألف واللام في القواعد بمعنى الذي، أي: الذي قعد من البيت.

قوله: (إلى السماء الرابعة، فهو البيت المعمور)، والرواية الصحيحة عن البخاري في حديث المعراج أنه في السماء السابعة. الفاء في قول المصنف:"فهو البيت المعمور" لتعقيب الإعلام والإخبار حالاً بعد حال.

قوله: (من حراء)، حراء، يصرف ولا يصرف، والثاني أكثر. "تمخض"، أي: تحرك وأخذه المخاض.

ص: 87

وجاءه جبريل بالحجر الأسود من السماء. وقيل: تمخض أبو قبيس فانشق عنه، وقد خبئ فيه في أيام الطوفان، وكان ياقوتة بيضاء من الجنة، فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسود. وقيل: كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة. (رَبَّنَا)، أي: يقولان: ربنا، وهذا الفعل في محل النصب على الحال، وقد أظهره عبد الله في قراءته، ومعناه: يرفعانها قائلين: ربنا، (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائنا، (الْعَلِيمُ) بضمائرنا ونياتنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله: (فانشق عنه)، أي: انشق أبو قبيس عن الحجر. وأبو قبيس: جبل مشرف على مكة، واستعير له ما للمرأة من الطلق عند الولادة.

قوله: (فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسود). والرواية الصحيحة عن الترمذي والنسائي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن، فسودته خطايا بني آدم".

قوله: (وقيل: كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة)، وفي الآية دلالة على هذا القول، حيث أخر إسماعيل عن إبراهيم ووسط بينهما المفعول المؤخر مرتبته من الفاعل، وهو: إسماعيل.

قوله: (رَبَّنَا)، أي: يقولان: ربَّنا، وهذا الفعل في محل النصب على الحال)، والعامل:(يَرْفَعُ)، و (رَبَّنَا): تكرار للاستعطاف، (وَاجْعَلْنَا): معطوف على (تَقَبَّلْ)، وكذا قوله:(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ).

ص: 88

فإن قلت: هلا قيل: قواعد البيت! وأي فرق بين العبارتين؟ قلت: في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام ما ليس في إضافتها؛ لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم لشأن المبين.

(مُسْلِمَيْنِ لَكَ): مخلصين لك أوجهنا، من قوله:(أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)[البقرة: 112]، أو: مستسلمين، يقال: أسلم له وسلم واستسلم؛ إذا خضع وأذعن، والمعنى: زدنا إخلاصاً وإذعاناً لك. وقرئ: (مسلمين) على الجمع، كأنهما أرادا أنفسهما وهاجر، أو أجريا التثنية على حكم الجمع، لأنها منه. (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا): واجعل من ذريتنا (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، و"من" للتبعيض أو للتبيين، كقوله:(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ)[النور: 55] فإن قلت: لم خصا ذريتهما بالدعاء؟ قلت: لأنهم أحق بالشفقة والنصيحة (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً)[التحريم: 6]؛ ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وشايعوهم على الخير، ألا ترى أن المقدمين من العلماء والكبراء إذا كانوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مسلمين، على الجمع) إلى قوله: (لأنها منه)، أي: التثنية من الجمع. أعني: من مراتب الجمع؛ لأن أقل الجمع اثنان على رأي، وقد اختاره في تفسير قوله:(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)[البقرة: 25].

قوله: (واجعل من ذريتنا (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)، و"من" للتبعيض أو للتبيين). قال القاضي: أي: بعض ذريتنا، وخصا بعضهم لما علما أن في ذريتهما ظلمة، وعلما أن الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص والإقبال الكلي على الله، فإنه مما يشوش المعاش، ولذلك قيل: لولا الحمقى لخربت الدنيا.

ص: 89

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: ويمكن أن يقال: إنه عليه السلام عَلِمَ بالنص أن بعض ذريته ظلمة، وذلك من قوله تعالى:(لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) حين قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)، وكان في هذا الدعاء متبوعاً وإسماعيل تابعه، كما في البناء، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"أنا دعوة أبي إبراهيم"؟

الراغب: إنما قيل: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) ولم يعمم؛ لأن هذه منزلة شريفة لا يكاد يتخصص بها إلا الواحد فالواحد، في برهة بعد برهة، وأن الحكمة الإلهية لا تقتضي ذلك، فإنه لو جعل الناس كلهم كذلك لما تمشي أمر العالم، إذ كان العالم يفتقر إلى كون الأفاضل فيها والأوساط والأراذل، تتولى عمارته والقيام بتمشية أمر العالم، فقد قيل: عمارة الدنيا بثلاثة أشياء: الزراعة والحرث والحماية والحرب، وجلب الأشياء من مصر إلى مصر، وأنبياء الله لا يصلحون لذلك، إذ كانوا لغرض آخر أشرف من ذلك. تم كلامه.

ويجوز أن تكون (مِن) للتبيين، قدم على المبين وفصل به بين العاطف والعطوف، كقوله تعالى:(خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)[الطلاق: 12] يعني: فصل بين (أُمَّةً مُسْلِمَةً) والمعطوف عليه وهو الضمير المنصوب في (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ).

ص: 90

على السداد كيف يتسببون لسداد من وراءهم؟ وقيل: أراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (وَأَرِنَا) منقول من "رأى" بمعنى: أبصر أو عرف؛ ولذلك لم يتجاوز مفعولين، أي: وبصرنا متعبداتنا في الحج أو عرفناها وقيل: مذابحنا. وقرئ: (وأرنا) بسكون الراء قياساً على فَخْذ في فخِذ، وقد استرذلت؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أبو البقاء: والواو داخلة في الأصل على أمة، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا) نعت الأمة مقدم عليها، وانتصب على الحال.

قوله: (متعبداتنا في الحج .. وقيل: مذابحنا)، قال القاضي: والنسك في الأصل: غاية العبادة، وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة.

وقال الراغب: النسك: غاية العبادة، والناسك: الآخذ نفسه ببلوغ قاصيتها حسب طاقته. وسمى أعمال الحج بالمناسك، ثم خص الذبيحة بالنسك، وتعورف فيه حتى قيل: نسك فلان، أي: ذبيحته.

وقال الزجاج: كل متعبد فهو مَنْسَك ومَنْسِك، ومنه قيل للعابد: الناسك، ويقال للذبيحة المتقرب بها إلى الله تعالى: نسيكة.

قوله: (وقرئ: "وارنا"، بسكون الراء)، التيسير: ابن كثير وأبو شعيب: "وأرنا"

ص: 91

لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها فإسقاطها إجحاف. وقرأ أبو عمرو بإشمام الكسرة، وقرأ عبد الله:(وأرهم مناسكهم). (وَتُبْ عَلَيْنَا) ما فرط منا من الصغائر، أو استتاباً لذريتهما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

و"أرني" بسكون الراء حيث وقعا. وأبو عمر عن اليزيدي: باختلاس كسرتها، والباقون بإشباعها.

قال الزجاج: (أَرِنَا) يقرأ بكسر الراء وإسكانها، والأجود الكسر، ومن أسكن جعله بمنزلة: فخذ وعضد، وليس بمنزلتهما؛ لأن الكسرة في (أَرِنَا) كسرة همزة ألقيت حركتها على الراء، والكسرة دليل الهمزة، فحذفها بعيد، وهو على بعده جائز؛ لأن الكسرة والضم تحذفان للاستثقال.

قوله: (لأن الكسرة منقولة)، روي منصوبة: حالاً من الضمير في قوله: "دليل عليها"، ومرفوعة: خبراً لـ "أن"، ودليل: خبر بعد خبر.

قوله: ((وَتُبْ عَلَيْنَا) ما فرط منا من الصغائر)، أي: فيما فرط. قال الإمام: المعتزلة يجوزون الصغائر على الأنبياء، وفيه نظر؛ لأن الصغيرة إذا كانت مكفرة بثواب فاعلها فالتوبة عنها محال،

ص: 92

(وَابْعَثْ فِيهِمْ) في الأمة المسلمة (رَسُولاً مِنْهُمْ) من أنفسهم. وروي أنه قيل له: قد استجيب لك، وهو في آخر الزمان فبعث الله فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم:"أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي". (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ): يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك. (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ) القرآن (وَالْحِكْمَةَ) الشريعة وبيان الأحكام، (وَيُزَكِّيهِمْ): ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس، كقوله:(وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ)[الأعراف: 157].

[(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) 130 - 131]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعند أهل السنة: هذه التوبة لترك الأولى والأفضل، وأنها من باب التشديد والتغليظ ليرتدع مرتكب الكبائر ولا يغفل عن التوبة.

وقال القاضي: قوله: (وَتُبْ عَلَيْنَا) استتابه لذريتهما أو عما فرط منهما سهواً، أو لعلهما قالا هضماً لأنفسهما وإرشاداً لذريتهما.

قوله: (أنا دعوة أبي إبراهيم)، روينا عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت له قصور الشام"، أخرجه الإمام أحمد بن حنبل، وصاحب "شرح السنة"، وقد أخرج حديث الرؤيا الدارمي.

قوله: "دعوة أبي"، أي: إثر دعوته، أو: الدعوة نفسها.

ص: 93

(وَمَنْ يَرْغَبُ) إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم. و (مَنْ سَفِهَ) في محل الرفع على البدل من الضمير في (يَرْغَبُ)، وصح البدل؛ لأن (وَمَنْ يَرْغَبُ) غير موجب، كقولك: هل جاءك أحد إلا زيد؟ (سَفِهَ نَفْسَهُ): امتهنها واستخف بها، وأصل السفه الخفة، ومنه: زمام سفيه. وقيل: انتصاب النفس على التمييز نحو:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: انتصاب النفس على التمييز)، وهو عطف على قوله:" (سَفِهَ نَفْسَهُ) امتهنها"؛ لأن على هذا التقدير، نصبه على أنه مفعول به، وعلى الثاني: سفه لازم، ونفسه: تمييز.

قال الزجاج: قال الفراء: التمييز في النكرات أكثر، وزعم أن هذه المميزات المعارف أصل الفعل لها ثم نقل إلى الفاعل، نحو: وجع زيد رأسه، وزعم أن أصل الفعل للرأس وما أشبهه، وجعل (سَفِهَ نَفْسَهُ) من هذا الباب.

قال القاضي: قال المبرد وثعلب: سفه بالكسر: متعد، وبالضم: لازم، ويشهد له ما جاء في الحديث:"الكبر أن تسفه الحق".

وقال صاحب "الفرائد": الوجه أن (سَفِهَ) ضمن معنى "جهل" وعدي تعديته، كأنه

ص: 94

غبن رأيه وألم رأسه، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف المميز نحو قوله:

ولا بفزارة الشعر الرقابا

أجب الظهر ليس له سنام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قيل: جهل نفسه لخفة عقله، أي: لم يعرفها بالتفكر فيها، يدل عليه قول ابن عباس، (إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ): والسفه: غلبة الجهل وركوب الهوى، وهذا القول اختيار الزجاج.

الراغب: سفه نفسه أبلغ من جهلها، وذلك أن الجهل ضربان: جهل بسيط، وهو أن لا يكون للإنسان اعتقاد في الشيء، وجهل مركب، وهو أن يعتقد في الحق أنه باطل وفي الباطل أنه حق، والسفه: أن يعتقد ذلك ويتحرى بالفعل مقتضى ما اعتقده، فبين تعالى أن من رغب عن ملة إبراهيم فإن ذلك لسفهه نفسه، فإذاً هو مبدأ كل نقيصة، وذلك أن من جهل نفسه جهل أنه مصنوع، وإذا جهل ذلك جهل صانعه، وإذا جهله فكيف يعرف أمره ونهيه؟ ولكون معرفتها ذريعة إلى معرفة الخالق قال جل ثناؤه:(وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)[الذاريات: 21].

قوله: (غبن)، الجوهري: الغبن بالتسكين: في البيع والشراء، وبالتحريك: في الرأي.

قوله: (ولا بفزارة الشعر الرقابا)، أوله:

فما قومي بثعلبة بن بكر

ثعلبة وفزارة: قبيلتان، أي: ليس قومي بثعلبة ولا بفزارة الكثير الشعر بالرقبة. الشعر: جمع أشعر.

قوله: (أجب الظهر)، أوله:

ص: 95

وقيل: معناه سفه في نفسه، فحذف الجار، كقولهم: زيد ظني مقيم، أي: في ظني، والوجه هو الأول، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث:"الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس"،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع الناس والشهر الحرام

ونمسك بعده بذناب عيش

أجب الظهر ليس له سنام

الشعر للنابغة يمدح النعمان بن المنذر، وذناب الوادي: منتهاه، وذناب الشيء بالكسر: عقبه. ربيع الناس، أي: سبب طيب عيشهم، وأريد بالشهر الحرام: الأمن، أي: نبقى بعد الممدوح في طرف عيش قد مضى صدره وخيره وبقي ذنبه وما لا خير فيه، الأجب: الجمل المقطوع السنام. واستشهد بأنه نصب الظهر بالأجب على التمييز، قيل: يجوز النصب في البيتين على التشبيه بالمفعول، لا على التمييز، كقولك: الحسن الوجه، وهو الوجه.

قوله: (والوجه هو الأول) أي: أن يكون "سفه" متعدياً كما في الحديث، فإن "سفه" فيه متعد بلا ارتياب. والحديث من رواية ابن مسعود:"الكبر بطر الحق وغمط الناس"، أخرجه مسلم والترمذي.

قال صاحب "النهاية": وفي الحديث: "إنما ذلك من سفه الحق وغمط الناس"، يقول: غمض الناس يغمصهم غمصاً، وكذلك غمط، أي: حقرهم ولم يرهم شيئاً، بطر الحق وهو: أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده وعبادته، باطلاً، وقيل: هو أن يتجبر عن الحق فلا يراه حقاً، وقيل: أن يتكبر عن الحق فلا يقبله.

ص: 96

وذلك: أنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إذالة نفسه وتعجيزها؛ حيث خالف بها كل نفس عاقلة. (وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ) بيان لخطأ رأي من رغب عن ملته؛ لأن من جمع الكرامة عند الله في الدارين؛ بأن كان صفوته وخيرته في الدنيا، وكان مشهوداً له بالاستقامة على الخير في الآخرة؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وذلك أنه إذا رغب): تعليل لقوله: "والوجه هو الأول"؛ لأن المقصود من الآية أن من له رأي سديد، وعقل هاد، ورأى الناس مجتمعين على أمر خطير وخطب جليل، وهو مع ذلك يخالف الناس فيه ويكابر عقله في اتباع ذلك الأمر الخطير فلا يكون ذلك إلا من تجهيله عقله الهادي، وغمص الناس وتحقيرهم، وهذا المعنى لا ينطبق على الوجهين الأخيرين ولا على قول صاحب "الفرائد" إلا مع التعسف.

قوله: (وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ): بيان لخطأ رأي من يرغب عن ملته)، وهو حال مقررة لجهة الإشكال، والمعنى: أيرغب عن ملته ومعه ما يوجب الترغيب فيها، وأنه جمع خير الدارين وفاز بالمنقبتين؟

قوله: (وخيرته)، في "المغرب": الخيرة: الاختيار في قوله تعالى: (مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ)[القصص: 68]، وفي قولهم: محمد خيرة الله، بمعنى المختار، وسكون الياء لغة فيهما.

قوله: (وكان مشهوداً له بالاستقامة)، أي: أثبتت له إثباتاً ببينة وطريق برهاني، وذلك بأن جمع الصلاح المفسر باستقامة الشيء، وحكم أنه عليه السلام من زمرة من اتصف بصفته وأنه داخل في أعدادهم، فإذا ثبتت له صفة الاستقامة على الكناية، وإنما فسر الصلاح بالاستقامة لأنه مقابل للفساد الذي هو خروج الشيء عن حال استقامته، وبأن جعلت الجملة اسمية مؤكدة بـ (إن) واللام.

فإن قلت: لم خصت الكرامة الدنيوية بالاصطفاء والأخروية بالصلاح؟

ص: 97

لم يكن أحد أولى بالرغبة في طريقته منه. (إِذْ قَالَ) ظرف لـ (اصْطَفَيْنَاهُ)، أي: اخترناه في ذلك الوقت، أو انتصب بإضمار "اذكر" استشهاداً على ما ذكر من حاله، كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت؛ لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله، ومعنى (قَالَ لَهُ .... أَسْلِمْ): أخطر بباله النظر في الدلائل المؤدية إلى المعرفة والإسلام، فقال: أسلمت، أي: فنظر وعرف. وقيل: (أَسْلِمْ) أي: أذعن وأطع، وروي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: قد علمنا أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: أما الاصطفاء بالنبوة فهو أقصى شرف الإنسان ومنتهى درجات العباد في الدنيا، وأما الصلاح في الآخرة فكذلك؛ لأن الصلاح كما قال هو:"الاستقامة على الخير"، ولا ارتياب أن الأحوال العاجلة وإن وصفت بالصلاح في بعض الأوقات لكن لا تخلو من شائبة فساد وخلل، ولا يصفو ذلك إلا في الآخرة، خصوصاً لزمرة الأنبياء؛ لأن الاستقامة لا تكون إلا لمن فاز بالقدح المعلى ونال المقام الأسنى، وهم الأنبياء، ومن ثم كانت هذه المرتبة مطلوب للأنبياء والمرسلين، قال عليه السلام:(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[الشعراء: 83] وغيرها من الآيات.

قوله: (أو انتصب بإضمار "اذكر" استشهاداً على ما ذكر)، يعني: تكون جملة مقطوعة مستأنفة مشتملة على بيان الموجب لكونه مصطفى.

قوله: (ومعنى: (قَالَ لَهُ

أَسْلِمْ): أخطر بباله النظر) يريد أن "أسلم" أمر جار على المجاز على نحو قوله تعالى: (كُنْ فَيَكُونُ)[البقرة: 117]، إذ ليس ثمة أمر ولا جوابه، فإن هذه الواقعة في بدء حاله فلا يكون إلا الإلهام، وفي كلام المصنف إشعار به وهو قوله:"والإسلام قبل ذلك"، هذا إذا أريد بالإسلام الإيمان والتصديق، وأما إذا أريد به الإذعان والطاعة فالأمر على الحقيقة، وإليه الإشارة بقوله:"وقيل: أسلم، أي: أذعن".

ص: 98

ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم، فنزلت.

[(وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) 132].

قرئ: (وأوصى) وهي في مصاحف أهل الحجاز والشام، والضمير في (بِهَا) لقوله:(أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) على تأويل الكلمة والجملة، ونحوه رجوع الضمير في قوله:(وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)[الزخرف: 28] إلى قوله: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي)[الزخرف: 26 - 27]. وقوله: (كَلِمَةً بَاقِيَةً) دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: وأوصى)، وهي قراءة نافع وابن عامر، والباقون: ووصى. قال الزجاج: و"وصى" أبلغ من "أوصى"؛ لأن الثاني جائز أن يكون قال لهم مرة واحدة، و"وصى" لا يكون إلا لمرات كثيرة.

وقال القاضي: التوصية هو التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة، وأصلها الوصل، يقال: وصاه: إذا وصله، وفصاه إذا فصله، كأن الموصي يصل فعله بفعل الموصى.

قوله: (والضمير في (بِهَا) لقوله: (أَسْلَمْتُ))، قال الزجاج: الهاء ترجع إلى الملة؛ لأن إسلامه هو إظهار طريقته وسنته، يدل عليه قوله:(وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ).

ص: 99

(وَيَعْقُوبُ) عطف على إبراهيم داخل في حكمه، والمعنى: ووصى بها يعقوب بنيه أيضاً. وقرئ (ويعقوب) بالنصب عطفاً على (بَنِيهِ)، ومعناه: ووصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب. (يَا بَنِيَّ) على إضمار القول عند البصريين، وعند الكوفيين يتعلق بـ (وَصَّى)؛ لأنه في معنى القول، ونحوه قول القائل:

رجلان من ضبة أخبرانا

إنا رأينا رجلاً عريانا

بكسر الهمزة، فهو بتقدير القول عندنا، وعندهم يتعلق بفعل الإخبار. وفي قراءة أبي وابن مسعود:(أن يا بني)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: هذا هو الحق؛ لأن قوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) كما قال المصنف: "استشهاداً على ما ذكر"، يعني يستبعد من العاقل المميز أن يرغب عن ملة إبراهيم، والحال أنه مصطفى في الدنيا صالح في الآخرة. وإن شئت فاذكر ذلك الوقت الذي أظهر الملة الواضحة، وحين قال له ربه: أسلم، قال: أسلمت لرب العالمين، ليظهر لك إنابته وإخباته وينصره، عطف قوله:(وَوَصَّى) على (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، أي: اذكر إذ قال الله له: أسلم، فامتثل أمره وأسلم، وما اكتفى به، بل ضم معه توصية بنيه بالإسلام، والذي يدل عليه قوله:(يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[البقرة: 132]؛ لأنه الموصى به، وهو مطابق لقوله:(أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، وإنما ضم الوصية إلى امتثال الأمر لحنوه وحدبه على ذريته فلم يخص نفسه بما ناله من الفضل والكرامة، بل شارك ذريته معه، ومثله قوله تعالى:(إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي)[البقرة: 124].

قوله: (من ضبة): اسم قبيلة، الجوهري: وضبة بن أد عم تميم بن مر.

قوله: (فهو في تقدير القول عندنا)؛ لأنه لو تعلق بـ "أخبرانا" لكان "إن" مفتوحة.

ص: 100

(اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ): أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان، وهو دين الإسلام، ووفقكم للأخذ به.

(فَلا تَمُوتُنَّ) معناه: فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام؛ فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك: لا تصل إلا وأنت خاشع، فلا تنهاه عن الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في حال صلاته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فَلا تَمُوتُنَّ) معناه: فلا يكن موتكم)، أي:(لَا تَمُوتُنَّ) لا يستقيم إجراؤه على ظاهره؛ لأنهم نهوا عن الموت، وذلك ليس بمقدورهم، وإنما ينهى المكلف عما له تركه، لكن معناه: فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام، وهذا أيضاً لا يستقيم على ظاهره؛ لأن المنهي الموت، والموت مما لا ينهى، فرجع حاصله إلى أن ينهى الإنسان عن أن يوجد على حالة يدركه الموت وهو على غير الإسلام، وهذا معنى قوله:"فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا".

قال الزجاج: هذا على سعة الكلام نحو قولهم: لا أرينك ها هنا، فلفظ النهي للمتكلم، وهو في الحقيقة للمخاطب، أي: لا تكونن ها هنا، فإن كنت هاهنا رأيتك، المعنى: الزموا الإسلام، فإذا أدرككم الموت صادفكم مسلمين.

وقلت: الآية مثل المثال، وفيه ترق بلازم آخر لقوله:"فلا تموتن: معناه: فلا يكن موتكم".

قوله: (كقولك: لا تصل إلا وأنت خاشع) نهى عن فعل الصلاة، ومطلق الصلاة لا ينهى عنها، لكن معناه: لا تكن صلاتك إلا على الخشوع، فيرجع معناه إلى أن يكون المنهي الإنسان عن حالة هي غير حالة الخشوع، فيكون في الآية كناية تلويحية.

ص: 101

فإن قلت: فأي نكتة في إدخال حرف النهي على الصلاة، وليس بمنهي عنها؟ قلت: النكتة فيه: إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة، فكأنه قال: أنهاك عنها إذا لم تصلها على هذه الحالة، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"؟ فإنه كالتصريح بقولك لجار المسجد: لا تصل إلا في المسجد، وكذلك المعنى في الآية إظهار أن موتهم لا على حال الثبات على الإسلام موت لا خير فيه، وأنه ليس بموت السعداء، وأن من حق هذا الموت أن لا يحل فيهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فإن قلت: وأي نكتة في إدخال حرف النهي؟ ) حاصل السؤال: إذا كان المنهي عنه الحالة التي هي على غير الخشوع في الصلاة، والحالة التي يدركهم الموت عليها وهم على غير الإسلام، فلم نهى عن الصلاة وعن الموت، وما الفائدة فيه؟

وخلاصة الجواب: أن الصلاة أو الموت إذا قصد بالنهي عنهما نهي حالة يقعان فيها إرادة للفضيلة والخيرية، كان أبلغ مما إذا قصدت نفي الفضيلة والخيرية ابتداء.

فإن قلت: هذا يناقض ما سبق في تفسير قوله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً)[البقرة: 28] أن إنكار الحال ليتبعها إنكار الذات أبلغ من العكس.

قلت: الأبلغية وعدمها باعتبار العدول عن مقتضى الظاهر، فإن المقتضى هنالك إنكار ذات الكفر، فعدل إلى إنكار الحال، فيلزم منه إنكار الذات على طريق الكناية. وها هنا المقتضي نفي الفضيلة، فعدل إلى نفي الذات ليلزم منه نفي الفضيلة على سبيل الكناية. والحاصل أن في العدول عن الظاهر مبالغة ليست في ارتكاب الظاهر، ولهذا قال صاحب "المفتاح": ولأمر ما تجد أرباب البلاغة وفرسان الطراد يستكثرون من هذا الفن، وإنه في علم البيان يسمى بالكناية. فقوله أيضاً:"أن لا يحل فيهم" كناية إيمائية على نحو قوله:

ص: 102

وتقول في الأمر أيضاً: مت وأنت شهيد، وليس مرادك الأمر بالموت، ولكن بالكون على صفة الشهداء إذا مات، وإنما أمرته بالموت اعتداداً منك بميتته، وإظهاراً لفضلها على غيرها وأنها حقيقة بأن يحث عليها.

[(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) 133].

(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ)"أم" هي المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها: الإنكار. والشهداء: جمع شهيد، بمعنى الحاضر، أي: ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت، أي: حين احتضر، والخطاب للمؤمنين بمعنى: ما شاهدتم ذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فما جازه جود ولا حل دونه

قوله: (وأنها حقيقة بأن يحث عليها)، هذا غاية المبالغة، فأكرم بفضيلة يرام لإدراكها الموت، وحسب المنايا أن يكن أمانيا.

قوله: ("أم" هي المنقطعة، ومعنى الهمزة فيها: الإنكار). قالوا: هذه "أم" الكائنة بمعنى بل والهمزة، كأنه قيل: بل أكنتم شهداء، أذنت بالإضراب عما قبلها وبالإضراب عما بعدها، أي: ما كنتم شهداء، والإضراب: الإعراض عن الشيء بعد الإقبال عليه. وقالوا: وهي "أم" المنقطعة الواقعة في الخبر، فإنه تعالى لما أخبر أولاً أن إبراهيم ويعقوب وصياً بنيهما بالإسلام، ثم أعرض عن هذا الخبر، وأقبل على الاستفهام تنبيهاً على أن الاستفهام على سبيل الإنكار ها هنا أهم، فقال:(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ)، يعني ما كنتم حاضرين بل حصل لكم العلم بهذا المعنى

ص: 103

وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي. وقيل: الخطاب لليهود؛ لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليهودية، إلا أنهم لو شهدوه وسمعوا ما قاله لبنيه وما قالوه؛ لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام، ولما ادعوا عليه اليهودية، فالآية منافية لقولهم فكيف يقال لهم:(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ)؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من طريق الوحي امتناناً منه؛ لأن المؤمنين كانوا يقولون: إن إبراهيم حرض بنيه على التوحيد وملة الإسلام يفتخرون بذلك.

وقوله: (وقيل: الخطاب لليهود)، على هذا القول أيضاً وقعت "أم" في الخبر؛ لأنه لما أخبر عن الوصية أعرض عن الإخبار وأقبل على الاستفهام على سبيل الإنكار؛ لأنه أهم؛ لأنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألست تعلم أن يعقوب عليه السلام يوم مات أوصى بنيه باليهودية"، فقال تعالى:(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ) إنكار، أي: ما كنتم حاضرين إذ حضر يعقوب الموت وقال لبنيه ما قال، لكن جار الله رد هذا القول وقال: إنهم لو شهدوا يعقوب وسمعوا قوله لبنيه حين احتضر لعلموا حرصه على الإسلام ولم يقولوا: إنه وصى بنيه باليهودية، فالآية منافية لقولهم، لما ذكر فيها من قوله:(نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ) إلى آخره، فيمتنع أن يقال لهم:(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ) إنكاراً عليهم، فإن الإنكار عليهم إنما يصح أن لو كان مضمون هذه الآية موافقاً لقولهم بأن يقال مثلاً بدل قوله:(نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ) يكون يهودياً، ثم قال:"ولكن الوجه أن توجد أم متصلة"، ولما لم يجز أن تقع المتصلة إلا في الاستفهام يقدر محذوف مثل: أتدعون أن الأنبياء كانوا هوداً، ثم يعطف عليه بأم المتصلة فيقال: أم كنتم شهداء، على سبيل التقرير للمشاهدة، والإنكار للدعوى كما في قوله تعالى:(قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 80]، وقوله:(أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ)[البقرة: 140].

ص: 104

ولكن الوجه أن تكون "أم" متصلة على أن يقدر قبلها محذوف؛ كأنه قيل: أتدعون على

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولكن الوجه أن تكون "أم" متصلة) يعني أن الخطاب إذا كان مع اليهود والإنكار وارد على قولهم: ما مات نبي إلا على اليهودية، الوجه أن تجعل "أم" متصلة وعليه النظم؛ لأنه تعالى لما قرر أن إبراهيم عليه السلام وصى بنيه ويعقوب بالتمسك بالتوحيد والإسلام والعض عليه بالنواجذ، وبخ اليهود على قولهم: ما مات نبي إلا على اليهودية بقوله: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ)، قال بعض فضلاء العصر: وفيه إشكال؛ لأن "أم" المتصلة تقتضي السؤال عن تعيين أحد الأمرين، وها هنا كل واحد من دعوى اليهودية على الأنبياء وحضور أوائلهم حين احتضر يعقوب ووصى بنيه بالتوحيد، معلوم عند المتكلم.

وأجاب عنه: أنه لما كان الأمران متساويين في كون كل واحد منهما مما لا يصدر عن العقلاء لكون أحدهما ادعاء لشيء من غير علم، والثاني: ادعاء له مع العلم بخلافه لكون هذا القول يقتضي عدم حضورهم، فإذا سئلوا عن ذلك فلا شك أنهم لا يجيبون بتعيين الأمر الأول، فيتعين أن يجيبوا بتعيين الأمر الثاني، فحينئذ يندرج في ذلك إلزامهم وتقريعهم. يعني: إذا عرفتم بأن أوائلكم كانوا مشاهدين له إذ حرض بنيه على التوحيد، ودعاهم إلى الإسلام، وعلمتم ذلك، فما بالكم تدعون على الأنبياء ما هم عنه براء.

وقلت: تلخيصه أن السؤال تبكيت وإلزام، سئلوا عن أمرين أيهما اختاروا لزمتهم الحجة، كأنه قيل: أيها المعاندون، أتدعون على الأنبياء اليهودية دعوى مجردة غير مسندة إلى دليل، أم تدعون حضور أوائلكم حين وصى يعقوب بنيه؟ فلابد أن يختاروا الثاني، فيقولوا: إن أوائلنا كانوا مشاهدين له، إذا أراد بنيه، فيقال لهم: أنتم قد علمتم حضور أوائلكم عند الوصية بالتوحيد، فما لكم تعاندون وتدعون على الأنبياء ما هم عنه براء؟ والله أعلم.

ص: 105

الأنبياء اليهودية، (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) يعني: أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، وقد علمتم ذلك فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ ! وقرئ:(حضر) بكسر الضاد وهي لغة. (مَا تَعْبُدُونَ): أي شيء تعبدون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقيل: وتمام تقريره أن تقول: إذا كان المراد بالهمزة و"أم" حقيقة الاستفهام يدل على ثبوت أحدهما، ويكون السؤال عن التعيين، والمراد هنا ليس حقيقة الاستفهام بل التقرير، أي: ثبوت أحدهما وتقريره من غير معنى استفهام، ويكون إشارة إلى أن أحدهما، وهو كونهم شهداء حاصل، ويلزم منه إنكار ادعاء اليهود؛ لأن شهودهم ينافي ذلك الادعاء، ثم اعلم أن الإنكار هنا بمعنى: لم كان، لا بمعنى: لم يكن.

وقوله: (وقد علمتم ذلك) بعد بيان أن أوائلهم كانوا المشاهدين، إذ أراد بنيه على الإسلام، أي: وقد علمتم ذلك، فكأنكم شاهدتموه إذ ذاك، فما لكم تدعون عليهم ما هم منه براء؟

وقلت وبالله التوفيق: إن هذا الأسلوب من باب التقسيم الحاصر، نحوه قوله تعالى:(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)[يوسف: 102]، قال المصنف:"هذا تهكم بقريش وبمن كذبه؛ لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقي فيها أحداً ولا سمع منه، ولم يكن من علم قومه، فإذا أخبر به وقصه هذا القصص العجيب الذي أعجز حملته ورواته، لم يقع شبهة في أنه ليس منه وأنه من جهة الوحي"، وقوله تعالى:(وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ) إلى قوله: (وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)[القصص: 44 - 45].

ص: 106

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن التقسيم قول الزجاج في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ)[البقرة: 258]"هذا حجة على أهل الكتاب؛ لأنه نبأ لا يجوز أن يعلمه إلا من وقف عليه بقراءة كتاب، أو تعليم معلم، أو بوحي من الله تعالى، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أمي، وأنه لم يعلم التوراة والإنجيل، فلم يبق وجه يعلم أن هذا الإخبار منه إلا الوحي".

وتنزيل هذا التقرير على هذا المقام أن يقال: إنكم أيها المؤمنون تقولون: إن يعقوب حين احتضر وصى بنيه بالتوحيد والإسلام، وهو حق وصدق، ولكن ما علمتم ذلك من طريق استدلال، ولا قراءة كتاب، ولا تعليم معلم، ولا كنتم حاضرين حين احتضر ووصى بالتوحيد، فلم يبق إلا طريق الوحي، هذا إشارة إلى معنى الحصر في قول المصنف:"إنما حصل لكم العلم من طريق الوحي".

فإن قلت: فلم خص الإنكار بطريق المشاهدة دون الطرق الأخرى على أن طريق التعليم أولى بالإنكار كما قال في قوله تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)[آل عمران: 44]، فإن قلت: لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة، وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟

قلت: "كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة، وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة، وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة". كذا ها هنا بقي ما هو مستبعد مستحيل ليثبت ما هو المقصود بالطريق البرهاني امتناناً نه تعالى عليهم، وإليه الإشارة بقوله:"أي: ما شاهدتم ذلك، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي".

وهذا التقرير لا يستقيم إذا كان الخطاب مع اليهود؛ لأن القول الذي وقع الإنكار في

ص: 107

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طريقه ينبغي أن يكون مقرراً في نفسه مذكوراً بعد ذكر طرقه المنفية حتى يصح، فلو أريد الإنكار على طريق قولهم، لوجب أن يذكر بعد إنكار طريق المشاهدة، وأن يقال: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تتبعون من بعدي من الملل؟ قالوا: نتبع ملتك وملة آبائك وهي اليهودية، وحين ذكر ما يخالفه من قوله:(نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ) إلى قوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) لا يصح الإنكار عليهم على ما مر؛ لأنه لو تقرر عندهم هذه المقاولة لظهر لهم حرصه على التوحيد، ولما ادعوا عليه اليهودية.

والحاصل: أن الإضراب عن الكلام السابق وإنكار اللاحق يأبى أن يكون الخطاب مع اليهود، ولهذا قال:"فالآية منافية لقولهم"، فكيف يقال لهم:(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ)؟ ألا ترى أنه حين جعل "أم" متصلة ولم يكن لها تعلق بالآية السابقة، قال:"ولكن الوجه أن تكون أم متصلة إلى آخره"، ويفهم من تقرير كلامه: أن "أم" إذا كانت منقطعة، والهمزة فيها للتقرير على سبيل التقريع، جاز أن يكون الخطاب مع اليهود، وذلك أنهم لما قالوا: ما مات نبي إلا على اليهودية، قيل لهم: أتقولون هذا القول مع أنكم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت، أي: أوائلكم كانوا شاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، والنظم لا يأباه، وذلك أن قصة إبراهيم عليه السلام بجملتها كما ذكرنا معطوفة على قصة بني إسرائيل، والجامع: الامتنان عليهم بالنعمة التي أنعم الله على آبائهم، وكان من حق الظاهر أن يذكر قوله:(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) بعد قوله: (وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) كما قال: "والإسلام قبل ذلك" في قوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ)، وإنما أخره ليكون ذريعة إلى هذا التقرير وتخلصاً إلى هذا التفريع، وذلك أنه تعالى لما قال له:(أَسْلِمْ)، وامتثل أمره وقال:(أَسْلَمْتُ)، ووصى بالإسلام بنيه، وأراد أن يوبخ اليهود على ما قالوه، قال:(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ)، أي: دعوا إخبارنا عن وصية إبراهيم بنيه بالتوحيد والإسلام، ألستم حضرتم

ص: 108

و (مَا) عام في كل شيء، فإذا علم فرق بـ "ما" و"من"، وكفاك دليلاً قول العلماء:"من" لما يعقل. ولو قيل: من تعبدون؟ لم يعم إلا أولي العلم وحدهم، ويجوز أن يقال:(مَا تَعْبُدُونَ) سؤال عن صفة المعبود كما تقول: ما زيد؟ تريد أفقية أم طبيب أم غير ذلك من الصفات. و (إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ) عطف بيان لـ (آبَائِكَ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعقوب حين وصى بنيه بما وصاه جده إبراهيم من التوحيد والإسلام؟ فلم تقولون مع ذلك: ما مات نبي إلا على اليهودية؟

ولا مانع على هذا التقرير أن نجعل الهمزة المقدرة في (أَمْ) للإنكار كما في "المعالم": فإنهم لما قالوا: ألست تعلم أن يعقوب وصى بنيه باليهودية، وكان ذلك كذباً وميناً، وإخباراً بما يخالف اعتقادهم، نزلوا منزلة أنهم ما كانوا شهداء، وقيل لهم: كأنكم ما شهدتم حين وصى بنيه بالتوحيد والإسلام وما اعتقدتم ذلك، ولذلك قلتم ما قلتم. والله أعلم.

قوله: (مَا): عام في كل شيء)، أي: يسأل بها عن كل مبهم، فإذا عرف أنه عاقل خص بمن أو غير عاقل خص بما، فهي مشترك في العموم وفي غير العقلاء، فلا يتعين أحد مفهوميها إلا بانتصاب قرينة مبينة.

قوله: (ولو قيل: من تعبدون؟ لم يعم إلا أولي العلم وحدهم)، الراغب: لم يعن بقوله: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) العبادة المشروعة فقط، وإنما عنى جميع الأعمال، وكأنه دعاهم أن لا يتحروا في أعمالهم غير وجه الله عز وجل، ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام، وإنما خاف أن تشغلهم دنياهم، ولهذا قيل: ما قطعك عن الله فهو طاغوت، وهذا المعنى تحراه الشاعر بالعبادة في قوله:

ص: 109

وجعل إسماعيل- وهو عمه- من جملة آبائه؛ لأن العم أب، والخالة أم؛ لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة، لا تفاوت بينهما، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"عم الرجل صنو أبيه"، أي: لا تفاوت بينهما كما لا تفاوت بين صنوي النخلة، وقال في العباس:"هذا بقية آبائي"، وقال: "ردوا علي أبي فإني أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فتى ملك اللذات أن يعتبدنه

وما كل ذي ملك لهن بمالك

وقلت: ويعضده تقييد الفعل بقوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي: مخلصون.

قوله: (عم الرجل: صنو أبيه) من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر في العباس رضي الله عنهما: "إن عم الرجل صنو أبيه"، أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه.

الصنو: المثل، وأصله أن تطلع نخلتان من عرق واحد، أي: أصل العباس وأصل أبي واحد.

الراغب: قد استدل بالآية من منع مقاسمة الجد مع الإخوة، وأسقط الإخوة مع الجد كما يسقطون مع الأب، واستدل بها أيضاً على أن العم يجري مجرى الأب في الولاية على مال الصغيرة وتزويجها، وفي الجملة أن تسميتهما أبوين ليس بمنكر؛ لأن الأعمام والأجداد مع الأب أقرب من تسمية الشمس مع القمر القمرين.

قوله: (ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود)، روى صاحب "جامع الأصول": أن عروة بن

ص: 110

وقرأ أبي: (وإله إبراهيم) بطرح (آبَآئِكَ). وقرئ: (أبيك) وفيه وجهان: أن يكون واحداً، وإبراهيم وحده عطف بيان له؛ وأن يكون جمعاً بالواو والنون، قال:

وفديننا بالأبينا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مسعود قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، واستأذنه بالرجوع، فرجع فدعا قومه إلى الإسلام فأبوا، فلما كان عند الفجر قام على غرفة له فأذن للصلاة وتشهد، فرماه رجل من ثقيف فقتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خبره:"مثل عروة مثل صاحب يس: دعا قومه إلى الله فقتلوه"، وأما حديث عباس فما وجدته في "الأصول" ولا في "التاريخ"، سوى أن ذكر في بعض الحواشي عن زين الأئمة الفردوسي في "المستقصى"، عن الواقدي: أنه صلى الله عليه وسلم: بعث عمه العباس إلى مكة قبل عام الفتح ليدعوهم إلى الله تعالى، فأبطأ عليه، فقال صلى الله عليه وسلم:"ردوا علي أبي"، وفي رواية أخرى أنه قال:"لعلهم يصنعون به ما صنعت ثقيف بعروة بن مسعود: دعاهم إلى الله فقتلوه، والله إذاً لا أستبقي منهم أحداً"، ثم جاء العباس ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم بصحته.

قوله: (وفديننا بالأبينا) أوله:

فلما تبين أصواتنا

بكين .......

أي: قلن: جعل الله آباءنا فداكم، والألف في "الأبينا": للإشباع، والضمير في "تبين" عائد إلى النساء اللاتي أسرن، فلما رأيننا بكين وقلن هذا الكلام، والشاعر سعى في خلاصهن من الأسر.

ص: 111

(إِلَهاً وَاحِداً) بدل من (إِلَهَ آبَائِكَ)، كقوله:(بِالنَّاصِيَةِ* نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ)[العلق: 15 - 16]، أو على الاختصاص أي: نريد بإله آبائك إلهاً واحداً.

(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) حال من فاعل (نَعْبُدُ)، أو من مفعوله؛ لرجوع الهاء إليه في (لَهُ) ويجوز أن تكون جملة معطوفة على (نَعْبُدُ) وأن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، أي: ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون التوحيد، أو مذعنون.

[(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) 134].

إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون، والمعنى: أن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((إِلَهاً وَاحِداً): بدل من (إِلَهَ آبَائِكَ). قال القاضي: وفائدته: التصريح بالتوحيد ونفي التوهم الناشئ من تكرير المضاف والتأكيد.

قوله: (أي: ومن حالنا أنا له مسلمون) بيان لتقرير أن تكون الجملة معترضة لا حالاً، أي: من عادتنا وشأننا، إذ لو أريد تقرير الحال لقيل: والحال أنا له مخلصون، وقوله:"أو: مذعنون" عطف على (مُخْلِصُونَ).

قوله: (إشارة إلى الأمة المذكورة)، الراغب: الأمة في الأصل: المقصود، كالعمدة والعدة في كونهما معموداً ومعداً، وسمى الجماعة أمة من حيث تؤمها الفرق، وقيل للحين: أمة لكونه متضمناً لأمة ما، وسمي الدين أمة لكون الجماعة عليه، وقوله تعالى:(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)[النحل: 120] أي: جمع في نفسه من الفضيلة ما لا يجتمع إلا في الأمة.

ص: 112

وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم. ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم". (وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ): ولا تؤاخذون بسيئاتهم كمالا ينفعكم حسناتهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وذلك أنهم افتخروا بأوائلهم) تعليل لقوله: "تلك إشارة إلى الأمة المذكورة"، والمعنى راجع إلى أن أحداً لا ينفعه كسب غيره، وفيه إشارة إلى بيان النظم، فكأن اليهود لما ادعوا تلك الدعوى الباطلة، وهي أنه ما مات نبي إلا على اليهودية، وألقمهم الله الحجر بقوله:(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ) على ما تقرر في وجه الاتصال، قالوا: هب أن الأمر كذلك، أليسوا بآبائنا وإليهم ينتهي نسبنا؟ مفتخرين، فأجيبوا بقوله:(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ).

قوله: (لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم)، قيل: هذا نفي في معنى النهي، ولهذا أكد بالنون، والحاصل أنه نهي عن أن يأتي الناس بالعمل وهم بالنسب، والأولى أن يقال: إن الواو للجمع، والمعنى على قوله:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

قوله: (كما لا ينفعكم حسناتهم) قاس عدم مؤاخذتهم بسيئات الأمة السابقة بعدم انتفاعهم بحسناتهم، وذلك إنما يحسن إذا تقرر المقيس عليه، وتقرره إنما يعلم من مفهوم قوله:(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ)، وعلم منه أن قوله:(وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وضع موضع عليهم ما كسبوا وعليكم ما كسبتم، وإنما عدل إلى نفي السؤال عنهم ليؤذن بأنهم لا يسألون عما

ص: 113

[(وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ 135).

(بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) بل نكون ملة إبراهيم، أي: أهل ملته كقول عدي بن حاتم: إني من دين. يريد: من أهل دين. وقيل: بل نتبع ملة إبراهيم. وقرئ: (ملة إبراهيم) بالرفع، أي: ملته ملتنا، أو: أمرنا ملته، أو نحن ملته، بمعنى: أهل ملته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عملوا فضلاً عن أن يؤخذوا بما كسبوا، وإلى اختصاص النفي بهم للتعريض بأن الأنبياء يسألون عنهم سؤال توبيخ وإهانة، كقوله تعالى:(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ)[المائدة: 109]، أشار بقوله: هو سؤال توبيخ لقومهم، كما كان سؤال الموءودة توبيخاً للوائد، ومنه قوله تعالى:(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)[المائدة: 116]، وللاعتناء بشأن هذا المعنى كررت الآية، وختمت بها القصة وجعلت ذريعة إلى الشروع في مشرع آخر من الكلام، والله أعلم.

قوله: (أي: ملته ملتنا، أو: أمرنا ملته) فإن قلت: إذا قدر "ملتنا"، حكم بأن "ملته": مبتدأ، وإذا قدر "أمرنا" حكم بأن "ملته": خبر، فلم لا يجوز العكس فيهما.

قلت: لا يقدم فيما نحن فيه ما يقدم بسلامة الأمر، لأن الجملة مثبتة للحكم بعد الإضراب عما يخالفها، فإنهم قالوا للمسلمين:(كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، فإنك إذا قدرت: ملته. ملتنا، تصورت أنهم زعموا أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً، وقالوا: اتبعوا ملتنا حتى تكونوا على ملة إبراهيم، ويدل عليه تعقيبه بقوله:(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)[آل عمران: 67]، وإذا قدرت: أمرنا ملته، تصورت أنهم زعموا أن دين الحق دين اليهودية أو النصرانية، وقالوا:

ص: 114

و (حَنِيفاً) حال من المضاف إليه، كقولك: رأيت وجه هند قائمة. والحنيف: المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اتبعوا ملتنا حتى تكونوا على الحق، فجئت بالرد على الوجه المطلوب، أي: ليس أمرنا على الإشراك كما أنتم عليه، بل أمرنا ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً ونظيره تقدير أمركم أو الذي يطلب منكم بحسب تفسير "المعروفة" في قوله:(طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)[النور: 53].

والحاصل أن الذي أجري له الكلام أولاً: أن ملة إبراهيم ملتهم، فوجب تقديمها، وعلى الثاني: ادعوا أنهم على الحق ودعوا المسلمين إلى اليهودية أو النصرانية، فوجب تقديم ما عليه المسلمون، وأنما أوثر أمرنا على "ملتنا" للتفادي عن أن يسمى ما هم عليه بالملة، أي: ليس أمرنا أمركم، بل أمرنا ملة إبراهيم، ولو قدر "ملتنا" كان التقدير: ليس ملتنا ملتكم، بل ملة إبراهيم، والله أعلم.

قوله: (حال من المضاف إليه)، نحو قوله تعالى:(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً)[الحجر: 47]، قيل: وانتصاب الحال من المضاف إليه لا يحسن حتى يكون المضاف والمضاف إليه متصلين أو ملتبسين، فالملة متصلة وملتبسة بإبراهيم عليه السلام، ألا ترى إلى قول عدي:"إني من دين"، كأنه قال: أنا مجسم منه أو متصل به، كقوله:"ما أنا من دد ولا الدد مني"، ولهذا جاز: رأيت وجه هند قائمة، ولا يجوز: غلام هند قائمة.

وقال أبو البقاء: والحال من المضاف إليه قليل؛ لأن عامل الحال هو عامل صاحبها، ولا يصح أن يعمل المضاف في مثل هذا في الحال، ومن جعله حالاً قدر العامل: معنى اللام أو

ص: 115

والحنف: الميل في القدمين، وتحنف؛ إذا مال. وأنشد:

ولكنا خلقنا إذ خلقنا

حنيفاً ديننا عن كل دين

(وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بأهل الكتاب وغيرهم؛ لأن كلاً منهم يدعي اتباع إبراهيم وهو على الشرك.

[(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) 136 - 137].

(قُولُوا) خطاب للمؤمنين، ويجوز أن يكون خطاباً للكافرين، أي: قولوا لتكونوا على الحق، وإلا فأنتم على الباطل،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

معنى الإضافة، وهي المصاحبة والملاصقة، وقيل: حسن جعل (حَنِيفاً) حالاً لأن المعنى: نتبع إبراهيم حنيفاً، وهذا جيد؛ لأن الملة هي الدين، والمتبع إبراهيم عليه السلام. وهذا مأخوذ من قول الزجاج، فإنه قال: ينتصب (حَنِيفاً) على الحال، أي: نتبع ملة إبراهيم في حال حنيفيته.

قوله: (والحنف: الميل في القدمين). الميل: بفتح الميم والياء، الجوهري: الميل، بالتحريك: ما كان خلقة، يقال منه: رجل أميل العاتق، وفي عنقه ميل، وقال الزجاج: وإنما أخذ الحنف من قولهم: رجل أحنف: للذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها، والمعنى: أن إبراهيم حنف إلى دين الإسلام، فلم يبعث نبي إلا به وإن اختلفت شرائعهم.

ص: 116

وكذلك قوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) يجوز أن يكون على: بل اتبعوا أنتم ملة إبراهيم أو كونوا أهل ملته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: الحنف هو: ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والجنف: الميل عن الاستقامة إلى الضلال، والحنيف هو المائل إلى ذلك، وتحنف فلان، أي: تحرى طريق الاستقامة، وسمت العرب كل من اختتن أو حج حنيفاً، تنبيهاً على أنه على دين إبراهيم عليه السلام، والأحنف: من في رجله ميل، قيل: سمي بذلك على التفاؤل، وقيل: بل استعير للميل المجرد.

قوله: (وكذلك قوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، أي: قوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، يجوز أن يكون على هذين الوجهين، أما كونه خطاباً للمؤمنين فكما سبق تقريره: بل نكون ملة إبراهيم، أي: أهل ملته، أو: بل نتبع ملة إبراهيم، أما كونه خطاباً للكافرين فكما قدره: بل اتبعوا أنتم ملة إبراهيم، أو: كونوا أهل ملته، فنظم الآيات على هذين التقديرين أن يقال: إن اليهود والنصارى لما قالوا: (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، وفي "قالوا" ضمير الفريقين على سبيل اللف، بدليل النشر، وهو قوله:(كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى).

وقدر الزجاج: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى، فـ "أو": للتنويع، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلوات الله عليه أن يرد على الفريقين مقالهم ويضرب عن محالهم بقوله:(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً)، فحينئذ إما أن يسوق الكلام معهم مخاطباً إياهم: لا تكونوا هوداً أو نصارى، بل كونوا أهل ملة إبراهيم، أو: لا تتبعوا اليهودية والنصرانية، بل اتبعوا ملة إبراهيم. ويؤيد ذلك بما عقبه من قوله:(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا) الآيتين، وإما أن يضرب عنهم صفحاً، ويلتفت إلى المؤمنين قائلاً: قولوا: ما نكون منكم بل نكون أهل

ص: 117

والسبط: الحافد، وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَالأَسْبَاطِ): حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر. (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما فعلت اليهود والنصارى. و"أحد" في معنى الجماعة، ولذلك صح دخول "بين" عليه (بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ) من باب التبكيت؛ لأن دين الحق واحد لا مثل له، وهو دين الإسلام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملة إبراهيم أو لا نتبع ملتكم بل نتبع ملة إبراهيم، وأنتم أيها المؤمنون لا تهتموا بهم وقولا:(آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، وصبغنا الله بالإيمان صبغة ولم نصبغ صبغتكم، فقوله:(قُولُوا) تفسير لقوله: (بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) على التقديرين، أي: على أن يكون الخطاب للكافرين: أي: قولوا: لتكونوا على الحق، وإلا فأنتم على الباطل، أو للمؤمنين، يعني: لا تهتموا بهم وقولوا: (آمَنَّا).

قوله: (و"أحد" في معنى الجماعة)، الجوهري: الأحد بمعنى الواحد، وهو أول العدد، وأما قولهم: ما في الدار أحد فهو: اسم لمن يصلح أن يخاطب، يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث، قال تعالى:(لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ)[الأحزاب: 32]، وقال:(فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ)[الحاقة: 47].

قال المصنف في "سورة الأحزاب": "منى (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ): لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء، أي: إذا تقصيت أمة النساء جماعةً جماعةً لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة"، فيكون المعنى في هذا المقام: إذا تقصيت جماعة الأنبياء جماعةً جماعةً فلا نفرق نحن بين جمع من جموعهم.

قوله: (من باب التبكيت)، أي: إلزام الخصم، وهو الاستدراج وإرخاء العنان معه ليعثر حيث يراد تبكيته، وهو من مخادعات الأقوال حيث يسمع الحق على وجه لا يزيد غضب

ص: 118

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)[آل عمران: 85] فلا يوجد إذن دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقاً، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين فقيل:(فَإِنْ آمَنُوا) بكلمة الشك على سبيل الفرض والتقدير، أي: فإن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم مساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا. وفيه: أن دينهم الذي هم عليه وكل دين سواه مغاير له غير مماثل؛ لأنه حق وهدى، وما سواه باطل وضلال.

ونحو هذا: قولك للرجل الذي تشير عليه: هذا هو الرأي الصواب، فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به، وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ولكنك تريد تبكيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه، ويجوز أن لا تكون الباء صلة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المخاطب: كقوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)[سبأ: 24]، أي: تفكروا في حالكم وما أنتم عليه من العبث والفساد وحال المؤمنين وما هم عليه من الصلاح والسداد، فإذا رجعوا إلى أنفسهم وتفكروا، علموا أن المسلمين على هدى وهم على ضلال، كذلك ها هنا: جيء بكلمة "إن"، وهي للشك، وفرض دين آخر مثل دين الإسلام في الاستقامة، أي: نحن لا نقول: إننا على الحق وأنتم على الباطل، ولكن إن حصلتم ديناً آخر مساوياً لهذا الدين في الصحة والسداد فقد اهتديتم، ومقصودنا هدايتكم كيف ما كانت، والخصم إن نظر في هذا الكلام بعين الإنصاف تفكر فيه وعلم أن دين الحق هو دين الإسلام لا غير.

قوله: (وفيه)، أي: أدمج في هذا الكلام- تعريضاً كما ذكرنا- أن الدين: الذي هم عليه، وكل دين سواه: باطل وضلال، فعلى هذا أصل الكلام: إن كل دين سوى دين الإسلام باطل، فأقحم قوله:"دينهم الذي هم عليه" وعطف عليه العام ليؤذن بأن الكلام معهم أصالة، وقيل: الضمير في سواه، لدينهم.

قوله: (ويجوز أن لا تكون الباء صلة)، يعني على ما فسرنا كانت صلة، و (آمَنُوا): مضمناً معنى دخلوا، أي: فإن دخلوا في الإيمان بشهادة، أي: باستعانة شهادة مثل شهادتكم،

ص: 119

وتكون باء الاستعانة، كقولك: كتبت بالقلم، وعملت بالقدوم، أي: فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها. وقرأ ابن عباس وابن مسعود: (بما آمنتم به) وقرأ أبي: (بالذي آمنتم به). (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عما تقولون لهم، ولم ينصفوا فما هم إلا (فِي شِقَاقٍ) أي: في مناوأة ومعاندة لا غير، وليسوا من طلب الحق في شيء، أو: وإن تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان بها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهي كلمة الشهادتين، قال القاضي: المعنى: إن تحروا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق.

قوله: (بما آمنتم به) وقوله: (بالذي آمنتم به) في القراءتين دلالة على أن "مثل": مقحم، قال القاضي: يجوز أن تكون الباء مزيدة للتأكيد، كقوله تعالى:(جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا)[يونس: 27]، أي: إن آمنوا إيماناً مثل إيمانكم به، أو المثل مقحم، كقوله تعالى:(وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)[الأحقاف: 10] أي: عليه، يدل عليه قوله:"تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان" ففي الكلام لف ونشر.

قوله: ((وَإِنْ تَوَلَّوْا): عما تقولون لهم ولم ينصفوا)، هذا بناءً على أن الباء في (بِمِثْلِ) صلة (آمَنُوا)، يدل عليه قوله:"ولم ينصفوا"؛ لأن الوجه الأول مبني على الكلام المنصف والاستدراج، وقوله:"فإن تولوا عن الشهادة" على أن الباء للاستعانة، يدل عليه قوله:"والدخول في الإيمان"، ففي الكلام لف ونشر. وينصر الوجه الأول قوله:" (فِي شِقَاقٍ) في مناوأة ومعاندة"؛ لأنه مناسب للإنصاف، وكذا قوله:(فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ).

ص: 120

(فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ) ضمان من الله لإظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقد أنجز وعده بقتل قريظة وسبيهم، وإجلاء بني النضير، ومعنى السين: أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ): وعيد لهم، أي: يسمع ما ينطقون به ويعلم ما يضمرون من الحسد والغل، وهو معاقبهم عليه. أو: وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى: يسمع ما تدعو به ويعلم نيتك، وما تريده من إظهار دين الحق وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك.

[(صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) 138].

(صِبْغَةَ اللَّهِ) مصدر مؤكد منتصب عن قوله: (آمَنَّا بِاللَّهِ) كما انتصب (وَعَدَ اللَّهُ)[الروم: 6] عما تقدمه، وهي فعلة من: صبغ، كالجلسة من: جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ، والمعنى: تطهير الله؛ لأن الإيمان يطهر النفوس.

والأصل فيه: أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون: هو تطهير لهم، وإذا فعل الواحد منهم بولده ذلك قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومعنى السين) في (فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ)، قال المصنف: الأصل في السين التوكيد؛ لأنها في مقابلة لن، قال سيبويه: لن أفعل: نفي سأفعل.

قوله: (أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو: للتنويع لا للترديد؛ لأنه لا مانع من حمل الكلام على الوعد والوعيد معاً.

قوله: (مصدر مؤكد) أي: مؤكد لنفسه؛ لأن ما قبله وهو قوله تعالى: (آمَنَّا بِاللَّهِ) إلى آخر الآية دال على ما يدل عليه "صبغة الله".

قوله: (كما انتصب (وَعَدَ اللَّهُ) عما تقدمه)، وهو قوله:(يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)[الروم: 4 - 5].

ص: 121

الآن صار نصرانياً حقاً، فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم:(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)، وصبغنا الله بالإيمان صبغة لا مثل صبغتنا، وطهرنا به تطهيراً لا مثل تطهيرنا؛ أو يقول المسلمون: صبغنا الله بالإيمان صبغته ولم نصبغ صبغتكم، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريقة المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلاً يصطنع الكرام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فأمر المسلمون بأن يقولوا لهم)، هذا على تقدير أن يكون (قُولُوا) خطاباً للكافرين.

قوله: (أو يقول المسلمون) هذا على تقدير أن يكون (قُولُوا) خطاباً للمؤمنين.

قوله: (يصطنع الكرام)، الجوهري: اصطنعت فلاناً لنفسي، وهو صنيعي: إذا اصطنعته وخرجته، وقال: خرجه في الأدب فتخرج، وهو خريج فلان. وقيل: معناه: يصطنع فعل الكرام أو يصطنع نفس الكرام على المبالغة، والمشاكلة واقعة بين فعل الغارس وقول القائل: اغرس، فإن المراد بقوله:"اغرس غرس الكريم" أي: أحسن إحسانه. فلولا فعل الغارس لم يحسن منه كما يغرس فلان، كما أن قوله:(صِبْغَةَ اللَّهِ) مشاكل لفعل النصارى وإن لم يوجد منهم قول، وقال الزجاج: يجوز أن يكون (صِبْغَةَ اللَّهِ) بمعنى: خلقة الله الخلق، أي: أن الله تعالى ابتدأ الخلقة على الإسلام لقوله تعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)[الروم: 30]، وقول الناس: صبغ الثوب إنما هو تغيير لونه وخلقته.

وقال القاضي: أي: صبغنا الله صبغته، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، فإنها حلية الإنسان كما أن الصبغة حلية المصبوغ، أو: هدانا هدايته وأرشدنا حجته، أو: طهر قلوبنا بالإيمان تطهيره وسماه صبغة؛ لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ، وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ الثوب.

ص: 122

(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً)، يعني: أنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم به من أوضار الكفر فلا صبغة أحسن من صبغة الله. وقوله: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) عطف على (آمَنَّا بِاللَّهِ)، وهذا العطف يرد قول من زعم أن (صِبْغَةَ اللَّهِ) بدل من (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، أو نصب على الإغراء بمعنى: عليكم صبغة الله؛ لما فيه من فك النظم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: فعلى هذا القول لا يكون مشاكلة، بل يكون استعارة مصرحة تحقيقية، والقرينة إضافتها إلى الله تعالى، والجامع على الأول- أي: على أن يراد بالصبغة: الحلية- التأثر والظهور على السيما، وعلى الوجوه الثلاثة الجامع الظهور والبيان، وهذا التأويل أظهر وأنسب من المشاكلة؛ لأن الكلام عام في اليهود والنصارى كما سبق تقديره، وتخصيصه بصبغ النصارى لا وجه له، ولأن قوله:(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)[البقرة: 93] عبارة عن حب عبادة غير الله. قال المصنف: "معناه: تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ"، فكذا ينبغي في عبادة الملك العلام، وأنشد السجاوندي:

وصبغة همدان خير الصبغ

أي: مكارمهم ظاهرة في روائهم.

قوله: (يرد قول من زعم أن (صِبْغَةَ اللَّهِ) بدل من (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) أو نصب على الإغراء

لما فيه من فك النظم)، قال الواحدي: صبغة الله: نصب على الإغراء.

ص: 123

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونقل محيي السنة عن الأخفش: هي بدل من قوله: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، وقال أبو البقاء: انتصابه بفعل محذوف، أي: اتبعوا دين الله.

وقال الزجاج: صبغة الله: منصوبة على قوله: "بل نتبع ملة إبراهيم"، أي: نتبع صبغة الله، أو على: بل نكون أهل صبغة الله.

وقال القاضي: قوله: (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) عطف على (آمَنَّا)، وذلك يقتضي دخول قوله:(صِبْغَةَ اللَّهِ) في مفعول (قُولُوا آمَنَّا)، ولمن نصبها على الإغراء أو البدل أن يضمر (قُولُوا) معطوفاً على "الزموا" أو "اتبعوا"(مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)، و (قُولُوا آمَنَّا): بدل "اتبعوا" حتى لا يلزم فك النظم وسوء الترتيب.

وقلت: المراد أن العطف مانع من جعل (صِبْغَةَ اللَّهِ) نصباً على الإغراء. فنقدر: الزموا صبغة الله وقولوا: نحن له عابدون، ليصح، وكذا يقدر: اتبعوا ملة إبراهيم، أي: صبغة الله وقولوا: نحن له عابدون، والحق أن كلاً من قوله تعالى:(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)، (وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)، (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ): اعتراض وتذييل للكلام الذي عقب به، مقول على ألسنة العباد بتعليم الله تعالى، لا عطف، وتحريره: أن قوله: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) مناسب (لآمَنّا"، أي: نؤمن بالله وبما أنزل على الأنبياء ونستسلم له وننقاد لأوامره ونواهيه، وقوله: (وَنَحْنُ لَهُ

ص: 124

وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه، وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام.

[(قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ* أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) 139 - 141]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عَابِدُونَ) ملائم لقوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ)؛ لأنها دين الله، فالمصدر كالفذلكة لما سبق من الإيمان والإسلام، وقوله:(وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) موافق لقوله: (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ)، وفي ذكر هذا المعنى بعد ذلك ترتيب أنيق؛ لأن الإخلاص شرط في العبادة، وفيه لمحة من حديث جبريل عليه السلام حين سأل عن الإحسان بعد سؤاله عن الإيمان والإسلام، ومثل هذا النظم يفوت مع تقدير الإغراء والبدل، ويجوز على هذا أن تقع كل واحدة من هذه الجمل الثلاث حالاً عما قبلها، ونظيره قوله في قوله:(وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) في قوله: (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ)، وأن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، والله أعلم.

قوله: (والقول ما قالت حذام)، أوله:

إذا قالت حذام فصدقوها

فإن القول ما قالت حذام

حذام: امرأة حذرت قومها من غارة فأنكروا، فلما نزلت بهم الغارة قالوا: صدقت حذام، فضرب به مثلاً.

ص: 125

قرأ زيد بن ثابت: (أتحاجونا) بإدغام النون، والمعنى: أتجادلوننا في شان الله واصطفائه النبي من العرب دونكم، وتقولون: لو أنزل الله على واحد لأنزل علينا وترونكم أحق بالنبوة منا، (وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) نشترك جميعاً في أننا عباده، وهو ربنا، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده، هم فوضى في ذلك لا يختص به عجمي دون عربي إذا كان أهلاً للكرامة. (وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) يعني أن العمل هو أساس الأمر، وبه العبرة، وكما أن لكم أعمالاً يعتبرها الله في إعطاء الكرامة ومنعها فنحن كذلك، ثم قال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمعنى: أتجادلوننا في شأن الله واصطفائه النبي من العرب؟ )، فإن قلت: كيف قيد المطلق، وهو (فِي اللَّهِ) بقيد النبوة وليست ثم قرينة التقييد؟ قلت: القرينة قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ) والكلام تعريض باليهود وأنهم كتموا ما في التوراة من دلائل النبوة وما عهد إليهم أن يظهروها ولا يكتموها، وهم ما اكتفوا بالكتمان، بل حاولوا المجادلة في كونهم أحق بالنبوة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قلت: فأين قرينة تخصيص أنهم أحق بها منه؟ قلت: قوله: (رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) الآية؛ لأن هذا إنما يستقيم جواباً إذا كانوا قد ادعوا النبوة بالأحقية، وتقرير الجواب: نحن وأنتم مستوون في كوننا عبيد الله وفي أن لكم أعمالاً ولنا أعمالاً، ولنا مزية عليكم بالإخلاص من حيث التوحيد الصرف والأعمال الخالصة، وإليه الإشارة بقوله:"فجاء بما هو سبب الكرامة".

قوله: (هم فوضى في ذلك)، الأساس: ما لهم فوضى بينهم: مختلط، من أراد منهم شيئاً أخذ، وبنو فلان فوضى: مختلطون لا أمير عليهم، قال:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

ص: 126

(وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) فجاء بما هو سبب الكرامة، أي: نحن له موحدون نخلصه بالإيمان، فلا تستبعدوا أن يؤهل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوة، وكانوا يقولون: نحن أحق بأن تكون النبوة فينا؛ لأنا أهل كتاب، والعرب عبدة أوثان. (أَمْ تَقُولُونَ) يحتمل فيمن قرأ بالتاء أن تكون "أم" معادلة للهمزة في (أَتُحَاجُّونَنَا) بمعنى: أي الأمرين تأتون؛ المحاجة في حكم الله، أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ ! والمراد بالاستفهام عنهما إنكارهما معاً؛ وأن تكون منقطعة بمعنى: بل أتقولون، والهمزة للإنكار أيضاً، وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلا منقطعة بمعنى: بل أتقولون، والهمزة للإنكار أيضاً، وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلا منقطعة. (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ): يعني: أن الله شهد لهم بملة الإسلام في قوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً)[آل عمران: 67]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فيمن قرأ بالتاء) أي الفوقاني: ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي، والباقون: بالياء.

قوله: (لا تكون إلا منقطعة)، وذلك أن المتصلة تقتضي المساواة بين ما يلي الهمزة وأم، والمنقطعة لا تقتضيها، وها هنا أن أهل الكتاب لما خوطبوا بقوله:(أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) ثم جعلوا غائبين بقوله: (أَمْ يَقُولُونَ) انتفت المساواة؛ لأن المخاطبين حينئذ غيرهم، لأنه تعالى- بسبب تلك المجادلة الفظيعة، وهي قولهم:"نحن أحق بالنبوة من محمد صلوات الله عليه"- انتقل من خطابهم إلى النعي عليهم بخطاب غيرهم كالمخبر لهم ويستدعي منهم الإنكار عليهم، كقوله تعالى:(حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ)[يونس: 22]، ولا يحسن في المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطب إلى غيره كما يحسن في المنقطعة.

ص: 127

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ) أي: كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية. ويحتمل معنيين أحدهما: أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم؛ لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها. والثاني: أنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا فلا نكتمها. وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد بالنبوة في كتبهم وسائر شهاداته. و (مِنَ) في قوله: (شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ) مثلها في قولك: هذه شهادة مني لفلان؛ إذا شهدت له، ومثله (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة: 1]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويحتمل معنيين)، أي: قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً).

أحدهما: أن يراد بـ "من كتم": أهل الكتاب وأنهم لما كانوا ظالمين ثابتين عليه، صدرت الجملة بـ "إن" المؤكدة وأتي بالخبر مقروناً بـ "لا" الاستقرائية، فقيل: إن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم.

وثانيهما: أن يراد به المسلمون، فمعناه: إنا لو كتمنا هذه الشهادة لم يكن أحد أظلم منا، فإنهم حين برئت ساحتهم عن نزول الظلم فيها جيء بـ "لو" المفيدة للشك، يعني: لو فرضنا الظلم كما تفرض المحالات، كان كَيْتَ وكَيْت، واعتبار النفي في المثالين مستفاد من الاستفهام المولد للتعجب، وذلك أن قوله:(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً) الآية، كالتذييل للكلام السابق، فإذا أريد بها شهادة أهل الكتاب كان تأكيداً لمضمون قوله:(أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا) إلى آخره؛ وأنه في معنى كتمان الشهادة، وإن عنى بها شهادة المسلمين كان تقريراً لما اشتمل عليه (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) إلى قوله:(وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) لأنه في معنى إظهار الشهادة منهم.

قوله: (وفيه تعريض) أي: في المعنى الثاني دون الأول لأنه تصريح.

قوله: (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ)، قال المصنف: "ومن: لابتداء الغاية متعلق بمحذوف وليس

ص: 128

[(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) 142 - 143]

(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ): الخفاف الأحلام، وهم اليهود؛ لكراهتهم التوجه إلى الكعبة، وأنهم لا يرون النسخ. وقيل: المنافقون؛ لحرصهم على الطعن والاستهزاء. وقيل: المشركون؛ قالوا: رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها، والله ليرجعن إلى دينهم. فإن قلت: أي فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت: فائدته: أن مفاجأة المكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بصلة كما في قولك: برئت من الدين، والمعنى: هذه براءة واصلة من الله وروسله إلى الذين عاهدتم، كما تقول: كتاب من فلان إلى فلان، فعلى هذا تقدير الكلام: شهادة كائنة من الله تعالى لمحمد صلوات الله عليه بالنبوة.

قوله: ((السُّفَهَاءُ): الخفاف الأحلام) قال صاحب "الفرائد": السفيه: الذي يعمل بغير دليل، إما أن لا يلتفت إلى دليل ولا يتوقف إلى أن لاح له، بل يتبع هواه، أو أن يرى غير الدليل دليلاً.

وقلت: المناسب أن يجعل تعليل تسمية اليهود بالسفهاء كراهتهم التوجه للكعبة بناءً على أنهم لا يلتفتون على الدليل، وهو حال النبي ذي القبلتين على ما في التوراة، ويتبعون أهواءهم بأخذ الرشى على الكتمان، وتسمية المشركين بالسفهاء لأجل أنهم لا يرون الدليل دليلاً لقولهم: رغب عن ملة آبائه، وما يدرون ما توجبه الحكمة والمصلحة من الفوائد.

ص: 129

لما يتقدمه من توطين النفس، وان الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، وأرد لشغبه، وقبل الرمي يراش السهم. (مَا وَلاَّهُمْ): ما صرفهم (عَنْ قِبْلَتِهِمْ)؛ وهي بيت المقدس. (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)، أي: بلاد المشرق والمغرب والأرض كلها. (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) من أهلها (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو ما توجبه الحكمة والمصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس، وأخرى إلى الكعبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم)، الانتصاف: ولهذا أدرج النظار في أثناء مناظرتهم العمل بالمقتضى الذي هو كذا، السالم عن معارضة كذا، فيسلفون ذكر المعارض قبل ذكر الخصم له، وهذه الآية من أحسن ما يستدل به عليه.

قوله: (قبل الرمي يراش السهم) قال الميداني: يضرب في تهيئة الآلة قبل الحاجة إليها.

قوله: (وهو ما توجبه الحكمة): بيان لقوله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) والضمير يعود إلى الهداية التي يدل عليها (يَهْدِي)، وذكر باعتبار الخبر وذلك "ما"، ويدل على كونه بياناً إيقاع "من توجيههم" بياناً لقوله:"ما توجبه"، أي: الهداية على صراط مستقيم، توجههم تارة إلى بيت المقدس، وأخرى إلى الكعبة.

قال القاضي: القبلة في الأصل للحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال، فصارت عرفاً للمكان المتوجه نحوه للصلاة، وهذا المكان لا يختص به مكان دون مكان لخاصية ذاتية تمنع إقامة غيره مقامه، وغنما العبرة بارتسام أمره لا بخصوص المكان.

ص: 130

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ) ومثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم (أُمَّةً وَسَطاً): خياراً، وهي صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء؛ ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ونحوه: قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنطوا الثبجة" يريد الوسيطة بين السمينة والعجفاء؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومثل ذلك الجعل العجيب)، يريد أن الكاف منصوب المحل على المصدر، وأن معنى المثل الذي يعطيه الكاف هو الصفة والحالة لا النظير والشبيه، والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله تعالى:(يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وهو الأمر العجيب الشأن، وذلك أنهم لما طعنوا بقوله:(مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ) جيء بقوله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) جواباً له، وجعل (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) توطئة للجواب، قالوا: أي شيء ولاهم عن قبلتهم؟ فأجيبوا: هداية الله اختصتهم بهذه التولية ومنحتهم الصراط المستقيم، وهو نظير قوله:(يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)[النور: 35]، فعلم من قوله:(مَنْ يَشَاءُ) تعظيم المسلمين، وأنهم المختصون بهذا الفضل دون سائر الناس، ومن قوله:(صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) تعظيم التوجيه إلى القِبلة وأنه هو النور، وهو الصراط المستقيم، يعني: كما جعلناكم في الدنيا أفضل الأمم وقبلتكم أفضل القبل جعلناكم في الآخرة شهداء على الناس تشهدون كما تشهد الأنبياء على أممهم، هذا هو الجعل العجيب الشأن، ويجوز أن يكون قوله:(قُل لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) جواباً و (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) استئنافاً لبيان الموجب، وذلك أن الإضافة في قولهم:(مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ) بمعنى اللام، ولهذا طابقه اللام في قوله:(لِلَّهِ)، أي: أي داعية دعتهم على التولي عن القِبلة التي استقبلوها من تلقاء أنفسهم، ومتابعة أهوائهم؟ فأجيب بأن ليس ذلك اختصاصاً من قِبل أنفسهم، بل كل الجهات لله عز وجل، فهو يهدي من يشاء إلى الجهة التي أرادها تعالى.

قوله: (وأنطوا الثبجة)، النهاية: الإنطاء: الإعطاء بلغة اليمن، أي: أعطوا الوسط في الصدقة لا من خيار المال ولا من رذالته، ولحقها تاء التأنيث لانتقالها من الاسمية إلى الوصفية.

ص: 131

وصفاً بالثبج؛ وهو وسط الظهر إلا أنه ألحق تاء التأنيث؛ مراعاة لحق الوصف. وقيل للخيار: وسط؛ لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والإعوار، والأوساط محمية محوطة، ومنه قول الطائي:

كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت

بها الحوادث حتى أصبحت طرفا

وقد اكتريت بمكة جمل أعرابي للحج، فقال: أعطني من سطاتهنه: أراد: من خيار الدنانير؛ أو: عدولاً؛ لأن الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والإعوار)، الأساس: أعور الفارس: إذا بدا فيه عورة، أي: خلل، وقد أعور لك الصيد وأعورك: أمكنك للضرب.

قوله: (قول الطائي)؛ أي: أبي تمام، وهو: حبيب بن أوس الطائي، يمدح المعتصم في فتح عمورية.

قوله: (ليس إلى بعضها أقرب من بعض)، المغرب: الوسط، بتحريك العين: ما بين طرفي الشيء كمركز الدائرة، وبالسكون: اسم مبهم لداخل الدائرة مثلاً، ولذلك كان ظرفاً، فالأول يجعل مبتدأ وفاعلاً ومفعولاً به، وداخلاً عليه حرف الجر، ولا يصح شيء من هذا في الثاني، ويوصف بالأول مستوياً فيه: المذكر والمؤنث والاثنان والجمع، قال تعالى:(جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)، وقد يبنى منه أفعل التفضيل، قال تعالى:(مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ)[المائدة: 89]، (وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) [البقرة: 238].

وقول المصنف: "عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض" إشارة إلى أنه كالمركز للدائرة.

ص: 132

(لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) روي: أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا، وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيشهدون، فتقول الأمم: من أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق، فيؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله تعالى:(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً)[النساء: 41]. فإن قلت: هلا قيل: لكم شهيداً، وشهادته لهم لا عليهم! قلت: لما كان الشهيد كالرقيب والمهيمن على المشهود له؛ جيء بكلمة الاستعلاء، ومنه قوله تعالى:(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[المجادلة: 6]، (كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة: 117]. وقيل: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) في الدنيا فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال القاضي: (وَسَطاً) في الأصل: اسم المكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب، ثم استعير للخصال المحمودة لوقوعها بين طرفي إفراط وتفريط، كالجود بين الإسراف والبخل، والشجاعة بين التهور والجبن، ثم أطلق على المتصف بها، واستدل به على أن الإجماع حجة، إذ لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لا نثلمت به عدالتهم.

وقال الزجاج: يقال: هو من أوسط قومه، أي: من خيارهم، والعرب تصف الفاضل النسب بأنه من أوسط قومه، على التمثيل، فتمثل القبيلة بالوادي والقاع، فخير الوادي وسطه، فيقال: هذا من وسط قومه، ومن وسط الوادي، أي: من خير مكان فيه.

قوله: (فهلا قيل: لكم شهيداً). هذا السؤال وارد على تأويله، وهو قوله:"فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم"، يعني أن "شهد عليه" أكثر ما تستعمل فيما فيه مضرة، كما أن

ص: 133

(وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) يزكيكم ويعلم بعدالتكم. فإن قلت: لم أخرت صلة الشهادة أولاً وقدمت آخراً؟ قلت: لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"شهد له" فيما فيه منفعة، ولو أريد ما ذهبت إليه لقيل: ويكون الرسول لكم شهيداً، وأجاب: أن الشهيد هنا ضمن معنى الرقيب، فعدي تعديته بـ "على"، وإنما أوجب ذلك مقام المدح، وهو قوله:(جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)، روينا عن البخاري والترمذي وابن ماجة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجيء نوح وأمته، فيقول الله: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نذير، فيقول لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهد أنه قد بلغ، وهو قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) الآية".

قال صاحب "الانتصاف": من عليهم بثبوت كونهم شهداء على الناس أولاً، وثانياً: بثبوت كونهم مشهوداً لهم بالتزكية، خصوصاً من هذا الرسول المعظم، وقال أيضاً: وصف عيسى الرب عز وجل بالرقيب أولاً وبالشهيد ثانياً في قوله: (كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)[المائدة: 117] مع اتحاد معناهما، كما تقول: كنت محسناً إلينا وأنت محسن إلى كل واحد، خص ثم عم، فبذلك تم استدلال الزمخشري.

وقلت: التحقيق فيه ما قررناه أن شهد عليه إنما تستعمل فيما فيه مضرة المشهود عليه، وأوجب ها هنا مقام المدح الحكم بالعكس، وأن يضمن الشهيد معنى الرقيب والمهيمن ليفيد معنى التزكية؛ لأن المزكي لابد أن يكون مراقباً على أحوال المزكى، فإذا شاهد منه ما اقتضى الصلاح والرشد والهداية لا يشهد إلا بعدالته ولا يصدر منه إلا تزكيته، ففي الكلام تضمين ثم كناية، والله أعلم.

ص: 134

اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم. (الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا) ليست بصفة للقِبلة، إنما هي ثاني مفعولي "جعل"، يريد: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة؛ تألفاً لليهود، ثم حول إلى الكعبة، فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة، يعني وما رددناك إليها؛ إلا امتحاناً للناس وابتلاء؛ (لِنَعْلَمَ) الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص (عَلَى عَقِبَيْهِ)؛ لقلقه فيرتد، كقوله:(وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الآية [المدثر: 31]،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم) وهو من باب قصر الفاعل على المفعول، أي: لا تتجاوز تزكية الرسول صلى الله عليه وسلم والشهادة بعدالة أحد سواهم.

قوله: (التي يجب) بالجيم، وفي نسخة: بالحاء المهملة، وهي صفة القِبلة.

قوله: (الثابت على الإسلام). معناه: الثابت على الصراط المستقيم الذي هو وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، دل عليه قوله:"ممن هو على حرف" أي: على طرف من طرفي العدل، وليس في الوسط، فيزل بأدنى شيء.

قوله: (ينكص (عَلَى عَقِبَيْهِ)). ينكص: خبر بعد خبر، والنكوص: الإحجام عن الشيء، الراغب: إن قيل: كيف يتصور حقيقة انقلاب الإنسان على عقبيه؟ الجواب من وجهين:

أحدهما: أن الإنسان متدرج في الفضيلة واكتساب المعرفة درجةً درجةً إلى حين الكمال، فإن حكمه في بطن أمه حكم النبات، ثم يصير في حكم الحيوان، ثم بعد الولادة يصير في حكم الإنسان باكتساب العلم والعمل حتى يرقى إلى أعلى المدارج، ومتى اخل بمرتبة وصل إليها ورجع عنها فقد انقلب على عقبيه.

وثانيهما: أن الله تعالى أنشأ الأديان، فما زال يتمها شيئاً فشيئاً حتى كملها بنبينا صلوات الله عليه كما قال تعالى:(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)[المائدة: 3]، فمن أنعم عليه بأن أوجده بعد

ص: 135

ويجوز أن يكون بياناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلته يعني: أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وأن استقبالك بيت المقدس كان أمراً عارضاً لغرض، وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس لنمتحن الناس، وننظر من يتبع الرسول منهم ومن لا يتبعه وينفر عنه. وعن ابن عباس رضي الله عنه: كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه. فإن قلت: كيف قال: (لِنَعْلَمَ) ولم يزل عالماً بذلك؟ قلت: معناه: لنعلمه علماً يتعلق به الجزاء؛ وهو أن يعلمه موجوداً حاصلاً، ونحوه:(وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آل عمران: 142]. وقيل: ليعلم رسول الله والمؤمنون، وإنما أسند علمهم إلى ذاته؛ لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده. وقيل: معناه: لنميز التابع من الناكص، كما قال الله تعالى:(لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ)[الأنفال: 37]،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعثته وأدرك تلك السعادة، ثم رغب عنه مائلاً إلى ما قبله من الشرائع المنسوخة فقد انقلب على عقبيه.

قوله: (ويجوز أن يكون بياناً) أي: قوله: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ) إلى آخره، وهو عطف على قوله:" (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ): الجهة التي كنت عليها"، وعلى الأول كان بياناً للحكمة في جعل الكعبة قبلة، تقريره: أنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بأن يصلي إلى الكعبة ثم أمر بالتحويل إلى بيت المقدس، ثم أعيد إلى ما كان أولاً وهي الكعبة، فالمخبر به الجعل الناسخ، وهي الجهة التي كان عليها، يعني: ما رددناك إلى ما كنت عليه إلا لابتلاء الناس، وعلى الثاني: كان صلى الله عليه وسلم مأموراً بأن يصلي إلى بيت المقدس، ثم أمر بأن يتحول إلى الكعبة، فالمخبر به الجعل المنسوخ، يعني أنت الآن على ما ينبغي أن تكون عليه، وما كنت عليه قبل هذا كان أمراً عارضاً.

قوله: (لنعلمه علماً يتعلق به الجزاء)، وهو أن نعلمه موجوداً حاصلاً.

ص: 136

فوضع العلم موضع التمييز؛ لأن العلم به يقع التمييز. (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال القاضي: هذا العلم وأشباهه باعتبار التعلق الحالي الذي هو مناط الجزاء، والمعنى: يتعلق علمنا به موجوداً. وتحقيقه ما ذكره الزجاج: أن الله عز وجل يعلم من يتبع الرسول ممن لا يتبع قبل وقوعه، وذلك العلم لا يوجب مجازاة في ثواب ولا عقاب، ولكن المعنى: ليعلم ذلك منهم شهادة، فيقع عليهم بذلك العلم اسم المطيعين واسم العاصين، فيتعين ثوابهم على قدر عملهم، وتكون معلومة في حال وقوع الفعل منهم شهادة، كقوله تعالى:(عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)[التغابن: 18]، فعلمه به قبل وقوعه غيب، وعلمه به حال وقوعه شهادة، وهذا يبين كل ما في القرآن مثله.

وقال الإمام: المسلمون اتفقوا على أنه تعالى عالم بالجزئيات كلها قبل وقوعها، ثم قال أبو الحسين البصري من المعتزلة: العلم يتغير عند تغير المعلوم؛ لأن العلم بكون العالم غير موجود وأنه سيوجد لو بقي حال وجود العالم لكان جهلاً، وإلا لوجب التغير، وقال أهل السنة: لا يلزم التغير؛ لأن عند إيجاد العالم انقلب ذلك العلم علماً بأنه قد حدث ولم يلزم حدوث علم الله تعالى، ونظيره الإخبار بقوله:(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)[الفتح: 27]، فلما دخلوه انقلب ذلك الخبر إلى هذا من غير أن يتغير الخبر الأول.

قوله: (لأن العلم به يقع التمييز)، هذا موافق لقول من قال: العلم صفة توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض، فهو من باب إطلاق السبب على المسبب.

ص: 137

هي "إن" المخففة التي تلزمها اللام الفارقة، والضمير في (كَانَتْ) لما دل عليه قوله:(وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا) من الردة أو التحويلة أو الجعلة، ويجوز أن يكون للقبلة. (لَكَبِيرَةً): لثقيلة شاقة (إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ): إلا على الثابتين الصادقين في إتباع الرسول، الذين لطف الله بهم وكانوا أهلاً للطفه.

(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أي: ثباتكم على الإيمان، وأنكم لم تزلوا ولم ترتابوا، بل شكر صنيعكم، وأعد لكم الثواب العظيم. ويجوز أن يراد: وما كان الله ليترك تحويلكم؛ لعلمه أن تركه مفسدة وإضاعة لإيمانكم. وقيل: من كان صلى إلى بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة. عن ابن عباس رضي الله عنه: لما وجه رسول الله إلى الكعبة قالوا: كيف بمن مات قبل التحويل من إخواننا؟ فنزلت. (لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ): لا يضيع أجورهم ولا يترك ما يصلحهم. ويحكى عن الحجاج: أنه قال للحسن: ما رأيك في أبي تراب؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إلا على الثابتين الصادقين)، وإنما فسر (الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) بالثابتين؛ لأنه مقابل لقوله تعالى:(مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)، ويعلم من المفهوم أنها كبيرة على المتزلزلين المرادين من قوله تعالى:(مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ).

قوله: (عن ابن عباس رضي الله عنه: لما وجه)، عن الترمذي وأبي داود والدارمي، عن ابن عباس: لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ).

قوله: (ما رأيك في أبي تراب؟ )، عنى به علياً رضوان الله عليه، منقصة له وحطاً لمنزلته، روى ابن عبد البر في "الاستيعاب"، أنه قيل لسهل بن سعد: إن أمير المؤمنين يريد أن يبعث

ص: 138

فقرأ قوله: (إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ)، ثم قال: وعلي منهم، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وختنه على ابنته، وأقرب الناس إليه، وأحبهم. وقرئ:(إلا ليعلم) على البناء للمفعول. ومعنى العلم: المعرفة.

ويجوز أن تكون (مَن) متضمنة لمعنى الاستفهام معلقاً عنها العلم، كقولك: علمت أزيد في الدار أم عمرو؟ وقرأ ابن أبي إسحاق: (على عقبيه) بسكون القاف، وقرأ اليزيدي:(لكبيرة) بالرفع، ووجهها: أن يكون "كان" مزيدة، كما في قوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إليك تسب علياً عند المنبر، فقال: أقول ماذا؟ قال: تقول: أبا تراب، فقال: والله ما سماه بذلك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على فاطمة رضي الله عنها، فقال:"أين ابن عمك؟ " فقالت: هو ذاك مضطجع في صحن المسجد، فوجده قد سقط رداؤه عن ظهره، وخلص التراب إلى ظهره، فجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول:"اجلس أبا تراب"، فوالله ما سماه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما كان اسم أحب إليه منه"، وأخرجه البخاري أيضاً مع تغيير يسير.

قوله: (وعلي منهم)، أي: هو من جملتهم وداخل تحت امتحان الله تعالى بقوله: (إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)، وهو من الذين اتبع الرسول وممن هداه الله، أي: الثابتين على الإيمان؛ لأن الناس عند نزول هذه الآيات بين التابع والناكص، ولا ارتياب أنه من التابع.

قوله: (ويجوز أن تكون (مَنْ) متضمنة لمعنى الاستفهام)، قيل: هو معطوف على قوله: "ومعنى العلم المعرفة" أي: لا يكون من أفعال القلوب، بل تكون (مَن): موصولة و (يَتَّبِعُ): صلته، يدل عليه قوله فيما سبق:"ليعلم الثابت على الإسلام الصادق فيه".

ص: 139

وجيران لنا كانوا كرام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون (مَن) استفهامية؛ لأن ذلك يوجب أن يعلق "نعلم" عن العمل، وإذا علقت عنه لم يبق لقوله:(مِمَّنْ يَنقَلِبُ) ما يتعلق به؛ لأن ما بعد كلمة الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بـ (يَتَّبِعُ)؛ لأنها في المعنى متعلقة بـ "نعلم"، وليس المعنى: أي فريق يتبع (مِمَّنْ يَنقَلِبُ)، بل (مَن يَتَّبِعُ): موصولة منصوبة بـ "نعلم"، والمعنى: ليفصل المتبع من المنقلب، وهو الذي عناه المصنف قبيل هذا:"لنميز التابع من الناكص"، ويمكن أن يعلق بـ (يَتَّبِعُ) على أنه حال من فاعله، أي: لنعلم أي فريق يتبع الرسول مميزاً ممن ينقلب على عقبيه.

قوله: (وجيران لنا كانوا كرام). أوله:

فكيف إذا مررت بدار قوم

قال سعدان: قال الأصمعي: أنشد الفرزدق القصيدة التي مستهلها:

قفا يا صاحبي بنا لعنا

نرى العرصات أو أثر الخيام

فلما بلغ: كانوا كرام، قال الحسن البصري: يا أبا فرسا، كراماً، قال الفرزدق: ما ولدتني إذاً إلا ميسانية إن جاز ما قلت يا أبا سعيد، وفي "المغرب": ميسان: قرية من قرى العراق.

ص: 140

والأصل: وإن هي لكبيرة، كقولك: إن زيد لمنطلق. ثم وإن كانت لكبيرة، وقرئ:(ليضيع) بالتشديد.

[(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ) 144 - 145].

(قَدْ نَرَى) ربما نرى، ومعناه: كثرة الرؤية، كقوله:

قد أترك القرن مصفراً أنامله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أراد: أني لم أكن إذاً من العرب، بل أكون من المولدين.

قوله: ((قَدْ نَرَى) معناه: ربما نرى)، اعلم أن لفظة "قد" قد يعنى بها ضدها لمجانسة بين الضدين، ومثله "رب" للتقليل، ثم تستعار للتكثير، قال:

فإن تمس مهجور الفناء فربما

أقام به بعد الوفود وفود

قوله: (قد أترك القرن مصفراً أنامله)، تمامه:

كأن اثوابه مجت بفرصاد

القرن: من هو مثلك في الشجاعة، مصفراً أنامله، أي: مقتولاً خرجت روحه فاصفرت أصابعه، مجت: من مج الرجل الماء من فيه، أي: رمى، والفرصاد: التوت، أي: مجت بماء فرصاد، أي: صب عليها كما يصب الماء من الفم.

ص: 141

(تَقَلُّبَ وَجْهِكَ): تردد وجهك، وتصرف نظرك في جهة السماء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة؛ لأنها قِبلة أبيه إبراهيم، وأدعى للعرب إلى الإيمان؛ لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم؛ ولمخالفة اليهود، فكان يراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل. (فَلَنُوَلِيَنَّكَ): فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها، من قولك: وليته كذا؛ إذا جعلته والياً له؛ أو: فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولمخالفة اليهود): عطف على: (لأنها قبلة أبيه).

قوله: (فكان يراعي نزول جبريل [عليه السلام] والوحي بالتحويل)، قال القاضي: وذلك يدل على كمال أدبه حيث انتظر ولم يسأل.

قوله: (أو: فلنجعلنك تلي سمتها)، الأساس: السمت: النحو والطريق، وسامته مسامتة وتسمته: تعهده وقصد نحوه.

هذا الوجه وإن كان موافقاً لقوله: (فَوَلِّ) لكن الأول أقضى لحق ما يستدعيه قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) ليؤذن أن الله تعالى يسارع في رضاه ويملكه ما يتمناه، كما قالت عائشة رضي الله عنها: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك، الحديث، أخرجه الشيخان وغيرهما.

قال القاضي: خص الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطاب تعظيماً له وإيجاباً لرغبته، ثم عم تصريحاً بعموم الحكم وتأكيداً لأمر القبلة، وتحضيضاً للأمة على المتابعة.

ص: 142

(تَرْضَاهَا): تحبها وتميل إليها؛ لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تَرْضَاهَا): تحبها). أي: الرضا مجاز عن المحبة، الراغب: قيل: لم يقصد بقوله: (تَرْضَاهَا) أنك ساخط للقبلة التي كنت عليها، بل إنه صلى الله عليه وسلم ألقي في روعه أن الله تعالى يريد تغيير القبلة، وكان يتشوقه ويحبه، وقيل: تحبها؛ لأن مرادك لم يخالف مرادي، وهذه المنزلة يشير إليها أولو الحقائق، ويذكرون أنها فوق التوكل؛ لأن قضية المتوكل: الاستسلام لما يجري عليه من القضاء كأعمى يقوده بصير، وهذه المنزلة هي أن يحرك الحق سره بما يريد فعله، وعن ابن عباس أنه أحبها اقتداء بإبراهيم عليه السلام. وعن الزجاج: أحبها لاستدعاء العرب لها.

فكل هذه الإرادات صحيحة، وفي تطلعه الوحي المنزل دون الطلب تنبيه على حسن أدبه صلوات الله عليه حيث انتظر ولم يسأل، فالولي الذي قد حصلت له قربة قد تنقص قربته بالمسألة، كما جاء في الحديث القدسي:"من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".

قال أمية بن أبي الصلت:

إذا أثنى عليك المرء يوماً

كفاه من تعرضك الثناء

ص: 143

ووافقت مشيئة الله وحكمته. (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ): نحوه، قال:

وأطعن بالقوم شطر الملوك

وقرأ أبي: (تلقاء المسجد الحرام) وعن البراء بن عازب: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم وجه إلى الكعبة. وقيل: كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ): نحوه)، قال الزجاج: يقال: هؤلاء القوم مشاطرونا، أي: دورهم تتصل بدورنا.

وقال القاضي: الشطر في الأصل: لما انفصل عن الشيء، من: شطر: إذا انفصل، ودار شطور: منفصلة عن الدور، ثم استعمل لجانب الشيء وإن لم ينفصل كالقطر.

قوله: (وأطعن بالقوم شطر الملوك)، تمامه:

حتى إذا خفق المجدح

المجدح: الدبران؛ لأنه يطلع آخراً، ويسمى حادي النجوم، وتزعم العرب أنه يمطر بها، ومجاديح السماء: أنواؤها، وطعن في المفازة يطعن ويطعن: ذهب، والباء في "بالقوم": للتعدية. أي: أذهب بالقوم في زمن الجدب إلى الملوك حتى تغيب الدبران ويزول القحط فيرجعوا إلى وطنهم.

قوله: (فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً)، روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والنسائي، عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول ما قدم المدينة صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه

ص: 144

في مسجد بني سلمة، وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال؛ فسمي المسجد مسجد القبلتين. و (شَطْرَ الْمَسْجِدِ) نصب على الظرف، أي: اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد، أي: في جهته وسمته؛ لأن استقبال عين القبلة فيه حرج عظيم على البعيد.

وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين. (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ): أن التحويل إلى الكعبة هو الحق؛ لأنه كان في بشارة أنبيائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يصلي إلى القبلتين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل صلى معه، فمر على أهل مسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة، فداروا كما هم قبل البيت.

وفي رواية عن مسلم وأبي داود، عن أنس: وهم ركوع في صلاة الفجر قد صلوا ركعة، فنادى: ألا إن القبلة حولت، فمالوا كما هم نحو القبلة.

قوله: (لأن استقبال عين القِبلة فيه حرج عظيم)، الانتصاف: من قال بأن الواجب على البعيد عين الكعبة يرد عليه صحة صلاة الصف المستطيل زيادة عن سمت الكعبة، ومن قال بالجهة يلزمه أن من كان في الشمال مثلاً له أن يصلي إلى الجهات الثلاث لأنها جهات الكعبة، والسمت غير مرعي على هذا، والمختار في الفتوى أن الواجب في البعد: الجهة.

ص: 145

(يَعْمَلُونَ) قرئ بالتاء والياء. (مَا تَبِعُوا) جواب القسم المحذوف سد مسد جواب الشرط. (بِكُلِّ آيَةٍ) بكل برهان قاطع أن التوجه إلى الكعبة هو الحق. (مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)؛ لأن تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها بإيراد الحجة، إنما هو عن مكابرة وعناد مع علمهم بما في كتبهم من نعتك أنك على الحق. (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) حسم لأطماعهم؛ إذ كانوا ماجوا في ذلك وقالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم. وقرئ:(بتابع قبلتهم) على الإضافة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يَعْمَلُونَ)، قرئ بالتاء): ابن عامر وحمزة والكسائي: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء، وعلى القراءة بالتاء تذييل لقوله:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) إلى قوله: (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ووعد للمؤمنين، يعني: أن الله لا يضيع عملكم وما عقدتم به نياتكم، وعلى القراءة بالياء: وعيد لأهل الكتاب.

قوله: (سد مسد جواب الشرط)، يريد أن اللام في قوله:(وَلَئِنْ أَتَيْتَ) موطئة للقسم.

قوله: ((وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) حسم لأطماعهم)، الراغب: أي: لا يكون منك، ومحال أن يكون؛ لأن من عرف الله حق المعرفة محال أن يرتد، وقد قيل: ما رجَعَ من رَجَعَ إلا من الطريق، أي: ما أخل بالإيمان إلا من لم يصل إلى الله حق الوصول، ولم يعن بهذه المعرفة ما جعل الله للإنسان بالفطرة، فإن ذلك كشررة تهمد إذا لم تتقد.

قوله: (إذ كانوا ماجوا في ذلك)، الأساس: ومن المجاز: ماج الناس في الفتنة: اضطربوا، وهم يموجون فيها.

ص: 146

(وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) يعني أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون في شأن القبلة، لا يرجى اتفاقهم كما لا يرجى موافقتهم لك؛ وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصارى مطلع الشمس.

أخبر عز وجل عن تصلب كل حزب فيما هو فيه وثباته عليه؛ فالمحق منهم لا يزل عن مذهبه؛ لتمسكه بالبرهان، والمبطل لا يقلع عن باطله؛ لشدة شكيمته في عناده. وقوله:(وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عن تصلب كل حزب)، الأساس: ومن المجاز: فلان صلب في دينه، وقد تصلب لذلك: تشدد له.

قوله: (شكيمته)، الأساس: عض الفرس على الشكيمة والشكيم، ومن المجاز: إن فلاناً لشديد الشكيمة: إذا كان ذا حد وعارضة.

قوله: (وقوله: (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ)): مبتدأ، والخبر:"كلام وارد"، والضمير في "حاله" لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي "عنده" لله تعالى، وقوله:(في قوله) ظرف للإفصاح، يعني: مجيء قوله: (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ) بعد ما أفصح بقوله: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) يدل على أن الكلام وارد على سبيل الفرض والتقدير: إلهاباً أو تعريضاً، لئلا يلزم التنافي بين ذلك التصريح بالنفي البليغ وهذا التعليق، وإنما كان النفي بليغاً لمجيء "الباء" في الخبر، وإن "أنت" نحو مثل في قولك: مثلك لا يبخل، وجدت نحوه في تضاعيف كلامه، وإفادة ذلك من أن قوله:(وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) عطف على جواب القسم، على أن القسم منصب على المعطوفين معاً، وتحرير المعنى: والله ما مثلك في صدد الرسالة ومتبع الآيات البينات بتابع قبلة هؤلاء الجهلة الذين لا يجدي عليهم كل برهان قاطع، وإلى معنى العطف على جواب القسم ينظر.

ص: 147

- بعد الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده في قوله: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) - كلام وارد على سبيل الفرض والتقدير، بمعنى: ولئن اتبعتهم مثلاً بعد وضوح البرهان والإحاطة بحقيقة الأمر؛ (إِنَّكَ إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ) المرتكبين الظلم الفاحش.

وفي ذلك لطف للسامعين، وزيادة تحذير واستفظاع لحال من يترك الدليل بعد إنارته ويتبع الهوى،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الإفصاح عن حقيقة حاله المعلومة عنده)، يعني أنه تعالى أقسم على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بتابع قبلتهم لما علم من حقيقة حاله ذلك.

قوله: (وفي ذلك لطف للسامعين)، والمشار إليه بقوله:"ذلك" مفهوم هذه الآية وما تضمنت من التعريض والتهييج، أما التعريض فهو: أما بالنسبة إلى المؤمنين فيكون لطفاً لهم؛ لأن من بلغت منزلته إلى أقصى نهايات الكمال إذا خوطب بذلك الخطاب الهائل فالمؤمنون أحرى بأن يحذروا من متابعة ما نهى عنه، وبالنسبة إلى الكافرين يكون استفظاعاً لحالهم؛ لأن المؤمنين مع جلالتهم إذا حذروا متابعة أهوائهم أشد التحذير فكيف بالكافر الذي ركب هواه وكان خليعاً فيه؟

الراغب: حذر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من اتباع أهوائهم، وقد أكثر الله تحذيره من الجنوح إلى الهوى، وكرر ذلك في عدة مواضع، وقول من قال: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعني به الأمة فلا معنى له؛ لأن من قدر له المنزلة الرفيعة أحوج حفظاً لمنزلته وصيانة لمكانته من الغير، وقد قيل: إن حق المرآة المجلوة أن يكون تعهدها أكثر، إذ قليل من الصدأ عليها أظهر. وهو واقع على سبيل الكناية.

قال صاحب "المفتاح": التعريض تارة يكون على سبيل الكناية، وأخرى على سبيل المجاز، فإذا قلت: آذيتني فستعرف، وأردت المخاطب، ومع المخاطب إنساناً آخر، كان من

ص: 148

وتهييج وإلهاب للثبات على الحق. فإن قلت: كيف قال: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) ولهم قبلتان؛ لليهود قبلة، وللنصارى قبلة؟ قلت: كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة.

[(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ* وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَاتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) 146 - 148].

(يَعْرِفُونَهُ): يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص. (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. وعن عمر رضي الله عنه:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قبيل الأول، وإن لم ترد المخاطب كان من قبيل الثاني، وأما التهييج فلأنه جل منصب الرسالة من ركوب الشنعاء فيكون سبباً لمزيد الثبات على الطريق المستقيم، كقوله تعالى:(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)[الزمر: 65].

قال القاضي: أكد الله تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه، وقيل: الوجوه: لام القسم، و"إن" واللام في خبرها، والجملة الاسمية، والتعبير بـ "إذاً"، ونسبة الظلم إليه، وجمعه، واستغراقه.

قوله: (وتهييج وإلهاب)، الأساس: ألهبته الأمر: أردت بذلك تهييجه وإلهابه، الجوهري: هاج هائجه، أي: ثار غضبه.

قوله: (كلتا القبلتين باطلة مخالفة لقبلة الحق، فكانتا بحكم الاتحاد)، الانتصاف: مثله (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ)[البقرة: 61] مع أنه منٌّ وسلوى؛ لأنهما من طعام المترفه.

قوله: (المعين المشخص). يروى بكسر الياء والخاء عن الأصل.

ص: 149

أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أعلم به مني بابني. قال: ولم؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي، فأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبل عمر رأسه. وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر، لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علماً معلوماً بغير إعلام. وقيل: الضمير للعلم، أو القرآن، أو تحويل القبلة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: الضمير للعلم أو القرآن أو التحويل). روى الإمام عن ابن عباس والمفسرين أن الضمير راجع إلى أمر القبلة، يعني: علماء أهل الكتاب يعرفون أمر القبلة التي تقلبك إليها كما يعرفون أبناءهم، وقال الإمام:"الأصل في الضمير أن يرجع إلى أقرب المذكورات وهو العلم في قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ)، والمراد بالعلم: النبوة، كأنه قيل: يعرفون أمر النبوة كما يعرفون أبناءهم، وأما أمر القبلة فهو ما تقدم".

وقيل: لو كان الضمير للقرآن لوجب أن يقال: يعرفونه كما يعرفون التوراة، رعاية للمناسبة، فلما قيل: كما يعرفون أبناءهم عرف أن الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم، وإليه الإشارة بقوله:" (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) يشهد للأول"، قالوا: في قوله: "جاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر" نظر؛ لأن من ابتداء قوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ) إلى هنا قد تكرر الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ)، (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ)، (مَا جَاءَكَ)، و (إِنَّكَ) نعم، فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، فكيف يقال:"وإن لم يسبق له ذكر؟ " فيقال: لم يسبق له ذكر يعني: في كلام ورد في شأنه صلوات الله عليه وسلامه؛ لأن الخطاب معه صلوات الله عليه تابع لأمر القبلة، فإن الآيات السالفة وردت في شأن القبلة، وهذه في شأن نفسه صلوات الله عليه، فليس بينهما مناسبة، ومن ثم ابتدأ بقوله:(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) من غير عاطف، فلو رجع الضمير إلى المذكور السابق لأوهم نوع اتصال ولم يحسن ذلك الحسن.

ص: 150

وقوله: (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) يشهد للأول وينصره الحديث عن عبد الله بن سلام. فإن قلت: لم اختص الأبناء؟ قلت: لأن الذكور أشهر وأعرف وهم لصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق.

وقال: (فَرِيقاً مِنْهُمْ) استثناء لمن آمن منهم، أو لجهالهم الذين قال الله تعالى فيهم:(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ)[البقرة: 78]. (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) يحتمل أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحق، أو: مبتدأ خبره (مِنْ رَبِّكَ)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتقرير النظم: أنه تعالى لما ذكر أمر القبلة وذكر قول السفهاء من أهل الكتاب وطعنهم فيه مع أنهم يعلمون أن التحويل هو الحق؛ لأنه كان مذكوراً عندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى القبلتين، جاء بهذه الآية على سبيل الاستطراد بجامع المعرفة الجلية مع الطعن فيه، والدليل على أن الآية مستطردة: قوله تعالى بعد ذلك: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)، ولناصر من ذهب إلى أن الضمير لأمر القبلة أن نظم الآي السابقة والآتية يستدعي اتحاد الضمائر؛ لأن الكلام فيها في أمر القبلة.

قوله: (لأن الذكور أشهر وأعرف)، الراغب: إنما قال (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) ولم يقل: أنفسهم؛ لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بعد انقضاء برهة من دهره، ويعرف ولده من حين وجوده، ثم في ذكر الابن ما ليس في ذكر النفس؛ لأن ابن الإنسان عصارة ذاته ونسخة صورته.

قوله: (استثناء لمن آمن منهم أو لجهالهم الذين قال الله تعالى فيهم: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ))، هذا الاستثناء معنوي لا اصطلاحي، وهو بمعنى الإخراج، وقد صرح به صاحب "المطلع" حيث قال:(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ): إخراج لمن آمن منهم أو لجهالهم.

ص: 151

وفيه وجهان: أن تكون اللام للعهد والإشارة على الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال القاضي: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) تخصيص لمن عاند، واستثناء لمن آمن، وقيل: معنى قول القاضي: أن قوله: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) يدل من حيث المفهوم أن غير ذلك الفريق لا يكتمون الحق.

وقلت: معناه: أن أهل الكتاب كانوا فرقاً ثلاثاً: فرقة يعلمون ويكتمون كابن صورياً وكعب بن الأشرف، وأخرى يعلمون ولا يكتمون كعبد الله بن سلام، وفرقة أميون، فخص الله تعالى بالذكر من الفرق الثلاث فرقة كتموا الحق، ليبقى في ذلك العام من آمن منهم أو الأميون، والحاصل أن هذا من باب عطف الخاص على العام، وتخصيصه بالحكم كقوله تعالى:(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)[البقرة: 228]، والترديد بـ "أو" في كلامه بناءً على معنى الذين آتيناهم الكتاب، فإذا اعتبر مطلق اليهود كان متناولاً للجهال أيضاً، وإذا اعتبر العارفون بالكتاب كان متناولاً لمن آمن منهم، فإن قلت: كيف يعتبر العموم وقد قيد بالمعرفة؟ فالجواب عنه ما ذكره في قوله: (وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً)[مريم: 66]، فلينظر هناك.

قوله: (وفيه وجهان). ذكر الوجهين بعد ذكر الاحتمالين يوجب أن تكون الأقسام أربعة، لكن ذكر المصنف منها وجهين فخص كلاً من التقديرين بكل من الاحتمالين، فحين جعل اللام للعهد قدر خبر مبتدأ محذوف، وحين جعلها جنساً جعل (مِنْ رَبِّكَ) الخبر، وذلك أن اللام إذا كان للعهد والمشار إليه ما سبق، وهو: إما ما عليه الرسول عليه الصلاة والسلام

ص: 152

أو إلى الحق الذي في قوله: (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) أي: هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك؛ وأن تكون للجنس على معنى: الحق من الله لا من غيره، يعني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدال عليه قوله: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)، وإما الحق الذي اشتمل عليه قوله:(لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ)، فالضمير المقدر مبتدأ راجع إلى اسم الإشارة، والخبر معرف باللام فيفيد الحصر الذي نبه عليه بقوله:"هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك"، وإذا كان للجنس فالمشار إليه ما في ذهن أهل الحق من الحق الذي هم فيه.

وذكر القاضي وجهاً آخر، وقال:(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ): كلام مستأنف مبتدأ وخبر، واللام للعهد، والإشارة على ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أو الحق الذي يكتمونه. بقي وجه آخر وهو أن تكون اللام للجنس "ويكتمون" خبر مبتدأ محذوف، فهو ممتنع، لأنه لا معنى لقولك: المذكور جنس الحق الكائن من ربك، اللهم إلا على الادعاء كما في قولك: حاتم الجواد.

وعلى التقديرين الحصر لازم، أما على العهد فكما سبق، وأما على الجنس فلأن حقيقة الحق وماهيته إذا كانت صادرة من الله تعالى لا يكون فرد من أفرادها لغيره، وإليه الإشارة بقوله:"الحق من الله لا من غيره".

قوله: (أو إلى الحق الذي في قوله: (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ))، فيه إشكال لما يؤدي إلى اتحاد الخبر والمخبز عنه، وأن التقدير: هذا الذي يكتمونه هو الذي يكتمونه، فيقال: لا ارتياب أن الحق الأول مظهر وضع موضع ضمير هو عبارة عما في "يعرفونه"، للإشعار بأن الذي يعرفونه ويكتمونه حق مبين، وهم في كتمانه على ضلال وباطل، فالمبتدأ المقدر عبارة عن المعنى، وهو شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن أو التحويل، فالإشارة باللام إلى اللفظ وهو مطلق الحق، وإليه يلمح قوله:"هذا الذي يكتمونه هو الحق"، ونظيره قوله تعالى:(فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوْ افْتَدَى بِهِ)[آل عمران: 91].

ص: 153

أن الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه، وما لم يثبت أنه من الله- كالذي عليه أهل الكتاب- فهو الباطل. فإن قلت: إذا جعلت الحق خبر مبتدأ فما محل (مِنْ رَبِّكَ)؟ قلت: يجوز أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون حالاً. وقرأ علي رضي الله عنه:(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) على الإبدال من الأول، أي: يكتمون الحق من ربك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال المصنف: "هو كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً"، فجعل ملء الأرض ذهباً في معنى الفدية، بدلالة (وَلَوْ افْتَدَى بِهِ)، وجعل الضمير في (بِهِ) راجعاً إلى لفظه لا معناه، ومرجع قوله:"الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" إلى الحق المطلق أيضاً لقوله تعالى: (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ)[النمل: 78]، وقوله:(إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ* عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[يس: 3 - 4]، ومنه الحديث:"ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة"، وسألوا: من هي يا رسول الله؟ رواه الترمذي عن ابن عمر. يعني: هذا الذي يكتمونه هو الحق المبين، فالمثال وارد على وجهي العهد، ويقال: يجوز أن يراد ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النعت والوصف الثابت في الكتابين، المعنى: هذا الذي كتموه من النعت والوصف ثابت من الله تعالى في التوراة والإنجيل، والأول أظهر لدلالة قوله:"الحق الذي عليه"، إذ لو أريد الثاني لقال: الذي فيه، يعضده قول المصنف:"يعني أن الحق: ما ثبت أنه من الله، كالذي أنت عليه" إلى آخره والله أعلم.

قوله: (وأن يكون حالاً)، فعلى هذا، المبتدأ المقدر "هذا" ليصح قوله:"الحق من ربك، على الإبدال".

ص: 154

(فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ): الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم، أو في أنه من ربك. (وَلِكُلٍّ) من أهل الأديان المختلفة (وِجْهَةٌ): قبلة، وفي قراءة أبي:(ولكل قبلة).

(هُوَ مُوَلِّيهَا) وجهه، فحذف أحد المفعولين. وقيل:(هُوَ) لله تعالى،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال المصنف: هذه القراءة تؤكد كون (مِنْ رَبِّكَ) حالاً، وتدل على أن اللام للعهد.

قوله: (أو في أنه من ربك). أي: لا تكونن من الشاكين في أنه من ربك.

قال القاضي: وليس المراد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشك فيه؛ لأنه غير متوقع منه، بل إما: تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه ناظر، أو: أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ.

قلت: الأول من باب قوله: "بشر المشائين"، والثاني: من قوله: (يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ)[الطلاق: 1]، لكن المعنى على الأول أبلغ؛ لأن الخطب من العظم بحيث لا يختص بالخطاب أحد دون أحد، وعلى الثاني: تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إمام أمته وقدوتهم اعتباراً لتقدمه وإظهاراً لمرتبته.

قوله: ((وِجْهَةٌ): قبلة). قال أبو البقاء: وجهة جاء على الأصل، والقياس جهة، والوجهة: مصدر في معنى المتوجه إليه كالخلق بمعنى المخلوق، وقال الزجاج: يقال: هذه جهة ووجهةٌ ووِجْهَةٌ.

قوله: ((هُوَ مُوَلِّيهَا) وجهه). قال الزجاج: "هو" لكل، المعنى: كل أهل وجهة هم الذين

ص: 155

أي: الله موليها إياه وقرئ: (ولكل وجهة) على الإضافة، والمعنى: وكل وجهة الله موليها، فزيدت اللام؛ لتقدم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولوا وجوههم إلى تلك الجهة، وقيل: هو موليها، أي: الله تعالى يولي أهل كل ملة القبلة التي يريد، فعلى التقديرين أحد مفعوليه محذوف.

قوله: (وقرئ: "ولكل وجهة" على الإضافة)، وتوجيهه: أن يقدر مضاف مثل: ولكل صاحب وجهة، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، والضمير في (مُوَلِّيهَا) راجع إلى الوجهة، أي: الله مولي الوجهة كل صاحب وجهة، "وكل": مفعول "مول"، فملا قدم أدخل اللام لضعف العامل.

قال أبو البقاء والقاضي: المعنى: وكل وجهة الله موليها أهلها، واللام مزيدة للتأكيد، أو: الضمير راجع إلى المصدر.

قال السجاوندي: المعنى: الله مولي لكل وجهة تولية، و"ها": تعود على التولية المفهومة من موليها، واللام كقوله:(لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)[يوسف: 43]؛ تم كلامه.

مثاله قول الشاعر:

هذا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب

الضمير في "يدرسه" لمصدره لا للقرآن، لأنه لو كان للقرآن لا يكون لإدخال اللام وجه؛

ص: 156

وقرأ ابن عامر: (هو مولاها) أي: هو مولى تلك الجهة، وقد وليها، والمعنى: لكل أمة قبلة تتوجه إليها منكم ومن غيركم. (فَاسْتَبَقُوا) أنتم (الْخَيْرَاتِ) واسبقوا إليها غيركم من أمر القبلة وغيره. ومعنى آخر؛ وهو أن يراد:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأن الفعل قد أخذ مفعوله، وإذا كان الضمير للمصدر يستقيم ذلك، وكذا الضمير في ضاربه للمصدر، "ولزيد": مفعوله، أي: لزيد أبوه ضارب الضرب، وإنما أورد المصنف المثالين ليشير إلى أنه يجوز أن يكون الضمير في (مُوَلِّيهَا) للوجهة، وأن يكون للمصدر الذي هو التولية.

قوله: (وقرأ ابن عامر: "هو مولاها")، قال أبو البقاء:"وهو" على هذا: ضمير الفريق، و"مولى" لما لم يسم فاعله، والمفعول الأول: الضمير المرفوع فيه، و"ها": ضمير المفعول الثاني الراجع إلى الوجهة، ولا يجوز على هذه القراءة أن يكون "هو" ضمير اسم الله تعالى لاستحالة ذلك المعنى، والجملة صفة لـ "وجهة".

قوله: (ومعنى آخر): عطف على قوله: "والمعنى: لكل أمة"، يعني: يجوز أن تكون الآية عامة في كل أهل الأديان المختلفة لقوله: "منكم ومن غيركم"، وفي كل أعمال صالحة لقوله:"من أمر القبلة وغيره"، وفي كل ما يتصل بالأعمال من الجزاء إلى الموافق والمخالف، فيكون تذييلاً لقوله:(مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ)، أي: اعلموا أن لكل حزب من اليهود والنصارى جهة يستقبلونها وهم يصلون فيها، فاستقبلوا أنتم- يا أمة محمد- الخيرات واستبقوا إليها غيركم، ويجوز أن تكون مختصة بأمة محمد صلوات الله عليه وسلامه، وهو لوجهين، أحدهما: أن يراد بالوجهة: استقبال القبلة والسبق، وثانيهما: أن يختص كل من ألفاظ الآية إلى آخرها بأمر القِبلة وما يتصل به، وحينئذ تكون الآيات التالية كعطف تفسيري لهذه الآية.

ص: 157

ولكل منكم- يا أمة محمد- وجهة، أي: جهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية. (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ). (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَاتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً) للجزاء، من موافق ومخالف، لا تعجزونه. ويجوز أن يكون المعنى: فاستبقوا الفاضلات من الجهات، وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت. (أَيْنَ مَا تَكُونُوا) من الجهات المختلفة (يَاتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً) يجمعكم ويجعل صلواتكم كأنها إلى جهة واحدة، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال القاضي: أينما تكونوا مجتمع الأجزاء ومفترقها يأت بكم الله جميعاً، أي: يحشركم الله تعالى للجزاء.

قلت: وفي تركيب "الكشاف" لف ونشر واستطراد بين، إذ لو لم يرد النشر لكان مكان قوله:" (يَاتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً) للجزاء من موافق ومخالف" قبل قوله: "ومعنى آخر" ليكون الشروع في الوجه الخاص بعد الفراغ من العام ظاهراً، ولو لم يذهب إلى الاستطراد لكان الظاهر أن يذكر الوجهان المختصان بالمؤمنين على سنن واحد، ثم يتبع لكل من العام والخاص بما يناسبهما من غير تخلل أجنبي، فلما أخر أحد وجهي الخاص عما يتعلق بالوجه العام والأول من وجهي الخاص؛ وهو (يَاتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعاً) للجزاء؛ علم أن المصنف أورد هذا الوجه استطراداً، والله أعلم.

الراغب: وفي الآية قول آخر، وهو أنه تعالى قيض الناس في أمور دنياهم وآخرتهم في أحوال متفاوتة، وجعل بعضهم أعوان بعض فيها، فواحد يزرع، وواحد يطحن، وواحد يخبز، وكذلك في أمر الدين: واحد يجمع الحديث، وآخر يطلب الفقه، والثالث يطلب الأصول، وهم في الظاهر مختارون وفي الباطن مسخرون، وإليه أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: "كل ميسر لما

ص: 158

[(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ* فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) 149 - 154].

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ): ومن أي بلد خرجت للسفر (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إذا صليت (وَإِنَّهُ) وإن هذا المأمور به

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خلق له". ولهذا سئل بعض الصالحين عن تفاوت الناس في أفعالهم فقال: كل ذلك طرق إلى الله تعالى، أراد أن يعمرها بعباده، فبين تعالى أن لكل طريقاً إذا تحرى فيه وجه الله تعالى.

قوله: ((وَإِنَّهُ) وإن هذا المأمور به). وفيه أن قوله: (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ) تذييل لقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ) نحو قولك: فلان ينطق بالحق والحق أبلج، وقوله:(وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعد وتذييل للمجموع، يعني من حقيقة هذا المأمور به وثباته أنه تعالى لا يهمل عامله ويعطيه أجره كاملاً ثابتاً ديناً ودنيا، وهذا نوع من التوكيد المعنوي، ومن ثم لما فرغ منه أتى بتوكيد لفظي حيث قال:(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ).

ص: 159

وقرئ: (يعملون) بالياء والتاء، وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة وتشديده؛ لأن النسخ من مظان الفتنة والشبهة وتسويل الشيطان، والحاجة على التفصلة بينه وبين البداء، فكرر عليهم؛ ليثبتوا ويعزموا ويجدوا؛ ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر؛ فاختلفت فوائدها. (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا) استثناء من "الناس"، ومعناه: لئلا تكون حجة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين: ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلاً إلى دين قومه وحباً لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء. فإن قلت: أي حجة كانت تكون للمنصفين منهم لو لم تحول حتى احترز من تلك الحجة ولم يبال بحجة المعاندين؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: (يعملون)، بالياء والتاء)، بالياء التحتانية: أبو عمرو، والباقون: بالتاء.

قوله: (والحاجة إلى التفصلة) يجوز أن يكون عطفاً على مدخول لام التعليل، أي: كرر لتأكيد أمر القبلة للحاجة إلى التفصلة، وأن يكون عطفاً على "الفتنة"، أي: النسخ من مظان الحاجة إلى التفصلة.

قوله: (ولأنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر)، أما أولاً: فقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) علق به قوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ)، يعني: ما كنت تحبه وتتمناه حق وصدق مكتوب في زبر الأولين، يعلمه علماؤهم وأنه من أمارة نبوتك، وأما ثانياً: فقوله: (فَوَلِّ وَجْهَكَ) علق به قوله: (لِئَلاَّ يَكُونَ)، وقوله:(وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي) بين في الأولين حقية التولية، وفي الأخير فائدتها وجدواها.

قوله: (أي حجة كانت تكون للمنصفين)، توجيه السؤال: فلما حولت القِبلة إلى الكعبة

ص: 160

قلت: كانوا يقولون: ما له لا يحول إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة؟ فإن قلتك كيف أطلق اسم الحجة على قول المعاندين؟ قلت: لأنهم يسوقونه سياق الحجة، ويجوز أن يكون المعنى: لئلا يكون للعرب عليكم حجة واعتراض في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبي العرب. (إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) على أن "ألا" للتنبيه، وقف على (حُجَّةٌ) ثم استأنف منبهاً. (فَلا تَخْشَوْهُمْ): فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم؛ فإنهم لا يضرونكم (وَاخْشَوْنِي) ولا تخالفوا أمري وما رأيته مصلحة لكم. ومتعلق اللام محذوف، معناه: ولإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك، أو يعطف على علة مقدرة، كأنه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لم يبق لليهود حجة إلا لهؤلاء المعاندين، وحجتهم داحضة، ويفهم منه أنه لو لم يحول كانت حجة المنصفين لازمة، وما تلك الحجة؟ وأجاب بما أجاب، ويجوز أن يكون من باب قوله:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

قال الزجاج: المعنى: لئلا يكون للناس حجة إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك علي حجة إلا الظلم، أي: ما لك علي حجة البتة ولكنك تظلمني، وإنما سمي ظلمه حجة لأن المحتج بها سماه حجة.

قوله: (ويجوز أن يكون المعنى: لئلا يكون): عطف على قوله: "ومعناه: لئلا يكون حجة لأحد من اليهود"، والمراد بالناس على الأول: اليهود، واعتراضهم بترك ما هو مذكور في نعته صلوات الله عليه، وعلى الثاني: العرب واعتراضهم بترك قبلة أبي العرب.

ص: 161

وقيل: هو معطوف على (لِئَلاَّ يَكُونَ)، وفي الحديث:"تمام النعمة دخول الجنة"، وعن علي رضي الله عنه: تمام النعمة الموت على الإسلام. (كَمَا أَرْسَلْنَا): إما أن يتعلق بما قبله، أي: ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول؛ أو بما بعده، أي: كما ذكرتكم بإرسال الرسول (فَاذْكُرُونِي) بالطاعة (أَذْكُرْكُمْ) بالثواب، (وَاشْكُرُوا لِي) ما أنعمت به عليكم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: هو معطوف على (لِئَلاَّ يَكُونَ). فعلى هذا، المعلل مذكور، وكذا المعطوف عليه، كأنه قيل:(فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا) ولأتم نعمتي عليكم، أي: أمرتكم بذلك لأجمع لكم خير الدارين، أما دنيا فليظهر سلطانكم على المخالفين، وأما عقبى فلنثيبنكم به الجزاء الأوفى.

قوله: (أو بما بعده). أي: (كَمَا أَرْسَلْنَا): إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده، والأول أوفق لتأليف النظم، على أن يكون (وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي) معطوفاً على قوله:(لِئَلاَّ يَكُونَ)، فترتبط الآيات على النسق الأنيق، أي: حولنا القبلة إلى الكعبة لئلا يكون لليهود حجة، ولأتم نعمتي عليكم، غذ حولتكم إلى قبلة بناها إبراهيم وإسماعيل وهما أبواكم، كما أتممت النعمة بإرسال الرسول من أنفسكم ومن ضئضئ إسماعيل، وإذا كان كذلك فاذكروني بالطاعات واشكروا هذه النعم الجليلة، وفيه تلويح إلى معنى قولهما:(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) الآية، وتنبيه أن النعمة في بعثته ودعائه العالم إلى دين الحق أعظم من نعمة تغيير القبلة إلى الكعبة لإيقاعه مشبهاً به. وقال الراغب: قيل: عنى بقوله: (مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) العلوم التي لا طريق على تحصيلها إلا بالوحي على السنة الأنبياء، وقال لبني إسرائيل:(اذْكُرُوا نِعْمَتِي)، ولهذه الأمة:(فَاذْكُرُونِي)،

ص: 162

(وَلا تَكْفُرُونِ): ولا تجحدوا نعمائي. (أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ): هم أموات بل هم أحياء، (وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) كيف حالهم في حياتهم. وعن الحسن: أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرح،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم إن النعمة في الدنيا مشوبة بالمكاره والمصائب، فإذا نالكم شيء منها فاصبروا لتكونوا شاكرين لنعمائي صابرين على بلوائي، وذلك قوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) الآية [البقرة: 153]، ولو تعلق (كَمَا أَرْسَلْنَا) بقوله:(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) لم يكن النظم بهذا الحسن.

قوله: ((وَلا تَكْفُرُونِ) ولا تجحدوا نعمائي)، الراغب: إن قيل: لم أتبع (وَاشْكُرُوا لِي) قوله: (وَلا تَكْفُرُونِ) ولم يقتصر على إحدى اللفظتين؟ قيل: لما كان الإنسان قد يكون شاكراً في شيء ما، وكافراً في غيره، فلو اقتصر على (وَاشْكُرُوا لِي لكان يجوز أن يتوهم أن من شكر مرة أو على نعمة ما فقد امتثل، ولو اقتصر على قوله: (وَلا تَكْفُرُونِ) لكان يجوز أن يتوهم أن ذلك نهي عن تعاطي قبيح دون حث على الفعل الجميل، فجمع بينهما لإزالة هذه الشبهة، ولأن في قوله:(وَلا تَكْفُرُونِ) نهياً عن الكفر المطلق، وذلك معنى زائد على (وَاشْكُرُوا لِي). فإن قيل: لِمَ لم يقل: ولا تكفروا لي ليطابق (وَاشْكُرُوا لِي)؟ قيل: لأنه يقتصر من العبد على شكل نعمه ولا يقتصر على أن لا يكفر نعمه، بل النهي عن الكفر به أكثر من النهي عن كفر نعمه، إذ قد يعفو عن كفر بعض النعم ولا يعفو عن الكفر المطلقز

قوله: ((وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) كيف حالهم في حياتهم). قال القاضي: هذا تنبيه على أن حياتهم ليست بالجسد ولا من جنس ما يحس به من الحيوانات، وإنما هي أمر لا يدرك إلا بالكشف أو الوحي، وفيها دلالة على أن الأرواح: جواهر قائمة بنفسها وأنها تبقى بعد

ص: 163

كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشياً، فيصل إليهم الوجع. وعن مجاهد: يرزقون ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها. وقالوا: يجوز أن يجمع الله من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرة. وقيل: نزلت في شهداء بدر، وكانوا أربعة عشر.

[(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) 155 - 157]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الموت دراكة، وعليه جمهور الصحابة والتابعين، وبه نطقت الآيات والسنن، وعلى هذا فتخصيص الشهداء لاختصاصهم بالقرب من الله تعالى ومزيد البهجة والكرامة.

الراغب: ذهب بعض المعتزلة إلى أن إثبات الحياة ونفي الموت في الآية: في يوم الحساب، لا في الحال، وقال: لا اختصاص لهم به، بل إنما علق الحكم بهم لأنه في ذكرهم، ولو ذكر معهم غيرهم لذكرهم، وفرع هذا على الحس، وقال: إنما نعلم أنهم في قبورهم لا يأكلون ولا يشربون، وهذا التأويل قد نفاه الله تعالى بقوله:(وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ) أي: لا تحسون ولا تدركون ذلك بالمشاعر، أي: بالحواس، تنبيهاً على أن ذلك مما السبيل إليه أمر آخر وهو أن الإنسان متى كان محسناً كان روحه منعماً إلى يوم القيامة، وإن كان مسيئاً كان به معذباً، وإلى هذا ذهب جماعة الصحابة والتابعين وأصحاب الحديث. ويؤيده آيات وأحاديث، منها: قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)[الأعراف: 172]، وقوله:(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً)، لقوله بعده:(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ)[غافر: 46]، ومنها:

ص: 164

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ): ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم: هل تصبرون وتثبتون على ما أنتم عليه من الطاعة وتسلمون لأمر الله وحكمه أم لا؟ (بِشَيْءٍ): بقليل من كل واحد من هذه البلايا وطرف منه. (وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ) المسترجعين عند البلاء؛ لأن الاسترجاع تسليم وإذعان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف"، وقوله: في أصحاب قليب بدر: "ما أنتم بأسمع منهم لما أقول، ولكنهم لا يقدرون على الجواب"، والمخالف إنما وهم في ذلك لأنه جعل الأرواح أعراضاً لا قوام لها إلا بالأجساد، وأنها مهما فارقت الأجسام بطلت، وهو قول باطل.

قوله: ((وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ) المسترجعين عند البلاء)، الراغب: أمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصور بها المقصد ووطن نفسه به؛ لأن الصابر على الحقيقة: من عرف فضيلة مطلوبه، ولم يرد بقوله:(قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) اللفظ فقط، فإن التلفظ بذلك مع الجزع قبيح وسخط للقضاء، وإنما يريد تصوير ما خلق الإنسان لأجله والقصد له ليتعرض لطريق الوصول.

قوله: (لأن الاسترجاع تسليم وإذعان) تنبيه على أن الصفة، وهي قوله:(الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ) الآية، كاشفة في هذا المقام، وفيه أن معنى الصبر التسليم والإذعان. وقال القاضي: وليس الصبر بالاسترجاع باللسان، بل بالقلب، بأن يتصور ما خلق لأجله وانه راجع إلى ربه، ويتذكر نعم الله ليرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استرده منه فيهون على نفسه ويستسلم له.

ص: 165

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه" وروي: أنه طفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إنا لله وإنا إليه راجعون" فقيل: أمصيبة هي؟ قال: "نعم، كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة". وإنما قلل في قوله: (بِشَيْءٍ)؛ ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليه؛ وليخفف عليهم ويريهم أن رحمته معهم في كل حال لا تزايلهم. وإنما وعدهم ذلك قبل كونه؛ ليوطنوا عليه نفوسهم. (وَنَقْصٍ) عطف على "شيء"، أو على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من استرجع عند المصيبة)، الحديث ما وجدته في الكتب المعتبرة، وأما معناه فهو ما روينا عن مالك ومسلم والترمذي وأبي داود، عن أم سلمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها" الحديث، وأما حديث بيت الحمد وموت الولد، فأخرجه الترمذي بتمامه، عن أبي موسى، لكن بحذف همزة الاستفهام في "أقبضتم؟ ".

قوله: (ففوقه ما يقل إليه) أي: البلاء الذي أصاب الإنسان يقل بالنسبة إلى البلاء الذي هو فوقه.

الراغب: الإنسان لا ينفك في الدنيا من شيء من المحن، بل في حال المسار يساق به إلى محنة، ولهذا قيل: كفى بالسلامة داء، وقال الشاعر:

ص: 166

(الْخَوْفِ) بمعنى: وشيء من نقص الأموال. والخطاب في (وَبَشِّرْ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يتأتى منه البشارة. وعن الشافعي رحمه الله: الخوف: خوف الله، والجوع: صيام شهر رمضان، والنقص من الأموال: الزكوات والصدقات،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إذا كان الشباب يعود شيباً

وهماً فالحياة هي الحمام

فالعاقل بفكره يعلم أن ماله وبدنه وذويه عارية مستردة، فإذا عرض له نائبة كان له من الصبر مطية لا تكبو، ومن الرضا بقضاء الله سيف لا ينبو، والله تعالى لما أجرى العادة أن لا تنفك الدنيا من هذه الآفات المذكورة، فإنها قد تنال الأخيار كما تنال الأشرار، جعلها ابتلاء لأوليائه، لكن إذا تلقوها بالصبر حط بها وزرهم وأعظم بها أجرهم.

قوله: (وعن الشافعي رضي الله عنه: الخوف: خوف الله، والجوع: صيام شهر رمضان) إلخ، الانتصاف: وفيه نظر؛ لأن الابتلاء موعود به في المستقبل وكل قد تقدم لهم من قبل، والخوف كان ملء قلوبهم، ويبعد تسمية الصدقة نقصاً مع أن الله تعالى سماها بالزيادة وهي الزكاة، وأجاب بنفسه عن هذا بأن الزكاة نقص حقيقة، وزيادة باعتبار ما تؤول إليه مجازاً، فعند الابتلاء سماها بالنقص إذ به الابتلاء، وعند الأمر بالإخراج سماها زكاة ليسهل إخراجها.

ص: 167

ومن الأنفس: الأمراض، ومن الثمرات: موت الأولاد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؛ فيقولون: نعم فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم. فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد". والصلاة: الحنو والتعطف، فوضعت موضع الرأفة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإنصاف: الجواب عما ذكره أيضاً بأنا لا نسلم أن الزكاة فرضت قبل نزول هذه الآية، والابتلاء بوجوبها أتم من الابتلاء بوقوعها، ويقوى به السؤال فإن الخوف يتضاعف بنزول آيات الوعيد وبيان المخوف منه، ولذلك قال:(بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ)، وكذلك الصيام لا نسلم وجوبه قبل نزول هذه الآية، وسؤاله متوجه في المرض وفقد الولد.

وقلت: لا نسلم صحة الرواية عن الإمام، وعلى تقدير الصحة: الجواب عن المرض وفقد الولد، كأنه قيل: ولنبلونكم بهما لنعلم هل أنتم على ما كنتم عليه في الجاهلية من الضجر والجزع أم أحدثتم الصبر والالتجاء إلى الله تعالى والاسترجاع إليه؟ يدل عليه تقييد الصابرين بقوله: (قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

قوله: (والصلاة: الحنو والتعطف) بناءً على ما قال إن الصلاة مشتقة من تحريك الصلوين، قال:"حقيقة صلى: حرك الصلوين؛ لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، وقيل للداعي: مصل تشبيهاً في تخشعه بالراكع والساجد". ثم الخشوع والخضوع يدل على الحنو والعطف، وهو على الرأفة والرحمة، وهو المراد بقوله:"فوضعت موضع الرأفة"، وهي كناية تلويحية، وذلك أن العطف والحنو على الله محال، فيكنى بها عن الرأفة.

الراغب: والصلاة وإن كانت في الأصل: الدعاء، فهي من الله: التزكية على وجه، والمغفرة

ص: 168

وجمع بينها وبين الرحمة، كقوله تعالى:(رَافَةً وَرَحْمَةً)[الحديد: 27]، (رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 117]، والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة. (وَرَحْمَةً) أي رحمة، (وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) لطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا الأمر لله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على وجه، وهي الرحمة، وإن كانتا متلازمتين فهما مفترقتان في الحقيقة، وإنما قال:(صَلَوَاتٌ) على الجمع، تنبيهاً على كثرتها منه.

قوله: (وجمع بينها) أي: وجمع بين الصلاة والرحمة كما جمع بين الرأفة والرحمة، لكن اختلف المعنى في هذا المقام لاختلاف الصيغتين جمعاً وإفراداً، وعطف أحدهما على الآخر، لأن القصد في عطف المفرد على المجموع إرادة التكرير في الجمع والتعظيم في المفرد بحسب تنكيره، وإلى الأول الإشارة بقوله:"رأفة بعد رأفة"؛ لأنه على منوال: لبيك وسعديك، وإلى الثاني بقوله:"رحمة أي رحمة". والنكتة في تكرير (أُوْلَئِكَ): التنبيه على إناطة كل بما يناسبه، وأن ما بعده جدير بمن قبله لاكتسابه الخلال المرضية، فقوله:(أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) مترتب على قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) إلى آخر الآيتين، وقوله:(وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) على قوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) إلى قوله: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) يدل عليه قوله: " (وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ) لطريق الصواب حيث استرجعوا وسلموا لأمر الله"، فمن استعان بالله بالصبر والصلاة والجهاد كفاه الله أمور دنياه ما عاش، بأن يؤويه إلى ظلال رأفته رأفة بعد رأفة، ويمنحه مناه في عقباه ليطير فوق منتهى بسطته رحمة أي رحمة.

قال الجوهري: الرأفة: أشد الرحمة، وقيل: الرأفة: أن يدفع عنك المضار، والرحمة: أن يوصل إليك المسار.

ص: 169

[(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) 158].

الصفا والمروة: علمان للجبلين كالصمان والمقطم. والشعائر: جمع شعيرة؛ وهي العلامة، أي: من أعلام مناسكه ومتعبداته. والحج: القصد، والاعتمار: الزيارة، فغلبا على قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين، وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان.

وأصل (يَطَّوَّفَ) يتطوف، فأدغم وقرئ:(أن يطوف) من: طاف. فإن قلت: كيف قيل: إنهما من شعائر الله، ثم قيل: لا جناح عليه أن يطوف بهما؟ قلت: كان على الصفا إساف وعلى المروة نائلة، وهما صنمان، يروى: أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة، فمسخا حجرين فوضعا عليهما؛ ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله، فكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما، فملا جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما؛ لأجل فعل الجاهلية، وأن يكون عليهم جناح في ذلك؛ فرفع عنهم الجناح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كالصمان والمقطم). قال المصنف: الصمان والمقطم: علمان مع الألف واللام، كالصفا والمروة، فلذلك اختارهما، والصمان: موضع إلى جنب رمل عالج، والمقطم: جبل بمصر في "الصحاح".

قوله: (والشعائر: جمع شعيرة، وهي: العلامة). قال الزجاج: الشعائر: كل ما كان من موضع أو مسعى أو مذبح، وإنما قيل: شعائر لكل علم مما تعبد به من قولهم: شعرت به: علمته.

ص: 170

واختلف في السعي؛ فمن قائل: هو تطوع بدليل رفع الجناح، وما فيه من التخيير بين الفعل والترك، كقوله:(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)[البقرة: 230]، وغير ذلك؛ ولقوله:(وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً)، كقوله:(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)[البقرة: 184].

ويروى ذلك عن أنس، وابن عباس، وابن الزبير، وتنصره قراءة ابن مسعود:(فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما). وعن أبي حنيفة رحمه الله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (واختلف في السعي) إلى آخره، قال الإمام الرافعي في "الكبير": السعي ركن في الحج والعمرة، ولا يحصل التحلل دونه ولا ينجبر بالدم، وبه قال مالك، وأصح الروايتين عن أحمد؛ وعند أبي حنيفة: ينجبر بالدم.

قال الإمام: ظاهر الآية لا يدل على الوجوب ولا على عدمه، فإن قوله:(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ)، أي: لا إثم عليه، يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، فإذن لابد في تعيين أحدهما من الرجوع إلى الدليل.

وقلت: ويؤيده ما روينا عن عروة: سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت: أرأيت قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)؟ فوالله ما على أحد من جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، وقالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه الآية لو كانت على ما أولتها كانت: لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها نزلت في الأنصار، وكانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى:

ص: 171

أنه واجب وليس بركن، وعلى تاركه دم. وعند الأولين: لا شيء عليه. وعند مالك والشافعي: هو ركن لقوله عليه الصلاة والسلام:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) الآية، قالت عائشة: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما. أخرجه البخاري ومسلم ومالك والترمذي وأبو داود، وقول الإمام موافق لهذا الحديث، ويؤيد دليل الوجوب ما رواه المصنف:"اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي" الحديث مخرج في "مسند أحمد بن حنبل"، وعن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع بعد ما طاف وسعى ورمى:"لتأخذوا مناسككم، وإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه"، فثبت من هذا دليل الوجوب، لكن بقي الخلاف في أنه ركن أم لا؟

والركن: ما يتوقف عليه وجود الشيء وكان داخلاً فيه، ولاشك أن السعي داخل في مناسك الحج كالإحرام والطواف والوقوف وغيرها، لقوله تعالى:(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ)[البقرة: 200] وقوله: (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لتأخذوا مناسككم"، وإذا ثبت أنه من الواجبات الداخلة ثبت أنه ركن، فقيل: يجوز السعي بعد الإحلال وفاقاً، ولو كان ركناً لما أدي بعده، وأجيب: كونه داخلاً تحت أعمال الحج لا يوجب دخوله تحت الإحرام، قيل: قراءة ابن مسعود: "فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما"، وقول ابن عباس

ص: 172

"اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي". وقرئ: (ومن يطوع) بمعنى: ومن يتطوع، فأدغم؛ وفي قراءة عبد الله:(ومن يتطوع بخير).

[(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ) 159].

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) من أحبار اليهود (مَا أَنزَلْنَا) في التوراة (مِنْ الْبَيِّنَاتِ): من الآيات الشاهدة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم، (وَالْهُدَى): والهداية بوصفه إلى اتباعه والإيمان به، (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ) ولخصناه (لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ): في التوراة لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه على أحد منهم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأنس وابن الزبير، يدل على أنه تطوع، وأجاب الإمام: أن القراءة الشاذة لا يمكن اعتبارها مع المشهورة، وأن قول عائشة أولى بالقبول من قول غيرها بناءً على النص الذي هو قولها: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره، وقولهم على الاجتهاد.

قوله: (وقرئ: "ومن يطوع"): حمزة والكسائي، وقراءة الباقين:(تَطَوَّعَ) على: تفعل، ماضياً.

قوله: (لم ندع فيه موضع إشكال) مع ما بعده مبين للكلام السابق، يعني: أنزلنا في التوراة من العلامات الدالة على أمر محمد صلوات الله عليه ثم شرحنا فيها من العلامات الدالة على صحته، ثم هدينا الطريق فيها إلى متابعته بوصف أمره، وأنه الذي يصلي إلى القبلتين كما سبق،

ص: 173

فعمدوا إلى ذلك المبين الملخص فكتموه ولبسوا على الناس؛ (أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ) الذين يتأتى منهم اللعن عليهم؛ وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين.

[(إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) 160].

(وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من أحوالهم، وتداركوا ما فرط منهم، (وَبَيَّنُوا) ما بينه الله في كتابهم فكتموه، وبينوا للناس ما أحدثوه من توبتهم؛ ليمحوا سمة الكفر عنهم، ويعرفوا بضد ما كانوا يعرفون به، ويقتدي بهم غيرهم من المفسدين.

[(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ* خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ) 161 - 162]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأنهم كانوا يقولون: ما باله لا يحول إلى قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة؟ وأنه (الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ) الآيات [الأعراف: 157]، فكتموه ولبسوا على الناس، فالفاء في قوله:"فعمدوا" للترتيب على العكس، أي: بينا لهم بياناً شافياً ليظهروه فعمدوا .. إلى آخره، وكذلك الفاء في قوله:"ما بينه الله في كتابهم فكتموه".

قوله: (الذين يتأتى منهم اللعن) أي: للعنهم تأثير، لعطفه على (يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ) وتعقيبه لأولئك.

قال الزجاج: (اللاَّعِنُونَ) هم المؤمنون وكل من آمن بالله من الجن والإنس والملائكة. عن ابن عباس: اللاعنون: كل شيء في الأرض، وعن ابن مسعود:"الاثنان إذا تلاعنا لحقت اللعنة مستحقها منهما، فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت على اليهود"، والأول أولى لقوله بعد ذلك:(أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

ص: 174

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني: الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا، ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً. وقرأ الحسن:(والملائكة والناس أجمعون) بالرفع عطفاً على محل اسم الله؛ لأنه فاعل في التقدير، كقولك: عجبت من ضرب زيد وعمرو؛ تريد من أن ضرب زيد وعمرو، كأنه قيل: أولئك عليهم أن لعنهم الله والملائكة. فإن قلت: ما معنى قوله (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وفي الناس المسلم والكافر؟ قلت: أراد بالناس من يعتد بلعنه؛ وهم المؤمنون. وقيل: يوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً.

(خَالِدِينَ فِيهَا): في اللعنة. وقيل: في النار إلا أنها أضمرت؛ تفخيماً لشأنها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني: الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين)، قال الإمام:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) عام، فلا وجه لتخصيصه، قال أبو مسلم: يجب حمله على المقدم ذكرهم؛ لأن الكاتمين إما أن يتوبوا، فهو قوله:(إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا)، أو يموتوا من غير توبة فهو قوله:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فإن الكاتمين ملعونون في الحياة والممات، وأجاب الإمام: إن هذا إنما يصح إذا لم يدخل الذين يموتون تحت الآية الأولى، يعني:(أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ)، ولما دخلوا فيها استغني عن ذكرهم فيجب حمل الكلام على أمر مستأنف.

قلت: هذا أحسن؛ لأن الآية حينئذ من باب التذييل، فيدخل هؤلاء فيها دخولاً أولياً، فالتعريف في قوله:(الَّذِينَ كَفَرُوا) على هذا: للجنس، وعلى الأول: للعهد.

قوله: (أراد بالناس: من يعتد بلعنه) يعني: التعريف فيه للعهد، والمعهود: ما يعلم من قوله: (وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ).

قوله: (أضمرت؛ تفخيماً لشأنها)، يعني: لما اشتهر وتعورف أن خلود الكفار لا يكون إلا فيها ترك التصريح بذكرها تهويلاً.

ص: 175

وتهويلاً. (وَلا هُمْ يُنظَرُونَ) من الإنظار، أي: لا يمهلون ولا يؤجلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة.

[(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ* إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) 163 - 164].

(إِلَهٌ وَاحِدٌ): فرد في الإلهية لا شريك له فيها، ولا يصح أن يسمى غيره إلهاً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((إِلَهٌ وَاحِدٌ): فرد في الإلهية)، قال الإمام: ورود لفظ الواحد بعد لفظ الإله يدل على أن تلك الوحدة معتبرة في الإلهية لا في غيرها، فهو بمنزلة وصفهم الرجل بأنه سيد واحد، وبأنه عالم واحد.

وقلت: هذا المعنى إنما يعطيه إعادة الإله في الخبر ووصفه بالواحد، فلو لم تكن الوحدة معتبرة في الإلهية لكان يكفي أن يقال: إلهكم واحد، وإليه ينظر قوله تعالى:(لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ)[النحل: 51]، قال صاحب "المفتاح": لفظ إله يحتمل الجنسية والوحدة، والذي له الكلام مسوق الوحدة. ففسر بالواحد بياناً لما هو الأصل في الغرض، ولهذا أكد المصنف تفسير (إِلَهٌ وَاحِدٌ) بقوله:"لا شريك له، ولا يصح أن يسمى غيره إلهاً".

وقال أبو البقاء: (إِلَهٌ): خبر المبتدأ، و (وَاحِدٌ): صفة له، والغرض ها هنا الصفة، إذ لو قال: وإلهكم واحد، لكان هو المقصود إلا أن في ذكره زيادة تأكيد، وهذا يشبه الحال الموطئة، كقولك: مررت بزيد رجلاً صالحاً، والخبر: زيد شخص صالح.

ص: 176

و (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته. (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)، المولي لجميع النعم أصولها وفروعها، ولا شيء سواه بهذه الصفة؛ فإن كل ما سواه إما نعمة وإما منعم عليه. وقيل: كان للمشركين حول الكعبة ثلاث مئة وستون صنماً، فملا سمعوا بهذه الآية تعجبوا، وقالوا: إن كنت صادقاً فأت بآية نعرف بها صدقك؛ فنزلت: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ): تقرير للوحدانية)، قال الإمام: وذلك أنه تعالى لما قال: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) أمكن أن يخطر ببال أحد: هب أن إلهنا واحد، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا، فأزال هذا الوهم ببيان التوحيد المطلق.

وقال القاضي: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ): تقرير للوحدانية وإزاحة أن يتوهم أن في الوجود إلهاً يستحق العبادة.

وقال السجاوندي: (هُوَ) بدل عن موضع (لا إِلَهَ)، أي: لا إله في الوجود غلا الله، ولا اعتماد إلا على الله، فلم يجز النصب؛ لأن مساق الكلام لإثبات الصانع، ونفي الشريك تبع، وفي النصب على الاستثناء الاعتماد على الأول.

قوله: (المولي لجميع النعم أصولها وفروعها)، قال القاضي: وذكر هاتين الصفتين كالحجة على التوحيد، فإنه لما كان مولي النعم كلها وما سواه إما نعمة أو منعم عليه، لم يستحق العبادة واحد غيره، وهما خبران آخران لقوله:(وَإِلَهُكُمْ)، أو لمبتدأ محذوف.

ص: 177

واختلاف الليل والنهار: اعتقابهما؛ لأن كل واحد منهما يعقب الآخر، كقوله:(جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً)[الفرقان: 62]. (بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ) بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو ينفع الناس. فإن قلت: قوله: (وَبَثَّ فِيهَا) عطف على (أَنزَلَ) أو "أحيا"؟ قلت: الظاهر أنه عطف على (أَنزَلَ) داخل تحت حكم الصلة؛ لأن قوله: (فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ) عطف على (أَنزَلَ) فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد، فكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن كل واحد منهما): تعليل لتفسير الاختلاف بالاعتقاب، وهو أن يخلف أحدهما صاحبه بعده، لقوله تعالى:(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً)[الفرقان: 62].

قوله: (أو ينفع الناس)، يريد أن "ما" مصدرية، وحين جعلها موصولة قدر فيها الراجع، قال القاضي: وذكر الفلك للقصد به إلى الاستدلال بالبحر وأحواله، فهو متبوع والفلك تابع، وإنما خصص الفلك بالذكر دون البحر لأنه سبب الخوض فيه والإطلاع على عجائبه.

قوله: (لأن قوله: (فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) عطف على (أَنزَلَ))، تعليل لظهور هذا العطف، وذلك أن قوله:(فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ) ليس مستقلاً بنفسه فيصح عطفه على صلة الموصول ليكون آية أخرى مثل أنزل الماء من السماء لأجل الفاء السببية، فهما كالسبب والمسبب فصارا جميعاً كالصلة الواحدة، بخلاف قوله:(وَبَثَّ فِيهَا)، إذ يصح جعله صلة معطوفة على الصلة لاستقلاله واشتماله على ما يبين الموصول من قوله:(مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ)، كقوله:(مِنْ مَاءٍ) بياناً لقوله: (مَا أَنزَلَ)، والعائد المنصوب محذوف، أي: ما بثه الله من كل دابة، فيكون آية أخرى، مثل:(أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ)، ألا ترى كيف صرح بالبيانين في قوله:"وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة"! والمطلوب تكثير الآيات، فكان هذا العطف ظاهراً.

ص: 178

ويجوز عطفه على "أحيا" على معنى: فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة؛ لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا.

(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) في مهابها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً، وفي أحوالها حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقماً ولواقح،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الزجاج: هذه الأشياء وجميع ما بث الله في الأرض دالة على أنه واحد كما قال: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ). انتهى كلامه.

وأما إذا عطف على (فَأَحْيَا)، وكان من تتمة الصلة مسبباً عما هو المعطوف عليه مسبب عنه، فيحتاج إلى تقدير حرف التسبب وإظهار السبب الذي هو الماء، وجعل (مِن) في قوله:(مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) زائدة، فكأن التقدير: وبث فيها من كل دابة بسبب الماء؛ لأن تعيشها به، ولاشك أن هذا التقدير أدق معنى وأخفى من الأول؛ لأن الآية حينئذ على وزان قوله تعالى:(وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً* لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً)[الفرقان: 48 - 49].

قوله: ((وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) في مهابها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً)، الجوهري: الصبا: مهبها المستوي، أن تهب من موضع مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، وتسمى قبولاً، ويقابلها الدبور، والشمال: التي تهب من ناحية القطب، ويقابلها الجنوب.

وقال الثعالبي: النكباء: هي التي تهب بين الريحين، والنماوحة: هي التي تهب من جهات مختلفة، والعاصف هي: الشديدة الهجوم، وهي التي تقلع الخيام، والزعزع هي: التي

ص: 179

وقيل: تارة بالرحمة وتارة بالعذاب. (وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ) سخر للرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله يمطر حيث شاء. (لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون؛ لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها" أي: لم يتفكر فيها،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تقلع الأشجار، والإعصار هي: التي تهب من الأرض نحو السماء كالعمود، والنسيم هي: التي تجيء بنفس ضعيف وروح، والعقيم هي: التي لم تلقح شجراً ولم تحمل مطراً، واللواقح هي: التي تلقح الأشجار، والمعصرات هي: التي تأتي بالأمطار، والمبشرات هي: التي تأتي بالسحاب الممطر الذي يروي التراب، والهيف هي: الحارة التي تأتي من قبل اليمن، والصرصر: الباردة.

قوله: (وقيل: تارة بالرحمة وتارة بالعذاب) عطف على قوله: "في أحوالها"، وهو وجه آخر في تفسير تصريفها.

قوله: (سخر للرياح تقلبه في الجو)، قال القاضي: لا ينزل ولا ينقشع، مع أن الطبع يقتضي أحدهما، قيل: لأنه لو كان خفيفاً لطيفاً ينبغي أن يصعد، وإن كان كثيفاً يقتضي أن ينزل، واشتقاق السحاب من السحب، لأن بعضه يجر بعضاً.

قوله: (فمج بها)، أي:"لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها"، والمج في الأصل: قذف اللعاب من الفم، في "النهاية": وفي الحديث: "أخذ حثوة من ماء فمجها في بئر ففاضت بالماء الرواء"، أي: صبها، فاستعير في جميع المدركات.

قال الحسن: الأذن مجاجة، أي: لا تعي شيئاً، فاستعمل ها هنا في القلب، ومجه: عدم الاعتبار فميا يرد عليه من الآيات.

ص: 180

ولم يعتبر بها وقرئ: (والفلك) بضمتين،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الزجاج: هذه العلامات تدل على أنه تعالى واحد كما قال: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)؛ لأنه لا يأتي بمثل هذه الآيات إلا هو.

وقال القاضي: دلالة هذه الآيات على وجود الإله ووحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلاً، والكلام المجمل أنها أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة وأنحاء مختلفة، فلابد لها من قادر حكيم يوجدها على ما تستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته، متعالياً عن معارضة غيره، قال الله تعالى:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا).

وقلت: وإنما لم يورد الآثار العلوية على الترتيب، بل أخر الرياح والسحاب عن الكل وأقحم الفلك والبحر بين خلق السماوات والأرض وإنزال الماء منها، وأدرج بث الدواب بين الأمطار والسحاب، ليشير إلى استقلال كل من الآيات في القصد، واستبداده، وهذا يعضد قول من يعطف "بث" على "أنزل"، وعن صاحب "المفتاح": ترك الإيجاز إلى الإطناب لينبه على أن في ترجح وقوع أي ممكن كان على لا وقوعه لآيات للعقلاء، ولما فيهم من مرتكبي التقصير في باب النظر والعلم بالصانع من طوائف الغواة المختلفة، أطنب الكلام ليعين لكل أناس مسارح أفكارهم.

قوله: (وقرئ: "والفلك"، بضمتين)، قال القاضي: هي على الأصل أو الجمع، وضمة الجمع غير ضمة الواحد عند المحققين.

ص: 181

(وتصريف الريح) على الإفراد.

[(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ* وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ) 165 - 167].

(أَندَاداً): أمثالاً من الأصنام، وقيل: من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم. واستدل بقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا). ومعنى (يُحِبُّونَهُمْ): يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب، (كَحُبِّ اللَّهِ): كتعظيم الله والخضوع له، أي: كما يحب الله تعالى على أنه مصدر من المبني للمفعول، وإنما استغني عن ذكر من يحبه؛ لأنه غير ملتبس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ("وتصريف الريح"، على الإفراد) قرأها حمزة والكسائي، والباقون بالجمع.

قوله: (واستدل بقوله)، أي: استدل على أن المراد بالأنداد: الرؤساء، بقوله:(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا).

قوله: (استغني عن ذكر من يحبه) وهم المؤمنون، لقوله تعالى:(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ). وأما على قوله: "كحبهم لله" فالمعني بمن يحب الله: الكافرون، ووجه الشبه على الأول: التعظيم، وعلى الثاني: التقرب والتشبيه من باب بيان حال المشبه في الوصف من

ص: 182

وقيل: كحبهم الله، أي: يسوون بينه وبينهم في محبتهم؛ لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه، فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين. (أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)؛ لأنهم لا يعدلون عنه على غيره بخلاف المشركين؛ فإنهم يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد، فيفزعون غليه ويخضعون له ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيقولون:(هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)[يونس: 18]، ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره، أو يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عام المجاعة. (الَّذِينَ ظَلَمُوا): إشارة إلى متخذي الأنداد، ز

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القوة والضعف والتسوية، وها هنا المراد التسوية لقوله:"يسوون بينه وبينهم" لينطبق عليه قوله تعالى: (أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ).

قال القاضي: المحبة: ميل القلب، من الحب، استعير لحبة القلب ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها، ومحبة العباد لله تعالى: إرادة طاعته والاعتناء بتحصيل مراضيه، ومحبة الله للعبد: إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي.

قوله: (باهلة إلهها من حيس)، الجوهري: باهلة: قبيلة من قيس عيلان، والحيس: تمر يخلط بسمن وأقط، قال الراجز:

التمر والسمن معاً ثم الأقط

الحيس إلا أنه لم يختلط

ص: 183

أي: ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله. على كل شيء من الثواب والعقاب دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة؛ لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم، فحذف الجواب كما في قوله:(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا)[الأنعام: 27، 30]، وقولهم: لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه. وقرئ: (ولو ترى) بالتاء على خطاب الرسول [صلى الله عليه وسلم]، أو: كل مخاطب، أي: ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم) يريد أن في وضع المظهر موضع المضمر في قوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا) دلالة على أن ذلك الفعل، وهو اتخاذ الأنداد، ظلم عظيم؛ لأن أصل الكلام: ولو يرون إذ يرون، ثم: ولو ترى الذين اتخذوا من دون الله أنداداً، فهو على أسلوب قوله:

إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم

إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد

قوله: (إذا عاينوا العذاب)، وقوله:"ولو يعلم هؤلاء" يؤذن بأن لارؤية في قوله: (وَلَوْ يَرَى) بمعنى العلم، وفي قوله:(إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) بمعنى النظر، وبأن قوله:(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) ساد مسد المفعولين، وجواب (لَوْ) محذوف ليدل على العموم والتهويل بحسب اقتضاء المقام، وإليه الإشارة بقوله:"لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف".

قوله: (وقرئ: (ولو ترى)[بالتاء]، على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم: نافع وابن عامر.

قوله: (على خطاب الرسول أو كل مخاطب)، فإن كان خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم، كان مثل قوله تعالى:(يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ)[الطلاق: 1]، وإذا كان لكل مخاطب، كان نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"بشر المشائين إلى المساجد"، وعلى هذا يجوز أن يكون قوله:(أَنَّ الْقُوَّةَ) معمول

ص: 184

وقرئ: (إذ يرون) على البناء للمفعول. و"إذ" في المستقبل، كقوله:(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ)[الأعراف: 44]. (إِذْ تَبَرَّأَ) بدل من (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ) أي: تبرأ المتبوعون- وهم الرؤساء- من الأتباع.

وقرأ مجاهد الأول على البناء للفاعل، والثاني على البناء للمفعول، أي: تبرأ الأتباع من الرؤساء. (وَرَأَوْا الْعَذَابَ): الواو للحال، أي: تبرؤوا في حال رؤيتهم العذاب، (وَتَقَطَّعَتْ) عطف على (تَبَرَّأَ)، و (الأَسْبَابُ): الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد، ومن الأنساب والمحاب والاتباع والاستتباع، كقوله:(لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)[الأنعام: 94]. (لَوْ) في معنى التمني؛ ولذلك أجيب بالفاء الذي يجاب به التمني، كأنه قيل: ليت لنا كرة فنتبرأ منهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جواب لو، أي: لو ترى ذلك لرأيت أن القوة لله جميعاً، فوضع المصنف قوله:"أمراً عظيماً" مقام (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً).

قوله: (وقرئ: "إذ يرون" على البناء للمفعول)، وهو من الإراءة، لا من الرؤية لمجيء المفعول الثاني.

قوله: (و"إذ" في المستقبل، كقوله: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ)[الأعراف: 44]) يعني: كما أن "نادى" وضع للماضي واستعمل في المستقبل، كذا (إِذْ) في قوله:(إِذْ يَرَوْنَ)، وإنما جاء على لفظ "إذ" الذي هو للماضي دون "إذا" لأن وقوع الساعة قريب، وقريب الوقوع يجري مجرى ما وقع، وعلى هذا قال:(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ)[الأعراف: 44].

قوله: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)) هذا على قراءة الرفع، والبين من الأضداد، ومن قرأ (بَيْنَكُمْ) بالنصب جعله ظرفاً، أي: فيما بينكم، ومن قرأ بالرفع كان بمعنى: الوصل والسبب.

ص: 185

(كَذَلِكَ): مثل ذلك الإرآء الفظيع. (يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ) أي: ندامات، و (حَسَرَاتٍ) ثالث مفاعيل "أري"، ومعناه: أن أعمالهم تنقلب حسرات عليهم؛ فلا يرون غلا حسرات مكان أعمالهم.

(وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ)"هم" بمنزلته في قوله:

هم يفرشون اللبد كل طمرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال أبو البقاء: الباء في (بِهِمُ) للسببية، أي: تقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون بها النجاة، وقيل: للحال، أي: تقطعت موصولة بهم الأسباب، وقيل: هي بمعنى "عن"، وقيل: للتعدية، أي: قطعتهم الأسباب كما تقول: فرقت بهم الطريق.

قوله: (مثل ذلك الإرآء)، قال المصنف: ذكر سيبويه أن العرب تحذف التاء من الإراءة، ولذلك وقعت الإشارة بكذلك إلى مذكر، وعليه قوله تعالى:(وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)[النور: 37].

قوله: (هم يفرشون اللبد كل طمرة) تمامه:

وأجرد سباق يبذ المغاليا

يفرشون اللبد: بضم الياء رواية المرزوقي، أي: يجعلون اللبد فراشاً لظهر كل طمرة، أي: رمكة وثابة، وكل فحل كريم سباح في عدوه غلاب لمباريه سباق في الرهان يحوز قصب التقدم. "يبذ المغاليا"، إن ضممت الميم جاز أن يراد به السهم نفسه، أو فرس يغاليه، وجاز أن يراد به الرافع يده بالسهم يريد به أقصى الغاية، يقال: بيني وبينه غلوة سهم، كما يقال: قيد رمح وقاب قوس، وإن فتحت الميم يكون جمعاً للمغلاة، وهي السهم يتخذ

ص: 186

في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للمغالاة، والمعنى: يسبق السهم في غلوته، والمراد أن سعيهم مقصور على تعهد الخيل وخدمتها، والتفرس على ظهورها. ورواية "الكتاب": يفرشون بفتح الياء، أي: يفرش اللبد على كل طمرة، فحذف الجار، يقال: فرشت ساحتي الآجر وبالآجر.

قوله: (على قوة أمرهم فيما أسند إليهم) يعني دلالة التركيب على تقوي الحكم، بمعنى: أنهم لا يخرجون البتة، لا أن غيرهم يخرجون منها، وكذا معنى البيت: أنهم يفرشون اللبد على التحقيق، لا أن غيرهم لا يفرشون.

وقال القاضي: أصله: وما يخرجون، فعدل به إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا، وقال صاحب "التقريب":"هم" ليست للفصل، فلا يدل على الاختصاص، بل على قوة أمرهم فيما أسند، فهو قفى أثر المصنف، والجواب: أن قوله: (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ) ليس نظير البيت لتسليط حرف النفي على الفاعل المعنوي، مع أن البيت لا يصح للاستشهاد لاحتماله التخصيص أيضاً بالادعاء، وغليه أومأ المرزوقي في قوله:"سعيهم مقصور على تعهد الخيل"، بل هو نظير قوله تعالى:(وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ)[هود: 91]، وقد قال فيه ما قال.

واتفق علماء هذا الفن: أن مثل هذا التركيب مقطوع به في إفادة الاختصاص، وقد سبق فيه كلام مشبع عند قوله تعالى:(وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)[البقرة: 8].

ص: 187

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم إني عثرت بعد هذا التقرير على ما ذكر صاحب "الانتصاف" فيه، قال: دلالتها على الاختصاص هو الحق، فإن العصاة من المسلمين يخرجون من النار، وقد احتج الزمخشري في قوله:(أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ)[الأنبياء: 21]، (وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة: 4]. لكن هذا الاختصاص لا يوافق مذهبه، فأعمل الحيلة في صرف الكلام عنه فجعلها مقيدة للأحقية، فإن العصاة وإن خلدوا عنده فالكفار أحق منهم بالخلود، فسبحان من بلاه بالمحنة مع حذقه وفطنته! .

الإنصاف: الآية فيمن اتخذ أنداداً من الكفار، والكفر أعم من ذلك، وجميع أهله ليسوا بخارجين من النار فلا اختصاص لهؤلاء بالخلود دون غيرهم من الكفار، والذي قاله الزمخشري صحيح.

وقلت: مما ذكرت مع إيلاء النفي ضمير الفاعل لابد من القول بالاختصاص، والآية عامة في جميع من يخالف المؤمنين من أهل الملل المختلفة، ويتخذ من دون الله أنداداً، أي: رؤساء يتبعونهم ويطيعونهم كما نص عليه المصنف، ثم قال: واستدل بقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا)، ويؤيده أيضاً قوله:(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وإبدال (إِذْ تَبَرَّأَ) من (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ)؛ لأن الكلام في التابع والمتبوع سواء كان مشركاً أو غيره، وإلى معنى الآية ينظر ما روينا عن البخاري ومسلم والنسائي، عن أبي سعيد في حديث طويل:"إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر غير أهل الكتاب، ثم يدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله، فيقال لهم: كذبتم! ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد"، إلى قوله: "فيتساقطون في النار، ثم يدعى النصارى فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد

ص: 188

لا على الاختصاص.

[(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* إِنَّمَا يَامُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) 168 - 169].

(حَلالاً) مفعول (كُلُوا)، أو حال (مِمَّا فِي الأَرْضِ). (طَيِّباً): طاهراً من كل شبهة، (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) فتدخلوا في حرام أو شبهة أو تحريم حلال أو تحليل حرام. و"من" للتبعيض؛ لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم! ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد" الحديث، وعلى تقدير أن تكون مخصوصة بعبدة الأصنام فهي مقابلة للمؤمنين، بدليل قوله تعالى:(يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) أي: يعظمون الأصنام كما يعظم المؤمنون الله تعالى، والمؤمنون أشد تعظيماً له، فيكون الكلام للمؤمنين وفي هؤلاء القوم فلا يدخل في الحصر غيرهم، وسنبين هذا المعنى بعيد هذا في قوله:(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ). والتركيب من باب القصر القلبي، فإذا انتفى الحكم من أحد المتقابلين يثبت للآخر، فإذا قيل في حق غير المؤمنين:(وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ) علم أن المؤمنين خارجون منها.

قوله: (لا على الاختصاص)، إشارة إلى مذهبه، وذلك أن صاحب الكبيرة عندهم مخلد في النار إذا لم يتب، فلو حمل الآية على الاختصاص لزم منه خروجه عنها.

قوله: (طَيِّباً): طاهراً من كل شبهة)، قال القاضي: طيباً: ما يستطيبه الشرع أو الشهوة المستقيمة، إذ الحلال دل على الأول، يعني: ينبغي أن يفسر (طيباً) بما تستطيبه الشهوة المستقيمة، إذ الحلال في قوله:(حلالاً) دل على ما يستطيبه الشرع.

ص: 189

وقرئ: (خُطُوات) بضمتين، و (خُطْوات) بضمة وسكون، و (خُطؤات) بضمتين وهمزة جعلت الضمة على الطاء كأنها على الواو و (خَطَوَات) بفتحتين، و (خَطْوات) بفتحة وسكون. والخَطوة: المرة من الخطو. والخُطوة: ما بين قدمي الخاطي. وهما كالغَرفة والغُرفة، والقَبضة والقُبضة. يقال: اتبع خَطَواته، ووطئ على عقبه. إذا اقتدى به واستن بسنته (مُبِينٌ): ظاهر العداوة لا خفاء به.

(إِنَّما يَامُرُكُمْ) بيان لوجوب الانتهاء عن اتباعه وظهور عداوته. أي:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ("خطوات" بضمتين): قنبل عن ابن كثير، وحفص وابن عامر والكسائي، والباقون بضمة وسكون الطاء.

قوله: (كأنها على الواو) والأصل أن الضمة إذا كانت على الواو يجوز قلبها همزة، وها هنا وإن لم تكن الضمة عليها إلا أنها على جارها، فجعلت كأنها على الواو.

قال الزجاج: هذا جائز في العربية.

قوله: (كالغرفة والغرفة)، الجوهري: الغرفة: المرة الواحدة، والغرفة، بالضم: اسم المفعول منه؛ لأنك ما لم تغرفه لا تسميه غرفة، والجمع غراف.

ص: 190

لا يأمركم بخير قط، (إنما يأمركم بِالسُّوءِ): بالقبيح، (وَالْفَحْشاءِ): وما يتجاوز الحدّ في القبح من العظائم. وقيل: السوء: ما لا حدّ فيه، والفحشاء: ما يجب فيه الحدّ، (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وهو قولكم: هذا حلال وهذا حرام بغير علم. ويدخل فيه كل ما يضاف إلى اللَّه تعالى مما لا يجوز عليه. فإن قلت: كيف كان الشيطان آمراً مع قوله: (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ)[الحجر: 42]؟ قلت: شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر، كما تقول: أمرتنى نفسي بكذا، وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين؛ لطاعتكم له وقبولكم وساوسه؛ ولذلك قال:(وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ)[النساء: 119]، وقال اللَّه تعالى:(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)[يوسف: 53] لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت.

[(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)].

(لَهُمُ) الضمير للناس، وعدل بالخطاب عنهم على طريقة الالتفات للنداء على ضلالهم؛ لأنه لا ضال أضل من المقلد، كأنه يقول للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون. قيل: هم المشركون. وقيل: هم طائفة من اليهود دعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا: (بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فإنهم كانوا خيرا منا وأعلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كيف كان الشيطان آمراً) أي: الآمر مستعل على المأمور ومتسلط فوقه، فكيف يستقيم هذا مع قوله:(لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)[الحجر: 42]. وخلاصة الجواب: أن الكلام فيه استعارة، وفي الاستعارة كناية رمزية؛ نعى على سوء صنيعهم وتسفيه رأيهم وتحقير شأنهم، وذلك بأخذ الزبدة والخلاصة من الجملة.

قوله: (قيل: هم المشركون، وقيل: هم طائفة من اليهود) يعني: التعريف في الناس للعهد، والمعهود: إما ما يفهم من قوله: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً) إذا أريد بالأنداد:

ص: 191

و (ألفينا) بمعنى: وجدنا، بدليل قوله:(بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا).

(أَوَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ)، الواو للحال، والهمزة بمعنى الردّ والتعجيب، معناه: أيتبعونهم ولو كان آباؤهم (لا يعقلون) شيئاً من الدين (ولا يهتدون) للصواب؟ ! ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأصنام، أو من قوله:(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ)[البقرة: 159]، ويجوز أن يكون التعريف للجنس والخطاب عاماً في الكفرة، وعليه النظم، وبيانه إنما يتبين بتمهيد مقدمة، وذلك أن قولهم: شكر المنعم واجب، معناه: أنه تعالى خلق المكلفين ورزقهم ما به يعيشون ويتمتعون ويرتفقون، وأوجب عليهم الطاعة شكراً لتلك النعم، كقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) الآيات [البقرة: 21]، وأرسل إليهم الرسل لينبههم على مكان تلك النعمة، ويعلمهم كيفية شكرها من الطاعة والعبادة، ثم إن الشياطين اجتالتهم حتى كفروا نعمة الله، وتقدموا على تكذيب من دعاهم إلى الشكر ولبسوا ذلك الحق المبين، فإذا قال لهم الأنبياء: اتبعوا من يرشدكم إلى الهدى، ولا تتبعوا من يضلكم عن السبيل، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فلذلك نودي على ضلالهم بالالتفات من الخطاب إلى الغيبة قائلاً للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون! هذا هو التحقيق، لأن السورة في بيان إثبات التوحيد والنبوات، ووضع الأحكام والتنبيه على خطأ الناس في الضلالات، وإرشادهم إلى الحق، فإنه تعالى كما ذكر نبذاً من أحوال الأمم وقصصهم، كر إلى ذلك المعنى.

قوله: (والهمزة بمعنى الرد والتعجب)، أي: دخلت همزة التعجب على الجملة الحالية

ص: 192

[(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)].

لا بدّ من مضاف محذوف تقديره. ومثل داعى الذين كفروا (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)، أو: ومثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق. والمعنى: ومثل داعيهم إلى الإيمان ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للرد عليهم، قال القاضي: جواب "لو" محذوف، أي: لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين إذ علم بدليل، ولا يهتدون إلى الحق، لاتبعوهم، وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد، وأما اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق، كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام، فهو في الحقيقة ليس بتقليد، بل اتباع ما أنزل الله. وكلام المصنف ينبئ عن أن جواب "لو" غير منوي، وكلام القاضي بخلافه، وسيجيء في الممتحنة تقريره.

قوله: (لابد من مضاف محذوف) إما عند المشبه وإما عند المشبه به؛ لأن تشبيه الكفار بالداعي إذا قدر أنه تشبيه مفرق لا يستقيم بدون التقدير.

قوله: (والمعنى: ومثل داعيهم)، قيل: أشار به إلى التقديرين المذكورين، وقيل: فيه لف، فقوله:"ومثل داعيهم" إلى آخره مبني على الوجه الأول، وقوله:"وقيل: معناه: ومثلهم في اتباعهم" مبني على الوجه الثاني.

وقلت: التحقيق فيه أن المذكورات وجوه مختلفة المقاصد:

أولها: قوله: (ومثل داعي الذين كفروا (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)) مبني على أن التشبيه من التشبيهات المفرقة، فالداعي بمنزلة الراعي، والكفرة بمنزلة الغنم المنعوق بها، ودعاؤه الكفرة بمنزلة دعاء الناعق البهائم.

وثانيها: قوله: (ومثل الذين كفروا كبهائم الذين ينعق) أي: بهائم الشخص الذي ينعق

ص: 193

في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوى الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار، كمثل الناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها، وزجر لها، ولا تفقه شيئا آخر ولا تعى كما يفهم العقلاء ويعون. ويجوز أن يراد بما لا يسمع: الأصم الأصلخ الذي لا يسمع من كلام الرافع صوته بكلامه إلا النداء والتصويت لا غير، من غير فهم للحروف. وقيل معناه: ومثلهم في اتباعهم آباءهم وتقليدهم كمثل البهائم التي لا تسمع إلا ظاهر الصوت، ولا تفهم ما تحته، فكذلك هؤلاء يتبعونهم على ظاهر حالهم لا يفقهون أهم على حق أم باطل. وقيل معناه: ومثلهم في دعائهم الأصنام كمثل الناعق بما لا يسمع،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بما لا يسمع، والمراد بما لا يسمع: البهائم، وضع موضع المضمر، أي: كمثل بهائم الذي ينعق بها، المعنى: ومثل الذين كفروا مع داعيهم في أنهم لا يرفعون رؤوسهم إلى ما يدعوهم إليه كمثل البهائم مع داعيها ينعق بها وهي لا تعقل سوى أن تسمع الصوت، ومآل المعنيين يعود على ما ذكره من قوله:"ومثل داعيهم إلى الإيمان في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلى جرس النغمة" إلى آخره، فصح قول من قال: إن قوله: "المعنى

" إشارة على التقديرين.

وثالثها: قوله: (ويجوز أن يراد بما لا يسمع: الأصم)، هذا مثل الأول، لكن الاختلاف بين البهائم والرجل الأصم.

ورابعها: قوله: (ومثلهم في اتباعهم آباءهم) مبني على أن التشبيه مركب تمثيلي، وهو أن يكون الوجه منتزعاً من عدة أمور متوهمة، فلا يحتاج حينئذ إلى تقدير مضاف، ولهذا قال:"ومثلهم في اتباعهم آباءهم" وكَيْتَ وكَيْت، وهذا الوجه أوجه وأشد ملاءمة بالآية السابقة، وهي قوله:(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا) إلى قوله: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ).

وخامسها: قوله: (ومثلهم في دعائهم الأصنام)، قال القاضي: لا يساعده قوله: (إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً)؛ لأن الأصنام لا تسمع، إلا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركب.

ص: 194

إلا أنّ قوله: (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) لا يساعد عليه، لأنّ الأصنام لا تسمع شيئاً ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: مراده أن هذا الوجه فيه احتمالات: أن يكون تشبيهاً مفرقاً والآخر تمثيلاً، والاحتمال الأول مردود لفقدان التقابل بين المشبه والمشبه به، والثاني مقبول؛ لأنه غير مشروط بذلك.

وقلت: إذا أريد المركب التمثيلي لابد من ذلك؛ لأن المراد أن داعي الأصنام لا يرجع من دعائها إلى شيء ما، وأنها أدون حالاً من البهائم لأنها تسمع دعاء ونداء وهي لا تسمع شيئاً قط، كقوله تعالى:(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ)[فاطر: 14]، فإذا لم يوجد في الممثل ما للممثل به تفوت هذه الدقيقة؛ لأن الواجب في التمثيلي أن يقدر للممثل ما للمثل به من الحالة المتوهمة المنتزعة من أمور، ولو احتمل منها شيء احتمل التمثيل، اللهم غلا أن يجعل التشبيه مركباً عقلياً كما اعتبر المصنف في قوله تعالى:(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الآية [البقرة: 265]، حيث قال:"ومثل نفقة هؤلاء في زكائها عند الله"، المعنى على كونه مركباً عقلياً: ومثلهم في دعائهم الأصنام فيما لا جدوى فيه كمثل الناعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، وهذا أحسن الوجوه المذكورة في "الكتاب"، وأوفق لتأليف النظم، وذلك أن العاطف في قوله:(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يستدعي معطوفاً عليه، ولا يحسن أن يعطف على جملة قوله:(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا) الآية، حسنة إذا عطف على قوله:(لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) على سبيل البيان، فيكون المراد بالذين كفروا آباءهم، وضعاً للمظهر موضع المضمر للإشعار

ص: 195

والنعيق: التصويت، يقال: نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن. قال الأخطل:

فَانْعِقْ بِضَانِكَ يَا جَرِيرُ فَإنّمَا

مَنَّتْكَ نَفْسُكَ فِي الخَلَاءِ ضَلَالا

وأما (نغق الغراب)؛ فبالغين المعجمة. (صُمٌّ): هم صم، وهو رفع على الذمّ.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)].

(مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ): من مستلذاته؛ لأنّ كل ما رزقه اللَّه لا يكون إلا حلالا. (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) الذي رزقكموها (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ): إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرّون أنه مولى النعم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم:"يقول اللَّه تعالى: إنى والجنّ والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويُعبد غيرى، وأرزق ويُشكر غيري".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعلية عدم الاهتداء وسلب العقول نعياً على المخاطبين وتسجيلاً على ضلالهم، وفي عطف الجملة الاسمية على الفعلية الإيذان بأن المراد بالمضارع في قوله:(لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) الاستمرار.

قوله: (فانعق بضأنك) البيت؛ منتك: من تمنيت الشيء ومنيت غيري، يقول: إنك من رعاء الشاء لا من الأشراف، وما منتك نفسك في الخلاء أنك من العظماء فضلال باطل.

قوله: (لأن كل ما رزقه الله) تعليل لتفسير الطيبات بالمستلذات، يعني: أن المراد بالطيبات: المستلذات؛ لأن قوله: (مَا رَزَقْنَاكُمْ) محمول على الحلال؛ لأن الرزق عندهم لا يكون إلا حلالاً، وعند أهل السنة، وإن جاز حمل الطيبات على الحلال والحرام؛ لأن قوله:(مَا رَزَقْنَاكُمْ) مطلق يتناول الحلال والحرام، لكن مقام الامتنان على قوم مخصوصين والأمر بالتناول يأبى الحمل إلا على ما تستطيبه النفس كما سيجيء.

ص: 196

[(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)].

قرئ: (حَرّم) على البناء للفاعل، و (حُرِّم) على البناء للمفعول، و (حَرُم) بوزن كرم .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ: (حَرَّمَ)، على البناء للفاعل) وهي المشهورة، وعلى بناء المفعول شاذ، قال الزجاج: ويجوز: (إنما حرم عليكم الميتة) على أن: الذي حرم عليكم الميتة. والمختار أن "ما": كافة لاتباع سنة الكتابة، المعنى: ما حرم عليكم إلا الميتة؛ لأن "إنما" تأتي إثباتاً لما يذكر بعدها ونفياً لما سواه. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون (ما) بمعنى: الذي، والميتة: خبر إن، ويجوز أن تكون: كافة، والميتة: أقيم مقام الفاعل.

قال القاضي: [فإن قيل]: "إنما" تفيد قصر الحكم على ما ذكر، وكم من حرام لم يذكر، وأجاب: المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه، لا مطلقاً، أو قصر حرمته على حال الاختيار، كأنه قيل: إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها.

وقلت: الوجه الأول هو الوجه، والثاني ضعيف؛ لأن الحصر في باب "إنما" إنما يأتي في القيد الأخير، قال صاحب "المفتاح": نزل القيد الأخير من الكلام الواقع بعد "إنما" منزلة مستثنى ولا تصنع شيئاً غير ما أذكره. والقيد الأخير هنا المفعول به، والمعنى: ما حرم عليكم شيئاً من المأكولات إلا الميتة والدم ولحم الخنزير، فالكلام في المأكولات لا في الحال،

ص: 197

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويمكن أن يقال: إن عطف (فَمَنْ اضْطُرَّ) يفيد تقييد ما تقدمه بالحال، فصح قوله: إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها. وإنما تقرير هذا الوجه القصر، فاعلم أن القصر لابد فيه من سبق خطأ من المخاطب مشوب بصواب، وأنت تريد تحقيق صوابه ونفي خطئه، فقوله تعالى:(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) معناه: ما حرم عليكم إلا الميتة، وهو قصر الحكم على المذكورات، فيفيد أن المحرم ليس إلا المذكورات، وليس كذلك، وهو المراد بقوله:"وكم من حرام لم يذكر"، وإنما يمكن التفصي منه إذا عينا اقتضاء المقام، فإن القائل إذا قال: زيد شاعر ومنجم، فإذا قلت في جوابه: ما زيد إلا شاعر، أفاد القصر، وليس المراد أن ليس لزيد صفة سوى الشاعرية، بل القصر على أحد الوصفين المتنازع فيهما، كذلك في هذا المقام، أنه تعالى لما عم الخطاب بقوله:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً)[البقرة: 168] وخصه بالمؤمنين في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ثم عقبهما بقوله: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ) الآية، وجب أن يقدر لكل من المخاطبين ما يناسبه ليصح الرد، وذلك بأن يرد على المشركين تحريمهم ما أحله الله وهو السائبة والحام والوصيلة وأمثالها، وتحليلهم ما حرمه الله من هذه المذكورات، كأنهم قالوا: تلك حرمت علينا وهذه أحلت، فقيل لهم: ما حرمت إلا هذه، وإليه ينظر قول القاضي: قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه، لا مطلقاً، وأن يرد على المؤمنين تحريمهم على أنفسهم لذيذ الأطعمة ورفيع الملابس، وهذه الأشياء المذكورة، فقيل لهم: ما حرمت عليكم إلا هذه، ويؤيده ما روينا عن

ص: 198

(أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) أي: رفع به الصوت للصنم؛ وذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى (غَيْرَ باغٍ) على مضطرّ آخر بالاستئثار عليه، (وَلا عادٍ) سدّ الجوعة. فإن قلت: في الميتات ما يحل؛ وهو السمك والجراد، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:«أحلت لنا ميتتان ودمان» . قلت: قُصِد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة؛ ألا ترى أنّ القائل إذا قال: أكل فلان ميتة لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد، كما لو قال: أكل دماً، لم يسبق الوهم إلى الكبد والطحال، ولاعتبار العادة والتعارف قالوا:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البخاري ومسلم، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"ما بال أقوام قالوا كذا وكذا! لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، قاله حين سمع أن نفراً من أصحابه قال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، ذكر في "مشارق الأنوار"، وأمثال هذا الحديث واردة كثيراً، وفيه نزل قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا)[المائدة: 87]، فالتركيب بالنسبة إلى المشركين: قصر قلب، وإلى المؤمنين: قصر إفراد، والفاء في قوله:(فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ) تفصيلية؛ لأنها تدل على تقدير محذوف يبين الحكم السابق. المعنى: ما حرم عليكم إلا هذه، فمن استحلها وتناولها فقد ارتكب إثماً عظيماً، ومن اضطر إليها وتناول شيئاً منها من غير بغي وعدوان فإن الله يغفر له ويرحمه ويحط عنه ذلك الإثم؛ لأن الله غفور رحيم، وظهر ضعف الوجه الثاني للقاضي، والله أعلم.

قوله: (أي: رفع به الصوت للصنم). قال القاضي: الإهلال أصله: رؤية الهلال، يقال: أهل الهلال وأهللته، لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رؤي سمي ذلك إهلالاً، ثم قيل لرفع الصوت: إهلال وإن كان لغيره.

ص: 199

من حلف لا يأكل لحماً فأكل سمكا لم يحنث، وإن أكل لحماً في الحقيقة. قال اللَّه تعالى:(لِتَاكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا)[النحل: 14]، وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث، وإن سماه اللَّه تعالى دابة في قوله:(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا)[الأنفال: 55]. فإن قلت: فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه؟ قلت: لأنّ الشحم داخل في ذكر اللحم، لكونه تابعا له وصفةً فيه؛ بدليل قولهم: لحم سمين، يريدون أنه شحيم.

[(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ* ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)].

(فِي بُطُونِهِمْ): ملء بطونهم، يقال: أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه (إِلَّا النَّارَ)، لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار، ومنه قولهم: أكل فلان الدم، إذا أكل الدية التي هي بدل منه. قال:

أَكَلْتُ دَماً إنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((فِي بُطُونِهِمْ): ملء بطونهم). قال أبو البقاء: والجيد أن يكون (فِي بُطُونِهِمْ): ظرفاً لـ (يَاكُلُونَ)، فعلى هذا هو مبالغة في الأكل، كأنهم كانوا متمكنين على البطون عند الأكل فملؤوها.

قوله: (أكلت دماً إن لم أرعك بضرة). تمامه:

بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

ص: 200

وقال:

يأكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا

أراد ثمن الإكاف، فسماه إكافاً؛ لتلبسه بكونه ثمناً له. (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ) تعريضٌ بحرمانهم حال أهل الجنة في تكرمة اللَّه إياهم بكلامه، وتزكيتهم بالثناء عليهم. وقيل: نفي الكلام عبارة عن غضبه عليهم، كمن غضب على صاحبه .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: كنت آكلاً دماً إن لم أتزوج عليك، أي: بدل الدم، وهي الدية، فإنهم يستنكفون من أخذ الدية، وقيل: أراد العلهز، وهو الدم والصوف يؤكل في الجدب، أي: وقعت في الجدوبة، أرعك: أفزعك، وإنما سميت الامرأتان للرجل ضرتين لأن كل واحدة منهما تريد ضر صاحبتها، "بعيدة مهوى القرط": كناية عن طول العنق.

قوله: (يأكلن كل ليلة إكافا)، أوله:

إن لنا أحمرة عجافا

الإكاف: البرذعة، أي: نعلفها كل ليلة ثمن الإكاف.

قوله: (تعريض بحرمانهم)، يعني: لا يكلمهم ولا يزكيهم: تعريض بأنهم لا يكرمون ولا يزكون بالثناء عليهم؛ لأن أهل الجنة مكرمون بتكليم الله إياهم ومزكون بثناء الله عليهم، إنما خصا بالذكر إظهاراً لغيظهم وإبداء لتحسرهم؛ لأن الإحسان إلى العدو سبب لاغتمام العدو، وفيه أنهم فوتوا على أنفسهم بسبب الكفر هاتين الكرامتين.

قوله: (نفي الكلام عبارة عن غضبه عليهم) مشعر بأنه من باب الكناية، وكذلك قوله:"تعريض بحرمانهم"؛ لأن التعريض نوع من أنواع الكناية، وأبى في "آل عمران" عند قوله:(وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[آل عمران: 77] أن يكون (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ)

ص: 201

فصرمه وقطع كلامه وقيل: لا يكلمهم بما يحبون، ولكن بنحو قوله:(اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)[المؤمنون: 108]. (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم، كما تقول لمن يتعرّض لما يوجب غضب السلطان: ما أصبرك على القيد والسجن! تريد أنه لا يتعرض لذلك إلا من هو شديد الصبر على العذاب. وقيل: (فما أصبرهم): فأي: شيء صبرهم! يقال: أصبره على كذا وصبره بمعنى وهذا أصل معنى فعل التعجب. والذي روي عن الكسائي أنه قال: قال لي قاضى اليمن بمكة: اختصم إليّ رجلان من العرب فحلف أحدهما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كناية عن عدم الالتفات بل مجازاً عنه، حيث قال:"أصله فيمن يجوز عليه النظر كناية، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان"، كأنه فرق بين إثبات النظر إلى الله تعالى ونفيه عنه وبين إثبات الكلام ونفيه. وفيه بحث.

قوله: (فأي شيء صبرهم)، إلى قوله:"وهذا أصل معنى فعل التعجب"، فرق بين الأصل والفرع، وهو كذلك؛ لأن الأصل الاستفهام فيه يحتمل الإنكار والتوبيخ والتعجب وغير ذلك، والفرع منصوص في إنشاء التعجب.

الراغب: قال أبو عبيدة: إن ذلك لغة بمعنى الجرأة، واحتج بقول الأعرابي لخصمه: ما أصبرك على الله، وهذا تصور مجاز بصورة حقيقة؛ لأن ذلك معناه: ما أصبرك على عذاب الله في تقديرك إذا اجترأت على ارتكاب ذلك، وإلى هذا يعود قول من قال: ما أبقاهم على النار! وقول من قال: ما أعملهم بعمل أهل النار! وذلك أنه قد يوصف بالصبر من لا صبر له في الحقيقة اعتباراً بالناظر إليه، واستعمال التعجب في مثله اعتبار بالخلق لا بالخالق.

ص: 202

على حق صاحبه فقال له: ما أصبرك على اللَّه! فمعناه: ما أصبرك على عذاب اللَّه! (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ) أي: ذلك العذاب بسبب أنّ اللَّه نزل ما نزل من الكتب بالحق (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) في كتب اللَّه فقالوا في بعضها: حق، وفي بعضها: باطل، وهم أهل الكتاب. (لَفِي شِقاقٍ): لفي خلاف (بَعِيدٍ) عن الحق. والكتاب للجنس، أو كفرهم ذلك، بسبب أنّ اللَّه نزّل القرآن بالحق كما يعلمون. (وإن الذين اختلفوا) فيه من المشركين، فقال بعضهم: سِحر، وبعضهم: شعر، وبعضهم: أساطير (لفي شقاق بعيد)، يعني: أنّ أولئك لو لم يختلفوا ولم يشاقوا لما جسر هؤلاء أن يكفروا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو كفرهم ذلك) هو معطوف على قوله: "ذلك العذاب بسبب أن الله نزل"؛ لأن المشار إليه السابق، إما ما دل عليه قوله:(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أو قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى) فعلى الأول: الكلام مع اليهود خاصة، والتعريف في الكتاب للجنس، وقوله:(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) الآية كالتأكيد والتذييل للجملة السابقة، يدل عليه وضع قوله:(الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) موضع الضمير. المعنى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) إنما يثبت لهم العذاب؛ لأنه تعالى نزل جنس الكتاب بالحق وهم اختلفوا فيها وكتموا الحق وقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل؛ ثم نعى عليهم هذا المعنى على سبيل التذييل بقوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)، ففي الكلام حذف، والمحذوف ما قدرناه لدلالة التذييل عليه، وقدر القاضي اللام للعهد فقال: ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فرفضوه بالتكذيب والكتمان.

وعلى الثاني: الكلام مع اليهود والمشركين، والتعريف للعهد، والمراد بالكتاب: القرآن، وبالذين "اختلفوا": المشركون، وقوله:(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ) الآية: حال من الكتاب، وقد أقيم مقام الراجع المظهر. المعنى: إنما كفر اليهود لأن الله تعالى نزل القرآن بالحق،

ص: 203

[(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَاسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)].

الْبِرَّ: اسم للخير ولكل فعل مرضيّ. (أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الخطاب لأهل الكتاب؛ لأن اليهود تصلى قِبل المغرب إلى بيت المقدس، والنصارى قِبل المشرق؛ وذلك أنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حُوّل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، وزعم كل واحد من الفريقين أنّ البرّ التوجه إلى قبلته، فردّ عليهم. وقيل: ليس البرّ فيما أنتم عليه فإنه منسوخ خارج من البرّ، ولكن البرّ ما نبينه. وقيل: كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والحال: أن المشركين كانوا فيه على شقاق قوي واختلاف شديد ولم تتفق كلمتهم مع كلمة المسلمين حتى جسرت اليهود على أن طعنوا فيه وكفروا به بعد ما عرفوا أنه الحق فاشتروا الضلالة بالهدى، ولا امتناع في أن تصدر الجملة الحالية بأن كما ورد في قوله:(وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ الطَّعَامَ)[الفرقان: 20]، قال أبو البقاء: كسرت (إن) لأجل اللام، وقيل: لو لم تكن اللام كسرت أيضاً؛ لأن الجملة حالية، إذ المعنى: إلا وهم يأكلون، واستشهد دار الحديثي بهذه الآية في "شرحه" لهذا المعنى.

قوله: (لأن اليهود تصلي قبل المغرب؛ إلى بيت المقدس)، أراد بحسب أفق مكة. وذلك جار مجرى سبب النزول والتعليل في كون الخطاب مع أهل الكتاب.

قوله: (وقيل: كثر خوض المسلمين) معطوف على قوله: "الخطاب لأهل الكتاب" فعلى

ص: 204

فقيل: ليس البرّ العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البرّ أمر القبلة، ولكن البرّ الذي يجب الاهتمام به، وصرف الهمة برّ من آمن وقام بهذه الأعمال. وقرئ:(وليس البرّ) بالنصب على أنه خبر مقدم. وقرأ عبد اللَّه: (بأن تولوا) على إدخال الباء على الخبر للتأكيد كقولك: ليس المنطلق بزيد. (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) على تأويل حذف المضاف، أي: برّ من آمن، أو يتأول البرّ بمعنى ذى البرّ، أو كما قالت:

فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ

وعن المبرّد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت: ولكنّ البرّ، بفتح الباء. وقرئ:(ولكن البارّ). وقرأ ابن عامر ونافع: ولكنّ (البر) بالتخفيف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا: الخطاب عام في أهل الكتاب والمسلمين، فينبغي أن يكون ما خاض فيه المليون جميعاً أمراً عظيماً، وذلك أن اجتماعهم وكثرة خوضهم في شيء يوهم أن ذلك الشيء أمر عظيم، ولهذا قال:"ليس البر العظيم". وأما اختصاص المشرق والمغرب فللتعميم لا تعيين السمتين كما في الوجه الأول.

قوله: (أو كما قالت) أي الخنساء، ترثي أخاها صخراً، أول البيت:

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت

جعلت الناقة كأنها تجسدت من الإقبال والإدبار، يعني: هذه الناقة ترتع زماناً، فلما ذكرت صاحبها تترك الرتع وتقبل وتدبر بالغة حدها.

قوله: (لو كنت ممن يقرأ) أي: لو أجيز لي بأن أقرأ بعدما ورد المنع بإجماع الصحابة أن يقرأ كل أحد من غير سماع لقراءته. الانتصاف: هذا القول من المبرد خطأ، فإن القراءة لا توكل إلى الاختيار والاجتهاد، بل معتمدها النقل، والمتواترة أفصح؛ لأن أول الكلام (لَيْسَ الْبِرَّ)

ص: 205

(وَالْكِتابِ) جنس كتب اللَّه، أو القرآن (عَلى حُبِّه) مع حب المال والشح به، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا. وقيل: على حب اللَّه. وقيل: على حب الإيتاء؛ يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه. وقدم ذوى القربى؛ لأنهم أحق. قال النبي صلى الله عليه وسلم:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو مصدر قولاً واحداً، فلو استدرك البر انقلبت المطابقة، ولذلك حذف المضاف وتقديره:"بر من آمن" أصح وأشد مناسبة للسياق.

قوله: ((وَالْكِتَابِ) جنس كتب الله أو القرآن)، فقد أومى بهذا إلى بيان النظم، وان هذا الكتاب هو: ذلك الكتاب المذكور في قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)، فإن أريد به الجنس كان هذا مثله، وإن أريد العهد فكذلك؛ لأن المعرف إذا أعيد كان الثاني عين الأول، وبيان النظم أنه تعالى لما ذكر اختلاف أهل الكتاب في جنس كتب الله أو القرآن، ذكر اختلافاً آخر لهم في شأن القبلة مستطرداً، وجعله تخلصاً وذريعة إلى ذكر أقسام البر وأصنافه، وأراد أنهم عن سائر الخيرات معزولون، ولا يختص اختلافهم في الكتاب وحده أو القبلة وحدها.

قوله: (كما قال ابن مسعود)، والحديث من رواية البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال:"أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا وقد كان".

قوله: (وقيل: على حب الإيتاء) اعلم أن الضمير إذا كان للمال أو الإيتاء كان من باب التتميم والمبالغة، وإذا كان لله تعالى كان من التكميل لانضمام الإخلاص مع الكرم.

ص: 206

"صدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي رحمك اثنتان؛ لأنها صدقة وصلة" وقال عليه الصلاة والسلام: ((أفضل الصدقة على ذى الرحم الكاشح)). وأطلق (ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى) والمراد الفقراء منهم؛ لعدم الإلباس. و"المسكين": الدائم السكون إلى الناس، لأنه لا شيء له، كالمسكير: للدائم السكر. (وَابْنَ السَّبِيلِ) المسافر المنقطع. وجُعل ابنا للسبيل؛ لملازمته له، كما يقال للص القاطع: ابن الطريق. وقيل: هو الضيف؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (صدقتك على المسكين صدقة) الحديث من رواية الترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي، عن سلمان بن عامر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة".

قوله: (ذي الرحم الكاشح)، الأساس: هو طاوي الكشحين، ومنه عدو كاشح، وكشح له بالعداوة، أي: أضمرها في كشحه.

قوله: (و"المسكين": الدائم السكون إلى الناس)؛ لأنه لا شيء له، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، لقوله تعالى:(أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ)[البلد: 16]، ومذهب الشافعي رحمه الله: هو الذي يملك ما يقع موقعاً ن كفايته ولا يكفيه، لقوله تعالى:(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ)[الكهف: 79].

ص: 207

لأنّ السبيل ترعف به. (وَالسَّائِلِينَ) المستطعمين. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "للسائل حق وإن جاء على ظهر فرسه". (وَفِي الرِّقابِ) وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم. وقيل: في ابتياع الرقاب وإعتاقها. وقيل: في فك الأسارى. فإن قلت: قد ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه، ثم قفاه بإيتاء الزكاة فهل دلّ ذلك على أنّ في المال حقا سوى الزكاة؟ قلت: يحتمل ذلك. وعن الشعبي: أنّ في المال حقاً سوى الزكاة، وتلا هذه الآية. ويحتمل أن يكون ذلك بيان مصارف الزكاة، أو يكون حثاً على نوافل الصدقات والمبارّ. وفي الحديث:«نسخت الزكاة كلَّ صدقة» يعني وجوبها. وروي ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن السبيل ترعف به). الأساس: ومن المجاز: رعف فلان بين يدي القوم، واسترعف: تقدم، ورعف به صاحبه: قدمه.

قوله: (للسائل حق ولو جاء على ظهر فرسه)، أخرجه أبو داود ولم يذكر فيه الظهر، والراوي علي رضي الله عنه.

قوله: (ويحتمل أن يكون ذلك بيان مصارف الزكاة)، فإنه تعالى لما ذكر إقامة الصلاة ذكر شقيقتها مجملاً بعدما ذكرها مفصلاً، وذلك أن مفهوم (وَآتَى الزَّكَاةَ) ومفهوم (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى) إلى آخره، متقاربان إجمالاً وتفصيلاً، وإنما قدم بيان المصرف على ذكر الزكاة، لأنه هو المهتم بشأنه، ألا ترى على قوله تعالى:(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)؟ [البقرة: 215] وسيجيء بيانه، وإنما أوقع الصلاة واسطة للعقد بين المفصل والمجمل ليؤذن بأن التعظيم لأمر الله إنما يحسن كل الحسن إذا كان مكتنفاً بالشفقة على خلق الله.

ص: 208

«ليس في المال حق سوى الزكاة» . (وَالْمُوفُونَ) عطف على (من آمن). وأخرج (الصَّابِرِينَ) منصوباً على الاختصاص والمدح؛ إظهاراً الفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال. وقرئ: (والصابرون)، وقرئ:(والموفين والصابرين). و (الْبَاساءِ): الفقر والشدّة، (وَالضَّرَّاءِ): المرض والزمانة. (صَدَقُوا): كانوا صادقين جادّين في الدين.

[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ* وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)].

عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري، وعطاءٍ، وعكرمة، وهو مذهب مالك والشافعي رضي الله عنهم: أنّ الحر لا يقتل بالعبد، والذكر لا يقتل بالأنثى،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على الاختصاص والمدح إظهاراً لفضل الصبر). نقل الإمام عن أبي علي الفارسي: إذا ذكرت صفات في معرض المدح أو الذم، فالأحسن أن يخالف بإعرابها؛ لأن المقام يقتضي الإظناب، فإذا خولف في الإعراب كان المقصود أكمل؛ لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفنن، وعند الاتحاد تكون نوعاً واحداً.

قوله: (وهو مذهب مالك والشافعي: أن الحر لا يقتل بالعبد، والذكر لا يقتل بالأنثى)، وفيه نظر، إذ مذهبه أن الذكر يقتل بالأنثى؛ قال الإمام:(الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ)

ص: 209

أخذاً بهذه الآية. ويقولون: هي مفسرة لما أبهم في قوله: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)[المائدة: 45]؛ ولأن تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أخرج مخرج التفسير لقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ) فدل على أن رعاية التسوية في الحرية والعبدية معتبرة، وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية، وقال: إن الآية دلت على أن لا يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر، إلا أنا خالفنا هذا الظاهر بالقياس والإجماع، أما القياس فهو أنه لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر أولى، وكذلك القول في قتل الأنثى، وأما الإجماع فهو أن يقتل الذكر بالأنثى، وقال القاضي: والآية لا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى، كما لا تدل على عكسه، فإن المفهوم إنما يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم، وقد بين الغرض من بيان الواقعة في الجاهلية، وإنما منع مالك والشافعي قتل الحر بالعبد، سواء كان عبده أو عبد غيره لما روى علي رضي الله عنه: أن رجلاً قتل عبده، فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ولم يقده به، ولأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكير، وللقياس على الأطراف.

الانتصاف: وهم على الإمامين في مسألة قتل الذكر بالأنثى.

قوله: (ولأن تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة): عطف على قوله: "ويقولون"؛ لأنه

ص: 210

وهذه خوطب بها المسلمون وكتب عليهم ما فيها. وعن سعيد ابن المسيب، والشعبي والنخعي، وقتادة، والثوري، وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه: أنها منسوخة بقوله: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)[المائدة: 45]، والقصاص ثابت بين العبد والحرّ، والذكر والأنثى. ويستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم:(المسلمون تتكافأ دماؤهم)، وبأنّ التفاضل غير معتبر في الأنفس، بدليل أنّ جماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به. وروي: «أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية، وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا: لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد، والذكر بالأنثى، والاثنين بالواحد، فتحاكموا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

استدلال على أن الآية ليست بمنسوخة، فهو عطف معنوي، قال القاضي: إن الآية لا ينسخها قوله: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)؛ لأنه حكاية ما في التوراة، فلا ينسخ ما في القرآن؛ لأن من شرط الناسخ تأخره عن المنسوخ.

قوله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) تمامه: عن علي رضي الله عنه: "ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده"، أخرجه النسائي من رواية أبي جحيفة، وأخرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب، مع زيادات.

النهاية: تتكافأ دماؤهم، أي: تتساوى في القصاص والديات، والكفء: النظير والمساوي، ومنه الكفاءة في النكاح. ويسعى بذمتهم أدناهم، أي: إذا أعطى أحد الجيش العدو أماناً، جاز ذلك على جميع المسلمين، وليس لهم أن يخفروه، ولا أن ينقضوا عليه عهده.

ص: 211

حين جاء اللَّه بالإسلام؛ فنزلت، وأمرهم أن يتباوؤا" (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) معناه: فمن عفي له من جهة أخيه شيء، من العفو، على أنه كقولك: سير بزيد بعض السير، وطائفة من السير، ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به؛ لأن «عفا» لا يتعدّى إلى مفعول به إلا بواسطة. وأخوه: هو وليّ المقتول

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن يتباوءوا)، النهاية: عن أبي عبيد: يتباءوا، الصواب: يتباوءوا، بوزن: يتقاتلوا، من البواء وهو المساواة، يقال: باوأت بين القتلى، أي: ساويت، وقال غيره: يتباءوا صحيح، يقال: باء به: إذا كان كفؤاً له، وهم بواء أي: أكفاء، معناه: ذوو بواء.

قوله: (فمن عفي له من [جهة] أخيه شيء)، أي: عفو قليل، وهو مفعول مطلق، والفعل مسند إلى المصدر، كما في قولك: سير بزيد بعض السير.

قوله: (ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به)، روى صاحب "الكشف"، عن عثمان، أنه قال: قد يمكن أن يكون تقديره: فمن عفي له من أخيه عن شيء، فملا حذف الجار ارتفع "شيء" لوقوعه موقع الفاعل، كما أنك لو قلت: سير بزيد وحذفت الباء وقلت: سير زيد. ويجوز فيه وجه آخر، وهو أن يكون شيء مرتفعاً بفعل محذوف يدل عليه قوله: عفي له؛ لأن معناه: ترك له شيء.

قوله: (وأخوه: [هو] ولي المقتول)، (فَمَنْ) عبارة عن القاتل، و (مِنْ): لابتداء الغاية، و (شَيْءٌ) عبارة عن العفو.

ص: 212

وقيل له: أخوه؛ لأنه لابسه من قِبَل أنه ولى الدم ومطالبه به، كما تقول للرجل: قل لصاحبك كذا، لمن بينه وبينه أدنى ملابسة، أو ذكره بلفظ الأخوة؛ ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام. فإن قلت: إن "عفى" يتعدّى بـ"عن" لا باللام، فما وجه قوله:(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ)؟ قلت: يتعدى بـ"عن" إلى الجاني وإلى الذنب، فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال اللَّه تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ)[التوبة: 43]، وقال:(عَفَا اللَّهُ عَنْها)[المائدة: 101]، فإذا تعدّى إلى الذنب والجاني معاً قيل: عفوت لفلان عما جنى، كما تقول: غفرت له ذنبه، وتجاوزت له عنه، وعلى هذا ما في الآية كأنه قيل: فمن عُفيَ له عن جنايته، فاستغنى عن ذكر الجناية ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الواحدي: العفو عبارة عن ترك الواجب من أرش جناية أو عقوبة ذنب أو ما استوجبه الإنسان بما ارتكبه من جناية، فصفح عنه وترك من الواجب شيء.

قوله: (بلفظ الأخوة، ليعطف) أي: للاستعطاف، نحو قول هارون عليه السلام:(يَبْنَؤُمَّ)[طه: 94].

قال الواحدي: أراد من دم أخيه فحذف المضاف للعلم به، واراد بالأخ: المقتول، سماه أخاً للقاتل فدل على أن أخوة الإسلام بينهما لا تنقطع وأن القاتل لم يخرج من الإيمان بقتله، والكنايتان. في قوله:(لَهُ) و (أَخِيهِ) يرجعان إلى "من" وهو القاتل.

قوله: (وعلى هذا ما في الآية) أي: على الاستعمال الثاني، وهو تعدي "عفا" إلى الذنب، وقولهم: عفوت لفلان عما جنى، ورد (عُفِيَ) في الآية وحذف "عن جنايته" لأن العفو استدعى ذلك.

ص: 213

فإن قلت: هلا فسرت "عُفيَ" بـ"ترك" حتى يكون شيءٌ في معنى المفعول به؟ قلت: لأن "عفا الشيء" بمعنى تركه، ليس بثبتٍ، ولكن أعفاه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«وأعفوا اللحى» . فإن قلت: فقد ثبت قولهم: عفا أثره؛ إذا محاه وأزاله فهلا جعلت معناه: فمن محى له من أخيه شيء. قلت: عبارة قلقة في مكانها، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها. وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم يجترئ إذا أعضل عليه تخريج وجهٍ للمشكل من كلام اللَّه على اختراع لغة وادعاء على العرب ما لا تعرفه، وهذه جرأة يستعاذ باللَّه منها.

فإن قلت: لم قيل: شيء من العفو؟ قلت: للإشعار بأنه إذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم، أو عفا عنه بعض الورثة؛ تم العفو؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأعفوا اللحى) الحديث من رواية البخاري ومسلم وغيرهما، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهكوا الشوارب وأعفوا اللحى". أنهكوا، أي: بالغوا في قصها.

قوله: (عبارة قلقة)، أي: غير قارة في مكانها، فإن الكلام الفصيح هو الذي يستعمل فيه ما هو على ألسنة الفصحاء أدور، واستعمالهم له أكثر، وكلام الله أفصح الكلام لا يجوز فيه أمثال هذه العبارة. نعم، فيه ما لو اقتضاه المقام كما في قول الشاعر:

وما عفت الديار له محلاً

عفاه من حدا بهم وساقا

لأن الكلام في محو أثر ديار المحبوبة فهو مكان استعماله، والآية مسوقة في شأن العفو عن الجنايات، فهو بمعزل عن استعماله فيه، وهو المراد من قوله:"نابية عن مكانها".

قوله: (وبعض منه) تفسير لقوله: "طرف من العفو"، والبعضية إنما تتصور بأحد شيئين: بأن يعفو الورثة كلهم بعض الدم، أو بأن يعفو بعض الورثة حقه بتمامه.

ص: 214

وسقط القصاص، ولم تجب إلا الدية (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ): فليكن اتباع، أو فالأمر اتباع. وهذه توصية للمعفو عنه والعافي جميعاً، يعنى: فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة، وليؤدّ إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان، بأن لا يمطله ولا يبخسه. (ذلِكَ) الحكم المذكور من العفو والدية (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)؛ لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرّم العفو وأخذ الدية، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرّم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث: القصاص والدية والعفو، توسعة عليهم وتيسيراً (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل، أو القتل بعد أخذ الدية؛ فقد كان الولي في الجاهلية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرم العفو وأخذ الدية)، قلت: أما تحريم أخذ الدية فصحيح، لما روينا عن البخاري والنسائي عن ابن عباس:"كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) الآية"، وأما تحريم العفو فمنظور فيه لقوله تعالى:(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) إلى قوله: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ)[المائدة: 45]، وقوله في "الأعراف" في تفسير قوله:(وَامُرْ قَوْمَكَ يَاخُذُوا بِأَحْسَنِهَا)[الأعراف: 145]"أي: فيها ما هو حسن وأحسن، كالاقتصاص والعفو".

قوله: (من قتل غير القاتل)"من" بمعنى "أجل"، أي: تجاوز ما شرع له من جهة قتل غير القاتل، ويجوز أن يكون بياناً لجملة قوله:"فتجاوز ما شرع له" ولا يجوز أن يكون بياناً لـ "ما" لفساد المعنى.

قوله: (فقد كان الولي في الجاهلية): جملة مستطردة لبيان سبب النزول، استطرد بين تفسير الجزاء والشرط للاهتمام، والفاء لشدة الاتصال.

ص: 215

يؤمّن القاتل بقبوله الدية، ثم يظفر به فيقتله (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة. وعن قتادة: العذاب الأليم: أن يقتل لا محالة، ولا يقبل منه دية، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا أعافى أحداً قتل بعد أخذه الدية» . (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) كلام فصيح؛ لما فيه من الغرابة؛ وهو أنّ القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا أعافي أحداً قتل بعد أخذه الدية) في رواية أبي داود عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا أعفي من قتل بعد الدية".

قوله: (ومن إصابة) عطف على قوله: (من الغرابة)، أما الغرابة فهي حمل الشيء على ضده، ولم يكتف بهذا القدر، بل صرح بالظرفية بأن جعل القصاص مدخولاً لحرف (في)، وفائدته: أن المظروف إذا حواه الظرف لا يصيبه ما يفوته ولا هو بنفسه يتفرق ويتلاشى، كذلك بالقصاص، يحمي الحياة من الآفات، ومعناه: أن الحياة الحاصلة بالارتداع، والحياة العظيمة، إنما تحصل بشرعية القصاص لا غير.

وأما البلاغة فهي أن هذا الكلام مع وجازته دل على معان كثيرة؛ لأن لام الجنس الداخلة في القصاص تدل على حقيقة هذا الحكم، وهو مشتمل على الضرب والجرح والقتل وما يجري مجراها، ولو قيل كما قالوا:"القتل أنفى للقتل"، لم يفد هذه الفوائد، ثم إذا نظر إلى تنكير الحياة من حيث كونها مطلقة غير مقيدة وقد حمل عليها قوله:(فِي الْقِصَاصِ) أفاد التعظيم، وإذا قيدت بقرائن الأحوال بالارتداع، أفاد التخصيص، فعلى هذا قوله:"أو نوع من الحياة" عطف على قوله: "حياة عظيمة".

ص: 216

لأنّ المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة؛ وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليبٍ حتى كاد يفنى بكر بن وائل، وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أي: حياة، أو نوع من الحياة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل)، وكان من حديثه على ما رواه ابن الأثير في "الكامل": أن وائل بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غانم بن تغلب بن وائل، كان من عزه إذا سار أخذ معه جرو كلب، فإذا مر بروضة تعجبه، ضربه وألقاه في ذلك المكان وهو يعوي، فلا يسمع عواءه أحد إلا تجنبه، فسمي بذلك كليب وائل، ثم إن كليباً تزوج جليلة بنت مرة بن شيبان أخت جساس، وحمى أرضاً من العالية، ثم إن رجلاً يسمى بسعد الجرمي نزل بالبسوس، خالة جساس، وكان للجرمي ناقة ترعى مع نوق جساس وهي مختلطة مع إبل كليب، واسم الناقة سراب، وهي التي ضربت العرب بها المثل فقالوا: أشأم من سراب، وأشأم من البسوس، فنظر كليب إلى سراب فأنكرها، فقال لجساس: لا تعد هذه الناقة إلى هذه الحمى، فإن عادت لأضعن سهمي في ضرعها، فقال جساس: إذن لأضعن سناني في لبتك، ثم تفرقا، فرأى كليب ناقة الجرمي في حماه فرمى ضرعها فأنفذه، فولت ولها عجيج، فصرخ صاحبها بالذل، ووضعت البسوس يدها على رأسها فصاحت: واذلاه! فقال جساس: لا تراعي، إني سأقتل جملاً أعظم من هذه،

ص: 217

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعنى به كليباً، فلم يزل يطلب غرة كليب حتى قتله، فبلغ الخبر مهلهلاً أخا كليب، واسمه عدي وسمي مهلهلاً لأنه أول من هلهل الشعر، أي: رققه، من قولهم: ثوب هلهل: سخيف النسج، وهو خال امرئ القيس بن حجر الكندي، فجز شعره، وقصر ثوبه، وهجر نساءه، وترك الغزل وحرم القمار والشرب، فجمع إليه قومه فأقدم على حرب بكر، وكان من الفريقين ما كان، ثم إن جليلة زوجة كليب عادت إلى أبيها وهي حامل، فولدت غلاماً فسمته هجرساً، ورباه خاله جساس، فخرجا ذات يوم وعليهما اللأمة، فأخذ هجرس بوسط رمحه وقال: وفرسي وأذنيه، ورمحي ونصليه، وسيفي وغراريه، لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه، ثم طعن جساساً فقتله ولحق بقوم أبيه، فأرسل مرة أبو جساس إلى مهلهل: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً فاكفف عن الحرب ودع اللجاج والإسراف، وقد أرسلت ابني إليك، يعني: بجير بن الحارث بن عباد، فإما أن تقتله بأخيك وتصلح بين الحيين، وإما أن تطلقه وترفع ذات البين، فقد مضى من الحيين في هذه الحروب من كان بقاؤه أصلح لنا ولكم، فلما وقف على كتابه أخذ بجيراً فقتله وقال: بؤ بشسع نعل كليب، فلما سمع أبوه بقتله قال: نعم القتيل قتيلاً إن أصلح بين ابني وائل: بكر وتغلب، فقيل له ما قال، فغضب عند ذلك وولي أمر بكر وشهد حربهم، ودامت الحروب بين الحيين أربعين سنة، ثم إن مهلهلاً قال لقومه: قد رأيت أن تبقوا على قومكم، فإنهم يحبون صلاحكم وقد أتت على حربكم أربعون سنة وما لمتكم على ما كان من طلبكم بوتركم، فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت

ص: 218

وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، لأنه إذا همّ بالقتل فعلم أنه يقتصّ فارتدع منه سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القود، فكان القصاص سبب حياة نفسين.

وقرأ أبو الجوزاء: (ولكم في القصاص حياة) أي: فيما قص عليكم من حكم القتل. والقصاص. وقيل: القصص: القرآن، أي: ولكم في القرآن حياة للقلوب، كقوله تعالى:(رُوحاً مِنْ أَمْرِنا)[الشورى: 52]، (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال: 42]. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي: أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ): تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به. وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة.

[(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ* فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تمل من طولها، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد، ونائحة لا تزال تصرخ في النواحي ودموع لا ترقأ، وأجساد لا تدفن، وسيوف مشهورة، ورماح مشرعة؟ وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم، وتتعطف الأرحام، أما أنا فلا تطيب نفسي أن أقيم فيكم، ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب، وأخاف أن أحملكم على الاستئصال، وأنا سائر إلى اليمن، ففارقهم، فكان كما قال.

قوله: (لوقوع العلم) تعليل للارتداع، وقوله:(لأنه إذا هم) تعليل للحياة الحاصلة بالارتداع.

قول: (وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة) يعني: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) خطاب عام لجميع الأمة، وتعليله بقوله:(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) يخصصه بالأئمة وهو المراد بقوله: "تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به".

ص: 219

(إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ): إذا دنا منه وظهرت أماراته. (خَيْراً): مالاً كثيراً. عن عائشة رضى اللَّه عنها: أنّ رجلاً أراد الوصية وله عيال وأربع مئة دينار، فقالت: ما أرى فيه فضلاً، وأراد آخر أن يوصى فسألته: كم مالك؟ فقال: ثلاثة آلاف. قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: إنما قال اللَّه (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإنّ هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك. وعن علىّ رضى اللَّه عنه: أنّ مولى له أراد أن يوصى وله سبعمائة فمنعه. وقال: قال اللَّه تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) والخير: هو المال، وليس لك مال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((خَيْراً): مالاً كثيراً)، الراغب: الخير: ما يرغب فيه الكل، كالعقل مثلاً والعدل والفضل والشيء النافع، والشر: ضده، وقيل: الخير ضربان: مطلق، وهو أن يكون مرغوباً فيه بكل حال، كالجنة، ومقيد، وهو أن يكون خيراً لواحد، وشراً لآخر، كالمال، ولهذا وصفه الله تعالى بالأمرين فقال في موضع:(إِنْ تَرَكَ خَيْراً)[البقرة: 180]، وفي آخر:(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ* نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ)[المؤمنون: 55 - 56]، وقال بعض العلماء: لا يقال للمال: خير حتى يكون كثيراً، قال تعالى:(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)[العاديات: 8]، والخير والشر يكونان اسمين كما مر ووصفين، وتقديرهما تقدير أفعل منه، كقوله تعالى:(نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا)[البقرة: 106]، قال بعض العلماء: إنما سمي المال هنا خيراً تنبيهاً على معنى لطيف، وهو أن الذي تحسن الوصية به ما كان مجموعاً من المال من وجه محمود، وعلى ذلك قوله تعالى:(قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)[البقرة: 215] وقيل في قوله تعالى: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً)[النور: 33] أي: مالاً من جهتهم، وقيل: إن علمتم أن عتقهم يعود عليكم وعليهم بنفع، أي: بثواب.

قوله: (وعن علي رضي الله عنه الحديث رواه الدارمي، عن هشام، عن أبيه، أن علياً

ص: 220

و (الوصية) فاعل (كتب)، وذكر فعلها للفاصل؛ أو لأنها بمعنى أن يوصى، ولذلك ذكر الراجع في قوله:(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ). والوصية للوارث كانت في بدء الإسلام، فنسخت بآية المواريث، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللَّه أعطى كلّ ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث. وبتلقى الأمّة إياه بالقبول حتى لحق بالمتواتر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دخل على مريض فذكر له الوصية، فقال علي رضي الله عنه: قال الله تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) ولا أراه ترك خيراً، قال حماد: فحفظت أنه ترك أكثر من سبع مئة.

قوله: (فنسخت بآية المواريث وبقوله صلى الله عليه وسلم، وظاهر كلامه أن الآية مع الحديث نسخاً آية الوصية، والحق أن آية المواريث ناسخة لآية الوصية، والحديث مبين لكونها ناسخة؛ لأن الحديث لا ينسخ الكتاب، وقد مر في قوله تعالى: (مَا نَنسَخْ).

ص: 221

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبيانه: أنه صلى الله عليه وسلم خطب عام حجة الوداع وقال: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث"، يعني أن الوصية إنما كانت لأن حقوق الأقرباء لم تكن منقسمة، فالآن قسمها الله تعالى وأعطى لكل منهم ما يستحقه، فبطل الحكم الأول، قيل: كون الآية منسوخة بآية المواريث بعيد؛ لأنه لا يمتنع الجمع بين حكم الآيتين. نعم، يجوز أن تكون آية المواريث مخصصة لهذه، وذلك بأنها توجب الوصية للأقربين، وآية المواريث تخرج القريب الوارث وتبقي غير الوارث بسبب اختلاف الدين أو الرق أو القتل، ومن يحجب لوجود الحاجب، ومن لم يكن وارثاً كذوي الأرحام فيوصى لهؤلاء صلة للرحم، ولو قيل: كيف الجمع فيمن لا يخلف إلا الوالدين فيصير كل المال حقاً لهما فلا يبقى للوصية شيء؟ فيقال: هذا لمانع.

وقال الإمام: وكونها منسوخة بالحديث بعيد أيضاً، ودعوى تلقي الأمة إما على الظن أو على القطع، والأول مسلم، إلا أن ذلك إجماع منهم على أنه خبر واحد، فلا يجوز نسخ القرآن به، والثاني ممنوع لأنهم لو قطعوا بصحته مع أنه من الآحاد لأجمعوا على الخطأ وأنه غير جائز، ولو قيل: إنها منسوخة بالإجماع بعد وجود دليل الناسخ واكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدليل، فيقال: لا يصح ذلك؛ لأن في الأمة من أنكر وقوع النسخ، فكيف يدعي انعقاد الإجماع؟

ص: 222

وإن كان من الآحاد؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإن كان من الآحاد) يريد أن السلف وإن قبلته على طريقة الآحاد لكن الخلف ألحقته بالتواتر لتلقيهم إياه بالقبول، أي: أجمعوا على صحته ونسخوا القرآن به، والجواب عنه ما ذكره الإمام.

واعلم أن الحديث المتواتر المعتبر في الدين هو: أن يرويه جماعة لا يتوهم تواطؤهم على الكذب لكثرتهم وعدالتهم، ويدوم هذا الحد فيكون أوله كآخره، ووسطه كطرفيه، نحو القرآن والصلوات الخمس، وأعداد الركعات ومقادير الزكوات وما أشبه ذلك، ذكره البزدوي في "أصوله".

وهذا الحديث لم يتفق له هذا المعنى لا سلفاً ولا خلفاً، أما الخلف فإن البخاري ومسلماً والنسائي ما أوردوه في "صحاحهم"، وأما السلف فإن مالكاً لم يذكره في "موطئه" والله أعلم.

ص: 223

لأنهم لا يتلقون بالقبول إلا الثبت الذي صحت روايته.

وقيل: لم تنسخ، والوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين. وقيل: ما هي بمخالفة لآية المواريث.

ومعناها: كتب عليكم ما أوصى به اللَّه من توريث الوالدين والأقربين من قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ)[النساء: 11]؛ أو: كتب على المحتضر أن يوصى للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به اللَّه لهم عليهم، وأن لا ينقص من أنصبائهم (بِالْمَعْرُوفِ): بالعدل، وهو أن لا يوصى للغنى ويدع الفقير، ولا يتجاوز الثلث. (حَقًّا) مصدر مؤكد، أي: حق ذلك حقاً (فَمَنْ بَدَّلَهُ): فمن غير الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) وتحققه (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) فما إثم الإيصاء المغير أو التبديل إلا على مبدّليه دون غيرهم من الموصى والموصى له، لأنهما بريئان من الحيف.

(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيدٌ للمبدّل. (فَمَنْ خافَ): فمن توقع وعلم، وهذا في كلامهم شائع يقولون: أخاف أن ترسل السماء، يريدون التوقع والظنّ .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إلا الثبت)، الثبت، بالفتحتين: الحجة، وأما قولهم: فلان ثبت من الأثبات: مجاز منه، لقولهم: فلان حجة: إذا كان ثقة في روايته.

قوله: (أو: كتب على المحتضر أن يوصي) عطف على: "كتب عليكم ما أوصى به الله"، لأن المراد: كتب على الحكام أو على الأولياء أو على المحتضر، أي: الذي حضرته الوفاة.

قوله: (فمن توقع وعلم)، قال الواحدي: الخوف يستعمل بمعنى العلم؛ لأن في الخوف طرفاً من العلم، وذلك أن القائل إذا قال: أخاف أن يقع أمر كذا، كأنه يقول: أعلم، وإنما يخاف لعلمه بوقوعه، فاستعمل الخوف في العلم. قال تعالى:(وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ)[الأنعام: 51]، وقال تعالى:(إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)[البقرة: 229].

ص: 224

الغالب الجاري مجرى العلم. (جَنَفاً): ميلاً عن الحق بالخطإ في الوصية، (أَوْ إِثْماً): أو تعمداً للحيف (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) بين الموصى لهم؛ وهم الوالدان والأقربون؛ بإجرائهم على طريق الشرع (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) حينئذ، لأنّ تبديله تبديل باطل إلى حق ذكر من يبدّل بالباطل ثم من يبدّل بالحق ليعلم أنّ كل تبديل لا يؤثم.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)].

(كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. قال علىّ رضى اللَّه عنه: أوّلهم آدم، يعنى أنّ الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى اللَّه أمّة من افتراضها عليهم، لم يفرضها عليكم وحدكم. (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بالمحافظة عليها وتعظيمها؛ لأصالتها وقدمها، أو: لعلكم تتقون المعاصي، لأنّ الصائم أظلف لنفسه وأردع لها من مواقعة السوء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الصوم عبادة قديمة أصلية)، قال القاضي: الصوم في اللغة: الإمساك عما تنازع إليه النفس، وفي الشرع: الإمساك عن المفطرات، فإنها معظم ما تشتهيه النفس.

قوله: (أظلف لنفسه)، الأساس: ظلف نفسه: كفها عما لا يجمل، قال ربيعة بن مقروم:

وظلفت نفسي عن لئيم المأكل

ص: 225

قال صلى الله عليه وسلم: «فعليه بالصوم فإنّ الصوم له وجاء» أو لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين، لأنّ الصوم شعارهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فعليه بالصوم)، الحديث على ما روينا عن البخاري ومسلم، عن عبد الله قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء".

الوجاء: نوع من الخصاء. وهو أن ترض عروق الأنثيين وتترك الخصيتان كما هما، أي: أنه يقطع شهوة الجماع كما يقطعها الخصاء.

النهاية: الباءة: النكاح والتزويج، وهو من المباءة: المنزل؛ لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً، وقيل: لأن الرجل يتبوأ من أهله، أي: يتمكن منها كما يتبوأ من منزله.

قوله: (لعلكم تنتظمون في زمرة المتقين). اعلم أن التقوى من الوقاية، وهي: فرط الصيانة، والمتقي شرعاً على ما قال هو: الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك. وقد فسر (يَتَّقُونَ) هنا بوجوه، أحدها: أنه مجاز باعتبار ما يؤول إليه، أي: كتب عليكم شرعية الصيام لعلكم تصيرون متقين ببركة المحافظة عليه وتعظيمه، فإن تعظيم شعائر الله له تأثير عظيم في النفوس، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، وتعليله بقوله:"لأصالتها وقدمها" إشارة إلى هذا المعنى.

ص: 226

وقيل: معناه: أنه كصومهم في عدد الأيام، وهو شهر رمضان، كتب على أهل الإنجيل فأصابهم موتان؛ فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده؛ فجعلوه خمسين يوماً. وقيل: كان وقوعه في البرد الشديد والحرّ الشديد، فشقّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وثانيها: أنه حقيقة لغوية على ما قلنا: إن الوقاية: فرط الصيانة، وذلك أن الصوم أردع شيء للنفس عن ارتكاب المعاصي على ما ورد في الحديث النبوي.

وثالثها: أنه كناية إيمائية، وتقريره: أن الصوم لما كان عبادة قديمة ودرج عليها الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم، يكون من شعار المتقين، ومن اقتفى أثرهم يوشك أن لا يعدم من بركتهم فيعد منهم وينتظم في زمرتهم، وإنما قلنا: إنها كناية إيمائية لأنه تعالى سماهم متقين لأنهم اكتسبوا لباسهم وتزيوا بزيهم، ومن تزيا بزي قوم فهو منهم.

قوله: (وقيل: معناه أنه كصومهم): عطف على قوله: "على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم" من حيث المعنى، وكذا قوله:"وقيل: كتب عليكم كما كتب عليهم أن يتقوا المفطر"، ووجه التشبيه على الأول: افتراض الصوم مطلقاً، وعلى الثاني: عدد الأيام، والقرينة قوله:(أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ)، ومن ثم بحث عن معناها في هذا الوجه، وعلى الثالث: اتقاء المفطر بعد العشاء والنوم. وفائدة التشبيه على الأول: التسلي بالتأسي، يعني: لا ينبغي أن تشق عليكم شرعية الصوم، لأنكم لستم بمخصوصين فيها؛ لأنها سنة الأنبياء السالفة والأمم الخالية كما قال تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب: 21]، وأما قوله:"وقيل: الأيام المعدودات: عاشوراء" فمعطوف على قوله: "وهو شهر رمضان"، وقوله:"وقيل: كان وقوعه في البرد الشديد" على قوله: "فأصابهم موتان".

قوله: (فأصابهم موتان)، النهاية: في الحديث: "يكون في الناس موتان كقعاص

ص: 227

فجعلوه بين الشتاء والربيع، وزادوا عشرين يوما كفارة لتحويله عن وقته. وقيل: الأيام المعدودات: عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر. كتب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صيامها حين هاجر. ثم نسخت بشهر رمضان. وقيل: كتب عليكم كما كتب عليهم أن يتقوا المفطر بعد أن يصلوا العشاء وبعد أن يناموا، ثم نسخ ذلك بقوله:(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) الآية [البقرة: 187]. ومعنى (مَعْدُوداتٍ): مؤقتاتٍ بعددٍ معلوم، أو قلائل، كقوله:(دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ)[يوسف: 20]،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الغنم". الموتان بوزن البطلان: الموت الكثير الوقوع، والموتان، بفتح الواو: ضد الحيوان، وفي الحديث: "موتان الأرض لله ولرسوله" يعني: مواتها الذي ليس ملكاً لأحد.

الأساس: قد وقع في الناس مُوْتانٌ ومَوْتانٌ بالفتح والضم مع سكون الواو، ومن المجاز: اشتر الموتان ولا تشتر الحيوان.

الراغب: قيل: كان قد أوجب الصوم على من كان قبلنا رمضان، فغيروا فزادوا ونقصوا، وهذا قول عهدته على قائله.

ص: 228

وأصله أنّ المال القليل يقدّر بالعدد ويتحكر فيه، والكثير يهال هيلا ويحثى حثياً. وانتصاب (أياماً) بالصيام، كقولك: نويت الخروج يوم الجمعة. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أو راكب سفر (فَعِدَّةٌ): فعليه عدّة .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويتحكر فيه). النهاية: أصل الحكر: الجمع والإمساك، والحكر، بالتحريك: الماء القليل المجتمع، وكذلك: القليل من الطعام واللبن، فهو فعل بمعنى مفعول، أي: مجموع.

قوله: (يهال هيلاً). الجوهري: هلت الدقيق في الجراب، أي: صببته من غير كيل.

قوله: (وانتصاب (أَيَّاماً) بالصيام). قال الزجاج: الأجود أن يكون العامل في (أَيَّاماً): الصيام، كأن المعنى: كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات. وقال القاضي: نصبها ليس بالصيام لوقوع الفصل بينهما، بل بإضمار "صوموا". قال صاحب "الكشف":(كَمَا كُتِبَ): صفة مصدر محذوف، والتقدير: كتب عليكم الصيام كتابة مثل ما كتب. قال أبو البقاء: إنما لم يجز لأنه مصدر، وقد فرق بينه وبين أيام بقوله:(كَمَا كُتِبَ)، وما يعمل فيه المصدر: كالصلة، ولا يفرق بين الصلة والموصول بأجنبين وقال صاحب "اللباب": ويجوز أن ينتصب بالصيام إذا جعلت (كَمَا) حالاً، فإن جعلت مصدراً فلا. قال السجاوندي: لأن (كَمَا) أجنبي عن العامل والمعمول، إلا أن يجعل حالاً للصيام.

قوله: ((فعدة) أي: فعليه عدة)، أبو البقاء:"فعدة": مبتدأ، والخبر محذوف، أي: فعليه صوم عدة من أيام أخر، وعدة: بمعنى المعدود.

ص: 229

وقرئ بالنصب بمعنى: فليصم عدّة، وهذا على سبيل الرخصة. وقيل: مكتوب عليهما أن يفطرا ويصوما عدّة (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) واختلف في المرض المبيح للإفطار، فمن قائل: كل مرض، لأنّ اللَّه تعالى لم يخص مرضاً دون مرض، كما لم يخص سفراً دون سفر، فكما أنّ لكل مسافر أن يفطر، فكذلك كل مريض. وعن ابن سيرين أنه دخل عليه في رمضان وهو يأكل فاعتلّ بوجع أصبعه. وسئل مالك عن الرجل يصيبه الرمد الشديد أو الصداع المضر وليس به مرض يضجعه، فقال: إنه في سعة من الإفطار. وقائل: هو المرض الذي يعسر معه الصوم ويزيد فيه، لقوله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) [البقرة: 185]. وعن الشافعي: لا يفطر حتى يجهده الجهد غير المحتمل. واختلف أيضاً في القضاء فعامّة العلماء على التخيير. وعن أبى عبيدة بن الجرّاح رضى اللَّه عنه: «إنّ اللَّه لم يرخص لكم في فطره وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه، إن شئت فواتر، وإن شئت ففرّق» وعن علىّ وابن عمر والشعبي وغيرهم أنه يقضى كما فات متتابعاً .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فواتر)، المواترة: المتابعة. اللحياني: لا تكون مواترة إلا إذا وقعت بينها فترة، وإلا فهي مداركة.

النهاية: ومنه حديث أبي هريرة: "لا بأس أن يواتر قضاء رمضان"، أي: يفرقه فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يلزمه التتابع فيه فيقضيه وتراً، وعن مالك: أن أبا هريرة، وابن عباس اختلفا في قضاء رمضان، فقال أحدهما: يفرق، وقال الآخر: يتابع. وفي "الصحاح": مواترة الصوم: أن تصوم يوماً وتفطر يوماً أو يومين، وتأتي به وِتْراً وِتْراً، ولا يراد به المواصلة لأن أصله من الوتر. فعلى هذا يكون المراد بقوله:"واتِرْ" أي: صم يوماً وأفطر يوماً أو يومين، وبقوله:"ففرق" أن يكون المتخلل بين الصومين أكثر من يومين، والأقرب أن معنى "واتر": صم يوماً وأفطر يوماً، ومعنى "ففرق": أن تصوم في أيام شتى كيف تشاء.

ص: 230

وفي قراءة أبي: (فعدّة من أيام أخر متتابعات). فإن قلت: فكيف قيل (فَعِدَّةٌ) على التنكير ولم يقل: فعدّتها، أي: فعدة الأيام المعدودات؟ قلت: لما قيل: (فعدّة)، والعدّة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياما معدودة مكانها، علم أنه لا يؤثر عدد على عددها، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة. (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ): وعلى المطيقين للصيام الذين لا عذر بهم إن أفطروا (فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ)؛ نصف صاع من برّ أو صاع من غيره عند أهل العراق، وعند أهل الحجاز مدّ، وكان ذلك في بدء الإسلام: فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوه فاشتدّ عليهم، فرخص لهم في الإفطار والفدية. وقرأ ابن عباس:(يطوّقونه) تفعيل من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة، أي: يكلفونه أو يقلدونه ويقال لهم صوموا. وعنه: (يتطوّقونه) بمعنى يتكلفونه، أو يتقلدونه؛ و (يطوقونه) بإدغام التاء في الطاء، و (يطيقونه). و (يطيقونه) بمعنى: يتطيقونه، وأصلهما: يُطيوقونه ويتطيوقونه، على أنهما من فيعل وتفعيل من الطوق، فأدغمت الياء في الواو بعد قلبها ياءً، كقولهم: تدير المكان، وما بها ديار .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قيل: (فَعِدَّةٌ)، على التنكير، ولم يقل: فعدتها)، يريد أن مقتضى الظاهر أن يقال: فعدتها؛ لأن قوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرتب على فرضية صوم الأيام المعدودات، أي: وجب عليكم صوم الأيام المعدودات، فمن كان غير معذور فليصمها كاملات، ومن كان معذوراً فأفطر فليصم عدتها فلم نكرها؟ وأجاب: أن مجيئها في أثر ذلك الحكم وأن العدة بمعنى المعدود لا يلبس أن المراد: فعدة الأيام المعدودات، فاستغنى ذلك عن تعريف الإضافة، أي: تعيينها بالإضافة، والفاء في "فأمر بأن يصوم"، مثلها في قوله تعالى:(فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)[النحل: 98]، والضمير في "مكانها وعددها": للمعدودات.

قوله: (و"يطيقونه" بمعنى: يتطيقونه)، فيه لف، وقوله:"يُطَيْوَقُونَهُ ويَتَطَيْوَقُونَهُ" نشره، قال ابن جني: عين الطاقة واو لقولهم: لا طاقة لي به ولا طوق لي، وعليه قراءة يطوقونه، وهو يفعلونه منه، كقولك: يجشمونه ويكلفونه، وقال: يطوقونه: يتفعلونه، من الطوق، كقولك:

ص: 231

وفيه وجهان: أحدهما نحو معنى يطيقونه. والثاني يكلفونه أو يتكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ والعجائز، وحكم هؤلاء الإفطار والفدية، وهو على هذا الوجه ثابت غير منسوخ. ويجوز أن يكون هذا معنى (يطيقونه) أي: يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم. (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) فزاد .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتكلفونه ويتجشمونه، وأصله: يتطوقونه، وأبدلت التاء طاء، فأدغمت في الطاء بعدها، نحو: اطير يطير، أي: يتطير.

قوله: (وفيه وجهان)، أي: فيما قرأ ابن عباس، فإن جميع ما ذكر بعده مروي عنه، وحاصل المعنى يرجع إلى يكلفونه أو يقلدونه، وهو يحتمل وجهين، أحدهما: أن من أمر بالصوم- ولا خفاء في كونه شاقاً على النفس- كأنه كلف عليه وألزم في عنقه ذلك، وإليه الإشارة بقوله:"يقال لهم: صوموا".

وثانيهما: أن المكلف إذا داوم عليه وتمرن وصار دأبه الصيام، لم يكن شاقاً عليه، لكن إذا مرض أو هرم فربما شق عليه، وإلى الأول الإشارة بقوله:"يطيقونه"، وإلى الثاني "على جهد منهم وعسر".

قوله: (وحكم هؤلاء الإفطار والفدية). قال صاحب "الروضة": الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم أو تلحقه مشقة شديدة، لا صوم عليه، وفي وجوب الفدية عليه قولان أظهرهما: الوجوب، ويجري الوجهان في المريض الذي لا يرجى برؤه.

قوله: (ويجوز أن يكون هذا معنى (يُطِيقُونَهُ)) أي: القراءة المشهورة يجوز أن تحمل على هذا المعنى، فلا تكون الآية منسوخة.

ص: 232

على مقدار الفدية (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ)، فالتطوع أخير له، أو الخير. وقرئ:(فمن يطوّع)، بمعنى: يتطوّع. (وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون أو المطوقون وحملتم على أنفسكم وجهدتم طاقتكم (خَيْرٌ لَكُمْ) من الفدية وتطوّع الخير. ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر أيضاً. وفي قراءة أبىّ: (والصيام خير لكم).

[(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو الخير) أي: الضمير المرفوع، وهو "هو" للتطوع أو للخير، وعلى التقديرين الشرط مكرر في الجزاء، وفائدته تعظيم الخبر، كقولهم: من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك.

قوله: (أيها المطيقون) على القراءة المشهورة، أو: المطيقون على قراءة ابن عباس، والمشهورة على تأويل النسخ.

قوله: (وجهدتم طاقتكم) نصب على أنه مفعول مطلق، الجوهري: قال الفراء: الجهد، بالضم: الطاقة، وبالفتح، من قولك: اجهد جهدك في هذا الأمر، أي ابلغ غايتك، والجهد: المشقة.

قوله: (ويجوز أن ينتظم في الخطاب المريض والمسافر)، وذلك أنه تعالى لما حكم على المريض والمسافر بالترخص بقوله:(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وعلى المطيقين والمطوقين بقوله: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) عم الخطاب، فقال:(وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المرخصون (خَيْرٌ لَكُمْ)، ليندرج تحته المطيقون أو المطوقون والمريض والمسافر، فعلى هذا معناه: خير لكم من الفدية وتطوع الخير، أي: الزيادة على مقدار الفدية أو منهما ومن التأخير للقضاء.

ص: 233

الرمضان: مصدر رمض؛ إذا احترق من الرمضاء، فأضيف إليه الشهر وجعل علماً، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون، كما قيل:«ابن دأية» للغراب، بإضافة الابن إلى دأية البعير، لكثرة وقوعه عليها إذا دبرت. فإن قلت: لم سمي شَهْرُ رَمَضانَ؟ قلت: الصوم فيه عبادة قديمة، فكأنهم سموه بذلك لارتماضهم فيه من حرّ الجوع ومقاساة شدّته، كما سموه ناتقاً؛ لأنه كان ينتقهم، أي: يزعجهم إضجاراً بشدّته عليهم. وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر. فإن قلت: فإذا كانت التسمية واقعة مع المضاف والمضاف إليه جميعاً، فما وجه ما جاء في الأحاديث من نحو قوله صلى الله عليه وسلم:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كما قيل "ابن دأية" للغراب) أي: رمضان: مصدر رمض، من الرمضاء، أضيف إليه الشهر، وجعل لامركب علماً للشهر المعلوم، ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون، كما أن دأية في ابن دأية أخذ من دأية البعير، وهو موضع القتب، وأضيف إليه الابن وجعل علماً للغراب، ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث. والتسمية وإن وقعت مع المضاف لكن قد تحذف لعدم الإلباس.

قوله: (لارتماضهم)، الجوهري: الرمض: شدة وقع الشمس على الرمل وغيره، وأرمضتني الرمضاء، أي: أحرقتني.

قوله: (ناتقاً)، الجوهري: النتق: الزعزعة والنقض.

قوله: (فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر)، قال القاضي: وغنما سموه بذلك إما لوقوعه أيام رمض الحر حين ما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، أو لارتماضهم فيه من حر الجوع والعطش، أو لارتماض الذنوب فيه. قال السجاوندي: سمي المحرم لتحريم القتال فيه،

ص: 234

«من صام رمضان إيماناً واحتساباً، «من أدرك رمضان فلم يغفر له» ؟ قلت: هو من باب الحذف لأمن الإلباس كما قال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ورجب لترجيب العرب إياه أي: تعظيمه، أو لقطع القتال فيه، والأرجب: الأقطع، وذو القعدة: للقعود عن الحرب، وصفر: لخلو مكة عن أهلها إلى الحروب، وذو الحجة: للحجة، والربيعان: لارتباع الناس فيهما، أي: إقامتهم، وجمادان: لجمود الماء، وشعبان: لتشعب القبائل، ورمضان: لرمض الفصال، وشوال لشول أذناب اللقاح. ذكر نحوه المرزوقي في كتاب "الأزمنة والأمكنة" وأبسط نمه، وقال أيضاً: معنى الشهر: أن الناس ينظرون إلى الهلال فيشهرونه.

قوله: (من صام رمضان)، والحديث من رواية البخاري ومسلم، عن أبي هريرة:"من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".

النهاية: احتساباً، أي: طلباً لوجه الله تعالى وثوابه، والاحتساب من الحسب، كالاعتداد من العد، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احتسبه؛ لأن له حينئذ أن يعتد عمله.

قوله: (من أدرك رمضان فلم يغفر له). روي في "المصابيح": "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة".

ص: 235

بمَا أعْيَا النِّطَاسِي حِذْيَمَا

أراد: ابن حذيم، وارتفاعه على أنه مبتدأ خبره:(الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أو على أنه بدل من (الصيام) في قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)[البقرة: 183] أو على أنه خبر مبتدإٍ محذوفٍ. وقرئ بالنصب على: صوموا شهر رمضان، أو على الإبدال من (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ)، أو على أنه مفعول (وَأَنْ تَصُومُوا) [البقرة: 184]. ومعنى (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) ابتدئ فيه إنزاله، وكان ذلك في ليلة القدر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بما أعيا النطاسي حذيما)، أوله:

فهل لكم فيها إلي فإنني

طبيب .....

ويروى خبير، قال صدر الأفاضل: الواقع في نسخة "المفصل": "كما أعيا"، والصواب: بما، بدليل أول البيت، وفي أمثالهم:"أطب من ابن حذيم"، أي: فهل لكم رغبة فيما نسب إلي، كذا رواه الميداني في "مجمع الأمثال". حذيم: بكسر الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة وفتح الياء، التنطس: دقة النظر في الأمور، يقال منه: رجل نَطْسٌ ونَطَسٌ، ومنه قيل للطبيب نطيس ونطاسي.

قوله: (على أنه مفعول (وَأَنْ تَصُومُوا))، قال رشيد الدين الوطواط: وفي جعل شهر رمضان مفعول (وَأَنْ تَصُومُوا) نظر؛ لأن شهر رمضان حينئذ على تقدير المضاف إليه لـ "أن تصوموا"، وهما بمنزلة المبتدأ، أي: صوم شهر رمضان، والخبر:(خَيْرٌ لَكُمْ)، وعلى ما قدره

ص: 236

وقيل: أنزل جملة إلى سماء الدنيا ثم نزل إلى الأرض نجوماً. وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله:(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)[البقرة: 183] كما تقول: أنزل في عمر كذا، وفي علىّ كذا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:"نزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين مضين"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يكون الخبر فاصلاً بين أجزاء المبتدأ، وذلك غير سائغ. هذا تلخيص كلامه. ثم قال: فعرضت هذا البحث عليه فأذعن له، وقيل في العذر: إن الفصل جائز ها هنا؛ لأن المفعول فضلة لا جزء كالفاعل، والإضافة هنا إلى الفاعل لا المفعول، أي: صومكم شهر رمضان خير لكم، فيقال: هذا وأمثاله لا يليق بمنصب التنزيل؛ لأن المقرر أن مفعول المصدر كالصلة، فلا يجوز الفصل بالأجنبي، وأقصى ما يقال فيه: أن قوله: (وَأَنْ تَصُومُوا) وإن كان مصدراً في المعنى، لكن صورته صورة الفعل، فبالنظر إلى الصورة، جاز الفصل وإن لم يجز في المصدر المحض، وفرق بينهما صاحب "الإقليد" في بحث لام كي، وقال: إن امتناع وقوع المصدر خبراً عن الجثة لعدم كونه دالاً بصيغته على فاعل وعلى زمان، والفعل المصدر بأن يدل عليهما، فيجوز الإخبار به عن الجثة، وإن لم يجز بالمصدر.

فإن قلت: فإذا جعل شهر رمضان مفعول (وَأَنْ تَصُومُوا) يلزم أن لا يكون صوم شهر رمضان واجباً؛ لأن الواجب لا يقال فيه: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)؟ قلت: بل يقال، وغايته: أن يلزم منه الإبهام بين الندب والوجوب، والمبين للوجوب، تفصيله: وهو قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، يؤيده قول الزجاج: الأمر بالفرض فيه: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

ص: 237

(هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ) نصب على الحال، أي: أنزل وهو هداية للناس إلى الحق، وهو آيات واضحات مكشوفات مما يهدى إلى الحق ويفرق بين الحق والباطل. فإن قلت: ما معنى قوله: (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) بعد قوله: (هُدىً لِلنَّاسِ)؟ قلت: ذكر أوّلا أنه هدى، ثم ذكر أنه بينات من جملة ما هدى به اللَّه، وفرق به بين الحق والباطل من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة بين الهدى والضلال (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ): فمن كان شاهداً، أي: حاضراً مقيما غير مسافر في الشهر، فليصم فيه ولا يفطر. والشهر: منصوب على الظرف،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ما معنى قوله: (وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى) بعد قوله: (هُدًى لِلنَّاسِ)؟ ). حاصل السؤال: أن النكرة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول، فما معنى التكرير؟ وأجاب: أن المعرف هنا أعم من المنكر، إذ اللام فيه للجنس لا للعهد الخارجي، والدليل على كونه جنساً قوله:"من جملة ما هدى به الله"، وأن معنى الجنس هو ما قال:"من وحيه وكتبه السماوية الهادية الفارقة"؛ لأن شأن الكتب السماوية كلها الهداية والفرقان بين الحق والباطل، حكم أنه "هدى"، أي: هدى لا يقادر قدره، ومع ذلك بينات من جملة الهدى، فكرر تنويهاً بشأنه وتعظيماً لأمره، وتأكيداً لمعنى الهداية فيه، كما تقول: فلان عالم نحرير، وإنه من زمرة العلماء المتبحرين.

قوله: (و (الشهر): منصوب على الظرف). قال القاضي: التقدير: فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافراً فليصم فيه، والأصل: فمن شهد فيه فليصم فيه، لكن وضع [المظهر] موضع المضمر [الأول] للتعظيم، ونصب على الظرف وحذف الجار ونصب الضمير الثاني على الاتساع.

الراغب: فإن قيل: فلم قال: فليصمه، ولم يقل: فليصم فيه؟ قيل: قد قال بعض النحويين: اليوم ضربته، إنما يقال إذا استوعب اليوم لضربه، وإذا قيل: ضربت فيه فهو أن يضرب فيه في

ص: 238

وكذلك الهاء في: (فَلْيَصُمْهُ)، ولا يكون مفعولاً به كقولك: شهدت الجمعة؛ لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعض أوقاته، فنبه بقوله:(فَلْيَصُمْهُ) على الاستيعاب.

وقيل: في قوله: "ولا يكون مفعولاً به" نظر، والتعليل وهو قوله:"لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر" غير تام، إذ مراده أنه إن جعل مفعولاً به لزم التساوي بين المقيم والمسافر، وكذا إذا جعل مفعولاً فيه لزم التساوي بين المقيمين من المريض والحائض وغيرهما من المعذورين وغير المعذورين، والأولى أن يقال: هو مفعول به وعام فيمن أدرك الشهر ثم خصص بقوله: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ).

قال القاضي: قيل: فمن شهد منكم هلال الشهر فليصمه، كقولك: شهدت الجمعة، أي: صلاتها، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً، ويكون قوله:(وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) مخصصاً له؛ لأن المريض والمسافر ممن شهد الشهر.

وقال الإمام: قيل: إن الشهر لو كان مفعولاً به يلزم المسافر أن يصوم في الشهر؛ لأن المقيم والمسافر حاضران للشهر، وإذا كان ظرفاً لا يلزم المسافر الصوم لأنه ليس شاهداً في الشهر، فيكون على هذا مفعول شهد محذوفاً، أي: شهد البلد أو بيته في الشهر.

وأقول: مفعول شهد هو الشهر، تقديره: من شاهد الشهر، أي: أدركه مع وجود شرائطه وزوال موانعه فليصمه، كما يقال: شهدت عصر فلان، وأدركت زمان فلان، فعلى الأول يلزم الإضمار، وعلى الثاني التخصيص، والتخصيص أولى من الإضمار، على أنه يلزم على الأول التخصيص أيضاً؛ لأن الصبي والمجنون والمريض والحائض كل واحد منهم شهد البلد، مع أنه لا يجب عليهم الصوم، ثم قال الإمام: هذا ما عندي فيه، مع أن الواحدي والزمخشري ذهبا إلى الأول.

ص: 239

(يُرِيدُ اللَّهُ) أن ييسر عليكم ولا يعسر، وقد نفى عنكم الحرج في الدين، وأمركم بالحنيفية السمحة التي لا إصر فيها، وجملة ذلك ما رخص لكم فيه من إباحة الفطر في السفر والمرض. ومن الناس من فرض الفطر على المريض والمسافر، حتى زعم أنّ من صام منهما فعليه الإعادة. وقرئ:(اليسر) و (العسر) بضمتين .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت على ما ذهب إليه المصنف: الفاء في (فَمَنْ شَهِدَ) جاءت مفصلة لما أجمل في قوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ) من وجوب التعظيم، وذلك أن غجراء الصفة عليه أوجب تعظيمه على من أدركهن ومدركه إما حاضر أو مسافر، فمن كان حاضراً فيه فحكمه كذا، ومن كان مسافراً فيه فكذا، ولا يحسن أن يقال: من أدرك الشهر فليصم، ومن كان مريضاً أو على سفر فليقض؛ لأن المقيم والمسافر شاهدان للشهر، وعطف الشرط على الشرط- على سبيل التفصيل- يقتضي المغايرة، ويؤيده قول الزجاج: من كان شاهداً غير مسافر ولا مريض فليصم، ومن كان مسافراً أو مريضاً فقد جعل له أن يصوم عدة أيام السفر والمرض من أيام أُخر.

وقلت: إنما قرن المريض بالمسافر دون سائر المعذورين ليؤذن أن المسافر لما كان يتضرر بالصوم تضرر المرضى أدخله في حكمه مبالغة في التيسير عليه كما في قوله تعالى: (مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً* إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ)[النساء: 97 - 98].

قال المصنف: أخرج الولدان من الوعيد وإن لم يكونوا داخلين فيه، لبيان أن الرجال والنساء في انتفاء الذنب عنهم كالولدان، والأظهر اختيار الإمام، فإن التركيب من باب ترتب الحكم على الوصف المناسب؛ لأن الشهر في قوله:(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ) هو الشهر الموصوف الذي أنزل فيه القرآن الذي هو ببينات من الهدى؛ لأن المعرف إذا أعيد كان الثاني عين الأول، أي: الزمان الذي شرف بهذا التعظيم، وحقيق على من أدركه أن يتقرب إلينا فيه

ص: 240

الفعل المعلل محذوف مدلول عليه بما سبق تقديره. (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) شرع ذلك يعنى جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله:(وَلِتُكْمِلُوا) علة الأمر بمراعاة العدّة (وَلِتُكَبِّرُوا) علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالصيام، ثم خص من العام المعذورين، واختص منهم بالذكر المسافر والمريض لغلبة السفر والمرض على سائر الأعذار.

وقال الواحدي: إنما أعاد تخيير المريض والمسافر وترخيصهما في الإفطار؛ لأن الله تعالى ذكر في الآية الأولى تخيير المقيم الصحيح والمسافر والمريض، فلو اقتصر على هذا احتمل أن يعود النسخ إلى تخيير الجميع، فأعاد بعد النسخ ترخيص المسافر والمريض ليعلم أنه باق على ما كان.

وقال أبو البقاء: إن قوله: (فَمَنْ شَهِدَ): خبر (شَهْرُ رَمَضَانَ)، وإنما دخلت الفاء لأن الشهر موصوف بالذي، ومثله قوله تعالى:(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ)[الجمعة: 18] وقد وضع في الجزاء موضع العائد الظاهر تفخيماً، أي:(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ).

قوله: (وهذا نوع من اللف) وتقريره: أن الفعل المعلل المقدر، وهو قوله:"شرع لكم" مع العلل الثلاث، معطوف على الجملة السابقة بالواو على طريقة النشر، وفيه اسم الإشارة، ولابد له من المشار إليه بحسب كل واحد من العلل المذكورة، أولها:(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)، وهي علة للأمر بمراعاة العدة، والمشار إليه قوله:(فَعِدَّةٌ)، أي: فعليه صوم عدة أيام العذر

ص: 241

إلى تبينه إلا النقاب المحدث من علماء البيان. وإنما عدّى فعل التكبير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من غير نقصان، وثانيها:(وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) علة لقوله وهو "علة ما علم من كيفية القضاء" وهدى إليه، والمشار إليه مفهوم قوله:(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي: اقضوا الصيام في غير رمضان كيف شئتم متواترة أو تفريقاً، وثالثها:(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وهو علة الترخيص والتيسير، والمشار إليه:(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ).

وقلت: لو جعل (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) علة لقوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ) إلى قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) كان أحسن؛ لأنه سبق أن شرعية الصوم معللة بنزول القرآن المشتمل على هدى لا يكتنه كنهه في هذا الشهر، والهداية إلى مثل هذا التقرب الذي ليس فوقه، يوجب تعظيم الهادي وأن نكبر اسمه المبارك ونسبح ونقدس، وكان أسلم للنظم من ركوب المتعسف، وهو جعله قوله تعالى:(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) معللاً باعتبارين: لتكملوا تارة، ولتكبروا أخرى، وفي تقديره أولاً حمله ما ذكره من أمر الشاهد شاهد صدق لهذا المعنى، وأما لطف مسلكه أن اللف هو الذي يستدعي ما يرد عليه ما في النشر من المعاني المناسبة، وهذا بالعكس، وتكون تلك المعاني مبنية عليه على ترتيبه السابق، وهذا ليس كذلك، وفيه أن الواو في قوله:(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ليست كالواوين في (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ) وفي (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ) وفي (وَلَعَلَّكُمْ) لما سبق، فالتقدير: وشرع ذلك، للمذكورات.

قوله: (النقاب المحدث)، قال صاحب "النهاية": النقاب: الرجل العلامة، وفي حديث الحجاج وذكر ابن عباس:"إن كان لنقاباً"، وفي رواية:"وإن كان لمنقباً"، النقاب والمنقب- بالكسر والتخفيف-: الرجل العالم بالأشياء الكثير البحث عنها والتنقيب، أي: ما كان إلا نقاباً، وفي "النهاية" أيضاً:"وقد كان في الأمة محدثون، فإن كان في أمتي أحد فعمر بن الخطاب"، تفسيره: إنهم لملهمون، والملهم: الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدساً وفراسة، وهو نوع يختص به الله من يشاء من عباده الذين اصطفى، ومقصود المصنف مدح نفسه تعريضاً.

ص: 242

بحرف الاستعلاء؛ لكونه مضمناً معنى الحمد، كأنه قيل: ولتكبروا اللَّه حامدين على ما هداكم. ومعنى (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وإرادة أن تشكروا. وقرئ: (ولُتكَمِّلوا) بالتشديد. فإن قلت: هل يصح أن يكون (وَلِتُكْمِلُوا) معطوفاً على علة مقدرة، كأنه قيل: لتعملوا ما تعلمون، ولتكملوا العدة. أو على اليسر، كأنه قيل: يريد اللَّه بكم اليسر، ويريد بكم لتكملوا، كقوله:(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا)[الصف: 8]؟ قلت: لا يبعد ذلك والأوّل أوجه. فإن قلت: ما المراد بالتكبير؟ قلت: تعظيم اللَّه والثناء عليه. وقيل: هو تكبير يوم الفطر. وقيل: هو التكبير عند الإهلال.

[(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولتكبروا الله حامدين) ليس بتضمين، والتضمين: لتحمدوا الله مكبرين؛ لأن تصريحه بقوله: "لتكبروا" دافع له؛ لأن التضمين اصطلاحاً: إما: إعطاء الفعل المذكور معنى المقدر بواسطة الاستعمال كما في قوله تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)[البقرة: 3]، وقوله:(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)[الملك: 2]، أو: إعطاؤه مع إرادة المضمر معهما كما ذكره في قوله تعالى: (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ)[الكهف: 28]، وهذا ليس منهما في شيء، فالحق أن الجار والمجرور على تقديره: حال، أو يرتكب القلب في الكلام.

قوله: (والأول أوجه)، وهو أن يكون الفعل المعلل محذوفاً لما فيه من صنعة اللف والنشر، ويحتمل أن يراد بالأول: أن يكون (لِتُكْمِلُوا) معطوفاً على علة مقدرة؛ لأن اللام حينئذ للعلة، وهي أظهر من أن تكون صلة كقوله تعالى:(يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا)[الصف: 8]، والأول أوجه لاشتماله على العلم والعمل مع اللف والنشر.

قوله: (عند الإهلال)، النهاية: الإهلال: رفع الصوت بالتلبية، ومنه: إهلال الهلال واستهلاله: إذا رفع الصوت بالتكبير عند رؤيته.

ص: 243

(فَإِنِّي قَرِيبٌ): تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بحال من قرب مكانه، فإذا دعى أسرعت تلبيته، ونحوه:(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[ق: 16]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«هو بينكم وبين أعناق رواحلكم» . وروي: أنّ أعرابياً قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أو بعيد فنناديه؟ فنزلت. (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أنى أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم. وقرئ (يرشدون) و (يرشدون) بفتح الشين وكسرها.

[(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)].

كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلى العشاء الآخرة أو يرقد، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هو بينكم وبين أعناق رواحلكم)، الحديث عن الشيخين، عن أبي موسى، سبق عند قوله تعالى:(وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ)[البقرة: 23].

قوله: (أقريب ربنا) الحديث في "جامع الأصول" مروي عن رزين، فقال أصحابه: "أقريب

" الحديث.

الراغب: وقد روي أن موسى عليه السلام قال: إلهي، أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ فقال: لو حددت لك البعد لما انتهيت إليه، ولو حددت لك القرب لما اقتدرت عليه.

ص: 244

الطعام والشراب والنساء إلى القابلة، ثم إنّ عمر رضى اللَّه عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة، فلما اغتسل أخذ يبكى ويلوم نفسه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول اللَّه، إني أعتذر إلى اللَّه وإليك من نفسي هذه الخاطئة. وأخبره بما فعل، فقال صلى الله عليه وسلم:"ما كنت جديراً بذلك يا عمر". فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء؛ فنزلت. وقرئ: أحل لكم ليلة الصيام الرفث، أي: أحل اللَّه. وقرأ عبد اللَّه: الرفوث، وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، كلفظ النيك، وقد أرفث الرجل. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه أنه أنشد وهو محرم:

وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا

إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا

فقيل له: أرفثت! فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء. وقال اللَّه تعالى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كلفظ النيك)، الأساس: رفث في كلامه، وأرفث وترفث: أفحش وأفصح بما يجب أن يكني عنه من ذكر النكاح. وليس بين الرفث والنيك مماثلة من حيث المؤدى في المعنى، بل من حيث إنهما ممن يجب أن لا يصرح بهما، لأنهما مما يوحش السامع، يدل عليه اعتراضهم على ابن عباس، فإنهم ظنوا أن النيك مثل الرفث، فلا يجوز أن يتكلم به المحرم، وجوابه: أن الرفث ما كان عند النساء، أي: ليس النيك في البيت من الرفث في التنزيل في شيء، وفي "النهاية": كان ابن عباس يرى بقوله هذا أن الرفث المنهي: ما خوطب به المرأة، فأما ما يقوله ولم تسمعه امرأة فغير داخل فيه، قال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة، وكذا عن الأزهري.

قوله: (وهن يمشين)، الضمير للعيس، هميساً: مشياً خفياً إن تصدق الطير في العيافة بها، ولميس: اسم صاحبته.

ص: 245

(فلا رفث ولا فسوق)[البقرة: 197] فكنى به عن الجماع، لأنه لا يكاد يخلو من شيءٍ من ذلك. فإن قلت: لم كني عنه هاهنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله: (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ)[النساء: 21]، (فَلَمَّا تَغَشَّاها) [الأعراف: 189]، (بَاشِرُوهُنَّ) (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) [النساء: 43]، (دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) [النساء: 23]، (فَاتُوا حَرْثَكُمْ) [البقرة: 223]، (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [البقرة: 237]، (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) [البقرة: 223]، (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ) [البقرة: 222]؟ قلت: استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة، كما سماه اختيانا لأنفسهم. فإن قلت: لم عدي الرفث بـ"إلى"؟ قلت: لتضمينه معنى الإفضاء. لما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل واحد منهما على صاحبه في عناقه؛ شبه باللباس المشتمل عليه. قال الجعدي:

إذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا

تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَليْهِ لِبَاسَا

فإن قلت: ما موقع قوله: (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ)؟ قلت: هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال؛ وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهنّ مثل هذه المخالطة والملابسة قلّ صبركم عنهنّ وصعب عليكم اجتنابهنّ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهنّ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فكنى به عن الجماع) رتب على قوله: "الرفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه"، يعني: كنى ها هنا بالرفث عن الجماع، وكان من حق الظاهر أن يكنى عن الرفث، لا به، وإنما عدل إليه ليرتدع من ارتكبه، يدل عليه قوله:"استهجاناً لما وجد منهم قبل الإباحة".

الانتصاف: ويؤيد قول الزمخشري أنه تعالى لما أباحه قال: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ)، فعاد إلى الكنايات المألوفة، ويشكل بقوله:(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[البقرة: 197] ولم يسبق منهم فيه فعل؟ وجوابه: أنه في آية الحج منهي عنه، فشنعه وهجنه لينفرهم عن التورط فيه، ولذلك قرنه بالفسوق.

ص: 246

(تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ): تظلمونها وتنقصونها حظها من الخير. والاختيان من الخيانة، كالاكتساب من الكسب فيه زيادة وشدة.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور. (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ): واطلبوا ما قسم اللَّه لكم، وأثبت في اللوح من الولد بالمباشرة، أي: لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها، ولكن لابتغاء ما وضع اللَّه له النكاح من التناسل. وقيل: هو نهى عن العزل لأنه في الحرائر. وقيل: وابتغوا المحل الذي كتبه اللَّه لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرّم. وعن قتادة: (وابتغوا ما كتب اللَّه لكم) من الإباحة بعد الحظر. وقرأ ابن عباس (واتبعوا) وقرأ الأعمش (وأتوا) وقيل معناه: واطلبوا ليلة القدر وما كتب اللَّه لكم من الثواب إن أصبتموها وقمتموها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل)، الراغب: قوله: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) إشارة في تحري النكاح إلى لطيفة، وهي أن الله تعالى جعل لنا شهوة النكاح لبقاء نوعنا إلى غاية، كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، فحق الإنسان أن يتحرى بالنكاح حفظ النسل وحصن النفس على الوجه المشروع، وإلى هذا أشار من قال: عنى به الولد.

قوله: (لأنه في الحرائر) أي: قوله: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) نزلت في شأن الحرائر؛ لأنه متصل بقوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)؛ لأن في عرف التنزيل إطلاق النساء على الحرائر، وإطلاق ما ملكت أيمانكم على الإماء. والمراد بابتغاء ما كتب الله الولد، ومن عزل، أي: الماء عن النساء؛ حذر الحمل، فهو بمعزل عن ابتغاء ما كتب الله له، ولا يجوز العزل عن الحرائر إلا بإذنهن، بخلاف الإماء.

ص: 247

وهو قريب من بدع التفاسير. (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ): هو أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود. والْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ما يمتدّ معه من غبش الليل، شبها بخيطين أبيض وأسود. قال أبو داود:

فَلَمَّا أضَاءَتْ لَنَا سَدْفَةٌ

وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أنَارَا.

وقوله: (مِنَ الْفَجْرِ) بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود. لأنّ بيان أحدهما بيان للثاني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهو قريب من بدع التفاسير). قال الإمام: وهو قول معاذ بن جبل وابن عباس، وجمهور المحققين استبعدوه؛ وعندي أنه جائز، وذلك أن الإنسان إذا قضى وطره من المباشرة ويصير فارغاً من داعية الشهوة المانعة عن التفرغ للطاعة، يمكنه أن يتفرغ لها، أي: إذا تخلصتم من تلك الخواطر المانعة عن الإخلاص فابتغوا ما كتب لكم من الإخلاص في العبودية من الصلاة والذكر وطلب ليلة القدر.

قوله: (من غبش الليل)، الجوهري: الغبش، بالتحريك: البقية من الليل، وقيل: ظلمة آخر الليل.

قوله: (فلما أضاءت) البيت، الأصمعي: السدفة في لغة نجد: الظلمة، وفي لغة غيرهم: الضوء، وهو من الأضداد، وقال أبو عبيد: وبعضهم يجعل السدفة اختلاط الضوء والظلمة معاً كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار، وقوله:"أنارا" جواب "لما".

قوله: (واكتفي به) يريد: قد مر آنفاً المراد بالخيط الأبيض ما هو وبالأسود ما هو، وكان

ص: 248

ويجوز أن تكون «من» للتبعيض؛ لأنه بعض الفجر وأوّله. فإن قلت: أهذا من باب الاستعارة أم من باب التشبيه؟ قلت: قوله: (مِنَ الْفَجْرِ) أخرجه من باب الاستعارة، كما أن قولك: رأيت أسداً مجاز. فإذا زدت «من فلان» رجع تشبيها. فإن قلت: فلم زيد (مِنَ الْفَجْرِ) حتى كان تشبيها؟ وهلا اقتصر به على الاستعارة التي هي أبلغ من التشبيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ينبغي أن يذكر بعد بيان الخيط الأبيض بقوله: (مِنْ الْفَجْرِ) بيان الخيط الأسود بقوله: "من غبش الليل"، فاكتفى بأحدهما؛ لما يلزم من بيان أحد المختلطين بيان الآخر.

قوله: (ويجوز أن تكون (مِنَ) للتبعيض)، والضمير في "لأنه" راجع إلى قوله:"أول ما يبدو"، فعلى هذا يكون (مِنْ الْفَجْرِ) بدلاً من الخيطين، أي: يتبين لكم بعض الفجر، وهو أول ما يبدو.

قوله: (أخرجه من باب الاستعارة)؛ لأن الاستعارة هي: أن يذكر أحد طرفي التشبيه ويراد به الطرف الآخر. وههنا الفجر هو المشبه، والخيط الأبيض المشبه به، وهما مذكوران فلا يكون استعارة.

فإن قلت: هب أن ذكر (مِنْ الْفَجْرِ) أخرجه من الاستعارة لذكر المشبه، لكن بقي الخيط الأسود على الاستعارة لترك المشبه، كقولك: رأيت أسداً يرمي؟ قلت: لما كان في الكلام ما دل عليه، فكأنه ملفوظ كقولها:

أسد علي وفي الحروب نعامة

وإليه الإشارة بقوله: "لأن بيان أحدهما بيان للثاني".

قوله: (هي أبلغ من التشبيه)، وذلك أن في التشبيه اعترافاً بكون المشبه به أكمل من المشبه في الوجه، وفي الاستعارة ادعاء أنهما جنس واحد.

ص: 249

وأدخل في الفصاحة! قلت: لأن من شرط المستعار أن يدل عليه الحال أو الكلام، ولو لم يذكر (مِنَ الْفَجْرِ) لم يعلم أن الخيطين مستعاران، فزيد (مِنَ الْفَجْرِ) فكان تشبيها بليغا وخرج من أن يكون استعارة. فإن قلت: فكيف التبس على عدىّ بن حاتم مع هذا البيان حتى قال: عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي فكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرته،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن يدل عليه) أي: على كونه مستعاراً.

قوله: (ولو لم يذكر (مِنْ الْفَجْرِ) لم يعلم أن الخيطين مستعاران) جواب، لكنه غير تام لكون العدول من الاستعارة التي هي أبلغ إلى التشبيه، الذي هو أدنى لفقدان القرينة، لا يمهد العذر، على أن القرائن كثيرة، نحو أن يقال: حتى يتفلق لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أو يشرق أو يطلع، ونحوهما، لكن الجواب الكافي أن يقال: إن العدول إليه وإن كان تشبيهاً لكنه بليغ لا يقصر عن مرتبة الاستعارة؛ لأنه واقع على طريق التجريد، كأنه جرد من الفجر نفس الخيط، كقولك: رأيت أسداً منك، وهو المراد بقوله:"فكان تشبيهاً بليغاً".

قوله: (عمدت على عقالين أبيض وأسود) الحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، عن عدي بن حاتم: لما نزل (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر من الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال:"إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار" وفي رواية البخاري: قال: "إن وسادتك إذاً لعريض، أن كان الخيط الأبيض والخيط الأسود تحت وسادتك"، وفي رواية أخرى أنه قال:"إنك إذاً لعريض القفا".

ص: 250

فضحك وقال: «إن كان وسادك لعريضاً» ، وروى:«إنك لعريض القفا! إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل» ؟ قلت: غفل عن البيان، ولذلك عرّض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قفاه، لأنه مما يستدل به على بلاهة الرجل وقلة فطنته. وأنشدتنى بعض البدويات لبدوى:

عَرِيضُ القَفَا مِيزَانُهُ فِى شِمَالِهِ

قَدِ انْحَصَّ مِنْ حَسْبِ القَرَارِيِط شَارِبُهْ

فإن قلت: فما تقول فيما روي عن سهل بن سعد الساعدي: أنها نزلت ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ)، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، فنزل بعد ذلك (مِنَ الْفَجْرِ)؛ فعلموا أنه إنما يعنى بذلك الليل والنهار؟ وكيف جاز تأخير البيان وهو يشبه العبث، حيث لا يفهم منه المراد، إذ ليس باستعارة لفقد الدلالة، ولا بتشبيه قبل ذكر الفجر، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: "عريض الوسادة" كناية تلويحية، فإن عريض الوسادة مشعر بعريض القفا، وعريض القفا مشعر بالبلاهة، وعريض القفا: كناية رمزية.

قوله: (بعض البدويات)، قيل: هي أم كردس خادم المصنف.

قوله: (ميزانه في شماله) كناية عن الحمق، انحص شعره وشاربه: إذا تجرد وانحسر، والحاسب إذا أمعن في الحساب وتفكر فيه عض على شفتيه وشاربه.

قوله: (فيما روي عن سهل) الحديث رواه البخاري مع تغيير يسير.

ص: 251

فلا يفهم منه إذن إلا الحقيقة وهي غير مرادة؟ قلت: أما من لم يجوّز تأخير البيان - وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين، وهو مذهب أبى علىّ وأبى هاشم - فلم يصح عندهم هذا الحديث، وأما من يجوّزه فيقول: ليس بعبث؛ لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به. (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) قالوا: فيه دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فلا يفهم منه إذن إلا الحقيقة)، هذا يؤذن أن التشبيه ليس بحقيقة، وقد قيل: إن ألفاظ التشبيه كلها مستعملة فيما وضع لها، نحو: زيد كالأسد في الشجاعة، لكن مفهوم المشبه به، وهو الخيط الأبيض والخيط الأسود، غير مراد فيما أجرى الكلام له، ولذلك قال:"وهي غير مرادة".

قوله: (فلم يصح عندهم هذا الحديث) والحديث رواه البخاري ومسلم، فكيف يقال: لم يصح.

قوله: (لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب)، قيل: وفيه نظر؛ لأن من يجوز تأخير البيان يحمله على ظاهره لعدم القرينة الصارفة حينئذ، وأجيب: أنك إذا أردت بالقرينة: القرينة التفصيلية، فمسلم، ولكن لا يلزم من عدمها جواز الحمل على الظاهر، وإن أردت الإجمالية فلا نسلم انتفاءها، فإن البليغ لا يرضى بمثل هذا التركيب، ألا ترى كيف عنف رسول الله صلى الله عليه وسلم عدياً حين حمله على الظاهر! على أن سياق الكلام ومساقه حديث في شأن الصوم وبيان ابتدائه وانتهائه من قوله:(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) إلى قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ).

قوله: (فيه دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان)، ووجهه أن معنى قوله: (ثُمَّ

ص: 252

وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر، وعلى نفى صوم الوصال. (عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) معتكفون فيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أَتِمُّوا الصِّيَامَ) بعد قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ): ائتوا بالصوم تاماً، فيكون إتيان الصوم مأموراً به بعد الفجر والنية مع الفعل، فيلزم إيقاع النية بعد الفجر، قال صاحب "التقريب": الإتمام مأمور به بعد الفجر، وهو مسبوق بالأمر بالشروع، وهو إما بترك المفطر، وهو لا يلزم قبل الفجر، وإما بالنية وهو المطلوب، ومعنى أتموا الصيام على هذا: ابتدئوه وأتموه، ولقائل أن يقول: إن أردت بقولك: بعد الفجر: عقيبه متصلاً به، فهو ممنوع، إذ ثم للتراخي، وإن أردت التراخي فيجوز أن يسبق الشروع بالنية أو الإمساك بالجزء الأول على الإتمام، وهو مع ذلك يقع بعد الفجر. والجواب الصحيح: أنه ليس في الآية ما يوجب النية ولا تعيين الزمان ولا ينافيه، وليس فيها إلا الأمر بالإتمام، وما يوجب النية يستفاد من الحديث، وكذا تعيينها بزمان، أما أولاً فقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات"، أخرجه الشيخان وغيرهما عن عمر رضي الله عنه، وأما ثانياً فقوله صلى الله عليه وسلم:"من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له"، أخرجه أبو داود والترمذي، عن أم المؤمنين حفصة، وفي رواية النسائي:"فلا يصوم"، فالحديثان مبينان للآية.

النهاية: الإجماع: إحكام النية والعزيمة، أجمعت الرأي وأزمعته وعزمت عليه: بمعنى.

قوله: (وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر)؛ لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى الانفجار لم يمكنه الاغتسال إلا بعد الصبح.

قوله: (وعلى نفي صوم الوصال)؛ لأنه تعالى جعل غاية الصوم الليل، وغاية الشيء: منقطعه ومنتهاه، وما بعد الغاية يخالف ما قبله، وإنما يكون كذلك إذا لم يبق بعد ذلك صوم،

ص: 253

والاعتكاف أن يحبس نفسه في المسجد يتعبد فيه. والمراد بالمباشرة الجماع لما تقدم من قوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ

فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ). وقيل: معناه: ولا تلامسوهنّ بشهوة. والجماع يفسد الاعتكاف، وكذلك إذا لمس أو قبل فأنزل. وعن قتادة: كان الرجل إذا اعتكف خرج فباشر امرأته ثم رجع إلى المسجد، فنهاهم اللَّه عن ذلك. وقالوا: فيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد، وأنه لا يختص به

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويمكن أن يقال: إنه تعالى بين الغاية، والبيان لا يفيد حرمة الوصال، وإنما حرم بالسنة، روينا عن عائشة رضي الله عنها: نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم، قالوا: إنك تواصل، قال:"إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني"، أخرجه البخاري ومسلم، ولأبي داود نحوه.

الهيئة: صورة الشيء وشكله وحالته. قال الإمام: الحنفية تمسكوا بهذه الآية في أن صوم النفل يجب إتمامه، وقالت الشافعية: الآية واردة لبيان صوم الفرض فتختص به.

قوله: (أن يحبس نفسه في المسجد يتعبد فيه). "يتعبد" بالنصب في بعض النسخ على حذف لام التعليل يعني أن يتعبد، ثم حذف "أن" وبقي أثره.

قوله: (لما تقدم من قوله: (أُحِلَّ لَكُمْ) وذلك أن قوله: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) عطف على الأمر من قوله: (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ)، ولا يستراب أن المراد منه الجماع؛ لما سبق من قوله:(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)، فقوله:(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ) رخصة فيها بعدما كانت منهية، فيجب العمل على الجماع فقط؛ ليتجاوب النظم.

قوله: (قالوا: فيه دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد)، قال صاحب "التقريب": ليس فيه ما يدل على ذلك.

ص: 254

مسجد دون مسجد. وقيل: لا يجوز إلا في مسجد نبىّ وهو أحد المساجد الثلاثة. وقيل: في مسجد جامع. والعامة على أنه في مسجد جماعة. وقرأ مجاهد: (في المسجد). (تِلْكَ) الأحكام التي ذكرت (حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها): فلا تغشوها. فإن قلت: كيف قيل: (فَلا تَقْرَبُوها) مع قوله: (فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ)[البقرة: 29]؟ قلت: من كان في طاعة اللَّه والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق، فنهى أن يتعداه؛ لأن من تعداه وقع في حيز الباطل؛ ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزى الحق والباطل؛ لئلا يدانى الباطل، وأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف، فضلاً عن أن يتخطاه، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم «إنّ لكل ملك حمى، وحمى اللَّه محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» ، فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد. ويجوز أن يريد بحدود اللَّه محارمه ومناهيه ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (المساجد الثلاثة) وهي: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: (كيف قيل: (فَلا تَقْرَبُوهَا))، يعني: قال في هذه الآية: (فَلا تَقْرَبُوهَا) أي: الحدود، وقال في الأخرى:(فَلا تَعْتَدُوهَا)[البقرة: 229] وذلك لا يمنع من القربان، وأجاب: بأن هذه الآية كالترقي بالنسبة على تلك الآية.

قوله: (وأن يكون في الواسطة): عطف على "أن لا يداني"، ويجوز أن يكون عطفاً على "نهي أن يقرب الحد"، وأمر بأن يكون في الواسطة على سبيل التوكيد.

قوله: (متباعداً): حال من الضمير في خبر "كان"، أو: خبر بعد خبر، "وفضلاً": يجوز أن يكون متعلقاً بيقرب أو بيداني.

قوله: (ويجوز أن يريد بحدود الله: محارمه): عطف على قوله: "تلك الأحكام التي ذكرت: حدود الله". قال الزجاج: معنى الحدود: ما منع الله تعالى من مخالفتها، فإن الحداد في اللغة: الحاجب، وكل من منع شيئاً فهو حداد، والحديد إنما سمي حديداً لأنه يمتنع به من الأعداء،

ص: 255

خصوصاً؛ لقوله: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ)، وهي حدود لا تقرب.

[(وَلا تَاكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَاكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)].

ولا يأكل بعضكم مال بعض (بِالْباطِلِ): بالوجه الذي لم يبحه اللَّه ولم يشرعه .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وحد الدار: ما يمنع غيرها أن يدخل فيها. تم كلامه. فتسمية محارم الله بالحدود ظاهر، وأما تسمية الأوامر والنواهي بها فلأنه تعالى منع الناس عن مخالفتها كما قال الزجاج، ومعنى القربان على هذا: الغشيان، كقوله:"فلا تغشوها"، فالمعنى: تلك الأوامر والنواهي السابقة مما منع الله الناس عن مخالفتها فلا تجاوزوها والتزموها، كقولك: كن وسط الحق ولا تتجاوز إلى أطرافه، على أن أطراف الحق حق، وإليه الإشارة بقوله:"أن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف"، أما الأوامر فقوله تعالى:(ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)، وقوله:(وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)، وأما النواهي فقوله:(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ)، ثم إذا اعتبر أن الأمر بالشيء نهي عن ضده صح القول بأن ما سبق كلها محارمه.

قوله: (وهي حدود لا تقرب) مشعر بأن الوجه الأول فيه تكلف، والحديث يناسب الوجه الثاني، وهو أن المراد بالحدود: محارمه، وراوي الحديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ولكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه"، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي.

ص: 256

(و) لا (تُدْلُوا بِها): ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام؛ (لِتَاكُلُوا) بالتحاكم (فَرِيقاً): طائفة (مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ): بشهادة الزور، أو باليمين الكاذبة، أو بالصلح، مع العلم بأن المقضى له ظالم.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: قال للخصمين: «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليَّّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضى له على نحو ما أسمع منه، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((و) لا (تُدلُوا بِهَا): ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إلى الحكام)، الراغب: الإدلاء: إرسال الدلو في البئر، واستعير للتوصل إلى الشيء، وعلى هذا قول الشاعر:

فليس الرزق عن طلب حثيث

ولكن ألق دلوك في الدلاء

قوله: (قال للخصمين: إنما أنا بشر) الحديث مع تغيير يسير أخرجه البخاري ومسلم وابو داود والترمذي والنسائي، وانفرد الترمذي بقوله:"فبكى الرجلان، إلى آخره". قال صاحب "الجامع": قوله: "ألحن بحجته" أي: أقوم بها من صاحبه وأقدر عليها، من اللحن، بفتح الحاء: الفطنة، وأما لحن الكلام فهو ساكن، قاله الخطابي، التوخي: قصد الحق واعتماده، والاستهام: الاقتراع، ولم يقنع بالتوخي فضم القرعة إليه؛ لأن القرعة أقوى من التوخي، ثم أمرهما بالتحليل ليكون انفصالهما عن يقين، لأن التحالل إنما يكون فيما هو في الذمة.

ص: 257

فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنّ منه شيئاً، فإنما أقضي له قطعةً من نار»، فبكيا وقال كل واحد منهما: حقي لصاحبي. فقال «اذهبا فتوخيا، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» . وقيل: (وَتُدْلُوا بِها): وتلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة. و (تدلوا) مجزوم داخل في حكم النهي، أو منصوب بإضمار "أن"، كقوله:(وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ)[البقرة: 42]. (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنكم على الباطل، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح، وصاحبه أحق بالتوبيخ.

[(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)].

روي أن معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنم الأنصارى قالا: يا رسول اللَّه، ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ؛ لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت (مَواقِيتُ) معالم يوقت بها الناس مزارعهم، ومتاجرهم، ومحال ديونهم، وصومهم، وفطرهم، وعدد نسائهم، وأيام حيضهنّ، ومدد حملهنّ، وغير ذلك؛ ومعالم للحج يعرف بها وقته. كان ناس من الأنصار إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً من باب، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال القاضي: الآية فيها دليل على أن حكم القاضي لا ينفذ باطناً.

قوله: ((مَوَاقِيتُ) معالم يوقت الناس بها مزارعهم)، قال القاضي: المواقيت: جمع ميقات، من الوقت، والفرق بينه وبين المدة والزمان: أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها، والزمان: مدة مقسومة، والوقت: الزمان المفروض لأمر.

ص: 258

فإذا كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته منه يدخل ويخرج، أو يتخذ سلما يصعد فيه وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء فقيل لهم:(لَيْسَ الْبِرُّ) بتحرّجكم من دخول الباب (وَلكِنَّ الْبِرَّ) برّ (مَنِ اتَّقى) ما حرّم اللَّه. فإن قلت: ما وجه اتصاله بما قبله؟ قلت: كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الأهلة، وعن الحكمة في نقصانها وتمامها: معلوم أنّ كل ما يفعله اللَّه عز وجل لا يكون إلا حكمة بالغة، ومصلحةً لعباده، فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدةٍ تفعلونها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برّا .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كأنه قيل) إلى قوله: "معلوم أن كل ما يفعله [الله] تعالى لا يكون إلا حكمة بالغة"، هذا الجواب من باب الأسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب، بتنزيل سؤاله منزلة غير السؤال لينبهه على تعديه من موضع سؤال هو أليق بحاله وأهم له إذا تأمل، وإليه الإشارة بقوله:"فدعوا السؤال عنه وانظروا في هيئة واحدة تفعلونها".

والجواب الثاني من باب الاستطراد، وذلك أن السؤال لما كان عن الأهلة، وأجيبوا عن الميقات، وبعض المواقيت ميقات الحج، أورد بعض أفعالهم التي كانوا يفعلونها فيه.

والجواب الثالث: من باب السؤال مما لا يستحق الجواب؛ لأن الواجب عليكم أن تسألوا عما يهمكم من منافع الأهلة وفوائدها لتعملوا بمقتضاها، فعكستم وسألتم عن أحوالها، أي: مثلكم في العدول عن الطريق المستقيم كمن لا يدخل من باب بيته ويدخله من ظهره، ويمكن أن يجعل هذا الجواب أيضاً من باب الأسلوب الحكيم.

والجواب الثاني أوفق لتأليف النظم؛ لأنه تعالى لما استطرد عملاً من أعمالهم في الحج، وقبح فعلهم وبين أن التقوى في عكس ذلك، عم التقوى بقوله:(وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فاندرج فيها جميع ما يجب أن يعتبر فيها من الأفعال والتروك فعطف على (وَاتَّقُوا) بعض ما كان مشتملاً عليه، وهو القتال ليشير إلى أنه مهتم بشأنه بحسب اقتضاء الوقت، فالعطف من باب قوله تعالى:(فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)[الرحمن: 68].

ص: 259

ويجوز أن يجرى ذلك على طريق الاستطراد لما ذكر أنها مواقيت للحج؛ لأنه كان من أفعالهم في الحج، ويحتمل أن يكون هذا لتعكيسهم في سؤالهم، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره. والمعنى: ليس البر وما ينبغي أن تكونوا عليه بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البرّ برّ من اتقى ذلك وتجنبه ولم يحسر على مثله، ثم قال:(وَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) أي: وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها، ولا تعكسوا. والمراد وجوب توطين النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال اللَّه حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة، ولا اعتراض شك في ذلك، حتى لا يسأل عنه؛ لما في السؤال من الابهام بمقارفة الشك؛ (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء: 23].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: العلوم ضربان: دنيوي يتعلق بأمر المعاش، كمعرفة الصنائع ومعرفة الأجرام السماوية والمعادن والنبات وطبائع الحيوان، وقد جعل الله لنا سبيلاً إلى معرفته على غير لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وشرعي، وهو البر، ولا سبيل إلى أخذه إلا من النبي، فلما سألوا عما أمكنهم معرفته أجابهم بما أجاب، ثم قال:(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) أي: بأن تطلبوا الشيء من غير بابه، يقال: فلان أتى البيت من بابه: إذا طلب الشيء من وجهه. قال الشاعر:

أتيت المروءة من بابها

فجعل ذلك مثلاً لسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم عما ليس من العلم المختص بالنبوة؛ لأن ذلك عدول عن المنهج.

قوله: (بمقارفة الشك)، الجوهري: هو من: قارف فلان الخطيئة، أي: خالطها.

ص: 260

[(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ* فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)].

المقاتلة في سبيل اللَّه: هو الجهاد لإعلاء كلمة اللَّه وإعزاز الدين (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ): الذين يناجزونكم القتال دون المحاجزين، وعلى هذا يكون منسوخا بقوله:(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً)[التوبة: 36]، وعن الربيع بن أنس رضى اللَّه عنه: هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة فكان رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وعلى آله وسلم يقاتل من قاتل ويكف عمن كف؛ أو الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ): الذين يناجزونكم) فسر المقاتلين بوجوه ثلاثة:

أحدها: بالذين يبارزون المسلمين دون المحاجزين.

وثانيها: بمن يصح منهم المقاتلة دون من لا يصح، وهو المراد بقوله:"أو الذين يناصبونكم القتال".

وثالثها: بالكفرة كلهم مجازاً، والمراد بالمقاتلة: المضادة، الأول أخص من الثاني والثالث أعم منهما.

قوله: (يناجزونكم)، الجوهري: المناجزة في الحرب: المبارزة والمقاتلة، والمحاجزة: الممانعة، وفي المثل: المحاجزة قبل المناجزة.

قوله: (يناصبونكم)، الجوهري: نصبت لفلان نصباً: إذا عاديته، وناصبته الحرب مناصبة.

ص: 261

والصبيان والرهبان والنساء؛ أو الكفرة كلهم؛ لأنهم جميعاً مضادّون للمسلمين، قاصدون لمقاتلتهم، فهم في حكمٍ المقاتلة، قاتلوا أو لم يقاتلوا. وقيل: لما صدّ المشركون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع لعمرة القضاء؛ خاف المسلمون أن لا يفي لهم قريش ويصدّوهم ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام، وكرهوا ذلك، نزلت، وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم والشهر الحرام، ورفع عنهم الجناح في ذلك. (وَلا تَعْتَدُوا) بابتداء القتال، أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء والشيوخ والصبيان، والذين بينكم وبينهم عهد أو بالمثلة، أو بالمفاجأة من غير دعوة، (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) حيث وجدتموهم في حل أو حرم. والثقف: وجود على وجه الأخذ والغلبة. ومنه: رجل ثقف، سريع الأخذ لأقرانه. قال:

فَإمَّا تَثْقَفُونِى فَاقْتُلُونِى

فَمَنْ أثْقَفْ فَلَيْسَ إلَى خُلُودِ

(مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي: من مكة وقد فعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم يوم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لعمرة القضاء) أي: العمرة التي أحرم بها عام الحديبية وتحلل عنها بسبب الإحصار، وهو من إضافة العام إلى الخاص؛ لأن العمرة أعم من أن تكون قضاء أو أداء.

قوله: (نزلت)، وفي بعض النسخ: فنزلت، فعلى هذا جواب "لما" قوله:"خاف"، وإذا كان جواب "لما نزلت"، فالصواب أن يكون خاف بالواو، وهو لم يرو.

قوله: (والثقف: وجود على وجه الأخذ والغلبة)، وفي الكواشي: الثقف: الحذق في إدراك الشيء وفعله. قال القاضي: الثقف: الحذق في إدراك الشيء، علماً كان أو عملاً، فهو يتضمن الغلبة، ولذلك استعمل في الغلبة في قول الشاعر:

فإما تثقفوني فاقتلوني

البيت.

ص: 262

الفتح. (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)، أي: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به؛ أشد عليه من القتل. وقيل لبعض الحكماء: ما أشد من الموت؟ قال: الذي يتمنى فيه الموت. جُعل الإخراج من الوطن من الفتن والمحن التي يتمنى عندها الموت. ومنه قول القائل:

لَقَتْلٌ بِحَدِّ السَّيْفِ أَهْوَنُ مَوْقِعاً

عَلى النَّفْسِ مِنْ قَتْلٍ بحَدِّ فِرَاقِ

وقيل: (الْفِتْنَةُ): عذاب الآخرة؛ (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ)[الذاريات: 14]، وقيل: الشرك أعظم من القتل في الحرم؛ وذلك أنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم، ويعيبون به المسلمين، فقيل: والشرك الذي هم عليه أشد وأعظم مما يستعظمونه. ويجوز أن يراد: وفتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشد من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اسم "ليس" في قوله: "ليس إلى خلود" ضمير يرجع إلى "من"، يقول: إن تدركوني أيها الأعداء وقدرتم على قتلي فاقتلوني، فإن من أدركته منكم فليس له طريق إلى الخلود، أي: لا بقاء له ولا أخليه، بل أقتله.

قوله: 0 جعل الإخراج من الوطن من الفتن)، فعلى هذا قوله:(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ) يحتمل أن يكون تذييلاً لقوله: (وَأَخْرِجُوهُمْ) أو لقوله: (مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ)، ويجوز أن يكون تكميلاً لقوله:(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) إلى قوله: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) إذا أريد بالفتنة عذاب الآخرة، كما قال:"لتجتمع لهم فتنة الدنيا والآخرة"، كقوله تعالى:(وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)[التوبة: 74]، وقوله:(وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ)[طه: 127].

قوله: (ويجوز أن يراد: وفتنتهم إياكم) عطف على قوله: "والشرك أعظم من القتل"، وأما قوله تعالى:(وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فتخصيص لقوله تعالى: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)، وقوله:"إن قتلوكم فلا تبالوا بقتالهم" ترخيص بعد تخصيص، يعني: إنما أمرتم

ص: 263

وقرئ: (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم، فإن قتلوكم) جُعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم. يقال: قتلتنا بنو فلان. وقال:

فإن تقتلونا نقتلكم

(فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك والقتال، كقوله:(إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ)[الأنفال: 38]. (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي: شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الشرك ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالإمساك عن مقاتلتهم تعظيماً لهتك حرمة الحرم، فإذاً لا تعزموا مقاتلتهم حتى يعزموا على مقاتلتكم، فإذا شرعوا فيها فلا تبالوا بقتالهم؛ لأنهم بدؤوا بهتك حرمة الحرم وسنوا سنة العدوان.

قوله: (وقرئ: ولا تقتلوهم): حمزة والكسائي قرآ: 0 ولا تقتلوهم

حتى يقتلوكم

فإن قتلوكم) بغير ألف، من القتل، والباقون بالألف، من القتال. قال الزجاج: وجاز: ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم، وإن وقع القتل على بعض دون بعض، فإنه يقال: قتلت القوم، وإنما قتل بعضهم إذا كان في الكلام دليل على إرادة المتكلم.

قوله: ((وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب)، هذا الاختصاص يعلم من اللام في (لِلهِ)، ولهذا فسر الفتنة بالشرك حيث قال:"فتنة، أي: شرك"؛ لأنه وقع مقابلاً له.

قلت: والذي يقتضيه حسن النظم وإيقاع النكرة في سياق النفي أن تجرى (فِتْنَةٌ) على حقيقتها، لتستوعب جميع ما سمي فتنة، فيدخل فيها الشرك والقتال والحرب وجميع ما عليه مخالفو دين الإسلام، فيطابقه قوله:(وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)؛ لأن معناه: ويكون الدين كله لله كما جاء، فيكون تعميماً بعد تخصيص؛ لأن الفتنة حملت أولاً على الشرك، ولو أريد بها عين الفتنة السابقة لكان الواجب أن يجاء بها معرفة؛ لأن الشيء إذا أعيد أضمر أو كرر بعينه، وضعاً للمظهر

ص: 264

(فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) فلا تعدوا على المنتهين؛ لأنّ مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، فوضع قوله:(إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) موضع: على المنتهين؛ أو فلا تظلموا إلا الظالمين غير المنتهين؛ سمى جزاء الظالمين ظلما للمشاكلة، كقوله تعالى:(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موضع المضمر، وإن النكرة إذا أعيدت ولم يرد بها التكرار كانت غير الأول، بخلاف المعرفة، ولأن قوله:(فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ) يقتضي مفعولاً أعم مما اقتضاه قوله: (فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)؛ لأن الشيء إذا كرر وجيء بالثاني أعم من الأول كان أحسن من العكس، لئلا يجيء الكلام مبتوراً.

قوله: (فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) فلا تعدوا على المنتهين) يريد أن قوله: (فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) كناية إيمائية عن قولنا: "فلا تعدوا على المنتهين"، وذلك أن إثبات العدوان على الظالمين على سبيل الحصر في هذا المقام مفيد لنفي العدوان عن النمتهين. فقوله:"لأن مقاتلة المنتهين عدوان" تعليل لوضع (إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) موضع "المنتهين"، يعني: مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، ومقاتلة الظالمين، أي: غير المنتهين، حق وصواب، وأصل الكلام: فإن انتهوا عن الفتنة فلا تقاتلوهم، ثم فلا عدوان عليهم، ثم فلا عدوان على المنتهين، ثم كنى عن هذا المعنى بقوله:(فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)، فقول المصنف:"فوضع قوله: (إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) موضع على المنتهين" معناه: أن ماله يرجع إليه.

قوله: (أو: فلا تظلموا) معطوف على قوله: "لا تعدوا" فعلى هذا: (إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) قار في موضعه، لكن (فَلا عُدْوَانَ) وضع موضع "لا تقاتلوا، ولا تتعرضوا" على سبيل المشاكلة بحسب المعنى، ولهذا قال:"ولا تظلموا إلا الظالمين"، ومعنى الحصر على هذا: فإن انتهوا فلا تقاتلوهم، وقاتلوا غيرهم من المشركين الذين ليسوا بمنتهين، يعني: لابد لكم من

ص: 265

أو أريد أنكم إن تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيسلط عليكم من يعدو عليكم.

[(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)].

قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذو القعدة، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال؛ وذلك في ذى القعدة:(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ)، أي: هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه؛ يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقاتلة مع مخالفيكم، فإذا انتهى هؤلاء من المخالفة فاتركوهم وقاتلوا غيرهم، فوضع "لا تظلموا" موضع لا تقاتلوا للمشاكلة. والفرق بين هذا الوجه الأول هو أن قوله:"فلا عدوان" على الأول: كناية عن قوله: "فلا تقاتلوهم" على سبيل المبالغة، وعلى الثاني لمجرد التحسين في الكلام، وأن النهي عن العدوان على المنتهين على الأول مقصود دون ما يعطيه اللفظ من معنى العدوان على الغير بالحصر؛ لأن الكناية لا توجب إثبات التصريح كما تقول: فلان طويل النجاد، فإنه لا يوجب إثبات نجاد وطوله، وعلى الثاني نهي المقاتلة عنهم وإثباتها للغير مقصودان.

قوله: (أو أريد: إنكم) وجه آخر، على تقدير أن الفاء في قوله:(فَلا عُدْوَانَ) جزاء شرط مقدر لا لهذا المذكور، يعني: قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، فإن انتهوا عن الفتنة فلا تتعرضوا لهم، فإنكم إن تعرضتم لهم كنتم ظالمين فإذا كنتم ظالمين فلا عدوان إلا عليكم، فوضع الظالمين موضع المضمر إشعاراً بالعلية، وقول المصنف:"فيسلط عليكم من يعدو عليكم" حاصل المعنى.

قوله: (قاتلهم المشركون عام الحديبية). في هذه الرواية نظر؛ لأن عام الحديبية لم يكن فيه قتال، بل كان صد على ما روينا عن البخاري ومسلم. وقال محيي السنة: الآية نزلت في عمرة القضاء، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً في ذي القعدة فصده المشركون عن البيت بالحديبية،

ص: 266

(وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) أي: وكل حرمةٍ يجري فيها القصاص من هتك حرمة أي: حرمة كانت- اقتص منه؛ بأن تهتك له حرمة، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم نحو ذلك ولا تبالوا، وأكد ذلك بقوله:(فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ)، (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في حال كونكم منتصرين ممن اعتدى عليكم، فلا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم.

[(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)].

الباء في (بِأَيْدِيكُمْ): مزيدة، مثلها في: أعطى بيده؛ للمنقاد، والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة أيديكم، أي: لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكةً، وقيل:(بأيديكم) بأنفسكم. وقيل: تقديره: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فصالحهم على أن ينصرف ويرجع في العام القابل فيقضي عمرته، فرجع صلى الله عليه وسلم في العام القابل وقضى عمرته، فذلك معنى قوله:(الشَّهْرُ الْحَرَامُ) يعني ذا القعدة الذي دخلتم مكة وقضيتم عمرتكم بالشهر الحرام، أي: ذا القعدة الذي صددتم فيه عن البيت، والصد كان في سنة ست من الهجرة، والقضاء في سنة سبع، فعلى هذا، معنى قوله:(وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ): أنهم لما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله وادخلوا عليهم في القابل، فإن منعوكم فاقتلوهم، لقوله تعالى:(فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) لأنه نتيجة لقوله: (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ).

قوله: (أعطى بيده؛ للمنقاد) أي: يقال لمن انقاد لأحد وأطاعه: أعطى بيده، كما يقال في ضده: نزع يده عن الطاعة.

قوله: (والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة أيديكم) بيان لطريق المجاز، أي: لا تجعلوا التهلكة مسلطاً عليكم فتأخذكم كما يأخذ المالك القاهر يد مملوكه، فسبيل هذا المجاز سبيل الاستعارة المكنية.

ص: 267

كما يقال: أهلك فلان نفسه بيده، إذا تسبب لهلاكها، والمعنى: النهى عن ترك الإنفاق في سبيل اللَّه لأنه سبب الهلاك، أو عن الإسراف في النفقة حتى يفقر نفسه ويضيع عياله، أو عن الاستقتال والإخطار بالنفس، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدوّ، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمعنى: النهي عن ترك الإنفاق

أو عن الإسراف في النفقة)، فالآية على هذا تذييل لقوله:(وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وقوله:(وَأَنفِقُوا) تكميل لقوله تعالى: (وَقَاتِلُوا)، وإنما احتملت الآية الضدين؛ لأن اليد تستعمل في الإعطاء والمنع بسطاً وقبضاً، قال الله تعالى:(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)[الإسراء: 29].

والإنفاق طرفان: الإفراط، وهو التبذير، والتفريط، وهو الإمساك، والقصد هو السخاء، فقوله تعالى:(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) يحتمل النهي عن الطرفين المذمومين، ومن ثم فسرها بهما.

قوله: (أو عن الاستقتال والإخطار بالنفس، أو عن ترك الغزو)، فعلى هذا الآية تذييل لقوله:(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)، فكذا تحتمل الآية الضدين، فإن اليد تستعمل في القدرة قوة وضعفاً، ومن ثم فسر قوله تعالى:(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)[التوبة: 29] بهما، أي: يعطوها إياكم صادرة عن يد استيلاء وقدرة وقوة لكم عليهم، أو: يعطوها إياكم صادرة عن انقياد وطاعة منكم.

وللجراءة أيضاً طرفان: الإفراط وهو التهور، والتفريط وهو الجبن، والقصد هو الشجاعة والنهي في الآية يحتمل الطرفين المذمومين.

ولله در المصنف ولطيف إشارته، والتفسير الأول أحسن وأولى لقوله تعالى بعده:(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، ولما ورد في "صحيح" البخاري عن حذيفة رضي الله عنه:(وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ): نزلت في النفقة.

ص: 268

وروي: أن رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدوّ فصاح به الناس: ألقى بيده إلى التهلكة. فقال أبو أيوب الأنصارى: نحن أعلم بهذه الآية، وإنما أنزلت فينا، صحبنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنصرناه وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهالينا وأموالنا وأولادنا، فلما فشا الإسلام وكثر أهله، ووضعت الحرب أوزارها، رجعنا إلى أهالينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها؛ فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. وحكى أبو علي في "الحلبيات" عن أبي عبيدة: التهلكة والهلاك والهلك واحد. قال: فدلّ هذا من قول أبى عبيدة على أن التهلكة مصدر، ومثله ما حكاه سيبويه من قولهم: التضرة والتسرة ونحوها في الأعيان: التنضبة والتنفلة. ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة، كالتجربة والتبصرة ونحوهما؛ .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عن الاستقتال)، الأساس: استقتل فلان: استسلم للقتل، كما يقال: استمات.

قوله: (فقال أبو أيوب الأنصاري)، الحديث رواه الترمذي وأبو داود، عن أسلم أبي عمران مع اختلاف في ألفاظه.

قوله: (في الحلبيات)، وهو كتاب صنفه أبو علي الفارسي في حلب.

قوله: (التضرة)، يقال: لا ضرر ولا ضارورة ولا تضرة، والتنضبة: شجرة، والتنفلة: ولد الثعلب. وقال الزجاج: التهلكة: معناه الهلاك، يقال: هلك الرجل يهلك هلاكاً وهلكة وتهلكة.

ص: 269

على أنها مصدر من هلك فأبدلت من الكسرة ضمة، كما جاء الجوار في الجوار.

[(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)].

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ائتوا بهما تامّين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه اللَّه من غير توان ولا نقصان يقع منكم فيهما. قال: .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كما جاء الجوار في الجوار)، الجوهري: جاورته مجاورة وجُواراً وجِواراً، والكسر أفصح.

قوله: (تأمين كاملين بمناسكهما). اعلم أن إتمام العبادات إما أن يكون من حيث الصورة، وهي أن يجاء بها على وجه يسقط عن مؤديها قضاؤها ظاهراً، وإما أن يكون من حيث الحقيقة، وهي أن تؤدى بحيث تكون مقبولة عند الله، بأن تكون تامة كاملة بأركانها وشرائطها وهيئتها وسننها، وتكون غير مشوبة بشيء من الرياء، وهذا الذي عناه سيدنا صلوات الله عليه بقوله:"الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، بعد بيانه الإيمان والإسلام، وغليه أومى المصنف بقوله:"لوجه الله من غير توان ولا نقصان"، فالإحسان في العبادات والمعاملات هو الفضل والإفضال في جميع الأحوال، وهو الزيادة على العدل، قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يَامُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)[النحل: 90]، فالعدل هو أداء الواجب، والإحسان: الإتمام والإفضال، ويؤيد هذا التأويل قوله:(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)، أي: لوجه الله، ثم عطفه على قوله:(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) عطف الخاص على العام على سبيل الاستطراد.

ص: 270

تَمَامُ الْحَجِّ أَنْ تَقِفَ الْمَطَايَا

عَلى خَرْقَاءَ وَاضِعَةِ اللِّثَامِ

جعل الوقوف عليها كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلا به. وقيل: إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك. روي ذلك عن عليّ وابن عباس وابن مسعود رضى اللَّه عنهم. وقيل: أن تفرد لكل واحد منها سفراًً، كما قال محمد رحمه الله: حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل. وقيل: أن تكون النفقة حلالاً. وقيل: أن تخلصوهما للعبادة، ولا تشوبوهما بشيء من التجارة والأغراض الدنيوية. فإن قلت: هل فيه دليل على وجوب العمرة؟ قلت: ما هو إلا أمر بإتمامهما، ولا دليل في ذلك على كونهما واجبين أو تطوّعين؛ فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع جميعاً، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تمام الحج) البيت، خرقاء: محبوبة ذي الرمة، واضعة اللثام، أي: مسفرة نقل عن بعض السلف الصالحين أنه حج، فلما قضى نسكه قال لصاحبه: هلم نتمم حجنا، ألم تسمع قول ذي الرمة: تمام الحج أن تقف المطايا؟ البيت، وحقيقة ما قال هو أنه لما قطع البوادي حتى وصل إلى حرم الله، ينبغي أن يقطع أهواء النفس ويخرق حجب القلب حتى يصل إلى مقام المشاهدة ويبصر آثار كرمه قبل الرجوع عن حرمه.

قوله: (أن تحرم بهما من دويرة أهلك)، هذا إنما يصح إذا أمكن المسير من الدار في أشهر الحج، لقوله تعالى:(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ)، وأما إذا لم يمكن ذلك فلا؛ لأن من بعدت داره من مكة بحيث يحتاج إلى الخروج في رمضان مثلاً كيف يحرم منها؟

قوله: (فقد يؤمر بإتمام الواجب والتطوع جميعاً)، قال صاحب "الفرائد": الإتمام لوجه الله

ص: 271

إلا أن تقول: الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما؛ بدليل قراءة من قرأ: (وأقيموا الحج والعمرة) والأمر للوجوب في أصله، إلا أن يدلّ دليل على خلاف الوجوب، كما دلّ في قوله:(فَاصْطادُوا)[المائدة: 2]، (فَانْتَشِرُوا) [الأحزاب: 53]، ونحو ذلك، فيقال لك: فقد دلّ الدليل على نفي الوجوب، وهو ما روي أنه قيل: يا رسول اللَّه، العمرة واجبة مثل الحج؟ قال:«لا، ولكن أن تعتمر خير لك» ، وعنه:«الحج جهاد والعمرة تطوّع» .

فإن قلت: فقد روي عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أنه قال: إن العمرة لقرينة الحج. وعن عمر رضى اللَّه عنه: أنّ رجلا قال له: إني وجدت الحجّ والعمرة مكتوبين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

واجب في الفرض والتطوع؛ لأن الإخلاص واجب في كل عبادة، سواء كانت فرضاً أو تطوعاً، ولا يلزم من ذلك وجوب الأداء، فعلى هذا من شرع في الحج والعمرة وجب عليه إتمامهما.

قوله: (الأمر بإتمامهما أمر بأدائهما) بناءً على أن مقدمة الواجب واجب، قال الإمام: هذا الاحتمال أولى من الأول لما يلزم منه الإجمال، وهو خلاف الأصل مع أن وجوب الإتمام مسبوق بالشروع، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدوراً فهو واجب. قال محيي السنة: المعنى: وابتدئوه فأتموه.

وقال الإمام: والقول بإيجاب العمرة أقرب إلى الاحتياط، وقلت: أما الحديث المروي عن أحمد بن حنبل والترمذي، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: العمرة واجبة هي؟ قال: "لا، وان تعتمروا هو أفضل"، فمعارض بروايته أيضاً عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 272

عليّ أهللت بهما جميعاً. فقال: هديت لسنة نبيك. وقد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام، فكانت واجبة مثل الحج؟ قلت: كونها قرينةً للحج أنّ القارن يقرن بينهما، وأنهما يقترنان في الذكر، فيقال: حجّ فلان واعتمر، والحجاج والعمار، ولأنها الحجّ الأصغر، ولا دليل في ذلك على كونها قرينة له في الوجوب، وأمّا حديث عمر رضى اللَّه عنه، فقد فسر الرجل ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد"، رواه أحمد ابن حنبل وابن ماجة، عن عمر رضي الله عنه، أما حديث ابن عباس رضي الله عنه، فالصحيح ما روى البخاري تعليقاً، عن ابن عباس:"إنها لقرينتها في كتاب الله: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) "، ومذهبهما أنها واجبة، وما رواه أيضاً عن ابن عمر:"ما من أحد إلا وعليه حجة وعمرة".

ص: 273

كونهما مكتوبين عليه بقوله: أهللت بهما، وإذا أهلّ بالعمرة وجبت عليه، كما إذا كبر بالتطوّع من الصلاة. والدليل الذي ذكرناه أخرج العمرة من صفة الوجوب؛ فبقي الحجّ وحده فيها، فهما بمنزلة قولك: صم شهر رمضان وستة من شوّال، في أنك تأمره بفرض وتطوّع. وقرأ عليّ وابن مسعود والشعبي رضي الله عنهم: ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأما حديث عمر رضي الله عنه فقد فسر الرجل كونهما مكتوبين عليه بقوله: أهللت بهما)، يعني قوله: اهللت بهما جميعاً استئناف لبيان الموجب. المعنى وجدتهما مكتوبين لأني أهللت بهما جميعاً، فسبب كونهما مكتوبين علي إهلالي بهما، فالوجوب إنما يكون للشروع فيهما لا للأمر.

وقال القاضي: إنه رتب الإهلال على الوجدان، وذلك يدل على أنه سبب الإهلال دون العكس، يعني: إنما أهللت بهما لأني وجدتهما مكتوبين علي.

وقلت: فعلى هذا الفاء مقدرة، ويوافقه جواب عمر رضي الله عنه: هديت لسنة نبيك، أي: طريقته، لأن كون الشروع في الشيء موجباً للإتمام لا يقال فيه: إنها طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يقال ذلك في أداء المناسك والعبادات.

قوله: (والدليل الذي ذكرناه) يعني: ما روي: أنه قيل: يا رسول الله، العمرة واجبة مثل الحج؟ قال:"لا"، يعني: استدلالك بأنها قرينة للحج بحديث ابن عباس، وبأنها نظمت في الآية مع الحج لا يجديك مع ذلك النص، على أن الاقتران لا يدل على الوجوب، ودليلنا يلزه إلى التأويل ويوجب أن يقال: هو مثل قولك: صم شهر رمضان وستة من شوال، ويمكن أن

ص: 274

(والعمرة للَّه) بالرفع، كأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحجّ وهو الوجوب. (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) يقال: أُحصر فلانٌ، إذا منعه أمر من خوف أو مرضٍ أو عجز. قال اللَّه تعالى:(الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[البقرة: 273].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقال: إن دليله معارض بما رويناه عن ابن مسعود كما سبق، والتأويل خلاف الظاهر، على أنه إنما يستقيم إذا قيل: إن صيغة افعل موضوعة للقدر المشترك، وهو ضعيف، لما ثبت أنها حقيقة في الوجوب مجاز في الباقي.

قوله: (كأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحج)، يعني قطعوا العمرة عن حكم اشتراكها الحج في الإتمام وجعلوها مع الظرف جملة أخرى إخبارية مستقلة ليؤذن على اختلاف حكميهما.

قوله: (كأنهم قصدوا بذلك إخراجها عن حكم الحج)، يعني قطعوا العمرة عن حكم اشتراكها الحج في الإتمام وجعلوها مع الظرف جملة أخرى إخبارية مستقلة ليؤذن على اختلاف حكميهما.

وقلت: هذا القطع يشعر بشدة الاهتمام بشأنها؛ لأنهم غنما يعدلون من الإنشائية إلى الإخبارية للمبالغة، لاسيما وقد أتى بالجملة الاسمية وبلام الاختصاص، كأنه قيل: إذا شرعتم في الحج فأتموه، وأما العمرة فهي المختصة بالله ولا كلام في أدائها، ونحوه قولُه في قولِه تعالى:(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[البقرة: 197]، قرأ أبو عمرو وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب، حملا الأولين على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار، كأنه قيل: ولاشك ولا خلاف في الحج، ونحوه من حيث المعنى ما روينا عن الشيخين وغيرهما، عن أبي هريرة:"كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به"، هذه المبالغة لدفع ما عسى يظن ظان التهاون فيه وتوهم عدم الوجوب.

ص: 275

وقال ابن ميادة:

وَمَا هجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ

عَليْكَ وَلَا أَنْ أحْصَرَتْكَ شَغُولُ

وحُصر؛ إذا حبسه عدوّ عن المضيّ أو سجن، ومنه قيل للمحبس: الحصير، وللملك: الحصير؛ لأنه محجوب. هذا هو الأكثر في كلامهم، وهما بمعنى المنع في كل شيء، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وما هجر ليلى) البيت، يقول: ليس الهجر هو صدود الحبيبة وتباعدها لحاجة من جانبها أو منع وحبس من جانبك، وإنما الهجر: صدودها عن اختيار منها.

قوله: (وللملك: الحصير)، وأنشد الراغب قول لبيد:

ومقامة غلب الرقاب كأنهم

جن لدى باب الحصير قيام

أي: لدى باب سلطان، وتسميته بذلك إما لكونه محصوراً، أو محجوباً، وإما لكونه حاصراً، أي: مانعاً لمن أراد الوصول إليه، وإن الحصير سمي بذلك لحصر بعض طاقاته على بعض، والإحصار يقال في المنع الظاهر كالعدو، والمنع الباطن كالمرض، والحصر لا يقال إلا في المنع الباطن، فقوله تعالى:(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) محمول على الأمرين.

قوله: (هذا هو الأكثر في كلامهم) والمشار إليه بلفظة "هذا" هو المذكور، يعني: ما ذكرت من الفرق أكثر استعمالاً من أن يكونا بمعنى واحد، ثم قال:"وهما- أي: أحصر وحصر- بمعنى المنع في كل شيء"، يعني: هما بمعنى واحد من غير تفرقة، "كقولهم: صده وأصده، وعليه قول الفراء وأبي عمرو وابي حنيفة رحمهم الله"، ويدل على هذا التأويل قول الزجاج:

ص: 276

مثل: صدّه وأصدّه، وكذلك قال الفرّاء وأبو عمرو الشيباني، وعليه قول أبى حنيفة رحمهم اللَّه تعالى: كل منع عنده من عدوّ كان أو مرض أو غيرهما معتبر في إثبات حكم الإحصار، وعند مالك والشافعي: منع العدوّ وحده.

وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه الحج من قابل» . (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فما تيسر منه يقال: يسر الأمر واستيسر، كما يقال: صعب واستصعب والهدي: جمع هدية، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرواية عن أهل اللغة أنه يقال للرجل الذي يمنعه الخوف أو المرض من التصرف: قد أحصر فهو محصر، ويقال للذي حبس: قد حصر فهو محصور، وقال الفراء: لو قيل للذي منعه المرض والخوف: قد حصر، لأنه بمنزلة الذي حبس: لجاز، ولو قيل للذي حبس: أحصر، لجاز، كأنه يجعل حابسه بمنزلة المرض والخوف الذي منعه من التصرف، والحق في هذا ما عليه أهل اللغة من أنه يقال للذي يمنعه الخوف أو المرض: أحصر، وللمحبوس: حصر.

قوله: (وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل")، الحديث رواه أبو داود والترمذي عن الحجاج بن عمرو، وضعفه محيي السنة في "المصابيح".

في "النهاية": يقال: عرج يعرج عرجاً: إذا غمز من شيء أصابه، وعرج بالكسر، يعرج عرجاً: إذا صار أعرج أو كان خلقة فيه. وفي "المستظهري": يعني: من حدث له بعد

ص: 277

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحرام مانع غير إحصار العدو، وعجز عن إتمام الحج كالمرض وغيره، يجوز له أن يترك الإحرام ويرجع إلى وطنه ليجيء في سنة أخرى بعد زوال العذر، ويقضي حجه، كالمحصر، هذا قول أبي حنيفة، وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يجوز الخروج من الإحرام بغير عذر الإحصار، بل يصبر على الإحرام، فإن زال العذر قبل فوات الحج فهو المراد، وإن زال بعد فواته لزمه أن يخرج من الإحرام بأفعال العمرة، وظاهر قول القاضي أن له أن يخرج من الإحرام إذا اشترط الإحلال، واستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل على ضباعة بنت الزبير:"لعلك أردت الحج؟ "، قالت: والله ما أجدني إلا وجعة، فقال لها:"حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني"، رواه البخاري ومسلم والنسائي، عن عائشة، وفي رواية الترمذي وأبي داود، عن ابن عباس: أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، أريد الحج، أفأشترط؟ قال:"نعم"، قالت: كيف أقول؟ قال: "قولي: لبيك اللهم لبيك، محلي من الأرض حيث تحبسني".

قال في "المستظهري": الحديث يدل على أنه يجوز لكل محرم أن يشترط الخروج من الإحرام بعذر يعترضه، وهو قول أحمد وأحد قولي الشافعي، وقال غيرهما: لا يجوز له أن

ص: 278

كما يقال في جدية السرج: جدي. وقرئ (من الهديّ) بالتشديد، جمع هدية، كمطية ومطيّ، يعني: فإن منعتم من المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرةٍ فعليكم إذا أردتم التحلل ما استيسر من الهدي؛ من بعيرٍ أو بقرةٍ أو شاة. فإن قلت: أين ومتى ينحر هدي المحصر؟ قلت: إن كان حاجاً فبالحرم متى شاء عند أبى حنيفة؛ يبعث به ويجعل للمبعوث على يده يوم أمارٍ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يخرج، روى الترمذي: أن ابن عمر كان ينكر الاشتراط في الحج، ويقول: أليس حسبكم سنة نبيكم؟ وزاد النسائي: إنه لم يشترط، فإن حبس أحدكم حابس فليأت البيت فليطف به وبين الصفا والمروة ثم ليحلق أو ليقصر ثم يحلل، وعليه الحج من قابل.

قوله: (جدية السرج) هو بالدال المهملة، الجوهري: الجدية بتسكين الدال: شيء محشو تحت دفتي السرج والرحل، وهما جديتان، والجمع جدىً.

قوله: (للمبعوث على يده)، الضمير في يده: راجع إلى اللام في المبعوث؛ لأنها موصولة، والجار والمجرور: مفعول للمبعوث أقيم مقام الفاعل.

قوله: (يوم أمار) أي: يقول للمبعوث على يده: انحر يوم كذا، فإذا جاء ذلك اليوم وغلب على ظنه أنه نحر يتحلل، النهاية: وفي حديث ابن مسعود: "ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمار"، الأمار والأمارة: العلامة، وقيل: الأمار: جمع الأمارة، المعنى: أن من أحصر لمرض أو عذر فعليه أن يبعث بهدي ويواعد الحامل يوماً بعينه يذبحها فيه، فإذا ذبحت تحلل.

ص: 279

وعندهما في أيام النحر، وإن كان معتمراً فبالحرم في كل وقتٍ عندهم جميعاً، «ما استيسر» رفع بالابتداء، أي: فعليه ما استيسر، أو نُصب على: فاهدوا ما استيسر. (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) الخطاب للمحصرين، أي: لا تحلوا حتى تعلموا أنّ الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ (مَحِلَّهُ)، أي: مكانه الذي يجب نحره فيه. ومحل الدين: وقت وجوب قضائه، وهو ظاهر على مذهب أبى حنيفة رحمه الله. فإن قلت: فإنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم نحر هديه حيث أحصر. قلت: كان محصره طرف الحديبية .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعندهما) أي: عند مالك والشافعي، وقيل: عند محمد وأبي يوسف، فهما لم يخالفا في المكان وخالفا في الزمان، يعني: مع أبي حنيفة رضي الله عنه، وفي "صحيح البخاري": قال مالك رضي الله عنه وغيره: ينحر هديه ويحلق في أي موضع كان ولا قضاء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا وحلوا من كل شيء قبل الطواف وقبل أن يصل الهدي إلى البيت، ثم لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحداً أن يقضوا شيئاً ولا يعودوا له، والحديبية خارج من الحرم.

قوله: (ومحل الدين وقت وجوب قضائه) يعني: لفظ الحل مشترك يطلق على المكان والزمان، والذي عليه الكلام ها هنا المكان، لأن المراد: لا تحلقوا حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب نحره فيه، وهو المراد من قوله:"وهو ظاهر مذهب أبي حنيفة رحمه الله".

قال الإمام: قالت الحنفية: إن المحل، بالكسر هنا: عبارة عن المكان؛ لأن قوله: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) يدل على أنه الآن غير بالغ إلى مكان حله، ولو جعل للزمان لكان بالغاً محله في الحال، وهو أن يذبح متى أحصر، ثم قال: هب أن المحل يحتمل المكان والزمان، إلا أنه تعالى أزال الاحتمال بقوله:(ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)[الحج: 33]، وبقوله:

ص: 280

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ)[المائدة: 95]، والمراد به الحرم؛ لأن البيت عينه لا تراق فيه الدماء، وأما حجة الشافعي رحمه الله فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية ونحر بها وهي ليست من الحرم، ولأن المحصر سواء كان في الحل أو الحرم مأمور بنحر الهدي، وأول درجات المكلف أن يكون له التمكن من الفعل المأمور به، ولأنه تعالى إنما شرع التحلل للمحصر ليتخلص من الخوف في الحال، ولو فرض ضرب يوم أمار لطالت عليه المدة، لاسيما إذا أحصر بعيداً من الحرم، وفات المقصود من شرعية هذا الحكم، ولأن الموصل إلى الحرم هو الخائف، فكيف يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخوف وربما لم يجد الغير ليبعثه فيتأثم لذلك.

وقلت: والذي يقوى به مذهب الإمام قوله تعالى: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ) أي: تيسر، كما تقول: استعظم واستصعب، في: تعظم وتصعب، فإذا كان الله عز وجل بنى أمر الهدي نفسه على السهولة والتيسير، كيف يشدد في محله وموضع نحره؟ ولا ارتياب أن أمر المرض وأذى الرأس أيسر من الإحصار، وقد بني الأمر فيهما على التخيير والسعة، حيث قال:(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) إيذاناً بأن الأمر على التساهل وعدم الحرج.

والحاصل: أن المحل في قوله تعالى: (حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) مجمل؛ لأنه مشترك في الزمان والمكان، والقرينة المبينة للمكان: بلوغ الهدي، باعتبار قوله:(هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) وللزمان: فعل النبي صلى الله عليه وسلم والأمر بالتيسير، والثاني أولى؛ لأن قوله:(هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ) نازل في أمر غير الإحصار، وأما تأويل الآية فهو أن قوله:(وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) حكم مستقل، والجملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء، المعنى: شرعية الإحصار: وجوب ما استيسر من الهدي، وشرعية الحلق: بلوغ الهدي محله، أي: وقت حله أو مكان حله، وهو ما عينه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد علم أنه حلق حيث أحصر.

ص: 281

الذي إلى أسفل مكة، وهو من الحرم، وعن الزهري: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم. وقال الواقدي: الحديبية هي: طرف الحرم على تسعة أميال من مكة. (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) فمن كان به مرض يحوجه إلى الحلق، (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَاسِهِ) وهو القمل أو الجراحة، فعليه إذا احتلق فدية مِنْ صِيامٍ ثلاثة أيام، (أَوْ صَدَقَةٍ) على ستة مساكين، لكل مسكينٍ نصف صاعٍ من برّ، (أَوْ نُسُكٍ) وهو شاة. وعن كعب بن عجرة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له:«لعلك أذاك هوامّك» . قال: نعم يا رسول اللَّه. قال: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة» . وكان كعبٌ يقول: فيّ نزلت هذه الآية. وروي: أنه مرّ به وقد قرح رأسه فقال: «كفى بهذا أذى» ، وأمره أن يحلق ويطعم، أو يصوم. والنسك مصدر، وقيل: جمع نسيكة. وقرأ الحسن: أو نسك بالتخفيف. (فَإِذا أَمِنْتُمْ) الإحصار، يعني: فإذا لم تحصروا وكنتم في أمن وسعة، .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهو من الحرم)، وفي النهاية: الحديبية: قرية قريبة من مكة، سميت ببئر هناك، وهي مخففة الياء، وكثير من المحدثين يشددونها. وقد روينا في "صحيح البخاري" أن الحديبية خارجة من الحرم.

قوله: (وعن كعب بن عجرة)، الحديث رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الله بن مغفل مع تغيير يسير.

قوله: (وكنتم في حال أمن وسعة) بيان لقوله: "لم تحصروا"، هذا مبني على أن المراد بالإحصار: المنع من خوف أو مرض أو عجز. قال القاضي: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) المراد منه حصر

ص: 282

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العدو عند مالك والشافعي، لقوله:(فَإِذَا أَمِنتُمْ)، ولنزوله في الحديبية.

قلت: لأن لفظ الأمن أكثر ما يستعمل حقيقة فيما يقابل الخوف. الأساس: هؤلاء قوم مستأمنة، ويقول الأمير للخائف: لك الأمان، إني قد أمنتك، ويقال: ويأمنه الناس ولا يخافون غائلته.

وأما قضية النظم، فإنه تعالى ابتدأ بإتمام الحج والعمرة، ثم جاء بقوله:(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) وقوله: (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ) تفصيلاً لبيان المانع من الإتمام، ورتب على كل منهما ما يجبر به النقصان من قوله:(فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ)، والمعنى: وأتموا الحج والعمرة، أي: ائتوا بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما، فإن منعكم العدو بأن لم تتمكنوا على شيء من ذلك، فجبرانه ما استيسر من الهدي، وإن لم يمنعكم وأنتم في حال أمن منهم ولكن أردتم تمتع ميقات فجبرانه ما استيسر من الهدي، وإنما أوثر "إذا" في جانب الأمن على "إن" ليؤذن أن ذلك الإحصار، أعني يوم الحديبية، لا اعتبار له، وأن أغلب أحوالكم بعد ذلك الأمن والغلبة والتمتع كيف شئتم، هذا هو النظم السري، وقد ظهر من هذا التقرير أن خوف العدو من الإحصار والأمن منه، الغالب أن يختص بالآفاقي، وأن المشار إليه بقوله:(ذَلِكَ) في قوله: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إذا كان هو الحكم الذي هو وجوب الهدي، والصيام كان أولى مما إذا قيل: المشار إليه هو التمتع، لما يعلم من الأول مسألة زائدة، ومن الثاني يلزم التكرار، فعلم من هذه الإشارة مسألة عدم لزوم الهدي وبذله على أهل الحرم إذا كان متمتعاً على سبيل الإدماج، كما علم من قوله:(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مسألة لزوم الكفارة على المريض والمتأذي من الرأس على سبيل الاستطراد، ليجتمع في الآية عدة مسائل في كفارة الحج.

ص: 283

(فَمَنْ تَمَتَّعَ) أي: استمتع (بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ)، واستمتاعه بالعمرة إلى وقت الحج: انتفاعه بالتقرّب بها إلى اللَّه تعالى قبل الانتفاع بتقرّبه بالحج. وقيل: إذا حلّ من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرّماً عليه إلى أن يحرم بالحج. (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ): هو هدي المتعة، وهو نسك عند أبي حنيفة، ويأكل منه، وعند الشافعي يجرى مجرى الجنايات، ولا يأكل منه، ويذبحه يوم النحر عندنا، وعنده يجوز ذبحه إذا أحرم بحجته. (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الهدي فعليه: صِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، أي: في وقته؛ وهو أشهره ما بين الإحرامين: إحرام العمرة وإحرام الحج، وهو مذهب أبى حنيفة رحمه الله، والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوماً قبلهما، وإن مضى هذا الوقت لم يجزئه إلا الدم، وعند الشافعي: لا يصام إلا بعد الإحرام بالحج؛ تمسكاً بظاهر قوله: (فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بحجته) بكسر الحاء. الجوهري: والحج بالكسر: الاسم والحجة بالكسر: المرة الواحدة، وهو من الشواذ، لأن القياس بالفتح.

قوله: (يوم التروية)، النهاية: هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي به لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده، أي: يستقون ويسقون. وفي المغرب: روأت في الأمر تروية: فكرت فيه ونظرت، ومنه: يوم التروية للثامن من عشر ذي الحجة، وأصلها الهمز، وأخذها من الرؤية خطأ، ومن الري منظور فيه، وعن محيي السنة: سمي به لأن إبراهيم عليه السلام تفكر فيه في الرؤيا التي رآها، وفي التاسع عرف فسمي لذلك عرفة.

قوله: (تمسكاً بظاهر قوله: (فِي الحَجِّ))، أي: في حال أنكم مشتغلون بأعمال الحج؛ لأن الحج في الأصل: القصد، ثم تعورف استعماله في القصد إلى مكة للنسك، قاله الجوهري.

ص: 284

بمعنى: إذا نفرتم وفرغتم من أفعال الحج عند أبى حنيفة، وعند الشافعي: هو الرجوع إلى أهاليهم. وقرأ ابن أبى عبلة: (وسبعة) بالنصب عطفاً على محل (ثلاثة أيام)، وكأنه قيل: فصيام ثلاثة أيام، كقوله:(أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً)[البلد: 14 - 15]. فإن قلت: فما فائدة الفذلكة؟ قلت: الواو قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن وابن سيرين، ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً، أو واحداً منهما كان ممتثلاً؟ ففذلكت؛ نفياً لتوهم الإباحة، وأيضاً: ففائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً؛ ليحاط به، ومن جهتين، فيتأكد العلم. وفي أمثال العرب: علمان خيرٌ من علم. وكذلك (كامِلَةٌ) تأكيد آخر، وفيه زيادة ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الفذلكة) قيل: الفذلكة في الحساب: الإجمال بعد التفصيل، وذلك بأن يذكر تفاصيله ثم يجمل ويكتب في مؤخره: فذلك كذا وكذا، ومنه قول حاتم:

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه

وإن عاش لم يقعد ضعيفاً مذمما

قوله: (لتوهم الإباحة) كما توهم في قوله: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ)[النساء: 2]، قال:

ثلاث واثنتان فهي خمس

ويحتمل أنه لإزالة أن السبعة مع الثلاثة كقوله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ)[فصلت: 9]، أي: مع اللذين تقدما فيه في قوله: (خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ).

قوله: (علمان خير من علم). قال الميداني: وأصله أن رجلاً وابنه سلكا طريقاً، فقال الرجل: يا بني استبحث لنا عن الطريق، قال: إني عالم، قال: يا بني، علمان خير من علم، يضرب في مدح المشاورة والبحث.

ص: 285

توصية بصيامها، وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها، كما تقول للرجل إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به وكان منك بمنزلٍ: اللَّه اللَّه لا تقصر! وقيل: (كاملة) في وقوعها بدلاً من الهدي. وفي قراءة أبىّ: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات). (ذلِكَ) إشارة إلى التمتع، عند أبى حنيفة وأصحابه؛ لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عندهم، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم، وهو دم جناية لا يأكل منه، وأما القارن والمتمتع من أهل الآفاق فدمهما دم نسك يأكلان منه. وعند الشافعي: إشارة إلى الحكم الذي هو وجوب الهدي أو الصيام، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: (كَامِلَةٌ) في وقوعها) عطف على قوله: (كَامِلَةٌ): تأكيد آخر"، قال القاضي:(كَامِلَةٌ): صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدة، أو مبينة كمال العشرة، فإنه أول عدد كامل، إذ به ينتهي الآحاد وتتم مراتبها، أو مقيدة تفيد كمال بدليتها من الهدي، المعنى: لا تفاوت في الثواب بكل واحد منهما من البدل والمبدل منه.

الراغب: كمال الشيء: حصول ما فيه الغرض منه، قال تعالى:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)[البقرة: 233] تنبيهاً أن ذلك غاية ما يتعلق به صلاح الولد، وقوله تعالى:(تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، قيل: إنما وصف العشرة بالكاملة لا ليعلمنا أن السبعة والثلاثة عشرة، بل ليبين أن بحصول صيام العشرة يحصل كما الصوم القائم مقام الهدي.

قوله: (لا متعة) جملة مستأنفة مبينة لقوله: " (ذَلِكَ) إشارة على التمتع عند أبي حنيفة"، كأن قائلاً قال: إذا كان إشارة إلى ذلك فما حكم حاضري المسجد؟ قيل: لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عملاً بالمفهوم.

ص: 286

ولم يوجب عليهم شيئاً. وحاضرو المسجد الحرام: أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة عند أبى حنيفة، وعنده أهل الحرم ومن كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) في المحافظة على حدوده، وما أمركم به ونهاكم عنه في الحج وغيره. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن خالف؛ ليكون علمكم بشدّة عقابه لطفاً لكم في التقوى.

[(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولم يوجب عليهم شيئاً)، أي: على حاضري المسجد الحرام إذا قرنوا أو تمتعوا. قال الشافعي: (ذَلِكَ) إشارة إلى الأقرب وهو لزوم الهدي وبدله على المتمتع، وإنما يلزم ذلك إذا كان المتمتع آفاقياً؛ لأن الواجب عليه أن يحرم عن الحج من الميقات، فلما أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا عن الميقات، فقد حصل هناك الخلل، فجعل مجبوراً بهذا الدم، والمكي لا يجب إحرامه عن الميقات، فإقدامه على التمتع لا يوقع خللاً في حجه فلا يجب عليه الهدي ولا بدله، قاله الإمام.

قوله: (لا تقصر فيها) في نسخة المعزي، و"تقصر" بغير "لا" في نسخة الصمصام، والأول موافق لمذهب الشافعي؛ لأن كل من مسكنه دون مسافة القصر حوالي مكة فهو من الحاضرين.

قوله: (لطفاً لكم في التقوى). كل ما يزجر عن المعصية أو يدعو إلى الطاعة هو لطف في مذهبه.

ص: 287

أي: وقت الحج (أَشْهُرٌ)، كقولك: البرد شهران. والأشهر المعلومات: شوالٌ وذو القعدة وعشر ذى الحجة عند أبى حنيفة، وعند الشافعي: تسع ذى الحجة وليلة يوم النحر، وعند مالكٍ ذى الحجة كله. فإن قلت: ما فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر؟ قلت: فائدته أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها، والإحرام بالحج لا ينعقد أيضاً عند الشافعي في غيرها، وعند أبى حنيفة ينعقد إلا أنه مكروه. فإن قلت: فكيف كان الشهران وبعض الثالث أشهراً؟ قلت: اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد. بدليل قوله تعالى: (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما)[التحريم: 4]، فلا سؤال فيه إذن وإنما كان يكون .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إلا أنه مكروه)؛ لأنه يمتد مكثه، فربما يضطر إلى محظورات الإحرام، قال الزجاج: لا ينبغي لأحد أن يبتدئ بعمل من أعمال الحج قبل هذا الوقت؛ لأنه يتضرر به، لأنها أقصر الأوقات التي ينبغي للإنسان أن لا يتقدمها في عقد فرض الحج.

قوله: (اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد)، أي: الاسم الذي هو جمع، لئلا يدخل فيه نحو: القوم، قال صاحب "الفرائد": جعل الجمع مشتركاً على خلاف النقل والعقل، ولو كان كما قال لما توقف إطلاق الجمع في نحو هذا على كون المضاف متصلاً، ولجاز غلمانهما كما جاز قلوبكما، والجواب عن قوله: خلاف النقل والعقل، أن محيي السنة ذكر في "تفسيره": قيل: الاثنان فما فوقهما جماعة، لأن معنى الجمع: ضم شيء إلى شيء، فإذا جاز أن يسمى الاثنان جماعة جاز أن يسمى الاثنان وبعض الثالث بلفظ الجمع.

وقال ابن الحاجب: واختلف العلماء في أقل ما يطلق على أبنية الجمع على مذاهب، أحدها: اثنان بطريق الحقيقة، وثانيها: الثلاثة بالحقيقة والاثنان بالمجاز قطعاً، وثالثها: الثلاثة بالحقيقة ويصح إطلاقه على الاثنين مجازاً فيقال: من قال: إن أقل الجمع اثنان أو ثلاثة حقيقة يلزمه القول بالاشتراك ضرورة، وأما توقف إطلاق الجمع على كون المضاف متصلاً بشرط

ص: 288

موضعاً للسؤال لو قيل: ثلاثة أشهر معلومات. وقيل: نزّل بعض الشهر منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا، أو على عهد فلان، ولعل العهد عشرون سنة أو أكثر، وإنما رآه في ساعةٍ منها. فإن قلت: ما وجه مذهب مالك وهو مرويّ عن عروة بن الزبير؟ قلت: قالوا: وجهه أنّ العمرة غير مستحبة فيها عند عمر وابن عمر فكأنها مخلصة للحج ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القائلين إن أقل الجمع ثلاثة، على أن المصنف ترك الآية على المذهبين على سبيل الحكاية، لأن قوله:"وقيل: نزل بعض الشهر منزلة كله"، مبني على أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة وما دونها مجاز، وهذا هو الجواب أيضاً عما لو قيل: ثلاثة أشهر معلومات، لأن هذا محصور بالعدد فلا يكون الاثنان وبعض الثالث ثلاثة إلا بالمجاز.

قوله: (ما وجه مذهب مالك؟ ) أي: إن أشهر الحج عنده إلى آخر ذي الحجة، وفائدة التسمية بأشهر الحج أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها، وقد فرغ من أعمال الحج إلى العشر من ذي الحجة، فلم سمي به؟ والجواب من وجهين: أحدهما: فائدة التسمية اختصاصها بأعمال الحج دون العمرة، فيكون علة التسمية الاختصاص لا الأعمال وإن وقعت فيها، وثانيهما: قوله: "وقالوا: لعل من مذهب عروة" إلى آخره، أي: لا نسلم أن أفعال الحج لا تصح بعد العشر، فإن مذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر، وقيل: إن أيام النحر يفعل فيها بعض ما يتصل بالحج وهو رمي الجمار، والمرأة إذا حاضت فقد تؤخر الطواف الذي لابد منه إلى انقضاء أيام العشر، وضعفهما الإمام بأن الرمي يقع فيها بعد التحلل وهو الخروج بالحلق والطواف والنحر، فكأنه ليس من أعمال الحج، والحائض تطوف قضاءً لا أداء.

وقال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لأن التحلل هو: الخروج عن محظور الإحرام لا عن الحج، فالرمي نسك من أعمال الحج وإن وقع بعد التحلل، بل يضعفه من حيث إن الرمي وإن

ص: 289

لا مجال فيها للعمرة. وعن عمر رضى اللَّه عنه: أنه كان يخفق الناس بالدّرة، وينهاهم عن الاعتمار فيهنّ. وعن عمر رضى اللَّه عنه قال لرجل: إن أطعتنى انتظرت حتى إذا أهللت المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة. وقالوا: لعل من مذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر. (مَعْلُوماتٌ): معروفات عند الناس لا يشكلن عليهم. وفيه: أنّ الشرع لم يأت على خلاف ما عرفوه وإنما جاء مقرّرا له. (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ): فمن ألزمه نفسه بالتلبية أو بتقليد الهدي وسوقه عند أبى حنيفة، وعند الشافعي رضي الله عنهما بالنية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقع في أيام النحر فلا يتجاوزها، فلا يكون كل الشهر حينئذ للحج وإنه المطلوب في هذا التوجيه، ولقائل أن يقول: فإذن لا يصح قولهم: إن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلا فيها مع قولك بأن الرمي من أفعال الحج ويقع في أيام النحر، فالقول ما قاله الإمام، لأن الرمي يجبر بالدم فلا يكون كسائر الأركان.

الانتصاف: هذا الذي ذكره الزمخشري أحد قولي مالك، وليس بالمشهور عنه، والحجة له حمل لفظ الشهر على الحقيقة، وأما احتجاج الزمخشري له بكراهة عمر رضي الله عنه وابنه الاعتمار إلى أن يهل المحرم، فلا وجه له؛ لأنه يقول: لا تنعقد العمرة في أيام منى لمن حج ما لم يتم الرمي ويحل بالإفاضة، ولا تظهر فائدة الخلاف عند مالك إلا في سقوط الدم عن مؤخر طواف الإفاضة إلى آخر ذي الحجة كما هو مذهب عروة.

قوله: (يخفق

بالدرة)، أي: يضرب. النهاية: المخفقة: الدرة، من الخفق: الضرب.

قوله: (وعند الشافعي: بالنية)، قال القاضي:(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن، وهو ما ذهب إليه الشافعي وأن من احرم بالحج لزمه الإتمام.

ص: 290

(فَلا رَفَثَ): فلا جماع؛ لأنه يفسده، أو: فلا فحش من الكلام، (وَلا فُسُوقَ): ولا خروج عن حدود الشريعة. وقيل: هو السباب والتنابز بالألقاب، (وَلا جِدالَ): ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين. وإنما أمر باجتناب ذلك وهو واجب الاجتناب في كل حال؛ لأنه مع الحج أسمج؛ كلبس الحرير في الصلاة، والتطريب في قراءة القرآن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فلا جماع، أو: فلا فحش)، الأول: كناية، والثاني: حقيقة، في قوله تعالى:(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)[البقرة: 187]، وأما حمل الفسوق على السباب والتنابز فمن قوله تعالى:(وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ)[الحجرات: 11].

قوله: (والتطريب في قراءة القرآن)، يعني: مثل ما يفعله قراء زماننا بين يدي الوعاظ في المجالس من الألحان الأعجمية، قاله صاحب "جامع الأصول"، وأما تحسين القراءة ومدها فهو مندوب إليه، روينا عن أبي داود، والدارمي، والنسائي، وابن ماجة، عن البراء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"زينوا القرآن بأصواتكم"، وفي رواية للدارمي:"حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً"، وعن أبي داود، عن أبي لبابة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن"، قال: فقلت لابن أبي مليكة: يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: يحسنه ما استطاع.

ص: 291

والمراد بالنفي: وجوب انتفائها، وأنها حقيقةً بأن لا تكون. وقرئ المنفيات الثلاث بالنصب وبالرفع، وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأوّلين بالرفع والآخر بالنصب لأنهما حملا الأوّلين على معنى النهى؛ كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق؛ والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج؛ وذلك أنّ قريشاً كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام، وسائر العرب يقفون بعرفة، .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ المنفيات الثلاث بالنصب)، أي: بالفتح.

قوله: (وقرأ أبو عمرو وابن كثير الأولين بالرفع) إلى آخره، وقرأ غيرهما بالفتح فيهن.

قوله: (كأنه قيل: ولاشك ولا خلاف في الحج)، قال الإمام: فائدة العدول من النهي إلى النفي هو أن النفي يدل على نفي الماهية، وانتفاء الماهية يوجب انتفاء جميع أفرادها قطعاً، وهو أدل على عموم النفي من الرفع، فدل على أن الاهتمام بنفي الجدال أشد من الاهتمام بنفي أخويه، وذلك أن المجادل لا ينقاد للحق فيؤدي إلى الإيذاء المؤدي إلى العداوة فيقع في كل فسق وباطل، ثم نقل ما ذكره المصنف وقال: ليس فيه بيان أنه لم خص الأولين بالنهي والثالث بالنفي؟ .

وقلت: كفى بقوله: "فلا يكونن رفث ولا فسوق"، وقوله:"ولا شك ولا خلاف في الحج" بياناً، وتقريره: أن قوله: "فلا يكونن رفث ولا فسوق" مبني على الكناية، نحو قولك: لا أرينك ها هنا، فيدل على شدة الاهتمام بشأن المنهيين، أي: ينبغي أن لا يوجدا ولا ينشآ،

ص: 292

وكانوا يقدّمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء، فرّد إلى وقتٍ واحد، وردّ الوقوف إلى عرفة، فأخبر اللَّه تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإنهما ينافيان النسك ويضادانه، وأن قوله:"قد أخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف" إخبار عن الكائن، يعني: كانوا ينسئون في الحج، وبسببه يقع الشك والخلاف في الحج، والآن قد ارتفع الخلاف بظهور الحق، فوافقه معنى ما روينا عن الشيخين، عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً

" الحديث، فاقتضى الأمران الأولان لذلك النهي، والأخير الإخبار.

قوله: (وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة وهو النسيء). الجوهري: النسيء: فعيل بمعنى مفعول، من قولك: نسأت الشيء فهو منسوء: إذا أخرته، ثم يحول منسوء إلى نسيء كما يحول مقتول إلى قتيل، وذلك أنهم كانوا إذا صدروا من منى يقوم رجل من كنانة فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهراً، أي: أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر، لأنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها؛ لأن معاشهم كان من الغارة، فيحل لهم المحرم. وقال غيره: كان أهل الجاهلية ينسئون الحج في كل عامين من شهر إلى آخر، ويجعلون الشهر الذي أنسئوا فيه ملغى، فتكون تلك السنة ثلاثة عشر شهراً، ويتركون العام الثاني على ما كان عليه الأول سوى أن الشهر الملغى في الأول لا يكون في العام الثاني، ثم يصنعون في العام الثالث صنيعهم في الأول، ويتركون الرابع على ما تركوا عليه العام الثاني، وعلى هذا تمام الدورن فيستدير حجهم في كل خمس وعشرين سنة إلى الشهر الذي بدأ منه، ولهذا تخبط عليهم حساب السنة، وكانت السنة التي حج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع هي السنة التي كان الحج فيها في ذي الحجة، ذكره التوربشتي في "شرحه"، وسيجيء رواية "شرح السنة" في "براءة". وقول المصنف:"يقدمون الحج سنة ويؤخرون سنة" محمول على ما ذكرنا، لأن في بعض هذه الأحوال يقع قبل ذي الحجة، وفي بعضها بعدها.

ص: 293

واستدلّ على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال بقوله صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه» ، وأنه لم يذكر الجدال. (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) حث على الخير عقيب النهي عن الشر وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن، ومكان الفسوق البرّ والتقوى ومكان الجدال الوفاق والأخلاق الجميلة، أو جُعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من حج فلم يرفث ولم يفسق) الحديث رواه الشيخان: البخاري ومسلم، وغيرهما. ونقل محيي السنة، عن ابن عباس وابن مسعود: الجدال أن يماري صاحبه ويخاصمه حتى يغضبه، وهو قول جمع كثير من المفسرين، وقيل: هو ما كان عليه أهل الجاهلية، وكان بعضهم يحج في ذي القعدة وبعضهم في ذي الحجة، وكل يقول: ما فعلته هو الصواب، فقال جل ذكره:(وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) أي: استقر أمر الحج على ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فلا اختلاف فيه من بعد، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا إن الزمان .. " الحديث، وقال مجاهد: معناه: ولاشك في الحج أنه في ذي الحجة، فأبطل النسيء.

قوله: (وأن يستعملوا) عطف على قوله: "الخير عقيب النهي" على سبيل البيان، وقوله:(أو جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم): عطف على قوله: "حث على الخير" يريد أن "خيراً" في قوله: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) مطلق يتناول كل ما سمي خيراً، وعلى الأول بعيد لقرينة الكلام السابق بما يضاد المذكورات، وإليه الإشارة بقوله:"وأن يستعملوا مكان القبيح من الكلام الحسن" إلى آخره، وعلى الثاني مقيد بقرينة الكلام اللاحق بما ينبئ عن التقوى، وهو ضبط النفس عن كل ما نهوا عنه، وموقعه- على الأول إذا حمل (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) على معنى النهي، وقوله:(وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) على معنى الأمر- موقع التأكيد على الطرد والعكس؛ لأنهما متقابلان بناءً على أن النهي عن الشيء أمر بضده وعكسه،

ص: 294

وينصره قوله تعالى: " وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أي: اجعلوا زادكم إلى الآخرة اتقاء القبائح فإنّ خير الزاد اتقاؤها. وقيل: كان أهل اليمن لا يتزوّدون ويقولون: نحن متوكلون، ونحن نحج بيت اللَّه أفلا يطعمنا فيكونون كلًّا على الناس، فنزلت فيهم. ومعناه: وتزوّدوا واتقوا الاستطعام وإبرام الناس والتثقيل عليهم، فإن خير الزاد التقوى. (وَاتَّقُونِ): وخافوا عقابي. (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يعني: أن قضية اللب تقوى اللَّه ومن لم يتقه من الألباء فكأنه لا لب له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعلى الثاني موقع التذييل، وموقع (وَتَزَوَّدُوا) على الثاني- مع قوله:(وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) - موقع التفسير.

قوله: (وقيل: كان أهل اليمن) عطف على قوله: "وينصره"، والحديث من رواية البخاري وأبي داود، عن ابن عباس: "كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى (وَتَزَوَّدُوا).

قوله: (يعني: أن قضية اللب تقوى الله)، هذا المعنى يفيده توجيه الخطاب بتخصيص ذكر اللب، وإلا كان يكفي (وَاتَّقُونِ).

الراغب: اللب أشرف أوصاف العقل، وهو اسم الجزء الذي بإضافته إلى سائر أجزاء الإنسان، كلب الشيء إلى القشور، وباعتباره قيل لضعيف العقل: يراعة، وقصبة، ومنخوب، وخاوي الصدر.

قال القاضي: حثهم على التقوى مطلقاً ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ عن كل شيء سواه، وهو مقتضى العقل المعرى عن شوائب الهوى، فلذلك خص أولي الألباب

ص: 295

[(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ* ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ* وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ* أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ)].

(فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) عطاء منه وتفضلاً، وهو النفع والربح بالتجارة. وكان ناس من العرب يتأثمون أن يتجروا أيام الحج، وإذا دخل العشر كفوا عن البيع والشراء، فلم تقم لهم سوق، ويسمون من يخرج بالتجارة: الداجّ، ويقولون: هؤلاء الداج .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالخطاب. الراغب: قال أبو مطيع البلخي لحاتم الأصم: بلغني أنك تجوب البادية بلا زاد، فقال: بل أجوبها بالزاد، وزادي أربعة أشياء: أرى الدنيا بحذافيرها لله، والخلق كلهم عبيداً له، وأرى الأشياء كلها بيده، وأرى قضاءه نافذاً في الأرض، فقال: نعم الزاد زادك يا حاتم، تجوب به مفاوز الآخرة.

قوله: (هؤلاء الداج)، النهاية: في حديث ابن عمر: "أنه رأى قوماً في الحج لهم هيئة أنكرها،

ص: 296

وليسوا بالحاج. وقيل: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يتجرون فيها في أيام الموسم، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثموا، فرفع عنهم الجناح في ذلك وأبيح لهم، وإنما يباح ما لم يشغل عن العبادة. وعن ابن عمر رضى اللَّه عنه: أن رجلاً قال له: إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوماً يزعمون أن لا حج لنا. فقال: سأل رجل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عما سألت، فلم يردّ عليه حتى نزل:(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ)، فدعا به فقال:"أنتم حجاج". وعن عمر رضي الله عنه: أنه قيل له: هل كنتم تكرهون التجارة في الحج؟ فقال: وهل كانت معايشنا إلا من التجارة في الحج؟ ! وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: (فضلاً من ربكم في مواسم الحج). (إن تبتغوا): في أن تبتغوا. (أَفَضْتُمْ): دفعتم بكثرة، وهو من إفاضة الماء، وهو صبه بكثرة، وأصله: أفضتم أنفسكم، فترك ذكر المفعول كما ترك في: دفعوا من موضع كذا وصبوا. وفي حديث أبي بكر رضى اللَّه عنه: صب في دقران وهو يخرش بعيره بمحجنه. ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فقال: هؤلاء الداج وليسوا بالحاج". الداج: أتباع الحاج كالخدام والأجراء والجمالين؛ لأنهم يدجون على الأرض أي: يدبون ويسعون في الأرض في السير، وهذان اللفظان وإن كانا مفردين فالمراد بهما الجمع، كقوله تعالى:(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ)[المؤمنون: 67].

قوله: (دفعوا من موضع كذا)، النهاية: دفع من عرفات، أي: ابتدأ السير ودفع نفسه منها ونحاها، أو: دفع ناقته: حملها على السير.

قوله: (صب في دقران)، النهاية: ذلك عند مسيره صلى الله عليه وسلم إلى بدر صب في دقران، مضى فيه منحدراً ودافعاً، وهو موضع عند بدر، ومنه حديث الطواف:"حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي"، أي: انحدرت في المسعى. المغرب: فلما انصبت قدماه في الوادي، أي: استقرتا،

ص: 297

ويقال: أفاضوا في الحديث وهضبوا فيه. وعَرَفاتٌ: علم للموقف سمى بجمع كأذرعات. فإن قلت: هلا مُنعت الصرف وفيها السبيان: التعريف والتأنيث! قلت: لا يخلو من التأنيث إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدرةٍ كما في: سعاد، فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ولا يصح تقدير التاء فيها؛ لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها، كما لا يقدر تاء التأنيث في "بنت"؛ لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث؛ فأبت تقديرها. وقالوا: سميت بذلك لأنها وصفت لإبراهيم عليه السلام، فلما أبصرها عرفها. وقيل: إن جبريل حين كان يدور به في المشاعر ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مستعار من انصباب الماء. النهاية: وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: "أنه أفاض وهو يحرش بعيره بمحجنه"، أي: يضربه ثم يجذبه إليه، يريد تحريكه للإسراع وهي شبيهة بالخدش، والمحجن: عصاً معقفة الرأس كالصولجان، والميم زائدة.

قوله: (وهضبوا فيه)، الأساس: ومن المجاز: هضبوا في الأحاديث وأفاضوا: خاضوا فيها، وهو يهضب بالشعر والخطب: يسح سحاً.

قوله: (وعرفات: علم للموقف) سمي بجمع كأذرعات. قال الجوهري: وهو اسم في لفظ الجمع فلا يجمع، قال الأخفش: إنما صرفت لأن التاء بمنزلة الياء والواو في مسلمين ومسلمون؛ لأنه تذكيره، وصار التنوين بمنزلة النون، فلما سمي به ترك على حاله كما يترك مسلمون إذا سمي به على حاله، وكذلك القول في أذرعات.

الانتصاف: يلزم الزمخشري إذا سمى امرأة بمسلمات أن لا يصرفه، وهو قول رديء، والأفصح تنوينه، والزمخشري يرى أن تنوين عرفات للتمكين لا للمقابلة، ولم يعد تنوين المقابلة

ص: 298

أراه إياها، فقال: قد عرفت. وقيل: التقى فيها آدم وحوّاء فتعارفا. وقيل: لأنّ الناس يتعارفون فيها واللَّه أعلم بحقيقة ذلك. وهي من الأسماء المرتجلة؛ لأنّ العرفة لا تعرف في أسماء الأجناس إلا أن تكون جمع عارف. وقيل: فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة؛ لأنّ الإفاضة لا تكون إلا بعده. ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في "مفصله"، بناءً منه على أنه راجع إلى تنوين التمكين. ونقل الزجاج فيها وجهين: الصرف وعدمه، إلا أنه قال: لا يكون إلا مكسوراً وإن سقط التنوين. وقال القاضي: وإنما نون وكسر مع العلمية والتأنيث؛ لأن تنوين الجمع تنوين المقابلة لا تنوين التمكن، أي: قابل التنوين نون الجمع المذكر.

قوله: (إلا أن تكون جمع عارف)، قيل: يضعف أن يقال: هو مستثنى من قوله: "فهو من الأسماء المرتجلة"، إذ يصير التقدير: عرفات من الأسماء المرتجلة، إلا أن يكون عرفات جمع عارف، فإنها حينئذ تكون من الأسماء المنقولة، وهذا ليس بسديد؛ لأن عرفات ليست جمع عارف بل جمع عرفة، وعرفةٌ: جمع عارف، بل هو مستثنى من قوله:"العرفة لا تعرف في أسماء الأجناس"، إذ لو عرف لجاز أن يكون من الأسماء المنقولة، اللهم إلا أن يقال: إن عرفة جمع عارف، كطلبة وطالب، وعرفات: جمع الجمع، فحينئذ يكون من الأسماء المنقولة، وقال ابن الحاجب: وقد يجمع الجمع لا على أنه يطرد قياساً، لكنه كثر في جمع القلة وقل في الكثرة إلا بالألف والتاء.

قوله: (وقيل: فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة)، وهو قول الزجاج، قال صاحب "التقريب": دليل الوجوب أن الذكر عند الإفاضة من عرفات واجب، وهو يتوقف على الإفاضة،

ص: 299

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج» . (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) بالتلبية والتهليل والتكبير والثناء والدعوات. وقيل: بصلاة المغرب والعشاء .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهي على الوقوف، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالوقوف واجب، وفيه نظر؛ لأنه إنما يستقيم لو كان الأمر بالذكر مطلقاً، وهو ها هنا مقيد مشروط بالإفاضة، وقولك: إذا حصل لك مال فزك، لا يقتضي وجوب تحصيل المال، وأن توقف عليه الزكاة، لكون الأمر غير مطلق.

فإن قلت: المأمور به ذكر مقيد بالحصول عند الإفاضة، فهو مركب، ووجوب المركب يستلزم وجوب أجزائه، قلنا: لا نسلم أن المأمور به ذكر مقيد بالحصول عند الإفاضة، وإنما كان كذلك لو تعلق الظرف، وهو "إذا" بـ "اذكروا"، وليس كذلك، فإنه ظرف متضمن لمعنى الشرط، ولذلك جيء بالفاء في جوابه، فإذاً ليس الواجب ذكراً مقيداً بالإضافة، بل إذا حصلت الإفاضة وجب الذكر، فالإفاضة قيد للأمر لا للمأمور به، وفيه دقة فليتأمل. وقلت: لو أنهم استدلوا بقوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) كان أقرب.

قوله: (الحج عرفة)، روينا عن الترمذي وأبي داود والنسائي، عن عبد الرحمن الديلي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي: "الحج عرفة"، وفي رواية أبي داود "من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج"، وفي رواية أخرى للنسائي:"الحج عرفة، فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع، فقد تم حجه"، والمصنف أردف الاستدلال بالنص ليشد بعضده.

ص: 300

و"الْمَشْعَرِ الْحَرامِ": قزح، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة. وقيل: المشعر الحرام: ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام.

والصحيح أنه الجبل؛ لما روى جابر رضى اللَّه عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر - يعني بالمزدلفة- بغلسٍ ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر- أو هلل- ولم يزل واقفا حتى أسفر. وقوله تعالى: (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) معناه: مما يلي المشعر الحرام قريباً منه، وذلك للفضل كالقرب من جبل الرحمة، وإلا فالمزدلفة كلها موقفٌ إلا وادي محسر. أو جعلت أعقاب المزدلفة؛ لكونها في حكم المشعر ومتصلة به عند المشعر. والمشعر: المعلم؛ لأنه معلم العبادة، ووصف بالحرم لحرمته. وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنه نظر إلى الناس ليلة جمع فقال: لقد أدركت الناس هذه الليلة لا ينامون. وقيل: سميت المزدلفة وجمعاً؛ لأنّ آدم صلوات اللَّه عليه اجتمع فيها مع حواء وازدلف إليها، أي: دنا منها. وعن قتادة: لأنه يجمع فيها بين الصلاتين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الميقدة)، المغرب: هي بالمشعر الحرام على قزح، كان أهل الجاهلية يوقدون عليها النار.

قوله: (مأزمي عرفة)، الجوهري: المأزم: كل طريق ضيق بين جبلين، ومنه سمي الموضع الذي بين المشعر وبين عرفة مأزمين. النهاية: كأنه من الأزم: القوة والشدة، والميم زائدة.

قوله: (أو جعلت أعقاب المزدلفة) عطف على قوله: "معناه: مما يلي المشعر الحرام"، و"عند المشعر": مفعول ثان لـ "جعلت"، يريد أن المشعر الحرام موضع مخصوص، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام، وقد شرط أن يذكر الله عنده، وليس كذلك؛ لأن المزدلفة كلها موضع للذكر وموقف للناس، واوله بتأويلين، أحدهما: أن تخصيص ذكره مع الجواز في كل المواضع لشرفه،

ص: 301

ويجوز أن يقال: وصفت بفعل أهلها؛ لأنهم يزدلفون إلى اللَّه، أي: يتقرّبون بالوقوف فيها. (كَما هَداكُمْ)"ما" مصدرية أو كافة. والمعنى: واذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة، واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه، (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ) من قبل الهدى (لَمِنَ الضَّالِّينَ) الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإليه الإشارة بقوله: "وذلك للفضل، كالقرب من جبل الرحمة"، وثانيهما: أنه سمى كل المزدلفة ببعضه، ويرجع حاصله إلى شرفه أيضاً؛ لأن الشرط في إطلاق الجزء على الكل أن يكون الجزء أشرفه، ومما يدل على أن المزدلفة كلها موقف: ما روينا عن أبي داود عن علي رضي الله عنه، قال: لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف على قزح فقال: "هذا قزح، وهو الموقف، وجمع كلها موقف".

قوله: (أو اذكروه كما علمكم)، "أو": ليس لترديد معنى "ما" في كونها مصدرية أو كافة على طريقة اللف والنشر؛ لأنه لا يتغير معناها في الوجهين، بل لترديد معنى (هَدَاكُمْ)، أي: الهداية: إما دلالة موصلة إلى البغية، أو بمعنى الدلالة المطلقة، ولهذا قال:"هداية حسنة"، وقال:"كما علمكم كيف تذكرونه"، والذكر الحسن: مشاهدة الذاكر المذكور وإخلاصه له في العبادة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه"، ومن ثم قال:"لا تعرفون كيف تذكرونه وتعبدونه"، حيث فسر الهداية بالعبادة.

قوله: (لا تعدلوا عنه) تفسير لقوله: "كيف تذكرون÷"، أي: علمكم كيف توحدونه بكلمة التوحيد فلا بعدلوا عن تعليمه إلى غيره، تلخيصه: ذلكم سبيل التوحيد فلا تعدلوا عنه لتهتدوا، وقوله:(وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ) تذييل لما سبق، وتقرير لمعناه. قال الزجاج: ومعنى: (وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ): التوكيد للأمر، كأنه قيل: وما كنتم من قبله إلا الضالين.

ص: 302

وتعبدونه. و"إن" هي مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة. (ثُمَّ أَفِيضُوا): ثم لتكن إفاضتكم (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ولا تكن من المزدلفة؛ وذلك لما كان عليه الخمس من الترفع على الناس، والتعالي عليهم، وتعظمهم عن أن يساووهم في الموقف، وقولهم: نحن أهل اللَّه وقطان حرمه فلا نخرج منه، فيقفون بجمعٍ وسائر الناس بعرفات. فإن قلت: فكيف موقع "ثم"؟ قلت: نحو موقعها في قولك: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، تأتي بـ"ثم" لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره، وبعد ما بينهما؛ فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات قال:(ثم أفيضوا) لتفاوت ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والثانية خطأ .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لما كان عليه الحمس)، النهاية: الحمس: جمع الأحمس، وهم: قريش ومن ولدت قريش، وكنانة، وجديلة قيس، سموا حمساً لأنهم تحمسوا في دينهم، أي: تشددوا، والحماسة: الشجاعة، كانوا يقفون بمزدلفة ولا يقفون بعرفة، ويقولون: نحن أهل الله فلا نخرج من الحرم، وكانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محرمون.

قوله: (وأن إحداهما صواب): عطف تفسيري على قوله: "لتفاوت ما بين الإفاضتين"، يعني: أن الإفاضة من عرفات صواب ومن مزدلفة خطأ، وفي قوله نظر؛ لأن التفاوت إذا اعتبر بين الإفاضة من عرفات الدال عليه قوله:(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) وبين هذه الإفاضة وهي: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، فكلاهما صوابان، وإذا اعتبر بين الإفاضة من عرفات وبين الإفاضة من مزدلفة فهي غير مذكورة في التنزيل، فلا يصح العطف عليها بـ "ثم". وأيضاً، لا يقال بين الصواب والخطأ: إنهما متفاوتان في الرتبة؛ لأنهما متباينان.

والجواب: أن التفاوت هنا ليس في الرتبة، بل في مجرد أن إحداهما صواب والأخرى خطأ، ولما كان قوله:(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) مراداً به التعريض، فكأنه قيل: لا تفيضوا من مزدلفة فإنه خطأ، فينطبق عليه مثال:"ولا تحسن إلى غير كريم"؛ لأن الإحسان إليه خطأ، وصح قوله:"وأن إحداهما صواب" أي: الإفاضة من عرفات، والثانية

ص: 303

وقيل: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) وهم الحُمس، أي: من المزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفات. وقرئ: (من حيث أفاض الناس) بكسر السين أي: الناسي؛ وهو آدم، من قوله:(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ)[طه: 115] يعني: أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تخالفوا عنه. (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) من مخالفتكم في الموقف، ونحو ذلك من جاهليتكم. (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ): فإذا فرغتم من عباداتكم الحجية ونفرتم، (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ): فأكثروا ذكر اللَّه وبالغوا فيه، كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم؛ وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل، فيعدّدون فضائل آبائهم ويذكرون محاسن أيامهم. (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) في موضع جرّ؛ عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله:(كَذِكْرِكُمْ) كما تقول: كذكر قريشٍ آباءهم، أو قوم أشدّ منهم ذكراً، أو في موضع نصب؛ ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خطأ، أي: الإفاضة من مزدلفة، وأما تطبيق الآية مع المثال فإن قوله:(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ) في تأويل: أفيضوا من عرفات، يدل عليه قوله:"فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة"، وقوله:(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) في تأويل: لا تفيضوا من مزدلفة على سبيل التعريض؛ وإنما قلنا بالتعريض لأن التعريف في الناس: للجنس، والمراد به: المؤمنون، فدل على الكمال، فيكون تعريضاً بالحمس، وإليه الإشارة بقوله:"لتكن إفاضتكم من عرفات ولا تكن من المزدلفة".

قوله: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، وهم الحمس)، فعلى هذا، اللام: للعهد، وثم: على ظاهره. قال محيي السنة: قال بعضهم: (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) أي: ثم أفيضوا من جمع، وكيف يسوغ إذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله، ثم أفيضوا من عرفات؟ ! وقيل:"ثم" فيه كما في قوله: (ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا)[البلد: 17].

ص: 304

عطفٌ على (آباءكم) بمعنى: أو أشدّ ذكراً من آبائكم، على أن (ذِكراً) من فعل المذكور. (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) معناه: أكثروا ذكر اللَّه ودعاءه، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الإمام: ثم ها هنا كما في قولك: قد أعطيتك اليوم كذا ثم أعطيتك أمس كذا، وفائدتها: تأخير أحد الخبرين عن الآخر، لا تأخير هذا المخبر عنه عن ذلك.

وقلت: أما بيان أن "ثم" ها هنا كما في قوله تعالى: (ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا)[البلد: 17] للتفاوت في المرتبة كما نص عليه المصنف في موضعه، فهو أن الأمر بالإفاضة أعلى من الأول، كأنه قيل:(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ)، ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الكملة من الناس، ومثاله الصريح: أحسن إلى الناس ثم ليكن إحسانك إلى الكريم منهم، ويؤيده ما روى الإمام، أن المراد بالناس: إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وإيقاع اسم الجنس على الواحد إذا كان رئيساً يقتدى به جائز.

قوله: (على أن (ذِكْراً) من فعل المذكور) أي: يكون المصدر من ذكر المجهول لا من ذكر المعروف، قال المصنف:"المصدر يأتي من فعل كما يأتي من فعل، كقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) [الروم: 3]، أي: من بعد كونهم مغلوبين"، فكذلك قوله:(أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) معناه: أو قوماً أبلغ في كونهم مذكورين، وقدر القاضي: أو كذكركم أشد مذكوراً من آبائكم.

قال المالكي: جعل الزمخشري (أَشَدَّ) معطوفاً على الكاف والميم، ولم يجز عطفه على "الذكر"، وهو الصحيح؛ لأنه لو عطف على "الذكر" لكان "أشد" صفة كـ "ذكر"، وامتنع نصب

ص: 305

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"الذكر" بعده؛ لأنك لا تقول: ذكري أشد ذكراً، وإنما تقول: أشد ذكر، وتقول: أنت أشد ذكراً، ولا تقول: أنت أشد ذكر؛ لأن الذي يلي أفعل التفضيل من النكرات إن جر فهو كل لأفعل، وأفعل بعض له، وإن نصب فهو فاعل في المعنى للفعل الذي صيغ منه أفعل؛ ولذلك تقول: أنت أكبر رجل وأكثر مالاً، فالأكثر بعض ما جر به، و"أكثر" بمنزلة فعل، وما انتصب بمنزلة فاعل؛ كأنك قلت: كثر مالك.

وقال ابن الحاجب في "الأمالي": في قوله: " (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً): في موضع جر عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: (كَذِكْرِكُمْ) " نظر، لما يلزم منه العطف على المضمر المخفوض، وذلك لا يجوز عنده، ورد قراءة حمزة أقبح رد، أي: في (تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ)[النساء: 1] بالجر، وكذا في قوله:"إن ذكراً من فعل المذكور" لما يؤدي إلى أن يكون أفعل للمفعول، وهو شاذ لا يرجع إليه إلا بثبت، وأفعل لا يكون إلا للفاعل، كقولهم: هو أضرب الناس، على أنه فاعل الضرب، سواء أضفته أو نصبت عنه تمييزاً، والوجه: أن يقدر جملتين، أي: فاذكروا الله ذكراً مثل ذكركم آباءكم، أو: اذكروا الله في حال كونكم أشد ذكراً من ذكر آبائكم، فتكون الكاف: نعتاً لمصدر محذوف، وأشد: حالاً، وهذا أولى؛ لأنه جرت الكاف على ظاهرها، ولا يلزم ما ذكروه من أن المعطوف يشارك المعطوف عليه في العامل؛ لأن ذلك في المفردات.

وقلت: نظر المصنف إلى التوافق بين المعطوف والمعطوف عليه، وإلى جعلهما من عطف المفرد على المفرد، لا من عطف الجملة على الجملة؛ لأن جعل أحدهما مصدراً والآخر حالاً له

ص: 306

فإنّ الناس من بين مقل لا يطلب بذكر اللَّه إلا أعراض الدنيا، ومكثر يطلب خير الدارين، فكونوا من المكثرين. (آتِنا فِي الدُّنْيا): ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عامل آخر مما يؤدي إلى تنافر النظم، وذكر مثله في قوله تعالى:(يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً)[النساء: 77]، وأما الجواب عن الأول فإنه رد في "النساء" العطف على المضمر المجرور لعلة شدة الاتصال، وصحح نحو: مررت بزيد وعمرو، لضعف الاتصال، وهنا إضافة المصدر إلى الفاعل، وهو في حكم الانفصال، على أن من الجائز أن يكون الفاصل بين المعطوفين هو المصحح للعطف كما في العطف على المرفوع المتصل. وذكر ابن الحاجب في "شرح المفصل": أن بعض النحويين يجوزون في المجرور بالإضافة دون المجرور بحرف الجر؛ لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار لاستقلال كل منهما بمعناه، ثم استشهد بالآية.

وعن الثاني: أنه إنما يلزم ذلك أن لو كان أفعل من الذكر وبني منه، بل إنما بني مما يصح بناؤه منه للفاعل، وهو أشد، وجعل (ذِكْراً)، الذي بمعنى المذكور تمييزاً، كأنه قيل: أشد مذكوراً، وهو إذن مثل سائر ما يمتنع منه بناؤه نحو: أقبح عوراً وأكثر شغلاً وفيه بحث.

قوله: (فإن الناس من بين مقل)، يريد أن الفاء في قوله:(فَمِنْ النَّاسِ) تفصيلية، والمجمل: ما عليه الناس في نفس الأمر، يعلم من سياق الآيات وبيان النظم، وذلك أنه عز وجل لما فرغ من الإرشاد إلى هذا النسك العظيم الشأن، قال:(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ)، أي: إذا فرغتم من عباداتكم الحجية ونفرتم إلى أوطانكم، لا تقولوا: قضينا ما علينا، بل اذكروا الله ذكراً كثيراً، وسبحوه بكرة وأصيلاً، ثم قسم الناس أربع فرق،

ص: 307

اجعل إيتاءنا، أي: إعطاءنا في الدنيا خاصة، (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) أي: من طلب خلاقٍ، وهو النصيب. أو ما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب؛ لأنّ همه مقصور على الدنيا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحدهم: الكافرون الذين جل همهم أعراض الدنيا والإعراض عن المولى، وهم المرادون بقوله:(فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا)، وثانيهم: المقتصدون الذين يقولون: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)، وثالثهم: المنافقون الذين كانت تحلولى ألسنتهم، وقلوبهم أمر من الصبر، وهم المرادون بقوله:(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ)، ورابعهم: السابقون البذالون أنفسهم في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وهم المعنيون بقوله:(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ) إرشاداً لهم إلى اختيار ما هو الأصوب وإيثار ما يزلفهم إلى الله تعالى والاجتناب عما يبعدهم عن رضوانه. ولما فرغ من ذلك وأراد أن يشرع في قصة بني إسرائيل، أتى بما يتخلص منه إليها، قال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً).

قوله: (اجعل إيتاءنا) ذهب إلى أن (آتِنَا) يجري مجرى اللازم، ثم عدي بـ "في" مبالغة، كقوله تعالى:(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) وأما إفادة خصوصية الإيتاء في الدنيا فمستفاد من التقابل في قوله: (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)، ولهذا قدر المضاف في المقابل وهو لفظ الطلب، والحاصل أنه قدر الطلب في القرينة الثانية بواسطة لفظ:"آتنا" في القرينة الأولى، وقدر "خاصة" في الأولى باقتضاء القرينة الثانية.

قوله: ((مِنْ خَلاقٍ) أي: من طلب خلاق) وهو النصيب، الراغب: الخلاق: نصيب الإنسان من أفعاله المحمودة التي تكون خلقاً له، وذلك أن الفعل قد يحصل من الإنسان تخلقاً، وقد يحصل خلقاً، وهو المحمود. وفي قوله:(وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) تنبيه أن

ص: 308

والحسنتان: ما هو طِلْبةُ الصالحين في الدنيا من الصحة والكفاف والتوفيق في الخير، وطِلْبتُهم في الآخرة من الثواب. وعن علي رضى اللَّه عنه: الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا رغبة لهم صادقة صادرة عن أخلاقهم، روي أنهم كانوا يقولون: اللهم أكثر أموالنا وأولادنا وأنزل الغيث علينا وأنبت مرعانا، ولا يسألون شيئاً من أمور الآخرة، وذلك أنهم عرفوا الدنيا ولم يعتقدوا الآخرة، وكيف يسأل الآخرة من لا يعرفها، وكيف يعرفها من لم يتحقق كونها، وكيف يتحقق كونها من لم يبصرها؟ أي: لم يدركها ببصيرته، وليس يعني بقوله تعالى:(يَقُولُ رَبَّنَا) التفوه بذلك فقط، بل صرف العناية إليها والاهتمام بها.

قوله: (والحسنتان ما هو طلبة الصالحين)، الراغب: لما أجرى الله تعالى العادة أن لابد للإنسان من أخيارهم وأشرارهم من بلغة في الدنيا، صار المؤمن يطلبها كما يطلبها الكافر، ولكن طلب المؤمن لها على سبيل العرض قدر ما يحسن وفي وقت ما يحسن، ولأجل الحاجة إليها قال بعض الصالحين: اللهم وسع الدنيا علي وزهدني فيها، ولا تضيقها علي فترغبني فيها.

قوله: (الحسنة في الدنيا: المرأة الصالحة) وعن مسلم والنسائي وابن ماجة، عن عبد الله ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"، وتفسيره: ما روينا عن أبي داود وابن ماجة، عن ابن عباس في حديث طويل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه:"ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته".

ص: 309

وعذاب النار: امرأة السوء. (أُولئِكَ) الداعون بالحسنتين (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أي: نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الحسنة، وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا، كقوله:(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا)[نوح: 25]، أو لهم نصيبٌ مما دعوا به؛ نعطيهم ما يستوجبونه بحسب مصالحهم في الدنيا، واستحقاقهم في الآخرة. وسمي الدعاء كسبا؛ لأنه من الأعمال، والأعمال موصوفة بالكسب؛ (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم) [الشورى: 30] ويجوز أن يكون (أُولئِكَ) للفريقين جميعاً، وأن لكل فريقٍ نصيباً من جنس ما كسبوا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز أن يكون (أُوْلَئِكَ) للفريقين) عطف على قوله: "أولئك الداعون". اعلم أن المشار إليه بقوله: "أولئك" إما الفريق الثاني، وهو القائل:(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)، أو مجموع الفريقين، فعلى الأول قوله:(مِمَّا كَسَبُوا) إما مجرى على حقيقته أو مجاز عن الدعاء بقرينة قولهم: (رَبَّنَا)، فعلى الحقيقة "من": إما بيان نصيب، وهو المراد من قوله:"أي: نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال"، وقوله:"وهو الثواب": بيان لجنس ما كسبوا، والجنسية بحسب الحسنة، ولذلك وصف كلاً من الأعمال والمنافع بالحسنة، أو ابتداء، وهو المراد من قوله:"من أجل ما كسبوا"، وعلى أن يراد بما كسبوا الدعاء، فهو من وضع المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق؛ لأن المفهوم من قوله:(رَبَّنَا آتِنَا) الدعاء والكسب، وسمي كسباً؛ لأنه من الأعمال والأعمالُ موصوفة بالكسب، وعلى الثاني: الأسلوب من باب الجمع مع التقسيم التقديري؛ لأن التقدير: أولئك الفريقان اللذان اختص كل واحد بنوع من الدعاء، لهم نصيب مما دعوا، من اقتصر على طلب الدنيا فله نصيب منها فحسب، ومن طلب الدنيا والآخرة جميعاً فله ذلك، والأول أقرب إلى النظم؛ لأن قوله:(أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ) في مقابلة قوله: (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)، ثم إن قوله:(وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) تذييل للكلام السابق من قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ) إلى آخره،

ص: 310

(وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب العباد؛ فبادروا إكثار الذكر وطلب الآخرة، أو وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدلّ على كمال قدرته ووجوب الحذر منه. روي: أنه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة: وروي: في مقدار فواق نافة. وروى في مقدار لمحة.

[(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) 203].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو إما أن يكون تحريضاً على إكثار الذكر وطلب الآخرة وانتهاز الفرصة في ذلك قبل حلول الأجل؛ لأن سرعة الحساب من الله تعالى إنما تقع في يوم القيامة، فأطلق ما يقع في يوم القيامة على القيامة مجازاً، نظيره في ظرف المكان قوله تعالى:(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ)[آل عمران: 107] أي: في الجنة، وإليه أشار بقوله:"فبادروا" إلى آخره، وإما وعيداً على التقصير في ذلك، وتحذيراً عن التفريط فيه، فكنى بسرعة الحساب عن القدرة الكاملة؛ لأن من حاسب الأولين والآخرين في مقدار الفواق كان كامل القدرة باهر السلطان، فيقدر على الانتقام منهم إن قصروا فيه، وإليه أشار بقوله:"ليدل على كمال قدرته ووجوب الحذر منه".

قوله: (فواق ناقة)، النهاية: هو: قدر ما بين الحلبتين من الوقت، تضم فاؤه وتفتح، ومنه الحديث:"عيادة المريض قدر فواق ناقة"، وهذا تمثيل في السرعة لا تعيين المقدار، وكقوله تعالى:(كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82].

ص: 311

الأيام المعدودات. أيام التشريق، وذكر اللَّه فيها: التكبير في أدبار الصلوات وعند الجمار. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان يكبر في فسطاطه بمنى، فيكبر من حوله حتى يكبر الناس في الطريق وفي الطواف. (فَمَنْ تَعَجَّلَ): فمن عجل في النفر أو استعجل النفر. وتعجل واستعجل: يجيئان مطاوعين، بمعنى عجل، يقال: تعجل في الأمر واستعجل؛ ومتعديين، يقال: تعجل الذهاب واستعجله، والمطاوعة أوفق؛ لقوله:(وَمَنْ تَأَخَّرَ)، كما هي كذلك في قوله:

قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّى بَعْضَ حَاجَتِهِ

وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعجِلِ الزَّلَلُ

لأجل المتأني. (فِي يَوْمَيْنِ): بعد يوم النحر يوم القرّ، وهو اليوم الذي يسميه أهل مكة يوم الرؤوس، واليوم بعده ينفر إذا فرغ من رمي الجمار كما يفعل الناس اليوم، وهو مذهب الشافعي ويروى عن قتادة.

وعند أبي حنيفة وأصحابه: ينفر قبل طلوع الفجر، (وَمَنْ تَأَخَّرَ) حتى رمى في اليوم الثالث، والرمي في اليوم الثالث يجوز تقديمه على الزوال عند أبي حنيفة، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمطاوعة أوفق) أي: لنظم الآية، فإن "تأخر" لازم، فيجعل "تعجل" كذلك، كما أن المطاوعة في البيت أوفق للتناسب لأجل المتأني، يعني: قابل المستعجل بالمتأني، فكما أن المتأني لازم فكذا المستعجل.

قوله: ((فِي يَوْمَيْنِ))، قال المصنف: معناه: في آخر يومين، إلا أنه أورد مجملاً، كقوله تعالى:(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) وهو في بعض الأشهر لا في كلها.

قوله: (يوم القر)، النهاية: يوم القر هو الغد من يوم النحر؛ لأن الناس يقرون فيه، أي يسكنون ويقيمون.

ص: 312

وعند الشافعي لا يجوز. فإن قلت: كيف قال: (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) عند التعجل والتأخر جميعاً؟ قلت: دلالة على أنّ التعجل والتأخر مخير فيهما، كأنه قيل: فتعجلوا أو تأخروا.

فإن قلت: أليس التأخر بأفضل؟ قلت: بلى، ويجوز أن يقع التخيير بين الفاضل والأفضل، كما خير المسافر بين الصوم والإفطار، وإن كان الصوم أفضل. وقيل: إنّ أهل الجاهلية كانوا فريقين؛ منهم من جعل المتعجل آثما، ومنهم من جعل المتأخر آثما، فورد القرآن بنفي المآثم عنهما جميعاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز أن يقع التخيير بين الفاضل)، الانتصاف: التخيير بين الفاضل والمفضول يوجب التساوي وينافي طلب أحد الطرفين، وكيف يستقيم اجتماع ما طلب ورجح وجوده وما ليس كذلك؟ إنما الزمخشري أخل في التفسير فلزمه السؤال وهو غير لازم، فإن نفي الحرج عن الأمرين لا يلزم منه التخيير، وغايته: إشراكهما في رفع الحرج، لكن أحدهما مطلوب دون الآخر فلا يحتاج إلى الجواب، لاندفاع السؤال.

وقلت: ما نظر صاحب "الانتصاف" إلى المقام، فإن نفي الحرج إنما لا يوجب التخيير ابتداء، نظراً إلى اللفظ، وأما إذا كان مسبوقاً بخلاف فلا، ألا ترى كيف عطف على سبيل البيان قوله:"وقيل: إن أهل الجاهلية كانوا فريقين" على قوله: "دلالة على أن التعجل والتأخر مخير فيهما"! ومما يواخي هذا المقام ما رويناه عن الشيخين وغيرهما، عن عروة: سألت عائشة: أرأيت قول الله تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)[البقرة: 158]، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه الآية لو كانت على ما أولتها كانت: لا جناح

ص: 313

(لِمَنِ اتَّقى) أي: ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي؛ لئلا يتخالج في قلبه شيء منهما فيحسب أنّ أحدهما يرهق صاحبه آثام في الإقدام عليه، لأنّ ذا التقوى حذر متحرّز من كل ما يريبه، ولأنه هو الحاج على الحقيقة عند اللَّه، ثم قال:(وَاتَّقُوا اللَّهَ) ليعبأ بكم، ويجوز أن يراد: ذلك الذي مرّ ذكره من أحكام الحج وغيره (لمن اتقى)؛ لأنه هو المنتفع به دون من سواه، كقوله:(ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، وكانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، وكان من أهل لها تحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك التحرج فأنزل الله تعالى:(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ .. ) الآية. قالت عائشة رضي الله عنها: "وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما".

وقلت: كلاهما مصيبان؛ لأن عروة فهم من الآية معنى الإباحة ابتداء، والصديقة رضي الله عنها بينت الاختلاف والسبب، كذلك ها هنا، أما قوله:"كيف يستقيم اجتماع ما طلب ورجح وجوده وما ليس كذلك؟ " فجوابه: أنه كيف لا يستقيم اجتماع ما طلب ورجح وجوده وما ليس كذلك في نفي الحرج، والكلام في ذلك؟ !

قوله: (أي: ذلك التخيير)، يعني قوله:(لِمَنْ اتَّقَى): خبر مبتدأ محذوف، وهو اسم الإشارة، والمشار إليه ما سبق، واللام: متعلق بمحذوف وهو: إما بمعنى الاختصاص نحو قولك: "المال لزيد" ومن ثم قال: "دون من سواه"، واستشهد بقوله تعالى:(ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ)[الروم: 38]، أو للتعليل نحو قولك: خروجه لمخالفة الشر وضربه للتأديب، ولذلك اعتبر وصف التقوى في التعليل حيث قال:"لأجل الحاج المتقي".

قوله: (يرهق صاحبه)، الجوهري: رهقه بالكسر، يرهقه رهقاً، أي: غشيه، يقال: أرهقني

ص: 314

[(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ)].

(مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) أي: يروقك ويعظم في قلبك. ومنه: الشيء العجيب الذي يعظم في النفس. وهو الأخنس بن شريق كان رجلاً حلو المنطق، إذا لقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ألان له القول، وادعى أنه يحبه، وأنه مسلم، وقال: يعلم اللَّه أني صادق. وقيل: هو عامّ في المنافقين، كانت تحلولى ألسنتهم، وقلوبهم أمرّ من الصبر. فإن قلت: بم يتعلق قوله: ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فلان إثماً حتى رهقته، أي: حملني إثماً حتى حملته له.

قوله: ((يُعْجِبُكَ) أي: يروقك)، الراغب: التعجب: حيرة تعترض الإنسان عند جهل سبب الشيء، وليس هو بشيء في ذاته بل هو بحسب الإضافة إلى من يعرف السبب وإلى من لا يعرفه، ولهذا قال قوم: كل شيء عجب، وقال قوم: لا شيء عجب، وحقيقة: أعجبني كذا: ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه.

قوله: (تحلولى ألسنتهم)، الجوهري: يقال: حلا الشيء يحلو حلاوة، واحلولى: مثله، وقد عداه حميد بن ثور بقوله:

فلما أتى عامان بعد انفصاله

عن الضرع، واحلولى دماثاً يرودها

ولم يجيء افعوعل متعدياً إلا هذا، واعرورى الفرس. الدمث: الأرض اللينة، ورياد الإبل: اختلافها في المرعى.

ص: 315

(فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)؟ قلت: بالقول، أي: يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا؛ لأنّ ادّعاءه المحبة بالباطل يطلب به حظاً من حظوظ الدنيا ولا يريد به الآخرة، كما تراد بالإيمان الحقيقي والمحبة الصادقة للرسول، فكلامه إذن في الدنيا لا في الآخرة، ويجوز أن يتعلق بـ (يعجبك)، أي: قوله حلو فصيح في الدنيا فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة؛ لما يرهقه في الموقف من الحبسة واللكنة، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه. (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) أي: يحلف ويقول: اللَّه شاهد على ما في قلبي من محبتك ومن الإسلام. وقرئ: (ويشهد اللَّه). وفي مصحف أبىّ: (ويستشهد اللَّه). (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ):

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه)، من باب قوله:

على لاحب لا يهتدى بمناره

قوله: ((أَلَدُّ الْخِصَامِ): وهو شديد الجدال)، قال الزجاج: اشتقاق ألد من لديدي العنق، وهما: صفحتاه، أي: أن خصمه في أي وجه أخذ من يمين وشمال غلبه في ذلك، وقد لددته أنا ألده: إذا جادلته فغلبته.

السجاوندي: ألد: أشد من اللدود ومعوج الخصومة، من لديدي الوادي، وأصل الخصام: التعمق، والخصوم: زوايا الأوعية، وهو مصدر، قال أبو علي: وهو جمع، إذ لا يكون الشخص بعض الحدث، وأفعل لا يضاف إلا إلى بعضه، ووجه تصحيحه تقديراً: ألد في الخصومة، ولهذا شبهته بقوله:"ثبت الغدر".

الجوهري: فلان ثبت الغدر: إذا كان لا يزل لسانه عند الخصومات.

ص: 316

وهو شديد الجدال والعداوة للمسلمين. وقيل: كان بينه وبين ثقيف خصومة، فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم، وأحرق زروعهم. والخصام: المخاصمة. وإضافة الألدّ بمعنى "في"، كقولهم: ثبت الغدر، أو جعل الخصام ألدّ على المبالغة. وقيل الخصام: جمع خصم، كصعب وصعاب بمعنى: وهو أشد الخصوم خصومة. (وَإِذا تَوَلَّى) وإذا تولى عنك وذهب بعد إلانة القول، وإحلاء المنطق (سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها)، كما فعل بثقيف. وقيل:(وَإِذا تَوَلَّى): وإذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الميداني: يقال: رجل ثبت، أي: ثابت، والغدر: اللخاقيق في الأرض مثل جحرة اليرابيع وأشباهها، ومعناه: ثبت في الغدر، أي: ثابت في قتال وكلام لا يزل في موضع الزلل.

قوله: (وهو شديد الجدال والعداوة للمسلمين)، جعل الخصام مشتركاً وحمله على المعنيين: الجدال والعداوة، وفرع عليه قوله:"وقيل: كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم"، ويجوز أن يكون "والعداوة": عطفاً على الجدال على سبيل البيان.

قوله: (أو جعل الخصام ألد، على المبالغة) كقولك: جد جده، فالإضافة لفظية.

قوله: (وقيل: الخصام: جمع خصم). قال الزجاج: لأن فعلاً يجمع إذا كان صفة على فعال، نحو صعب وصعاب، وكذلك إن جعلت خصماً صفة يجمع على أقل العدد، وأكثره على فعال وفعول، يقال: خصم وخصام وخصوم.

قوله: (كما فعل بتثقيف) أي: الأخنس بن شريق.

قوله: (فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض)، إنما قيده بولاة السوء، لأن ولاة الصدق بخلاف ذلك.

ص: 317

بإهلاك الحرث والنسل. وقيل: يظهر الظلم حتى يمنع اللَّه بشؤم ظلمه القطر؛ فيهلك الحرث والنسل. وقرئ: (ويهلك الحرث والنسل) على أن الفعل لـ"الحرث والنسل"، والرفع للعطف على (سعى). وقرأ الحسن بفتح اللام، وهي لغةٌ، نحو: أبى يأبى. وروي عنه: (ويهلك)، على البناء للمفعول. (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) من قولك: أخذته بكذا؛ إذا حملته عليه وألزمته إياه أي: حملته العزة التي فيه، وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه، وألزمته ارتكابه، وأن لا يخلي عنه ضراراً ولجاجاً؛ أو على ردّ قول الواعظ.

[(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) 207].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: الإفساد في الحقيقة: إخراج الشيء من حالة محمودة لا لغرض صحيح، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى، ولا بخلاف هو آمر به ولا لحب له، وما تراه من فعله إفساداً، فهو بالإضافة إلينا وباعتبارنا، وأما بالنظر الإلهي فكله إصلاح، ولهذا قيل: يا من إفساده إصلاح، أي: ما نعده إفساداً، فهو لقصور نظرنا، والمقصد من الإنسان سوقه إلى كماله الذي رشح له، فإذن إهلاك ما أمر بإهلاكه فلإصلاح الإنسان، وأما إماتته فأحد أسباب حياته الأبدية.

قوله: (أي: حملته العزة التي فيه) أراد أنه استعارة تبعية واقعة على التمثيل، استعير الأخذ للحمل بعد أن شبه حالة إغراء حمية الجاهلية وحملها إياه على الإثم بحالة شخص له حق على غريمه فيأخذه به ويلزمه على أداء حقه ويلزه، والإثم إما أن يراد به حقيقته، وإليه الإشارة بقوله:"على الإثم الذي ينهى عنه"، وإما ترك الاتعاظ فيها أمر بقوله:(اتَّقِ اللَّهَ).

ص: 318

(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ): يبيعها، أي: يبذلها في الجهاد. وقيل: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يَشْرِي نَفْسَهُ): يبيعها، أي: يبذلها في الجهاد)، الراغب: يشري: يبيع ويشتري، والناس على أضرب: ضرب باع نفسه من الشيطان بالشهوات فصار غلقاً في يده لا سبيل إلى الانفكاك منه، وهم المعنيون بقوله:(فَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمْ الْيَوْمَ)[النحل: 63] وقوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)[الجاثية: 23]، وضرب وقع أسر الشيطان عليه فاجتهد في تخليص نفسه منه، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم:"الناس غاديان: فبائع نفسه فموبقها، ومبتاع نفسه فمعتقها"، وضرب لم يقع عليه أسر الشيطان، وقد باع نفسه من الله عز وجل، وهو المعني بقوله:(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ) الآية، فقوله:(يَشْرِي نَفْسَهُ) يتناول الضربين: المخلص نفسه من أسر الشيطان، ومن باع نفسه من الله عز وجل، فإذن يشري نفسه للأمرين، والشرى والبيع في مثل هذا الموضع كالرمز والإشارة، وحقيقتهما وقف الإنسان نفسه على مرضاة الله تعالى والتحري في مصالح عباده.

وقلت: لما حمل اللفظ المشترك على كلا مفهوميه المخالف، وذلك لا يستتب إلا بجعل الشرى مجازاً عن أمر يجمع المعنيين، قال:"وحقيقتهما وقف الإنسان نفسه على مرضاة الله تعالى" إلى آخره، ومقتضى النظم حمل الشرى على تخليص النفس من أسر الهوى والشيطان؛ لأن قوله:(وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) قسيم لقوله: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إلى قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ)، وهو الأسير بيد الهوى، وقرين

ص: 319

وقيل: نزلت في صهيب بن سنان؛ أراده المشركون على ترك الإسلام، وقتلوا نفرا كانوا معه فقال لهم: أنا شيخ كبير إن كنت معكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضرّكم، فخلوني وما أنا عليه، وخذوا مالى. فقبلوا منه ماله، وأتى المدينة. (وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) حيث كلفهم الجهاد فعرضهم لثواب الشهداء.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)].

(السلم) بكسر السين وفتحها، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام؛ وهو الاستسلام والطاعة، أي: استسلموا للَّه وأطيعوه .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)، وفيه إيماء إلى التخليص من أسر الشيطان لقوله:(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)، فالمناسب أن يحمل الشرى على الاشتراء، والله أعلم.

قوله: (وقيل: نزلت في صهيب)، عطف على "يبيعها"، ويشري على هذا بمعنى يشتري، وقوله:(فعرضهم) من التعريض للأمر، أي: النصب له، وهذا المعنى مناسب للوجه الأول، وهو أن يكون الشرى بمعنى البيع.

قوله: (السِّلْمِ) بكسر السين)، نافع وابن كثير والكسائي بفتحها، والباقون بكسرها.

الراغب: عنى بالسلم: سلم العبد لله عز وجل؛ لأن الإنسان في كفره وكفران نعمة الله كالمحارب له، وهو على ثلاثة أضرب: ضرب يتقدم الإيمان، وهو الإسلام الذي به سلم أن يراق دمه ويسلب ماله، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم"، واثنان بعد الإيمان، أحدهما: أن يسلم من

ص: 320

(كَافَّةً) لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته. وقيل: هو الإسلام. والخطاب لأهل الكتاب؛ لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم، أو للمنافقين؛ لأنهم آمنوا بألسنتهم، ويجوز أن يكون (كافة) حالاً من (السلم)؛ لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، قال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سخطه بارتسام أوامره وزواجره طوعاً أو كرهاً. والثاني: أن يكون سلماً من الشيطان وأوليائه وسلماً فيما يجري عليه من قضائه، وبه تحصل دار السلام المذكورة في قوله:(وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ)[يونس: 25]، وهذا غاية ما ينتهي إليه العبد من المنازل الثلاث وإن كانت لكل منزلة منها درجات، وهذا السلم المعني بقوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، وإلى هذا المعنى أشار يوسف عليه السلام بقوله:(تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[يوسف: 101] وبه رمز المصنف بقوله: "أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها".

قوله: (وقيل: هو الإسلام)، الجوهري:(ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) يذهب بمعناها إلى الإسلام، وأسلم: إذا دخل في السلم، وهو الاستسلام.

وقلت: هذا يشعر بأن السلم إذا كان بمعنى الإسلام كان مجازاً.

وقال الزجاج: (كَافَّةً) بمعنى الجميع: الإحاطة، فيجوز: ادخلوا جميعاً أو ادخلوا في السلم كله، أي: جميع شرائعه، والسلم بالكسر والفتح معناهما: الإسلام والصلح، ومعنى (كَافَّةً) في اشتقاق اللغة: ما يكف الشيء إلى آخره ومن ذلك كفة القميص لحاشيته، وكفة الميزان؛ لأنها تمنعه أن ينتشر، وأصل الكف: المنع، ولهذا قيل للراحة: الكف؛ لأنها تكف سائر البدن.

قوله: (ويجوز أن يكون (كَافَّةً) حالاً من (السِّلْمِ): عطف على قوله: "لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته" هذا العطف مؤذن بأن السلم إذا أريد به الاستسلام يجوز أن

ص: 321

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تكون (كَافَّةً) حالاً من الواو في (ادْخُلُوا) أي: جماعة كافة، وأن تكون حالاً من السلم، أي: ادخلوا في الطاعات كلها، وعلى هذا المخاطبون هم المؤمنون، وإذا أريد به الإسلام فهي حال من الضمير، والمخاطبون: إما أهل الكتاب أو المنافقون، ويمكن أن تستنبط وجوه غير ما ذكر بحسب هذه الاعتبارات.

وكون الكفار مخاطبين بالفروع أيضاً، فنقول- والله أعلم بمراده من كلامه-: الخطاب في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لا يخلو: إما أن يكون مع المؤمنين أو أهل الكتاب أو المنافقين، فهذه احتمالات ثلاثة، أما حمله على المؤمنين فظاهر، وحمله على أهل الكتاب لأنهم آمنوا بنبيهم وكتابهم، وعلى المنافقين لأنهم آمنوا بألسنتهم كما أشار إليه المصنف، ثم السلم إما أن يفسر بالاستسلام أو الإسلام، وكافة: إما أن يجعل حالاً من الضمير في (ادْخُلُوا) أو من السلم نفسها فهذه وجوه أربعة، فيرتفع من ضرب الثلاثة في الأربعة اثنا عشر وجهاً.

أما الاحتمال الأول ففيه وجوه أربعة:

أحدها: أن يراد بالسلم: الاستسلام، "وكافة": حال من الضمير، فالمعنى: أيها المؤمنون، استسلموا لله وأطيعوه كافة لا يخرج أحد منكم عن طاعته، كما ذكره.

وثانيها: أن يراد بالسلم الإسلام، فالمعنى: أيها المؤمنون، اثبتوا ودوموا على ما أنتم عليه، هذا وإن لم يذكره المصنف، لكن الزجاج ذكره قال: أمر المؤمنون بأن يدخلوا في الإيمان، أي: أن يقيموا عليه ويكونوا فيما يستقبلون عليه كما قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)[النساء: 136].

وثالثها: أن تكون (كَافَّةً): حالاً من السلم، والسلم بمعنى الطاعة، فالمعنى ما أومى إليه بقوله:"إن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة".

ورابعها: السلم بمعنى الإسلام، والمعنى ما ذكره: "أمروا بأن يدخلوا في شعب الإسلام

ص: 322

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كلها وأن لا يخلوا بشيء منها"، والشعب هي التي وردت في كلام سيدنا صلوات الله عليه وسلامه على ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، عن أنس: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان"، وزاد في رواية: "أفضلها قول لا إله غلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". وأما الاحتمال الثاني ففيه الوجوه:

أحدها: السلم بمعنى الاستسلام، وكافة: حال من الضمير، المعنى: يا أهل الكتاب ادخلوا كلكم في طاعة الله وطاعة رسوله والمؤمنين مما التزمتموها صغاراً وذلة، قال تعالى:(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).

وثانيها: السلم بمعنى الإسلام، فالمعنى: يا أهل الكتاب ادخلوا في دين الإسلام كلكم لا يبقى أحد منكم خارجاً منه، هذا الذي يدل عليه سياق كلام المصنف، أو: ادخلوا في الإسلام بكليتكم بحيث لا يبقى لكم ميل إلى اليهودية، ولا يبعد أن يحمل قول المصنف:"إن عبد الله ابن سلام استأذن أن يقيم على السبت وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل" على هذا.

وثالثها: السلم بمعنى الطاعة، و (كَافَّةً): حال منها، فالمعنى: يا أيها الذين آمنتم بكتاب واحد وبشريعة واحدة، ادخلوا في طاعة الله كلها وآمنوا بجميع الشرائع وصدقوا جميع الرسل والكتب.

ورابعها: ادخلوا في شعب الإيمان كلها على ما سبق.

وأما الاحتمال الثالث ففيه الوجوه أيضاً:

أحدها: أيها المنافقون، ادخلوا كلكم في الطاعة الحقيقية، وعليه قوله تعالى:(طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ)[النور: 53] على إرادة: الذي يطلب منكم طاعة معروفة عند المؤمنين.

وثانيها: أيها المنافقون، ادخلوا كلكم في الإسلام، لا يخرج أحد منكم عنه، روي أن ناساً

ص: 323

السِّلْمُ تَأخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ

وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ

على أنّ المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها، وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة. أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها، وأن لا يُخلوا بشيء منها. وعن عبد اللَّه بن سلام أنه استأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت، وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل. و (كافة) من الكف؛ كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منهم أسلموا وحسن إسلامهم، وعليه ظاهر كلام المصنف، يدل عليه قوله تعالى:(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ)[النساء: 145] إلى قوله: (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا)[النساء: 146].

ثالثها: ادخلوا في طاعة الله جميعاً، يعني: تظهرون الصلاة والصيام ونحوهما ثم إذا دعيتم إلى الغزو واستنفرتم اثاقلتم، كما قال تعالى:(مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ)[التوبة: 38].

ورابعها: يا أيها الذين آمنتم بألسنتكم، آمنوا بقلوبكم؛ لأن كمال الإيمان: مواطأة القلب اللسان، وإقامة شعبه كلها، ويمكن أن يجعل الخطاب عاماً وإن كان فيه بعد، والله أعلم.

قوله: (السلم تأخذ منها) البيت، الجرعة من الماء: حسوة منه، يقول: الصلح له مجال واسع ومنافع ما ترضى ببعض منها، والحرب لها مضار لا تقاسى وقليل منها يهلك، يحرضه على الصلح ويثبطه عن الحرب.

قوله: (باجتماعهم) أي: بسبب اجتماعهم، أي: اجتماعهم يمنعهم من أن يخرج منهم أحد. قال القاضي: (كَافَّةً): اسم للجملة؛ لأنها تكف الأجزاء من التفرق. وحقيقتها ما سبق من قول الزجاج.

ص: 324

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) عن الدخول في السلم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) أي: الحجج والشواهد على أنّ ما دعيتم إلى الدخول فيه هو الحق فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يعجزه الانتقام منكم، (حَكِيمٌ) لا ينتقم إلا بحق. وروي: أنّ قارئاً قرأ غفور رحيم، فسمعه أعرابى فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال: إن كان هذا كلام اللَّه فلا يقول كذا الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه. وقرأ أبو السمال (زللتم) بكسر اللام، وهما لغتان، نحو: ظللت وظللت.

[(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)].

إتيان اللَّه إتيان أمره وبأسه كقوله: (أَوْ يَاتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)[الأنعام: 158] .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ): عن الدخول في السلم)، قال الزجاج: يقال: زل يزل زلاً وزللاً ومزلة، وزل في الطين زليلاً، أي: تنحيتم عن القصد والشرائع.

قوله: (فلا يقول كذا الحكيم)، أوقع طفلا يقول" جزاء للشرط على تأويل الإخبار، يعني: إن فرض وقدر أن هذا الذي قرأه القارئ كلام الله فأنا أرده وأخبركم بأن لا يقول كذا الحكيم، يعني: من كانت أقواله وأفعاله محكمة متقنة لا يقع فيهما خلل ولا زيغ، فحمله الناس على المعاصي بعيد؛ لأنه زيغ وإضلال، فقوله: "لا يذكر الغفران": استئناف على سبيل التعليل. ونحوه ما حكي عن الأصمعي أنه قال: كنت أقرأ "(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ)[المائدة: 38] والله غفور رحيم"، وبجنبي أعرابي فقال: كلام من هذا؟ قلت: كلام الله، قال: أعد، فأعدت، قال: ليس هذا كلام الله، فانتبهت، فقرأت:(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فقال: أصبت، هذا كلام الله، فقلت: أتقرأ القرآن؟ قال: لا، قلت: من أي شيء علمت؟ قال: يا هذا، عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع.

ص: 325

(جاءَهُمْ بأسُنا)[الأنعام: 43]، ويجوز أن يكون المأتي به محذوفاً، بمعنى أن يأتيهم اللَّه ببأسه أو بنقمته؛ للدلالة عليه بقوله:(فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ). (فِي ظُلَلٍ): جمع ظلة؛ وهي ما أظلك. وقرئ (ظلال) وهي جمع ظلةٍ، كقلة وقلال، أو جمع ظل. وقرئ:(وَالْمَلائِكَةُ) بالرفع كقوله: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَاتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ)[الأنعام: 158]، وبالجر عطفاً على (ظللٍ)، أو على (الغمام). فإن قلت: لِمَ يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت: لأنّ الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول؛ لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير؟ .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (للدلالة عليه بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ)) أي: دل على هذا المقدر في الوجهين قوله تعالى في الفاصلة السابقة: (أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ)؛ لأن صفة قهر وغلبة أوقع العلم عليها، ففي لفظ "الكشاف" تساهل حيث قال:"فإن الله"، والصواب:(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ)[البقرة: 209]، المعنى: إن تنحيتم عن القصد وامتنعتم عن الدخول في الإسلام بعد مجيء الدلائل الدالة على حقيقته فاعلموا أن الله عزيز غالب لا يعجزه الانتقام منكم كما قال، ثم استبطأ إسلامهم ونعى عليهم التثبط، وقال: ما ينتظرون إلا مجيء بأسه ونقمته، وحينئذ لا ينفعهم الإسلام، قال تعالى:(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا)[غافر: 85].

قوله: (وقرئ: (وَالْمَلائِكَةِ) بالرفع) كلهم بالرفع، والجر شاذ. قال الزجاج: ومن قرأ بالخفض فالمعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وظلل من الملائكة، والرفع هو المختار. وقال القاضي: إنما إتيان الملائكة فإنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ببأسه.

ص: 326

ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع؛ لمجيئها من حيث يتوقع الغيث، ومن ثم اشتد على المتفكرين في كتاب اللَّه قوله تعالى:(وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر: 47]. (وَقُضِيَ الْأَمْرُ): وأتم أمر إهلاكهم وتدميرهم وفرغ منه.

وقرأ معاذ بن جبل رضى اللَّه عنه: (وقضاء الأمر) على المصدر المرفوع عطفاً على (الملائكة) وقرئ: (ترجِع) و (ترجَع) على البناء للفاعل والمفعول بالتأنيث والتذكير فيهما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: على هذا ذكر الله تمهيد لذكر الملائكة كما في قوله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)[البقرة: 9] في وجه، والمعنى على العطف على ظلل: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ببأسه في الملائكة؟

قوله: (ومن ثم اشتد على المتفكرين) أي: من جهة أن الشر يجيء من حيث يحتسب الخير، اشتد على الذين يتفكرون في كتاب الله، يعني قوله تعالى:(وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)[الزمر: 47]. قال في تفسيره: "عملوا أعمالاً حسبوها حسنات، فإذا هي سيئات"، فقوله:"قوله: (وَبَدَا لَهُمْ) ": فاعل اشتد، يعني: لما علموا ذلك المعنى أي: الاستدراج، ونزلوا عليه هذه الآية، صعب عليهم الأمر وكاد أن يقضي عليهم فزعاً وخيفة. وروي أن محمد بن واسع قرأ هذه الآية فقال: آه آه! إلى أن فارق الدنيا. والله أعلم بصحته.

قوله: (وقرئ: "ترجع"

على البناء للفاعل): حمزة والكسائي وابن عامر، والباقون: على

ص: 327

[(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)].

(سَلْ) أمر للرسول، أو لكل أحد وهذا السؤال سؤال تقريع كما يسأل الكفرة يوم القيامة. (كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) على أيدى أنبيائهم؛ وهي معجزاتهم، أو من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام. و (نِعْمَةَ اللَّهِ) آياته، وهي أجل نعمةٍ من اللَّه؛ لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة. وتبديلهم إياها: أن اللَّه أظهرها؛ لتكون أسباب هداهم، فجعلوها أسباب ضلالتهم، كقوله:(فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ)[التوبة: 125]؛ أو حرفوا آيات الكتب ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البناء للمفعول، وكلتا القراءتين بالتأنيث، والتذكير شاذ، قال القاضي: بناء الفاعل من الرجوع، والمفعول من الرجع. الراغب:(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) أي: ما قد ملكه عباده في الدنيا من الملك، والملك والتصرف مسترد منهم يوم القيامة وراجع إليه، ويقال: رجع الأمر إلى الأمير، أي: استرد ما كان فوضه إلى الغير.

قوله: (و (نِعْمَةَ اللَّهِ): آياته وهي أجل نعمة من الله) يريد أن ذكر نعمة الله هاهنا من وضع المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق، للإشعار بتعظيم الآيات وتعليل قبح فعلهم بكفران تلك النعمة العظمى، وهو تبديلهم إياها.

قوله: (أو حرفوا آيات الكتب) عطف على قوله: "أن الله أظهرها" أو على قوله: "فجعلوها"؛

ص: 328

الدالة على دين محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: "كم" استفهامية أو خبرية؟ قلت: تحتمل الأمرين،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأن التبديل على ما قال في آخر سورة إبراهيم في التغيير، وذلك قد يكون في الذات، نحو: بدلت الدراهم دنانير، وفي الأوصاف نحو: بدلت الحلقة خاتماً، فالوجه الأول منزل على المعنى الثاني، والثاني على الأول، ثم الأول مفرع على قوله قبل هذا:" (مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) على أيدي أنبيائهم، وهي معجزاتهم"، والثاني مفرع على قوله:"من آية في الكتب شاهدة على صحة دين الإسلام"، وذلك أن (آيَةٍ) في قوله تعالى:(كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) يحتمل أن تجري على المعجزات وأن يراد آيات الكتب المنزلة، فاعتبرهما المصنف في بيانه، وكذلك يختلف معنى التبديل باختلاف المعنيين في الآية.

قوله: (تحتمل الأمرين) أي: يجوز أن تكون خبرية وأن تكون استفهامية، قال القاضي: محلها النصب على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر، و (آيَةٍ): مميزها، و (مِنْ): للفصل.

قال أبو البقاء: والأحسن إذا فصل بين "كم" وبين مميزها أن يؤتى بـ "من"، وقال مكي: كم في موضع المفعول الثاني لآتيناهم، وإن شئت جعلتها في موضع رفع على إضمار العائد، أي: كم آيتناهموه، وفيه ضعف لحذف الضمير، وعن بعضهم أن محل:(كَمْ آتَيْنَاهُمْ): نصب على المصدر، أي: سل بني إسرائيل هذا السؤال، ومثله قول صدر الأفاضل في قول الحريري:"سألناه: أنى اهتديت إلينا"، أي: سألناه هذا السؤال.

ص: 329

ومعنى الاستفهام فيها للتقرير. فإن قلت: ما معنى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ)؟ قلت: معناه: من بعد ما تمكن من معرفتها أو عرفها، كقوله:(ثُمَّ يُحَرِفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ)[البقرة: 75]؛ لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها فكأنها غائبة عنه. وقرئ: (وَمَنْ يُبَدِّلْ) بالتخفيف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ما معنى (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ)؟ ) يعني: لا يصح تبديل الآيات إلا بعد مجيئها، فلم صرح به؟ وما فائدة تصريحه؟ والجواب: ربما يوجد التبديل عن غير خبرة بالمبدل أو عن جهل به فيعذر فاعله، وهؤلاء على خلاف ذلك، والفائدة: مزيد التقريع والتشنيع، وإثبات المجيء للآيات من الاستعارة، ويحتمل أنواعاً منها، قال القاضي: وفيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها، ولذلك قيل: تقديره: فبدلوها ومن يبدل.

وقلت: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ) الآية، واردة على سبيل التذييل، وهي مع ذلك مشتملة على التتميم مقررة لقوله:(كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) لتضمن الاستفهام في (كَمْ) معنى التقريع والتوبيخ، وفيها مبالغات شتى:

إحداها: العموم في (مِنْ) ليدخل هؤلاء الذين بدلوا فيه دخولاً أولياً.

وثانيتها: إقامة المظهر موضع المضمر كما سبق.

وثالثتها: إضافتها إلى اسم الله تعالى.

ورابعتها: التتميم في قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ).

وخامستها: نسبة المجيء إلى الآيات على سبيل الاستعارة.

وسادستها: إيقاع (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) جزاء للشرط على تأويل الإخبار، يعني: تبديل الناس نعمة الله سبب لإخبار الله بكونه شديد العقاب، وهذا لا يصار إليه إلا عند فظاعة الشأن.

ص: 330

[(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)].

المزين هو الشيطان؛ زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم فلا يريدون غيرها. ويجوز أن يكون اللَّه قد زينها لهم؛ بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها، أو جعل إمهال المزين له تزيينا وتدل عليه قراءة من قرأ:(زين الذين كفروا الحياة الدنيا) على البناء للفاعل. (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) كانت الكفرة يسخرون من المؤمنين الذين لا حظ لهم من الدنيا، كابن مسعودٍ وعمارٍ وصهيب وغيرهم، أي: لا يريدون غيرها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وسابعتها: إقامة المظهر موضع المضمر في الجزاء.

وثامنتها: تصدره بأداة التأكيد.

وتاسعتها: إضافة الشديد إلى العقاب.

وعاشرتها: التعميم في الجزاء.

قوله: (ويجوز أن يكون الله قد زينها لهم؛ بأن خذلهم)، فهو من إطلاق المسبب على السبب، أو جعل إمهال المزين تزييناً، فالإسناد على هذا مجاز، نحو: بنى الأمير المدينة، وهزم الأمير الجند، وقال القاضي: والمزين على الحقيقة هو الله تعالى، إذ ما من شيء إلا هو فاعله، ويدل عليه قراءة "زين" على البناء للفاعل، وكل من الشيطان والقوة الحيوانية وما خلق الله فيها من الأمور البهية والأشياء الشهية، مزين بالعرض.

الراغب: التزيين المدرك بالحس دون المدرك بالعقل، ولهذا جاء في أوصاف الدنيا دون أوصاف الآخرة نحو:(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ) الآية [آل عمران: 14].

قوله: (أي: لا يريدون غيرها) تفسير لقوله: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) وكناية إيمائية،

ص: 331

وهم يسخرون ممن لا حظ له فيها، أو ممن يطلب غيرها. {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة} ؛ لأنهم في عليين من السماء، وهم في سجين من الأرض؛ أو حالهم عالية لحالهم؛ لأنهم في كرامة، وهم في هوان، أو هم عالون عليهم، متطاولون يضحكون منهم كما يتطاول هؤلاء عليهم في الدنيا ويرون الفضل لهم عليهم، {فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون}. {والله يرزق من يشاء بغير حساب}: بغير تقدير، يعني: أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه، كما وسع على قارون وغيره، فهذه التوسعة عليكم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والذي يصحح هذا التفسير إيقاع قوله: (وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا) حالاً من "الذين كفروا"، وذلك أنهم إن أرادوا شيئاً من غير الحياة الدنيوية لم يصح تسخرهم بمن لا يريد إلا الحياة الأخروية، والذي يدل على أن قوله:(وَيَسْخَرُونَ): حال تقدير لفظة "هم" في قوله: "وهم يسخرون" ليستقيم وقوع المضارع مع الواو حالاً، ويحتمل العطف على (زُيِّنَ) فيفيد معنى الاستمرار، وقال صاحب "الكشف": تم الكلام عند قوله: (وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا) ثم ابتدأ فقال: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا): مبتدأ، و (فَوْقَهُمْ): الخبر، أي: فوقهم في الحجة والقهر والغلبة. انتهى كلامه. ثم المؤمنون على قسمين: المعرض عن الدنيا بكليته كالزهاد، وهو المشار إليه بقوله:"ممن لا حظ له فيها" والطالب معها الآخرة كالمقتصد، وهو المراد بقوله:"ممن يطلب غيرها".

قوله: ((وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ)) قال القاضي: قال: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) بعد قوله: (مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا) ليدل على أن استعلاءهم للتقوى. وهذا يشعر أن العطف في قوله: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) تفسيري، والتفرقة بين الوجوه في معنى العلو هي: أن الفوقية على الأول: مكانية، وعلى الثاني: رتبية، وعلى الثالث: استعلائية وقهرية.

قوله: (فهذه التوسعة عليكم)، "فهذه": مبتدأ، و"من جهة الله": خبره، أو:"مِن": متعلقة بالتوسعة، والخبر قوله:"لما فيها"، والأولى أحسن طباقاً للتنزيل.

ص: 332

من جهة اللَّه؛ لما فيها من الحكمة، وهي استدراجكم بالنعمة، ولو كانت كرامةً لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم. فإن قلت: لم قال: (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ثم قال: (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا)؟ قلت: ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن المتقي؛ وليكون بعثاً للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: كفاء ما يستحق بلا إفراط ولا تفريط، وأعطاه بلا حساب إذا أعطاه أكثر مما يستحق أو أقل، والأول هو المقصود هاهنا، وقيل: يعطي أولياءه بلا تبعة ولا حساب عليهم فيما يعطون، وذلك أن المؤمن لا يأخذ من عرض الدنيا إلا من حيث يجب وفي وقت ما يجب، وعلى الوجه الذي يجب، ولا ينفقه إلا على ذلك، فهو يحاسب نفسه فلا يحاسب، ولهذا ما روي أن "من حاسب نفسه في الدنيا أمن الحساب في القيامة".

قوله: (ليريك أنه لا يسعد). خلاصة الجوابين: أن هذا الأسلوب من باب إقامة المظهر موضع المضمر من غير لفظه السابق للعلية، وفائدة التعليل: إما تعظيم من اتصف بالتقوى، أو تفخيم هذه الصفة، والجواب الأول مبني على الأول، والثاني على الثاني، وهذه النكتة توقفك على أن تفسيره الثاني لقوله تعالى:(فَوْقَهُمْ) أولى، لأن المتقي كريم مكرم، وقال الله تعالى:(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ)[الدخان: 51]، وقال:(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 23].

قال صاحب "الانتصاف": وفي كلامه إشارة إلى مذهبه في وجوب وعيد العصاة بقوله: "لا يسعد عنده إلا المؤمن المتقي"؛ لأن فيه إشارة إلى أن المصر على الكبيرة شقي حتماً كالساخرين من الذين آمنوا، ويتوجه إليه الرد من كلامه، فإن العمل عندهم والتقوى

ص: 333

[(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

داخل في حقيقة الإيمان، ومن أخل بذلك فهو فاسق عندهم ليس بمؤمن ولا كافر، وكلامه يناقضه، فإنه قال عقيبه:"ليبعث المؤمن على التقوى".

قلت: قد علم من مضمون كلام المصنف في فاتحة السورة المخالفة بين المؤمن والمتقي، وأن المتقي أرفع منزلة من المؤمن، فإذا القصد فيه ترغيب المؤمنين في الترقي، ولئن سلمت الموافقة فالقصد في إيراد الوصف الإيذان بشرف التقوى ورفعة شأنها، ليكون بعثاً للمؤمنين على الثبات على التقوى كما وصف الله تعالى الملائكة بالإيمان في قوله:(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ)[غافر: 7]، وحملة العرش ليسوا ممن لا يؤمنون، لكن هو بعث للمؤمنين على الاتصاف بصفتهم، وتنبيه على شرف الإيمان ورفعة شأنه، لكن الذي يقتضيه النظم أن تفسر التقوى بما عرف في اللغة، وهو: التجنب والاحتراز مطلقاً، ويكون مفعوله مقدراً لدلالة الكلام عليه، فيكون المعنى: إن الكافرين إنما يسخرون من المؤمنين لأنهم أصحاب ثروة ونعمة، قصروا السعادة على جمع الدنيا والتنعم فيها، ومن زهد فيها عدوه من الأراذل وسخروا منه، كما ترى أصحاب هذا الزمان، فأخبر الله أن الذين اتقوا، أي: احترزوا من جمع الدنيا وزهدوا فيها، حالهم في الآخرة عالية كحال الأغنياء في الدنيا، روينا في "مسند أحمد بن حنبل"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "هلك المكثرون، إن المكثرين الأقلون يوم القيامة

" الحديث.

ص: 334

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) متفقين على دين الإسلام، (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ) يريد: فاختلفوا، فبعث اللَّه، وإنما حذف لدلالة قوله:(لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) عليه، وفي قراءة عبد اللَّه:(كان الناس أمّة واحدة فاختلفوا فبعث اللَّه)، والدليل عليه قوله عز وعلا (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) [يونس: 19]. وقيل: كان الناس أمة واحدة كفاراً، فبعث اللَّه النبيين فاختلفوا عليهم، والأوّل الوجه. فإن قلت: متى كان الناس أمة واحدة متفقين على الحق؟ قلت: عن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا. وقيل: هم نوح ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يريد: فاختلفوا فبعث الله)، يريد أن الفاء في (فَبَعَثَ اللَّهُ) فصيحة ليؤذن أن البعثة لم تتخلف عن الاختلاف، بل كما حصل الاختلاف لم تتوقف البعثة.

قوله: (والدليل عليه) بعد قوله: "لدلالة قوله" ليس بتكرار؛ لأن الدليل الأول قرينة لتقدير المقدر من جنس ما يدل عليه المذكور، والثاني دليل آخر منصوص عليه، وارد للتوافق بين الآيتين، وقالوا: المراد بقوله: "والدليل عليه" إثبات قراءة ابن مسعود، وهي شاذة بما تواترت فيه الرواية، وفيه إشكال.

فإن قلت: قوله: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ) يقتضي أنه لم يسبق اختلاف.

قلت: يحمل هذا على الشدة فيه، وإليه الإشارة بقوله:"جعلوا نزول الكتاب سبباً في شدة الاختلاف".

قوله: (والأول الوجه) أي: المراد بقوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) متفقين على ملة الإسلام هو الوجه القوي. وقلت، والله أعلم: لابد من تفصيل الأقوال هاهنا، روى محيي السنة، عن ابن عباس:"كان الناس على عهد إبراهيم أمة واحدة كفاراً فبعث الله النبيين"، وعن الحسن وعطاء:"كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح عليهم السلام على ملة الكفر، فبعث الله نوحاً وغيره من النبيين".

ص: 335

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الإمام: ورواه ابن عباس، وقال: واحتجوا بالآية فقوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)، وأما الخبر فهو "إن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب"، وقال: جوابه أن هذا لا يليق إلا بضده، إذ لو كان الاتفاق السابق اتفاقاً على الكفر لكانت البعثة في ذلك الوقت أولى، وحيث لم تحصل البعثة هناك علمنا أن ذلك الاتفاق كان على الحق.

وروى محيي السنة عن مجاهد: "كان آدم وحده أمة واحدة؛ لأنه أصل البشر، فلما كثر نسله اختلفوا، فبعث الله النبيين". وعن قتادة وعكرمة: "كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا فبعث الله إليهم نوحاً". وعن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: "كان الناس، حين عرضوا على آدم وأخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية، أمة واحدة مسلمين ولم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم، ثم اختلفوا بعد آدم، ونظيره في يونس: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا .. ) ".

وقال الإمام: قيل: إن المراد بالناس ها هنا أهل الكتاب لأن الآية متعلقة بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)، وهي في قول أكثر المفسرين نازلة في اليهود، أي: كان الذين آمنوا بموسى أمة واحدة على دين واحد، ثم اختلفوا بغياً وحسداً، فبعث الله النبيين الذين جاؤوا بعد موسى على بعثة محمد صلوات الله عليه، وقال: هذا القول مطابق لما

ص: 336

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قبل الآية وما بعدها، وليس فيها إشكال.

وقلت: والذي هو أقرب إلى التحقيق ما رواه أبو العالية، عن أبي بن كعب، ويوافقه قول مجاهد وقتادة وعكرمة، وقول المصنف:"والأول الوجه" يدل عليه وجهان، أحدهما: ما في يونس: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)[يونس: 19]، حيث جاء بأداة الحصر وعقب الاختلاف بالفاء، والأصل عدم التقدير، قال المصنف:"وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل وهابيل".

وثانيهما: ما روينا عن مسلم، عن عياض المجاشعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبة:"ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال، وغني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسينفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك"، الحديث.

قوله: "أحرق قريشاً"، أي: أقتلهم وأهلكهم. وأما بيان النظم: فهو أنه تعالى لما عد الفرق الأربع كما سبق في قوله: (فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا) ثم خص اليهود بالذكر في قوله:

ص: 337

ومن كان معه في السفينة (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) يريد الجنس، أو مع كل واحدٍ منهم كتابه ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)، وكان صلوات الله عليه يرجو رفع الاختلاف عند بعثته، فلما اختلفوا أشتاتاً بأن نجم قرن النفاق، واختلف اليهود في التحريف والتبديل، ودخل في خلده من ذلك الاضطراب، سلي بقوله:(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) يعني: هون على نفسك فإن مثل هذا الاختلاف غير مختص بزمانك، فإن الأمم المتقادمة من لدن آدم إلى عهدك، هذا كان دأبهم وعاداتهم مع الأنبياء، فعليك بأصحابك المهديين وقل لهم أن يتأسوا بك فيما أنت والأمم المؤمنة السالفة عليه من الصبر على البلاء والمحن كما قال تعالى:(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)[البقرة: 214] الآية، وإليه الإشارة بقوله:(ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف) إلى آخره، انظر كيف طابق هذا المعنى ما رويناه من الحديث من أوله إلى آخره، ثم الفاء التعقيبية في قوله:(فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) آذنت بأن المؤمنين أيضاً كانوا داخلين في حكم الاختلاف، لكن الله تداركهم بلطفه الشامل واستخلصهم لنفسه وترك أولئك الضلال في عنادهم، يدل عليه قوله:(وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، وإليه ينظر قوله صلوات الله عليه:"وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم؛ عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب"، والمراد بأهل الكتاب: أهل الحق منهم.

قوله: ((الْكِتَابِ)، يريد الجنس، أو مع كل واحد منهم كتابه)، قال القاضي:"الكتاب" يريد به الجنس ولا يريد به أنه أنزل مع كل واحد كتابه، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب يخصهم، وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم.

وقلت: هذا الثاني أيضاً صحيح؛ لأن قوله: (النَّبِيِّينَ) عام، فخص لتقييده بقوله:(وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ) بالمشهورين الذين أنزل معهم الكتاب، كقوله تعالى:(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)[البقرة: 228].

ص: 338

(لِيَحْكُمَ) اللَّه، أو الكتاب، أو النبىّ المنزل عليه (فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق، (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ): في الحق (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ): إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف، أي: ازدادوا في الاختلاف لما أنزل عليهم الكتاب، وجعلوا نزول الكتاب سبباً في شدّة الاختلاف واستحكامه. (بَغْياً بَيْنَهُمْ): حسداً بينهم، وظلما لحرصهم على الدنيا وقلة إنصاف منهم. و (مِنَ الْحَقِّ) بيان لما اختلفوا فيه، أي: فهدى اللَّه الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف.

[(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَاتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَاساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)].

(أَمْ) منقطعة، ومعنى الهمزة فيها للتقرير وإنكار الحسبان واستبعاده. ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف على النبيين .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الانتصاف: قال في سورة مريم: يحتمل أن يكون التعريف جنساً فيتناول العموم، والمراد الخصوص، ويحتمل أن يكون عهداً، فهو في أول وهلة: خاص.

قوله: ((لِيَحْكُمَ) الله، أو الكتاب، أو النبي)، إسناد الحكم إلى الله تعالى وإلى النبي حقيقة، وإلى الكتاب، كقوله تعالى:(وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)[آل عمران: 58]: على الاستعارة.

قوله: (ومعنى الهمزة فيها التقرير وإنكار الحسبان واستبعاده)، يعني:"المخاطبون" بقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ) أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب وجود هذا الحسبان منهم؛ لأن التقرير والإنكار والاستبعاد يقتضي ذلك، وكان كذلك، لما روينا عن البخاري وأبي داود والنسائي، عن الخباب ابن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده

ص: 339

بعد مجيء البينات؛ تشجيعاً لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين وأهل الكتاب، وإنكارهم لآياته وعداوتهم له - قال لهم على طريقة الالتفات التي هي أبلغ:(أم حسبتم) ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذلك عن دينه"، قال القاضي: وفيه إشارة على أن الوصول إلى الله والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ومكابدة الشدائد والرياضات، وأنشد:

دببت للمجد والساعون قد بلغوا

جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله

لا تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

قوله: (على طريقة الالتفات التي هي أبلغ) فإن قلت: أين الالتفات ها هنا، فإن الالتفات هو: الانتقال من إحدى الصيغ الثلاث إلى الأخرى لمفهوم واحد، وهذا المعنى ها هنا مفقود؟ قلت: قوله: "ولما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف"، معناه: أن قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ) الآية، كان كلاماً مشتملاً بظاهره على ذكر اختلاف الأمم السالفة والقرون الخالية، وعلى ذكر من بعث إليهم من الأنبياء، وما لقوا منهم من الشدائد بعد إظهار المعجزات، ومدمجاً لتشجيع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر مع المشركين، قال الله تعالى:(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)[هود: 120]، فمن هذا الوجه كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مرادين في هذا الكلام غائبين، يؤيده قوله:(فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا)، فإذا قيل لهم بعد ذلك:(أَمْ حَسِبْتُمْ) كان نقلاً من الغيبة إلى الخطاب، والكلام الأول تعريض للمؤمنين بعدم التثبت والتصبر لأذى المشركين، فكأنه وضع ذلك

ص: 340

و"لَمَّا" فيها معنى التوقع، وهي في النفي نظيرة «قد» في الإثبات، والمعنى: أن إتيان ذلك متوقع منتظر. (مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا) حالهم التي هي مثل في الشدّة. و (مَسَّتْهُمُ) بيان للمثل، وهو استئناف؛ كأن قائلاً قال:

كيف كان ذلك المثل؟ فقيل: مستهم البأساء، (وَزُلْزِلُوا): وأزعجوا إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال والأفزاع؛ (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) إلى الغاية التي قال الرسول ومن معه فيها: (مَتى نَصْرُ اللَّهِ)، أي: بلغ بهم الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك، ومعناه: طلب الصبر وتمنيه، واستطالة زمان الشهدة. وفي هذه الغاية دليل على تناهي الأمر .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موضع: كان من حق المؤمنين التشجع والتصبر على مكابدة المشاق من المخالفين وأعداء الدين تأسياً بمن قبلهم لجامع الإيمان، كما صرح به الحديث النبوي، وهو المضرب عنه "ببل" التي تضمنها (أَمْ)، أي: دع ذلك، أحسبوا أن يدخلوا الجنة ولما يأتهم مثل الذين خلوا من قبلهم، كقوله تعالى:(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)[العنكبوت: 2]، فترك ذلك إلى الخطاب مريداً للإنكار والاستبعاد.

قوله: (و"لما" فيها معنى التوقع)، قال في "الإقليد": إنماتضمن معنى التوقع لأنها جعلت نقيضة قد، وفي "قد" معنى التوقع، تقول: قد ركب الأمير، لقوم ينتظرون ركوبه ويتوقعون، وكذلك لما يركب، ومعنى التوقع: طلب وقوع الفعل مع تكلف واضطراب، ولذلك قيل: الانتظار موت أحمر، وقولك:"لما يركب" معناه: ما وجد بعد وقوع ما كنت تتوقعه أي: في الحال.

قوله: (ومعناه: طلب النصر وتمنيه)، فإن المتمني يطلب ما لا يرجى حصوله، يعني: ليت الله ينصرنا وهو دليل على تناهي الأمر في الشدة، قال أبو البقاء: موضع (مَتَى): رفع؛ لأنه خبر المصدر، وعند الأخفش: ظرف، و (نَصْرُ): مرفوع به.

ص: 341

في الشدة وتماديه في العظم؛ لأنّ الرسل لا يقادر قدر ثباتهم واصطبارهم وضبطهم لأنفسهم، فإذا لم يبق لهم صبر حتى ضجوا كان ذلك الغاية في الشدة التي لا مطمح وراءها. (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) على إرادة القول، يعني: فقيل لهم ذلك إجابة لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر. وقرئ: (حتى يقول) بالنصب على إضمار "أن" ومعنى الاستقبال؛ لأنّ «أن» علم له، وبالرفع على أنه في معنى الحال كقولك: شربت الإبل حتى يجيء البعير يجرّ بطنه، إلا أنها حال ماضية محكية.

[(يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) 215].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا مطمح وراءها)، الجوهري: طمح فلان بصره: رفعه، وقال بعضهم: طمح أي: أبعد في الطلب.

قوله: (من عاجل النصر) بيان لـ "طلبتهم".

قوله: (وقرئ: (حَتَّى يَقُولَ)، بالنصب) قرأ نافع بالرفع، والباقون بالنصب. قال الزجاج: فالنصب على معنى سرت حتى أدخلها، وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون الدخول غاية السير، والسير والدخول قد مضيا جميعاً، والمعنى: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول

وثانيهما: أن يكون السير قد وقع، والدخول لم يقع، أي: سرت كي أدخلها، وليس هذا وجه الآية، والرفع على وجهين:

أحدهما: أن يكون السير قد مضى، والدخول واقع الآن، تقول: سرت حتى أدخلها الآن ما امتنع.

ص: 342

فإن قلت: كيف طابق الجواب السؤال في قوله: (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ) وهم قد سألوا عن بيان ما ينفقون وأجيبوا ببيان المصرف؟ قلت: قد تضمن قوله: (قُلْ مَا أَنَفْقتُم مِنْ خَيْرٍ) بيان ما ينفقونه؛ وهو كل خير، وبني الكلام على ما هو أهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وثانيهما: سرت حتى أدخلها، وقد مضى السير والدخول، نحو قولك: سرت فأدخلها، أي: فدخلتها، وحتى لم تعمل في الفعل، وعلى هذا وجه الآية.

وقلت: وهذا الذي عناه المصنف بقوله: "على أنه في معنى الحال لكن على أنها حكاية حال ماضية"، وفائدته: تصوير تلك الحالة العجيبة الشأن، واستحضار صورتها في مشاهدة السامع ليتعجب منها، وعليه قوله:"حتى يجيء البعير يجر بطنه".

قوله: (وهو كل خير)، الراغب:(مِنْ خَيْرٍ) أي: من مال، سمي المال خيراً تنبيهاً على أن الذي يجوز إنفاقه هو المال الذي تناوله اسم الخير، كما قال:(إِنْ تَرَكَ خَيْراً)[البقرة: 180].

قوله: (وبني الكلام على ما هو أهم). قال صاحب "المفتاح": سألوا عن بيان ما ينفقون فأجيبوا ببيان المصرف، نزل سؤال السائل منزلة سؤال غير سؤاله، لتوخي التنبيه له بألطف وجه على تعديه عن موضع سؤال هو أليق بحاله أو أهم له إذا تأمل.

قلت: وأما ما عليه كلام المصنف فخلاف ذلك؛ لأن الجواب مطابق من حيث الإشارة، فإنه بظاهره مسوق لبيان المصرف ومدمج فيها معنى ما ينفق، وهو الخير، تقديره: قل: ما يعتد به من إنفاق الخير مكانه ومصرفه الأقربون، ومع هذا لا يخرج من باب الأسلوب الحكيم، وبهذا ظهر الفرق بينه وبين قوله:(يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ)[البقرة: 189]، وذلك أن معرفة بدو الأهلة وتزايدها وكمالها ومحاقها لما لم يكن من الأمور المعتبرة في الدين

ص: 343

وهو بيان المصرف؛ لأنّ النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها، قال

إنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تَكُونُ صَنِيعَةً

حَتَّى يُصَابَ بهَا طَرِيقُ الْمصنَعِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لم يلتفت إليها رأساً بل ردها ضمناً، وأن إنفاق كرائم الأموال من الدين لكن اعتداده بحسب المصرف، وأنه المطلوب الأولى، جعله أصلاً والمسئول عنه تابعاً، وفيه إبطال علم النجوم وما لا جدوا له في الدين من علم الفضول.

الراغب: قيل: في مطابقة الجواب السؤال وجهان: أحدهما: أنهم سألوا عنهما وقالوا: ما ننفق وعلى من ننفق؟ لكن حذف في حكاية السؤال أحدهما إيجازاً، ودل عليه الجواب بقوله:(مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ)، كأنه قيل: المنفق هو الخير، والمنفق عليهم هؤلاء، فلف أحدهما في الآخر، وهذا طريق معروف في البلاغة.

والوجه الثاني: أن السؤال ضربان: سؤال جدل، وحقه أن يطابقه جوابه لا زائداً عليه ولا ناقصاً عنه، وسؤال تعلم، وحق المعلم أني صير فيه كطبيب رفيق يتحرى شفاء سقيم، فيطلب ما يشفيه، طلبه المريض أو لم يطلبه، فلما كان حاجتهم إلى من ينفق عليهم كحاجتهم إلى ما ينفق بين لهم الأمران.

وقلت: مثاله: من غلب عليه مرة السوداء إذا طلب من الطبيب تناول الجبن فيقول: عليك بمائه، كما أجيب عن قوله:(يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ) بقوله: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ)، وإذا طلب من غلب عليه مرة الصفراء العسل فيقول: مع الخل، وعليه الآية التي نحن بصددها.

قوله: (إن الصنيعة) البيت، بعده:

وإذا صنعت صنيعة فاعمد بها

لله أو لذوي القرابة أو دع

وهو يوضح البيت الأول.

ص: 344

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: أنه جاء عمرو بن الجموح وهو شيخ هِمّ وله مال عظيم فقال:

ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت. وعن السدي: هي منسوخة بفرض الزكاة. وعن الحسن: هي في التطوّع.

[(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)].

(وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) من الكراهة بدليل قوله: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً). ثم إما أن يكون بمعنى الكراهة على وضع المصدر موضع الوصف مبالغة، كقولها:

فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصنيعة: ما اصطنعت لأحد من خير، والمصنع: محل الصنيعة، أو: مصدر ميمي.

قوله: (وعن ابن عباس): جواب آخر مطابق لظاهر الجواب في الآية، لكن السؤال متضمن لذكر المنفق مع المنفق عليه، تقديره: ماذا ينفقون؟ وأين يضعونه، وإليه ينظر الوجه الأول من قول الراغب.

قوله: (شيخ هم)، الجوهري: الهم بالكسر: الشيخ الفاني.

قوله: (هي منسوخة بفرض الزكاة)، قال القاضي: ليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ به.

قوله: ((وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ): من الكراهة)، أي: لا من الإكراه. قال في "الأساس": وقد كره كراهة، وكرهته، فهو مكروه، وتكره الشيء: تسخطه. وقال الزجاج: كرهت الشيء كرهاً وكرهاً وكراهةً، بالفتح والضم، وكل ما في كتاب الله من الكره جائز فيه الوجهان لكن هنا الناس مجمعون على الضمة.

ص: 345

كأنه في نفسه لفرط كراهتهم له؛ وإما أن يكون فعلاً بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز، أي: وهو مكروهٌ لكم. وقرأ السلمي بالفتح على أن يكون بمعنى المضموم، كالضعف والضعف، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على طريق المجاز، كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له ومشقته عليهم. ومنه قوله تعالى:(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً)[الأحقاف: 15]، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: الكره، بالضم: المشقة، يقال: أقمت على كره، أي: مشقة، ويقال: أقامني فلان على كره، بالفتح: إذا أكرهك عليه، قال: وكان الكسائي يقول: الكَرْهُ والكُرْه لغتان.

الراغب: قيل: هما واحد، وقيل: الكَرْهُ، بالفتح: المشقة التي تنال الإنسان من خارج مما يحمل عليه بإكراه، وبالضم: ما يناله من ذاته وهو ما يعافه إما طبعاً أو عقلاً أو شرعاً ولهذا يصح أن يقول الإنسان في الشيء الواحد: إني أريده وأكرهه، بمعنى إني أريده من حيث الطبع وأكرهه من حيث الشرع، كقوله تعالى:(كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) الآية.

وذهب المصنف إلى أن الكره من الكراهة لا من الإكراه، بناءً على انه لا يجوز أن يكرههم ويجبرهم على القتال، بل إنه تعالى أوجب عليهم القتال، والحال أن في القتال كراهة عندهم، بدليل قوله:(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فإنه أسند الفعل إليهم، ولو كان بمعنى الإكراه لم يطابق الكلام، ويجوز أن يكون إسناد الإكراه إلى الله على سبيل المجاز، بمعنى أنهم لشدة كراهتهم للقتال بحيث لا طريق إلى أن يؤمروا به إلا على طريق الإجبار والإكراه كما مر بيانه في قوله تعالى:(خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)[البقرة: 7] في الوجه الرابع منه، ثم مطابقته لقوله:(وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) على سبيل التذييل.

قوله: ((حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً)) [الأحقاف: 15]. قال المصنف: وكرهاً بالفتح والضم، وهما لغتان في معنى المشقة.

ص: 346

وعلى قوله تعالى: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) جميع ما كلفوه؛ فإن النفوس تكرهه وتنفر عنه وتحب خلافه. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) ما يصلحكم وما هو خير لكم (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ذلك.

[(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)].

بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه بن جحش على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين؛ ليترصد عيراً لقريش فيها عمرو بن عبد اللَّه الحضرمي وثلاثة معه، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعلى قوله)، أي: جميع ما كلفوه على نسق قوله: (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا).

قوله: (وتحب خلافه) أي: النفس تحب خلاف ما كلفت به، وهو شر لها؛ لأنه يفضي بها إلى الردى. قال القاضي: إنما ذكر (عَسى) لأن النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها فلا يكون كرهاً عليها بل تستلذ له، وفي قوله:(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) دليل على أن الأحكام تتبع المصالح الراجحة، وإن لم يعرف عينها. وقال الزجاج: ومعنى كراهيتهم القتال أنه من جنس غلظه عليهم ومشقته، لا أن المؤمن يكره فرض الله، لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصلاح.

قوله: (عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة)، روي أنهم الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله.

ص: 347

فقتلوه وأسروا اثنين، واستاقوا العير وفيها من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب، وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف ويبذعرّ فيه الناس إلى معايشهم، فوقف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العير وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا: ما نبرح حتى تنزل توبتنا، وردّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العير والأسارى. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: لما نزلت أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الغنيمة. والمعنى: يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام. و (قِتالٍ فِيهِ) بدل الاشتمال من (الشهر)، وفي قراءة عبد اللَّه:(عن قتال فيه) على تكرير العامل، كقوله:(لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ)[الأعراف: 75]، وقرأ عكرمة:(قتل فيه قل: قتل فيه كبير) أي: إثم كبير. وعن عطاء: أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف باللَّه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه، وما نسخت.

وأكثر الأقاويل على أنها منسوخة بقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)[التوبة: 5]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويبذعر) أي: يتفرق، الجوهري: ابذعروا: تفرقوا، قال أبو السميدع: ابذعرت الخيل: إذا ركضت تبادر شيئاً تطلبه.

قوله: (وما نسخت) تتمة قول عطاء وتفسير لقوله: "ما يحل للناس" إلى آخره، أي: فحلف بالله: ما نسخت، وأكثر الأقاويل أنها منسوخة بقوله:(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)[التوبة: 5]، قال القاضي: وهو نسخ للخاص بالعام وفيه خلاف، والأولى منع دلالة الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام مطلقاً، فإن (قِتَالٍ فِيهِ) نكرة في حيز مثبت فلا تعم.

ص: 348

(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ): مبتدأ، و (أكبر): خبره، يعني: وكبائر قريشٍ من صدّهم عن سبيل اللَّه وعن المسجد الحرام وكفرهم باللَّه وإخراج أهل المسجد الحرام، وهم رسول اللَّه والمؤمنون (أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ) مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن. (وَالْفِتْنَةُ): الإخراج أو الشرك. (والمسجد الحرام) عطف .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ): عطف على (سَبِيلِ اللَّهِ))، قال صاحب "الفرائد": فالتقدير حينئذ: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وكان (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) من صلة الصد؛ لأن المعطوف على الصلة في حكم الصلة، فكيف صح عطف (وَكُفْرٌ بِهِ) على قوله:(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) قبل الفراغ منه؟ هذا معنى قول المصنف في الحاشية: "كيف صح العطف قبل الفراغ من المعطوف عليه وقد منعوا من ذلك؟ "، وأجاب عنه من وجهين أحدهما: أن قوله: (وَكُفْرٌ بِهِ) في معنى الصد عن سبيل الله، فاتحادهما هو الذي سوغ ذلك، كأنه قال:"وصد عن سبيل الله والمسجد الحرام"، وقلت: يريد أن قوله: (وَكُفْرٌ بِهِ) عطف على (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) على سبيل التفسير، كأنه قيل: وصد عن سبيل الله، أي: كفر بالله والمسجد الحرام، فاعترض بين المعطوف والمعطوف عليه التفسير.

وذكر صاحب "الكشف" عن أبي علي: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ): عطف على (سَبِيلِ اللَّهِ)، أي: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، ألا ترى على قوله:(هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)[الفتح: 25].

وثانيهما: أن موضع (وَكُفْرٌ بِهِ) عقيب قوله: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) إلا أنه قدم لفرط العناية عليه كما في قوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)[الإخلاص: 4]، كان من حق الكلام أن يقال: ولم يكن أحد كفواً له، إلا أنه قيل:(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) فقدم قوله: (لَهُ) لفرط العناية، قال أبو البقاء: والجيد أن يكون متعلقاً بفعل محذوف دل عليه الصد،

ص: 349

على (سبيل اللَّه)، ولا يجوز أن يعطف على الهاء في (بِهِ). (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ) إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين، وأنهم لا ينفكون عنها حتى يردّوهم عن دينهم، و"حتى" معناها: التعليل، كقولك: فلان يعبد اللَّه حتى يدخل الجنة، أي: يقاتلونكم كى يردّوكم.

و(إِنِ اسْتَطاعُوا) استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوّه: إن ظفرت بي .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: ويصدون عن المسجد الحرام، كقوله تعالى:(هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)[الفتح: 25]. وقال السجاوندي: هو عطف على الشهر، فقد عظموا القتل في الشهر والمسجد، فسألوا عنهما.

وقال الزجاج: (قِتَالٌ): مرتفع بالابتداء، و (كَبِيرٌ): خبره، ورفع (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَإِخْرَاجُ) أهل المسجد الحرام (مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ)، على الابتداء والخبر، أي: هذه الأشياء أكبر عند الله، أي: أعظم إثماً، والفتنة أكبر من القتل، أي: هذه الأشياء فتنة، والفتنة كفر، والكفر أكبر من القتل.

قوله: (ولا يجوز أن يعطف على الهاء في (بِهِ)) يعني عند البصريين؛ لأنهم لا يجيزون العطف على المضمر المجرور إلا بإعادة الجار ولأنه يفسد المعنى، إذ لا معنى لقولنا: وكفر بالمسجد الحرام.

قوله: (و (إِنْ اسْتَطَاعُوا): استبعاد)، أي: لا يكون استطاعة، وبعيد أن تكون استطاعة،

ص: 350

فلا تبقُ عليَّ، وهو واثق بأنه لا يظفر به. (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ): ومن يرجع عن دينه إلى دينهم ويطاوعهم على ردّه إليه (فَيَمُتْ) على الردّة، (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)؛ لما يفوتهم بإحداث الردة مما للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام، وباستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة، وبها احتج الشافعي على أن الردّة .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فتفرض كما تفرض المحالات، لدلالة استعمال "إن" في مقام التحقيق، وهذا التقدير يستدعي أن يجري (حَتَّى) على التعليل دون الغاية.

قوله: (على رده إليه) هذا من حذف الفاعل وإضافة الرد إلى مفعوله، أي: يطاوعهم على ردهم إياه.

قوله: (من ثمرات الإسلام وباستدامتها) نشر لقوله: (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، أي: يفوتهم ثمرات الإسلام بإحداث الردة، وثواب الآخرة باستدامة الردة والموت عليها، ويريد بقوله:"ثمرات الإسلام" هي: أن لا يستحق من المسلمين موالاة ولا نصراً ولا غنيمة ولا ثناء حسناً، وتبين زوجته، ولا يستحق الميراث من المسلمين، ولا يكون آمناً؛ لأنه يقتل عند الظفر به.

قوله: (وبها احتج الشافعي)، ووجهه: أن الآية دلت على أن الردة إنما توجب الحبوط بشرط الموت على الردة، فإذا لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط.

فإن قيل: هذا معارض بقوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)، فالجواب أن هذا من باب حمل المطلق على المقيد، لأنا لو جعلنا مجرد الردة مؤثراً في الحبوط لم يبق للموت على الردة أثر في الحبوط أصلاً، ولو حملنا المطلق على المقيد لعملنا بمقتضى الدليلين، وفائدة الخلاف إنما تظهر فيما إذا صلى المسلم، ثم ارتد ثم أسلم، قال الشافعي: لا قضاء عليه لما أدى

ص: 351

لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها، وعند أبي حنيفة أنها تحبطها وإن رجع مسلماً. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا): روي أن عبد اللَّه بن جحش وأصحابه حين قتلوا الحضرمي ظنّ قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر؛ فنزلت، (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ). عن قتادة: هؤلاء خيار هذه الأمّة، ثم جعلهم اللَّه أهل رجاءٍ كما تسمعون، وإنه من رجا طلب، ومن خاف هرب.

[(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ* فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) 219 - 220].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قبل الردة، وقال أبو حنيفة: يلزم قضاء ما أدى، والذي يشد من عضد الحمل على التقييد: إيقاع (وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) حالاً من المجرور في (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)، وهو مطلق وشائع في الخسران، وعطف (وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) على (فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، وهو تقييد لذلك المطلق وبيان لذلك المبهم.

قوله: (ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون)، قال القاضي: أثبت لهم الرجاء إشعاراً بأن العمل غير موجب ولا قاطع في الدلالة، لاسيما والعبرة بالخواتيم.

الراغب: وهذه المنازل الثلاثة التي هي الإيمان والمهاجرة والجهاد هي المعنية بقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ)[المائدة: 35]، ولا سبيل إلى المهاجرة

ص: 352

نزلت في الخمر أربع آياتٍ؛ نزلت بمكة: (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً)[النحل: 67]، وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال. ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا: يا رسول اللَّه، أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال. فنزلت:(فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فشربها قوم وتركها آخرون .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلا بعد الإيمان، ولا إلى جهاد الهوى في سبيله إلا بعد هجران الشهوات، ومن وصل إلى ذلك فحق له أن يرجو رحمته.

قوله: (نزلت في الخمر أربع آيات)، إلى آخره، قال القفال: الحكم في وقوع التحريم على هذا الترتيب؛ أنه تعالى علم أن القوم كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم به كثيراً، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق.

وقلت: ومصداقه ما روينا عن البخاري، عن يوسف بن ماهك أنه قال: قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لعراقي: "إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا قالوا: لا ندع الزنا" الحديث.

ويدل على هذا التدرج قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ)[المائدة: 91]؛ لأنه كما قال: أبلغ من

ص: 353

ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم فشربوا وسكروا فأمّ بعضهم فقرأ: "قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون"؛ فنزلت: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى)[النساء: 43]، فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبى وقاص فلما سكروا افتخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء الأنصار فضربه أنصاري بلحي بعيرٍ فشجه موضحة، فشكا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت:(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى قوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)[المائدة: 90 - 91]، فقال عمر رضى اللَّه عنه: انتهينا يا رب. وعن عليّ رضى اللَّه عنه: لو وقعت قطرةٌ في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذن عليها، ولو وقعت في بحرٍ ثم جفت ونبت فيه الكلأ لم أرعه. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: لو أدخلت أصبعى فيه لم تتبعني ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صريح النهي. كما أنه ذكر عقيب الصوارف. ولاستعمال (هَلْ) في غير مقتضاها قال الزجاج: معناه التحضيض على الانتهاء والتهديد على ترك الانتهاء.

قوله: (فشجه موضحة) نصب على أنه مفعول مطلق من "شجه"، والموضحة: الشجة التي توضح العظم.

قوله: (ونبت فيه الكلأ لم أرعه)، الأساس: رعت الماشية الكلأ، وارتعت، ورعاها صاحبها، وهو راعي الإبل، وهو يحتمل وجهين، أحدهما: أنه مجاز عن الأكل على التوسعة، قال في قوله تعالى:(يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ)[يوسف: 12] يريد يتسع في أكل الفواكه وغيرها.

ص: 354

وهذا هو الإيمان حقاً وهم الذين اتقوا اللَّه حق تقاته. والخمر: ما غلا واشتدّ وقذف بالزبد من عصير العنب، وهو حرام، وكذلك نقيع الزبيب أو التمر الذي لم يطبخ، فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه، ثم غلا واشتدّ ذهب خبثه ونصيب الشيطان، وحلّ شربه ما دون السكر إذا لم يقصد بشربه اللهو والطرب عند أبي حنيفة، وعن بعض أصحابه: لأن أقول مراراً: هو حلال أحبّ إليّ من أن أقول مرةً: هو حرام، ولأن أخرّ من السماء فأتقطع قطعاً أحبّ إليّ من أن أتناول منه قطرة. وعند أكثر العلماء؛ هو حرام؛ كالخمر، وكذلك كل ما أسكر من كل شراب. وسميت خمراً؛ لتغطيتها العقل والتمييز، كما سميت سكراً؛ لأنها تسكرهما، أي: تحجزهما، وكأنها سميت بالمصدر من خمره خمراً؛ إذا ستره للمبالغة. والميسر: القمار: مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وثانيهما: الأصل: لم ترعه ماشيتي، فحذف المضاف- أي: ماشية- وأقيم المضاف إليه- أي: ضمير المتكلم- مقامه، فانقلب الفعل من لفظ الغائب إلى المتكلم، كذا قدر محيي السنة في (يَرْتَعْ)، والمصنف في قوله:(لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ)[الكهف: 60]، وهذا أبلغ، ومقام الإغراق في الوصف له أدعى.

قوله: (والخمر: ما غلا واشتد)، الراغب: الخمر: ستر الشيء، ويقال لما يستر به، لكن الخمار صار في التعارف لما تغطي به المرأة رأسها، وخمرت الإناء: غطيته، وكذلك خمرت العجين، وسميت الخميرة لكونها مخمورة، والخمار: الموروث من الخمر، جعل بناؤه بناء الأدواء نحو: الكباد والصداع، وخامره الحزن: إذا استولى عليه حتى ستر فهمه وبنحوه حتى سمي غماً، وأصله من الستر.

ص: 355

يقال: يسرته؛ إذا قمرته، واشتقاقه من اليسر؛ لأنه أخذ مال الرجل بيسر وسهولةٍ من غير كد ولا تعب، أو من اليسار؛ لأنه سلب يساره. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله قال:

أقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِى

أي: يفعلون بي ما يفعل الياسرون بالميسور. فإن قلت: كيف صفة الميسر؟ قلت: كانت لهم عشرة أقداح؛ وهي: الأزلام والأقلام والفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد، لكل واحدٍ منها نصيب معلوم من جزورٍ ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء، وقيل ثمانية وعشرين إلا لثلاثة، وهي: المنيح والسفيح والوغد، ولبعضهم:

لِيَ فِى الدُّنْيَا سِهَامٌ

لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ

وَأسَامِيهِنَّ وَغْدٌ

وَسَفِيحٌ وَمنِيحُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قمرته)، أي: غلبته في القمار، "يخاطر" أي: يراهن ويقامر.

قوله: (أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني) تمامه:

ألم تعلموا أني ابن فارس زهدم

"ييسرونني" أي: يقتسمونني كما تقتسم أعضاء الجزور في الميسر.

قال الزجاج: الميسر إنما كان قماراً في الجزور خاصة، وجعل كل القمار قياساً عليه.

ص: 356

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقول الشاعر: إنهم أخذوا فداه فاقتسموا، فكأنهم اقتسموا نفسه، والشعب: موضع، وزهدم: اسم فرس، وفي رواية صاحب "المطلع": ألم تيأسوا موضع "ألم تعلموا"، وهو في لغة النخع:"ألم تعلموا"، ومنه قوله تعالى:(أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا)[الرعد: 31]، أي: أفلم يعلم.

وقال صاحب "المطلع": كانت لهم عشرة أقداح تسمى الأزلام ذوات الأنصباء منها سبعة: الفذ، وله سهم وفيه في اليسر فرض، والتوأم وله سهمان وفيه فرضان، وعلى هذا: الرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل والمعلى، يزداد في كل واحد منها سهم وفرض، والتي لا حظوظ لها: المنيح والسفيح والوغد، وهي الثلاثة تسمى أغفالاً لخلوها عن السهام، وإنما تخلط بذوات السهام في الربابة وهي خريطتها ليكثر عددها، ويؤمر الحرضة الإجالة، وهو الضارب، ولهذا تشد عيناه عند الضرب، وإذا أرادوا أن ييسروا اشتروا جزوراً نسيئة ويضرب للسبعة الياسرين ليعلم من يجب عليه الثمن، ثم ينحرونه قبل أن ييسروا ويقسمونه عشرة أقسام، وهو قول أكثر الأئمة، وقال الأصمعي: ثمانية وعشرين سهماً، ولو كان كما قال لا يظهر الفوز والغرم، وإذا ضرب القداح وخرج الفذ وله نصيب واحد، أخذ صاحبه عشر أعشار الجزور، وسلم من غرم الثمن واعتزل القوم، وإن كان الذي خرج أولاً التوأم أخذ صاحبه عشرين من أعشار الجزور وسلم واعتزل، وكذلك كل خارج منها إلى المعلى، فإن صاحبه يأخذ من أعشار قدحه ويعتزل، ثم يعيد الحرضة الإجالة ثانية، ثم يخرج سهماً، فإن خرج بعد الفذ التوأم أخذ صاحبه السهمين وسلم واعتزل، وإن كان الرقيب أخذ ثلاثة أسهم على هذا، يجيلها مرة بعد أخرى ويخرج في كل مرة سهماً إلى أن يستغرق الأجزاء العشرة من الجزور ويظهر الفوز والغرم، فإن فضلت حصص السهام على أعشار الجزور، كما إذا خرج أولاً المعلى ثم المسبل، فهذه ثلاثة عشر نصيباً، أخذ صاحب المعلى سبعة من الأعشار، وصاحب المسبل ثلاثة، وغرم له الذين لم تخرج سهامهم قيمة ثلاثة أعشار مع ثمن الجزور بعد سهامهم، فقس على هذا. تم كلام صاحب "المطلع".

ص: 357

للفذ سهم؛ وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة؛ يجعلونها في الربابة وهي خريطة، ويضعونها على يدي عدلٍ ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجلٍ رجلٍ قدحاً منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئاً وغرم ثمن الجزور كله. وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه، ويسمونه البرم. وفي حكم الميسر: أنواع القمار، من النرد والشطرنج وغيرهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:«إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما من ميسر العجم» . وعن عليّ رضي الله عنه: أنّ النرد والشطرنج من الميسر. وعن ابن سيرين: كل شيءٍ فيه خطر فهو من الميسر. والمعنى: يسألونك عما في تعاطيهما، بدليل قوله تعالى:(قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويسمونه البرم)، الجوهري: هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر.

النهاية: الأبرام: اللئام، واحده برم، بفتح الراء.

قوله: (إياكم وهاتين الكعبتين المشؤومتين)، روينا عن مسلم وأبي داود، عن بريدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في دم خنزير"، وفي رواية أبي داود:

ص: 358

(وَإِثْمُهُما) وعقاب الإثم في تعاطيهما (أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار، والطرب فيهما، والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشراتهم، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم وسلب الأموال بالقمار، والافتخار على الأبرام. وقرئ:(إثم كثير) بالثاء، وفي قراءة أبيّ:(وإثمهما أقرب). ومعنى الكثرة: أن أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة. (الْعَفْوَ) نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع، قال:

خُذِى الْعَفْوَ مِنِّى تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"غمس يده في لحم خنزير ودمه"، وعن مالك وأبي داود:"من لعب بنرد أو نردشير فقد عصى الله ورسوله".

قوله: (وقرئ: "إثم كثير")، بالثاء المثلثة: حمزة والكسائي.

قوله: (الجهد)، النهاية: الجهد، بالضم: الوسع والطاقة، وبالفتح: المشقة، وقيل: المبالغة والغاية، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة، وأما المشقة والغاية فالفتح لا غير.

قوله: (خذي العفو مني تستديمي مودتي). الشعر لأبي الأسود الدؤلي يخاطب به امرأته، وتمامه قوله:

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

ص: 359

ويقال للأرض السهلة: العفو. وقرئ بالرفع والنصب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ رجلاً أتاه ببيضةٍ من ذهب أصابها في بعض المغازي، فقال: خذها مني صدقة فأعرض عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأتاه من الجانب الأيمن، فقال: مثله، فأعرض عنه ثم أتاه من الجانب الأيسر فأعرض عنه، فقال:"هاتها" مغضباً ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الغضب: شدته وحدته. وبعده قوله:

وإني رأيت الحب في الصدر والأذى

إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب

المعنى: إن أردت دوام المودة وبقاء المحبة فخذي السهل، وهو: أن لا تنطقي في حال حدة غضبي، فإن الحب والأذى إذا دخلا في الصدر لا يلبث الحب معه، فهما ضدان لا يجتمعان.

قوله: (وقرئ بالرفع والنصب)، أبو عمرو:"قل العفو" بالرفع، والباقون: بالنصب.

قوله: (أن رجلاً أتاه ببيضة)، الحديث من رواية أبي داود عن جابر، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء رجل بمثل بيضة من ذهب، فقال: يا رسول الله، أصبت هذه من معدن، فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه من قبل ركنه الأيمن، فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر، فأعرض عنه، ثم أتاه من خلفه، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذفه بها، فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يأتي أحدكم بجميع ما يملك فيقول: هذه صدقة، ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى".

النهاية: "عن ظهر غنى" أي: ما كان عفواً قد فضل عن غنى، وقيل: أراد: ما فضل عن العيال، والظهر قد يراد في مثله هذا إشباعاً للكلام وتمكيناً، كأن صدقته مسندة إلى ظهر قوي من المال.

ص: 360

فأخذها فخذفه بها خذفاً لو أصابه لشجه أو عقره، ثم قال:«يجيء أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفف الناس! إنما الصدقة عن ظهر غنى» (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) إمّا أن يتعلق بـ (تتفكرون) فيكون المعنى: لعلكم تتفكرون فيما يتعلق بالدارين فتأخذون بما هو أصلح لكم، كما بينت لكم أنّ العفو أصلح من الجهد في النفقة، أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع. ويجوز أن يكون إشارة إلى قوله:(وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا حتى لا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب العظيم؛ وإمّا أن يتعلق بـ (يُبَيْنُ) ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فخذفه) بالخاء المعجمة، وعلى ما روينا: بالحاء المهملة، النهاية: الخذف: رميك حصاة أو نواة تأخذها بين إبهامك وسبابتك وترمي بها، أو ترمي بها بالخشب.

قوله: 0 يتكفف) أي: يمد كفه يسأل الناس.

قوله: (وإما أن يتعلق بـ (يُبَيِّنَ)): عطف على قوله: "إما أن يتعلق بـ (تَتَفَكَّرُونَ) "، فعلى أن يتعلق بـ (تَتَفَكَّرُونَ): المشار إليه بقوله: (كَذَلِكَ) إما جواب السؤال الثاني، وهو قوله:(قُلْ الْعَفْوَ)، وهو لكونه إرشاداً إلى الأصلح في النفقة، وقد وقع مشبهاً به لبيان الآيات، يدخل فيه سائر الأحكام الشرعية مما له مدخل في تحري الأصلح، وإليه الإشارة بقوله:"فتأخذون بما هو أصلح لكم"، هذا بالنظر إلى العفو في الإنفاق نفسه، وأما بالنظر إلى أن يقع الإنفاق راجعاً إلى السائل، ووقع مشبهاً به، فيدخل فيه الكلام في تحري إيثار ما فيه النفع من الدارين؛ لأن الإنفاق على الفضل من غير تقتير ولا تبذير، أبقى لمال المنفق، وأنفع له من الإسراف، وفيه تنبيه على أن إيثار الآخرة على الدنيا لكونها أبقى وأكثر نفعاً من شيمة العارف بالأمور المتفكر فيها، وإليه الإشارة بقوله:"أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما وأكثرهما منافع".

وأما إذا كان المشار إليه متعلق جواب السؤال الأول، وهو قوله:(وَإِثْمُهُمَا)،

ص: 361

على معنى: يبين لكم الآيات في أمر الدارين، وفيما يتعلق بهما لعلكم تتفكرون. لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء: 10] اعتزلوا اليتامى وتحاموهم، وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم والاهتمام بمصالحهم، فشق ذلك عليهم، وكاد يوقعهم في الحرج، فقيل:(إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) أي: مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم ولأموالهم خير من مجانبتهم. (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) وتعاشروهم ولم تجانبوهم فهم فَإِخْوانُكُمْ في الدين ومن حق الأخ أن يخالط أخاه. وقد حملت المخالطة على المصاهرة. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أي: لا يخفى على اللَّه من داخلهم بإفساد وإصلاح فيجازيه على حسب مداخلته فاحذروه، ولا تتحروا غير الإصلاح ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فالمعنى ما قال: "لتتفكروا في عقاب الإثم في الآخرة والنفع في الدنيا" إلى آخره، وعلى أن يتعلق بقوله:(يُبَيِّنَ) يكون قوله: (تَتَفَكَّرُونَ) عاماً فيما يتفكر فيه أو مطلقاً، ويكون المشار إليه بـ (كَذَلِكَ) جميع ما سبق من أول السورة، أو جميع ما بين في التنزيل، والمعنى: مثل هذا البيان المذكور في كل ما تأتون وتذرون يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة، لعلكم تتفكرون في جميع ذلك، أو تكونون من أهلا لتفكر ومن زمرة المتدبرين. وقال صاحب "المرشد": واختلفوا في ناصب (فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، منهم من قال: إنه منتصب بـ (تَتَفَكَّرُونَ)، ومنهم من قال: منتصب بـ (يُبَيِّنُ اللَّهُ)، والوجهان بعيدان، فلا يوقف على قوله (تَتَفَكَّرُونَ) لئلا يلزم الفصل بين العامل والمعمول، والوقف التام عند قوله:(فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ).

قوله: (وقد حملت المخالطة على المصاهرة)، النهاية: الصهر: ما كان من خلطة تشبه القرابة يحدثها التزويج. قال الزجاج: كانوا يظلمون اليتامى فيتزوجون منهم العشر، ويأكلون أموالَهم مع أموالِهم، فشدد عليهم في أمر اليتامى تشديداً خافوا معه التزوج بنساء اليتامى ومخالطتهم،

ص: 362

(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) لحملكم على العنت - وهو المشقة- وأحرجكم فلم يطلق لكم مداخلتهم. وقرأ طاووس: (قل إصلاح إليهم) ومعناه: إيصال الصلاح وقرئ (لاعنتكم)، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وكذلك (فَلا إِثْمَ) [البقرة: 173].

(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم، ولكنه (حَكِيمٌ) لا يكلف إلا ما تتسع فيه طاقتهم.

[(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فأعلم الله تعالى أن الإصلاح لهم هو خير الأشياء، وأن مخالطتهم في التزويج مع تحري الإصلاح جائزة، ويجيء تفسير الآية في "النساء" إن شاء الله.

قوله: (لحملكم على العنت)، الراغب: المعانتة: كالمعاندة، لكن المعانتة أبلغ؛ لأنها معاندة فيها خوف وهلاك، ولهذا يقال: عنت فلان: إذا وقع في أمر يخاف منه التلف، يعنت عنتاً، ويقال: عنته غيره، قال تعالى:(عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ)[التوبة: 128].

قوله: ("لاعنتكم"، بطرح الهمزة)، قرأ البزي من رواية أبي ربيعة عنه بتليين الهمزة، والباقون: بتحقيق الهمزة، قيل: أسقط في الكتابة ما أسقط في القراءة من الهمزة.

ص: 363

(وَلا تَنْكِحُوا) وقرئ بضم التاء، أي: لا تتزوّجوهنّ، أو: لا تزوّجوهن. والْمُشْرِكاتِ: الحربيات. والآية ثابتة. وقيل: المشركات: الكتابيات والحربيات جميعاً؛ لأن أهل الكتاب من أهل الشرك؛ لقوله تعالى: (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) إلى قوله تعالى: (سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[التوبة: 30 - 31]، وهي منسوخة بقوله تعالى:(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)[المائدة: 5]، وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط، وهو قول ابن عباس، والأوزاعى. وروي: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث مرثد بن أبي مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين، وكان يهوى امرأةً في الجاهلية اسمها عناق، فأتته وقالت: ألا نخلو؟ فقال: ويحك! إن الإسلام قد حال بيننا. فقالت: فهل لك أن تتزوّج بي؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فاستأمره. فاستأمره؛ فنزلت. (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ): ولامرأة مؤمنة حرّة كانت أو مملوكةً، وكذلك (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ)؛ لأنّ الناس كلهم عبيد اللَّه وإماؤه. (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ): ولو كان الحال أنّ المشركة تعجبكم وتحبونها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وَلا تَنكِحُوا) قرئ بضم التاء)، قال الزجاج: هذا وجه، ولا أعلم أحداً قرأ به.

قوله: (وكذلك: (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ)) أي: ولعبد مؤمن حراً كان أو عبداً، الراغب: فيه إشارة مجملة إلى فضل العبد المؤمن على الحر المشرك، وبيان فضيلته يحتاج إلى مقدمة، وهي: أن الشيئين إذا تشككت أيهما أفضل أخذت كل واحد منهما مع ضد الآخر، فأيهما هو المؤثر حكمت له، مثاله: إن شك في العلم والغنى أيهما أفضل، تقول: انظر: هل الغنى مع الجهل أفضل أم الفقر مع العلم؟ فإذا علمت أن الفقر مع العلم أفضل من الجهل مع الغنى علمت

ص: 364

فإنّ المؤمنة خير منها مع ذلك، (أُولئِكَ) إشارة إلى المشركات والمشركين، أي: يدعون إلى الكفر، فحقهم أن لا يوالوا، ولا يصاهروا ولا يكون بينهم وبين المؤمنين إلا المناصبة والقتال، (وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) يعني: وأولياء اللَّه- وهم المؤمنون- يدعون إلى الجنة، (وَالْمَغْفِرَةِ)، وما يوصل إليهما؛ فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم، وأن يؤثروا على غيرهم. (بِإِذْنِهِ): بتيسير اللَّه وتوفيقه للعمل الذي تستحق به الجنة والمغفرة.

وقرأ الحسن: (والمغفرة بإذنه) بالرفع، أي: والمغفرة حاصلة بتيسيره ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أن العلم أفضل من الغنى، فإذا ثبت ذلك، والعبد هو الذي ملك منافعه مدة، والحر هو الذي لم تملك منافعه، والمؤمن هو المستحق للثواب الدائم، والمشرك هو المستحق للعقاب الدائم، فينظر: هل من ملك منافعه مدة ثم أثيب دائماً أفضل؟ أم من لم تستحق منافعه مدة ويعاقب دائماً؛ فإذا علمنا أن الأول خير علمنا أن العبد المؤمن خير من الحر المشرك.

قوله: (أي: يدعون على الكفر) تفسير لقوله: (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، أي: الكفر المؤدي إلى النار.

قوله: (يعني: وأولياء الله) أي: حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه تفخيماً لشأنهم، وإنما قدر المضاف لأن قوله:(بِإِذْنِهِ) لا يستقيم من غير تقدير إذ لا يقول: الله يدعو بإذنه، ولأنه واقع في مقابل (أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ)، وهم أعداء الله، قوبل بأولياء الله.

قوله: (وأن يؤثروا على غيرهم) صح بغير "لا" من نسخة المعزي، وفي نسخة الصمصام:"وأن لا يؤثروا على غيرهم"، مع "لا" وقال المطرزي: الصواب: وأن لا يؤثر عليهم غيرهم.

قوله: ((بِإِذْنِهِ): بتيسير الله وبتوفيقه للعمل)، قال المصنف: هو مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق.

ص: 365

[(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ* نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)].

الْمَحِيضِ: مصدر، يقال: حاضت محيضاً، كقولك: جاء مجيئاً، وبات مبيتا. (قُلْ هُوَ أَذىً) أي: الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه نفرةً منه وكراهة له، (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ): فاجتنبوهنّ، يعني: فاجتنبوا مجامعتهنّ. روي: أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجالسوها على فرش، ولم يساكنوها في بيت، كفعل اليهود والمجوس، فلما نزلت أخذ المسلمون بظاهر اعتزالهنّ؛ فأخرجوهنّ من بيوتهم، فقال ناس من الأعراب: يا رسول اللَّه، البرد شديد، والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرنا بها هلكت الحيض. فقال صلى الله عليه وسلم:"إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن، ولم يأمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم".

وقيل: إنّ النصارى كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض، واليهود كانوا يعتزلونهنّ في كل شيء، فأمر اللَّه بالاقتصاد بين الأمرين ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (المحيض: مصدر). قال الزجاج: يقال: حاضت المرأة، تحيض حيضاً ومحاضاً ومحيضاً، وعند النحويين: أن المصدر في هذا الباب بابه "المَفْعِل" لكن "المَفْعَل" جيد بالغ.

قوله: (فاجتنبوهن، يعني: فاجتنبوا مجامعتهن)، وهو كقوله تعالى:(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ)[النساء: 23]، أي: نكاحهن، وفيه مبالغة، ولذلك وصف المحيض بالأذى، ورتب عليه الحكم بالفاء.

ص: 366

وبين الفقهاء خلاف في الاعتزال: فأبو حنيفة وأبو يوسف يوجبان اعتزال ما اشتمل عليه الإزار، ومحمد بن الحسن لا يوجب إلا اعتزال الفرج. وروى محمد حديث عائشة رضى اللَّه عنها: أنّ عبد اللَّه بن عمر سألها: هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت: تشدّ إزارها على سفلتها، ثم ليباشرها إن شاء، وما روى زيد بن أسلم: أنّ رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما يحلّ لي من امرأتى وهي حائض؟ قال: لتشدّ عليها إزارها، ثم شأنك بأعلاها، ثم قال: وهذا قول أبي حنيفة، وقد جاء ما هو أرخص من هذا ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وروى محمد حديث عائشة رضي الله عنها، وحديثها مذكور في "الموطأ" وفيه بدل "سفلتها":"أسفلها"، السافلة: المقعد والدبر، والسفلة، بكسر الفاء: قوائم البعير، من "الصحاح"، وحديث زيد بن أسلم أيضاً في "الموطأ".

قوله: (ثم شأنك بأعلاها)، النهاية: أي: استمتع بها فوق فرجها، فإنه غير مضيق عليك، "وشأنك": منصوب بإضمار "فعل"، ويجوز رفعه على الابتداء.

قوله: (وهذا قول أبي حنيفة)، يعني: روى محمد بن الحسن الحديث الثاني، ثم قال: وهذا قول أبي حنيفة، ثم ذكر محمد بن الحسن الحديث الثالث تقوية لمذهبه، ويجوز أن يكون "وقد جاء

" من كلام المصنف.

ص: 367

عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك. وقرئ: (يطهرن) بالتشديد، أي: يتطهرن، بدليل قوله:(فَإِذا تَطَهَّرْنَ)، وقرأ عبد اللَّه:(حتى يتطهرن) و (يطهرن) بالتخفيف، والتطهر: الاغتسال، والطهر: انقطاع دم الحيض، وكلتا القراءتين مما يجب العمل به، فذهب أبو حنيفة إلى أن له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل، وفي أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاةٍ كامل. وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه لا يقربها حتى تطهر وتتطهر فتجمع بين الأمرين. وهو قول واضح، ويعضده قوله:(فَإِذا تَطَهَّرْنَ) ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (شعار الدم)، المغرب: الشعار: العلامة، وشعار الدم: أي: الخرقة، أو: الفرج، على الكناية؛ لأن كلاً منهما علم للدم. وفيه أريد بشعار الدم: الخرقة والإزار، فعلى هذا إن أريد بالشعار الإزار فهو قول أبي حنيفة، وإن أريد به الفرج والكرسف فهو قول محمد، وفي قول محمد:"قد جاء ما هو أرخص من هذا" إشعار بأن المراد منا لشعار الكرسف والفرج.

قوله: (وقرئ: "يطهرن" بالتشديد) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص: بالتخفيف، والباقون: بالتشديد، وقراءة عبد الله: شاذة.

قوله: (وهو قول واضح)، أي: ظاهر الآية يدل عليه، فإن قوله:(فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) حكم مرتب على الوصف المناسب، فعلم أن الموجب كونه أذى، فإذا انتفى الأذى

ص: 368

(مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ): من المأتى الذي أمركم اللَّه به وحلله لكم؛ وهو القبل. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) مما عسى يندر منهم من ارتكاب ما نهوا عنه من ذلك، (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) المتنزهين عن الفواحش، أو إنّ اللَّه يحبّ التوّابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار، كمجامعة الحائض والطاهر قبل الغسل، وإتيان ما ليس بمباح، وغير ذلك. (حَرْثٌ لَكُمْ): مواضع حرثٍ لكم. وهذا مجاز، ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يجوز قربانهن، ثم قوله:(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) لابد له من فائدة زائدة على ذلك، فإذا أريد بالطهارة انقطاع الدم، كان تكريراً والمقام لا يقتضيه. فيجب حمله على الاغتسال، ويعضده قوله:(فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) فإنه بناءُ مبالغة يقتضي التطهر التام، والفاء نتيجة، أي: إذا حصل الطهارتان فلا تفعلوا ما هو أقذر من ذلك من الإتيان في أدبارهن، بل (فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) مما عسى يبدر منكم من القربان في المحيض، (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ): المجتنبين عن تلك الفاحشة المتنزهين عن الإتيان في الأدبار؛ لأنه فاحشة فيكون المشار إليه بقوله: "من ذلك" ما يفهم من قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)، والمراد بالمتطهرين: المجتنبون عن تلك الفاحشة، ويجوز العكس، ويجوز أن يكون المشار إليه النهيين المذكورين في الآية، ومعنى النهي في الثاني بناءً على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وعلى الوجه الآتي القرينتان، أعني التوابين والمتطهرين، علامتان كقوله أولاً:"التوبة من كل ذنب"، وثانياً:"المطهرين من جميع الأقذار" وهذا الوجه أنسب بالاعتراض الواقع بين البيان والمبين، وأدعى للمقام، ولذلك صرح بمجامعة الحائض والطاهر قبل الغسل وإتيان ما ليس بمباح.

قوله: (مما عسى يبدر منهم) بالياء والباء، وفي نسخة الصمصام: بالياء والنون.

الجوهري: بدرت منه بوادر غضب، أي: خطأ وسقطات عندما احتد، والبادرة: البديهة، بدرت إلى الشيء، أبدر إليه بدوراً، شرعت، وكذلك: بادرت إليه.

قوله: (مواضع حرث لكم، وهذا مجاز)، فإن قلت: هذا يوهم أن التشبيه مجاز وأن قوله

ص: 369

شبهن بالمحارث تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور. وقوله: (فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) تمثيل، أي: فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي: جهةٍ شئتم، لا يحظر عليكم جهة دون جهة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ): استعارة وليس به لورود المشبه والمشبه به في الكلام، فإن قوله:(نِسَاؤُكُمْ): مشبه، و (حَرْثٌ لَكُمْ): مشبه به، أي: نساؤكم كمواضع حرث لكم، والتشبيه حقيقة من الحقائق، فما القول فيه؟ قلت: أما على مذهب ابن الأثير فظاهر؛ لأن التشبيه عنده مجاز، وذلك أن إلحاق الناقص بالكامل لأجل المبالغة في قولك: زيد أسد، بدل: شجاع، تعدى اللفظ من مكانه الأصلي. أما عند المحققين فهو تشبيه بليغ كما مر، فإذن المراد بقوله:"هذا مجاز" أي: وضع (حَرْثٌ) موضع "مواضع حرث لكم" مجاز، نحو قوله تعالى:(وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ)[يوسف: 82]. وقوله: "شبهن بالمحارث": جملة مستأنفة، بيان للتركيب وصحة تشبيه النساء بمواضع الحرث؛ لأن قوله:"تشبيهاً لما يلقى في أرحامهن": مفعول مطلق، نحو: ضربت ضرب الأمير، يعني: شبهت النساء بالأراضي مثل ما شبهت النطف بالبذور، والظاهر أن يكون مفعولاً له؛ لأن الغرض من التشبيه ذلك.

فإن قلت: ما قولك في قوله: (فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) تمثيل، ثم قوله:"من الكنايات"؟

قلت: أما التمثيل فباعتبار المعاني المنتزعة من إتيان المرأة من أي جهة شاء بعد توخي موضع الحرث وتحري رضاء الله تعالى، مثل هذه الحالة بحالة الزارع الذي له أن يأتي أراضيه المملوكة للحرث من أي جهة شاء لا يمنعه مانع، فالوجه منتزع من عدة أمور متوهمة، وهو عدم الحرج والتضييق في الإتيان بعد أن يكون المقصد واحداً، وأما الكناية فباعتبار أخذ الزبدة والخلاصة من هذا المجموع.

قوله: (وقوله): مبتدأ، والمذكورات بعده مفعوله، وقوله:"من الكنايات": الخبر، أي:

ص: 370

والمعنى: جامعوهن من أي: شق أدرتم بعد أن يكون المأتى واحداً؛ وهو موضع الحرث. وقوله: (هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ)، (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)، (فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة، وهذه وأشباهها في كلام اللَّه آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها، ويتأدّبوا بها، ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم. وروي: أن اليهود كانوا يقولون: من جامع امرأته وهي مجبية من دبرها في قبلها؛ .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المذكورات الأربع كل واحد منها من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة، والتعريضات: عطف على الكنايات على سبيل البيان.

يعني أنها تعريضات واقعة على طريق الكناية، أما قوله:(هُوَ أَذًى) فكناية عن قوله: "شيء مستقذر" كما قدره؛ لأن المستقذرات مستلزمة للأذى، ووجه حسنها: أن المراد الاجتناب عنه، فيجب أن يكني بلفظ [لا] يوحش السامع كما سبق في قوله تعالى:(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)[البقرة: 187]، وأما قوله:(فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ) فهو كناية عن اجتناب قربانهن ومجامعتهن، ووجه حسنها: لفظ الاعتزال، فإنه يدل على التبعيد منهن لتناسب الأذى وإظهار لفظ النساء وتصريح المحيض، ورتب هذا الحكم على تلك الصفة، وأما قوله:(مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ) فكناية عن إتيانهن في قبلهن، ووجه حسنها: الإشعار بأن في المأمور به فوائد غير ما ورد الكلام له من طلب النسل، والتحصن وغير ذلك، قال الزجاج: أي: ولا تقربوهن وهن طامثات، ولا معتكفات، ولا صائمات، ولا محرمات. وفي تخصيص اسمه الأعظم في هذا المقام معان وحكم لا تحصى، وأما قوله:(فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فعلى ما سبق.

قوله: (وهي مجبية)، النهاية: في حديث جابر: كانت اليهود تقول: إذا نكح الرجل امرأته مجبية جاء الولد أحول، أي: منكبة على وجهها تشبيهاً بهيئة السجود، والرواية عن البخاري،

ص: 371

كان ولدها أحول، فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"كذبت اليهود" ونزلت. (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة، وما هو خلاف ما نهيتكم عنه. وقيل: هو طلب الولد. وقيل: التسمية على الوطء. (وَاتَّقُوا اللَّهَ) فلا تجترئوا على المناهي، (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ)؛ فتزوّدوا ما لا تفتضحون به، (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) المستوجبين للمدح والتعظيم بترك القبائح وفعل الحسنات. فإن قلت: ما موقع قوله: (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) مما قبله؟ قلت: موقعه موقع البيان والتوضيح لقوله: (فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)، يعني: أنّ المأتى الذي أمركم اللَّه به هو مكان الحرث؛ ترجمة له وتفسيراً، أو إزالة للشبهة، ودلالةً على أنّ الغرض الأصيل في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة، فلا تأتوهنّ إلا من المأتى الذي يتعلق به هذا الغرض.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومسلم، وأبي داود، والترمذي، عن جابر: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت (نِسَاؤُكُمْ).

قوله: (فتزودوا ما لا تفتضحون به)، يريد أن ذكر الملاقاة بعد ذكر التقوى مؤذن بأن المراد بقوله:(وَاتَّقُوا اللَّهَ) التقوى الذي ذكر في قوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة: 197]، ثم الوافد يحتاج في سفره إلى تقديم الوسيلة إلى من يقصد إليه، وإليه الإشارة بقوله:(وَقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ).

قوله: (ترجمة له وتفسيراً وإزالة للشبهة)، وفي أكثر النسخ:"أو إزالة"، وفي نسخة بولغ في تصحيحها بالواو، وهي منصوبة على أنها مفعول له لقوله:"يعني"، أو لقوله:"موقع البيان"، ويجوز أن تكون مفعولاً مطلقاً أو حالاً.

اعلم أن قوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) لما ورد بغير العاطف صلح أن يكون بياناً لقوله تعالى: (فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ)؛ لأنها تدل بمنطوقها على الموضع المبهم، ومن حيث

ص: 372

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مفهومها على شيئين آخرين لأن الأمر أن أحدهما: أن الأمر بإتيانهن قد يتوهم منه أن يكون لمجرد الشهوة، أو لطلب الولد، فبين بقوله:(نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الموضع الذي ينبغي أن يؤتى فيه، فأزيل طلب مجرد الشهوة، فإن الحرث مختص بالمكان الذي يتأتى فيه البذر والزرع، والحاصل أن من حق الظاهر أن توضح الكناية بالتصريح ليتبين المقصود ظاهراً، فبينت هذه الكناية بكناية أخرى، لتلك النكتة السرية، وليناط بها مسألتان على سبيل الإدماج، إحداهما: أن النساء كالأراضي، مملوكات للرجال. وثانيتهما: رفع الجناح عما كان يجتنبه اليهود من التجبية، ثم السر في جعل (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) اعتراضاً بين البيان والمبين، وتوكيداً لمضمونهما، وإيثار بناء الفعل في (الْمُتَطَهِّرِينَ) من التفعل، وإيقاع المحبة عليه، وتخصيص اسم الله الجامع بعد سبق ذكر الأذى والمحيض: للإعلام بتوخي تكلف الطهارة وتحري العروج من حضيض السفالة إلى يفاع مدارج قدس تجلي المحبة.

وفي "اللطائف القشيرية": إن الله يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين من العيوب، ويحب التوابين من الزلة المتطهرين من العلة. انظر أيها الناظر في كلام الله المجيد، المتأمل في دقيق إشاراته ولطيف لمحاته إلى هذه الرموز والتلويحات، لتعرف أن الحديث في الأذى والمحيض إذا اشتمل على هذه النكات، فما الظن في النبوات والإلهيات، والله أعلم. هذا على تقدير الواو، وأما على تقدير "أو" فلا ينبغي أن يجمع بين هذه المعاني، اللهم إلا أن يقال: إن "أو" للإباحة، كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين.

ص: 373

فإن قلت: ما بال (يَسْئَلُونَكَ) جاء بغير واو ثلاث مرات، ثم مع الواو ثلاثاً؟ قلت: كان سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرّقة، فلم يؤت بحرف العطف؛ لأنّ كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ، وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد؛ فجيء بحرف الجمع لذلك؛ كأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن الإنفاق، والسؤال عن كذا وكذا.

[(وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)].

العرضة: فعلة بمعنى مفعول، كالقبضة والغرفة، وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيعترض دونه ويصير حاجزاً ومانعاً منه. تقول: فلان عرضة دون الخير. والعرضة أيضاً: المعرض للأمر. قال:

فَلَا تَجْعَلُونِى عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بغير واو ثلاث مرات)، وهي:(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ)[البقرة: 219]، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى) [البقرة: 215]، (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) [البقرة: 217]، (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ) [البقرة: 219].

قوله: (ثم مع الواو ثلاثاً)، وهي:(وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ)[البقرة: 219]، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى) [البقرة: 220]، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ) [البقرة: 222]، فالثلاثة الأخيرة التي فيها الواو مع الأخير ما ليس فيه الواو، أعني قوله:(يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) كأنها جمعت، فلذلك قال:"يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر" إلى آخره.

قوله: (فيعترض) هو مطاوع: تعرضه.

قوله: (المعرض للأمر) أي: المنصوب له.

قوله: (فلا تجعلوني عرضة للوائم) أوله:

ص: 374

ومعنى الآية على الأولى: أنّ الرجل كان يحلف على بعض الخيرات؛ من صلة رحم أو إصلاح ذات بين أو إحسان إلى أحدٍ أو عبادة، ثم يقول: أخاف اللَّه أن أحنث في يمينى؛ فيترك البرّ إرادة البرّ في يمينه، ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دعوني أنح وجداً كنوح الحمائم

يقال: فلان عرضة للناس: لا يزالون يقعون فيه، وجعلت فلاناً عرضة لكذا: إذا نصبته له. الراغب: العرض: خلاف الطول، وأصله أن يقال في الأجسام ثم يستعمل في غيرها كما قال تعالى:(فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ) والعرض: خص بالجانب، وأعرض الشيء بدا عرضه، ومنه: عرضت العود على الإناء، واعترض الشيء في حلقه: وقف فيه بالعرض، والعرضة: ما يجعل معرضاً للشيء، قال:(وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ)، وبعير عرضة للسفر، أي: يجعل معرضاً له.

قوله: (ومعنى الآية على الأولى)، أي: على اللغة الأولى، وهي: أن يكون عرضة اسم ما تعرضه دون الشيء. قوله: "إذا حلفت على يمين"، الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. جعل المصنف قوله:"على يمين" بمعنى المحلوف عليه مجازاً، وقيل:"على يمين" معناه: ما يتعلق به اليمين، وهو من إقامة المصدر مقام المفعول، سمي المحلوف عليه يميناً، لأنها بمعنى الحلف، تقول: حلفت يميناً، كما تقول: حلفت حلفاً، يدل عليه قوله:"فرأيت غيرها خيراً"، أي: غير المحلوف عليه.

ص: 375

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال صاحب "النهاية": الحلف: هو اليمين، كما تقول: حلف يحلف حلفاً، وأصلها العقد بالعزم والنية، فخالف بين اللفظين، أي: حلف. "وعلى يمين" تأكيداً لعقده وإعلاماً أن لغو اليمين لا ينعقد، وعن النسائي، عن أبي موسى، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض يمين أحلف عليها فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيته"، فإنه لا يدل إلا على التأكيد؛ لأن "أحلف عليها": صفة مؤكدة "ليمين"، نحو: أمس الدابر لا يعود، أي: من حلف على حلف، كقول المتنبي:

أرق على أرقٍ ومثلي يأرق

والمعنى: من حلف يميناً جزماً لا لغواً، ثم بدا له أمر آخر إمضاؤه أفضل من إبرار يمينه، فليأت ذلك الأمر، ويكفر عن يمينه، وهو الذي عناه بقوله:"فيترك البر إرادة البر في يمينه"، صورته: ما روينا عن مسلم ومالك والترمذي، عن أبي هريرة: أن رجلاً حلف أن لا يأكل طعاماً قدم بين يديه، ثم بدا له فأكل، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:"من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها فليأتها، وليكفر عن يمينه".

ص: 376

فقيل لهم: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ)، أي: حاجزاً لما حلفتم عليه. وسمي المحلوف عليه يميناً؛ لتلبسه باليمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة:«إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك» أي: على شيءٍ مما يحلف عليه. وقوله: (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا) عطف بيانٍ لـ"أيمانكم"، أي: للأمور المحلوف عليها التي هي: البر والتقوى والإصلاح بين الناس. فإن قلت: بم تعلقت اللام في (لأيمانكم)؟ قلت: بالفعل، أي: ولا تجعلوا اللَّه لأيمانكم برزخاً وحجازاً، ويجوز أن يتعلق بـ (عُرْضَةً)؛ لما فيها من معنى الاعتراض، ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((أَنْ تَبَرُّوا): عطف بيان لـ "أيمانكم") بناءً على أن "أيمانكم" بمعنى المحلوف عليه، فإذن (أَنْ تَبَرُّوا) بمعنى: لأن تبروا. قال الزجاج: المعنى: لا تعترضوا باليمين بالله في أن تبروا [ومعنى الآية]: أنهم كانوا يعتلون في البر بأنهم قد حلفوا، أي: الإثم في الإقامة على ترك البر والتقوى، واليمين إذا كفرت فالذنب مغفور. وقال الإمام: المعنى: لا تجعلوا ذكر الله مانعاً بسبب هذه الأيمان عن فعل البر والتقوى، هذا أجود ما ذكره المفسرون.

قوله: (قلت: بالفعل): تقرير الجواب من وجهين، أحدهما: أن تكون اللام صلة، إما لقوله:(وَلا تَجْعَلُوا) أو لـ (عُرْضَةً)، فعلى الأول:(وَلا تَجْعَلُوا) متعد إلى ثلاثة مفاعيل لكن أحدها بالواسطة، وعلى الثاني إلى مفعولين، و"أيمانكم" على التقديرين بمعنى المحلوف عليه، و (أَنْ تَبَرُّوا): بيان له. وثانيهما: أن تكون اللام للتعليل، والأيمان على حقيقتها، ويؤيده قوله:"لأجل أيمانكم به"، ويرجع معنى (أَنْ تَبَرُّوا) إلى كونه إما مفعولاً ثالثاً لتجعلوا، أو متعلق أحد مفعولي جعلوا، وهو:"عرضة"، وإليه الإشارة بقوله:"شيئاً يعترض البر".

ص: 377

بمعنى: لا تجعلوه شيئاً يعترض البر، من: اعترضني كذا؛ ويجوز أن يكون اللام للتعليل، ويتعلق (أن تبروا) بالفعل، أو بالعرضة، أي: ولا تجعلوا اللَّه لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا. ومعناها على الأخرى: ولا تجعلوا اللَّه معرضاً لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به؛ ولذلك ذم من أنزل فيه (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)[القلم: 10] بأشنع المذامّ، وجعل "الحلاف" مقدّمتها- و (أن تبروا) علة للنهى، أي: إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا- لأن الحلاف مجترئ على اللَّه غير معظم له؛ فلا يكون براً متقياً، ولا يثق به الناس؛ فلا يدخلونه في وساطاتهم وإصلاح ذات بينهم. اللغو:

الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره؛ ولذلك قيل لما لا يعتد به في الدية من أولاد الإبل: لغو. واللغو من اليمين: الساقط الذي لا يعتدّ به في الأيمان، وهو الذي لا عقد معه، ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: إرادة أن تبروا) قيل: إنما قدر "إرادة" ليتحقق شرط حذف اللام، وهو المقارنة؛ لأن البر والتقوى والإصلاح لم تكن مقارنة للنهي، والأولى أن تقدر الإرادة لتكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل، وقيل: لا يحتاج إلى تقديرها، فإن حذف اللام على القياس المستمر، قال صاحب "المفتاح": الأصل في المفعول له اللام، فإذا لم يجتمع ما ذكرنا، أي: من الشروط، التزم الأصل إلا في نحو: زرتك أن تكرمني، وأن تحسن إلي.

قوله: (لأن الحلاف مجترئ على الله) علة لجعل الحلاف مقدمة المذام.

وقوله: ((أَنْ تَبَرُّوا): علة للنهي) إلى آخره: معترض بين العلة والمعلول، وقوله:"ولذلك ذم": علة معلل محذوف، المعنى: ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم فتبتذلوه؛ لأن تبروا وتتقوا، يعني: لأجل أن تكونوا أبراراً أتقياء يثق بكم الناس ويدخلونكم في وساطتهم، تبتذلون الله بكثرة الحلف به، وهذا من أشنع الأفعال، ولذلك ذم من أنزل فيه (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ) [القلم: 10]، وجعل الحلاف مقدمة المذام؛ لأن الحلاف مجترئ على الله تعالى، إلى آخره.

ص: 378

والدليل عليه: (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ)[المائدة: 89]، (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ)، واختلف الفقهاء فيه: فعند أبي حنيفة وأصحابه: هو أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه ثم يظهر خلافه، وعند الشافعي: هو قول العرب: لا واللَّه، وبلى واللَّه، مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف. ولو قيل لواحد منهم:

سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لأنكر ذلك، ولعله قال:"لا واللَّه" ألف مرة. وفيه معنيان: أحدهما: (لا يُؤاخِذُكُمُ الله) أي: لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم، ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ) في المائدة [89]، وقلت: وفي قوله: (بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ذلك المعنى أيضاً، وذلك أن الكسب يستعمل فيما يزاول باليد، كقوله تعالى:(كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)[الشورى: 30]، فاستعماله في القلب استعارة، فيفيد المبالغة. الراغب: قوله: (بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أعم من قوله: (بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ)، وذلك أن القلب لما كان يعبر به عن الجسد الذي به المعرفة والفكر، ويجري من سائر أجزائه مجرى الراعي من المرعي، نبه بقوله:(بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أن الاعتداد به دون غيره من الجوارح، حتى إن كل فعل لا يكون عنه وبه سهو أو خطأ متجاوز عنه، ولهذا ورد أن في الإنسان مضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد.

قوله: (في المسجد الحرام) فيه نكتة، يعني: الحلف مع انضمام ما يعد مغلظة لاعتبار المقام يعد في العرف لغواً.

قوله: (ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم)، يفهم من كلامه عدم المعاقبة على لغو اليمين،

ص: 379

أي: اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله، وهي اليمين الغموس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والمعاقبة على عقدها، ولا يفهم منه ثبوت الكفارة، قال في "البداية": الأيمان على ثلاثة أضرب: يمين الغموس، ويمين منعقدة، ويمين لغو، فاليمين الغموس: هو الحلف على أمر ماض يتعمد الكذب فيه، فهذه اليمين يأثم فيها صاحبها ولا كفارة فيها إلا التوبة، وقال الشافعي رضي الله عنه: فيها الكفارة، والمنعقدة: فالحلف على أمر في المستقبل أني فعله أو لا يفعله، وإذا حنث فيها لزمته الكفارة لقوله تعالى:(وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ)[المائدة: 89]، ويمين اللغو: أن يحلف على أمر ماض وهو يظن أنه كما قال والأمر بخلافه، فهذه اليمين نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها، قال في "حاشيتها": تجب الكفارة في الغموس عند الشافعي، وكذلك تجب الكفارة عندنا في اللغو المفسر بالتفسير الذي عند الشافعي، ويفهم من ذلك أنه لا تجب الكفارة عندهم في اللغو المفسر بتفسيرهم، وان عقد اليمين ليس على ما فسره المصنف من اليمين الغموس.

قوله: (وهي اليمين الغموس)، النهاية: وهي اليمين الكاذبة الفاجرة، كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره، سميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في الإثم أو في النار، وفعول: للمبالغة، وفي الحديث:"اليمين الغموس تذر الديار بلاقع".

ص: 380

والثاني: (لا يُؤاخِذُكُمُ) أي: لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه، ولكن يلزمكم الكفارة بما كسبت قلوبكم، أي: بما نوت قلوبكم وقصدت من الأيمان ولم يكن كسب اللسان وحده. (وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم.

[(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)].

قرأ عبد اللَّه: (آلوا من نسائهم)، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما:(يقسمون من نسائهم). فإن قلت: كيف عدي بـ"من"، وهو معدى بـ"على"؟ قلت: قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين، ويجوز أن يراد: .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولكن يلزمكم الكفارة بما كسبت قلوبكم) أي: قصدت من الأيمان، هذا المعنى هو الذي عناه صاحب "النهاية" في قوله:"من حلف على يمين"، أي: عقد بالعزم والنية، ويؤيده قوله في الحديث:"وكفر عن يمينك".

قوله: (آلوا من نسائهم)، فسر (يُؤْلُونَ) بالماضي لينبه على أن المراد بالمضارع هنا الاستمرار الشامل للأزمنة الثلاثة، بدليل قوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)[فاطر: 29].

ص: 381

لهم (مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، كقولك: لي منك كذا. والإيلاء من المرأة: أن يقول: واللَّه لا أقربك أربعة أشهر، فصاعداً، على التقليد بالأشهر، أو: لا أقربك على الإطلاق، ولا يكون في مادون أربعة أشهرٍ، إلا ما يحكى عن إبراهيم النخعي. وحكم ذلك: أنه إذا فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكنه، أو بالقول إن عجز؛ صح الفيء وحنث القادر ولزمته كفارة اليمين، ولا كفارة على العاجز، وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة عند أبي حنيفة، ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لهم (من نسائهم تربص)) من: لابتداء الغاية، قال أبو البقاء: اللام في (لِلَّذِينَ) متعلق بمحذوف وهو: الاستقرار، وهو خبر والمبتدأ:(تَرَبُّصُ)، وعلى قول الأخفش هو فعل وفاعل، وأما (مِن) فقيل: يتعلق بـ (يُؤْلُونَ)، يقال: آلى من امرأته وعلى امرأته، وقيل: الأصل: على، ولا يجوز أن يقام "من" مقام "على"، فعند ذلك تتعلق "من" بمعنى الاستقرار، وإضافة التربص إلى الأشهر إضافة المصدر إلى المفعول فيه في المعنى وهو مفعول به على السعة. وضع المصنف الضمير في "لهم" موضع الموصول مع صلتها في التنزيل ليظهر تعلق "من" بالجار والمجرور لا بالصلة.

قوله: (والإيلاء من المرأة: أن يقول)، الراغب: الإيلاء: الحلف المقتضي للتقصير في الأمر الذي يحلف عليه من قوله: (لا يَالُونَكُمْ خَبَالاً)[آل عمران: 118](وَلا يَاتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ)[النور: 22] وصار في الشرع: الحلف المانع من جماع المرأة.

قوله: (بانت بتطليقة عند أبي حنيفة) رضي الله عنه، في "الهداية": ولنا أنه ظلمها بمنع حقها فجازاه الشرع بزوال نعمة النكاح عند مضي هذه المدة.

ص: 382

وعند الشافعي: لا يصح الإيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر، ثم يوقف المولي فإما أن يفيء وإما أن يطلق، وإن أبى طلق عليه الحاكم. ومعنى قوله:(فَإِنْ فاؤُ): فإن فاؤوا في الأشهر، بدليل قراءة عبد اللَّه:(فإن فاؤوا فيهن)(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء، وهو الغالب، وإن كان يجوز أن يكون على رضا منهن إشفاقاً منهن على الولد من الغيل، أو ببعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة. (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) فتربصوا إلى مُضيِّ المدة. (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة. وعلى قول الشافعي رحمه الله، معناه:(فإن فاءو)، (وإن عزموا) بعد مضي المدة. فإن قلت: كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدّة التربص؟ قلت: موقع صحيح؛ لأن قوله: (فَإِنْ فاءُو)، .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعند الشافعي: لا يصح الإيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر). قال القاضي: المعنى: للمولي حق التلبث في هذه المدة فلا يطالب بفيء ولا طلاق، ويؤيده قوله:(فَإِنْ فَاءُوا) أي: رجعوا في اليمين بالحنث. وقال المصنف: "فإن فاءوا في الأشهر" ليكون موافقاً لمذهب أبي حنيفة، وأما قراءة عبد الله فمن الشواذ التي لم يذكرها ابن جني ولا الزجاج.

قوله: (من الغيل)، النهاية: الغيل: أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع، وكذلك إذا حملت وهي مرضع، وقد أغال الرجل وأغيل، والولد مغال ومغيل، واللبن الذي يشربه الولد يقال له: الغيل أيضاً.

قوله: (لأجل الفيئة) متعلق بقوله: "يغفر".

قوله: (وعلى قول الشافعي) عطف على قوله: "ومعنى قوله: (فَإِنْ فَاءُوا) ".

قوله: (كيف موقع الفاء؟ ) أي: الفاء تقتضي التعقيب والترتيب، فكيف يصح مذهب

ص: 383

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبي حنيفة، فإن الفيء وعزم الطلاق يصح عنده قبل مضي الأشهر الأربعة لا بعده؟ وأجاب: إن عطف قوله: (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) على قوله: (فَإِنْ فَاءُوا) يدل على أن كليهما كالتفصيل لما أجمل في قوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، والمفصل عن المجمل يتعقبه في الذكر لا الوجود، وأجاب الإمام: أن الفيء وعزم الطلاق مشروعان عقيب الإيلاء وعقيب حصول التربص، فلابد أن يكون مدخول الفاء واقعاً بعد هذين الأمرين، والمثال المذكور ليس منه؛ لأن الفاء مذكورة عقيب شيء واحد.

وقلت: المثال المذكور ليس منه؛ لأن الفاء مذكورة عقيب شيء واحد؛ لأن النزيل عند القوم لا يخلو حاله من هذين المعنيين، إما أنهم يراعون حقه أو يتركونه ولا يلتفتون إليه، ولا ثالث فيصح التفصيل، وأما في الآية فللمولي حالة ثالثة غير الفيء والطلاق، وهو التربص، فلا يكون التفصيل حاصراً، على أن التربص يدفعهما؛ لأن معناه: الانتظار والتوقف، كما في قوله تعالى:(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)[البقرة: 228]، فالواجب حمل الفاء على التعقيب مطلقاً.

قال صاحب "الانتصاف": ما قاله صاحب "الكشاف" في الفاء التفصيلية تفريع على مذهب أبي حنيفة، والسؤال لازم له، ويجوز أن يجاب عنه على مذهبه، فإن التربص هو: الانتظار، وذلك يصدق بالشروع فيه، فتقول لمن أمهلته: قد أجلتك أربعة أشهر، وتربصت بك أربعة أشهر، وإن لم يمض منها إلا دقيقة، فتكون الفاء واقعة في محلها حقيقة ولا يحتاج إلى حملها على المجاز.

وقلت: هو وإن أجرى الفاء على حقيقتها لكن جعل مدة تربص أربعة أشهر مجازاً من الشروع فيها، وعلى ما قررنا لا يلزم من ذلك شيء.

ص: 384

(وَإِنْ عَزَمُوا) تفصيل لقوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ)، والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول: أنا نزيلكم هذا الشهر، فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره، وإلا لم أقم إلا ريثما أتحوّل. فإن قلت: ما تقول في قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعزمهم الطلاق بما يعلم ولا يسمع؟ قلت: الغالب أن العازم للطلاق وترك الفيئة والضرار لا يخلو من مقاولة ودمدمة، ولا بد له من أن يحدّث نفسه ويناجيها بذلك، وذلك حديث لا يسمعه إلا اللَّه كما يسمع وسوسة الشيطان. (وَالْمُطَلَّقاتُ): أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (نزيلكم)، الجوهري: النزيل: الضيف، قال:

نزيل القوم أعظمهم حقوقاً

وحق الله في حق النزيل

قوله: (فإن أحمدتكم) أي: وجدتكم محمودين.

قوله: (ريثما أتحول)، النهاية: وفي الحديث: "فلم يلبث إلا ريثما قلت" أي: قدر ما قلت.

قوله: (ودمدمة). في الحواشي: الدمدمة: الكلام الخفي، وكذا الدندنة، ولم نجد في كتب اللغة الدمدمة في الميم، وفي "الصحاح": الدندنة: هي: أن يتكلم الرجل بالكلام تسمع نغمته ولا يفهم، وزاد صاحب "النهاية": وهو أرفع من الهينمة قليلاً. وكذا في "الفائق". الراغب: "دمدم عليهم ربهم" أي: أهلكهم وأزعجهم، وقيل: الدمدمة: حكاية صوت الهرة، ومنه دمدم فلان في كلامه.

ص: 385

فإن قلت: كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضى العموم؟ قلت: بل اللفظ مطلق في تناول الجنس ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بل اللفظ مطلق في تناول الجنس) أي: اللفظ شائع في جنسه مقيد ها هنا بقيدين. اعلم أن الجمع المحلى باللام يفيد العموم؛ لأن العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بوضع واحد، والمطلقات كذلك، لكن منع هنا مانع من الحمل عليه. قال الإمام: إنما يحسن تخصيص العام إذا كان الباقي بعد التخصيص أكثر، فإن العادة جارية في أن الثوب إذا كان الغالب عليه السواد يقال: إنه أسود، ولا يقال فيما إذا كان الغالب عليه البياض: إنه أسود، وهذه الآية من القسم الثاني، فإن "المطلقات" صالحة للمطلقات المدخولات ولغير المدخولات، ولذوات الأقراء ولذوات الأشهر وللحوامل، فأنتم أخرجتم عن عمومها أكثر الأقسام وتركتم الأقل، فإطلاق لفظ العام عليه غير لائق، وقال الأرموي في "الحاصل": مثال التقييد بالحكم قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). هذا وإن عند الحنفية على ما نقله البزدوي في "أصوله": دليل الخصوص مستقل بنفسه ومقارن للعموم، فيشبه الناسخ بصيغته؛ لأنه نص قائم بنفسه، ويشبه الاستثناء بمقارنته، حتى لو تراخى كان ناسخاً. وأيضاً، إن المطلق يوجب العمل بإطلاقه، فإذا صار مقيداً صار شيئاً آخر؛ لأن القيد والإطلاق ضدان لا يجتمعان، وإن التخصيص تصرف في النظم ببيان أن بعض الجملة غير مراد بالنظم مما يتناوله النظم، فالمخصص يتناول بعض العموم، والقيد لا يتناوله المطلق مطلقاً، فعلى هذا لا يجوز أن يكون (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وقوله:(وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) تخصيصاً للمطلقات، لأنهما ليستا جملتين مستقلتين، فتعين أن تكونا قيدين.

ص: 386

صالح لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك. فإن قلت: فما معنى الإخبار عنهن بالتربص؟ قلت: هو خبر في معنى الأمر. وأصل الكلام: وليتربص المطلقات، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً، ونحوه قولهم في الدعاء: رحمك اللَّه! أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة، فهو يخبر عنها. وبناؤه على المبتدأ، مما زاده أيضاً فضل تأكيد، ولو قيل: ويتربص المطلقات، لم يكن بتلك الوكادة. فإن قلت: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء، كما قيل:(تربص أربعة أشهر)؟ وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث؛ لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن؛ وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (صالح لكله وبعضه)، هذا هو الذي عناه صاحب "المفتاح": أن الحقيقة من حيث هي هي صالحة للتوحد والتكثر، والحكم بأحدهما يعرف بالقرينة، كاللفظ المشترك، وها هنا قامت القرينة على أنها المطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء.

قوله: (وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضاً فضل تأكيد). قال صاحب "المفتاح": سببه أن المبتدأ يستدعي أن يسند إليه شيء، فإذا جاء بعده ما يصلح أن يسند إليه صرفه المبتدأ إلى نفسه، فينعقد بينهما حكم، ثم إذا كان متضمناً لضميره صرفه إلى المبتدأ ثانياً فيكتسي الحكم قوة.

قوله: (فيحملهن على أن يتربصن)، الراغب: التربص: الانتظار بالشيء، سلعة يقصد بها الغلاء أو رخصاً، أو أمراً ينتظر زواله أو حصوله، يقال: لي ربصة بكذا أو تربص.

ص: 387

فأمرن أن يقمعن أنفسهن، ويغلبنها على الطموح، ويجبرنها على التربص. والقروء: جمع قرء أو قرء، وهو الحيض؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«دعي الصلاة أيام أقرائك» ، وقوله:«طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» ، ولم يقل: طهران، .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويغلبنها على الطموح)، الأساس: غلبته على الشيء: أخذته منه، وهو مغلوب عليه.

قوله: (بدليل قوله: "دعي الصلاة أيام أقرائك"، وقوله للأمة: "وعدتها حيضتان")، ما وجدتهما في "الأصول"، ومع هذا فهما معارضان بحديث ابن عمر رضي الله عنهما كما سيجيء، ويؤيده أيضاً ما روينا عن مالك، عن عائشة رضي الله عنها:"أتدرون ما الأقراء؟ هي الأطهار"، وقال مالك: قال ابن شهاب: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحداً من فقهائنا إلا هو يقول ما قالت عائشة، وأما الآية فلا تصح للدليل.

ص: 388

وقوله تعالى: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ)[الطلاق: 4]، فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار؛ ولأن الغرض الأصيل في العدة استبراء الرحم، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر؛ ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة. ويقال: أقرأت المرأة؛ إذا حاضت، وامرأة مقرئ. وقال أبو عمرو بن العلاء: دفع فلان جاريته إلى فلانة تقرئها، أي: تمسكها عندها حتى تحيض للاستبراء. فإن قلت: فما تقول: في قوله تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)[الطلاق: 1]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مقام الحيض دون الأطهار)، وذلك أن قوله:(إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ)[الطلاق: 4] إرشاد إلى إزالة الارتياب الحاصل بسبب اليأس من الحيض، فيجب حمل (فَعِدَّتُهُنَّ) على ما يزيل الارتياب، وهو وجود الحيض دون الطهر، يدل عليه قوله في تفسيرها:"فمعنى (إِنْ ارْتَبْتُمْ): إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن، فهذا حكمهن". وجوابه: أنا وإن كنا قائلين بأن العدة بالأطهار، لكنا لا نقول: إن الحيض ليس بأمارة لمعرفة الأطهار، فاللبس ها هنا في العدة لرفع علامتها.

وقوله: (والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر)، قال القاضي: إن القرء يطلق للحيض وللطهر الفاصل بين الحيضتين، وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض، وهو المراد به في الآية؛ لأنه هو الدال على براءة الرحم، لا الحيض كما قالت الحنفية.

قوله: ((فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ))، وتوجيهه: أن اللام للوقت، أي: في وقت عدتهن، قال تعالى:(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)[الأنبياء: 47]، أي: في وقت القيامة، و (أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء: 78] أي: وقد دلوكها، وهذا الوقت لا ينبغي أن يكون وقت الحيض؛ لأن الطلاق فيه منهي عنه لما روينا في "صحيحي البخاري ومسلم" و"الموطأ"

ص: 389

والطلاق الشرعي إنما هو في الطهر؟ قلت: معناه: مستقبلات لعدتهن، ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

و"سنن أبي داود" و"الترمذي" و"النسائي" و"الدارمي" و"ابن ماجة"، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ منه ثم قال:"ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله".

قوله: (معناه: مستقبلات لعدتهن)، فإن أيد بما روينا بالإسناد المذكور في حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ (وطلقوهن) في قبل عدتهن، قلنا: هذا عليه لا له، قال الإمام: معناه: فطلقوهن بحيث يحصل الشروع في العدة عقيبه والإذن بالتطليق في جميع زمان الطهر، فوجب أن يكون الطهر الحاصل عقيب زمان التطليق من العدة. تقريره: أن العدة عبارة عن: الزمان الذي تتربص فيه المرأة بعد الفراق، وله مبتدأ ومنتهى، ومبدأه عقيب حصول الفراق، سواء كان طهراً أو حيضاً، وتعيينه بدليل خارجي، بدليل أن ابن عمر رضي الله عنهما لم يفهم من معنى الآية المراد حتى بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"فتلك العدة كما أمر الله".

وقال محيي السنة: فائدة الخلاف تظهر في أن المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها عند من يجعل القرء طهراً، وعند من يجعله حيضاً لا تنقضي العدة حتى تنقضي الحيضة الثالثة، قالت عائشة رضي الله عنها: إذا طعنت المعتدة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه

ص: 390

كما تقول: لقيته لثلاث بقين من الشهر، تريد مستقبلا لثلاث، وعدتهنّ الحيض الثلاث ........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبرئ منها. ومن يجعلها حيضاً يقول: لا تنقضي عدتها ما لم تطهر من الحيضة الثالثة. قال الزجاج: في هذا مذهب آخر، قال أبو عبيدة: القرء يصلح للحيض وللطهر، وقال: أظنه من أقرأت النجوم: إذا غابت، وكذا عن يونس، وقال الزجاج: والذي عندي: أن القرء في اللغة: الجمع، يقال: قريت الماء في الحوض، وقرأت القرآن، أي: لفظت به مجموعاً، فالقرء: اجتماع الدم في البدن، فيكون في الطهر، ويجوز اجتماعه في الرحم، فعلى هذا القرء مشترك معنوي.

قوله: (لثلاث بقين من الشهر). قال الحريري في "درة الغواص": ومن أوهامهم في باب التاريخ أنهم يؤرخون لعشرين ليلة خلت ولخمس وعشرين خلون، ولاختيار أن يقال: من أول الشهر إلى منتصفه: خلت وخلون، وأن يستعمل في النصف الثاني: بقيت وبقين، على أن العرب تختار أن تجعل النون للقليل والتاء للكثير، فيقولون: لأربع خلون، وإحدى عشرة خلت، ولهم اختيار آخر أيضاً، وهو أن يجعل ضمير الجمع الكثير الهاء والألف، وضمير الجمع القليل الهاء والنون المشددة، كما نطق به القرآن في قوله تعالى:(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التوبة: 36]، فجعل ضمير الأشهر الحرم الهاء والنون لقلتهن، وضمير شهور السنة الهاء والألف لكثرتها.

ص: 391

فإن قلت: فما تقول في قول الأعشى:

لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فما تقول في قول الأعشى)، توجيهه أن يقال: لزمك من تفسيرك لقوله تعالى: (لِعِدَّتِهِنَّ) بقولك: "مستقبلات لعدتهن" أن تقول في قول الأعشى:

أفي كل عام أنت جاشم غزوة

مستقبلاً للذي ضاع من حيض نسائك، والحيض لا توصف بالضياع؛ لأنهن لا يجامعن فيها، وإنما يوصف بها الطهر؟ وأجاب:"بأن القرء في البيت مستعار لطول المدة"، لكن بمرتبتين، ففي المرتبة الأولى هو مجاز من العدة لقوله:"من عدة نسائك"، ثم المراد من العدة لازمها، وهو طول المدة، يدل عليه إيقاع قوله:"أي: من مدة طويلة" تفسيراً له، ولما شرط في المجاز- الذي هو في المرتبة الأولى- أن يكون مشهوراً بالغاً مبلغ الحقيقة في التبادر إلى الذهن، قال:"لشهرة القروء عندهم في الاعتداد بهن"، وفيه تعسف، إذ العدول إلى المجاز إنما يصار إليه إذا انتهض الصارف، وقد تقرر أن اللفظ مشترك يحتاج في إرادة أحد معنييه إلى القرينة، وها هنا قامت القرينة على إرادة الطهر، فلا يجوز العدول عنه، وأما جوابه الثاني فهو أقرب من الأول. قال الزجاج: ذكر أبو عمرو بن العلاء أن القرء: الوقت، وهو يصلح للحيض والطهر، يقال: هذا قارئ الرياح: لوقت هبوبها، وأنشدوا:

شنئت العقر، عقر بني شليل

إذا هبت لقارئها الرياح

ص: 392

قلت: أراد: لما ضاع فيها من عدّة نسائك لشهرة القروء عندهم في الاعتداد بهن، أي: من مدّةٍ طويلةٍ كالمدة التي تعتد فيها النساء؛ استطال مدة غيبته عن أهله كل عام؛ ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: لوقت هبوبها وشدة بردها، لكن لابد من التخصيص ها هنا بالأطهار؛ لأن الشاعر يخاطب غازياً لا يبرح في تقحم الأهوال وتجشم الأفزاع والشدائد، يطلب المال والجاه ويترك مغازلة النساء ومعاشرتهن والتلذذ بغشيانهن، وذلك لا يستقيم في سائر الأوقات، فيلزم تخصيص الأوقات بزمان الطهر، وأنشد في مبدأ المعنى، وقيل: إنه لجاهلي:

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم

دون النساء ولو باتت بأطهار

قوله: (لما ضاع فيها) أوله في "معالم التنزيل":

أفي كل عام أنت جاشم غزوة

تشد لأقصاها عزيم عزائكا

مؤثلة مالاً، وفي الحي رفعة

لما ضاع فيها من قروء نسائكا

ويروى: مورثة، جشمت الأمر أجشمه جشماً، وتجشمته: إذا تكلفته، يقال: عزمت على كذا عزماً وعزيمة وعزيماً: إذا أردت فعله، والعزاء: الصبر، يقال: عزيته تعزية فتعزى. هو يقول: أتكلف نفسك كل عام غزوة تشد لأبعدها وأشقها عزيمة الصبر لتكثر المال وتزيد الرفعة في الحي لما يضيع في تلك الغزوة من أطهار نسائك، واللام في "لما" كما في قوله تعالى:(لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً)[القصص: 8].

فإن قلت: الهمزة في البيت للإنكار، ثم تصريح الخطاب "بأنت" والمواجهة بقوله:"نسائكا" بعيد عن مقام المدح؟ قلت: بل الشاعر ما اكتفى من المبالغات بما ذكرت، بل قدم الظرف والفاعل المعنوي على عاملهما ليدل على تخصيص عموم الأحوال، وقصره على المخاطب، ثم بالغ في الغزوة حيث أتبعها بقوله:"لأقصاها" تتميماً لها، واستعار حرف الترتب،

ص: 393

لاقتحامه في الحروب والغارات، وأنه يمرّ على نسائه مدة كمدة العدة ضائعة لا يضاجعن فيها، أو أراد: من أوقات نسائك، فإنّ القرء والقارئ جاء في معنى الوقت، ولم يرد لا حيضاً ولا طهراً. فإن قلت: فعلام انتصب (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)؟ قلت: على أنه مفعول به، كقولك: المحتكر يتربص الغلاء، أي: يتربصن مضيّ ثلاثة قروء، أو على أنه ظرف، أي: يتربصن مدة ثلاثة قروء. فإن قلت: لم جاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء؟ قلت: يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر؛ ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو اللام في قوله: "لما ضاع" لما لا ترتب له، كل هذه المبالغات؛ إعلاماً بأن المدح بلغ نهايته وغايته، ورجع المعنى إلى قولك للشجاع: قاتلك الله ما أشجعك! وقول عروة:

رمى الله في عيني بثينة بالقذى

وفي الغر من أنيابها بالقوادح

قال القتيبي في "طبقات الشعراء": اسم أعشى: ميمون بن قيس، جاهلي أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخرج إليه يريد الإسلام، فلقيه أبو سفيان فأخبره أنه يحرم عليك ثلاثاً كلها موافق لك: الزنا والخمر والقمار، فقال: أما الزنا فهو الذي تركني، وأما الخمر فتركتها، وأما القمار فلعلي أصيب منه خلفاً، قال: أو خير من هذا؟ نجمع لك مئة ناقة حمراء فتنصرف بها إلى أهلك، فقال لقريش: هذا الأعشى قد تعرفون شعره، والله لئن صبأ لتصبون العرب قاطبة، فلما قبض الإبل ورجع رماه في طريقه بعيره فقتله.

قوله: (يتسعون في ذلك). قال الحريري في "الدرة": المعنى: لتتربص كل واحدة من المطلقات ثلاثة أقراء، فلما أسند على جماعتهن (ثَلَاثَةَ)، فالواجب على كل واحدة منهن ثلاثة،

ص: 394

لاشتراكهما في الجمعية، ألا ترى إلى قوله:(بِأَنْفُسِهِنَّ)؟ وما هي إلا نفوس كثيرة، ولعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الأقراء فأوثر عليه؛ تنزيلاً للقليل الاستعمال منزلة المهمل، فيكون مثل قولهم: ثلاثة شسوع. وقرأ الزهري: (ثلاثة قرو) بغير همزة. (ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) من الولد، أو من دم الحيض؛ وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع؛ ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض: قد طهرت؛ استعجالاً للطلاق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أتى بلفظة (قُرُوءٍ) لتدل على الكثرة المرادة والمعنى الملموح. وقال القاضي: ولعل الحكم لما عم المطلقات ذوات الأقراء تضمن معنى الكثرة، فحسن بناؤها، وقلت: ومثل هذا المعنى ذكر المصنف في تفسير قوله: (لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)[الأنفال: 51].

قوله: (ينتظر بطلاقها)، قيل: الباء في "بطلاقها" للتعدية، وموضع "أن تضع": جر بالخافض من المضمر، أي: يؤخر طلاقها للوضع، أو: إلى الوضع، والظاهر أن تكون الباء سببية، "وأن تضع": مفعول ينتظر.

قوله: (أو كتمت): عطف على "فكتمت"، وهما نشر لقوله:"من الولد، أو: من دم الحيض"، قال الزجاج: قوله تعالى: (أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) بالولد أشبه؛ لأن ذكر الأرحام مؤذن به لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ)[آل عمران: 6]، قال الإمام: الحيض خارج من الرحم لا مخلوق في الرحم.

ص: 395

ويجوز أن يراد اللاتي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة، فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه. (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تعظيم لفعلهن، وأن من آمن باللَّه وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم. والبعول: جمع بعل، والتاء لاحقة لتأنيث الجمع، كما في الحزونة والسهولة، ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر، من قولك: بعل حسن البعولة، يعني: وأهل بعولتهن (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ): برجعتهن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجحدنه لذلك)، أي: للإسقاط، قال الإمام: قوله: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) كلام مستأنف مستقل بنفسه من غير أن يرد إلى ما تقدم، فيجب حمله على كل ما يخلق في الرحم، وعنى بقوله:"مستأنف مستقل" أنه تذييل للكلام السابق.

قوله: (وأن من آمن بالله): عطف تفسيري على قوله: ""تعظيم لفعلهن" يعني: ارتكبن أمراً عظيماً، وإنما نشأ التعظيم من لفظة (إِن)، حيث شكك الناس في إيمانهن، وأدخلهن في زمرة الذين لا يرجح إيمانهم على كفرهم تغليظاً، وإليه الإشارة بقوله: "من آمن لا يجترئ على مثله"، كقوله تعالى:(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 97] أي: لا يترك الحج وله استطاعة بعد هذا البيان إلا من قرب إلى الكفر.

قوله: (والتاء لاحقة لتأنيث الجمع)، الراغب: البعل: النخل الشارب بعروقه، وعبر به عن الزوج لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص، وقيل: باعلها، كقولك: جامعها، وبعل الرجل: إذا دهش فأقام مكانه كالنخل الذي لا يبرح، وبهذا النظر قيل لمن لا يحول عن مكانه: ما هو إلا شجر أو حجر.

ص: 396

وفي قراءة أبٌيّ: (بردّتهن)(فِي ذلِكَ): في مدة ذلك التربص. فإن قلت: كيف جُعلوا أحق بالرجعة، كأن للنساء حقاً فيها؟ قلت: المعنى أنّ الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها، وكان هو أحق منها، لا أن لها حقاً في الرجعة. (إِنْ أَرادُوا) بالرجعة (إِصْلاحاً) لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن، ولم يريدوا مضارّتهنّ. (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ) ويجب لهنّ من الحق على الرجال مثل الذي يجب لهم عليهنّ، (بِالْمَعْرُوفِ) بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس، فلا يكلفنهم ما ليس لهنّ، ولا يكلفونهنّ ما ليس لهم، ولا يعنف أحد الزوجين صاحبه. والمراد بالمماثلة مماثلة الواجبِ الواجبَ في كونه حسنةً، لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال. (دَرَجَةٌ) زيادة في الحق وفضيلة. قيل المرأة تنال من اللذة ما ينال الرجل، وله الفضيلة بقيامه عليها وإنفاقه في مصالحها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: وقال الزجاج: بعوله: جمع بعل، كذكر وذكورة وعم وعمومة، والهاء: زيادة مؤكدة لمعنى تأنيث الجماعة، وهذه الأمثلة سماعية لا قياسية، فلا نقول في كعب: كعوبة.

قوله: (لا أن لها حقاً في الرجعة) يشير إلى أن تسمية إباء المرأة بالرجعة للتأييس، إما للتغليب أو المشاكلة، أو من باب: الصيف أحر من الشتاء، وذلك أن الشارع أبغض المفارقة وأحب الموافقة، فكان طلب الرجعة من البعولة أبلغ في بابه من طلب الفرقة من المرأة، روينا عن أبي داود، عن محارب بن دثار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق"، وفي رواية قال:"أبغض الحلال إلى الله الطلاق". وعن الترمذي وأبي داود، عن

ص: 397

[(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَاخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)].

(الطَّلاقُ) بمعنى التطليق، كالسلام بمعنى التسليم، أي: التطليق الشرعي تطليقةٌ بعد تطليقةٍ .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة"، فعلى هذا يمكن أن يحمل أفعل على مطلق الزيادة، روماً للمبالغة، فلا يتصور من جانب المرأة شيء من الطلب، كأنه قيل: حقيق على البعولة ردهن واي حقيق؛ لأن الله تعالى يبغض المفارقة، كقولك: الله أكبر في أحد وجهيه، وسيجيء تقريره في سورة "الزمر" مستوفى إن شاء الله تعالى. قال القاضي: الضمير في (بُعُولَتُهُنَّ) أخص من المرجوع إليه ولا امتناع فيه، كما لو كرر الظاهر، أي: كما أن إعادة الظاهر لا تخصص العام المقدم لكونها شيئاً واحداً، كذا الضمير لأنه بمنزلة الظاهر.

قوله: ((الطَّلاقَ) بمعنى التطليق)، ولذلك قوبل بقوله:(أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، الراغب: التسريح كالتطليق في أنه من: سرحت الماشية، كما أن الطلاق من أطلقت البعير، والمعروف ما لا تنكره العقول الصحيحة، وسمي الجود معروفاً لمعرفة العقول كلها حسنة، وعلى هذا قول الشاعر:

ص: 398

على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدةً، ولم يرد بالمرتين التثنية، ولكن التكرير، كقوله:(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)[الملك: 4] أي: كرّةً بعد كرّةٍ، لا كرّتين اثنتين، ونحو ذلك من التثاني التي يراد بها التكرير: قولهم: لبيك، وسعديك، وحنانيك، وهذاذيك، ودواليك. وقوله تعالى:(فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) تخيير لهم ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولم أر كالمعروف أما مذاقه

فحلو، وأما وجهه فجميل

فإن قيل: كيف علق التسريح بالإحسان، وهل بينه وبين المعروف فرق؟ قيل: الإحسان أعم معنى من المعروف؛ لأن الشيء قد يكون معروفاً غير منكر ولا يكون مستحسناً، فكل إحسان معروف، وليس كل معروف إحساناً، وبين أن من حق المسرح أن يبذل ما يزيد على الإنصاف تبرعاً، وذلك على حسب ما كانوا يراعون في بذل فضل المعروف لمن يرتحل عنهم.

قوله: (على التفريق)، أي: يطلق في قرء طلقة ثم في آخر أخرى إلى الثالثة، لا أن يطلق في قرء واحد ثلاثاً.

قوله: (من التثاني)، الجوهري: ثنيت الشيء ثنياً: عطفته، وثنيته تثنية، أي: جعلته اثنين.

قوله: (لبيك)، قال ابن السكيت: هو من الب بالمكان: أقام به ولزمه، قال الجوهري: وكان من حقه أن يقال: لباً لك، لكنه ثني على معنى التأكيد، أي: إقامة على طاعتك بعد إقامة، و"سعديك" أي: إسعاداً لك بعد إسعاد، وحنانيك أي: رحمةَ بعد رحمة، يعني كلما كنت في رحمة اتصلت برحمة أخرى، وهذاذيك، أي: قطعاً بعد قطع، ودواليك: مداولة بعد مُداولة، أو: دال لك الأمر دوالاً بعد دوال، من: دالت لك الدولة.

ص: 399

بعد أن علمهم كيف يطلقون بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بمواجبهنّ، وبين أن يسرحوهنّ السراح الجميل الذي علمهم. وقيل: معناه الطلاق الرجعى مرّتان؛ لأنه لا رجعة بعد الثلاث. (فإمساك بمعروف) أي: برجعة، (أو تسريح بإحسان)، أي: بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدّة، أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها. وقيل: بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث. وروي: أنّ سائلاً سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أين الثالثة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أو تسريح بإحسان). وعند أبي حنيفة وأصحابه: الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهرٍ لم يجامعها فيه؛ لما روي في حديث ابن عمر: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً فتطلقها لكل قرء تطليقة» ، وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث؛ لحديث العجلاني الذي لاعن امرأته فطلقها ثلاثاً بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بعد أن علمهم) فيه تقديم وتأخير؛ لأن الأصل تخيير لهم بين أن يمسكوا النساء بعد أن علمهم وبعد أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم، ومعنى "بعد" مستفاد من الفاء في قوله:(فَإمْسَاكٌ).

قوله: (وقيل: معناه الطلاق الرجعي) عطف على قوله: "أي: التطليق الشرعي". فاللام على الأول: للجنس، والمراد بقوله:(مَرَّتَانِ) التكرير، وعلى هذا: للعهد، والمعهود: ما علم من قوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) أي: برجعتهن.

قوله: (لحديث العجلاني)، ذكر الحميدي عن الشيخين، عن سهل بن سعد الساعدي، "أن عويمراً العجلاني قال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد نزل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها"، قال

ص: 400

وروي: أنّ جميلة بنت عبد اللَّه بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها، فأتت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه، لا أنا ولا ثابت، لا يجمع رأسي ورأسه شيء، واللَّه ما أعيب عليه في دينٍ ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، ما أطيقه بغضاً إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة؛ فإذا هو أشدهم سواداً، .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سهل: فتلاعنا، فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين، وفي رواية ابن جريج: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد، وقال بعد قوله: فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ذاكم التفريق بين كل متلاعنين" ورواه صاحب "الجامع"، عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود والنسائي، مع اختلافات فيه. وأما حديث ثابت فقد ذكره الأئمة بروايات شتى وليس فيها:"إني رفعت جانب الخباء" إلى قوله: "وأقبحهم وجهاً"، بل فيه الحديث:"إن ثابتاً ضربها فكسر يدها".

قوله: (لا أنا ولا ثابت) أي: لا أجمع أنا وثابت، وفي رواية البخاري والنسائي:"ما أعتب" بالتاء المنقوطة من فوق.

قوله: (أكره الكفر) أي: كفر العشير، أي الزوج، النهاية: في الحديث: "أكثر أهلها

ص: 401

وأقصرهم قامةً، وأقبحهم وجهاًَ فنزلت. وكان قد أصدقها حديقةً فاختلعت منه بها. وهو أوّل خلع كان في الإسلام. فإن قلت: لمن الخطاب في قوله: (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَاخُذُوا)؟ إن قلت: للأزواج لم يطابقه قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ)، وإن قلت: للأئمة والحكام؛ فهؤلاء ليسوا بآخذين منهن ولا بمؤتيهن. قلت: يجوز الأمران جميعاً؛ أن يكون أوّل الخطاب للأزواج، وآخره للأئمة والحكام، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره، وأن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام؛ لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم، فكأنهم الآخذون والمؤتون. (مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ): مما أعطيتموهنّ من الصدقات، (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ): إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود اللَّه فيما يلزمهما من مواجب الزوجية؛ لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما): على الرجل فيما أخذ، ولا عليها فيما أعطت، (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر. والخلع بالزيادة على المهر مكروه؛ وهو جائز في الحكم. وروي: أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر رضى اللَّه عنه، فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليالٍ ثم دعاها، فقال: كيف وجدت مبيتك؟ قالت: ما بت منذ كنت عنده أقرّ لعيني منهن. فقال لزوجها: اخلعها ولو بقرطها. قال قتادة: يعني بمالها كله ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النساء لكفرهن"، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: "لا، ولكن يكفرن الإحسان، ويكفرن العشير" أي يجحدن إحسان أزواجهن.

قوله: (لم يطابقه قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ)؛ لأن الخطاب فيه للأئمة والحكام.

قوله: (ولو بقرطها)، فيه تلميح، وقال الميداني: أصل المثل: خذه ولو بقرطي مارية، وهي مارية بنت ظالم، وأختها هند الهنود امرأة حجر آكل المرار الكندي، قال أبو عبيد: هي أم ولد جفنة، يقال: إنها أهدت إلى الكعبة قرطيها وعليهما درتان كبيضتي حمام لم ير الناس مثلهما، يضرب في الشيء الثمين، أي: لا يفوتنك بأي ثمن يكون.

ص: 402

هذا إذا كان النشوز منها، فإن كان منه كره له أن يأخذ منها شيئاً. وقرئ:(إلا أن يخافا) على البناء للمفعول وإبدال (ألا يقيما) من ألف الضمير، وهو من بدل الاشتمال، كقولك: خيف زيد تركه إقامة حدود اللَّه، ونحوه:(وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)[الأنبياء: 3]، ويعضده قراءة عبد اللَّه:(إلا أن تخافوا)، وفي قراءة أبىّ (إلا أن يظنا)، ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن، يقولون: أخاف أن يكون كذا، وأفرق أن يكون، يريدون أظن. (فَإِنْ طَلَّقَها) الطلاق المذكور الموصوف بالتكرار في قوله تعالى:(الطَّلاقُ مَرَّتانِ)، واستوفى نصابه؛ أو فإن طلقها مرةً ثالثةً بعد المرّتين (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) من بعد ذلك التطليق (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ): حتى تتزوّج غيره. والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل، كما التزوج. ويقال: فلانة ناكح في بنى فلان. وقد تعلق من اقتصر على العقد في التحليل بظاهره، وهو سعيد ابن المسيب، والذي عليه الجمهور أنه لا بد من الإصابة؛ لما روى عروة عن عائشة رضي الله عنها: أنّ امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "إلا أن يخافا"، على البناء للمفعول)، قرأها حمزة وأبو جعفر ويعقوب، أي: يعلم ذلك منهما إما القاضي أو الوالي، يؤيده قوله:(فَإِنْ خِفْتُمْ).

قوله: (أو: فإن طلقها مرة ثالثة) هذا إشارة على الوجه الثاني، وقوله:"فإن طلقها الطلاق المذكور" إلى الوجه الأول في تفسير قوله: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ). قال القاضي: (فَإِنْ طَلَّقَهَا): متعلق بقوله: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)، وتفسير لقوله:(أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) اعترض بينهما ذكر الخلع دلالة على أن الطلاق يقع مجاناً تارة وبعوض أخرى، والمعنى: فإن طلقها بعد الثنتين (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

قوله: (أن امرأة رفاعة) الحديث أخرجه الشيخان وغيرهما مع اختلاف فيه، وعبد الرحمن ابن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء.

ص: 403

فقالت: إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوّجني، وإنما معه مثل هُدبة الثوب، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ ! لا حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك". وروي: أنها لبثت ما شاء اللَّه ثم رجعت فقالت: إنه كان قد مسني. فقال لها: "كذبت في قولك الأوّل فلن أصدّقك في الآخر"، فلبثت حتى قبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأتت أبا بكر رضى اللَّه عنه فقالت: أرجع إلى زوجي الأوّل؟ فقال: قد عهدت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال، فلا ترجعي إليه. فلما قبض أبو بكر رضى اللَّه عنه قالت مثله لعمر رضى اللَّه عنه فقال: إن أتيتينى بعد مرّتك هذه لأرجمنك، فمنعها. فإن قلت: فما تقول في النكاح المعقود بشرط التحليل؟ قلت: ذهب سفيان والأوزاعي وأبو عبيدٍ ومالكٌ وغيرهم إلى أنه غير جائز، وهو جائزٌ عند أبى حنيفة مع الكراهة.

وعنه: أنهما إن أضمرا التحليل ولم يصرحا به فلا كراهة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لعن المحلل والمحلل له. وعن عمر رضي الله عنه: لا أوتى بمحللٍ ولا محلل له إلا رجمتهما. وعن عثمان رضي الله عنه: لا، إلا نكاح رغبةٍ غير مدالسة .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عسيلته)، النهاية: شبه لذة الجماع بذوق العسل، فاستعار لها ذوقاً، وإنما أنث لأنه أراد "قطعة" من العسل، وقيل: على إعطائها معنى النطفة، وقيل: العسل في الأصل يذكر ويؤنث، وإنما صغره لأنه أشار إلى القدر القليل الذي يحصل به الحل. قال الزجاج: إنما فعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل، فحرم عليهم التزوج بعد الثلاث لئلا يعجلوا بالطلاق وأن يتثبتوا.

قوله: (لا إلا نكاح رغبة) أي: لا أجور.

قوله: (غير مدالسة) أي: مخادعة.

ص: 404

(فَإِنْ طَلَّقَها) الزوج الثاني (أَنْ يَتَراجَعا): أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج (إِنْ ظَنَّا): إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية. ولم يقل: إن علما أنهما يقيمان؛ لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا اللَّه عز وجل، ومن فسر الظن هاهنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى؛ لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن: علمت أنه يقوم؛ ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنما يظن ظناً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومن فسر الظن ها هنا بالعلم فقد وهم). قال الواحدي: (إن ظَنَّا) أي: علما وايقنا، قال محيي السنة:(ظَنَّا) أي: علما، وقيل: رجوا؛ لأن أحداً لا يعلم ما هو كائن إلا الله.

قوله: (وَهِمَ) أي: غلط، الجوهري: يقال: وهمت في الحساب- بالكسر- أوهم وهماً: إذا غلطت فيه وسهوت، ووهمت في الشيء، بالفتح أهم وهماً: إذا ذهب وهمك إليه وأنت تريد غيره.

قوله: (لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد) إشارة إلى بيان الخطأ من طريق اللفظ، وإنما لم يجز هذا لأن "أن" الناصبة للفعل المستقبل تنافي التحقيق، وعلمت: للتحقيق.

قوله: (ولكن علمت أن يقوم)، وإنما جاز هذا لأن "علمت" للتحقيق ناسب أن يليها "أن" التي هي للتحقيق ليدل على أن اسمها وخبرها واقعان، فلو لم يكن الفعل الذي قبلها محققاً يحصل تضاد، وجاز: ظننت أن تقوم، على أن تكون غير ناصبة، ليتناسبا في عدم التحقيق، في "الإقليد".

وقال صاحب "الكشف": هذه الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يكونل ليقين والثبات، نحو: علمت وتيقنت، وفعل يكون في الاستقبال وقوع ما بعده، نحو: طمعت ورجوت وخفت وخشيت، وفعل يتردد بين العلم والخشية، وما هو من القسم الأول يقع بعدها أن المشددة،

ص: 405

[(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)].

(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي: آخر عدتهن، وشارفن منتهاها. والأجل يقع على المدّة كلها، وعلى آخرها، يقال لعمر الإنسان: أجل، وللموت الذي ينتهى به: أجل، وكذلك الغاية والأمد، يقول النحويون:«من» لابتداء الغاية، و «إلى» لانتهاء الغاية. وقال: ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نحو: علمت أنك تقوم، وغن وقع بعدها أن كان بمعنى "أنه"، نحو:(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى)[المزمل: 20]، ولهذا ارتفع يكون، وما هو من القسم الثاني جاءت بعدها أن الناصبة للفعل، نحو: خفت أن يقول، ومنه قوله تعالى:(إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ)[البقرة: 229]، وما هو من القسم الثالث: جاز وقوع أن الناصبة للفعل وأن المخففة من الثقيلة نحو قوله تعالى: (وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ)[المائدة: 71] بالرفع والنصب، فالرفع على أنه: لا يكون، والنصب على أنه: شك ليس بيقين.

قوله: ((فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي: آخر عدتهن)، اعلم أن البلوغ حقيقة يطلق على الوصول إلى الشيء، ويتسع مجازاً في المشارفة والدنو، وكذا الأجل، موضوع للمدة كلها، يقال لعمر الإنسان: أجل، ويتسع مجازاً على آخر المدة فيقال للموت الذي ينتهي عمر الإنسان إليه: أجل، وكذلك الغاية والأمد، أي: الغاية والأمد يقعان على المدة كلها وعلى آخرها، أما أنهما يقعان على آخر المدة فظاهر، وأما أنهما يقعان على المدة كلها فكقول النحويين:"مِنْ": لابتداء الغاية، و"إلى" لانتهائها، فلو لم يرد بالغاية المدة كلها لا يصح منهم هذان الكلامان، قال المصنف في

ص: 406

كُلُّ حَيٍ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْـ

ـرِ وَمُودٍ إذَا انْتَهَى أمَدُهْ

ويتسع في البلوغ أيضاً، فيقال: بلغ البلد؛ إذا شارفه وداناه، ويقال: قد وصلت، ولم يصل وإنما شارف؛ ولأنه قد علم أنّ الإمساك بعد تقضي الأجل لا وجه له؛ لأنها بعد تقضيه غير زوجةٍ له في غير عدّة منه؛ فلا سبيل له عليها. (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة؛ .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسير قوله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)[الأحقاف: 15]: لما كان الرضاع يليه الفصال لأنه ينتهي به ويتم سمي فصالاً كما سمى المدة بالأمد من قال:

كل حي مستكمل مدة العمـ

ـر ومود إذا انتهى أمده

يعني سمي الرضاع فصالاً تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه، كما سمي المدة، وهي: طول الإمهال بالأمد، وهو الانتهاء مجازاً.

قوله: (مود) أي: هالك، من: أودى: إذا هلك، يقول: كل حي يستكمل مدة عمره ويهلك إذا انتهى عمره.

قوله: (ولأنه قد عُلم) عطف من حيث المعنى على قوله: "والأجل يقع على المدة كلها"؛ لأنه في معنى التقييد والتعليل، يعني: إنما قلنا: إن معنى قوله تعالى: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) شارفن منتهى الأجل؛ لأن الاستعمال وارد عليه، ولأن المقام يقتضيه، إذ لا يمكن حمل الأجل على جميع المدة، والبلوغ على الوصول؛ لأنه لا يمكن الإمساك بعد تقضي الأجل، فيتعين الحمل على ما ذكرنا، وهو مشارفة منتهى الأجل.

الراغب: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) مشكل؛ لأن المراجعة ثابتة قبل انقضاء العدة، وظاهره يقتضي أن المراجعة بعد انقضاء العدة، ووجه ذلك: أن الأجل ها هنا: زمان العدة، لا تمام العدة، وأيضاً، فإنه يقال: إذا فعلت كذا، ويعني: إذا خضت، لا إذا فرغت منه، نحو: (وَإِذَا قُلْتُمْ

ص: 407

(أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وإما أن يخليها حتى تنقضي عدّتها وتبين من غير ضرار. (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً): كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها ثم يراجعها لا عن حاجةٍ، ولكن ليطوّل العدة عليها، فهو الإمساك ضراراً. (لِتَعْتَدُوا): لتظلموهنّ، وقيل: لتلجئوهن إلى الافتداء. (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها لعقاب اللَّه. (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً) أي: جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها، وإلا فقد اتخذتموها هزواً ولعباً. ويقال لمن لم يجدّ في الأمر: إنما أنت لاعب وهازئ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فَاعْدِلُوا) [الأنعام: 152]، فقوله:(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) أي: خضن في زمان بلوغ الأجل. وأيضاً، فقولهم: بلغ، يقال لما شارف وإن لم ينته، وإنما خصت المشارفة؛ لأنهم كانوا يطلقون المرأة فيتركونها حتى تشارف انقضاء العدة ثم يراجعونها إضراراً بها، وهذه الآية ظاهرها إعادة حكم ما تقدم، فإنه يجوز مراجعتها بعد انقضاء العدة، وقد فسرت تفسيرين: أحدهما: أن الأولى فيها حكم جواز الرجعة بعد التطليقة والتطليقتين، وتحريم الرجعة بعد الثالثة، وهذه تقتضي جواز رجعتها ما دامت في العدة، لا عن الطلاق الثلاث، وفيها زيادة حكم وإن كانت تفيد بعض ما أفادت الأولى، وهي ما ذكر بعدها من الأحكام.

قوله: ((أَوْ سَرِّحُوهُنَّ) بإحسان في نسخة، ولفظ القرآن:(بِمَعْرُوفٍ)، وضع المفسر موضع المفسر، لأنه فسر المعروف بعيد هذا بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط، ولما سبق في تلك الآية:(فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[البقرة: 229]. الراغب: لم تعلق التسريح ها هنا بمعروف، وفي الأولى بإحسان؟ قيل: نبه به على أنه إن لم تراعوا في تسريحها الإحسان فراعوا فيه المعروف، كما قال بعضهم لسلطان: إن لم تحسن فعدلاً.

قوله: (أي جدوا في الأخذ بها والعمل بما فيها). قال القاضي: كأنه نهي عن الهزؤ، واراد به الأمر بضده.

ص: 408

ويقال: كن يهودياً وإلا فلا تلعب بالتوراة. وقيل: كان الرجل يطلق ويعتق ويتزوّج ويقول: كنت لاعباً. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ: الطلاق والنكاح والرجعة» . (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) بالإسلام وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) من القرآن والسنة. وذكرها: مقابلتها بالشكر والقيام بحقها. (يَعِظُكُمْ بِهِ) بما أنزل عليكم. (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ): إما أن يخاطب به ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كن يهودياً)، كانوا يقولون لليهودي الذي لا يعمل بالتوراة حق العمل هذا المثل.

قوله: (نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ): بالإسلام وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما خص نعمة الله بما ذكر ليدل على أن ذلك الفعل، وهو إمساك النساء للضرار، كان من فعل الجاهلية، وكان مقتاً وكفراً، فبدله الله تعالى بنعمة الإسلام وببعثة محمد صلوات الله عليه، كقوله تعالى:(وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا)[آل عمران: 103]، وقوله:(وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ) يجوز أن يكون مجروراً؛ عطفاً على مقدر وهو: "بالإسلم وبنبوة محمد" ليشمل جميع نعمة الدين، أي: اذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام وبنبوة محمد وبالكتاب والسنة، وأن يكون منصوباً؛ عطفاً على (نِعْمَةَ اللَّهِ) عطف الخاص على الخاص، وعليه ظاهر كلام المصنف، وأن يكون عطف الخاص على العام، وعليه كلام القاضي، حيث قال: أفردهما بالذكر إظهاراً لشرفهما، فعلى هذا هو من باب (وَمَلائِكَتِهِ

وَجِبْرِيلُ) [البقرة: 98]، والأول أقرب إلى النظم؛ لأن الأمر بالذكر بعد النهي المعقب به التوضيح بقوله:(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) مشعر به تعالى يمن على المؤمنين بإنقاذهم من الظلم الذي كانوا عليه في الجاهلية، فيجب أن تختص النعمة بنعمة متجددة من الإسلام وبنبوة محمد صلوات الله عليه، وبإنزال هذا الكتاب الكريم، وإنما صرح به دونهما لأن الكلام فيه، بدليل قوله تعالى:(وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً).

قوله: ((يَعِظُكُمْ بِهِ) بما أنزل عليكم)، يحتمل قوله:(يَعِظُكُمْ بِهِ) أن تكون جملة

ص: 409

الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة؛ ظلماً وقسراً، ولحمية الجاهلية لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج. والمعنى: أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهنّ؛ وإما أن يخاطب به الأولياء في عضلهنّ أن يرجعن إلى أزواجهنّ. روي: أنها نزلت في معقل بن يسارٍ حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأوّل. وقيل: في جابر بن عبد اللَّه حين عضل بنت عم له .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مستأنفة لبيان موجب الإنزال، والأوجه أن الضمير في (بِهِ) راجع إلى المذكور كله، وتكون الجملة معترضة مؤكدة للمعاني السابقة واللاحقة؛ لأن المأمورات والمنهيات كلها وعظ من الله وتذكير، والذي سيق له الكلام إمساك المطلقات وتسريحهن، فيدخل فيه دخولاً أولياً.

قوله: (وإما أن يخاطب به الأولياء)، قال القاضي: فعلى هذا يكون دليلاً على أن المرأة لا تزوج نفسها، إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولي معنى، ولا يعارض بإسناد النكاح إليهن لأنه بسبب توقفه على إذنهن.

قوله: (روي أنها نزلت في معقل بن يسار)، روينا عن البخاري والترمذي وأبي داود، عن معقل بن يسار، قال: كانت لي أخت تخطب إلي وأمنعها من الناس، فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه، فاصطحبا ما شاء الله، ثم طلقها طلاقاً له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، فملا خطبت إلي أتاني يخطبها مع الخطاب، فقلت له: خطبت إلي فمنعتها الناس وآثرتك بها فزوجتك، ثم طلقتها طلاقاً لك رجعة، ثم تركتها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب؟ والله لا أنكحتها أبداً، قال: ففي نزلت هذه الآية، فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه.

ص: 410

والوجه أن يكون خطاباً للناس، أي: لا يوجد فيما بينكم عضل؛ لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين. والعضل: الحبس والتضييق، ومنه: عضلت الدجاجة؛ إذا نشب بيضها فلم نخرج. وأنشد لابن هرمة:

وَإنَّ قَصَائِدِى لَكَ فَاصْطَنِعْنِى

عَقَائِلُ قَدْ عَضُلْنَ عَنِ النِّكَاحِ

وبلوغ الأجل على الحقيقة. وعن الشافعي رحمه الله: دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين. (إِذا تَراضَوْا): إذا تراضى الخطاب والنساء، .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والوجه أن يكون خطاباً للناس) لما يلزم من الأول المجاز باعتبار ما يؤول إليه في إضافة قوله: (أَزْوَاجَهُنَّ)؛ لأن التقدير: من شيئين من الأزواج غيركم، ومن الثاني يلزم تسمية الأزواج أزواجاً باعتبار ما كان، وإسناد الطلاق إلى الأولياء على المجاز أيضاً، ولأن قوله:(ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) إلى آخر الآية كالتعليل لشرعية هذا الحكم والامتنان على الأمة، وفيه أن لكل أن ينكر هذا العضل إذا وجد فيما بينهم.

قوله: (أي: لا يوجد فيما بينكم عضل)، تفسير للخطاب العام؛ لأن النهي إنما يتوجه إلى من يباشر الفعل أو عزم عليه، فإذا توجه إلى المجموع كانوا في حكم شخص واحد، فإذا انتهوا بأسرهم لم يوجد عضل قط.

قوله: (وإن قصائدي لك)، البيت، عقيلة كل شيء: أكرمه، والعقيلة من النساء: التي عقلت في بيتها أي خدرت وجلست، يقول: إن قصائدي مثل عقائل النساء وقد عضلن عن النكاح، فلا أمدح بها غيرك، فاصطنعني بمدحي إياك بها.

قوله: (وبلوغ الأجل على الحقيقة) يعني: في قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) محمول على انتهاء الغاية لا على المجاز، وهو المشارفة والمداناة كما في الآية

ص: 411

(بِالْمَعْرُوفِ) بما يحسن بالدين والمروءة من الشرائط وقيل: بمهر المثل. ومن مذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فللأولياء أن يعترضوا. فإن قلت: لمن الخطاب في قوله: (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ)؟ قلت: يجوز أن يكون لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولكل أحدٍ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السابقة، وهي قوله تعالى:(وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ)؛ لأن الإمساك بعد مضي الأجل لا وجه له، فيحمل على المجاز، بخلافه هاهنا.

قوله: ((بِالْمَعْرُوفِ): بما يحسن في الدين)، قال القاضي:(بِالْمَعْرُوفِ): حال من الضمير المرفوع، أو: صفة مصدر محذوف، أي: تراخياً كائناً بالمعروف، وفيه دلالة على أن العضل عن التزوج من غير كفؤ غير منهي عنه.

قوله: (يجزو أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل أحد)، قال القاضي: إذا كان الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كقوله تعالى: (يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)[الطلاق: 1] للدلالة على أن حقيقة المشار إليه لا يكاد يتصورها كل أحد. وقلت: يعني: لا يدركه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تنبيه لهم. قال المصنف: خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم الخطاب، إظهاراً لترؤسه وأنه مدره قومه ولسانهم والذي يصدرون عن رأيه، وكان وحده في حكم كلهم. وقال القاضي: أو الكفاف لمجرد الخطاب دون تعيين المخاطبين، والفرق بين الحاضر والمنقضي، وقال الزجاج:(ذَلِكَ): مخاطبة الجميع، والجميع لفظه لفظ واحد، المعنى: ذلك أيها القبيل يوعظ به من كان منكم، وقوله بعد ذلك:(ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ) يدلك على أن لفظة "ذلك" و"ذلكم": مخاطبة للجماعة.

ص: 412

ونحوه: (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ)[المجادلة: 12]. (أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) من أدناس الآثام، وقيل:(أَزْكى)(وَأَطْهَرُ): أفضل وأطيب. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) ما في ذلك من الزكاء والطهر، وأنتم لا تعلمونه. أو: واللَّهُ يعلم ما تستصلحون به من الأحكام والشرائع وأنتم تجهلونه.

[(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: وكيف ما كان في الكلام تلوين الخطاب؛ لأنه تعالى خاطبهم أولاً بقوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) ثم رجع إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم تعليلاً لهم وتعظيماً له، أو إلى مخاطبة كل أحد للدلالة على تعظيم الأمر، فلا يختص بهؤلاء، أو جعلهم في حكم القبيل والفوج تقليلاً لهم وتعظيماً للمتكلم، ثم عاد على مخاطبتهم بقوله:(مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ)، والأول أوجه لأنه أوفق لما في سورة الطلاق.

قوله: () ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ))، والتلاوة:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قوله: (وقيل: (أَزْكَى)(وَأَطْهَرُ): أفضل وأطيب)، فعلى الأول "وأطهر": عطف تفسيري على "أزكى"؛ لأنه بمعنى الطهارة، وعلى هذا بمعنى النمو والزيادة. الراغبك زكاء الإنسان وطهارته في الحقيقة: كونه بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة عظيم المثوبة، وأن يصلح لمجاورة الملأ الأعلى بل لمجاورة المولى، ولذلك عقبه بقوله:(وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

ص: 413

(يُرْضِعْنَ) مثل (يَتَرَبَّصْنَ) في أنه خبرٌ في معنى الأمر المؤكد. (كامِلَيْنِ) توكيد، كقوله:(تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ)[البقرة: 196]؛ لأنه مما يتسامح فيه فتقول: أقمت عند فلان حولين، ولم تستكملهما. وقرأ ابن عباس رضى اللَّه عنهما:(أن يكمل الرضاعة)، .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في أنه خبر في معنى الأمر). قال الزجاج: اللفظ خبر والمعنى أمر، كما تقول: حسبك درهم، أي اكتف بدرهم، ومعنى الآية: لترضع الوالدات.

الراغب: ذكر جماعة من الفقهاء أن (يُرْضِعْنَ) أمر وإن كان لفظه خبراً؛ لأنه لو جعل خبراً لم يقع مخبر بخلافه، وهذه قضية إنما تصح في كل خبر لفظه لا يحتمل التخصيص، فأما إذا كان عاماً يمكن أن يخصص على وجه يخرج من كونه كذباً فإن ادعاء ذلك فيه ليس بواجب، وهذه الآية مما يمكن فيه ذلك، أخبر تعالى أن حكم الله في ذلك أن الوالدات احق بإرضاع أولادهن، سواء كانت في حبالة الزوج أو لم تكن، فإن الإرضاع من خصائص الولادة، لا من خصائص الزوجية، ولهذا ورد في الحديث:"إنها أحق بالولد ما لم تتزوج".

وقلت: أشار بقوله: "إن الإرضاع من خصائص الولادة" أن في تخصيص ذكر الوالدات دون الأمهارت إشعاراً بالعلية، نظيره قوله تعالى:(الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً)[النور: 3]، قال المصنف: المرفوع، أي قوله:(لا يَنكِحُ) فيه معنى النهي، ويجوز أن خبراً محضاً، على أن عادتهم جارية على ذلك، وكما قال: الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب لا يرغب في نكاح الصوالح.

ص: 414

وقرئ: (الرِّضاعة) بكسر الراء. و (الرضعة)، و (أن تتم الرضاعة) و (أن يتم الرضاعة) برفع الفعل تشبيهاً لـ «أن» بـ «ما»؛ لتآخيهما في التأويل. فإن قلت: كيف اتصل قوله: (لِمَنْ أَرادَ) بما قبله؟ قلت: هو بيان لمن توجه إليه الحكم، كقوله تعالى:(هَيْتَ لَكَ)[يوسف: 23]، "لك" بيان للمهيت به، أي: هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع. وعن قتادة: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) ثم أنزل اللَّه اليسر والتخفيف، فقال:(لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ)، أراد: أنه يجوز النقصان. وعن الحسن: ليس ذلك بوقتٍ لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر. وقيل: اللام متعلقة بـ (يرضعن)، كما تقول: أرضعت فلانة لفلانٍ ولده،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "الرضاعة" بكسر الراء)، قال الزجاج: والفتح أكثر، وعليه القراء، وروى الأخفش بالكسر.

قوله: (تشبيهاً لـ "أن")، أي: شبه "أن" المصدرية بـ "ما" التي لها، لجامع المصدرية.

قوله: ((هَيْتَ لَكَ)[يوسف: 23])، هيت به وهوت به، أي: صاح به ودعاه، وقولهم: هيت لك، أي: هلم لك، وهو: اسم الفعل، وفيه ضمير المخاطب، كأنه قيل: هيت أنت، ولك: تبيين للمخاطب وتأكيد جيء به بعد استكمال الكلام كما في سقياً لك، وكذا الكاف في رويدك: تبيين للمخاطب، فإن معناه: رويداً أنت، كأنه لما قيل:(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) فقيل: لمن هذا الحكم؟ قيل: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ).

قوله: (ليس ذلك بوقت) أي: بحد، "الأساس": شيء موقوت ومؤقت: محدود، والآخرة ميقات الخلق. الراغب: قال الفقهاء: لما جعل الرضاع حولين، وقال في موضع آخر:(وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً)[الأحقاف: 15]، علم أن الولد قد يولد لستة اشهر. وفيه تنبيه على لطيفة

ص: 415

أي: يرضعن حولين (لمن أراد أن يتمّ الرضاعة) من الآباء؛ لأنّ الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه. ولا يجوز استئجار الأم عند أبي حنيفة رحمه الله، ما دامت زوجةً أو معتدة من نكاح. وعند الشافعي يجوز، فإذا انقضت عدّتها جاز بالاتفاق. فان قلت: فما بال الوالدات مأموراتٍ بأن يرضعن أولادهنّ؟ قلت: إما أن يكون أمراً على وجه الندب، وإما على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه، أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار. وقيل: أراد: الوالدات المطلقات. وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع. (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ): وعلى الذي يولد له، وهو الوالد، و (لَهُ) في محل الرفعِ على الفاعلية، نحو:(عَلَيْهِمْ) في (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)[الفاتحة: 7]. فإن قلت: لم قيل: (الْمَوْلُودِ لَهُ) دون الوالد؟ قلت: ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم؛ لأن الأولاد للآباء؛ ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات؛ وأنشد للمأمون بن الرشيد:

فَإنَما أُمَّهَاتُ النَّاسِ أوْعِيَةٌ

مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أبْنَاءُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهي أن الولد لما كان زمان حمله وفصاله أقل من ثلاثين شهراً أضر ذلك به، فإذا ولد لسبعة أشهر لم يضره أن ينقص رضاعه عن الحولين.

قوله: (وقيل: أراد الوالدات المطلقات)، فعلى هذا، التعريف في (وَالْوَالِدَاتُ): للعهد، والمشار إليه: ما يفهم من قوله: (وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ)، والمراد من إيجاب النفقة والكسوة: ما يعطيه قوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) من معنى الوجوب، وهذا الوجه أحسن في الالتئام وأظهر في معنى الوجوب في قوله:(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ) لأن على الأزواج رزق الزوجات وكسوتهن، سواء أرضعن أو لم يرضعن.

قوله: (فإنما أمهات الناس) البيت، ويروى فيه:"وللآباء أبناء"، وقيل: الرواية: "وللأنساب أبناء". قبله:

ص: 416

فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم كالأظآر، ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا تزرين بفتى من أن يكون له

أم من الروم أو سوداء دعجاء

زرى به: إذا عابه، والدعج: شدة سواد الحدقة وشدة بياضها.

وكانت أمه أم ولد، يقال لها: مراجل. وقيل: عاب هشام زيد بن علي رحمهما الله وقال: بلغني أنك تريد الخلافة، وكيف تصلح لها وأنت ابن أمة؟ فقال: كان إسماعيل ابن أمة، وإسحاق ابن حرة، فأخرج الله تعالى من صلب إسماعيل خير ولد آدم صلوات الله عليه، وهذه الصنعة تسمى في البديع بالإدماج، وفي أصول الحنفية: بإشارة النص، وهو: أن يضمن في كلام سيق لمعنى معنى آخر، سيقت الآيات لإثبات النفقة للمرضع وضمنت معنى أن النسب ينتهي إلى الآباء، وفيه أيضاً معنى قوله صلوات الله عليه حين أتاه رجل وقال: إن لي مالاً وولداً، وإن أبي يحتاج إلى مالي، فقال:"أنت ومالك لوالدك"، أخرجه أبو داود عن عبد الله ابن عمرو ابن العاص.

قوله: (فكان عليهم أن يرزقوهن) الفاء تدل على أن إيثار المولود له، وتقديم الخبر وحمله على (رِزْقُهُنَّ) وصف مناسب لهذا الحكم، وهو إيجاب الرزق والكسوة عليهم.

قوله: (أنه ذكره باسم الوالد) يعني: إنما لم يعدل عن الظاهر في تلك الآية حيث لم يكن

ص: 417

وهو قوله تعالى: (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً)[لقمان: 33]؟ (بِالْمَعْرُوفِ) تفسيره ما يعقبه، وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارّا. وقرئ:(لا تكلف) بفتح التاء، و (لا نكلف) بالنون. وقرئ:(لا تُضَارَّ) بالرفع على الإخبار، وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول، وأن يكون الأصل: تضارر؛ بكسر الراء، وتضارر؛ بفتحها. وقرأ:(لا تُضَارَّ) بالفتح أكثر القراء، وقرأ الحسن بالكسر على النهي، وهو محتمل للبناءين أيضاًً، ويبين ذلك أنه قرئ:(لا تضارَرْ)، و (لا تضارِرْ) بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها، وقرأ أبو جعفر:(لا تضارّ) بالسكون مع التشديد على نية الوقف، وعن الأعرج:(لا تضارْ) بالسكون والتخفيف، وهو من: ضاره يصيره، ونوى الوقف كما نواه أبو جعفر، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكوناً. وعن كاتب عمر بن الخطاب:(لا تضرر). والمعنى: لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنف به، وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي: اطلب له ظئراً،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على الوالد إيجاب شيء. وقلت: وإن لم يعدل في الوالد فيها، عدل عن الولد إلى المولود لنكتة أخرى وهي ما ذكره هناك.

قوله: (وقرئ: "لا تضار" بالرفع) ابن كثير وأبو عمرو، والباقون بفتح الراء، والبواقي شواذ. قال الزجاج: الرفع على معنى: لا تكلف نفس على الخبر الذي فيه معنى النهي، وفتح الراء على النهي أيضاً، والموضع موضع جزم، والأصل: لا تضارر فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، وهذا الاختيار في التضعيف إذا كان قبله فتح أو ألف، ويجوز: لا تضار، بالكسر، ولا أعلم أحداً قرأ به، وإنما جاز الكسر لالتقاء الساكنين لأنه الأصل، ومعنى (لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) أي: لا تترك إرضاع ولدها غيظاً على أبيه فتضرَّ به.

ص: 418

وما أشبه ذلك، ولا يضارّ مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، ولا يأخذه منها وهي تريد إرضاعه، ولا يكرهها على الإرضاع، وكذلك إذا كان مبنياً للمفعول فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، وعن أن يلحق بها الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد. ويجوز أن يكون (تُضَارَّ) بمعنى تضر، وأن تكون الباء من صلته، أي: لا تضرّ والدة بولدها، فلا تسيء غذاءه وتعهده، ولا تفرط فيما ينبغي له، ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها، ولا يضرّ الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد.

فان قلت: كيف قيل: (بولدها) و (بولده)؟ قلت: لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه، وأنه ليس بأجنبيّ منها، فمن حقها أن تشفق عليه، وكذلك الوالد. (وَعَلَى الْوارِثِ) عطف على قوله:(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ)، وما بينهما تفسير للمعروف، معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، فكان المعنى: وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة، أي: إن مات المولود له لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشريطة التي ذكرت من المعروف، وتجنب الضرار. وقيل: هو وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه. واختلفوا؛ فعند ابن أبي ليلى: كل من ورثه، وعند أبي حنيفة: من كان ذا رحمٍ محرمٍ منه. وعند الشافعي: لا نفقة فيما عدا الولاد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا نفقة فيما عدا الولاد) أي: الأصول والفروع. الجوهري: ولدت المرأة تلد ولاداً وولادة، وحان ولادها. قال محيي السنة: ذهب جماعة إلى أن المراد بالوارث هو الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى، تكون أجرة رضاعه ونفقته في ماله، فإن لم يكن له مال فعلى الأم، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان، وهو قول مالك والشافعي، وقيل: هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر، عليه مثل ما كان على الأب من أجرة الرضاع والنفقة والكسوة، وقال بعضهم: من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود ممن ليس بمحرم، مثل ابن العم والمولى، فغير

ص: 419

وقيل: من ورثه من عصبته؛ مثل: الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العمّ. وقيل: المراد وارث الأب، وهو الصبي نفسه، وأنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه. وقيل:(عَلَى الْوارِثِ): على الباقي من الأبوين، من قوله:«واجعله الوارث منا» . (فَإِنْ أَرادا فِصالًا) صادراً (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) في ذلك زادا على الحولين أو نقصا، وهذه توسعة بعد التحديد. وقيل: هو في غاية الحولين لا يتجاوز، وإنما اعتبر تراضيهما في الفصال وتشاورهما: أمّا الأب فلا كلام فيه، وأمّا الأمّ؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراد بالآية، وهو قول أبي حنيفة، وقيل: ليس المراد منه النفقة، بل معناه: وعلى الوارث ترك المضارة، وبه قال الشعبي والزهري. وفي بعض الحواشي: روي بإضافة الرحم إلى المحرم، وفي "المغرب": وذو رحم محرم بالجر، صفة للرحم، وبالرفع: لذو، وعلى ما ذكر في "المغرب" يكون الرحم منوناً لا مضافاً.

قوله: (واجعله الوارث منا). أوله: اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، أخرجه الترمذي ورزين، النهاية: ومن أسماء الله تعالى: الوارث: وهو الذي يرث الخلائق ويبقى بعد فنائهم، ومعنى:"اجعله الوارث منا"، أي: أبقهما صحيحين سليمين إلى أن أموت، وقيل: أراد بقاءهما عند الكبر وانحلال القوى النفسانية، فيكون السمع والبصر وارثي سائر القوى والباقيين بعدها.

قوله: (وهذه توسعة بعد التحديد)، فإن قلت: هذا مخالف لما سبق من قوله: "أراد أنه يجوز

ص: 420

فلأنها أحق بالتربية وهي أعلم بحال الصبي. وقرئ (فإن أراد). "استرضع" منقول من "أرضع"، يقال: أرضعت المرأة الصبي، واسترضعتها الصبي، لتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة، واستنجحته الحاجة. والمعنى:

أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأوّل إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ ما أردتم إيتاءه، كقوله تعالى:(إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)[المائدة: 6]، وقرئ:(ما أتيتم) من أتى إليه إحساناً إذا فعله. ومنه قوله تعالى: (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَاتِيًّا)[مريم: 61] أي: مفعولاً. وروى شيبان عن عاصم: (ما أوتيتم) أي: ما آتاكم اللَّه وأقدركم عليه من الأجرة، ونحوه (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد: 7]. وليس التسليم بشرط للجواز والصحة، وإنما هو ندب إلى الأولى، ويجوز أن يكون بعثاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنى ما يكون، لتكون طيبة النفس راضية، فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبي واحتياطاً في أمره، فأمرنا بإيتائه ناجزاً يداً بيد؛ كأنه قيل: إذا أدّيتم إليهن يداً بيد ما أعطيتموهن .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النقصان" تفسيراً لقول قتادة: "ثم أنزل الله اليسر والتخفيف وقال: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)"، وقول الحسن: "ليس ذلك بوقت لا ينقص". قلت: المراد أنه من التحديد الوقت المضروب، فما وقت نقص دون ما زاد، وقصر الإرادة على الآباء في قوله: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) دون الأمهات، فالحاصل: أن الأول دل على جواز النقصان للآباء دون الأمهات، والثاني على جواز النقصان والزيادة للآباء والأمهات، وأما قوله: "قيل: هو في غاية الحولين لا يتجاوز"، فمعناه: أن التشاور ينتهي إلى غاية الحولين فلا يتجاوز، فالغاية بمعنى: جميع المدة لا آخرها.

قوله: (ويجوز أن يكون بعثاً) قيل: هو عطف على قوله: "ما أردتم إيتاءه" فلا يحتاج إلى تقدير الإرادة، ولهذا قال:"إذا أديتم إليهن يداً بيد" كذا ذكروا، وقلت: الأولى أن يكون عطفاً

ص: 421

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على جملة قوله: "وليس التسليم" إلى قوله: "وإنما هو ندب إلى الأولى"، وعن بعضهم: ويجوز أن يكون "نعتاً": بياناً لوجه الندب ولحكمته.

وقلت: الظاهر المغايرة، وتحرير المعنى: أن ظاهر التركيب يوجب أن يكون التسليم شرطاً لصحة حكم الاسترضاع؛ لأن قوله: (إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ) شرط، وجزاؤه ما دل عليه الشرط المتقدم مع جزائه، كذا قدره أبو البقاء، فالمعنى: إذا سلمتم إليهن ما أردتم إيتاءه، فلا جناح عليكم إن أردتم أن تسترضعوا، فجعل رفع الجناح عن إرادة حكم الاسترضاع مشروطاً بتسليم الأجرة، وليس بشرط باتفاق العلماء، فيكون محمولاً على الندب إلى الأولى، ويجوز أن يكون شرطاً ويجري على الوجوب، مبالغة، ليكون بعثاً على أن يكون المعطى منجزاً، فقوله:"إذا أديتم إليهن يداً بيد ما أعطيتموهن" حاصل المعنى لا التقدير كما ظنوا؛ لأن الذي حمله على تقدير الإرادة تصحيح إيقاع "سلمتم" على "ما آتيتموهن" لاستحالة أن يكون الإيتاء قبل التسليم، وهذا المعنى أيضاً قائم مع "أديتم، أي: إذا أديتم إليهن ما أردتم إعطاءه، وإنما فسر التسليم بالأداء في هذا الوجه مراعاة للمطابقة بين معنى الوجوب والأداء، ونحو هذا الأسلوب قول الأصوليين في قوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"

ص: 422

(بِالْمَعْرُوفِ) متعلق بـ (سلمتم) أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن.

[(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)].

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) على تقدير حذف المضاف، أراد: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن. وقيل: معناه يتربصن بعدهم، كقولهم: السمن منوان بدرهم .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الظاهر نفي لماهية الصلاة في غير المسجد وصحتها، واتفقوا على صحتها، فتحمل على ما يقرب إلى الحقيقة من نفي الكمال، وإلى هذا المعنى أشار بقوله:"أن يكون الذي تعطاه المرضع من أهنأ ما يكون"، وهو أن يكون منجزاً يداً بيد.

قوله: ((وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ): على تقدير حذف المضاف) لأن الخبر (يَتَرَبَّصْنَ) وليس فيه ضمير يرجع إلى المبتدأ، فوجب أن يقدر ما يرجع إليه الضمير في الخبر. عن أبي البقاء: وقال سيبويه: إن (الَّذِينَ): مبتدأ والخبر محذوف تقديره: وفيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم، وقوله:(يَتَرَبَّصْنَ): بيان الحكم المتلو. وقال الزجاج: قال الأخفش:

ص: 423

وقرئ: (يَتوفون) بفتح الياء، أي: يستوفون آجالهم، وهي قراءة علي رضى اللَّه عنه. والذي يحكى: أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشى خلف جنازة، فقال له رجل: من المتوفي؟ بكسر الفاء. فقال: اللَّه، وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي رضى اللَّه عنه على أن أمره بأن يضع كتاباً في النحو، تناقضه هذه القراءة. (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً): ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتربصن بعدهم، وقال غيره من البصريين: أزواجهم يتربصن، وحذف أزواجهم لأن في الكلام دليلاً عليه، وهو صواب، وقال الفراء: إن الأسماء إذا كانت مضافة إلى شيء، وكان الاعتماد في الخبر على الثاني، أي: المضاف إليه، أخبر عن الثاني وترك الأول، المعنى: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن.

قوله: (وقرئ: "يتوفون" بفتح الياء)، قال ابن جني: روى هذه القراءة أبو عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه، قال ابن مجاهد: ولا يقرأ بها، قال ابن جني: هذا عندي مستقيم؛ لأنه على حذف المفعول، أي: والذين يتوفون أيامهم أو أعمارهم أو آجالهم، وحذف المفعول كثير في القرآن، وفصيح من الكلام. قلت: هذا معنى قول الشاعر:

كل حي مستكمل مدة العمـ

ـر ومود إذا انتهى أمده

قوله: (تناقضه هذه القراءة) لأن الآية تقتضي صحة السؤال عن الميت بالمتوفي، بالكسر، والحكاية تنافيها، فدلت قراءته على أن الرواية غير ثابتة لموافقتها إياها. نعم، هي موافقة لقراءة العامة، وموجبة للأمر بوضع ما تتقوم به ألسنة الناس من علم النحو. والجواب ما قال صاحب "المفتاح": لم يقل: فلان، بل قال: الله، رداً لكلامه مخطئاً إياه، منبهاً له بذلك على انه كان يجب أن يقول: من المتوفى؟ بلفظ اسم المفعول، يريد أن السائل لم يكن من مرتبته في

ص: 424

يعتددن هذه المدّة، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام. وقيل: عشرٌ؛ ذهاباً إلى الليالي، والأيام داخلة معها. ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه؛ ذاهبين إلى الأيام، تقول: صمت عشراً، ولو ذكرت خرجت من كلامهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البلاغة أن يبلغ إلى إدراك هذا المعنى الدقيق من هذا اللفظ، فما استحق الجواب المطابق لذلك. وقريب من ذلك ذكره صاحب "الانتصاف".

قوله: (يعتددن هذه المدة)، الراغب: إن قيل: ما وجه التخصيص بهذه المدة؟ قيل: قد ذكر الأطباء أن الولد في الأكثر إذا كان ذكراً يتحرك بعد ثلاثة اشهر، وإذا كان أنثى فبعد أربعة أشهر، فجعل ذلك عدتها وزيد عشرة استظهاراً، وتخصيص العشرة بالزيادة لكونها أكمل الأعداد وأشرفها.

قوله: (ولو ذكرت خرجت من كلامهم)، يعني: لا ترى العرب يستعملون العدد بالتاء ذاهبين إلى الأيام، بل يستعملونه بغيرها ذاهبين إلى الليالي، والأصل فيه أن التاريخ هو: ضبط جزء معين من الزمان بالعدد، والعرب أرخت بالليالي، لأن الشهر قمري، ومبدأ ظهوره من الليالي، والليل سابق النهار، فخصوها بالذكر. قال الزجاج: حكى الفراء: صمنا عشراً من شهر رمضان، فالصوم إنما يكون في الأيام ولكن التأنيث مغلب في هذه الأيام والليالي بإجماع أهل اللغة، يقولون: سرنا خمساً بين يوم وليلة، وقال سيبويه: هذا باب المؤنث الذي استعمل في التأنيث والتذكير، والتأنيث أصله، وليس بين البصريين والكوفيين خلاف في الباب، وذكر المرزوقي في "الأزمنة والأمكنة": إنما غلبت العرب الليالي على الأيام في التاريخ فقيل: كتبت إليك لخمس بقين وأنت في اليوم؛ لأن ليلة الشهر

ص: 425

ومن البين فيه قوله تعالى: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً)[طه: 103]، ثم:(إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً)[طه: 104].

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ): فإذا انقضت عدّتهن (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الأئمة وجماعة المسلمين (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) من التعرّض للخطاب (بِالْمَعْرُوفِ): بالوجه الذي لا ينكره الشرع. والمعنى: أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمة أن يكفوهنّ، وإن فرّطوا كان عليهم الجناح. (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ) هو أن يقول لها: إنك لجميلة أو صالحة أو نافقة، ومن غرضي أن أتزوّج، وعسى اللَّه أن ييسر لي امرأةً صالحة، ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، ولا يصرح بالنكاح؛ فلا يقول: إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك أو أخطبك. وروى ابن المبارك عن عبد اللَّه بن سليمان عن خالته قالت: دخل عليَّ أبو جعفر محمد بن على وأنا في عدتي، فقال: قد علمت قرابتي من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وحق جدّي عليّ، وقدمي في الإسلام،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سبقت يومه، ولم يلدها وولدته، ولأن الأهلة لليالي دون الأيام.

قوله: (ومن البين فيه) أي: ومن الدليل البين في استعمال العدد بغير التاء في الأيام ذهاباً إلى معنى الليالي قوله تعالى: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً)[طه: 103]، فإن المراد به الأيام، وإنما أنث فيه ذهاباً إلى الليالي بدليل قوله تعالى:(إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً)، والتلاوة (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً* نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً) [طه: 103 - 104].

قوله: (أو صالحة أو نافقة) أو: للتخيير والإباحة، عطف الأولين بأو، والآخرين بالواو؛ لأن المعنى أن يذكر أحد المذكورات أولاً مع أحد الآخرين بأن يقول: إنك لجميلة ومن غرضي أن أتزوج، مثلاً.

قوله: (وقدمي في الإسلام) في نسخة المعزي: بفتح القاف، أي: ثباتي، وفي نسخة الصمصام: بكسرها.

ص: 426

فقلت: غفر اللَّه لك، أتخطبني في عدّتي وأنت يؤخذ عنك! فقال: أوقد فعلت؟ إنما أخبرتك بقرابتي من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وموضعي، قد دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، وكانت عند ابن عمها أبي سلمة، فتوفي عنها، فلم يزل يذكر لها منزلته من اللَّه وهو متحامل على يده، حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها، فما كانت تلك خطبة. فإن قلت: أي: فرق بين الكناية والتعريض؟ قلت: الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له؛ كقولك: طويل النجاد والحمائل؛ لطول القامة، وكثير الرماد؛ للمضياف، والتعريض أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره؛ كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك، ولأنظر إلى وجهك الكريم؛ ولذلك قالوا:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أوقد فعلت؟ ) يروى بضم التاء وبكسرها، والهمزة للإنكار، وتعريض النبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر منزلته بيان شرعية التعريض، وإلا لما كان محتاجاً إلى ذكر منزلته عندها.

قوله: (وهو متحامل)، النهاية: تحاملت الشيء: تكلفته على مشقة. "الأساس": والشيخ يتحامل في مشيته، وتحاملت الشيء: حملته على مشقة، وتحامل علي فلان: لم يعدل.

قوله: (الكناية: أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له)، ليس هذا تعريف الكناية، لدخول المجاز فيه، ولو قال: مع قرينة غير مانعة لإرادة الموضوع له لصح، وكذلك تعريف التعريض هو: اللفظ المشار به على جانب بحيث يوهم أن الغرض جانب آخر، وبين الكناية والتعريض عموم وخصوص من وجه، فقد يكون كناية ولا يكون تعريضاً كقولك: فلان طويل النجاد، وبالعكس، كقولك في عرض من يؤذيك لغير المؤذي: آذيتني فستعرف، وعليه قوله تعالى لعيسى عليه السلام:(أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)[المائدة: 116]، وقد يجتمع التعريض والكناية معاً، كقولك في عرض من يؤذي المؤمنين: المؤمن هو الذي يصلي ويزكي ولا يؤذي أخاه المؤمن، ويتوصل بذلك إلى نفي الإيمان عن المؤذي ومن هو بصدده، والتلويح: أن تشير إلى مطلوبك من بعد، كقولك:"فلان كثير الرماد"، فإنه يدلُّ على

ص: 427

وَحَسْبُكَ بِالتَّسلِيمِ مِنِّى تَقَاضِيَا

وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض، ويسمى التلويح، لأنه يلوح منه ما يريده. (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ): أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرّضين ولا مصرحين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كثرة إحراق الحطب ثم على كثرة الطبخ ثم على كثرة تردد الضيفان ثم على أنه مضياف، وفي كلام المصنف تسامح.

الراغب: التعريض كالكناية، إلا أن التعريض: أن يذكر ما يفهم المقصود من غرضه، وليس بموضع للمفهوم عنه لا أصلاً ولا نقلاً، والكناية: العدول عن لفظ إلى لفظ هو يخلف الأول ويقوم مقامه، ولهذا سمي الأسماء المضمرات في النحو: الكنايات.

وقلت: هذا قريب إلى ما ذهب إليه المصنف.

قوله: (وحسبك بالتسليم مني تقاضيا) أوله:

أروح بتسليم عليك وأغتدي

قوله: (وكأنه: إمالة الكلام) أي: التعريض: إمالة الكلام، يريد أن الكلام له دلالة ظاهرة على معنى معين، فتميله إلى جانب آخر بقرينة اقتضاء المقام؛ لأنك حين سلمت على من تستجديه أشرت بالتسليم إلى غرضك، ولا دلالة للتسليم على الاستعطاء لا حقيقة ولا مجازاً، لكن في التسليم استرقاق واستعطاف، وهما يؤديان إلى استرضاء المسلم إما بالعطاء أو غير ذلك، ومآل هذا إلى الكناية، ولذلك قال القاضي: التعريض: إيهام المقصود بما لم يوضع له، لا حقيقة ولا مجازاً.

ص: 428

(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ) لا محالة، ولا تنفكون عن النطق برغبتكم فيهنّ، ولا تصبرون عنه، وفيه طرف من التوبيخ كقوله:(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ)[البقرة: 187]. فإن قلت: أين المستدرك بقوله: (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ)؟ قلت: هو محذوف؛ لدلالة (ستذكرونهنّ) عليه، تقديره: علم اللَّه أنكم ستذكرونهنّ، فاذكروهنّ ولكن لا تواعدوهنّ سراً، والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء؛ لأنه مما يسرّ، قال الأعشى:

وَلَا تَقْرَبَنْ مِنْ جَارَةٍ إنَّ سِرَّهَا

عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أوْ تَأَبَّدَا

ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه، كما فعل بالنكاح. (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً) وهو أن تعرّضوا ولا تصرحوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا تنفكون)، وفي بعض النسخ:"ولا ينفكون"، الجوهري: فككت الشيء: خلصته، وكل مشتبكين فصلتهما فقد فككتهما.

قوله: (ولا تقربن جارة) البيت، تأبد: من الأبود، وهو النفار، أي: اعتزل عنهن ما لم يكن حلالاً، كأنك وحشي لا تدري ما النكاح، وأصله:"تأبدن" أبدل نون التأكيد بالألف في الوقف.

قوله: (ثم عبر به) أي: ثم عبر بالسر ها هنا عن العقد بعدما جعل كناية عن الوطء؛ لأن العقد سبب للوطء، فيكون مجازاً عن العقد من إطلاق لفظ المسبب على السبب.

قوله: (كما فعل بالنكاح) أي: كما عبر بالنكاح الذي هو الوطء عن العقد؛ لأنه سبب فيه، ولو جعل السر كناية عن النكاح الذي هو الوطء ثم جعل عبارة عن العقد ليكون كناية تلويحية: لجاز، فالضمير في "أنه" راجع إلى الوطء حينئذ.

ص: 429

فإن قلت: بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت: بـ (لا تواعدوهنّ)، أي: لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة، أي: لا تواعدوهنّ إلا بأن تقولوا، أي: لا تواعدوهنّ إلا بالتعريض، ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعاً من (سِرًّا)؛ لأدائه إلى قولك: لا تواعدوهنّ إلا التعريض. وقيل: معناه: لا تواعدوهن جماعاً، وهو أن يقول لها: إن نكحتك كان كيت وكيت؛ يريد ما يجرى بينهما تحت اللحاف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بم يتعلق حرف الاستثناء؟ ) هذا يؤذن أن تعلق حرف الاستثناء بـ (لا تُوَاعِدُوهُنَّ) من حيث كونه عاملاً بوساطتها فيما بعدها كسائر الحروف التي يوصل بها الفعل إلى المعمول، هذا هو المختار في "شرح المفصل" لابن الحاجب، وروى الأنباري في "النزهة": أن أبا علي اجتمع مع عضد الدولة في الميدان، فسأله عضد الدولة: بماذا انتصب الاسم المستثنى في نحو: قام القوم إلا زيداً؟ فقال: بتقدير: أستثني زيداً، فقال: هلا قدرت امتنع زيد فرفعت؟ فقال أبو علي: هذا جواب ميداني فذكر في "الإيضاح" أنه انتصب بالفعل المقدم بتقوية إلا.

قوله: (وقيل: معناه: لا تواعدوهن جماعاً). اعلم أنه فسر السر هنا تارة بعقد النكاح وما

ص: 430

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يتعلق به كناية تلويحية، وأخرى بالجماع كناية رمزية، ومرة مع ما يتصل به كناية إيمائية عما يستهجن منه. أما الأول فعلى وجهين، أحدهما: قوله: "لا تواعدوهن مواعدة قط" أي: لا تواعدوهن مواعدة فيها ألفاظ تستعمل في عقد النكاح إلا مواعدة فيها لفظ التعريض، والمستثنى منه أعم عام المصدر.

وثانيهما: قوله: "إلا بأن تقولوا"، المعنى: لا تواعدوهن بشيء من الأقوال التي تتعلق بعقد النكاح، إلا بالقول المعروف، وهو التعريض، والمستثنى منه أعم عام المفعول به على حذف الجار واتصال الفعل، وعلى هذا القول، وهو أن يراد بالسر: عقد النكاح، لا يجوز الاستثناء أن يكون منقطعاً، قال القاضي: لأنه يؤدي إلى قولك: لا تواعدوهن إلا التعريض، وهو غير موعود، أي: التعريض واقع في الحال، فلا يكون موعوداً.

وقلت: الفرق بين أن يكون الاستثناء متصلاً وأن يكون منقطعاً هو أن المتصل يستدعي أن يكون التعريض داخلاً تحت جنس المستثنى منه، وهو:(سِرّاً)، وتحت حكم المواعدة ايضاً، فيصير التعريض من جنس الألفاظ التي تتعلق بعقد النكاح، فيرجع المعنى إلى قولك: لا تواعدوهن إلا مواعدة فيها التعريض، والمنقطع يوجب أن لا يدخل التعريض تحت جنس معنى السر على ما فسرناه، فلا يكون من الألفاظ التي تستعمل في عقد النكاح بالتعريض، إذ لو كان لكان الاستثناء متصلاً، والمقدر خلافه، لكن يدخل تحت المواعدة؛ لأنه استدراك من عدم المواعدة، فإذن يلزم أن يكون مطلق التعريض موعوداً به كما قال القاضي.

وأما الثاني- وهو أن يراد بالسر: الجماع- فالمراد بالمواعدة هو أن يقول لها: إن نكحتك كان كَيْتَ وكَيْتَ، إلى قوله:"من غير رفث وإفحاش في الكلام".

ص: 431

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما الثالث- وهو أن يعبر بالسر وبما يتصل به عما يستهجن منه- فهو الذي أشار إليه بقوله: "إن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن"، وقوله:"لأن مسارتهن، إلى آخره": بيان لوجه الكناية، ويفهم من ظاهر كلامه أن الاستثناء على هذين الوجهين متصل أيضاً، أما أولاً: فقوله: "من غير رفث وإفحاش" معناه: لا تواعدوهن بما يستعمل تحت اللحاف سوى ألفاظ لا توحش نحو: اللمس والغشيان، وأما ثانياً: فإن التقدير: لا تواعدوهن في الخفية بما يجري بين الرجل والمرأة سوى ألفاظ معلومة لا يستحيى منها في المجاهرة، وعلى هذا التأويل ينبغي أن لا يفسر قوله:(إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) بالتعريض في الخطبة كما في الأول؛ لأن المنهي في الخطبة استعمال ألفاظ تصرح في النكاح كما قال، فلا تقول: إني أريد أن أنكحك أو: أتزوجك أو: أخطبك، فضلاً عن ألفاظ توهم الجماع.

ثم الأحسن أن يعبر بالسر عن الجماع كما اختاره الزجاج، وأن يجعل الاستثناء منقطعاً كما عليه كلام مكي وأبي البقاء وصاحب الكواشي، وأن يراد بالمواعدة ما قد يجري بين الزوجين بعد الخطبة من المعاهدة بحسن المعاشرة، كما قال الإمام: لما أذن في أول الآية بالتعريض ثم نهى عن المسارة معها دفعاً للريبة، استثنى عنه أن يسارها بالقول المعروف، وذلك أن يعدها بالسر بالإحسان إليها والاهتمام بشأنها والتكفل بمصالحها حتى يصير هذا مؤكداً لذلك التعريض، كأنه قيل: لا تواعدوهن بما يستهجن منه، ولكن بما يؤذن بحسن المعاشرة، والنظم يساعد عليه أيضاً؛ لأن أحوال الناكح لا تخلو من ثلاث، فإنه إذا شرع في

ص: 432

(إلا أن تقولوا قولاً معروفاً) يعني: من غير رفثٍ ولا إفحاش في الكلام. وقيل: لا تواعدوهن سراً، أي: في السر على أنّ المواعدة في السرّ عبارة عن المواعدة بما يستهجن؛ لأن مسارّتهنّ في الغالب بما يستحيا من المجاهرة به. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً): هو أن يتواثقا أن لا تتزوّج غيره. (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) من عزم الأمر وعزم عليه، وذكر العزم مبالغة في النهى عن عقدة النكاح في العدّة؛ لأن العزم على الفعل يتقدّمه، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى، ومعناه: ولا تعزموا عَقد عُقدة النكاح. وقيل: معناه: ولا تقطعوا عقدة النكاح، .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الطلب فالأدب أن لا يصرح في الخطبة بألفاظ العقد والنكاح، بل يعرض بها، ثم بعد ذلك إن جرت بينهما معاهدة ينبغي أن يحترز عما يشعر به مجرد الشهوة، وإذا تم ذلك، فالواجب أن لا يستعجل في عقد النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله لئلا يفوت حق الغير، ومن ثمة أكد التوصية بقوله:(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ) وكرره.

ويمكن أن يحمل كلام المصنف على الاستثناء المنقطع، بأن تخصص (ما) في:"مما يجري بينهما تحت اللحاف" بالألفاظ الدالة على الجماع بالتصريح بدليل قوله: (سِرّاً) أي: جماعاً، وأن يقال في قوله:"لا تواعدوهن في السر": أنه على حذف المفعول، أي: لا تواعدوهن في الخفية بما يستهجن ويستحيى منه لكن بأن تقولوا قولاً معروفاً، وهو أن يتواثقا أن لا تتزوج غيره.

قوله: (على أن المواعدة في السر) أي: بناءً على أن المواعدة في السر.

قوله: ((وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ)) أي: لا تعزموا على النية على عقد النكاح؛ لأن النية هي: عقد القلب على فعل الشيء، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى، يعني: لابد لكل فعل من مقدمة عقد القلب عليه، فإذا نفيت المقدمة اللازمة له نفي الملزوم على طريق برهاني.

ص: 433

وحقيقة العزم: القطع؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» وروي: «لمن لم يبيت الصيام» . (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) يعني: ما كتب وما فرض من العدّة.

(يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم على ما لا يجوز (فَاحْذَرُوهُ)، ولا تعزموا عليه. (غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة.

[(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ* وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) 236 - 237].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وحقيقة العزم: القطع). الراغب: دواعي الإنسان إلى الفعل على مراتب: السانح ثم الخاطر ثم التفكر فيه ثم الإرادة ثم الهمة ثم العزم، فالهمة: إجماع من النفس على الأمر وإزماع عليه، والعزم هو: العقد على إمضائه، ولهذا قال تعالى:(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)[آل عمران: 159].

قوله: (لا صيام لمن لم يعزم الصيام) رواية الحديث عن أبي داود والترمذي: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له".

قوله: ((غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجلكم بالعقوبة). اعلم أن قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) عطف على قوله: (وَاعْلَمُوا) مع ما ترتب عليه، وكلاهما تذييل لما سبق، وفيه إيذان بوكادة المنهي عنه وأنه مما يجب أن يجتنب منه، وذلك نهي عن العزم دون الفعل، وتنبيه

ص: 434

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ): لا تبعة عليكم من إيجاب مهر، (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ): ما لم تجامعوهنّ، (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) إلا أن تفرضوا لهن فريضة، أو حتى تفرضوا، وفرض الفريضة تسمية المهر؛ وذلك أن المطلقة غير المدخول بها إن سمي لها مهر فلها نصف المسمى، وإن لم يسم لها فليس لها نصف مهر المثل ولكن المتعة؛ .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على أن من ارتكبه ولم يعاجل بالعقوبة فإنه تعالى يمهله فيأخذه أخذ عزيز مقتدر، ونحوه قوله تعالى:(قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً)[الفرقان: 6]، قال: هذا تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً، ولكن صرف ذلك لأنه غفور رحيم يمهل ولا يعاجل.

قوله: (من إيجاب مهر) بيان تبعة لقوله بعد الجناح: "تبعة المهر" أي: لا يجب المهر على من طلق قبل المسيس، ولم يسم المهر، عبر عن عدم وجوب المهر بعدم لزوم الجناح، فيلزم أن يكون المهر جناحاً لما فيه من الثقل، يقال: جنحت السفينة: إذا مالت بثقلها، والدين سمي جناحاً لما فيه من الثقل.

قوله: (إلا أن تفرضوا لهن) جعل "أو" في (أَوْ تَفْرِضُوا) تقديره: أولم تفرضوا، فهو معطوف على قوله:(تَمَسُّوهُنَّ) و"أو" في النحو تارة بمعنى: إلا أن؛ لأنها في معنى قولهم: هو قاتلي أو أفتدي منه، وقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي، أي: إلا أن تعطيني حقي، وأخرى بمعنى حتى؛ لأنه فسر قوله:(لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) بلا تبعة مهر عليكم، وهو دال على جواب الشرط، أي: ما لم تمسوهن، فالمعنى: ما لم تمسوهن لا مهر عليكم، إلا أن تفرضوا لهن، أو: حتى تفرضوا لهن فريضةن فحينئذ يجب المهر، ومن أجرى الجناح على موضوعه فـ "أو" عنده

ص: 435

والدليل على أن الجناح تبعة المهر قوله: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ) إلى قوله: (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ)، فقوله:(فنصف ما فرضتم) إثبات للجناح المنفي ثمة، والمتعة درع وملحفة وخمار على حسب الحال عند أبى حنيفة إلا أن يكون مهر مثلها أقل من ذلك، فلها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة، ولا ينقص من خمسة دراهم؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم، فلا ينقص من نصفها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بمعنى الواو، وعليه كلام الراغب، قال: قوله: (أَوْ تَفْرِضُوا) تقديره: أولم تفرضوا، فهو معطوف على قوله:(تَمَسُّوهُنَّ)، و (أَوْ) في نحو هذا الموضع تفيد ما يفيد الواو على وجه، وذلك أنه إذا قيل: افعل كذا إن جاءك زيد أو عمرو، يقتضي أن تفعله إذا جاء أحدهما، ولا شك أنه يحتاج أن يفعله إذا جاءا جميعاً؛ لأنه قد جاء أحدهما وزيادة، وعلى هذا قال النحويون: جالس الحسن أو ابن سيرين يقتضي أنه إذا جالسهما فقد امتثل، وعلى هذا قوله:(وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ)[النساء: 43] فظاهر الآية يقتضي أنه إن لم يكن لها مسيس أو لم يكن لها فرض أو لم يكن الأمران فلها المتعة، فكأنه قيل: إذا طلقتموهن ولم يحصل الأمران: المسيس والفرض، أو حصل المسيس ولم يحصل الفرض، فمتعوهن.

إن قيل: "ما" في قوله: (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) يقتضي الشرط، وذلك يوجب أن رفع الجناح عن المطلق بشرط عدم المماسة وعدم الفرض، ومعلوم أن الجناح مرفوع عن المطلق مسها أو لم يمسها، فرض أو لم يفرض، فما وجه ذلك؟ قيل: القصد بالآية: أن الجناح مرفوع بإعطاء المتعة، فكأنه قيل: لا جناح في طلاقها إذا متعها، ودل على ذلك بقوله:(وَمَتِّعُوهُنَّ)، وقد علم أن الجناح غير مرفوع عمن لم يمتع إذا طلقها قبل الفرض والمسيس.

قوله: (والدليل على أن الجناح تبعة) يعني: قوله تعالى: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) إثبات لوجوب المهر ها هنا، وهو موجب لأن يكون المنهي المنفي هناك إيجاب المهر؛ لأن المقابل إنما

ص: 436

و (الْمُوسِعِ): الذي له سعة، و (الْمُقْتِرِ): الضيق الحال، وَ (قَدَّرَهُ): مقداره الذي يطيقه، لأنّ ما يطيقه هو الذي يختص به. وقرئ بفتح الدال، والقدْر والقدَر لغتان. .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعطى نقيض حكم ما يقابله، وإنما كان جناحاً لما في لزوم نصف المهر على الزوج، وهو لم يدخل بها من تبعة وثقل من غير استنفاع، وثبوت المتعة لجبر إيحاش الطلاق، فقوله:"والدليل على أن الجناح تبعة" استدلال على قول من قال: إن نفي الجناح محمول على نفي الوزر عن المطلق؛ لأن الطلاق: قطع سبب الوصلة، قال محيي السنة: جاء في الحديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق"، فنفي الجناح عنه إذا كان الفراق أروح من الإمساك، وقال القاضي: الفريضة: نصب على المفعول به، فعيلة بمعنى مفعول، فالتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية، ويحتمل المصدر، والمعنى أنه لا تبعة على المطلق من مطالبة المهر إذا كانت المطلقة غير ممسوسة ولم يسم لها مهراً، إذ لو كانت ممسوسة فعليه المسمى أو مهر المثل، ولو كانت غير ممسوسة ولكن سمى لها فلها نصف المسمى، فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الأولى، ومفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين.

قوله: ((الْمُقْتِرِ) الضيق الحال)، الراغب: المقتر: الفقير، وأصله من نال القتر، كما أن المترب والمزمل: من نال التراب والرمل، والقتار: ما تحمله الريح من رائحة القدر. ولما أفاد تقديم الخبر على المبتدأ الاختصاص قال: لأن ما يطيقه هو الذي يختص به.

قوله: (وقرئ بفتح الدال): حفص وحمزة والكسائي.

ص: 437

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها مهراً ثم طلقها قبل أنّ يمسها: «أمتعتها» ؟ ، قال: لم يكن عندي شيء. قال: «متعها بقلنسوتك» . وعند أصحابنا لا تجب المتعة إلا لهذه وحدها، وتستحب لسائر المطلقات ولا تجب. (مَتاعاً) تأكيد لـ"متعوهن"، بمعنى تمتيعاً. (بِالْمَعْرُوفِ): بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة. (حَقًّا) صفةٌ لـ (متاعاً)، أي: متاعا واجبا عليهم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا تجب المتعة إلا لهذه)، وهي المطلقة غير الممسوسة التي لم يسم لها مهراً، قال القاضي: ومفهوم الآية يقتضي تخصيص إيجاب المتعة للمفوضة التي لم يمسها الزوج، وألحق الشافعي بها في أحد قوليه: الممسوسة المفوضة وغيرها قياساً، وهو مقدم على المفهوم.

قوله: (مَتَاعاً) تأكيد لـ "متعوهن")، الراغب: المتعة: اسم لكل ما فيه تمتع، أي: انتفاع قدراً من الزمان، وعلى ذلك قوله:(وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ)[النحل: 80].

قوله: وقول الشاعر:

إنما نعمة قوم متعة

وحياة المرء ثوب مستعار

لكن صار المتعة في تعارف الشرع: لما تختص به المطلقة.

ص: 438

أو حق ذلك حقاً، (عَلَى الْمُحْسِنِينَ): على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتيع. وسماهم قبل الفعل محسنين كما قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلاً فله سلبه» . (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) يريد المطلقات.

فإن قلت: أي: فرق بين قولك: الرجال يعفون، والنساء يعفون؟ قلت: الواو في الأوّل ضمير "هم"، والنون علم الرفع، والواو في الثاني لام الفعل، والنون ضمير "هنّ"، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل، وهو في محل النصب، «ويعفو» عطف على محله. و (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ): الولىّ، يعني: إلا أن تعفو المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر، وتقول المرأة: ما رآني، ولا خدمته، ولا استمتع بي، فكيف آخذ منه شيئاً! أو يعفو الوليّ الذي يلي عقد نكاحهن، وهو مذهب الشافعي. .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) على الذين يحسنون إلى المطلقات بالتمتع)، الراغب: إن قيل: ما وجه تخصيص المحسنين في هذه الآية والمتقين في قوله: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)[البقرة: 241]، وهلا دل ذلك على أنه غير واجب إذا كانت الواجبات من المشروعات لا يختلف فيها المتقي والمحسن وغيرهما؟ قيل: قد نظر بعض الناس هذا النظر، وقال: لما كان الإحسان قد يكون لما يزيد على الواجب، وقد خص بذلك المحسنين، دل على أن ذلك حث على المعروف لا إيجاب، وقال أكثرهم: إن ذكر المحسنين والمتقين لا لتخصيص الإيجاب، بل للتأكيد، وإنه من تمام الإحسان والتقوى، كما أن قوله:(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)[البقرة: 2] ليس بتخصيص أنه لا يهتدي به إلا المتقون، لكن تنبيه على أن الاهتداء به من تمام التقوى. وقلت: المحسنين من وضع المظهر موضع المضمر إشعاراً بالعلية، أي: حقاً عليكم، بدليل قوله:(لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) أي: من شأنكم أيها المخاطبون وجوب شرعية المتعة لكونكم محسنين.

قوله: (وهو مذهب الشافعي) أي: المراد بالذي يعفو: الولي، "الانتصاف": هذا الذي عزاه إلى الشافعي ليس بصحيح، بل مذهبه كمذهب أبي حنيفة، إنما المنسوب إلى الشافعي هو

ص: 439

وقيل: هو الزوج، وعفوه: أن يسوق إليها المهر كاملاً، وهو مذهب أبي حنيفة، والأوّل ظاهر الصحة. وتسمية الزيادة على الحق عفواً فيها نظر، إلا أن يقال: كان الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوّج، فإذا طلقها استحقّ أن يطالبها بنصف ما ساق إليها، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها، أو سماه عفواً على طريق المشاكلة. عن جبير بن مطعم: أنه تزوج امرأة وطلقها قبل أن يدخل بها، فأكمل لها الصداق، وقال: أنا أحق بالعفو. وعنه: أنه دخل على سعد بن أبى وقاص فعرض عليه بنتاً له، فتزوّجها، فلما خرج طلقها، وبعث إليها بالصداق كاملاً. فقيل له: لم تزوّجتها؟ قال: عرضها علىّ فكرهت ردّه. قيل: فلم بعثت بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟ و (الْفَضْلَ): التفضل،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مذهب مالك رضي الله عنهم. الإنصاف: عند الشافعي قولان: فالزمخشري نقل أحد قوليه، وقال القاضي: وذلك إذا كانت المرأة صغيرة، وهو قول قديم.

قوله: (وقيل: هو الزوج)، وهو أوفق للنظم؛ لأن الزوج هو المالك لعقد النكاح وحله، كأنه قال:(إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ) أي: المطلقات، أو يعفو الأزواج، فأقيم المظهر موضع المضمر، لكن في تسمية سوق المهر إليها كاملاً بالعفو- والحق نصف المهر- بعد، وإليه الإشارة بقوله:"فيها نظر"، قال صاحب "الإيجاز": وعفوه إذا سلم كل المهر أن لا يرتجع النصف بالطلاق، أو إن لم يسلم وفاه كاملاً، كأنه من: عفوت الشيء: إذا وفرته وتركته حتى يكثر، وفي الحديث "ويرعون عفاها" والعفا: ما ليس لأحد فيه ملك.

قوله: (والأول ظاهر الصحة) يعني: تفسير قوله: (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) بالولي على الصغيرة إذا كان أباً ظاهر الصحة؛ لأن العفو مجرى على ظاهره.

ص: 440

أي: ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض وتتمرؤوا ولا تستقصوا. وقرأ الحسن (أو يعفو الذي) بسكون الواو. وإسكان الواو والياء في موضع النصب تشبيه لهما بالألف، لأنهما أختاها. وقرأ أبو نهيك:(وأن يعفو) بالياء. وقرئ: (ولا تنسوا الفضل) بكسر الواو.

[(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ* فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)].

(الصَّلاةِ الْوُسْطى) أي: الوسطى بين الصلوات، أو الفضلى، من قولهم للأفضل: الأوسط. وأنما أفردت وعطفت على (الصلاة) لانفرادها بالفضل، وهي صلاة العصر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وتتمرؤوا) أي: تصيروا أصحاب مروءة.

قوله: (وإنما أفردت وعطفت على (الصَّلَوَاتِ) لانفرادها بالفضل). قال الزجاج: إن الله عز وجل قد أمر بالمحافظة على جميع الصلوات، إلا أن هذه الواو إذا جاءت مخصصة فهي دالة على المعنى الذي تخصصه كقوله تعالى:(وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ)[البقرة: 98] فذكرا مخصوصين لفضلهما على الملائكة.

وقلت: معنى قوله هو: أن الثاني إن كان في الظاهر كالتخصيص للأول، لكن الأول جيء به توطئة، فيكون الثاني بياناً لإرادة ما استجملت له الأول، فإن بني إسرائيل ما تكلموا إلا في جبريل، فذكر الملائكة عليهم السلام توطئة لشرفه عليهم كما سبق في موضعه، ولولا الثاني لم يعلم المراد من ذكر الأول، وهو المراد بقوله:"فهي دالة على المعنى الذي تخصِّصُّه".

ص: 441

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال القاضي: لعل الأمر بها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها، هذا أحد الوجوه المذكورة في "التفسير الكبير".

وقلت: إنه سبحانه وتعالى لما ذكر شرعية أحكام الأولاد والأزواج ووصيتهم بالتقوى وعم النهي عن نسيان الحقوق والفضل فيما بينهم بقوله: (وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) وعلله بأنه عليم بما في ضمائرهم بصير بأحوالهم، أردفه بالأمر بالمحافظة على حقوق الله لاسيما أفضلها نفعاً وأعلاها قدراً، ولهذا عطف عليه (وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى)، وفيه إشعار بأن مراعاة حق العباد مقدمة على حق الله، ومن ثم شرط في التوبة رد المظالم أولاً، أو ليجمع بين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، ويدل على أن الآية مستطردة: العود إلى ذكر ما يتعلق بالحكم بين الأزواج، وهو قوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ).

الراغب: إن آيات القرآن منزلة حسب الحاجات، ولهذا قال الكفار:(لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) الآية، أعلمهم أنه تعالى فعل ذلك ليقوى عليه الصلاة والسلام على تلقينه وتلقيه، وقال:(وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ)[الإسراء: 106] ثم إن الله تعالى لا يخلي شيئاً يذكره مما يتعلق بالأحكام الدنيوية إلا ويقرنه بحكم أخروي لينبههم على مراعاة الآخرة في جميع أحوالهم وأعمالهم وأنها هي المقصودة بالقصد الأولى، وأما سائر ما يتحرى فلأجلها، على أن ما تراه موجوداً ها هنا ومحفوظاً لدينا أبلغ وأحسن مما راعاه أصحاب القوانين؛ لأنه تعالى لما حثهم على العفو ورغبهم في المحافظة على الفضل عرفهم أن السلوك إلى التخصيص بذلك هو المحافظة على الصلوات بكل حال، فإن الصلاة هي الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، ثم صرف الكلام إلى ذكر ما كان بصدده فتممه.

ص: 442

وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه قال يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللَّه بيوتهم ناراً» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«إنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب» ، وعن حفصة: أنها قالت لمن كتب لها المصحف: إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرؤها. فأملت عليه: والصلاة الوسطى صلاة العصر. وروي عن عائشة وابن عباس رضى اللَّه عنهم: (والصلاة الوسطى وصلاة العصر) بالواو، فعلى هذه القراءة يكون التخصيص لصلاتين، إحداهما: الصلاة الوسطى، إمّا الظهر، وإمّا الفجر، وإمّا المغرب على اختلاف الروايات فيها؛ والثانية: العصر. وقيل: فضلها لما في وقتها من اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إنه قال يوم الأحزاب)، وهو اليوم الذي أحاط فيه الكافرون بالمدينة، والحديث رواه الشيخان وغيرهما، عن علي رضي الله عنه مع التفاوت، وحديث حفصة رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي، وعن عائشة رضي الله عنها مع الاختلاف، وأما كاتب حفصة فهو: رافع مولى عمر رضي الله عنهما، كذا ذكره في الحاشية. وقولها: كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، وهذه الزيادة يجوز أن تكون صادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل البيان

ص: 443

وعن ابن عمر رضي الله عنهما: هي صلاة الظهر؛ لأنها في وسط النهار، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصليها بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشدّ على أصحابه منها. وعن مجاهدٍ: هي الفجر؛ لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فحسبت أنها من القرآن، وأنها قراءة شاذة، وحديث ابن عمر رواه الترمذي وأبو داود، عن زيد بن ثابت، مع التفاوت.

قوله: (وعن مجاهد: هي الفجر). روي عن علي وابن عباس كانا يقولان: الصلاة الوسطى صلاة الصبح. رواه الترمذي عن ابن عباس وابن عمر تعليقاً، وفي "شرح السنة": سأل عبيدة علياً عن صلاة الوسطى، قال: كنا نرى أنها صلاة الفجر، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق: "شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وبيوتهم

ص: 444

وعن قبيصة بن ذؤيب: هي المغرب، لأنها وتر النهار، ولا تنقص في السفر من ثلاث. وقرأ عبد اللَّه:(وعلى الصلاة الوسطى)، وقرأت عائشة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ناراً"، وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" عن عبيدة، عن علي رضي الله عنه.

قوله: (وتر النهار). في الحاشية: سمي المغرب بوتر النهار لأنه آخر جزء من النهار، وفي "المغرب": يقال: وترته، أي: قتلت حميمه وأفردته منه، يقال: وتره حقه: إذا نقصه، ومنه:"من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" بالنصب.

قوله: (ولا تنقص في السفر) من تتمة التعليل، ووجهه: أن المغرب هي الوسطى؛ لأنها فصل بين النهار والليل، وأنها لا تنقص في السفر، وإنما قلنا: إنه من تتمة التعليل لأن الصبح أيضاً فصل واقع بين الليل والنهار، ولكن ليس فيه المعنى المذكور، قال القاضي: وقيل: الوسطى: المغرب؛ لأنها المتوسط بالعدد ووتر النهار.

ص: 445

(والصلاة الوسطى) بالنصب على المدح والاختصاص. وقرأ نافع: (الوصطى).

(وَقُومُوا لِلَّهِ) في الصلاة (قانِتِينَ): ذاكرين للَّه في قيامكم. والقنوت: أن تذكر اللَّه قائماً. وعن عكرمة: كانوا يتكلمون في الصلاة، فنهوا. وعن مجاهدٍ: هو الركود وكف الأيدى والبصر. وروي: أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمدّ بصره، أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يحدّث نفسه بشيء من أمور الدنيا. (فَإِنْ خِفْتُمْ): فإن كان بكم خوف من عدوّ أو غيره،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرأ نافع: الوصطى)، وهي شاذة وإن نسبت للإمام.

قوله: (هاب الرحمن)، فإن قيل: صفة الرحمن مما لا يهاب منها، يقال: إن الله تعالى إذا تجلى للعبد بما يحتوي على جلائل النعم ربما يضيق منها نطاق بشريته، وفي معناه أنشد:

أشتاقه، فإذا بدا

أطرقت من إجلاله

لا خيفة بل هيبة

وصبابة لجماله

ومن ثمة أردف بالرحيم عند الإفضال، وضم إليه الاستواء على العرش عند العظمة والكبرياء، وكلما ذكر مجرداً عن الرحيم أشعر بمعنى الهيبة.

قوله: (فإن كان بكم خوف). قال الزجاج: (فَإِنْ خِفْتُمْ) أي: إن لم يمكنكم أن تقوموا قانتين، أي: عابدين موفين الصلاة حقها لخوف ينالكم فصلوا ركباناً، فإذا أمنتم فقوموا قانتين، أي: مؤدين الفرض، هذا ظاهر على مذهب الشافعي رضي الله عنه، وحجةُ أبي حنيفة

ص: 446

(فَرِجالًا): فصلوا راجلين، وهو جمع راجل كقائم وقيام؛ أو رجلٍ، يقال: رجل رجل، أي: راجل. وقرئ: (فرجالاً) بضم الراء، و (رجالاً) بالتشديد، و (رجلاً). وعند أبي حنيفة رحمه الله: لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف، وعند الشافعي رحمه الله: يصلون في كل حال، والراكب يومئ، ويسقط عنه التوجه إلى القبلة (فَإِذا أَمِنْتُمْ): فإذا زال خوفكم (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) من صلاة الأمن، أو: فإذا أمنتم فاشكروا اللَّه على الأمن، واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع، وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوم الخندق، واجيب بأنه منسوخ بهذه الآية، مع أن قوله صلى الله عليه وسلم:"شغلونا عن صلاة الوسطى" يحتمل النسيان.

قوله: (و"رجالاً") كجاهل وجهال، "أو رجلاً" كصاحب وصحب.

قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ) فالذكر ها هنا إما الصلاة أو الذكر نفسه، فعلى الأول يحمل قوله:(فَإِذَا أَمِنتُمْ) على إزالة الخوف، يعني: فإذا زال خوفكم، فأدوا الصلاة أو اقضوها؛ على الخلاف، وعلى الثاني يحمل:"إذا أمنتم" على ظاهره، يعني: إذا خولكم نعمة الأمن بعد الخوف فقابلوها بالشكر، وهي العبادة، كأنه لمح بقوله:"كما أحسن إليكم" إلى مذهبه؛ لأن عندهم تعليم الشرائع إحسان من الله؛ لأنه إن لم يبعث رسولاً ولم ينزل كتاباً كان الإيمان به واجباً لما ركب فيهم من العقول، هذا لفظه في أول السورة.

ص: 447

[(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)].

تقديره فيمن قرأ: (وصية) بالرفع: ووصية الذين يتوفون، أو: وحكم الذين يتوفون وصية لأزواجهم، أو: والذين يتوفون أهل وصية لأزواجهم؛ وفيمن قرأ بالنصب: والذين يتوفون يوصون وصية، كقولك: إنما أنت سير البريد، بإضمار تسير؛ أو والزم الذين يتوفون وصية. وتدل عليه قراءة عبد اللَّه (كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول) مكان قوله:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ)، وقرأ أبيّ:(متاع لأزواجهم متاعاً)، وروي عنه:(فمتاع لأزواجهم)، و (متاعاً) نضب بالوصية، إلا إذا أضمرت "يوصون"؛ فإنه نصب بالفعل. وعلى قراءة أبيّ متاعاً نصب بـ"متاع"، لأنه في معنى التمتيع كقولك: الحمد للَّه حمد الشاكرين، وأعجبني ضرب لك زيداً ضرباً شديداً. و (غَيْرَ إِخْراجٍ) مصدر مؤكد كقولك: هذا القول غير ما تقول؛ أو بدل من (متاعاً) أو حال من "الأزواج"، أي: غير مخرجات، ........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فيمن قرأ: "وصية"، بالرفع) الحرميان وأبو بكر والكسائي: بالرفع، والباقون: بالنصب.

قوله: (أو ألزم الذين يتوفون) فعلى هذا (وَصِيَّةً): ثاني مفعولي "ألزم".

قوله: (وقرأ أبي: "متاع") أي: مكان (وَصِيَّةً)، وروي عنه:"فمتاع"؛ لأن "الذين" متضمن لمعنى الشرط، فجاز إدخال الفاء في الخبر.

ص: 448

والمعنى: أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولاً كاملاً، أي: ينفق عليهنّ من تركته ولا يخرجن من مساكنهن، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخت المدة بقوله:(أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)[البقرة: 243]. وقيل: نسخ ما زاد منه على هذا المقدار، ونسخت النفقة بالإرث الذي هو الربع والثمن. واختلف في السكنى، فعند أبى حنيفة وأصحابه: لا سكنى لهن. (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ) من التزين والتعرض للخطاب (مِنْ مَعْرُوفٍ): مما ليس بمنكر شرعاً. فإن قلت: كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمعنى: أن حق الذين يتوفون عن أزواجهم) إلخ، هذا على تقدير الحال ظاهر، ومن ثمة قدر ولا يخرجن عن مساكنهن"، وأما على تقدير المصدر فالمعنى: يمسكن في البيوت إمساكاً غير إخراج، فإنه لما ذكر أنهم يوصون لأزواجهم ما تمتع به حولاً دل على أنهم لا يخرجون، فأكد ذلك بقوله:(غَيْرَ إِخْرَاجٍ)، وعلى تقدير البدل: فحق الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا لأزواجهم، أن: لا يخرجن من مساكنهن حولاً كاملاً، وعلى التقديرين لا يكون في الآية ما يدل على إيجاب النفقة، قال القاضي: سقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن، والسكنى لها بعد ثابتة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة، وقوله تعالى:(فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ) هذا يدل على أنه لم يكن يجب عليها ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه، وإنما كانت مخيرة بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها.

قوله: (كيف نسخت الآية المتقدمة؟ ) توجيه السؤال أن قوله تعالى: (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)[البقرة: 234] متقدم على هذه الآية في التلاوة، وهي ناسخة لها، ومن شرط الناسخ أن يكون متأخراً.

ص: 449

قلت: قد تكون الآية متقدّمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل، كقوله تعالى:(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ)[البقرة: 142]، مع قوله:(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ)[البقرة: 144].

[(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ* كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) 241 - 242].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قد تكون الآية متقدمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل) يعني: ليس ترتيب المصحف على ترتيب التنزيل، وإنما ترتيب التلاوة هو ترتيب الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله: (كقوله تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ)[البقرة: 142] مع قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ)[البقرة: 144])، وذلك أن تقلب وجهه في السماء مؤذن بأنه صلى الله عليه وسلم كان طالباً من الله الإذن بالتحويل؛ لأنها قبلة آبائه، والدليل عليه قوله:"وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوقع من الله أن يحوله إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام وأدعى للعرب إلى الإيمان"، وهذا التوقع إنما يحسن إذا لم يسبق بقوله:(سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) ويمكن أن يقال: إن قوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ) إخبار عن الكائن ووعد لحبيبه صلوات الله عليه أن يحوله إلى قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل، يعني لابد أن يحول القبلة إلى الكعبة ولابد أن يقول السفهاء:(مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)، وقل أنت:(لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)، وكان صلوات الله عليه يتوقع من ربه إنجاز وعده زماناً غب زمان، ويراعي نزول جبريل عليه السلام والوحي بالتحويل، فقيل له:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) انتظاراً لما وعدناك، ننجز الوعد ونعطيك قبلة ترضاها.

ص: 450

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعد ما أوجبها لواحدة منهن وهي المطلقة غير المدخول بها، وقال:(حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) كما قال ثمة: (حقاً على المحسنين)[البقرة: 236]. وعن سعيد بن جبير وأبى العاليه والزهري: أنها واجبة لكل مطلقة. وقيل قد تناولت التمتيع الواجب والمستحب جميعاً. وقيل: المراد بالمتاع نفقة العدة.

[(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ* وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) 243 - 244].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عَمَّ المطلقات بإيجاب المتعة) ينافي مذهبه في تفسير الآية السابقة، وهو قوله:"عند أصحابنا: لا تجب المتعة إلا لهذه" أي: المطلقة غير المدخول بها ويستحب لسائر المطلقات؛ لأنه أوجب ها هنا لكلهن، ثم أكد هذا الوجه بقول سعيد بن جبير وغيره، والتفصي منه لا يحصل إلا بتخصيص المنطوق بالمفهوم، كما قال القاضي: إفراد بعض العام بالحكم لا يخصصه إلا إذا جوزنا تخصيص المنطوق بالمفهوم، ولهذا أوجبها ابن جبير لكل مطلقة، وأول غيره بما يعم التمتع الواجب والمستحب. وقلت: لكن الحنفية لا يقولون بالمفهوم وعلى تقدير جوازه كما هو مذهب المصنف في هذا الباب، ينبغي أن يكون المخصص متأخراً عن المخصص، وقد قال: ما أوجبها لواحدة منهن.

قوله: (وقد تناولت التمتيع الواجب والمستحب)، هذا مبني على أن مطلق الأمر يتناول الواجب والمستحب جميعاً، فلا تنافي الآية السابقة.

وقال القاضي: ويجوز أن تكون اللام للعهد، والتكرير للتأكيد أو لتكرير القضية.

ص: 451

(أَلَمْ تَرَ) تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأوّلين، وتعجيب من شأنهم. ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع، لأنّ هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجيب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أَلَمْ تَرَ) تقرير لمن سمع بقصتهم)، الراغب:"رأيت" يتعدى بنفسه دون الجار، لكن لما استعير قولهم:"ألم تر" لمعنى: ألم تنظر؟ عدي تعديته، وفائدة استعارته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية، فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له، وقلما استعمل ذلك في غير التقدير، ولا يقال: رأيت إلى كذا.

قوله: (ويجوز أن يخاطب) عطف على قوله: "تقرير لمن سمع بقصتهم"، وهو أوفق من الأول لتأليف النظم، لأن الكلام مع المؤمنين في شأن الأزواج والأولاد، وقوله:(كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، كالتخلص من الأحكام إلى القصص لاشتمال معنى الآيات عليها، يؤيده قوله بعد هذا:"وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد"، وذكر الجهاد ها هنا كذكر الصلاة قبل ذلك تدرجاً من الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر. قال الزجاج: وفي ذكرها للنبي صلى الله عليه وسلم احتجاج على مشركي العرب وأهل الكتاب؛ لأنه أنبأ أهل الكتاب بما لا يدفعون صحته وهو صلى الله عليه وسلم لم يقرأ كتاباً ولا تعلم من أحد، وهم يعلمون أنه كذلك، فلا تكون هذه الأقاصيص إلا بوحي من الله تعالى.

قوله: (لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل) تعليل لجواز استعمال (أَلَمْ تَرَ) في غير من سمع على تقدير سؤال، وذلك أن (أَلَمْ تَرَ) إذا خوطب به من نظر إلى حال أو سمع قصة تولد منه معنى التعجب كما في الوجه الأول، وأما إذا خوطب به من لم ينظر ولم يسمع افاد الحث على النظر والاستماع، فكيف يفيد معنى التعجب؟ والجواب: أنه مزال عن الأصل نظراً

ص: 452

روي: أنّ أهل داوردان قرية قبل واسط -وقع فيهم الطاعون، فخرجوا هاربين فأماتهم اللَّه ثم أحياهم؛ ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفرّ من حكم اللَّه وقضائه. وقيل: مرّ عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرّقت أوصالهم فلوى شدقه وأصابعه تعجباً مما رأى، فأوحي إليه: ناد فيهم أن قوموا بإذن اللَّه. فنادى فنظر إليهم قياماً يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت. وقيل: هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت، فأماتهم اللَّه ثمانية أيام ثم أحياهم. (وَهُمْ أُلُوفٌ) فيه دليل على الألوف الكثيرة، واختلف في ذلك؛ فقيل: عشرة، وقيل: ثلاثون، وقيل: سبعون. ومن بدع التفاسير: (أُلُوفٌ): متآلفون جمع آلف، كقاعد وقعود.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلى الاستعمال السابق وجار مجرى المثل بعده، قال الزجاج:(أَلَمْ تَرَ) كلمة يوقف بها المخاطب على أمر يتعجب منه، تقول: ألم تر إلى فلان كيف صنع كذا.

قوله: (مر عليهم) أي: اجتاز، "الأساس": مررت به وعليه مراراً ومروراً وممراً. كذا في "الصحاح".

قوله: (فنظر إليهم)، الفاء فيه فصيحة، أي: فنادى فحيوا وقاموا ونظر إليهم قياماً.

قوله: (فقيل: عشرة، وقيل: ثلاثون، وقيل: سبعون) قال الإمام: للوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف، لأن الألوف جمع الكثير.

قوله: (ومن بدع التفاسير) أي: ليس يثبت أن الألوف جمع آلف، قال القاضي عبد الجبار: الوجه الأول أولى؛ لأن ورود الموت عليهم وهم كثيرون يفيد مزيد اعتناء

ص: 453

فإن قلت: ما معنى قوله: (فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا)؟ قلت: معناه فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر اللَّه ومشيئته، وتلك ميتة خارجة عن العادة، كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالا من غير إباء ولا توقف، كقوله تعالى:(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82]، وهذا تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، وأنّ الموت إذا لم يكن منه بدٌّ ولم ينفع منه مفر، فأولى أن يكون في سبيل اللَّه (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)؛ حيث يبصرهم ما يعتبرون به ويستبصرون، كما بصر أولئك، وكما بصركم باقتصاص خبرهم. أو لذو فضل على الناس حيث أحيى أولئك ليعتبروا فيفوزوا، ولو شاء لتركهم موتى إلى يوم البعث. والدليل على أنه ساق هذه القصة بعثاً على الجهاد: ما أتبعه من الأمر بالقتال في سبيل اللَّه. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون ........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بشأنهم، وأجاب الإمام: أن كونهم مؤتلفين أيضاً كذلك، لأن كونهم مؤتلفين يقتضي الاهتمام أيضاً، بمعنى أنهم مع غاية المحبة والألف أماتهم الله تعالى.

قوله: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً)) هذا مبني على أن ليس ثمة أمر ولا قول، بل هو تمثيل شبه حال تعلق إرادة [الله] تعالى بموتهم دفعة واحدة، وكما تعلقت إراداته حصل المراد بلا مهلة- بحالة أمر مطاع برد أمره على ما هو مطيع، فلم يتوقف عن الامتثال، ثم أخرجه مخرج الاستعارة فإذا تخلف رجل منهم لم يحصل الامتثال، وهو المراد من قوله:"ماتوا ميتة رجل واحد".

قوله: (ما يقوله المتخلفون والسابقون) أي: من تنفير الغير عن الجهاد وترغيب الغير في الجهاد.

ص: 454

(عَلِيمٌ) بما يضمرونه وهو من وراء الجزاء.

[(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)].

إقراض اللَّه مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بما يضمرونه) أي: من البواعث والأغراض، وأن ذلك الجهاد لغرض الدين أو لعاجل الدنيا.

قوله: (وهو من وراء الجزاء) مثل، يريد أنه تعالى لابد أن يجازي المتخلف والسابق كما أن سائق الشيء من ورائه لابد أن يوصله على ما يريده، والمعنى مستفاد من قوله:(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وهو كما تقول لمن تهدده وتوعده: أنا أعلم بحالك، أي: لا أنساها وأجازيك عليها.

قوله: (إقراض الله مثل)؛ لأن حقيقة الإقراض هو: إعطاء عين على وجه طلب البدل، قال الزجاج: القرض في اللغة: أصله ما يعطيه الرجل ليجازى عليه، والله عز وجل لا يستقرض عن عوز، ولكنه يبلو الأخيار، قال أمية بن أبي الصلت:

كل امرئ سوف يجزى قرضه حسناً

وسيئاً ومديناً كالذي دانا

والقرض هنا: اسم لكل ما يلتمس عليه في الحقيقة الجزاء.

وقال الراغب: إقراض الله عبارة عن: كل إنفاق محمود أوجبه أو ندب إليه، وسمى ذلك قرضاً تلطفاً لعباده، وإنما يطلبه منهم مع كونه في الحقيقة ملكاً له تعالى يأخذه ليرد عوضه إليهم خيراً منه. وقال أبو البقاء: القرض: اسم للمصدر، والمصدر على الحقيقة الإقراض، ويجوز أن يكون القرض ها هنا بمعنى المقروض فيكون مفعولاً به، و (حَسَناً) - على هذا-

ص: 455

والقرض الحسن: إما المجاهدة في نفسها، وإما النفقة في سبيل اللَّه.

(أَضْعافاً كَثِيرَةً): قيل: الواحد بسبع مائة. وعن السدي: كثيرة لا يعلم كنهها إلا اللَّه. (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ): يوسع على عباده ويقتر فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيقة بالسعة، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على ما قدّمتم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي: يقرض الله مالاً إقراضاً حسناً، ويجوز أن يكون صفة للمال، ويكون بمعنى الطيب أو الكثير، وقوله:(وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) تتميم للتحريض على الإنفاق، وإيذان بأن الإنفاق والإمساك لا ينقص من المال ولا يزيد، بل الله هو الموسع والمقتر، هذا على تأويل الإقراض بالإنفاق في سبيل الله كالتجريد للاستعارة، وعلى تأويل المجاهدة في نفسها وإما بمعنى المفعول كالترشيح لها.

قوله: (والقرض الحسن إما: المجاهدة في نفسها) يعني: قد تقرر أن الإقراض ها هنا تمثيل لتقديم العمل المطلوب ثوابه، وأن المراد بالعمل: المجاهدة، لقرينة قوله:(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، ثم قوله (قَرْضاً حَسَناً) إما بمعنى المصدر فيكون تأكيداً وهو المجاهدة نفسها، وإما بمعنى المفعول به مكا سبق، وهو: يقرض الله مالاً إقراضاً حسناً، فيكون كما قال، وإنما النفقة في سبيل الله، ويجمعهما قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ)[التوبة: 111].

قوله: (فلا تبخلوا عليه) حكم ترتب على الوصف المناسب، وهو القبض والبسط، يعني: إذا علمتم أن الله هو القابض والباسط، وأن ما عندكم من بسطه وإعطائه فلا تبخلوا لئلا يعاملكم بالقبض، قوله:(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ): تذييل للتحريض على الإنفاق والمنع من البخل، ولهذا قال:"فيجازيكم على ما قدمتم، بالفاء".

ص: 456

[(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)].

(لِنَبِيٍّ لَهُمُ) هو يوشع، أو شمعون، أو اشمويل. (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً): أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره. طلبوا من نبيهم نحو ما كان يفعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من التأمير على الجيوش التي كان يجهزها، ومن أمرهم بطاعته وامتثال أوامره. وروي: أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميراً عليهم. (نُقاتِلْ) قرئ بالنون والجزم على الجواب، وبالنون والرفع على أنه حال،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أنهض للقتال معنا أميراً). قال القاضي: أقم لنا أميراً ننهض معه للقتال يدبر أمره ونصدر عن رأيه. وفي "المغرب": البعث: الإثارة، يقال: بعث الناقة، أي: أثارها، وبعثه: أرسله. الراغب: البعث: إرسال المبعوث عن المكان الذي فيه لكن فرق بين تفاسيره بحسب اختلاف المتعلق به، فقيل: بعثت البعير من مبركه، أي: ثورته، وبعثته في السير، أي: هيجته، وبعث الله الميت: أحياه، وضرب البعث على الجند: إذا أمروا بالارتحال.

قوله: (والرفع على أنه: حال)، قال الزجاج: والرفع بعيد، ويجوز على معنى "فإنا نقاتل"، وكثير من النحويين لا يجيزونه، قال أبو البقاء: الجمهور على النون والجزم على جواب الأمر، والبواقي شواذ.

ص: 457

أي: ابعثه لنا مقدّرين القتال؛ أو استئناف، كأنه قال لهم: ما تصنعون بالملك؟ فقالوا: نقاتل. وقرئ: (يقاتل) بالياء والجزم على الجواب، وبالرفع على أنه صفة لـ (ملكاً) وخبر (عسيتم):(أَلَّا تُقاتِلُوا)، والشرط فاصل بينهما. والمعنى: هل قاربتم أن لا تقاتلوا؟ يعني: هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون؟ أراد أن يقول: عسيتم أن لا تقاتلوا، بمعنى: أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل "هل" مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون.

وأراد بالاستفهام التقرير، وتثبيت أنّ المتوقع كائن، وأنه صائب في توقعه، كقوله تعالى:(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ)[الإنسان: 1]، معناه التقرير. وقرئ (عسيتم) بكسر السين، وهي ضعيفة. (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ): وأي: داعٍ لنا إلى ترك القتال؟ وأي: غرض لنا فيه (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا)؟ ! وذلك أنّ قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أراد أن يقول: عسيتم أن لا تقاتلوا)، يعني: أن نبي الله كان يظن ويتوقع أنهم لا يقاتلون بما شاهد منهم من أمارات التثاقل والتثبط، ثم لما قويت تلك الأمارات وعلم أن متوقعه كائن أدخل "هل" على سبيل التقرير، ولما كان "هل" في الأصل سؤالاً عن النسبة، فإذا وجدت النسبة أفادت التقرير والتثبيت قال: "إن المتوقع كائن، وإنه صائب في توقعه

وقرئ بكسر السين، وهي ضعيفة"، قرأها نافع، قال في "الكواشي": يقال: عسي كعمي، واسم الفاعل: عس كعم، عن ابن الأعرابي. فإن قيل: أليس موضع قوله: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا) بعد قوله: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً)؟ قلت: لا؛ لأن ورود قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) للتعجب من قبائح

ص: 458

فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين. (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ): قيل: كان القليل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، على عدد أهل بدر. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ): وعيد لهم على ظلمهم في القعود عن القتال وترك الجهاد.

[(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) 247].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اليهود ولبيان نقص ما أعطوا من العهود بأن يجاهدوا أعداء الدين بعد ما كانوا هم الطالبين له على الإجمال، وقوله:(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) إلى آخر الآيات، كالتفصيل لذلك المجمل بتكرير التعيير والتوبيخ، يدل عليه قوله تعالى في التفصيل:(فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا) للكثير الذين انخزلوا، و (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) هم القليل الذين ثبتوا معه.

قوله: (فأسروا من أبناء ملوكهم)، قال محيي السنة: قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم، وهم العمالقة، فظهروا على بني إسرائيل، وغلبوا على كثير من أرضهم وسبوا كثيراً من ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربع مئة غلام وضربوا عليهم الجزية.

قوله: (على عدد أهل بدر)، روينا عن البخاري والترمذي، عن البراء قال:"كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاث مئة".

ص: 459

طالُوتَ: اسم أعجمي كجالوت وداود. وإنما امتنع من الصرف لتعريفه وعجمته، وزعموا أنه من الطوال لما وصف به من البسطة في الجسم. ووزنه إن كان من الطول «فعلوت» منه، أصله طولوت، إلا أنّ امتناع صرفه يدفع أن يكون منه، إلا أن يقال: هو اسم عبراني وافق عربيا، كما وافق حنطا حنطة، و"بشما لاها رخمانا رخيما": بسم اللَّه الرحمن الرحيم، فهو من الطول كما لو كان عربياً، وكان أحد سببيه العجمة؛ لكونه عبرانياً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فهو من الطول) الفاء ناتجة من قوله: "إلا أن يقال: هو اسم عبراني وافق عربياً"، وفيه إشكال؛ لأنه يلزم منه أن يكون غير العربي مشتقاً أيضاً، فيقال: لا يبعد ذلك، ذكر ابن الأثير في "المثل السائر": أن يهودياً حضر عندي وكان معتقداً فيه بين اليهود لمكان علمه في دينهم وغيره، وكان لعمري كذلك، فجرى ذكر اللغات، قال: لغة العرب أشرفها مكاناً وأحسنها وضعاً، فقال اليهودي: وكيف لا، وقد جاءت متأخرة فنفت القبيح من اللغات وأخذت الحسن! ثم إن واضعها تصرف في جميع اللغات السالفة، واختصر ما اختصر وخفف ما خفف، فمن ذلك "الجمل"، فإنه في اللسان العبراني كويمل ممالاً على وزن فويعل، فجاء واضع اللغة العربية وحذف الثقل المستبشع وقال: جمل، فصار خفيفاً حسناً، وكذلك فعل في كذا وكذا، وذكر أشياء كثيرة، ولقد صدق في الذي ذكره، وإليه أشار المصنف:"كما وافق حنطاً حنطة، وبشمالا رخمانا رخيما: بسم الله الرحمن الرحيم"، فكما أن الفرع وهو الرحمن الرحيم مشتق من الرحمة، فكذا الأصل.

ص: 460

(أَنَّى): كيف، ومن أين، وهو إنكار لتملكه عليهم، واستبعاد له. فإن قلت: ما الفرق بين الواوين في: (وَنَحْنُ أَحَقُّ)، (وَلَمْ يُؤْتَ)؟ قلت: الأولى للحال، والثانية لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالاً، قد انتظمتهما معاً في حكم واو الحال. والمعنى: كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك؛ لوجود من هو أحق بالملك، وأنه فقير ولا بدّ للملك من مال يعتضد به. وإنما قالوا ذلك؛ لأنّ النبوّة كانت في سبط لاوي بن يعقوب، والملك في سبط يهوذا، ولم يكن طالوت من أحد السبطين؛ ولأنه كان رجلاً سقاءً أو دباغاً فقيراً. وروي: أنّ نبيهم دعا اللَّه تعالى حين طلبوا منه ملكاً فأتي بعصاً يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت.

(قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ): يريد أنّ اللَّه هو الذي اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم، ولا اعتراض على حكم اللَّه، ثم ذكر مصلحتين أنفع مما ذكروا من النسب والمال وهما العلم المبسوط والجسامة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الأولى: للحال، والثانية: لعطف الجملة على الجملة الواقعة حالاً)، الانتصاف: هذا من السهل الممتنع. الإنصاف: لا أدري ما وعر هذا السهل. قلت: سهل ما وعره عدم السلوك وقلة توغله فيه، فالحال الأولى هي المقررة لجهة الإشكال، كقوله تعالى:(أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ)[البقرة: 30]، والثانية لتتميم معناها والمبالغة فيها.

قوله: (من أحد السبطين) قيل: كان من سبط بنيامين، وهو أدون الأسباط.

قوله: (ثم ذكر مصلحتين) يريد أن قوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ) وقع جواباً عن قولهم: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا) الآية، على طريقة الاستئناف والرد عليهم، وأن قوله:(وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) على آخره شروع في تفصيله على ما بنوا عليه كلامهم، قال القاضي: لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه، رد عليهم ذلك أولاً بأن العمدة فيه

ص: 461

والظاهر أنّ المراد بالعلم المعرفة بما طلبوه لأجله من أمر الحرب. ويجوز أن يكون عالما بالديانات وبغيرها. وقيل: قد أوحي إليه ونبئ؛ وذلك أنّ الملك لا بدّ أن يكون من أهل العلم، فإنّ الجاهل مزدرى غير منتفع به وأن يكون جسيماً يملأ العين جهارة؛ لأنه أعظم في النفوس وأهيب في القلوب. والبسطة: السعة والامتداد. وروي: أن الرجل القائم كان يمدّ يده فينال رأسه. (يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) أي: الملك له غير منازع فيه، فهو يؤتيه من يشاء من يستصلحه للملك. وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل والعطاء، يوسع على من ليس له سعة من المال ويغنيه بعد الفقر، (عَلِيمٌ) بمن يصطفيه للملك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اصطفاء الله، وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم، وثانياً بأن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة، وجسامة البدن ليكون أعظم خطراً في القلوب وأقوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب، لا ما ذكرتم، وثالثاً: أنه مالك الملك، فله أن يؤتيه من يشاء، ورابعاً: أنه واسع الفضل يوسع على الفقير ويغنيه، عليم بما يليق بالملك بالنسب وغيره.

وقلت، والله أعلم: قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) تكميل لقوله: (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ)، لأن المراد بالأول: إثبات المالكية والقدرة الكاملة على جميع الكائنات، وبالثاني: إثبات علمه الشامل على جميع المعلومات، وهما كالتذييل لما سبق، ومن ثمة عم الحكمين، ووضع المظهر، وهو لفظة "الله"، موضع المضمر، وكرره، فالمراد بقوله:(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ) إثبات العلم الخاص، وهو العلم بمصالح العباد كما قال المصنف:"يريد أن الله تعالى هو الذي اختاره عليكم، وهو أعلم بالمصالح منكم"، وبالزيادة في العلم والجسم: القدرة المخصوصة، والله أعلم بمراده من كلامه.

قوله: (يملأ العين جهارة) قال في "الأساس": جهرني فلان: راعني بجماله وهيئته، وجهرت الجيش واجتهرتهم: كثروا في عيني.

ص: 462

[(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَاتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)].

(التَّابُوتُ): صندوق التوراة، وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قدّمه، فكانت تسكن نفوس بنى إسرائيل ولا يفرّون. والسكينة: السكون والطمأنينة، وقيل: هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهرّ وذنب كذنبه وجناحان، فتئن فيزف التابوت نحو العدوّ وهم يمضون معه، فإذا استقرّ ثبتوا وسكنوا ونزل النصر، وعن علىّ رضى اللَّه عنه: كان لها وجه كوجه الإنسان وفيها ريح هفافة. (وَبَقِيَّةٌ) هي: رضاض الألواح، وعصا موسى، وثيابه، وشيء من التوراة، وكان رفعه اللَّه تعالى بعد موسى عليه السلام فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون إليه، فكان ذلك آية لاصطفاء اللَّه طالوت.

وقيل: كان مع موسى ومع أنبياء بنى إسرائيل بعده يستفتحون به، فلما غيرت بنو إسرائيل غلبهم عليه الكفار فكان في أرض جالوت، فلما أراد اللَّه أن يملك طالوت أصابهم ببلاء حتى هلكت خمس مدائن، فقالوا: هذا بسبب التابوت بين أظهرنا، فوضعوه على ثورين، فساقهما الملائكة إلى طالوت. وقيل كان من خشب الشمشار مموّها بالذهب. نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين. وقرأ أبىّ وزيد بن ثابت:(التابوه) بالهاء وهي لغة الأنصار. فإن قلت:

ما وزن التابوت؟ قلت: لا يخلو من أن يكون فعلوتا أو فاعولا، فلا يكون فاعولا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فتئن فيزف التابوت)، الجوهري: الزفيف: السير السريع مثل الذفيف، يقال: زف الظليم والبعير يزف، بالكسر، أي: يسمع منها أنين فيسرع التابوت.

قوله: (ريح هفافة). والريح الهفافة: الساكنة الطيبة، والرض: دق الجريش، وقد رضضت الشيء فهو رضيض ومرضوض.

ص: 463

لقلةٍ، نحو: سلس وقلق، ولأنه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه، فهو إذاً «فعلوت» من التوب، وهو الرجوع لأنه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته. وأمّا من قرأ بالهاء فهو «فاعول» عنده، إلا فيمن جعل هاءه بدلاً من التاء، لاجتماعهما في الهمس، وأنهما من حروف الزيادة، ولذلك أبدلت من تاء التأنيث. وقرأ أبو السمال:(سكينة) بفتح السين والتشديد وهو غريب. وقرئ: (يحمله) بالياء. فإن قلت: مَن (آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ)؟ قلت: الأنبياء من بنى يعقوب بعدهما؛ لأن عمران هو ابن قاهث بن لاوي بن يعقوب،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لقلة نحو: سلس) أي: قل في كلام العرب لفظ فاؤه ولامه من جنس واحد، فلا يجوز القياس على هذا، وغذا لم يجز فلا يقال: تابوت من تبت، وأما من قرأ بالهاء فهو فاعول؛ لأن فعلوة غير موجود، قال الجوهري: التابوت: أصله تابوة كترقوة، وهو فعلوة، فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاء. روى صاحب "جامع الأصول"، عن رزين، عن علي قال: أرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص رضي الله عنهم فقال: ليكتب أحدكم آي القرآن وليمل الآخر، فإذا اختلفتم فارفعاه إلي، فاختلفا في هذا الحرف، قال سعيد: التابوت، وقال زيد: التابوه، فرفعاه إلى عثمان، قال: اكتبوه التابوت. قال علي: لو وليت الذي ولي عثمان لصنعت مثل الذي صنع.

قوله: (وهو ابن قاهث) صوابه: عمران بن يصهر بن قاهث، يدل عليه ما سنذكره في آل عمران.

ص: 464

فكان أولاد يعقوب آلهما. ويجوز أن يراد: مما تركه موسى وهرون. والآل مقحم لتفخيم شأنهما.

[(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)].

(فَصَلَ) عن موضع كذا، إذا انفصل عنه وجاوزه، وأصله: فصل نفسه، ثم كثر محذوف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي كانفصل. وقيل: فصل عن البلد فصولا. ويجوز أن يكون فصله فصلاً وفصل فصولاً كوقف وصدّ ونحوهما والمعنى: انفصل عن بلده (بِالْجُنُودِ) روى أنه قال لقومه: لا يخرج معى رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا رجل متزوّج بامرأة لم يبن عليها،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مقحم)، قال المصنف: إقحام الآل للتفخيم، كقول الواحد المطاع: أمرنا ونهينا، قلت: مثله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)[النحل: 120].

قوله: (وقيل: فصل عن البلد فصولاً) معطوف على قوله: "صار" أي: حتى صار في حكم اللازم واستعمل استعماله فجيء بمصدره على طريقة مصدر اللازم وقيل: فصل فصولاً.

قوله: (ويجوز أن يكون) معطوفاً على جملة قوله: "وأصله: فصل نفسه" أي: أصله التعدي ثم جعل لازماً، ويجوز أن يكون في أصله لازماً ومتعدياً كوقف، يقال: وقفت الدابة وقوفاً ووقفتها أنا؛ يتعدى ولا يتعدى، وصد عنه يصد صدوداً: أعرض، وصده عن الأمر صداً: منعه.

قوله: (لم يبن عليها)، قال المصنف: يجوز: بنى بها، وعليها أفصح؛ لأنه كان من عادتهم أن الواحد منهم إذا زفت إليه امرأته بنى قبة عليها.

ص: 465

ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ. فاجتمع إليه مما اختاره ثمانون ألفاً، وكان الوقت قيظاً وسلكوا مفازة، فسألوا أن يجرى اللَّه لهم نهراً، فـ (قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ) بما اقترحتموه من النهر، (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ): فمن ابتدأ شربه من النهر بأن كرع فيه (فَلَيْسَ مِنِّي): فليس بمتصل بي ومتحد معي؛ من قولهم: فلان مني كأنه بعضه؛ لاختلاطهما واتحادهما، ويجوز أن يراد: فليس من جملتي وأشياعى. (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ): ومن لم يذقه؛ من طعم الشيء، إذا ذاقه. ومنه طعم الشيء؛ لمذاقه. قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قيظاً) بالظاء المعجمة، الجوهري: قاظ يومنا أي: اشتد حره.

قوله: (فليس بمتصل بي) يريد أن من في (مِنّيِ) للاتصال، كقوله تعالى:(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)، وقول النابغة:

إذا حاولت في أسد فجوراً

فإني لست منك ولست مني

ويجوز أن تكون "من" للتبعيض، والمعنى: فليس من جملتي.

قوله: (من طعم الشيء: إذا ذاقه)، الراغب: الطعم: تناول الغذاء، ويسمى ما يتناول منه طعماً وطعاماً، وقيل: قد يستعمل "طعمت" في الشراب، قال تعالى:(وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ)، وقال بعضهم: إمنا قال: (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) تنبيهاً أنه محظور عليه أن يتناوله إلا غرفة مع طعام، كما أنه محظور أن يشربه إلا غرفة، فإن الماء قد يطعم إذا كان مع شيء يمضغ، ولو قال: ومن لم يشربه لكان يقتضي أن يجوز تناوله أكثر من غرفة إذا كان في طعام، فلما قال:(وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) بين أنه لا يجوز تناوله على كل حال، غلا على قدر المستثنى، وهو الغرفة.

ص: 466

وَإنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نَقَاخًا وَلَا بَرْدَا

ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم! ويقال: ما ذقت غماضاً ونحوه من الابتلاء ما ابتلي اللَّه به أهل أيلة من ترك الصيد مع إتيان الحيتان شرَّعاً، بل هو أشد منه وأصعب، وإنما عرف ذلك طالوت بإخبار من النبي، وإن كان نبياً - كما يروى عن بعضهم - فبالوحي. وقرئ:(بنهر) بالسكون. فإن قلت: ممَّ استثنى قوله: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ)؟ قلت: من قوله: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي)، والجملة الثانية في حكم المتأخرة، إلا أنها قدّمت للعناية كما قدم (وَالصَّابِئُونَ) في قوله:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ)[المائدة: 69]،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإن شئت لم أطعم)، صدره:

وإن شئت حرمت النساء سواكم

النقاخ: الماء العذب الذي ينقخ الفؤاد ببرده، أي: يكسر العطش، ولو لم يكن الطعم في البيت بمعنى الذوق لما جاز العطف، لصيرورة المعنى: لم آكل النوم، وأما إن كان بمعنى الذوق فجاز لما ذكر من أنه يقال:"ما ذقت غماضاً"، قال في مخاطبة: النساء سواكم، إرادة لتعظيمهن كما يجاء بالجمع لواحد المذكر.

قوله: (بل هو أشد منه وأصعب) أي: الابتلاء بالنهر أشد من ابتلاء أهل أيلة لما حصل لهم من مشقة السفر مع بعد المفازة والوقت قيظ، بخلاف أهل أيلة لقلة احتياجهم إلى الحيتان مع أنهم حاضرون ولهم أطعمة سواها.

قوله: (والجملة الثانية في حكم المتأخرة)، إذ التقدير:"فمن شرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده ومن لم يطعمه فهو مني"، كقوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى) إلى قوله: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ)[المائدة: 69]، والتقدير: إن الذين آمنوا

ص: 467

ومعناه: الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع، والدليل عليه قوله:(فَشَرِبُوا مِنْهُ) أي: فكرعوا فيه (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والذين هادوا والنصارى فلا خوف عليهم، والصابئون كذلك، قدم و"الصابئون" للعناية تنبيهاً به على أن الصابئين يتاب عليهم أيضاً وإن كان كفرهم أغلظ، هكذا ها هنا، المطلوب: أن لا يذاق من الماء رأساً، والاغتراف بالغرفة رخصة، فقدم (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) للعناية؛ لأنه عزيمة، وهو المطلوب أولياً.

قوله: (دون الكروع)، النهاية: كرع في الماء يكرع: إذا تناوله بفيه من غير أن يشرب بكف ولا بإناء كما تشرب البهائم؛ لأنها تدخل فيه أكارعها، والمصنف إنما عدل من الشرب إلى الكروع ليؤذن أنهم بالغوا في مخالفة المأمور، يعني: لم يغترفوا بل كرعوا، أي: أفرطوا في الشرب كالبهائم. الراغب: في القصة إيماء ومثال للدنيا وأبنائها وأن من يتناول قدر ما يتبلغ به اكتفى واستغنى وسلم منها ونجا، ومن تناول منها فوق ذلك ازداد عطشاً، وعليه قيل: الدنيا كالماء المالح: من ازداد منها شرباً ازداد عطشاً، وإلى هذا أشير في الخبر المروي أن الله عز وجل إذا سأله عبد شيئاً من عروض الدنيا أعطاه وقال له: خذه حرصاً، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى غليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب".

قوله: (والدليل عليه) أي: على الاستثناء من قوله: (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) لا من قوله: (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ)؛ لأنه لو كان منه لقيل: فطعموه، وفيه أن من ذهب إليه تعسف، قال أبو البقاء:(إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً) استثناء من الجنس وموضعه نصب، وأنت بالخيار؛ إن شئت جعلته استثناء من "مِن" الأولى، وإن شئت من "مِن" الثانية.

ص: 468

وقرئ: (غرفة) بالفتح بمعنى المصدر، وبالضم بمعنى المغروف. وقرأ أبيّ والأعمش:(إلا قليل) بالرفع؛ وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى (فَشَرِبُوا مِنْهُ) في معنى: فلم يطيعوه؛ حمل عليه، كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم، ونحوه قول الفرزدق:

لمْ يَدَعْ

مِنَ الْمَالِ إلّا مُسْحَتٌ أوْ مُجَلَّفُ

كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف. وقيل: لم يبق مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً. (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعني: القليل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "غرفة" بالفتح) الكوفيون وابن عامر: بضم الغين، والباقون: بفتحها، قال الزجاج: معنى الفتح: المرة الواحدة باليد، والفتح مقدار ملء اليد، قال صاحب "الكشف": كان أبو عمرو يطلب شاهداً على قراءته غرفة بالفتح، فلما هرب من الحجاج إلى اليمن وخرج ذات يوم، فإذا هو براكب ينشد لأمية بن أبي الصلت:

ربما تكره النفوس من الأمر

ما له فرجة كحل العقال

قال فقلت له: ما الخبر؟ قال: مات الحجاج، قال أبو عمرو: فلا أدري بأي الأمرين كان فرحي، أبموت الحجاج أم بقوله: له فرجة.

قوله: (وقرأ أبي والأعمش: "إلا قليل")، قال الزجاج: لا أعرف هذه القراءة ولا لها عندي وجه؛ لأن المصحف على النصب، والنحو يوجبها؛ لأن الاستثناء من الكلام الموجب ليس فيه إلا النصب، كأن قول المصنف:"وهذا من ميلهم" جواب عن هذا.

قوله: (لم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف) صدره:

ص: 469

(قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) يعني: الخلص منهم، الذين نصبوا بين أعينهم لقاء اللَّه وأيقنوه، أو الذين تيقنوا أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون اللَّه. والمؤمنون مختلفون في قوة اليقين ونصوع البصيرة. وقيل: الضمير في (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا اليوم) للكثير .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعض زمان يا ابن مروان لم يدع

أوله:

إليك أمير المؤمنين رمت بنا

شعوب النوى والهوجل المتعسف

الهوجل: المفازة، والمتعسف: الذ يميل عن الطريق المستقيم، والمسحت: المذهب والمستأصل، يقال: مسحوت، والمجلف: الذي أخذ من جوانبه فذهب بعضه وبقي منه شيء، وروى المصنف البيت في سورة طه:"إلا مسحتاً أو مجلف"، وقال: بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه، فمن روى: إلا مسحت أو مجلف كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف، ومن روى: إلا مسحتا أو مجلف، فإنه يرفع "مجلف" بالعطف على المعنى؛ لأن المعنى: لا يدع إلا مسحتاً وبقي مجلف، فكأنه قال: وبقي مجلف.

قوله: ((قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ)) يعني: افترق هؤلاء القليلون فرقتين: فرقة قالوا: (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ)، وفرقة ردوا عليهم وقالوا:(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً)، ومن ثم وجب أن يفسر (يَظُنُّونَ) بيوقنون لتحصل التفرقة بين الفريقين؛ لأن هؤلاء أعلى رتبة من أولئك المؤمنين، وإليه الإشارة بقوله:"والمؤمنون مختلفون في قوة اليقين".

قوله: (وقيل: الضمير في (قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا) للكثير)، هذا معطوف من حيث المعنى على قوله:" (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعني: القليل"، كأنه قال: الضمير في "قالوا" للذين آمنوا وهم الأقلون، وقيل: الضمير للذين انخزلوا وهم الأكثرون، ولعل هذا الوجه أقرب؛ لأنه

ص: 470

الذين انخذلوا، و (الذين يظنون) هم القليل الذين ثبتوا معه، كأنهم تقاولوا بذلك والنهر بينهما، يظهر أولئك عذرهم في الانخزال ويرد عليهم هؤلاء ما يعتذرون به .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كيف يقال فيهم: (وَالَّذِينَ آمَنُوا) ويوضع المظهر موضع المضمر القليل المشعر بالتعظيم؟ والحال أنهم يقولون: (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) فإن قلت: فسر (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) على أن القائلين هم القليلون بوجهين، فما تفسيره على أنهم الكثيرون؟ قلت: تركه اعتماداً على السابق، والأنسب أن يفسر (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) على إرادة الكثيرين بقوله:"المخلصين الذين تيقنوا لقاء الله" ليكون تعريضاً بأولئك المنخزلين وأنهم غير مخلصين ومندرجون تحت قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا

) [يونس: 7] ويعضد التعريض تكرير وضع الظاهر واختلافه، وعلى إرادة القليلين أن يؤول بقوله:"الذين تيقنوا أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله"، فإنهم لما سمعوا ذلك من إخوانهم المؤمنين وشاهدوا استكانتهم وجبنهم تشجعوا وقالوا:(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ)، ونظيره قوله تعالى:(إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا)[آل عمران: 122] قال: الطائفتان حيان من الأنصار، وانخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس، فهم الحيان باتباع عبد الله فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا وإن الوجه القوي هو القول بالتعريض كما سبق، وأما اختصاص الوصفين- أعني الإيمان والإيقان- بلقاء الله في هذا التعريض والقوم يهود فكاختصاصهما في "ما" قوله تعالى:(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)[البقرة: 4] من التعريض.

قوله: (وأيقنوه)، قال الزجاج:"ظننت" جاء بمعنى: أيقنت، قال دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

سوادهم في الفارسي المسرد

ص: 471

وروي: أنّ الغرفة كانت تكفى الرجل لشربه وإداوته والذين شربوا منه اسودّت شفاههم وغلبهم العطش.

[(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ* فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ)].

وجالُوتَ: جبار من العمالقة من أولاد عمليق بن عادٍ، وكانت بيضته فيها ثلاثمائة رطل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والمدجج: تام السلاح، وأراد بالفارسي المسرد: الدروع، الراغب: ظن ها هنا هو المفسر باليقين عند أهل اللغة، وهو المعرفة الحاصلة عن أمارة قوية، يدل على ذلك استعمال أن المشددة، لأن الظن إذا أريد به العلم استعمل معه أن: المشددة أو المخففة، منها:(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى)[المزمل: 20]، وإذا أريد الشك استعمل "أن" الناصبة للفعل.

قوله: (أن الغرفة كانت تكفي الرجل لشربه وإداوته)، هذا مثال قاصدي الآخرة الذين اقتنعوا بالبلغة وجعلوا الدنيا زاداً للآخرة، والذين شربوا منه اسودت شفاههم وغلبهم العطش. هذا مثال عابدي الدنيا وطالبيها لم يقتنعوا بالقليل ولم يشبعوا بالكثير، فأفضى بهم الحرص إلى السعير.

قوله: (بيضته فيها ثلاث مئة رطل) من باب التجريد، أي: هي في نفسها هذا المبلغ، كقوله تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب: 21]، جرد منه صلوات الله عليه شيء يسمى قدوة، وهو في نفسه هي.

ص: 472

(وَثَبِّتْ أَقْدامَنا): وهب لنا ما نثبت به في مداحض الحر من قوّة القلوب وإلقاء الرعب في قلب العدو، ونحو ذلك من الأسباب. كان إيشى أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه، وكان داود سابعهم، وهو صغير يرعى الغنم، فأوحي إلى أشمويل: أنّ داود بن إيشى هو الذي يقتل جالوت، فطلبه من أبيه فجاء وقد مرّ في طريقه بثلاثة أحجارٍ دعاه كل واحدٍ منها أن يحمله، وقالت له: إنك تقتل بنا جالوت، فحملها في مِخلاته ورمى بها جالوت فقتله، وزوّجه طالوت بنته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا): وهب لنا ما نثبت فيه في مداحض الحرب من قوة القلوب وإلقاء الرعب في قلب العدو ونحو ذلك) وفي قوله: "في مداحض الحرب" إشارة إلى أن قوله: (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) ترشيح لاستعارة "أفرغ" لـ "هب"؛ لأن المقام الدحض ملائم لإفراغ الماء.

الراغب: الفرغ: خلو المكان مما كان فيه، وخلو ذي الشغل من شغله، وسمي فرغ الدلو فرغاً باعتبار انصباب الماء منه، فقوله:(وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) كلام جامع يشتمل في ذلك المقام على جميع ما يحصل به الظفر على العدو، وقال القاضي: في هذا الدعاء ترتيب بليغ، إذ سألوا أولاً إفراغ الصبر في قلوبهم الذي هو ملاك الأمر، ثم ثبات القدم في مداحض الحرب المسبب منه، ثم النصر على العدو المترتب عليهما غالباً.

وقلت: فعلى هذا الواجب أن يؤتى بالفاء دون الواو؟ والواجب ما قال صاحب "المفتاح": الواو أبلغ؛ لأن تعويل الترتيب حينئذ إلى ذهن السامع دون اللفظ، وكم بين الشهادتين، ويمكن أن تجرى الواو على ظاهرها، فإنهم طلبوا أولاً إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء، ثم

ص: 473

وروي: أنه حسده وأراد قتله ثم تاب. (وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) في مشارق الأرض المقدّسة ومغاربها، وما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قط قبل داود، (وَالْحِكْمَةَ): النبوّة (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) من صنعة الدروع وكلام الطير والدواب وغير ذلك، (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ): ولولا أن اللَّه يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طلبوا ثانياً ثبات القدم، أي: تحمل المكاوحة والمقاومة مع العدو؛ لأن الصبر على القتل قد يحصل لغير المحارب، ثم طلبوا العمدة والمقصود من المحاربة، وهي النصرة والدبرة على الخصم؛ لأن الشجاعة دون نصرة الله لا تنفع، والفاء في (فَهَزَمُوهُمْ) فاء فصيحة، أي: استجاب الله دعاءهم وفهم مناهم فصبروا وثبتوا ونصرهم الله فهزموهم.

قوله: (ولولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم لغلب المفسدون). الراغب: فيه تنبيه على فضيلة الملك وانه لولاه لما استتب أمر العالم، ولهذا قيل: الدين والملك توأمان، ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر؛ لأن الدين أس والملك حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، وعلى ذلك قوله:(وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ)[الحج: 40].

إن قيل: على أي وجه دفع الله الناس ببعضهم؟ قيل: على وجهين، أحدهما: دفع ظاهر، والثاني: خفي، فالظاهر: ما كان بالسواس الأربعة: الأنبياء، والملوك، والحكماء المعنيون بقوله:(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)[البقرة: 269] والوعاظ، فسلطان الأنبياء على الكافة خاصهم وعامهم ظاهرهم وباطنهم، وسلطان الملوك على ظواهر الكافة دون الباطن، كما قيل: نحن ملوك أبدانهم لا ملوك أديانهم، وسلطان الحكماء على الخاصة دون العامة، وسلطان الوعاظ على بواطن العامة، وأما الدفع الخفي فبسلطان العقل، فالعقل يدفع عن كثير من القبائح، وهو السبب في التزام حكم سلطان الظاهر.

ص: 474

وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. وقيل: ولولا أن اللَّه ينصر المسلمين على الكفار لفسدت الأرض بعيث الكفار فيها وقتل المسلمين. أو لو لم يدفعهم بهم لعمّ الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض.

[(تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)].

(تِلْكَ آياتُ اللَّهِ) يعني: القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم، وتمليك طالوت، وإظهاره بالآية التي هي نزول التابوت من السماء، وغلبة الجبابرة على يد صبي. (بِالْحَقِّ) باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك.

(وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة كتاب ولا سماع أخبار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولولا أن الله ينصر المسلمين)، هذا على أن التعريف في الناس: للعهد، وهم المؤمنون والكفار، وعلى الأول كان للجنس.

قوله: ((تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ) يعني: القصص التي اقتصها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت)، إلى قوله:" (وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ) حيث تخبر بها من غير أن تعرف"، خص الآيات بحديث الألوف وقصة طالوت، وأما أبو إسحاق الزجاج فقد ذهب إلى أعم من ذلك، حيث قال:(وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ) أي: أنت من هؤلاء الذين قصصت آياتهم؛ لأنك قد أعطيت من الآيات مثل الذي أعطوا وزدت على ما أعطوا، وقال: نحن نبين ذلك في الآية التي تتلوها إن شاء الله، أراد في قوله تعالى:(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)، وبين فيها بقوله:(وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) أنه صلوات الله عليه أفضلهم بكثرة المعجزات.

ص: 475

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: النظم يقتضي أعم من ذلك، وأن يجعل التعريف في المرسلين وفي الرسل: للجنس، وأن يراد بالآيات جميع الآيات المذكورة من لدن مفتتح السورة، وتقريره: أنه سبحانه وتعالى لما بين بقوله: (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا)[البقرة: 23 - 24] الآية، أنه صلوات الله عليه نبي صادق ومعجزته هذا القرآن الذي بذ بفصاحته فصاحة كل ناطق، وشق ببلاغته غبار كل سابق، وما اكتفى بذلك، بل أتى بكل ما يتعلق بأمور الدين من التوحيد والأخلاق والديانات وأحوال الآخرة وقصص الأنبياء السالفة والأمم الدارجة وشيء صالح من الأحكام التي يناط بها أكثر أمور الأمة، وأطنب فيها كل الإطناب، ليؤذن به أن الكتاب كما أنه معجزة في نفسه، مشتمل على حكم وعلوم وأحكام يتوقف عليها أمر الرسالة، ولما أراد أن يرجع إلى ما بدأ به من إثبات نبوته ورسالته قال:(تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) ليكون كالفذلكة لسائر ما ذكر، وكالتخلص إلى حديثه صلوات الله عليه، وأنه صلوات الله عليه نبي مرسل، وأنه أفضل الرسل على سبيل الترقي، كأنه قيل: تلك المذكورات كلها آيات الله ملتبسة بالحق الهادي إلى صراط مستقيم ليقرر بها أمر نبوتك الذي ثبت بالمعجزة القاهرة، وليعلم بها إنك لمن المرسلين الجامعين بين المعجزة والوحي وإنك من أفضلهم وواسطتهم؛ لأنك أعطيت ما أعطوا، وزدت على ما أعطوا، وهو هذا الكتاب الكريم.

فعلى هذا، التعريف في الرسل كما في المرسلين، وهو للجنس، والمشار إليه بقوله:(تِلْكَ الرُّسُلُ) هو الرسل على منوال قوله تعالى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)[الكهف: 78] في أحد وجهيه، قال المصنف: قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده، وأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول: هذا أخوك، وهو المراد من قوله في الوجه الثاني:"أو التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أو المشار إليه ما يعلم من المرسلين وإن كانوا غائبين تفخيماً وتعظيماً لهم، و (الرُّسُلَ): صفة، و (فَضَّلْنَا): الخبر، وأما بيان كونه صلوات الله عليه أفضل المرسلين فهو

ص: 476

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنه تعالى لما أدخله في زمرة المرسلين أجمعهم؛ لأنه جمع محلى باللام مفيد للشمول، اتجه لسائل أن يسأل: أن تلك الرسل هل تتفاوت حالهم في علو الرفعة ومراتب الرسالة أم هم سواء؟ فقيل: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ثم أخذ يشرع في بيان التفضيل في التفصيل: منهم من كلم الله، ومنهم من رفع درجات، ومنهم من أوتي من المعجزات، ومنهم من حاله كَيْتَ وكَيْت، وإنما فرق أحد من الأقسام بقوله:"بعضهم وبالدرجات"، ليشير إلى أن هذا القسم مباين للأقسام، ومغايرته بحسب ما خص به؛ لأن رفع الدرجات ليس من قبيل ما أوتوا ولا هو داخل في حكم ما أعطوا، ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه تعالى إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة".

وروى محيي السنة في هذه الآية: وما أوتي نبي آية إلا أوتي نبينا مثل تلك الآية، وفضل على غيره بآيات مثل: انشقاق القمر بإشارته وحنين الجذع بمفارقته وتسليم الحجر والشجر عليه وكلام البهائم والشهادة برسالته ونبع الماء من بين أصابعه وغير ذلك من المعجزات والآيات التي لا تحصى، وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماء والأرض عن الإتيان بمثله، وكذا عن الزجاج، وضم القاضي إليه المعجزات المتعاقبة بتعاقب الدهر والفضائل العلمية والعملية الفائتة للحصر. ونظيره في أسلوب التقسيم بيت الحماسة:

ومن الرجال أسنة مذروبة

ومزندون شهودهم كالغائب

منهم ليوث ما ترام وبعضهم

مما قمشت وضم حبل الحاطب

قال المرزوقي: يقول: من الرجال رجال يمضون في الأمور نفاذ الأسنة، ومنهم مزندون،

ص: 477

[(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)].

(تِلْكَ الرُّسُلُ) إشارة إلى جماعة الرسل التي ذكرت قصصها في السورة، أو التي ثبت علمها عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات. (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ): منهم من فضله اللَّه بأن كلمه من غير سفير، وهو موسى عليه السلام. وقرئ:(كلم اللَّه) بالنصب، وقرأ اليماني:(كالم اللَّه) من المكالمة، ويدل عليه قولهم: كليم اللَّه بمعنى مكالمه. (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) أي: ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة، والظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المفضل عليهم؛ حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آيةٍ أو أكثر. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منفياً على سائر ما أوتي الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والمزند: المبخل المقلل، وكان من حق التقسيم أن يقول: ومنهم مزندون، لكنه اكتفى بـ "من" الأول، ومثله. قوله تعالى:(مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ)[هود: 100]، وسمعت أبا علي الفارسي يقول: كل صفتين تتنافيان وتتدافعان فلا يصح اجتماعهما لموصوف، لابد من إضمار "من" معهما إذا فصل جملة بهما متى لم يجيء ظاهراً، وقال المرزوقي: ومن الرجال رجال كالأسود عزة وأنفة لا يطلب اقتسارهم، ومنهم متقاربون كالقماش واللفائف جمعوا على ما اتفق من شيء إلى شيء، كأنه لم يقنعه ذلك التشبيه وتلك القسمة فاستأنفها على وجه آخر، يعني: بين الصنفين تفاوت عظيم وتباين شديد، وذكر البعض بدلاً عن قوله:"ومنهم"؛ لأن من

ص: 478

وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى؛ لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس. ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم، أو: بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس. فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال. ولو شئت لذكرت نفسي، لم يفخم أمره. ويجوز أن يريد: إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولي العزم من الرسل صلوات الله عليهم. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء، فذكرنا نوحاً بطول عبادته، وإبراهيم بخُلته، وموسى بتكليم اللَّه إياه، وعيسى برفعه إلى السماء، وقلنا: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أفضل منهم، بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء. فدخل عليه السلام فقال:"فيم أنتم؟ " فذكرنا له، فقال:"لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا"، فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهمَّ بها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للتبعيض فاستغنى به، و"ضم حبل الحاطب" معناه: أن الحاطب يجمع في حبله الجيد والرديء واليابس والرطب على تدان بينهما.

قوله: (ولو شئت لذكرت الثالث)، مثله ما روينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن علي رضي الله عنه، قال: خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر وعمر، ولو شئت لحدثتكم بالثالث. والأسلوب من باب التعريض على سبيل التفخيم. قوله:"وعن ابن عباس: كنا في المسجد نتذاكر .. "، الحديث رواه الترمذي والدارمي أبسط وأبلغ مما ذكره المصنف، لكن ليس فيه ذكر يحيى.

ص: 479

فإن قلت: فلمَ خصّ موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت: لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة، ولقد بين اللَّه وجه التفضيل؛ حيث جعل التكليم من الفضل، وهو آية من الآيات، فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خُصا بالذكر في باب التفضيل، وهذا دليل بين أنّ من زيد تفضيلاً بالآيات منهم فقد فضل على غيره، ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها؛ كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع. اللهمّ ارزقنا شفاعته يوم الدين (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ) مشيئة إلجاء وقسر، (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ) من بعد الرسل؛ لاختلافهم في الدين وتشعب مذاهبهم، وتكفير بعضهم بعضاً، (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) لالتزامه دين الأنبياء، (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) لإعراضه عنه، (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) كرّره للتأكيد، (وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من الخذلان والعصمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لما أوتيا من الآيات العظيمة)، قال صاحب "الفرائد": الأولى فيما أرى والله أعلم، أن يقالك خصا بالذكر لأن الكلام فيما مر مع أهل الكتاب، واليهود ينكرون عيسى، والنصارى ينكرون موسى، وقال الإمام: إنما خصا بالذكر لأن أمتهما موجودون وأمم سائر الأنبياء ليسوا كذلك، وقال القاضي: خص عيسى بالذكر لإفراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه، والوجه ما ذكره المصنف، أن ذكرهما لبيان وجه التفضيل، يعني: أن فضل رسول على رسول مثله إنما يظهر بسبب اختصاصه بما أوتي من الفضل والكرامة ورفعة الدرجة، وبحسب هدايته وإرشاده وكثرة متبعيه، ولاشك في أن أولئك الثلاث هم المخصوصون من بين سائر الأنبياء بذلك، وأن لنبينا قصبات السبق عليهم، ومن ثم اكتفى بهم عنهم، وبهذا يتبين المقصود، وهو فضل نبينا على سائر الأنبياء. وعلى ما ذكروه يفوت المراد ويخرم النظم.

قوله: ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) كرره للتأكيد). أصل الكلام: نحن فضلنا بعض النبيين

ص: 480

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على بعض وآتينا كلاً منهم ما يدعو به أمته إلى دين الحق، فلما درجوا تشعبت مذاهب أمتهم محقين ومبطلين، فاقتتلوا، ولو شاء الله اتفاقهم ما اختلفوا وما اقتتلوا ولكن شاء الله ذلك، اختلفوا واقتتلوا، فكرر، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)؛ لئلا يظن ظان أن المشيئة ليست على إطلاقها وأنها مقيدة بقيد القسر والإلجاء، روى الإمام عن الواحدي: إنما كرر تأكيداً للكلام وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى، ويؤيده قوله:(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)[هود: 118 - 119]، ألا ترى كيف عقب الآية بقوله:(وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)؟ قال الإمام: الآية دالة على مسألة خلق الأعمال وأن الكائنات كلها بقضاء الله وقدره فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء، ولا اعتراض لأحد عليه في فعله، وقال القاضي:(يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ): يوفق من يشاء فضلاً ويخذل من يشاء عدلاً، وفي الآية دليل على أن الأنبياء متفاوتة الأقدام، وأنه يجوز تفضيل بعضهم على بعض، لكن بقاطع، وأن الحوادث بيد الله تابعة لمشيئته خيراً كان أو شراً.

الراغب: إن قيل: ما الفرق بين المشيئة والإرادة؟ قيل: أكثر المتكلمين لم يفرقوا بينهما وإن كانتا في أصل اللغة مختلفتين، وذلك أن المشيئة من شيء، والشيء: اسم للموجود، وأما الإرادة فمصدر أراد، أي: طلب، وأصله أن يتعدى إلى مفعولين، لكن اقتصر على أحدهما في التصرف، وفي الأصل لا يقال إلا لأن يطلب ممن يصح منه الطلب، فإن ترك منه هذا الاعتبار في التعارف صار لطلب الشيء والحكم بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، وإذا استعمل في الله فهو

ص: 481

(أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) أراد الإنفاق الواجب؛ لاتصال الوعيد به (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ يَوْمٌ) لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق، لأنه لا بَيْعٌ فِيهِ حتى تبتاعوا ........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للحكم دون الطلب، إذ هو تعالى منزه عن الوصف بذلك، وقلت: ظاهر الآية مع المتكلمين، لأن المعنى: ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله شاء ذلك فاقتتلوا، والله يفعل ما يشاء، فوضع موضعه ما يريد مراعاة للفواصل.

قوله: (لاتصال الوعيد به) هو قوله: (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ)[البقرة: 254] الآية، لأن الواجب هو: الذي يستحق تاركه العقاب، قال الإمام: اعلم أن أصعب الأشياء على الإنسان بذل النفس في القتال والمال في الإنفاق، فلما قدم الأمر بالقتال أعقبه الأمر بالإنفاق، وأنه تعالى لما أمر بالقتال فيما سبق بقوله:(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ثم أعقبه بقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ)، والمقصود منه الإنفاق في الجهاد، ثم أكده ثانياً وذكر فيه قصة طالوت، أعقبه مرة أخرى.

وقلت: قد دل على أن الآيات واردة في الجهاد وفي الإنفاق سابقها ولاحقها، أما السابق فقوله:(فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا)، وأما اللاحق فقوله:(يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ) لما فيه لمحة من معنى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ)[التوبة: 111]، وكذا قوله تعالى:(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)[البقرة: 256]، كأنه سبحانه وتعالى يقول: أنتم أيها المؤمنون من الذين يقاتلون من خالف الأنبياء وبدلوا بعدهم الشرك بالتوحيد والباطل بالحق، فجاهدوا المخالفين بأموالكم وأنفسكم ولا تخافوا ضياع سعيكم، فإن الذي تعاملونه حي قيوم لا يعتريه سهو ولا غفلة، يعلم ما تفعلون، قادر مالك كامل القدرة شامل العلم، فيجازيكم به ويزيدكم من فضله، ثم إذا جاهدتم الكفار حق جهاده بعد ما دعوتموهم إلى الدين الحق باللين والرفق وبذلتم وسعكم وجهدكم وفعلتم ما وجب عليكم، لا عليكم ألا يؤمنوا؛ لأنه لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.

ص: 482

ما تنفقونه، وَلا خُلَّةٌ حتى يسامحكم أخلاؤكم به، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمّتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات، لأنّ الشفاعة ثمة في زيادة الفضل لا غير. (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أراد: والتاركون الزكاة هم الظالمون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن الشفاعة ثم في زيادة الفضل لا غير) يريد أنه لا يتصور في حق هؤلاء الشفاعة؛ لأن الشفاعة في زيادة الفضل، وهم أهل النقصان يعوزهم ما به يسدون خللهم، فإذن لا شفيع لهم، قال الإمام: هذا باطل، وإلا لكنا شافعين للرسول صلى الله عليه وسلم إذا طلبنا من الله أن يزيد من فضله، والذي يدل على أن الشفاعة لأهل الكبائر: ما روينا عن الترمذي وأبي داود، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"، وعن الترمذي، عن جابر:"من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة"، والأحاديث فيها كثيرة، وأما نفي الشفاعة في الآية فهو من الكفار.

قال الراغب: حث الله تعالى المؤمنين على الإنفاق مما رزقهم من النعماء: النفسية والبدنية، والخارجية، وإن كان الظاهر في التعارف إنفاق المال، ولكن قد يراد به بذل النفس والبدن في مجاهدة العدو والهوى، وسائر العبادات، ولما كانت الدنيا دار اكتساب وابتلاء، والآخرة دار ثواب وجزاء، بين أن لا سبيل للإنسان إلى تحصيل ما ينفعه به في الآخرة ابتداء، وذكر هذه الثلاثة لأنها أسباب اجتلاب المنافع المقصود إليها، أحدها: المعاوضة، وأعظمها المبايعة، والثاني: ما يناله بالمودة وهو المسمى بالصلات والهدايا، والثالث: ما يصل إليه بمعاونة الغير، وذلك هو الشفاعة، وعلى هذا قال: (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا

ص: 483

فقال: (وَالْكافِرُونَ) للتغليظ، كما قال في آخر آية الحج:(ومَنْ كَفَرَ)[آل عمران: 97] مكان ومن لم يحج؛ ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار في قوله: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ)[فصلت: 6]. وقرئ: (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) بالرفع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ) [البقرة: 123]، ولما كانت العدالة بالقول المجمل ثلاثاً: عدالة بين الإنسان ونفسه، وعدالة بينه وبين الناس، وعدالة بينه وبين الله تعالى، فكذلك للظلم مراتب ثلاثة، وأعظم العدالة ما بين الإنسان وبين الله تعالى، وهو: الإيمان، وأعظم الكفر ما يقابله، ولذلك قال:(وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ)، أي: هم المستحقون لإطلاق هذا الوصف عليهم بلا مثنوية، ولما نفى أن يكون للكفار شيء مما ذكره في الآخرة، بين أن ذلك ليس لظلم منه لهم، لكن هم الظالمون، ليس مجازاً كما قيل بل كناية أنهم الذين خسروا أنفسهم.

قوله: (ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار): عطف على قوله: "للتغليظ"، فعلى هذا (وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ) ليس مجازاً كما قيل، بل كناية وتعريض بالمؤمنين وبعث لهم على أداء الزكاة وتخويف شديد من منعها، أي: الكافرون هم المتصفون بترك الزكاة، فاجتنبوا أيها المؤمنون من أن تتصفوا به، وعليه قوله تعالى:(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)[فصلت: 7 - 8]، والمشرك لا يوصف بمنع الزكاة، لكن حث المؤمنين على الأداء، وتخويف من المنع حيث جعله من أوصاف المشركين، وعلى التغليظ ورد قوله:(وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ)، أي: التاركون الزكاة هم الظالمون، فهو مجاز باعتبار ما يؤول؛ سمى المؤمنين عند مشارفتهم لاكتساء لباس الكفر الذي هو منع الزكاة: كفاراً للتغليظ، وعليه قوله تعالى:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ)[آل عمران: 97]، أي: ومن لم يحج، وليس أن من ترك الحج من غير جحد صار كافراً لكن سمي كافراً للتغليظ.

قوله: (وقرئ: (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ)) ابن كثير وأبو عمرو: بالفتح، على الأصل، والباقون: بالرفع والتنوين.

ص: 484

[(اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)].

(الْحَيُّ): الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء، وهو على اصطلاح المتكلمين: الذي يصح أن يعلم ويقدر. و (الْقَيُّومُ) الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه. وقرئ: (القيام) و (القيم). والسنة: ما يتقدّم النوم من الفتور الذي يسمى النعاس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الذي يصح أن يعلم ويقدر). قال الإمام: قال المتكلمون: الحي ذات يصح أن يعلم ويقدر، واختلفوا أن هذا المفهوم صفة موجودة أم لا؟ قال المحققون: إنها صفة موجودة، ووصف الله تعالى بها يفيد أنه كامل على الإطلاق غير قابل للعدم لا في ذاته ولا في صفاته النسبية والإضافية.

قوله: (الْقَيُّومُ) الدائم القيام بتدبير الخلق)، الراغب: يقال: قام كذا، أي: دام، وقام بكذا، أي: حفظه، والقيوم: القائم الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه، وذلك هو المعنى المذكور في قوله:(الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه: 50]، وفي قوله:(أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)[الرعد: 33].

قوله: (والسنة: ما يتقدم النور من الفتور)، قال القاضي: النوم: حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأساً، وتقديم السنة عليه وقياس المبالغة عكسه على ترتيب الوجود، والجملة نفي للتشبيه وتأكيد لكونه حياً قيوماً، فإن من أخذه نعاس أو نوم كان موؤف الحياة قاصراً في

ص: 485

قال ابن الرقاع العاملي:

وَسْنَانُ أقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ

فِى عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحفظ والتدبير، ولذلك ترك العاطف فيه وفي الجمل التي بعده. وقلت: المذكور أبلغ من عكسه، وهو من باب فحوى الخطاب والتتميم، وذلك أن قوله تعالى:(لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ) يفيد انتفاء السنة، واندرج تحته انتفاء النوم بالطريق الأولى على باب قوله:(فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا)[الإسراء: 23] ثم جيء بقوله: (وَلا نَوْمٌ) تأكيداً للنوم المنفي ضمناً، ولو عكس لكان من باب الترقي على معنى: لا تأخذه سنة فكيف بالنوم؟ كما قال المصنف في قوله تعالى: (لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ)[النساء: 172]، كأنه قيل: لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية، فكيف بالمسيح. وقد نبهت في "الرحمن الرحيم" على أن التتميم أبلغ من الترقي، فأحسن تدبره فإنه لطيف جداً، ومنه قوله تعالى:(مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا)[الكهف: 49]، قال صاحب "المثل السائر": إن وجود المؤاخذة على الصغيرة يلزم منه وجود المؤاخذة على الكبيرة، وعلى القياس: ينبغي أن يكون لا يغادر كبيرة ولا صغيرة؛ لأنه إذا لم يغادر صغيرة فمن الأولى أن لا يغادر كبيرة، وأما إذا لم يغادر كبيرة فإنه يجوز أن يغادر صغيرة؛ لأنه إذا لم يعف عن الصغيرة اقتضى القياس أنه لا يعفو عن الكبيرة، وإذا لم يعف عن الكبيرة فيجوز أن يعفو عن الصغيرة، وكذلك ورد قوله تعالى:(فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا)[الإسراء: 23].

قوله: (وسنان أقصده النعاس) البيت، الوسن: اختلاط النوم بالعين قبل استحكامه، ورجل وسنان وامرأة وسنانة، والسنة: ما يتقدم النوم من الفتور، والنوم: ريح تقوم من أغشية

ص: 486

أي: لا يأخذه نعاس ولا نوم. وهو تأكيد لـ (القيوم)؛ لأنّ من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً،

ومنه حديث موسى: أنه سأل الملائكة- وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية-: أينام ربنا؟ فأوحى اللَّه إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام، ثم قال: خذ بيدك قارورتين مملوءتين. فأخذهما، وألقى اللَّه عليه النعاس، فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا، ثم أوحى إليه: قل لهؤلاء: إني أمسك السموات والأرض بقدرتي، فلو أخذنى نومٌ أو نعاس لزالتا. (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) بيان لملكوته وكبريائه، وأن أحداً لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام، كقوله تعالى:(لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ)[النبأ: 38]. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ): ما كان قبلهم وما يكون بعدهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الدماغ فإذا وصلت إلى العين نامت وهي السنة، وإذا وصلت إلى القلب نام وهو النوم، قبله:

وكأنها وسط النساء أعارها

عينيه أحور من جآذر جاسم

جاسم: قرية بالشام، أقصده، من أقصدت الرجل: إذا أصبته بالسهم فلم يخط مقاتله، ورنق الطائر: رفرف حول الشيء، أي: دار حوله ليقع عليه، وقيل: رنق الطائر: إذا خفق بجناحيه في الهواء وثبت ولم يطر.

قوله: (وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية) جملة معترضة صيانة للمكروه؛ لأن نسبة ذلك إلى موسى عليه السلام يؤدي إلى أنه ما كان عالماً بأن الله تعالى منزه عن النوم، أو شاكاً فيه، ثم قوله:(كطلب الرؤية) كالتذييل للاعتراض لتعصب مذهبه.

قوله: (بيان لملكوته وكبريائه). قال القاضي: هو بيان لكبرياء شأنه، وأنه لا أحد يساويه ويدانيه يستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة، فضلاً أن يعاوقه عناداً ومناصبة.

ص: 487

والضمير لما في السموات والأرض؛ لأنّ فيهم العقلاء، أو لما دل عليه (مَنْ ذَا) من الملائكة والأنبياء .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والضمير لما في السماوات والأرض، أو: لما دل عليه (مَن ذَا) من الملائكة والأنبياء) يعني: في قوله: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، فإن كان الأول فالمعنى هو: أنه لما قيل: (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) بمعنى: أنه مالك ما في السماوات وما في الأرض وكل منقاد مقهور تحت ملكوته وقهره يتصرف فيها كيف يشاء، جيء بقوله:(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) مقرراً لبيان كبريائه وقهره وأن أحداً لا يتمالك أن يشفع لأحد إلا بإذنه، فكيف يسعه أن يتصرف في ملكوته؟ وبقوله:(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) كشفاً للتصرف التام والحكمة البالغة، وإن كان الضمير لما دل عليه (مَن ذَا) فهو: استئناف لبيان سبب نفي الشفاعة عن الغير، ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير المرفوع في (يَشْفَعُ) أو من المجرور في (بِإِذْنِهِ) أو من المتحول إليه، فيكون حالاً متداخلة؛ لأن قوله:(إِلاَّ بِإِذْنِهِ) في موضع الحال، قال أبو البقاء: والتقدير: لا أحد يشفع عنده إلا مأذوناً له، أو: في حال الإذن، والحال رافعة لجهة الإشكال، أي: كيف يتمكن أحد من الشفاعة بغير الإذن والحال أنه تعالى عالم بجميع ما صدر من المشفوع له مما تقدم من ذنبه وما تأخر، وما أسر به وما أعلن، ولا يحيط الشافع من معلومه ذلك إلا بما أحاطه الله به من ظاهر الحال، وربما يتقدم الشافع في الشفاعة نظراً إلى الظاهر ويشفع وهو ذاهل عن باطنها وأن المشفوع له لا يستحق الشفاعة، فيتحرج منه.

فإنق يل: كيف أثبت إحاطة العلم للمخلوق في قوله: (بِمَا شَاءَ) وأضاف مطلق العلم إلى ذاته عز وجل؟ فالجواب: أن قوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) وما عطف عليه من قوله: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ) بمجموعه: بيان للموجب في قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) كما سبق تقريره، وقد تقرر أن مصحح الشفاعة كون الشافع

ص: 488

(مِنْ عِلْمِهِ): من معلوماته. (إِلَّا بِما شاءَ): إلا بما علم. الكرسي: ما يجلس عليه، ولا يفضل عن مقعد القاعد. وفي قوله:(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) أربعة أوجه؛ أحدها: أنّ كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد، ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محيطاً بأحوال المشفوع له، فقوله:(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) عبارة عن إثبات العلم مع الإحاطة من جميع الجوانب مفهوماً، فإن هذا التكرير كتكرير قوله تعالى:(وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً)[مريم: 62]، فنفى عن الغير منطوقاً بعد ذلك بقوله:(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ). قال القاضي: (وَلا يُحِيطُونَ): عطف على ما قبله، والمجموع يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام الدال على وحدانيته.

قوله: ((مِنْ عِلْمِهِ)، أي: من معلوماته)، الراغب:(مِنْ عِلْمِهِ) على وجهين، أحدهما: مما يعلمه فيكون العلم مضافاً إلى الفاعل، والثاني أن يعلمه الخلق، فيكون مضافاً إلى المفعول به لينبه على أن معرفته على الحقيقة متعذرة، بل لا سبيل إليها، وإنما غايتها أن يعرف الموجودات ثم يتحقق أنه ليس إياها ولا شيئاً منها ولا شبيهاً بها، بل هو سبب وجود جميعها وأنه يصح ارتفاع كل ما عداه مع بقائه، وبهذا النظر قال أبو بكر رضي الله عنه: سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته، وقال بعض الأولياء: غاية معرفة الله أن تعلم أنه يعرفك لا أنك تعرفه، ولهذا قيل:(هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ)[الحديد: 3].

قوله: 0 إن كرسيه لم يضق عن السماوات) إلخ، فإن قلت: أثبت أولاً الكرسي وأنه لم يضق عن السماوات ثم نفاه ثانياً بقوله: "لا كرسي ثمة"، هل هذا إلا تناقض؟ قلت: إثبات الكرسي أولاً بحسب مؤدى اللغة وتفسير اللفظ من غير النظر إلى استقامة إطلاقه على صفات الله تعالى، وأما نفيه فبالنظر إلى نسبته إلى الله، وأنه يجب حمله على العظمة والكبرياء على سبيل الكناية وأخذ الزبدة من مجموع الكلام.

ص: 489

كقوله: (وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)[الزمر: 67]، من غير تصوّر قبضة وطيّ ويمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسيّ ألا ترى إلى قوله:(وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ). والثاني: وسع علمه وسمي العلم كرسياً؛ تسميةً بمكانه الذي هو كرسي العالم والثالث: وسع ملكه؛ تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك. والرابع: ما روي: أنه خلق كرسياً هو بين يدي العرش دونه السموات والأرض، وهو إلى العرش كأصغر شيء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ألا ترى إلى قوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)[الزمر: 67]؟ ) أي: ألا ترى كيف دل هذا القول على العظمة، ثم جيء بقوله:(وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ)[الزمر: 67] إلى آخره بياناً وتفسيراً له على طريقة: أعجبني زيد وكرمه! وسيجيء تقريره مستوفى في تفسير هذه الآية، قال الإمام: هذا القول منقول عن القفال.

قوله: (أنه خلق كرسياً)، الراغب: الكرسي في تعارف العامة: اسم لما يقعد عليه، وهو في الأصل منسوب إلى الكرس، أي: التلبد، والكراسة: المتكرسة من الأوراق، والمكروس المتراكب بعض أجزاء رأسه على بعض، وما روي أن الكرسي: موضع القدمين، وأن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد فصحيح، ومعناه لا يخفى على من عرف الله تعالى وعرف الأجرام السماوية ومجازات اللغة، ونظر من المعنى إلى اللفظ لا من اللفظ إلى المعنى، ومن لم يعرف ذلك فحقه أن يسلم ويترك الخوض فيما لا يعلم اتباعاً لقوله:(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) وليس فيه إثبات الجسمية كما أنه ليس في إثبات البيت له كونه ساكناً فيه.

ص: 490

وعن الحسن: الكرسي هو العرش. (وَلا يَؤُدُهُ): ولا يثقله ولا يشق عليه (حِفْظُهُما): حفظ السموات والأرض.

(وَهُوَ الْعَلِيُّ) الشأن، (الْعَظِيمُ) الملك والقدرة. فإن قلت: كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف؟ قلت: ما منها جملة إلا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه، والبيان متحد بالمبين، .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعن الحسن) هذا ليس وجهاً خامساً، بل هو كالتتمة للوجه الرابع، وحاصله: أن الكرسي جسم عظيم، إما بين يدي العرش أو العرش نفسه، ويمكن أن يقال: إنه أراد بالوجوه: الأربعة المختارة، ثم ذكر عن الحسن وجهاً ضعيفاً.

قوله: (على سبيل البيان لما ترتبت عليه)، وهو الذات المتميزة، واسمه الجامع للنعوت الكاملة، يعني: الجمل الآتية من قوله: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) إلى قوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) مترتبة عليه على سبيل البيان والكشف، قال الإمام: إن ذاته سبحانه وتعالى من حيث هي هي مستلزمة لصفات الكمال، فتكون هذه الصفات مترتبة على الذات على سبيل البيان، يؤيده تكرار ضمير الله في قوله:"لقيامه بتدبير الخلق، وكونه مالكاً، ولكبرياء شأنه، ولإحاطته، ولسعة علمه، أو لجلاله وعظيم قدره"، ونحوه سبق في تفسير البسملة، وهو أن صفاته تعالى لابد لها من موصوف تجري عليه، فالجملة الأولى قوله:(لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) مع قوله: (لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) لكونها متممة لها مؤكدة لبعض ما اشتملت عليه، ومن ثم قال:"غير ساه عنه" بعد قوله: "لبيان قيامه بتدبير الخلق"، كما قال أولاً:(لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) هو تأكيد للقيوم، والثانية:(لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، والثالثة:(مَنْ ذَا الَّذِي)، والرابعة:(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)، والخامسة:(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ)، هذا التقرير يقتضي أن يجعل قوله:(لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) حالاً مؤكدة من (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الواقعين بدلين من الضمير، كما أن (قَائِماً بِالْقِسْطِ): حال من الضمير في (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)[آل عمران: 18]، وقوله:(وَلا يُحِيطُونَ)، (وَلا يَئُودُهُ): حالان مما يتصل بهما في تينك الجملتين، وقد أسلفنا عن

ص: 491

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبي الهيثم: أن الإله المعبود يجب أن يكون خالقاً رازقاً مدبراً، ولعابده مثيباً ومعاقباً، ولو اختل من هذه الأوصاف وصف لاختل معنى الألوهية، هذا معنى ترتب الأوصاف على اسم الذات في آية الكرسي على سبيل الأخبار المترادفة، ولو دخل العاطف بينها لتوهم استقلال كل وصف في مصحح الألوهية، فإذاً، معنى امتزاج الأوصاف بعضها مع بعض كامتزاج حلو حامض في قولك: هذا حلو حامض، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب: بين العصا ولحائها، ونظيره في الكناية عن الإنسان قولهم: حي مستوي القامة عريض الأظفار، فلفقوا لوازم مجموعة مانعة عن دخول ما عدا المقصود. وأما قوله تعالى:(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)، فلما كان تذييلاً لمعنى الكبرياء والعظمة والعلا الذي اشتملت عليه الآية، أتى توكيداً وتقريراً لما سبق، فالواو للاستئناف، والله أعلم.

وجه آخر، وهو أن يقال: إن الجملة الثانية هي قوله: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) على أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً، و (لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ): حالاً مؤكدة، كقولك: هو الحق بيناً، والجملة استئنافية مبينة للموجب، وذلك أنه تعالى لما أثبت لنفسه الفردانية في الألوهية الموجبة للعبودية، استلزم ذلك أن يكون حياً قائماً بتدبير عباده، وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه، فبينه بقوله:(الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَاخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)، والمدبر المثيب المعاقب، إنما يتمشى له التدبير إذا كان مالكاً على الإطلاق لا ينازعه منازع في ملكه وملكوته، كما قال تعالى:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)[الأنبياء: 22]، فكان قوله:(لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، المفيد للاختصاص بتقديم الخبر، بياناً لذلك، واستلزم ذلك كبرياء شأنه وعظمة سلطانه، فبينه بقوله:(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)، واقتضى ذلك إحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب بالشفاعة وغير المرتضى فأردفه بقوله:(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، وأوجب ذلك سعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، فأوضحه بقوله:(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)، الراغب: هو تأكيد لقوله: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ)، أي: إذا كان علمه ومملكته

ص: 492

فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب: بين العصا ولحائها، فالأولى: بيان لقيامه بتدبير الخلق، وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه. والثانية: لكونه مالكاً لما يدبره. والثالثة: لكبرياء شأنه. والرابعة: لإحاطته بأحوال الخلق، وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة، وغير المرتضى. والخامسة: لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، أو لجلاله وعظم قدره. قلت: لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقدرته محيطاً بهذه الأشياء، والإنسان بعض هذه الأشياء، فكيف يصح إحاطته بمن هو محيط به وبهذه الأشياء؟ وقال القاضي: إن هذه الآية مشتملة على أمهات المسائل الإلهية، فإنها دالة على أنه تعالى واحد في الإلهية، متصف بالحياة، قائم بنفسه، مقوم لغيره، منزه عن التحيز والحلول، مبرأ عن التغير والفتور، لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالك الملك والملكوت، مبدع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يشفع عنده إلا من أذن له، العالم وحده بالأشياء كلها: جليها وخفيها، كليها وجزئيها، واسع الملك والقدرة، ولا يؤوده شاق، ولا يشغله شأن، متعال عما يدركه، وهو عظيم لا يحيط به فهم.

قوله: (بين العصا ولحائها)، اللحاء، ممدود: قشر الشجر، يضرب لمن يدخل بين متخالين شقيقين، وهو ليس أهلاً لذلك، وأنشد:

سقياً لها ولطيبها

ولحسنها وبهائها

أيام لم يلج النوى

بين العصا ولحائها

قوله: (وتعلقه بالمعلومات كلها)، هذا إذا كان الكرسي مؤولاً بالعلم.

وقوله: (أو لجلاله وعظم قدره)، هذا إذا كان مؤولاً بالملك وبتصور العظمة.

ص: 493

ما ورد؛ منه: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة. يا عليّ علمها ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها"، وعن عليّ رضي الله عنه: سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم على أعواد المنبر وهو يقول: «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صدِّيق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمَّنه اللَّه على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله» . وتذاكر الصحابة رضوان اللَّه عليهم أفضل ما في القرآن، فقال لهم عليّ رضي الله عنه: أين أنتم عن آية الكرسي؟ ! ثم قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «يا عليّ، سيد البشر آدم، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال الطور، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي» . قلت: لما فضلت له سورة الإخلاص؛ لاشتمالها على توحيد اللَّه وتعظيمه وتمجيده، .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إلا اهتجرتها الشياطين)، عن بعضهم: الفاعل إذا اتحد يقال: هجروا، وإذا تعدد يقال: اهتجر فلان واهتجره الناس.

قوله: (من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة)، نحوه رواه البيهقي في كتاب "اليوم والليلة"، ونحو معنى قوله:"ومن قرأها إذا أخذ مضجعه" رواه الترمذي والدارمي عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قرأ (حم) المؤمن إلى (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهام حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح"، ونحو معنى قوله:"سيد البقرة آية الكرسي" رواه الترمذي، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

ص: 494

وصفاته العظمى، ولا مذكور أعظم من رب العزة؛ فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار، وبهذا يعلم أنّ أشرف العلوم. وأعلاها منزلةً عند اللَّه علم أهل العدل والتوحيد، ولا يغرّنك عنه كثرة أعدائه؛ فـ:

إنَّ الْعَرَانِينَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً وَلَا تَرَى لِلِئَامِ النَّاسِ حُسَّادَا

[(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)].

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)، أي: لم يجر اللَّه أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار، ونحوه قوله تعالى:(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)[يونس: 99]، أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكنه لم يفعل، وبني الأمر على الاختيار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن فيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي".

قوله: (إن العرانين تلقاها محسدة) آخره:

ولن ترى للئام الناس حسادا

الفاء في قوله: "فإن العرانين" فاء الكاشفية، والعرنين: طرف الأنف، والجمع العرانين،

ص: 495

(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ): قد تميز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة. (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) فمن اختار الكفر بالشيطان أو الأصنام والإيمان باللَّه (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) من الحبل الوثيق المحكم المأمون انفصامها، أي: انقطاعها، وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوّره السامع كأنه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده والتيقن به. وقيل: هو إخبار في معنى النهى، أي: لا تتكرهوا في الدين، ثم قال بعضهم: هو منسوخ بقوله: (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)[التوبة: 73]. وقيل: هو في أهل الكتاب خاصة لأنهم حصنوا أنفسهم بأداء الجزية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعرانين الناس: ساداتهم، روي أن المنصور الدوانيقي قال لسفيان بن معاوية المهلبي: ما أسرع الناس إلى قومك؟ فأنشد البيت. وهذا تعصب بمجرد التشهي.

قوله: (قد تميز الإيمان من الكفر) فسر الرشد والغي بهما لتقدم ذكر الدين، الراغب: الغي: كالجهل، إلا أن الجهل يقال اعتباراً بالاعتقاد، والغي اعتباراً بالأفعال، ولهذا قيل: زوال الجهل بالعلم وزوال الغي بالرشد، ويقال لمن أصاب: رشد، ولمن أخطأ: غوي، وعلى هذا قال:

ومن يغو لم يعدم على الغي لائما

قوله: (وقيل: هو إخبار في معنى النهي): معطوف على قوله: "لم يجر الله أمر الإيمان".

قوله: (وقيل: هو في أهل الكتاب خاصة): معطوف من حيث المعنى على قوله: "قال بعضهم"، أي: هو عام في جميع الكفار، فيكون منسوخاً؛ لأنه وجد الإكراه بقوله:(جَاهِدْ الْكُفَّارَ)[التوبة: 73](فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)[التوبة: 5]، أو هو خاص في أهل الكتاب فلم يكن منسوخاً لأنه لم يوجد القتال؛ لأنهم حصنوا أنفسهم بأداء الجزية.

ص: 496

وروي: أنه كان لأنصاريّ من بني سالم بن عوف ابنان فتنصرا قبل أن يبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال: واللَّه لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا، فاختصموا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال الأنصارى: يا رسول اللَّه أيدخل بعضى النار وأنا أنظر؟ فنزلت، فخلاهما.

[(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)].

(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)، أي: أرادوا أن يؤمنوا، يلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا)، أي: صمموا على الكفر أمرهم على عكس ذلك. أو: اللَّه ولىّ المؤمنين، يخرجهم من الشبه في الدين .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وروي أنه كان لأنصاري) متفرع على القول الثاني.

قوله: (أو: الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين) يريد أن النور والظلمات يجوز أن يكونا مستعارين للإيمان والكفر، شبه الدين في ظهور آياته وسطوع بيناته بإشراق النور، والكفر بالعكس، أو شبه اليقين وماي حصل به في القلب من انشراح الصدر والخلاص من ورطة ضيق الشك بالنور، قال تعالى:(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)[الزمر: 22]. والوجه الثاني أوجه ولتأليف النظم أوفق، بيانه: أن في تقدير الإرادة في قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) خروجاً عن السداد، مع أن الفطرة الأصلية بمقتضى قوله صلوات الله عليه:"كل مولود يولد على الفطرة" توجب استواءهما في النور،

ص: 497

إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ) الشياطين، (يُخْرِجُونَهُمْ) من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة.

[(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَاتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَاتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويلزم منه فك التركيب، وأما تأليف النظم فهو أنا بينا في قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ)[البقرة: 254] أن قوله: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) متصل بما قبل الآيات وأنه في قوم مخصوصين؛ لأن نفي الإكراه لتبين الرشد من الغي لابد أن يكون بظهور الآيات البينات الشاهدة على صحة الدين، وبإزاحة الشبهات المتشبث بها، ثم قوله:(يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) الآية، مترتب عليه، فلا مناسبة، إذ الحديث النور الأصلي، والظلمات العارضي، فصح قوله:"يخرجهم من الشبه في الدين إلى نور اليقين" إلى آخره، فعلى هذا الآيات من باب الجمع مع التفريق غب التقسيم؛ جمع الله تعالى الرشاد والغواية في حكم التبيين بقوله:(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ)، ثم قسم فجعل الرشاد للمؤمنين والغواية للكافرين؛ لأن الفاء في قوله:(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) تفصيلية، وقد أضمر أحد قسميه لدلالة الجمع عليه، ولأن قوله:(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية، وارد على سبيل الاستئناف لبيان الفرق بين الولي الهادي والولي المضل، وبين الطريق والطريق، فلابد من أن يقال: فقد ظهر الحق من الباطل، فمن سلك طريق الحق فقد رشد وهدي، ومن خبط في ظلمات الباطل فقد ضل وغوى؛ لأن من يكون هاديه الله يخرجه من الظلمات إلى النور، ومن يكون مضله الطاغوت فالحكم بالعكس.

قوله: (يخرجهم من الشبه في الدين): متعلق "بالشبه"، ويروى:"إلى الدين" فيكون متعلقاً بـ (يُخْرِجُهُمْ)، وقوله:"يهديهم ويوفقهم" تنازعا في لفظ "له".

ص: 498

عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)].

(أَلَمْ تَرَ) تعجيب من محاجة نمروذ في اللَّه وكفره به. (أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) متعلق بـ (حاج) على وجهين:

أحدهما حاجّ لأن آتاه اللَّه الملك، على معنى: أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتوّ؛ فحاجّ لذلك؛ أو على أنه وضع المحاجة في ربه موضع ما وجب عليه من الشكر على أن آتاه اللَّه الملك، فكأن المحاجة كانت لذلك، كما تقول: عاداني فلان؛ لأنى أحسنت إليه، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان، ونحوه قوله تعالى:(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)[الواقعة: 82]. والثاني: حاجّ وقت أن آتاه اللَّه الملك. فإن قلت: كيف جاز أن يؤتى اللَّه الملك الكافر؟ قلت: فيه قولان: آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع، وأما التغليب والتسليط فلا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تريد أنه عكس ما كان يجب عليه) فاللام كما في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً)[القصص: 8].

قوله: ((وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ)) أي: شكر رزقكم.

قوله: (وقت أن آتاه الله) أي: وقت إيتاء الملك، نحو قولهم: كان ذلك مقدم الحاج، وخفوق النجم. وعلى الوجهين أن: مصدرية.

قوله: (وأما التغليب والتسليط فلا)، والدليل عليه قوله تعالى:(وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)[النساء: 141].

الانتصاف: هذا بناءً على قاعدتهم في وجوب رعاية المصالح.

ص: 499

وقيل: ملكه امتحاناً لعباده. و (إِذْ قالَ) نصب بـ (حاج)، أو بدل من (آتاه) إذ جعل بمعنى الوقت (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ): يريد: أعفو عن القتل، وأقتل. وكان الاعتراض عتيداً، ولكن إبراهيم صلوات الله عليه، لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب؛ ليبهته أول شيء، وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (و (إِذْ قَالَ): نصب ب (حَاجَّ) هذا على تقدير حذف اللام في (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ) أو: بدل من (أَنْ آتَاهُ) على تقدير حذف المضاف.

قوله: (وكان الاعتراض عتيداً) أي: اعتراض إبراهيم عليه السلام أجاب عن سؤال فرعون على ما قال "نمرود" حاضراً مهيئاً سهلاً لا يخفى على من عنده مسكة.

قوله: (جوابه الأحمق) هذا مقابل لما قيل: إن موسى عليه السلام أجاب عن سؤال فرعون بقوله: (رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)[الشعراء: 24]، جوابه الحكيم؛ لأنه عليه السلام نبه به على النظر المؤدي إلى العلم، وكان جواب نمرود يؤدي إلى عكس ذلك، وإسناد الأحمق إلى ضمير الجواب من الإسناد المجازي وصف بصفة من هو بسببه.

قوله: (إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب)، الراغب: وقد كان إبراهيم يمكنه أن يقول: الذي ادعيته لربي ليس من جنس الذي ادعيته، لكن عدل إلى فعل ليس في طوق البشر، هو ولا قريب منه، ولا ما يشاركه اسماً، أي: قد ثبت باتفاقنا أن الله يحرك الشمس من المشرق، فحرك أنت من المغرب فلم يجد شيئاً يدعيه كما ادعى في الإحياء والإماتة، فبهت حينئذ فظهر عجزه.

قوله: (وهذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حُجَّة إلى حُجّة). قال صاحب "الفرائد": لا يلزم أن يكون هذا انتقالاً من حجة إلى حجة أخرى، بل يمكن أن يكون انتقالاً

ص: 500

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من مثال إلى مثال آخر للإيضاح، فقول إبراهيم عليه السلام:(رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) في المحاجة ينبئ أن يكون استدلالاً له على وجود الصانع تعالى وتقدس بحدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثه في الظاهر ولا يسعه أن يدعي إحداثه، فجاء بالإحياء والإماتة للمثال، فنازع نمرود في المثال، فانتقل إلى ما لا يمكنه المنازعة فيه ولا بحث في النظير. وذكر القاضي وصاحب "الانتصاف" ما يقرب منه، وتمام تقريره ما ذكره الإمام، قال: للناس في هذا المقام طريقان، أحدهما: قول أكثر المفسرين، وهو أن إبراهيم عليه السلام لما سمع من نمرود تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر أوضح منه، وزعموا أن الانتقال من دليل إلى دليل آخر أوضح منه جائز للمستدل؛ والطريق الثاني: أن هذا ما كان انتقالاً من دليل إلى آخر، والذي فعله إبراهيم عليه السلام من باب ما يكون الدليل واحداً، إلا أن الانتقال لإيضاحه من مثال إلى مثال آخر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما احتج بالإحياء والإماتة، قال المنكر: أتدعي الإحياء والإماتة من الله تعالى ابتداء أم بواسطة الأسباب السماوية والأرضية؟ أما الأول فلا سبيل إليه، وأما الثاني فأنا أيضاً قادر عليه، وهو المراد بقوله:(أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، فلما أجاب نمرود بذلك قال إبراهيم: هب أن الإحياء والإماتة حصلا من الله بواسطة الأسباب، إلا أنه لابد لتلك الأسباب من مسبب فاعل مختار يوجد ويعدم وهو الله تعالى، وليس الإحياء والإماتة الصادران من البشر بتلك الحيثية، ثم قال: والإشكال على الأول من وجوه، أحدها: أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت في الأسماع وجب على المحق أنه يجيبه في الحال إزالة للتلبيس، فكيف ترك النبي المعصوم الجواب؟ وثانيها: أن الانتقال إنما يجوز إذا كان المنتقل إليه أوضح، وها هنا بالعكس، وثالثها: أن نمرود لما لم يستحي من المعارضة الأولى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه أن يقول هذا مني؟ .

ص: 501

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: مراد المصنف من قوله: "جواز الانتقال من حجة" أي: بعد إتمامها وإلزام الخصم بها إلى حجة أخرى تأكيداً وتقريراً لها، يدل عليه قوله:"لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه"؛ لأنه لم يكن يستحق الجواب وظهر إفحامه به، وأما أن الثاني أوضح، فلأن اللعين إن قدر على أن يدعي الإحياء والإماتة على ذلك الطريق لكن ليس له البتة أن يدعي مثله في الثاني؛ لأن غير المعطلة مجمعون على أن خالق السماوات والأرض ومدبرها هو الله تعالى:(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)[لقمان: 25]، فكان هذا أوضح من حيث التعجيز والتبكيت، وهذا أيضاً جواب عن الإشكال الثالث للإمام، ثم إني وقفت على نقل من جانب الإمام البزدوي ما يوافق ما ذهبت إليه، قال: إن قصة إبراهيم عليه السلام ليست من قبيل الانتقال من علة إلى علة أخرى لإثبات الحكم الأول؛ لأن الحجة الأولى كانت لازمة، ألا ترى أنه عارض بأمر باطل وهو قوله:(قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، وإن كان كذلك كان اللعين منقطعاً، إلا أن إبراهيم عليه السلام لما خاف الاشتباه والتلبيس على القوم انتقل دفعاً للاشتباه إلى ما هو خال عما يوجب لبساً، وذلك حسن عند قيام الحجة وخوف الاشتباه.

وقال محيي السنة: انتقل إبراهيم عليه السلام إلى حجة أخرى لا عجزاً، فإن حجته كانت لازمة؛ لأنه أراد بالإحياء: إحياء الميت، فكان له أن يقول: فأحي من أمته إن كنت صادقاً، فانتقل إلى حجة أوضح من الأولى، وإليه أومى المصنف في "الشعراء": ثم خصص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم في فصول السنة وحساب مستو من أظهر ما استدل به، ولظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل الله عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة على نمرود بن كنعان، فبهت الذي كفر، وعلم منه أنه إذا لم تكن الحجة لازمة وشرع في الثانية كان منقطعاً.

ص: 502

وقرئ: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) أي: فغلب إبراهيم الكافر. وقرأ أبو حيوة: (فبهت) بوزن قرب. وقيل: كانت هذه المحاجة حين كسر الأصنام وسجنه نمروذ ثم أخرجه من السجن ليحرقه، فقال له: من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال: ربي الذي يحيى ويميت.

(أَوْ كَالَّذِي): معناه: أو أرأيت مثل الذي مرَّ، فحذف؛ لدلالة (أَلَمْ تَرَ) عليه؛ لأنّ كلتيهما كلمة تعجيب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ("فبهت الذي كفر" أي: فغلب)، قال الزجاج: بهت: انقطع وسكت متحيراً، يقال: بهت الرجل يبهت بهتاً: إذا انقطع وتحير.

قوله: (كلتيهما كلمة تعجيب)، وذلك أن "أرأيت" استخبار، قال المصنف: لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقاً إلى الإحاطة بها علماً وصحة الخبر عنها، استعملوا أرأيت بمعنى أخبر. ومعنى التعجيب فيها: أن إجراءه على ظاهره لا يجوز؛ لأن الاستخبار على عالم الغيب والشهادة محال، فهو تنبيه للمخاطب على ما شاهده وأحاط به علماً، إظهاراً لمعنى الغرابة فيه وإيجاباً عليه إبداء ما لا يجوز إخفاؤه، وأما معنى (أَلَمْ تَرَ) ففيه تنبيه للمخاطب على التعجيب فيما يشاهده. قال الزجاج:(أَلَمْ تَرَ): كلمة يوقف بها المخاطب على أمر يعجب منه، تقول: ألم تر إلى فلان كيف صنع كذا؟ فمعنى الرؤية: النظر، قال الواحدي: معنى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ): هل انتهت رؤيتك يا محمد إلى من هذه صفته؟ . وقال الزجاج: معنى قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا): احتجاج على مشركي العرب وعلى احتجاج

ص: 503

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أهل الكتاب، يعني أنه صلى الله عليه وسمل لم يتعلم ولم يقرأ الكتب ولم ينظر أيضاً، وقد اخبر عنها إخبار من شاهدها، فصح أن حصولها ليس إلا بطريق الوحي.

واعلم أن في عطف قوله تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ) على قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي) إشكالاً، وطريق التفضي من وجهين، أحدهما: أن يعطف الجملة على الجملة من غير اعتبار مفرداتها، فيقدر ها هنا: أرأيت مثل الذي، لدلالة (أَلَمْ تَرَ)؛ لأن كلتيهما كلمة تعجيب كما مر، وإنما أوثر أن يعطف (أَرَءَيْتَ) على (أَلَمْ تَرَ) لأن الأول يعدى بنفسه والثاني بإلى، كما ذكره صاحب "التقريب"، فتقديره أسهل، لا كما قيل: إن تقدير (أَلَمْ تَرَ) ينافي التعجيب. وثانيهما: أن يجعل من عطف المفرد على المفرد ويوضع "أرأيت" مكان (أَلَمْ تَرَ) وتجعل الكاف اسماً، فيعطف المثل على المثل، قال مكي: الكاف في موضع نصب معطوفة على معنى الكلام، تقديره عند الفراء والكسائي: هل رأيت كالذي حاج إبراهيم، أو: كالذي مر على قرية؟ . وقال الإمام: قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ) بمعنى: أرأيت كالذي، وهو قول الكسائي والفراء وأبي علي وأكثر النحويين، قالوا: ونظيره في القرآن: (قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ)[المؤمنون: 84 - 85]، ثم قال:(مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ)[المؤمنون: 86 - 87]، فهذا حمل على المعنى؛ لأن معناه لمن السماوات؟ فقيل: لله. وقال القاضي: وتخصيص الثاني بحرف التشبيه لأن المنكر للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحسى، بخلاف مدعي الربوبية.

الراغب: الوجه أن الكاف ها هنا ليس للتشبيه المجرد، بل هو للتحديد والتحقيق كما هو

ص: 504

ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ، كأنه قيل: أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية. والمارّ كان كافراً بالبعث، وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك؛ ولكلمة الاستبعاد التي هي:(أنى يحيى)، وقيل: هو عزيز، أو الخضر، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في قولك: الاسم كزيد وعمرو، وعلى أنه إن جعل للتشبيه فعلى سبيل المثل والمشبه غير مذكور، وقيل: الكاف زائدة، وليس بشيء. وقلت: لعل مراد القائل أنه حينئذ على باب: مثلك يجود، أي: أنت تجود، أي: ألم تر إلى من هذه صفته لأنها عجيبة الشأن.

قوله: (والمار كان كافراً) لانتظامه مع نمروذ.

الانتصاف: استدلاله على أن المار كان كافراً لانتظامه مع نمروذ معارض بانتظامه مع إبراهيم. فإن قلت: انتظامه مع كافر أقوى، فإن قصة المار عطفت على قصة نمروذ وعطف لشريك في الفعل منطوقاً به في الأول محذوفاً في الثانية مدلولاً عليه بذكره أولاً، وقصة إبراهيم عليه السلام مصدرة بالواو التي لتحسين النظم، فتتوسط بين جمل متقاطعة للتحسين، بخلاف "أو" فإنها لا تستعمل إلا مشركة، عارضناه بما بين قصة المار وبين قصة إبراهيم من التناسب المعنوي، فإن كليهما طلبا معاينة الإحياء، واعتبار المعنى أولى، ويؤكد إيمان المار تحرزه في قوله:(يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) حذراً من الكذب، ولا يصدر حذر من معطل، فإن قال: إنما قال ذلك بعد أن آمن! قلنا: على القول بكفره ما آمن إلا بعد تبين الآيات لقوله تعالى: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وعلى الحكاية التي أوردها الزمخشري من أن المار أماته الله ضحى، فلما رأى بقية من الشمس قال:"أو بعض يوم" إشكال، إذ كان يجب أن يقول: بل بعض يوم، مضرباً عما اعتقده أولاً بالجزم الذي حصل ثانياً، والظاهر أن المار كان جازماً أولاً ثم شك لا غير، واتباع ظاهر الآية أولى من اتباع حكاية لا تثبت.

ص: 505

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال صاحب "الإنصاف": كلام صاحب "الانتصاف" حسن إلا قوله: "مثل هذا التحرز، ولا يصدر من معطل"، فإنهل يس كذلك، فإن الغرض إذا انتفى ترجح الصدق عند كل أحد، لاسيما من سئل عند ظهور آية باهرة وإن لم يؤمن بعد، لاسيما إذا أريد إرشاد داهش متحير فسئل ليعلم، فإنه لا يكذب غالباً.

وقلت: ويمكن أن يرجح هذا القول بأن يقال: إنما عطفت قصة إبراهيم عليه السلام على قصة المار لأنهما اشتركا في أن وفقا لقمع ما قد يختلج في خلد ذلك المحق من الشبهة، فقول المار:(أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) قريب من قول إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى)، وأما معنى الاستبعاد فهو ما ذكره الإمام: أنه ما كان عن شك في قدرة الله، بل بسبب اطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصير معموراً، ثم القصتان عطفتا على قصة نمروذ واشتركتا في أن يتعجب من كل منهما، ومما يشد من عضد هذا التأويل النظم والنقل، أما النظم فإنه تعالى لما ذكر قوله:(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) والوجه المتصور على ما سبق: الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم بما يهديهم ويوفقهم له من حلها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين، والذين كفروا أولياؤهم الشياطين يخرجونهم من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة، عقبه بما يعجب به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل أحد، فذكر أولاً: قصة اللعين الذي أخرجه الشيطان من نور البينات التي أظهرها له الخليل عليه السلام إلى ظلمات الكفر والضلال، فقيل في حقه:(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، وثانياً: قصتي النبيين حيث وقفا فأخرجا من مضيق ظلمات الشك إلى فضاء نور اليقين حتى قال أحدهما: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقيل للآخر:(أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، نبه بالأول على كمال قدرته، وبالثاني على شمول علمه وغاية عزته، فتم فيها وجوب القول بإعادة الخلق بعد تلاشي أجزائهم.

ص: 506

وقوله: (أَنَّى يُحْيِي) اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي. والقرية: بيت المقدس حين خربه بختنصر. وقيل: هي التي خرج منها الألوف. (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) تفسيره فيما بعد. (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) بناء على الظن. وروي: أنه مات ضحى، وبعث بعد مئة سنة، قبل غيبوبة الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس: يوماً، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: أو بعض يوم. وروي: أن طعامه كان تيناً وعنباً، وشرابه عصيراً أو لبناً، فوجد التين والعنب كما جنيا، والشراب على حاله .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما النقل فقد قال الإمام: اختلفوا في الذي مر بالقرية، فقال قوم: كان رجلاً شاكاً في البعث، وهو قول مجاهد وأكثر المعتزلة، وقال الباقون: كان مسلماً، ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي: هو عزير، وقال عطاء عن ابن عباس: هو أرمياء، فقال محمد بن إسحاق: إن أرمياء هو الخضر، وهو من سبط هارون عليه السلام، ورواية "معالم التنزيل" موافقة لهذا، والله أعلم.

قوله: (والقرية: بيت المقدس) يعني: أهل بيت المقدس، لقوله تعالى:(أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ).

قوله: (تفسيره فميا بعد) أي: في سورة الحج، وهي خاوية، أي: ساقطة، والعرش: السقف، والسقوف إذا تهدمت ثم انقلعت الحيطان فتساقطت على السقوف فقد خوت على سقوفها. قال الزجاج: خاوية: خالية (عَلَى عُرُوشِهَا): خيامها: وهي بيوت الأعراب.

ص: 507

(لَمْ يَتَسَنَّهْ): لم يتغير، والهاء أصلية، أو هاء سكت، واشتقاقه من السنة على الوجهين؛ لأن لامها هاءٌ أو واو، وذلك أن الشيء يتغير بمرور الزمان. وقيل: أصله يتسنن من الحمأ المسنون، فقلبت نونه حرف علة كـ"تقضي البازي"؛ ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: الخواء: خلو الوعاء، ويقال: خوت الدار تخوي، خواء، وخوى النجم، وأخوى: إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيهاً بذلك، وأخوى أبلغ من خوى.

قوله: (لَمْ يَتَسَنَّهْ): لم يتغير) بمرور الزمان، قال الزجاج:(لَمْ يَتَسَنَّهْ) يجوز بإثبات الهاء وإسقاطها، ومعناه: لم تغيره السنون، فمن قال: السنة من سانهت فالهاء من أصل الكلمة، ومن قال: سانيت فهي لبيان الحركة، ووجه القراءة على كل حال إثباتها والوقف عليها بغير وصل فيمن جعله من سانيت، ووصلها إن شاء أو وقفها على من جعله من سانهت. قال القاضي: إنما أفرد الضمير في (لَمْ يَتَسَنَّهْ) لأن الطعام والشراب كالجنس الواحد، وقيل لكونهما مما لم يتغيرا معاً كأنهما واحد.

قوله: (وأصله يتسنن)، قال أبو البقاء: هو من قوله: (حَمَأٍ مَسْنُونٍ)[الحجر: 26] فلما اجتمعت ثلاث نونات قلبت الأخيرة ياء، كما قلبت في "تظنيت" ثم أبدلت الياء ألفاً ثم حذفت للجزم.

قوله: (كـ "تقضي البازي") من قول العجاج:

تقضي البازي إذا البازي كسر

أوله:

آنس خربان فضاء فانكدر

ص: 508

ويجوز أن يكون معنى (لَمْ يَتَسَنَّهْ): لم تمرّ عليه السنون التي مرت عليه، يعني: هو بحاله كما كانت، كأنه لم يلبث مائة سنة. وفي قراءة عبد اللَّه:(فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسن)، وقرأ أبُيّ:(لم يسنه) بإدغام التاء في السين. (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف تفرّقت عظامه ونخرت، وكان له حمار قد ربطه. ويجوز أن يراد: وانظر إليه سالماً في مكانه كما ربطته، وذلك من أعظم الآيات: أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير.

(وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) فعلنا ذلك، يريد: إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه. وقيل: أتى قومه راكب حماره وقال: أنا عزير فكذبوه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخربان: جمع الخرب، وهو ذكر الحبارى، وانكدر، أي: أسرع وانقض. الجوهري: انقض الطائر: هوى في طيرانه، ونمه انقضاض الكواكب، ولم يستعملوا منه تفعل إلا مبدلاً، قالوا: تقضي فاستثقلوا ثلاث ضادات فأبدلوا من إحداهن ياء، كسر الطائر: إذا ضم جناحيه حتى ينقض.

قوله: (ويجوز أن يكون معنى (لَمْ يَتَسَنَّهْ)) وجه آخر في تفسير (لَمْ يَتَسَنَّهْ)، يعني: لم يتغير، فعلى هذا، لم يتسنه، اشتقاقه من السنة، كاشتقاق استنوق من الناقة، لكنه مجاز من التغير من إطلاق السبب على المسبب، وعلى الأول: حقيقة، واشتقاقه كاشتقاق الصلاة من تحريك الصلوين، ولذلك علل الاشتقاق بقوله:"إن الشيء يتغير بمرور الزمان".

قوله: ((لَمْ يَتَسَنَّهْ): لم تمر عليه السنون) حمزة والكسائي: لم يتسن، بحذف الهاء في الوصل خاصة، والباقون بإثباتها في الحالين، أبو البقاء: أصل الألف واو، من قولك: أسنى يسني: إذا مضت عليه السنون وأصل سنة سنوة لقولهم: سنوات.

ص: 509

فقال: هاتوا التوراة، فأخذ يهذها هذًّا عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب، فما خرم حرفاً، فقالوا: هو ابن اللَّه! ولم يقرأ التوراة ظاهراً أحد قبل عزير؛ فذلك كونه آية. وقيل: رجع إلى منزله فرأى أولاده شيوخاً وهو شاب، فإذا حدّثهم بحديثٍ قالوا: حديث مئة سنة. (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ): هي عظام الحمار، أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم، (كَيْفَ نُنْشِزُها): كيف نحييها. وقرأ الحسن: (ننشرها) من نشر اللَّه الموتى بمعنى: أنشرهم، فنشروا، وقرئ بالزاي بمعنى: نحرّكها ونرفع بعضها إلى بعضٍ للتركيب. وفاعل (تَبَيَّنَ) مضمر، تقديره: فلما تبين له أن اللَّه على كل شيء قدير ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يهذها)، الجوهري: يهذ الحديث هذاً، أي: يسرده، والهذ: الإسراع في القطع.

قوله: (فذلك كونه آية)، "فذلك": إشارة إلى قراءته التوراة عن ظهر قلبه، والضمير في "كونه": لعزير، وعلى الأول الآية هي إحياؤه بعد الموت وحفظ ما معه كما قال.

قوله: (وقرئ بالزاي): الكوفيون وابن عامر، والباقون: بالراء، قال القاضي:(كَيْفَ) منصوب بـ "ننشز"، والجملة حال من العظام، أي: انظر إليها محياة.

قوله: (وفاعل (تَبَيَّنَ) مضمر)، أي: هو من باب تنازع الفعلين، قال الإمام: وفيه تعسف، بل الوجه القوي: لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

قلت: ومما يشد عضد هذا التأويل: أن قول القائل: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

ص: 510

(قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فحذف الأول؛ لدلالة الثاني عليه، كما في قولهم: ضربني وضربت زيداً. ويجوز: فلما تبين له ما أشكل عليه، يعنى أمر إحياء الموتى. وقرأ ابن عباس رضى اللَّه عنهما:(فلما تبين له) على البناء للمفعول. وقرئ: قال اعلم، على لفظ الأمر: وقرأ عبد اللَّه: (قيل اعلم) فإن قلت: فإن كان المارّ كافراً فكيف يسوغ أن يكلمه اللَّه؟ قلت: كان الكلام بعد البعث، ولم يكن إذ ذاك كافراً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رجوع منه من قوله أولاً: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) وترق من حضيض التردد والشك إلى مدرج علم اليقين، أي: فلما ظهر له آثار قدرة الله في إحيائه بعد إماتته، وعدم تغير طعامه وشرابه بعد مضي السنين المتطاولة ونشر عظام حماره، وزال ذلك الشك والاستبعاد، قال: أتيقن الآن أن الله على كل شيء قدير، استدلالاً بالأمر الخاص على العام، وما أحسن موقع التجريد في قراءة الأمر، جرد من نفسه شخصاً بعد مشاهدة تلك الآيات البينات، كأنه غيره ووبخه على استبعاده ذلك، وهذا التقرير مما يقوي أن المار كان مؤمناً، كما أن الأول ظاهر في أنه كان كافراً.

قوله: (وقرئ: "قال اعلم") حمزة والكسائي: "قال اعلم"، بوصل الألف وجزم الميم في الوصل، ويبتدئان بكسر الألف على الأمر، والباقون: بقطع الألف في الحالين ورفع الميم على الإخبار، قال الزجاج: من قرأ: "اعلم"، كأنه يقبل على نفسه فيقول: اعلم أيها الإنسان أن الله على كل شيء قدير، والرفع على الإخبار. قال القاضي: الأمر مخاطبة النفس على التبكيت، وقلت: على التجريد والتوبيخ، وهذا ظاهر في أن المار كان مؤمناً.

قوله: (كان الكلام بعد البعث ولم يكن إذ ذاك كافراً)، الانتصاف: لا نسلم امتناع ما ذكر، فإن الله خاطب إبليس بقوله:(فَأَخْرُجْ مِنْهَا)[الحجر: 34]، والكافرين بقوله: (اخْسَئُوا فِيهَا

ص: 511

[(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَاتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)].

(أَرِنِي): بصرني. فإن قلت: كيف قال له: (أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ) وقد علم أنه أثبت الناس إيماناً؟ قلت: ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين. و (بَلى): إيجاب لما بعد النفي، ومعناه: بلى آمنت. (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي): ليزيد سكوناً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون: 108]، وكذا قوله:(وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ)[البقرة: 174]، أي: بما يسرهم. وجوابه أعجب؛ لأن الإيمان إنما حصل بعد ما تبين له أمر الإماتة والإحياء، وكان قبل ذلك مكلماً بقوله:(كَمْ لَبِثْتَ) وكيت وكيت، وكان إذ ذاك كافراً.

قوله: (كيف قال له: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)؟ )، يعني: أن قوله: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) بمعنى ما آمنت؟ لأن "لم" متى دخل على المضارع انقلب ماضياً.

قوله: (من الفائدة الجليلة)، ويروى: الجلية، قيل: وهي أن يعلموا أنه إنما طلب ذلك للطمأنينة لا لأنه لم يؤمن، وقلت: الفائدة الجليلة هي أن يعلم أن في جبلة الإنسان الاختلاج والشك، وأن مزيله طلب الدلائل ومنح التوفيق من الله تعالى كقوله تعالى:(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[البقرة: 257]، وما روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) ".

ص: 512

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الانتصاف: سؤال الخليل ليس عن شك في القدرة على الإحياء، ولكن عن كيفيتها، ومعرفة كيفيتها لا يشترط في الإيمان، والسؤال بصيغة "كيف" الدالة على الحال هو كما لو علمت أن زيداً يحكم في الناس، فسألت عن تفاصيل حمكه، فقلت: كيف يحكم؟ فسؤالك لم يقع عن كونه حاكماً، ولكن عن أحوال حكمه، ولذلك قطع النبي صلى الله عليه وسلم ما يقع في الأوهام من نسبة الشك إليه بقوله:"نحن أحق بالشك"، أي: نحن لم نشك، فإبراهيم أولى، فإن قيل: فعلى هذا كيف قيل له: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)؟ قلنا: هذه الصيغة في الاستفهام بكيف قد تستعمل أيضاً عند الشك في القدرة، كما تقول لمن ادعى أمراً تستعجزه عنه: أرني كيف تصنعه؟ فجاء قوله: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)، والرد ببلى لزوال الاحتمال اللفظي في العبارة ويحصل النص الذي لا يرتاب فيه.

فإن قيل: قول إبراهيم: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يشعر ظاهره بفقد الطمأنينة عند السؤال؟ قلنا: معناه: ليزول عن قلبي الفكر في كيفية الإحياء بتصويرها مشاهدة فتزول الكيفيات المحتملة، وقلت: هذا تكلف، والقول ما سبق أن هذا رحمة من الله للعباد، وظاهر الحديث عليه، ولأن إزالة الشبهات ودفع الخواطر من صريح الإيمان، روينا عن مسلم وأبي داود، عن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال:"وقد وجدتموه؟ "، قالوا: نعم، قال:"ذلك صريح الإيمان". وفي أخرى: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". وعن مسلم، عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقالوا: إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه أن يتكلم به، قال:"ذلك محض الإيمان".

ص: 513

وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال. وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك. فإن قلت: بم تعلقت اللام في (لِيَطْمَئِنَّ)؟ قلت: بمحذوفٍ، تقديره: ولكن سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب. (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ): قيل طاؤوساً وديكاً وغراباً وحمامة، (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضم الصاد وكسرها، بمعنى: فأملهنّ واضممهنّ إليك قال:

وَلَكِنَّ أطْرَافَ الرِّماحِ تَصُورُهَا

وقال:

وَفَرْعٍ يَصيرُ الْجِيدَ وَحْفٍ كَأنَّهُ

عَلَى اللَّيْتِ قِنْوَانُ الْكُرُومِ الدَّوَالِحِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ): بضم الصاد وكسرها)، قرأ حمزة بالكسر، والباقون بالضم. قوله:(ولكن أطراف الرماح تصورها)، أوله:

وما صيد الأعناق فيهم جبلة

الجوهري: الصيد، بالتحريك: مصدر الأصيد، وهو الذي يرفع رأسه كبراً، ومنه قيل للملك: أصيد، وأصله في البعير يكون به داء في راسه فيرفعه. والصور: الميل، والرجل يصور عنقه إلى شيء: إذا مال نحوه.

قوله: (وفرع يصير الجيد) البيت، الفرع: الشعر، والوحف بالحاء المهملة: الشعر الكثير الأسود، والوحف: الجناح الكثير الريش، والليت، بالكسر والتاء فوقها نقطتان: صفحة

ص: 514

وقرأ ابن عباس رضى اللَّه عنه: (فصرّهن) بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء، من صره يصره ويصره؛ إذا جمعه، نحو ضره ويضره ويضره؛ وعنه:(فَصُرْهُنَّ) من التصرية؛ وهي الجمع أيضاً. (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً): يريد: ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال. والمعنى: على كل جبل من الجبال التي بحضرتك وفي أرضك. وقيل: كانت أربعة أجبل. وعن السدّي: سبعة؛ (ثُمَّ ادْعُهُنَّ) وقل لهن: تعالين بإذن اللَّه (يَاتِينَكَ سَعْياً) ساعياتٍ مسرعاتٍ في طيرانهن، أو في مشيهن على أرجلهن. فإن قلت: ما معنى أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها؟ قلت:

ليتأملها ويعرف أشكالها وهيئاتها وحلاها؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ولا يتوهم أنها غير تلك؛ ولذلك قال:(يأتينك سعياً). وروي: أنه أمر بأن يذبحها، وينتف ريشها، ويقطعها، ويفرّق أجزاءها، ويخلط ريشها ودماءها ولحومها، وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر أن يجعل بأجزائها على الجبال على كل جبل ربعاً من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن اللَّه. فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً، ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العنق، وقنوان: جمع قنو وهو العنقود، والدوالح: المثقلات، وكل من حمل ثقيلاً فقد دلح به.

قوله: (من التصرية) يقال: صريت الشاة تصرية: إذا لم تحلبها أياماً حتى يجتمع اللبن في ضرعها.

قوله: (ثم جزئهن وفرق أجزاءهن على الجبال) يعني دل ثم على التراخي من حيث الزمان؛ لأن بين جمع الطيور وضمها إليه وذبحها ونتف ريشها وتفريق أجزائها وتخليط بعضها مع بعض وقسمتها أربعة أقسام ثم تفريقها على الجبال زماناً ممتداً، أو (ثُمَّ) ها هنا كالفاء في قوله:(فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ)[البقرة: 60]، وكذا لفظ كل ها هنا كما في قوله تعالى:(وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)[النمل: 23]، أي: من كل شيء يليق بحالها، وإليه الإشارة بقوله:"من الجبال التي بحضرتك".

ص: 515

كل جثة إلى رأسها. وقرئ (جزؤاً) بضمتين و (جُزًّا) بالتشديد، ووجهه: أنه خفف بطرح همزته، ثم شدد كما يشدد في الوقف إجراء للوصل مجرى الوقف.

[(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) 261].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "جزؤاً" بضمتين): عاصم في رواية أبي بكر، و"جزاً"، بالتشديد: حمزة عند الوقف خاصة.

قوله: (إجراء للوصل مجرى الوقف)، ونحوه:

مثل الحريق وافق القصبا

وإنما قلنا: إنه حال الوصل لأن القوافي إذا حركت فإنما تحرك على نية وصلها.

قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ) الآيات، اعلم أن للبلغاء فناً يذهبون إليه دقيق المسلك لطيف المغزى، وهو أنهم إذا شرعوا في حديث ذي شجون له شعب وفنون شتى ولهم اعتناء بنوع منها أكثر من الآخر، فإذا اندفعوا وتعمقوا فيها لا يتسع لهم ولا يتمالكون أن يهملوا ذلك الأمر المعني بشأنه، فحيث وجدوا له مجالاً كيف ما كان أوردوه، ولامصنف أومى إلى هذا المعنى في آخر الشعراء حيث قال: ومثاله: أن يحدث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية، فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه، والله جل سلطانه حين فرغ من بيان الأحكام وشرع في القصص تحريضاً على الجهاد وحثاً على الإنفاق في سبيله إشادة للدين وقمعاً للملحدين، قال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً

) [البقرة: 244 - 245] الآية، ولما أن الإنفاق هو العمدة في الجهاد، ومنه فتح باب سائر العبادات،

ص: 516

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ): لا بد من حذف مضافٍ، أي: مثل نفقتهم كمثل حبةً، أو: مثلهم كمثل باذر حبة. والمنبت هو اللَّه، ولكن الحبة لما كانت سبباً أُسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل: أن تخرج ساقاً يتشعب منها سبع شعبٍ لكل واحدةٍ سنبلةٌ. وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عينى الناظر. فإن قلت: كيف صحّ هذا التمثيل والممثل به غير موجود؟ قلت: بل هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق البرة في الأراضي القوية المُغلة فيبلغ حبها هذا المبلغ، ولو لم يوجد لكان صحيحاً على سبيل الفرض والتقدير. فإن قلت: هلا قيل: سبع سنبلاتٍ على حقه من التمييز بجمع القلة كما قال: (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ)[يوسف: 43]؟ قلت: هذا لما قدمت عند قوله تعالى: (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)[البقرة: 228] من وقوع أمثلة الجمع متعاورةً مواقعها. (وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ): أي: يضاعف تلك المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق، لتفاوت أحوال المنفقين، أو يضاعف سَبع المائة ويزيد عليها أضعافها لمن يستوجب ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو رأس الخيرات وأس المبرات، كرر ذكره مراراً، وذلك أنه لما قص حديث طالوت وجالوت ونبذاً من أحوال الأنبياء تقريراً للجهاد تأسياً بهم، رجع إلى حديث الإنفاق بقوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَاتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ)[البقرة: 254]، ثم أتى بوصف ذاته الأقدس بالمطالب العالية الشريفة وبقصة خليله عليه السلام، فكر راجعاً إلى قضية الإنفاق قائلاً:(مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ) الآية، ثم لما استوفى حقه من البيان ختم السورة بخاتمة سنية، وما ذلك إلا أن للإنفاق عند الله خطباً جليلاً وخطراً عظيماً، والله أعلم.

قوله: (أن تخرج ساقاً)، الراغب: النبت: لما له نمو في أصل الخلقة، يقال: نبت الصبي والشعر والسن، ويستعمل النبات فيما له ساق وما ليس له ساق، وإن كان في التعارف قد يختص بما لا ساق له، وأنبت الغلام: إذا رهق كأنه صار ذا نبتة، وفلان في منبت خير، كناية عن الأصل، وقال: هذه الآية متعلقة بقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً)، وما بينهما

ص: 517

[(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)].

المنّ: أن يعتدّ على من أحسن إليه بإحسانه، ويريد أنه اصطنعه وأوجب عليه حقا له: وكانوا يقولون: إذا صنعتم صنيعة فانسوها. ولبعضهم:

وَإنّ امْرَأً أَسْدَى إلَيَّ صَنِيعَةً

وَذَكّرَنِيهَا مَرَّةً لَلئِيمُ

وفي "نوابغ الكلم": صنوان من منح سائله ومنّ، ومن منع نائله وضنّ. وفيها: طعم الآلاء أحلى من المنّ، وهي أمرّ من الآلاء مع المنّ. والأذى: أن يتطاول عليه بسبب ما أزل إليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اعتراضات مرغبة في قرضه، وحث على قناعة هي أس الجود، وإرشاد لمن يستقرض من الناس، وبين في هذه الآية أن قرضه هو: الإنفاق في سبيله.

قوله: (المن: أن يعتد على من أحسن إليه)، الراغب: المن على ضربين، أحدهما: ما يوزن به والأكثر مناً بالتخفيف، والثاني: قدر الشيء ووزنه، ومنه المنة، وهو على ضربين أيضاً، أحدهما: اسم للعطية، لكونها ذات قدر بالإضافة إلى سائر الأفعال، لأن الجود أشرف فضيلة، وثانيهما: اسم لقدر العطية عند معطيها واعتداده بها، وهو المنهي عنه، فإنه مما يبطل الشكر ويمحق الأجر، وقيل: تعداد المنة من ضعف المنة.

قوله: (أسدى). أسدى فلان فلاناً، أي: أعطاه عطية، والصنيعة: ما اصطنعت إلى أحد من خير.

قوله: (طعم الآلاء). والآلاء: النعم، واحدها: إلي، والألاء- بفتح الهمزة على وزن فعال-: شجر حسن المنظر مر الطعم، أي: العطاء مع المن أمر من طعم الألاء، و"نوابغ الكلام" كتاب صنفه جار الله.

قوله: (ما أزل إليه) من قولهم: أزللت إليه نعمة، أي: أعطيته.

ص: 518

ومعنى (ثم): إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى، وأنّ تركهما خير من نفس الإنفاق، كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدخول فيه بقوله:(ثُمَّ اسْتَقامُوا)[فصلت: 30]. فإن قلت: أي فرقٍ بين قوله: (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) وقوله فيما بعد (فلَهُمْ أَجْرُهُمْ)[البقرة: 274]؟ قلت: الموصول لم يضمن هاهنا معنى الشرط، وضمنه ثمة، والفرق بينهما من جهة المعنى: أنّ الفاء فيها دلالة على أنّ الإنفاق به استحق الأجر، وطرحها عار عن تلك الدلالة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومعنى (ثُمَّ): إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن)، الانتصاف: وعندي فيه وجه آخر، وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف به، وإرخاء الطول في استصحابه، فلا يخرج بذلك عن الإشعار ببعد الزمن، ومعناه في الأصل: تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه، ومعناه المستعار: دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه، ومثله:(ثُمَّ اسْتَقَامُوا)[فصلت: 30]، أي: داموا على الاستقامة دواماً متراخياً، وتلك الاستقامة هي المعتبرة، كذا ها هنا، أي: يدومون على تناسي الإحسان وترك الامتنان، وقريب منه أو مثله السين تصحب الفعل لتنفيس زمان وقوعه، (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات: 99]، وقد قال:(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) فليس لتأخير الهداية سبيل، فتعين حمله على تنفيس دوام الهداية وتمادي أمدها، ولعل الزمخشري أشار إلى هذا في موضعه، وما ذكرته ها هنا في (ثُمَّ) أقرب من ذلك الموضع.

قوله: (وطرحها عار عن تلك الدلالة)، يعني بالدلالة: أن الثاني مع الفاء مسبب عن الأول. وقلت: مجيء الجملة بدون الشرائط وفيها ما يصح للسببية إيذان بأن الرابط معنوي، فيكون أبلغ، قال القاضي: لعله لم يدخل الفاء إيهاماً بأنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا، وكيف بهم إذا فعلوا! وتحقيقه أن في تضمين الكلام معنى الشرط تعليقاً للكلام، وفي عرائه عن ذلك تحقيق للخبر، على منوال قوله:

ص: 519

([قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)].

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ): ردّ جميل، (وَمَغْفِرَةٌ): وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول، أو: نيل مغفرة من اللَّه بسبب الرد الجميل، أو: وعفو من جهة السائل؛ لأنه إذا ردّه ردّا جميلا عذره. (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً)، وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة؛ لاختصاصه بالصفة. (وَاللَّهُ غَنِيٌّ) لا حاجة به إلى منفق يمنّ ويؤذي، (حَلِيمٌ) عن معاجلته بالعقوبة، وهذا سخطٌ منه ووعيدٌ له، ثم بالغ في ذلك بما أتبعه (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ) أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى كإبطال المنافق ........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن التي ضربت بيتاً مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودها غول

وإنما بنيت الجملة على التحقيق لأن هذه الآية واردة في البعث على الإنفاق في سبيل الله لرفع منار المسلمين وإشادة الدين القويم، ومن ثم خص بذكر سبيل الله وكررها وضعاً للمظهر موضع المضمر إشعاراً بالعلية، بخلافه في تلك الآية.

قوله: (وصح الإخبار عن المبتدأ النكرة لاختصاصه بالصفة)، هذا يصح في المعطوف عليه، لكن لا يصح في المعطوف، وهو (وَمَغْفِرَةٌ)؛ لأنه غير موصوف، ولكونه مخصصاً في نفسه؛ لأن استعمال المغفرة مسبوق بوجدان ما يثقل على المسئول من السائل، جعل كأنه موصوف، ولهذا حين قدره خصصه بما يليق به المقام، أو لأنه معطوف على المخصص، ثم إن العفو إما أن يكون من الله تعالى، وهو إذا رد المسئول السائل رداً جميلاً، وإما من السائل وهو لأمرين: إما لأن المسئول عنه عنفه وزجره فيعفو عنه، أو رده رداً جميلاً فعذره، ولا يستقيم على

ص: 520

الذي ينفق ماله (رِئاءَ النَّاسِ) لا يريد بإنفاقه رضاء اللَّه ولا ثواب الآخرة، (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) مثله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة بصفوان: بحجرٍ أملس عليه تراب. وقرأ سعيد بن المسيب: (صفوان) بوزن كروان. (فَأَصابَهُ وابِلٌ): مطر عظيم القطر. (فَتَرَكَهُ صَلْداً): أجرد نقياً من التراب الذي كان عليه، ومنه: صلد جبين الأصلع؛ إذا برق. (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) كقوله: (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)[الفرقان: 23]، ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال، أي: لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق. فإن قلت: كيف قال: (لا يَقْدِرُونَ) بعد قوله: (كَالَّذِي يُنْفِقُ)؟ قلت: أراد بالذي ينفق الجنس، أو الفريق الذي ينفق، ولأن «من» و «الذي» يتعاقبان، فكأنه قيل: كمن ينفق.

[(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) 265].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الثاني لسياق الآيات، لأنه تعالى لما قال:(لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى) أتبعه قوله: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ)، أي: خير للمصدق، والعفو الصادر عن السائل على المسئول بسبب عنفه وزجره كيف يكون خيراً للمسئول؟ والأولى أن يسند العفو أيضاً إلى المسئول؛ لأن الكلام سيق له، المعنى: إذا صدر عن السائل بسبب الرد ما يثقل عليه يعفو عنه ولا يزجره، ويؤيده قول الإمام: إن الفقير إذا رد بغير مقصوده شق عليه ذلك، فربما حمله ذلك على بذاء اللسان، فأمر بالعفو عن ذلك والصفح عنه. وعلى هذا يصح جعل "مغفرة" مبتدأ لتخصيصه، أي: مغفرة منه.

قوله: (ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال): عطف على قوله: "كإبطال

ص: 521

(وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ): وليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح، وبذله أشق شيء على النفس على سائر العبادات الشاقة وعلى الإيمان لأن النفس إذا ريضت بالتحامل عليها وتكليفها ما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها، وقل طمعها في اتباعه لشهواتها وبالعكس، فكان إنفاق المال تثبيتاً لها على الإيمان واليقين. ويجوز أن يراد: وتصديقاً للإسلام، وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم؛ لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل اللَّه، علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه، ومن إخلاص قلبه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المنافق الذي ينفق ماله"، فإن الكاف حينئذ في محل النصب على المصدر، قال القاضي:(رِئَاءَ): مفعول له، أو: حال بمعنى مرائياً، أو: مصدر، أي: إنفاق رياء.

قوله: (علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه)، وقوله:(وَتَثْبِيتاً) على هذا كالتقرير بمعنى: ابتغاء مرضات الله. الراغب: بين الله تعالى أن المنفق ماله في سبيل الله ينبغي أن يكون قاصداً فيما أوجبه الله على الناس من الزكاة والإنفاق ابتغاء مرضاة الله، وطلب التوجه للوصول إليه، وتثبيت النفس ورياضتها لأداء الأمانات وبذل المعونات والتسمح لأبواب المصالح، فإن النفوس ما لم ترض لم تسمح، إذ هي مجبولة على الشح والكسل، وبذل الصدقة وفعل الخير يطهره ويزكيه، وهذان المعنيان، أعني: ابتغاء وجه الله وتثبيت النفس، وإن اختلفا في العبارة فهما واحد، وحق الإنسان أن يقصد ذلك في جميع ما يفعله من العبادات، فأما أن يطلب شكر مخلوق، ومباراة نظير، وطلب نفع دنيوي، وقضاء شهوة، واتقاء معرة، فليس ذلك بمرتضى، وجمع (أَنْفُسِهِمْ) جمع قلة للتنبيه على أن ذلك الفعل لا يكاد يوجد إلا في قليل من الناس، كقوله تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي

ص: 522

و (من) على التفسير الأوّل للتبعيض، مثلها في قولهم: هز من عطفه، وحرك من نشاطه، وعلى الثاني؛ لابتداء الغاية، كقوله تعالى:(حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)[البقرة: 109]. ويحتمل أن يكون المعنى: وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه، وتعضده قراءة مجاهد:(وتبييناً من أنفسهم). فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه: أن من بذل ماله لوجه اللَّه فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كلها؛ (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [الصف: 11].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، وعلى أنه قل ما ينفك عمل من رياء وإن قل، ولذلك جعل الفاصلة قوله:(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي: لا يخفى عليه شيء من أسرار العباد.

قوله: (و (مِنْ)، على التفسير الأول: للتبعيض)، فيكون مفعولاً به للمصدر، أي: إذا تحمل هذا البعض من النفس خلاف ما هي مجبولة عليه يتأتى من سائرها سائر العبادات على سهولة ويسر، وإليه الإشارة بقوله:"فقد ثبت بعض نفسه"، إلى قوله:"ثبتها كلها"، وفيه أيضاً أن الواجب على النفس التثبت في كل ما كلفت به من مشاق، فإذا ثبتت على بذل المال، الذي هو أشق التكاليف، سهل عليها التثبت في سائرها، كما ينبئ عنه أول كلامه، قال تعالى:(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9]، وقوله:"على سائر العبادات" متعلق بقوله: "وليثبتوا" على معنى التضمين، ضمن التثبيت معنى التمكن والاستعلاء، أي: ليتمكنوا تثبيت بعضها على سائر العبادات.

قوله: (ويحتمل أن يكون المعنى): عطف على قوله: "ويجوز أن يراد"، ومن: للابتداء أيضاً، يعني: يحملون أنفسهم على الإنفاق لأجل الثبات في الإسلام حتى يثابوا عند الله، أو يظهر ثباتهم فيه عند المسلمين، فالتثبيت بمعنى التصديق للإسلام على سبيل الكناية، لأن من أنفق بعد إسلامه صدق بإنفاقه إسلامه، فإن الاستقامة بعد قول المؤمن (رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت: 30] مصدق لما قاله.

ص: 523

والمعنى: ومثل نفقة هؤلاء في زكاتها عند اللَّه (كَمَثَلِ جَنَّةٍ)؛ وهي البستان، (بِرَبْوَةٍ): بمكانٍ مرتفع، وخصها؛ لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً (أَصابَها وابِلٌ): مطر عظيم القطر (فَآتَتْ أُكُلَها) ثمرتها (ضِعْفَيْنِ) مثلي ما كانت تثمر؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمعنى: ومثل نفقة هؤلاء) ذكر في هذا التشبيه طريقين وقد رفيهما مضافاً محذوفاً؛ لأن ذوات المنفقين لا يحسن أن يوقع فيها التشبيه لأنه لا مناسبة بينهما وبين الجنة، فيقدر في طريق الأول النفقة ليكون الأمر الذي يشترك فيه الطريقان الزكاء، وهو عقلي، وفي التشبيه الثاني الحال، ليكون الوجه منتزعاً من عدة أمور متوهمة، فيكون تشبيهاً تمثيلياً، ولابد في هذا الوجه من بيان تلك الأمور لئلا يشبه العقلي بالوهمي، ومن ثم قال: "أو مثل حالهم عند الله بالجنة

" إلخ، ويجوز أن يكون التشبيه على منوال قول امرئ القيس:

كأن قلوب الطير رطباً ويابساً

لدى وكرها العناب والحشف البالي

ومن هذين التشبيهين "كأن قلوب الطير" يعثر على الفرق بين التمثيلي والعقلي، قال صاحب "المفتاح": والذي نحن بصدده من الوصف غير الحقيقي أحوج منظور فيه إلى التأمل لالتباسه في كثير من المواضع بالعقلي الحقيقي لاسيما المعاني التي ينتزع منها، فذكر المصنف المعاني ليتميز التمثيلي من العقلي، فالعقلي هو: أخذ الزبدة والخلاصة من المجموع، والتمثيلي: انتزاع الحالة المتوهمة من الأمور المتعددة.

قوله: ((ضِعْفَيْنِ) مثلي ما كانت تثمر)، أي: تثمره، "وبسبب" متعلق بقوله:(فَأَتَتْ)؛ لأنه مسبب عن قوله تعالى: (أَصَابَهَا وَابِلٌ).

ص: 524

بسبب الوابل، (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ) فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها. أو مثل حالهم عند اللَّه بالجنة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطلّ، وكما أن كل واحدٍ من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم كثيرةً كانت أو قليلة، بعد أن يطلب بها وجه اللَّه، ويبذل فيها الوسع؛ زاكية عند اللَّه، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده. وقرئ:(كمثل حبة)، و (بربوةٍ) بالحركات الثلاث، و (أكلها) بضمتين.

[(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)].

الهمزة في (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) للإنكار. وقرئ: (له جنات)، و (ذريةٌ ضعاف).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال القاضي: المراد بالضعف: المثل كما أريد بالزوج الواحد في قوله: (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)[المؤمنون: 27]، وقيل: أربعة أمثاله، ونصبه على الحال، أي: مضاعفاً.

قوله: ((فَطَلٌّ) فمطر ضعيف)، قال القاضي: أي: فيصيبها طل، أو: فالذي يصيبها أو فطل يكفيها.

قوله: (وقرئ: كمثل حبة) بالحاء والباء الموحدة، وهي شاذة.

قوله: (و (بِرَبْوَةٍ)) أي: وقرئ: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) بالحركات الثلاث؛ عاصم وابن عامر: بالفتح، والباقون: بضم الراء، والكسر: شاذ.

قوله: (و (أُكُلَهَا)، بضمتين). الجماعة إلا نافعاً وابن كثير وأبا عمرو.

ص: 525

والإعصار: الريح التي تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود، وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي بها وجه اللَّه، فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطةً فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة من أبهى الجنان وأجمعها للثمار، فبلغ الكبر وله أولاد ضعاف، والجنة معاشهم ومنتعشهم؛ فهلكت بالصاعقة.

وعن عمر رضي الله عنه: أنه سأل عنها الصحابة فقالوا: اللَّه أعلم. فغضب وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس رضي الله عنه: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال: قل يا ابن أخى ولا تحقر نفسك. قال: ضرب مثلاً لعملٍ. قال: لأي عمل؟ قال: لرجل عُنى بعمل الحسنات،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الإعصار: الريح التي تستدير)، الراغب: الإعصار أصله مصدر أعصر سمي به الريح، والعصر مصدر عصرت العنب، وسمي آخر النهار ومدة من الزمان عصراً كأنه مدة عصرت فجمعت، والمعصر: سحاب ذات عصر للمطر، والمرأة فوق الكاعب: معصر، لكونها ذات عصر، أي: زمان التمتع بها، قال:

مطيات السرور فويق عشر

إلى عشرين ثم قف المطايا

قوله: (وعن عمر رضي الله عنه، أنه سأل عنها الصحابة). الحديث مخرج في "صحيح البخاري".

قوله: (لعمل) أي: لصاحب عمل.

قوله: (عني) أي: اهتم وصرفت عنايته إليها، "أغرق أعماله": أضاعها بما ارتكب من المعاصي.

قوله: (هذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي بها وجه الله) لا يبتغي: حال من فاعل

ص: 526

ثم بعث اللَّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها. وعن الحسن رضي الله عنه: هذا مثلٌ قلّ واللَّه من يعقله من الناس؛ شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم واللَّه أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"يعمل" أو مفعوله، قال القاضي: وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق، فجعل سعيه هباءً منثوراً. وقلت: جعل المشبه حال المنفق أوفق لتأليف النظم؛ لأن هذه الآية مقابلة لقوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ)، وله أن يقول: دلالته عليه على سبيل الإدماج لا ينافي ذلك لكن قوله: أشبههم، ينافيه.

قوله: (شيخ كبير، ضعف جسمه، وكثر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنته)، روي "افقر"، منصوباً ومرفوعاً، فالنصب: على أن يكون ظرفاً لقوله: "ضعف جسمه"، و"ما": مصدرية، والوقت مقدر والمضاف محذوف، أي: ضعف جسمه زمان أفقر أزمنته إلى جنته، على أن إسناد أفقر إلى الزمان نحو إسناد "صائم" في قوله:"نهاره صائم" إلى النهار. والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة صفة لموصوف محذوف، المعنى: ضعف جسمه زماناً هو أفقر أزمنته إلى جنته، والإسناد أيضاً مجازي، وقيل:"أفقر": خبر "شيخ"، والجملة التي ساقها بيان لقوله:"مثل"، وفي الجملة في كلام الحسن ما يعقب به الكلام مقدر؛ لأن التقدير: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه وحصل في زمان هو أفقر ما كان إلى جنته فهلكت بالصاعقة تلك الجنة، فبقي متحيراً، وكذا التقدير:"أن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا، فإذا كان يوم القيامة وجد تلك الأعمال محبطة فيتحسر عند ذلك" يدل عليه قوله تعالى: (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ).

ص: 527

فإن قلت: كيف قال: (جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) ثم قال: (لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ)؟ قلت: النخيل والأعناب لما كانا أكرم الشجر وأكثرها منافع خصهما بالذكر، وجعل الجنة منهما وإن كانت محتوية على سائر الأشجار؛ تغليباً لهما على غيرهما، ثم أردفهما ذكر كل الثمرات، ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها، كقوله:(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ)[الكهف: 34] بعد قوله: (جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ)[الكهف: 32]. فإن قلت: علام عطف قوله: (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ)؟ قلت: الواو للحال لا للعطف، ومعناه: أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فإن قلت: كيف قال: (جَنَّةٌ)؟ )، وجه السؤال أن النخيل والأعناب نوعنا من أنواع الأشجار المثمرة وداخلان تحت قوله:(لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) فما وجه اختصاصهما بالذكر ثم إتباعهما بقوله: (مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)؟ أجاب عنه بجوابين، أحدهما: أنه من باب التتميم على منوال الرحمن الرحيم، ذكر أولاً: ما هما أفضلا الجنس وأكملاه نفعاً، وأراد بهما جميع الجنس بالتغليب، ثم أردفهما بما يشتمل على الجنس ليكون كالتتمة والرديف لهما، ألا ترى كيف قال في (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ): لما قال: الرحمن تناول جلائل النعم وعظائمها، أردفه بالرحيم ليتناول ما دق منها، وقال ها هنا:"ثم أردفهما" ذكر كل الثمرات صيانة للكلام عن توهم غير الشمول. وثانيهما: أنه من باب التكميل، فيكون ذكرهما من إطلاق أعظم الشيء على الشيء كله، فعلم من هذا: أن له جنة كثيرة الأشجار والأثمار ولم يعلم أن له فيها منافع أخر غيرهما فقيل له: (فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) ليعلم أن له غيرهما، يدل عليه تنظيره بقوله:(وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ)[الكهف: 34]، وفسره بقوله:"أي: كانت له إلى الجنتين الموصوفتين الأموال الدثرة من الذهب والفضة وغيرهما" والله أعلم.

قوله: (علام عطف قوله: (وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ)؟ ) يعني: أن الواو تستدعي معطوفاً عليه (أَنْ تَكُونَ) لا يصح أن يعطف عليه لكونه مضارعاً، وهذا ماض، وأجاب: أن الواو

ص: 528

وقيل يقال: وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا، فحمل العطف على المعنى، كأنه قيل: أيودّ أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)].

(مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ): من جياد مكسوباتكم، (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ) من الحب والثمر والمعادن وغيرها. فإن قلت: فهلا قيل: وما أخرجنا لكم؛ عطفاً على (ما كَسَبْتُمْ) حتى يشتمل الطيب على المكسوب والمخرج من الأرض؟ قلت: معناه: ومن طيبات ما أخرجنا لكم، إلا أنه حذف؛ لذكر الطيبات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست للعطف، بل للحال، وصاحبها:(أَحَدَكُمْ)، وقد: مقدرة، ويجوز أن تكون عاطفة على (أَنْ تَكُونَ) على تأويل الماضي؛ لأن التمني هو: طلب حصول ما لا يمكن حصوله، والماضي والمضارع سيان في ذلك، فكأنه قيل: لو كانت له جنة وأصابه الكبر، ونحوه في التقدير: قوله تعالى: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ)[المنافقون: 10]، كأنه قيل:"تصدقت وكنت".

قوله: (من جياد مكسوباتكم)، الراغب: الطيب يقال تارة باعتبار الحاسة، وباعتبار العقل أيضاً، والخبيث نقيضه، والأظهر أن المعني به ها هنا المعقول الذي ها هنا هو الحلال، والحقيقة: الطيب من الكسب: ما ليس فيه ارتكاب محظور واكتساب محجور، وتخصيص المكسوب لأن الإنسان بما يكسبه أضن به مما يرثه، وتخصيص (لَكُمُ) تنبيه أن المقصود بإيجاد هذه الأشياء نفع الإنسان ليبلغه إلى سعادة الدارين، ويجوز أن يتضمن مع ذلك: أن الذي تجب فيه الزكاة هو ما قصد به قوام الإنسان.

قوله: (فهلا قيل: وما أخرجنا لكم؟ ) يعني: لو لم يترك لفظة "من" في (وَمِمَّا أَخْرَجْنَا) ليكون عطفاً على ما كسبتم فيدخل المخرج من الأرض في حكم الطيبات؛ لأن المطلوب من

ص: 529

(وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ): ولا تقصدوا المال الرديء (مِنْهُ تُنْفِقُونَ): تخصونه بالإنفاق، وهو في محل الحال. وقرأ عبد اللَّه:(ولا تأمموا)، وقرأ ابن عباس:(ولا تيمموا) بضم التاء، ويممه وتيممه وتأممه سواء في معنى قصده. (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ): وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ): إلا أن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه، من قولك: أغمض فلان عن بعض حقه؛ إذا غضّ بصره. ويقال للبائع: أغمض أي: لا تستقص كأنك لا تبصر، وقال الطرمّاح:

لَمْ يَفُتْنَا بِالْوِتْرِ قَوْمٌ وَلِلضَّيْـ

ـمِ رِجَالٌ يَرْضَوْنَ بِالإِغْمَاضِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النفقة الطيبات، لقوله:(وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ)، والآن هو عطف على (مِنْ طَيِّبَاتِ)، فلا يدخل في حكمها؟ وأجاب: أن المضاف مقدر وهو الطيبات لوقوعه مقابلاً لقوله: (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) فاستغنى ذلك عن ذكره، وفائدته الإيجاز مع التنبيه على استقلال كل من إنفاق طيبات مكسوبهم ومن إنفاق طيبات المخرج لهم في القصد.

قوله: (وهو في محل الحال)، قال القاضي: ينفقون: حال مقدرة من فاعل (تَيَمَّمُوا)، والضمير في (مِنْهُ) للمال، أي: ولا تقصدوا الرديء من المال، ويجوز أن يتعلق (مِنْهُ) بـ (تُنْفِقُون)، ويكون الضمير للخبيث، والجملة: حال منه.

قوله: (كأنك لا تبصر): إشارة إلى أن قوله: (إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا) استعارة تبعية واقعة على سبيل التمثيل، شبه حالة من تسامح في بيعه، ولا يستقصي في أخذ العوض، بحالة من رأى شيئاً يكرهه فيغمض عنه عينه.

قوله: (لم يفتنا بالوتر) البيت. يقال: فاتني فلان بكذا، أي: سبقني، الجوهري: الموتور: الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، تقول منه: وتره يتره وتراً وترة، وكذلك وتره حقه، أي:

ص: 530

وقرأ الزهريّ: (تغمضوا)، وأغمض وغمض بمعنى، وعنه:(تغمضوا) بضم الميم وكسرها من غمض يغمض ويغمض. وقرأ قتادة: (تغمضوا) على البناء للمفعول بمعنى: إلا أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه. وقيل: إلا أن توجدوا مغمضين. وعن الحسن: لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا يتصدّقون بحشف التمر وشراره؛ فنهوا عنه.

[(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَامُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)].

أي: يعدكم في الإنفاق الْفَقْرَ ويقول لكم إنّ عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا. وقرئ: (الفقر) بالضم، و (الفقر) بفتحتين. والوعد يستعمل في الخير والشر. قال اللَّه تعالى:(النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)[الحج: 72]. (وَيَأمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقصه، يقول: لم يفتنا قوم عند طلب الثأر، بل ندركهم وننتقم منهم، والحال أن بعض الرجال يرضون بالإغماض عن بعض حقهم لضعفهم.

قوله: (يعدكم في الإنفاق الفقر)، الراغب: المشهور عند العامة أن الفقر: الحاجة، وأصله: كسر الفقار، من قولهم: فقرته، نحو كبدته، وبهذا النظر سمي الحاجة والداهية فاقرة، والفقر أربعة: فقد الحسنات في الآخرة، وفقد القناعة في الدنيا، وفقد المقتنى، وفقدها جميعاً، والغنى بحسبه، فمن فقد القناعة والمقتنى فهو الفقير المطلق على سبيل الذم، ومن فقد القناعة دون القنية فهو الغني بالمجاز الفقير في الحقيقة، ومن فقد القنية دون القناعة فإنه يقال له: فقير وغني وقد ورد: "ليس الغنى بكثرة العرض، وإنما الغنى غنى القلب"، فقوله:(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ) قيل: فقر الآخرة، وهو أن يخيل إليه أن لا جزاء ولا نشور فلا ينفق.

قوله: (الوعد يستعمل في الخير والشر)، قال الفراء: يقال: وعدته خيراً، ووعدته شراً،

ص: 531

ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور. والفاحش عند العرب: البخيل. (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ) في الإنفاق (مَغْفِرَةً) لذنوبكم، وكفارة لها، (وَفَضْلًا): وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم، أو: وثواباً عليه في الآخرة.

[(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير: الوعد، وفي الشر: الإيعاد والوعيد، فإن أدخلوا الباء في الشر جاؤوا بالألف.

قوله: ((وَفَضْلاً): وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم). واعلم أن الآية فيها متقابلان: أحدهما جلي والآخر خفي، والجلي قوله:(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَامُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً)، ومن ثم فسر الأول بقوله:"يعدكم في الإنفاق الفقر"، والثاني بقوله:"وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم"، وأما الخفي فقوله:(وَيَامُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)، وقوله:(وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً)، وكما أن الأمر بالفحشاء إغراء برذيلة البخل، كذلك الوعد بالمغفرة حث على التمحيص عن الرذائل، ولهذا فسر الأول بقوله:"ويغريكم على البخل"، والثاني بقوله:"مغفرة لذنوبكم"، والذنب في هذا المقام هو: البخل، كما أن الفحشاء كذلك؛ لأن الكلام في الحث على الإنفاق والردع عن الإمساك، وأي رذيلة في المرء أردى من البخل! وإليه أومى صلوات الله عليه بقوله:"السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة، بعيد من الناس قريب من النار" أخرجه الترمذي عن أبي هريرة، ويؤيده تذييل الكلام بقوله:(وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

ص: 532

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ): يوفق للعلم والعمل به. والحكيم عند اللَّه: هو العالم العامل. وقرئ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) بمعنى: ومن يؤته اللَّه الحكمة، وهكذا قرأ الأعمش. و (خَيْراً كَثِيراً) تنكير تعظيم، كأنه قال: فقد أوتي أي خير كثير. (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) يريد الحكماء العلام العمال. والمراد به الحثّ على العمل بما تضمنت الآي: في معنى الإنفاق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والحكيم عند الله هو: العالم العامل)، كذا عن القاضي، قال الإمام: الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين، وذلك أن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فقول إبراهيم عليه السلام:(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً)[الشعراء: 83] إشارة على العلم، ثم قوله:(وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)[الشعراء: 83] إشارة إلى العمل، وقول عيسى عليه السلام:(إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ)[مريم: 30] إشارة إلى العلم، ثم قوله:(وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ)[مريم: 31] إلى العمل، وقال تعالى لموسى عليه السلام:(إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا)[طه: 14] مشيراً إلى العلم، ثم قال:(فَاعْبُدْنِي) مشيراً إلى العمل، ثم عم جميع الأنبياء بقوله:(أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا)[النحل: 2] مريداً به العلم، وبقوله:(فَاتَّقُونِ)[النحل: 2] العمل، قال أبو مسلم: الحكمة فعلة من الحكم، ورجل حكيم: إذا كان ذا حجى ولب وصلابة رأي، فعيل بمعنى فاعل، ويقال: أمر حكيم، أي: محكم، فعيل بمعنى مفعول، فالحكمة لا تحصل إلا بموهبة الله ومتابعة الأنبياء والاستقامة عليها، إذ هي مأخوذة من مشكاة النبوة المقتبسة من أنوار القدس، وأن التفكر والعلم لا يفيد النفس استعداد قبولها ابتداء بل إن الله عز شأنه بفيضه الأقدس يجود بالاستعداد لأنفس الأنبياء وخواص متابعيهم فيفيض الحكمة عليهم، وفي قول المصنف:"الحكماء: العلام العمال" على المبالغة، بعد قوله: "والحكيم

ص: 533

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عند الله هو: العالم العامل"، تنبيه على أن قوله: (أُوْلُوا الأَلْبَابِ) مظهر وضع موضع المضمر، وأن العاقل الكامل المتناهي هو الذي بالغ واجتهد في الجمع بين العلم والعمل وأتقن فيهما ورسخ بهما قدمه، وأما قوله: "والمراد به الحث على العمل بما تضمنت الآي في معنى الإنفاق" إشارة إلى بيان التوفيق والنظم بين الآي، وأن المنفق في سبيل الله هو العالم الرباني والحكيم المحق، ومن فقد ذلك فقد حرم أن يسمى حكيماً، وبيانه- والعلم عند الله-: أن الله عز شأنه لما بالغ في أمر الإنفاق حين شرع في بيانه بضرب الأمثال والرجوع إليه مرة بعد أخرى كما سبق، أتى بعد ذلك بما عسى أن يمنع المكلف من الإنفاق من تسويل الشيطان وإغوائه النفس الأمارة خوف الفقر والإعدام، وتزيينه المعاصي والفواحش، فقال: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَامُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ)، وقابل الخصلتين بما يقابلهما من الحسنتين بقوله: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً)، ثم كمله بما هو العمدة فيه وهو قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) المشتملة على سعة الإفضال ووفور العلم ليكون تمهيداً لذكر ما هو أجل المواهب وأسنى المطالب، وهو الحكمة، ليكون حثاً على ما تضمنت الآي من معنى الإنفاق، فعند ذلك تنبه الطالب لأمر خطير فاضطر إلى السؤال بلسان الحال: ليت شعري، هل أحد يتصدى لهذه المنقبة الشريفة والمنزلة الرفيعة؟ فنودي من سرادقات الجلال: من خصه الله تعالى بالحكمة ووفقه للعلم والعمل، ثم ذيل ذلك بقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) تعريضاً لمن لا يتعظ بهذا البيان الشافي، المعنى: لا يذكر ذلك إلا من عرف الحكمة ورسخت قدماه فيها، لا من لا يرفع لها رأساً، فإنه في عداد الأنعام بل هم أضل سبيلاً، وفي قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) إيماء إلى معنى قوله صلوات الله عليه: "مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثدييهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت بمكانها"، أخرجه البخاري ومسلم، عن أبي هريرة.

ص: 534

[(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)].

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) في سبيل اللَّه أو في سبيل الشيطان، (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) في طاعة اللَّه أو في معصيته (فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ) لا يخفى عليه، وهو مجازيكم عليه (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين يمنعون الصدقات، أو ينفقون أموالهم في المعاصي، أو لا يفون بالنذور، أو ينذرون في المعاصي، (مِنْ أَنْصارٍ): ممن ينصرهم من اللَّه ويمنعهم من عقابه.

[(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)].

"ما" في "نعما" نكرة غير موصولةٍ ولا موصوفة. ومعنى (فَنِعِمَّا هِيَ): فنعم شيئاً إبداؤها. وقرئ بكسر النون وفتحها ........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فنعم شيئاً إبداؤها) قال ابن جني في "الدمشقيات": قوله تعالى: (فَنِعِمَّا هِيَ) منصوبة لا غير لأنها ليست موصولة، والتقدير: نعم شيئاً إبداؤها، فحذف الإبداء وأقيم المضاف إليه مقامه، ألا ترى إلى قوله: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم والتذكير يدل على ما ذكرنا، واستعملت ما هنا غير موصولة ولا موصوفة لما فيها من الشياع.

قوله: (وقرئ بكسر النون وفتحها)، أي: قرأ: "نعما" بالكسر مع إسكان العين: أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، وقالون عن نافع. ومع كسرها: ابن كثير، ونافع برواية ورش، وعاصم في رواية حفص. وبالفتح مع كسر العين: الباقون. قال أبو البقاء: إسكان العين والميم مع الإدغام بعيد لما فيه من الجمع بين الساكنين، وقيل: إن الراوي لم يضبط القراءة؛ لأن القارئ اختلس كسر العين فظنه إسكاناً.

ص: 535

(وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ): وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ): فالإخفاء خير لكم. والمراد الصدقات المتطوّع بها، فإنّ الأفضل في الفرائض أن يجاهر بها. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: صدقات السر في التطوّع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً. وإنما كانت المجاهرة بالفرائض أفضل؛ لنفي التهمة حتى إذا كان المزكي ممن لا يعرف باليسار كان إخفاؤه أفضل، والمتطوّع إن أراد أن يقتدى به كان إظهاره أفضل. (ونكَفِّر) قرئ بالنون مرفوعاً، عطفاً على محل ما بعد الفاء، أو على أنه خبر مبتدأٍ محذوف، أي: ونحن نكفر، أو على أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأة؛ ومجزوماً عطفاً على محل الفاء وما بعده؛ لأنه جواب الشرط. وقرئ:(ويكفر) بالياء مرفوعاً والفعل للَّه؛ أو للإخفاء، و (تُكفر) بالتاء مرفوعاً ومجزوماً، ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وتصيبوا بها مصارفها مع الإخفاء): عطف تفسيري لقوله: (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ).

قوله: (حتى إذا كان)، غاية العلة مع المعلول، وهي المجاهرة لنفي التهمة، وقوله:"والمتطوع": عطف على المزكي، ومعناه مقدر، وتقديره: وإنما كانت المسارة بالتطوع أفضل لعدم الرياء، حتى إذا كان المراد الاقتداء به كان إظهاره أفضل، فيكون من باب: علفتها تبناً وماء بارداً.

قوله: ("ونكفر" قرئ بالنون مرفوعاً)، نافع وأبو عمرو وابن كثير، وبالياء: ابن عامر وحفص.

قوله: (أي: ونحن نكفر)، فالجملة معطوفة على جملة قوله:(فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، وهو مثل الأول، ويجوز أن يكون (وَيُكَفِّرُ) جملة من فعل وفاعل مبتدأة، أي: منقطعة منفصلة

ص: 536

والفعل للصدقات، وقرأ الحسن رضي الله عنه بالياء والنصب بإضمار "أن"، ومعناه: إن تخفوها يكن خيراً لكم، وأن يكفر عنكم.

[(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ)].

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ): لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المنّ والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب، (وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ): يلطف بمن يعلم أنّ اللطف ينفع فيه، فينتهى عما نُهي عنه. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ): من مال (فَلِأَنْفُسِكُمْ): فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم، فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم. (وَما تُنْفِقُونَ): وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجه اللَّه ولطلب ما عنده، فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى اللَّه. (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من خبر الجزاء، فتكون معطوفة على جملة الشرط والجزاء، المعنى: ليحصل منكم إبداء الصدقات وإخفاؤها، ومنا تكفير ذنوبكم.

قوله: (والفعل للصدقات) أي: الإسناد يكون مجازياً.

قوله: (يلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه)، مذهبه، وأهل السنة على أن الهداية من الله وبمشيئته فيختص بها قوماً دون قوم.

قوله: (وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجه الله تعالى). (وَمَا تُنفِقُونَ): معطوف على قوله: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) أو: حال، قال القاضي: يجوز أن يكون حالاً، كأنه قال:(وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ) غير منفقين إلا لابتغاء وجه الله، قلت:

ص: 537

ثوابه أضعافاً مضاعفة، فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن إنفاقه، وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها. وقيل:

حجت أسماء بنت أبى بكر رضي الله عنهما فأتتها أمها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطيها، فنزلت. وعن سعيد بن جبير: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين. وروي: أنّ ناساً من المسلمين كانت لهم أصهارٌ في اليهود ورضاع، وقد كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام، فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم. وعن بعض العلماء: لو كان شر خلق اللَّه لكان لك ثواب نفقتك. واختلف في الواجب: فجوز أبو حنيفة رحمة الله عليه، صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة، وأباه غيره.

[(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) 273].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأوجه هذا؛ لأن قوله: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) عطف على الجملة الشرطية مع الحال، وهي "ما تنفقوا"، يعني: النفقة الراجع نفعها إلى المنفق حين كانت خالصة لوجه الله هي التي توفى إلى صاحبها بالتمام والكمال من غير ظلم ونقص، وأما قوله:(وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) فهو عطف على (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ)، وقوله:(لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) اعتراض.

قوله: (وأن يكون على أحسن الوجوه) عطف على قوله: "إنفاقه" لا على "أن ترغبوا".

قوله: (أن يرضخوا). الرضخ: العطاء القليل، الجوهري: الرضخ مثل الرضح، رضخت الحصى والنوى: كسرته، ورضخت له رضخاً وهو العطاء ليس بالكثير، وفي الحديث:"أمرت له برضخ". كانوا يكسرون النوى ويأخذون عليه الأجرة ويصرفونها في النفقة.

ص: 538

الجار متعلق بمحذوف، والمعنى: اعمدوا الفقراء، واجعلوا ما تنفقون للفقراء كقوله تعالى:(فِي تِسْعِ آياتٍ)[النمل: 12]، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: صدقاتكم للفقراء، (والَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هم الذين أحصرهم الجهاد، (لا يَسْتَطِيعُونَ)؛ لاشتغالهم به (ضَرْباً فِي الْأَرْضِ)؛ للكسب. وقيل: هم أصحاب الصفة؛ وهم نحو من أربع مئة رجل من مهاجري قريش لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته- يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: وقف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم، فقال:«أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفقائي في الجنة» .

(يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بحالهم (أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ): مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة. (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) من صفرة الوجه ورثاثة الحال. والإلحاف: الإلحاح وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه، من قولهم: لحفني من ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الجار متعلق بمحذوف)، الراغب: قيل: هو بدل البعض من قوله: (فَلأَنفُسِكُمْ) أي: أهل دينكم، فصار الفقراء بعضهم، وقيل: متعلق بقوله: (وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) أي: ما تنفقون لهم إلا تقرباً إلى الله، فمعلوم أن من خص بنفقته هؤلاء فلم يقصد به إلا وجه الله.

قوله: (مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة)، الراغب: العفة: حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، والمتعفف: المتعاطي لذلك بضرب من الممارسة والقهر، وأصله

ص: 539

فضل لحافه، أي: أعطاني من فضل ما عنده. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللَّه تعالى يحبّ الحيىّ الحليم المتعفف، ويبغض البذىّ السآل الملحف» ، ومعناه: أنهم إن سألوا سألوا بتلطفٍ ولم يلحوا. وقيل: هو نفي للسؤال والإلحاف جميعاً، كقوله:

عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ

يريد نفى المنار والاهتداء به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاقتصار على تناول الشيء القليل الجاري مجرى العفاف، والعفة، أي: البقية من الشيء، أو: مجرى العفف، وهو ثمر الأراك.

قوله: (ويبغض البذيء). البذيء: البذاء بالمد: الفحش، فلان بذيء اللسان، والمرأة: بذيئة.

قوله: (سألوا بتلطف ولم يلحوا) يحتمل أن يراد أن (إِلْحَافاً): منصوب على المصدر؛ لأن السؤال بالتلطف نوع منه أو على الحال.

قوله: (على لاحب لا يهتدى بمناره)، تمامه من رواية الزجاج:

إذا سافه العود الديافي جرجرا

قال الزجاج: المعنى: ليس لها منار فيهتدى بها، وكذلك ليس من هؤلاء السؤال فيقع منه إلحاف. تم كلامه. اللاحب: الطريق الواضح، والسوف: الشم، والعود: الجمل المسن، والدياف: قرية يسكنها النبط، وهو زارع العرب، جرجرا، أي: صوت، وقيل: أوله:

سدى بيديه ثم أج بسيره

ص: 540

[(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)].

(بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة؛ لحرصهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه، ولم يتعللوا بوقتٍ ولا حال. وقيل: نزلت في أبي بكر الصدّيق رضى اللَّه عنه حين تصدّق بأربعين ألف دينارٍ: عشرةً بالليل، وعشرةً بالنهار، وعشرةً في السرّ، وعشرة في العلانية. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنهما: نزلت في علىّ رضى اللَّه عنه لم يملك إلا أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السدو: مد اليد نحو الشيء، والمراد: تذرع الناقة بيديها واتساع خطوها، وأج الظليم يأج أجاً: عدا، قال الإمام: القول الأول وهو: أن يسألوا بتلطف ولم يلحوا ضعيف؛ لأن الله تعالى وصفهم بالتعفف عن السؤال بقوله: (يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ)، ثم قال:(تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ)، وذلك ينافي صدور السؤال عنهم. يريد أنه من باب التقسيم الحاصر؛ لأن الناس من بين عارف بأحوالهم وجاهل بها، فإذا انتفى شعورهما انتفى السؤال بالكلية.

وقلت: هذا مقام يفتقر إلى فضل بسط ومزيد بيان. واعلم أن الشيء الذي يراد نفيه: إما أن ينفى مطلقاً أو مع التأكيد، بأن ينفى مع وصفه، كما تقول: ما عندي كتاب يباع، فهو محتمل نفي البيع وحده وأن عنده كتاباً إلا أنه لا يبيعه، أو نفيهما جميعاً وأن لا كتاب عنده ولا كونه مبيعاً، ذكره في حم المؤمن، وما نحن بصدده من القبيل الثاني، لوجود عدم السؤال من القرينة السابقة؛ لأنها دافعة لدليل الخطاب، كما أن قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً)[آل عمران: 130] دافع دليل خطابه خصوص السبب، إذ

ص: 541

وقيل: نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل اللَّه. وعن أبى هريرة رضى اللَّه عنه، كان إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية.

[(الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) 275 - 276].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لو ذهبنا إلى دليل الخطاب لزم التناقض بين السابق واللاحق، وهو نوع من أنواع الكنايات، وفائدة انضمام هذه القرينة مع الأولى ومجيء الإلحاف المنفي فيها: المبالغة والتوكيد في نفي السؤال، فهي كالتذييل أو التتميم، ولها طريقان، أحدهما: جيء بها مشتملة على نفي التابع بالمتبوع ليؤذن بأن المتبوع بلغ في الانتفاء إلى درجة يصح جعله دليلاً على نفي الغير، فيلزم بذلك نفيه على سبيل القطع والبت، قال المصنف في قوله تعالى:(وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ): الفائدة في ذكر الصفة ونفيها هي أن تضم الصفة مع الموصوف ليقام انتفاء الموصوف في مقام الشاهد على انتفاء الصفة، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف. وثانيهما: أتى بالقرينة الثانية متضمنة للتابع والمتبوع ليكون انتفاء التابع ذريعة إلى انتفاء المتبوع بالطريق الأولى، وهذا إنما يتأتى فيما فيه الوصف في الدرجة القصياء في بابه كالإلحاح فيما نحن فيه، فنقول: ليس لهم سؤال في حالة الاضطرار، وانتفاؤه في غيرها بالطريق الأولى، أي: لو وجد منهم سؤال لم يكن إلا على ذلك التقدير؛ لأن المضطر له ذلك، وأولئك لا يسألون أيضاً هذا السؤال عند الاضطرار، فأفاد أنهم يشرفون على الهلاك ولا يسألون، فظهر من هذا قوة إيراد الإمام، اللهم إلا أن يقال: إن المراد إثبات السؤال على الفرض والتقدير ومن ثم جاء بـ "إن"، التي للشك، وليس بقوي أيضاً، وقال أبو البقاء:(لا يَسْأَلُونَ): حال، ويجوز أن يكون مستأنفاً، و (إِلْحَافاً): مفعول من أجله، ويجوز أن يكون مصدراً لفعل محذوف دل عليه (يَسْأَلُونَ)، فكأنه قال: لا يلحفون، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال، تقديره: لا يسألون ملحفين.

ص: 542

(الربا) كتب بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها؛ تشبيهاً بواو الجمع. (لا يَقُومُونَ) إذا بعثوا من قبورهم (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ)، أي: المصروع. وتخبط الشيطان من زعمات العرب؛ يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع. والخبط: الضرب على غير استواءٍ كخبط العشواء، فورد على ما كانوا يعتقدون. والمس: الجنون، ورجل ممسوس. وهذا أيضاً من زعماتهم، وأن الجنيَّ يمسه فيختلط عقله، وكذلك جن الرجل، معناه: ضربته الجنّ، ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات. فإن قلت: بم يتعلق قوله: (مِنَ الْمَسِّ)؟ قلت: بـ (لا يقومون)، أي: لا يقومون من المسّ الذي بهم إلا كما يقوم المصروع، ويجوز أن يتعلق بـ (يقوم)، .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من زعمات العرب). قال الجبائي: لأن حقيقة المس والصرع من الشيطان باطل؛ لأن قدرته ضعيفة لا يقدر على مثل ذلك، ولقوله تعالى:(وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ) [إبراهيم: 22 ي، وقال القفال: الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان فخوطبوا على ما تعارفوا.

الانتصاف: هذا من تخبيط الشيطان لمن ينكر، لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من وجود الجن وتعرضهم للإنسان.

قوله: (ورأيتهم لهم في الجن قصص). قصص: مبتدأ، و"لهم": خبره، والجملة: حال إن كان "رأى" بمعنى: أبصر، ومفعول ثان إن كان بمعنى: علم.

ص: 543

أي: كما يقوم المصروع من جنونه، والمعنى: أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين، تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف. وقيل الذين يخرجون من الأجداث يوفضون إلا أكلة الربا، فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين؛ لأنهم أكلوا الربا فأرباه اللَّه في بطونهم حتى أثقلهم فلا يقدرون على الإيفاض. (ذلِكَ) العقاب بسبب قولهم:(إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا). فإن قلت: هلا قيل: إنما الربا مثل البيع؛ لأنّ الكلام في الربا لا في البيع؛ فوجب أن يقال: إنهم شبهوا الربا بالبيع فاستحلوه، وكانت شبهتهم أنهم قالوا: لو اشترى الرجل ما لا يساوي إلا درهماً بدرهمين جاز، فكذلك إذا باع درهماً بدرهمين! قلت: جيء به على طريق المبالغة؛ وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع، وقوله:(وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إنكار لتسويتهم بينهما، ودلالة على أنّ القياس يهدمه النص؛ لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال اللَّه وتحريمه.

(فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) فمن بلغه وعظ من اللَّه وزجر بالنهي عن الربا (فَانْتَهى): فتبع النهى وامتنع، (فَلَهُ ما سَلَفَ) فلا يؤخذ بما مضى منه؛ لأنه أخذ قبل نزول التحريم (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) يحكم في شأنه يوم القيامة، وليس من أمره إليكم شيء فلا تطالبوه به. (وَمَنْ عادَ) إلى الربا (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)، ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مخبلين)، النهاية: الخبل، بسكون الباء: فساد الأعضاء، يقال: خبل الحب قلبه: إذا أفسده.

قوله: (يوفضون)، الجوهري: ألوفض: العجلة، وأوفض واستوفض: أسرع.

قوله: (على طريق المبالغة). هذا يسميه ابن الأثير في البيان بالطرد والعكس؛ لأن حق المشبه به أن يكون أعرف بجهة التشبيه وأقوى، فإذا عكس صار المشبه أقوى من المشبه به. وهو المراد بقوله:"إنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل".

ص: 544

وهذا دليل بين على تخليد الفساق. وذكر فعل الموعظة لأنّ تأنيثها غير حقيقى، أو لأنها في معنى الوعظ. وقرأ أبيٌّ والحسن:(فمن جاءته). (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا): يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه. وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه: الربا وإن كثر إلى قلّ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هذا دليل بين على تخليد الفساق) يعني: أن قوله: (الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا) عام في الكفار والفساق، وكذا قوله:(فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ)، وكذا (وَمَنْ عَادَ)، وأن قوله:(فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وَمَنْ عَادَ) مترتب عليه، فوجب أن يدخلوا في حكم هذا الوعيد.

الانتصاف: مفعول (وَمَنْ عَادَ) محذوف، ولا نسلم أن المراد العود إلى الربا، بل عاد إلى ما سلف ذكره، وهو فعل الربا واعتقاد حله والاحتجاج عليه بقياس في معرض النص، ومن فعل ذلك كفر. قال الإمام: المراد: ومن عاد إلى استحلال الربا حتى يصير كافراً، فعلى هذا قوله:(فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) مخصوص بهؤلاء، أقصى ما في الباب أنا خالفنا هذا الظاهر وأدخلنا سائر الكفار فيه، وهذا التقدير مشترك الإلزام؛ لأن تخصيص الخلود لهؤلاء على ما ذهبتم يفيد أن حكم غير هؤلاء من الفساق غير هذا فيلزمكم خلاف الظاهر أيضاً. وقلت: ويقوي قول صاحب "الانتصاف": أن الضمير في (فَانتَهَى) و (عَادَ) راجع إلى مجموع آكلي الربا والقائل باستحلاله، ولأن قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا) إلى قوله: (وَلا تُظْلَمُونَ) وارد في المؤمنين، وهو مقابل لهذه الآيات، فوجب حملها على الكفار ليصح التضاد والتقابل، فيكون قوله:(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) مجرى على ظاهره، فلا يحمل على التغليظ كما ذهب إليه المصنف، ويؤيده وضع المظهر، وهو (كَفَّارٍ) موضع ضمير (وَمَنْ عَادَ) إشعاراً بأن العائد إلى الاستحلال مبالغ في الكفر عامة، ولذلك أوثر صيغة "فعال".

قوله: (وعن ابن مسعود: الربا وإن كثر إلى قل)، والمذكور في "مسند الإمام أحمد بن حنبل":

ص: 545

(وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) ما يتصدّق به بأن يضاعف عليه الثواب ويزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة، ويبارك فيه. وفي الحديث:«ما نقصت زكاة من مال قط» . (كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) تغليظ في أمر الربا، وإيذان بأنه من فعل الكفار لا من فعل المسلمين.

[(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ* وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)].

أخذوا ما شرطوا على الناس من الربا وبقيت لهم بقايا، فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها. وروي: أنها نزلت في ثقيف، وكان لهم على قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحل بالمال والربا. وقرأ الحسن:(ما بقي) بقلب الياء ألفاً على لغة طيئ، وعنه:(ما بقي) بياءٍ ساكنة، ومنه قول جرير:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"فإن عاقبته تصير إلى قل"، وفي الحديث:"ما نقصت زكاة من مال قط"، روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده، إن كنت لحالفاً عليهن: لا ينقص مال من صدقة، ولا يعفو عبد عن مظلمة إلا رفعه الله بها عزاً، ولا يفتح عند باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر".

ص: 546

هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا رَضِي لَكُمُ

مَاضِى الْعَزِيمَةِ مَا فِى حُكْمِهِ جَنَفُ

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): إن صح إيمانكم، يعني: أنّ دليل صحة الإيمان وثباته امتثال ما أمرتم به من ذلك ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هو الخليفة فارضوا) البيت، قوله:"ما رضي" بياء ساكنة، ماضي العزيمة: أي: مجد في الأمور، والجنف: الميل.

قوله: (يعني أن دليل صحة الإيمان وثباته امتثال ما أمرتم به)، يريد أن قوله:(إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط جزاؤه ما دل عليه، قوله:(اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا) جيء به مؤكداً للأمر بالتقوى، ثم الظاهر أنه إن قدر: يا أيها الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم، يكون المعنى: اعلموا أن دليل ثباتكم على إيمانكم امتثال ما أمر الله به، وترك الربا من ذلك، وإن قدر: يا أيها الذين آمنوا حقيقة، يكون المعنى: اعلموا أن دليل ثباتكم على الإيمان امتثال ما أمرتم به من ذلك، ويؤيد الثاني أن هذه الآية واردة في المؤمنين الخلص لأنها مقابلة لقوله:(الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا)، وهي في الكفار كما سبق، وأما قوله تعالى:(فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) فمن باب التغليظ.

قوله: (من ذلك) هو بيان "ما أمرتم به"، والمشار إليه بقوله:"ذلك" الأمران، أعني:(اتَّقُوا)، و"ذروا"، المعنى: يا أيها الذين آمنوا إن كنتم صادقين في الإيمان فاعلموا أن دليل صدقكم وثباتكم امتثال ما أمرتم به من التقوى وترك الربا.

الراغب: سماهم مؤمنين في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لإقرارهم بالإيمان، ثم بين بقوله:"إن كنتم مؤمنين" أن من شرط الإيمان التزام أحكامه، أي: إن كنتم مؤمنين فلابد من التزام ذلك، وقال مقاتل: معنى (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ): إذ كنتم مؤمنين، ووجهه أن "إن" مترددة فيما يتحقق وقوعه وفيما لا يتحقق، وإذ قال فيما كان معلوماً وقوعه فبين أن "إن" ها هنا لم تكن لوقوع شبهة في إيمانهم. وقلت: وسيجيء تمام تقريره في سورة الممتحنة.

ص: 547

(فأذَنُوا بِحَرْبٍ): فاعلموا بها، من أذن بالشيء؛ إذا علم به. وقرئ:(فآذنوا): فأعلموا بها غيركم، وهو من الأذن وهو الاستماع؛ لأنه من طرق العلم. وقرأ الحسن:(فأيقنوا) وهو دليل لقراءة العامّة. فإن قلت: هلا قيل: بحرب اللَّه ورسوله! قلت: كان هذا أبلغ؛ لأن المعنى: فأذنوا بنوعٍ من الحرب عظيم عند اللَّه ورسوله. وروي: أنها لما نزلت قالت ثقيف: لا يديْ لنا بحرب اللَّه ورسوله. (وَإِنْ تُبْتُمْ)، من الارتباء. (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ) المديونين بطلب الزيادة عليها، (وَلا تُظْلَمُونَ) بالنقصان منها. فإن قلت: هذا حكمهم إن تابوا فما حكمهم لو لم يتوبوا؟ قلت: قالوا: يكون مالهم فيئاً للمسلمين. وروى المفضل عن عاصمٍ: (لا تُظْلَمون ولا تَظْلِمون).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فَاذَنُوا بِحَرْبٍ)) ساكنة الهمزة مفتوحة الذال قراءة العامة سوى حمزة وأبي بكر فإنهما قرآ ممدودة مكسورة الذال، أي: فأعلموا بها غيركم.

قوله: (لا يدي لنا)، أي: لا طاقة لنا، النهاية: ما لي بهذا الأمر يد ولا يدان، أي: لا طاقة لي به؛ لأن المباشرة والدفاع إنما يكون باليد، فكأن يديه معدومتان لعجزه عن دفعه.

قوله: (يكون مالهم فيئاً للمسلمين)، هذا إنما يصح إذا كان الخطاب مع الكفار المستحلين للربا، وهم الذين قالوا:(إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)، وليس كذلك؛ لأن الخطاب مع المؤمنين لقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا) كما سبق، فحكمهم إن كانوا ذوي الشوكة حكم الفئة الباغية في أن مالهم لا يكون فيئاً، كما فعل علي رضي الله عنه، وإن لم يكونوا كذلك عزروا إلى أن يتوبوا.

ص: 548

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ): وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة أو ذو إعسار. وقرأ عثمان رضي الله عنه: (ذا عسرة) على: وإن كان الغريم ذا عسرة، وقرئ:(ومن كان ذا عسرة). (فَنَظِرَةٌ): فالحكم، أو: فالأمر نظرة؛ وهي الإنظار. وقرئ: (فنظرة) بسكون الظاء. وقرأ عطاء: (فناظره) بمعنى: فصاحب الحق ناظره، أي: منتظره، أو صاحب نظرته، على طريقة النسب، كقولهم: مكان عاشب وباقل، أي: ذو عشب وذو بقل؛ وعنه: (فناظره)؛ على الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة وياسره بها. (إِلى مَيْسَرَةٍ) إلى يسار

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة). قال الإمام: الفرق بين كان إذا كانت تامة وبينها أن تكون ناقصة، أن التامة بمعنى حدث ووجد الشيء، والناقصة بمعنى وجد موصوفية الشيء بالشيء، فإذا قلت: كان زيد عالماً فمعناه: حدث موصوفية زيد بالعلم في الزمان الماضي.

الراغب: قيل: هي ناقصة، أي:"وإن كان ذو عسرة غريماً لكم"، فحذف لدلالة الكلام عليه، وهذا أجود؛ لأن كان التامة أكثر ما يتعلق بها الأحداث دون الأشخاص نحو: كان الخروج، كقولك: اتفق الخروج، ولا تقول: كان زيد واتفق زيد.

قوله: (على طريق النسب)، أي: يجعل النظر حرفة لنفسه وعادته حثاً عليها، روينا عن مسلم والدارمي، عن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أنظر معسراً أو وضع عنه، أنجاه الله من كرب يوم القيامة".

ص: 549

وقرئ بضم السين، كمقبرة ومقبرة ومشرقة ومشرقة. وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كقوله:

وَأخْلَفُوكَ عِدَا الأَمْرِ الَّذِى وَعَدُوا

وقوله تعالى: (وَأَقامَ الصَّلاةَ)[النور: 37]. (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ندب إلى أن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر من غرمائهم أو ببعضها، كقوله تعالى:(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)[البقرة: 237]. وقيل: أريد بالتصدق الإنظار؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دين رجلٍ مسلمٍ فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة» . (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه خيرٌ لكم فتعملوا به، جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ بضم السين)، أي: ميسرة: نافع، والباقون بالفتح.

قوله: (وأخلفوك عدى الأمر الذي وعدوا)، أوله:

بان الخليط بسحرة فتبددوا

الخليط: الذي يخالطك في ماله وذات يده، وهو بمعنى الجمع عد الأمر، أي: عدة الأمر، فحذف الهاء عند الإضافة، قيل: ليس هذا المصراع منه لأنه من وزن آخر، وقيل: أوله: إن الخليط أجدوا البين فانجردوا، انجرد السير: إذا امتد وطال.

قوله: (وقيل: أريد بالتصدق: الإنظار)، قال الإمام: هذا القول ضعيف؛ لأن الإنظار قد علم مما قبل، فلابد من حمله على فائدة جديدة. ويؤيده ما روينا في حديث أبي قتادة عن مسلم:"أو وضع عنه". قوله: (فيؤخره) روي نمصوباً، قيل: بالرفع أجود للمبالغة أي: فإنه يؤخره.

ص: 550

وقرئ: (تصدّقوا) بتخفيف الصاد على حذف التاء. (تُرْجَعُونَ) قرئ على البناء للفاعل والمفعول، وقرئ:(يرجعون) بالياء على طريقة الالتفات، وقرأ عبد اللَّه:(تردّون)، وقرأ أبيّ:(تصيرون إلى الله). وعن ابن عباس: أنها آخر آيةٍ نزل بها جبريل عليه السلام وقال: ضعها في رأس المئتين والثمانين من البقرة. وعاش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً، وقيل: أحداً وثمانين، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات.

[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَابَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَابَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قرئ: (تَصَدَّقُوا)، بتخفيف الصاد): عاصم، والباقون: بتشديدها.

قوله: ("ترجعون"، على البناء للفاعل): أبو عمرو، والباقون: على البناء للمفعول، و"يرجعون" بالياء: شاذ.

قوله: (أنها آخر آية نزلت) عن البخاري، عن ابن عبا: آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا، وعن الدارمي وابن ماجة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن آخر آية نزلت آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض ولم يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة.

ص: 551

أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)].

(إِذا تَدايَنْتُمْ): إذا داين بعضكم بعضاً. يقال: داينت الرجل؛ عاملته (بِدَيْنٍ) معطياً أو آخذاً، كما تقول: بايعته؛ إذا بعته أو باعك. قال رؤبة:

دَايَنْتُ أرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى

فَمَطَلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا

والمعنى: إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه. فإن قلت: هلا قيل: إذا تداينتم إلى أجل مسمى! وأي حاجةٍ إلى ذكر الدين كما قال: "داينت أروى"، ولم يقل: بدين؟ قلت: ذكر ليرجع الضمير إليه في قوله (فَاكْتُبُوهُ)؛ إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (داينت أروى) البيت، أروى: اسم المحبوبة، والمطل: مدافعة الدين.

قوله: (لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين)، وفيه إشكال، إذ من الجائز أن يقال: فاكتبوها، والضمير لمصدر المداينة، وأجاب الإمام: أن المداينة مفاعلة، وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين، وذلك هو بيع الدين بالدين، وهو باطل بالاتفاق، فجيء بالدين ليصير المعنى: إذا تعاملتم بدين كما قدره المصنف، فلو رجع الضمير إلى مصدر تداينتم لزم المحذورات.

ص: 552

فلم يكن النظم بذلك الحسن، ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحالّ. فإن قلت: ما فائدة قوله: (مُسَمًّى)؟ قلت: ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: أنه لما عقب تداينتم بقوله: (فَاكْتُبُوهُ) ذكر لفظ الدين ليبين أنه الذي حث على كتبه، وكتبته واجبة عند الربيع وبعضهم، وقيل: هو في السلم خاصة، وحقيقة الأمر حث على غاية ما يكون في ذلك من الاحتياط، فإن الكتاب خليفة اللسان، واللسان خليفة القلب، قال أيضاً: جمع في قوله: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) بين اللفظين، وقدم لفظة "الله" ليؤذن بأن مراقبة ذاته أشرف من اعتبار التربية والإنعام، كأنه قيل: إن لم تلاحظوه فلاحظوا نعمه اللازمة. وقال القاضي: وفائدة ذكر الدين أن لا يتوهم من التداين المجازاة.

وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: إن التداين يمكن أن يستعمل في المجازي كما في بيت رؤبة، فذكر دفعاً لتوهم المجاز، فيكون ذكره تحقيقاً لأن يكون ذلك في التعامل بالدين، وقلت: معنى كلامه على أن المقصود من ذكر الدين التأكيد، ليكون على وزان قولك: قبضته بيدي ورأيته بعيني لئلا يتوهم المعنى المجازي.

قوله: (فلم يكن النظم بذلك الحسن)، وذلك أن المراد بالتداين إما: بيع الدين بالدين، فحينئذ لم يتجاوب آخر الكلام أوله، أو أن أصل الكلام كما قدره:"إذا تعاملتم بدين مؤجل فاكتبوه"، فإذا حذف (بِدَيْنٍ) لم يكتب مؤدى تداينتم: تعاملتم إلا بالتكلف، فلا يحسن ذلك الحسن، ولأنه يفوت غرض التكرير بعود الضمير. وقال صاحب "الفرائد": إنما ذكر (بِدَيْنٍ) ليعلم أن الكتابة مندوبة بأي دين كان، قليلاً أو كثيراً.

قوله: (أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال)، وذلك أن التنكير فيه يدل على الشيوع، فجيء بالاسم الحامل له ليدل على العموم ولو لم يذكر لم يفد هذا المعنى.

ص: 553

كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع الحاج؛ لم يجز لعدم التسمية.

وإنما أمر بكتبة الدين؛ لأنّ ذلك أوثق وآمن من النسيان، وأبعد من الجحود، والأمر للندب. وعن ابن عباس أن المراد به السلم، وقال: لما حرم اللَّه الرّبا أباح السلف. وعنه: أشهد أن اللَّه أباح السلم المضمون إلى أجلٍ معلومٍ في كتابه، وأنزل فيه أطول آية. (بِالْعَدْلِ) متعلق بـ (كاتب) صفة له، أي: كاتب مأمون على ما يكتب، يكتب بالسوية والاحتياط، لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص، وفيه: أن يكون الكاتب فقيها عالماً بالشروط، حتى يجيء مكتوبه معدلاً بالشرع وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب، وأن لا يستكتبوا إلا فقيها ديناً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لعدم التسمية) أي: التعيين؛ لأن مفهوم (إِلَى أَجَلٍ) شامل للأشهر والسنين والحصاد والدياس، فجيء بالمسمى ليدل على المعين، فلو دخل فيه مثل الدياس لبقي على ما كان ولم يفد المسمى شيئاً، يقال: داس يدوس، وهو أن يدق الطعام ليخلص البر من التبن. الانتصاف: الحصاد مضبوط بالعرف، وأجاز مالك البيع إلى الحصاد، والمعتبر زمن وقوع ذلك لا وقوعه. الإنصاف: هذا بعيد؛ لأن زمن الحصاد لا يتحقق بيوم معين وإن تحقق في فصل وشهر.

قوله: ((بِالْعَدْلِ) متعلق بـ (كَاتِبٌ))، المراد بالتعلق: أن يكون متمماً لما تتعلق به صفة، قال أبو البقاء: هو متعلق (وَلْيَكْتُبْ)، أي: ليكتب بالحق، ويجوز أن يكون: وليكتب عادلاً، وقيل: هو متعلق بـ (كَاتِبٌ) أي: كاتب موصوف بالعدل أو مختار.

قوله: (وفيه) يشير إلى أن الكلام مسوق لمعنى ومدمج فيه معنى آخر، يعني: دل إشارة

ص: 554

(وَلا يَأبَ كاتِبٌ) ولا يمتنع أحد من الكتاب، وهو معنى تنكير (كاتب)، (أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ): مثل ما علمه اللَّه كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير. وقيل هو قوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[القصص: 77]، أي: ينفع الناس بكتابته كما نفعه اللَّه بتعليمها. وعن الشعبي: هي فرض كفاية. و (كما علمه اللَّه) يجوز أن يتعلق بـ (أن يكتب)، وبقوله:(فليكتب) فإن قلت: أي: فرق بين الوجهين؟ قلت: إن علقته بـ (أن يكتب)؛ فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيدة، ثم قيل له:(فَلْيَكْتُبْ)، يعنى فليكتب تلك الكتابة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النص وتقييد الكاتب بالعدل على إدماج معنى الفقاهة؛ لأن مراعاة العدل والسوية من الأمور الخطيرة فلا يتمكن منها إلا الفقيه الكامل العالم بكتابة الشروط والصكوك.

قوله: (وقيل: هو كقوله تعالى: (وَأَحْسَنُ)): عطف على قوله: "مثل ما علمه الله كتابة الوثائق"، ويجوز على هذا التفسير أن يحمل الكاتب الثاني على الأول، على أن كرر "كاتب" ليناط به من زيادة لم تنط به أولاً، وهو معنى الاستحماد على ما أولى من نعمة التعليم، وهو المراد من قوله:(وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)، وفيه إشعار بتعظيم أمر الكتابة، وعلى الأول يحمل على غيره، وهو الأصل لأن النكرة إذا أعيدت كانت الثانية غير الأولى فيحمل الكاتب الثاني على الجنس؛ لأن الأول نوع منه مقيد بصفة العدالة، وإلى الجنس إلإشارة بقوله:(ولا يمتنع أحد من الكتاب).

قوله: (هي فرض كفاية). قال الزجاج: هذا أدب من الله تعالى وليس بأمر حتم كما قال: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا)[المائدة: 2]. وقال القاضي: (فَاكْتُبُوهُ) ظاهر في الوجوب؛ لأنه أوثق وأدفع للنزاع، والجمهور على أنه استحباب.

ص: 555

لا يعدل عنها؛ للتوكيد. وإن علقته بقوله (فليكتب)؛ فقد نُهي عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق، ثم أمر بها مقيدة. (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ): ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق، لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته وإقراره به.

والإملاء والإملال: لغتان قد نطق بهما القرآن: (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ)[الفرقان: 5]. (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ): من الحق (شَيْئاً). والبخس: النقص

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (للتوكيد) يتعلق بقوله: "ثم قيل له: (فَلْيَكْتُبْ) " يعني: نهى أولاً عن الإباء عن الكتابة المتصفة، ثم أمر بالكتابة المطلقة بقوله:(فَلْيَكْتُبْ)، فيحمل على المقيد تأكيداً.

قوله: (ثم أمر بها مقيدة). قيل: إنما لم يقل في هذا الوجه: للتوكيد؛ لأن النهي عن امتناع مطلق الكتابة لا يدل على الأمر بالكتابة المخصوصة، فخصص بالكتابة الشرعية حيث لم يدل عليه النهي فلا يكون للتأكيد، ويمكن أن يقال: إن التأكيد إنما يحصل من التكرير، فإذا نهى عن امتناع مطلق الكتابة دخل في النهي امتناع الكتابة الشرعية ضمناً، ثم أمر بها صريحاً، كان أقوى مما أمر أولاً مقيداً؛ لأن الشيء بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب.

قوله: (وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ): ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق). الحصر مستفاد من تعليق الحكم بأحد وصفي الذات لأنه عدول عن المديون إلى الذي عليه الحق؛ لأن المديون هو الأصل لقوله تعالى: (إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ)، وليست الفائدة إلا ما ذكره، ونحوه:"مطل الغني ظلم"، ولأن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية، والأصل نفي علة أخرى، ومن ثم علل الحصر بقوله:"لأنه هو المشهور على ثباته في ذمته"، ومعنى الاختصاص الذي يعطيه ضمير الفصل في هذه العلة نحو معنى تقديم الخبر على المبتدأ في تلك العلة، وهو (عَلَيْهِ الْحَقُّ)، والحاصل: أن العدول من المديون إلى الذي عليه الحق للحصر، وتقديم الخبر علة الحصر، هذا على أصولنا ظاهر، والمصنف كثيراً يميل إلى العمل

ص: 556

وقرئ (شيا)، بطرح الهمزة: وشيا، بالتشديد سَفِيهاً محجورا عليه لتبذيره وجهله بالتصرف، (أَوْ ضَعِيفاً): صبياً، أو شيخاً مختلاً. _أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ): أو غير مستطيع للإملاء بنفسه؛ لعيّ به أو خرس، (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) الذي يلي أمره من وصىّ إن كان سفيهاً أو صبياً، أو وكيل إن كان غير مستطيع، أو ترجمانٍ يمل عنه وهو يصدقه. وقوله تعالى:(أَنْ يُمِلَّ هُوَ) فيه أنه غير مستطيع بنفسه، ولكن بغيره، وهو الذي يترجم عنه. (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ): واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدين (مِنْ رِجالِكُمْ): من رجال المؤمنين، والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام عند عامة العلماء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالمفهوم في كتابه هذا، وعلى هذا تقع الفاء في قوله:(فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) في حجره، وفي تكرير (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) ووضعه موضع المضمر إشعار بمزيد اعتبار الوصف.

قوله: (و"شياً" بالتشديد): حمزة وهشام عند الوقف.

قوله: (مختلاً)، الجوهري: الخل: الرجل النحيف المختل الجسم.

قوله: (أو ترجمان): عطف على "وكيل لا وصي"، ولقائل أن يقول: فسر السفيه بالمحجور عليه، والضعيف بالصبي والشيخ المختل وغير المستطيع بمن له العي والخرس، ثم خص الوصي بالسفيه والصبي، والوكيل والترجمان بغير المستطيع، وترك الشيخ المختل مهملاً، والجواب: أن الضعيف لما اشتمل على الصبي والشيخ، وأدخل القسم الأول منه في حكم الوصي، ينبغي أن يدخل الثاني منه في حكم الوكيل، وإنما لم يذكره لظهوره.

قوله: (فيه أنه غير مستطيع بنفسه) يعني: أدمج في سياق الكلام معنى التأكيد بأن أكد الضمير الفاعل المستكن بالمرفوع لرفع التجوز.

قوله: ((مِنْ رِجَالِكُمْ) من رجال المؤمنين)، الراغب: قال بعضهم: تقتضي هذه الإضافة الإيمان والحرية والبلوغ والذكورة، وتقتضي (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ) العدالة.

ص: 557

وعن علي رضى اللَّه عنه: لا تجوز شهادة العبد في شيء. وعند شريح وابن سيرين وعثمان البتىّ أنها جائزة. ويجوز عند أبي حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعضٍ على اختلاف الملل. (فَإِنْ لَمْ يَكُونا): فإن لم يكن الشهيدان (رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ): فليشهد رجل وامرأتان. وشهادة النساء مع الرجال مقبولة عند أبي حنيفة فيما عدا الحدود والقصاص. (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ): ممن تعرفون عدالتهم. (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما): أن لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن تنساها، من ضل الطريق، إذا لم يهتد له، وانتصابه على أنه مفعول له، أي: إرادة أن تضل. فإن قلت: كيف يكون ضلالها مراداً للَّه تعالى؟ قلت: لما كان الضلال سبباً للإذكار، والإذكار مسبباً عنه، وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما، كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار، فكأنه قيل: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، ونظيره قولهم: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعه. وقرئ:(فَتُذَكِّرَ) بالتخفيف والتشديد، وهما لغتان. و (فتذاكر).

وقرأ حمزة: (إن تضل إحداهما) على الشرط (فتذكر) بالرفع والتشديد، ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وشهادة النساء)، أي: شهادة النساء مقبولة عند الشافعي رضي الله عنه في الأموال فقط، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه فيما عدا الحدود والقصاص.

قوله: (وقرأ حمزة: "إن تضل") أي: بكسر الهمزة، والباقون: بفتحها، "فتذكر" برفع الراء: حمزة مشدداً، وابن كثير وأبو عمرو: بنصبها مخففاً، والباقون: بالنصب على التشديد، قال

ص: 558

كقوله: (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ)[المائدة: 95]، وقرئ:(أن تضل إحداهما) على البناء للمفعول والتأنيث. ومن بدع التفاسير: (فتذكر) فتجعل إحداهما الأخرى ذكراً يعنى أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر. (إِذا ما دُعُوا) ليقيموا الشهادة .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الزجاج: فمن كسر فالكلام على الجزاء، والمعنى: إن تنس إحداهما تذكرها الذاكرة فتذكر، وقال: وزعم سيبويه والخليل والمحققون: أن المعنى: استشهدوا امرأتين لأن تذكر إحداهما الأخرى، ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى، قال سيبويه: فإن قيل: فلم جاز (أَنْ تَضِلَّ) وإنما أعد هذا للإذكار؟ فالجواب عنه: أن الإذكار لما كان سببه الإضلال جاز أن يذكر (أَنْ تَضِلَّ)؛ لأن الإضلال هو السبب الذي به وجب الإذكار، قال: ومثله: أعددت هذا أن يميل الحائط فأدعمه، وإنما أعددته للدعم لا للميل، ذكر الميل لأنه سبب الدعم، كما ذكر الإضلال لأنه سبب الإذكار، وهذا هو البين. تم كلامه. قال أبو البقاء: معنى المثال: لأدعم بالخشبة الحائط إذا مال، فكذلك الآية، معناها: لأن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت.

قوله: ((وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ))، أي: من عاد فهو ينتقم، المعنى: فهي تذكر إحداهما، والضمير المحذوف: للشهادة، أي: فالشهادة تذكر تذكرها إحداهما الأخرى والأولى أن الضمير للذاكرة و (إِحْدَاهُمَا): مظهر وضع موضع المضمر، وهذا مطرد في جميع المواضع التي يذكر فيها الشرط فيرفع جزاؤه مع الفاء.

ص: 559

وقيل: ليستشهدوا. وقيل لهم: شهداء قبل التحمل، تنزيلاً لما يشارف منزلة الكائن. وعن قتادة: كان الرجل يطوف الحواء العظيم فيه القوم فلا يتبعه منهم أحد، فنزلت. كني بالسأم عن الكسل، لأنّ الكسل صفة المنافق. ومنه الحديث:"لا يقول المؤمن كسلت"، ويجوز أن يراد: من كثرت مدايناته فاحتاج أن يكسب لكل دين صغير أو كبير كتاباً، فربما مل كثرة الكتب. والضمير في (تَكْتُبُوهُ) للدين، أو الحق، (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) على أي حالٍ كان الحق من صغرٍ أو كبر. ويجوز أن يكون الضمير للكتاب، و (أن يكتبوه) مختصراً أو مشبعاً لا يخلوا بكتابته.

(إِلى أَجَلِهِ): إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته (ذلِكُمْ) إشارة إلى) أن تكتبوه)؛ لأنه في معنى المصدر، أي: ذلكم الكتب (أَقْسَطُ): أعدل، من القسط، (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ): وأعون على إقامة الشهادة (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا): وأقرب من انتفاء الريب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في الحواء العظيم)، الجوهري: الحواء: جماعة بيوت من الناس مجتمعة، والجمع الأحوية.

قوله: (كني بالسأم عن الكسل)، يعني: أراد أن يقول: لا تكسلوا أن تكتبوا صغيراً أو كبيراً، فقال: لا تسأموا؛ لأن من لا يشرع في الشيء لا يقال له: مل، بل يقال: كسل، وإنما عدل لأن لفظ الكسل مما يوحش لأنه من صفات النمافقين، ويجوز أن يحمل الملال على حقيقته لكن إذا كثرت مدايناته.

قوله: (من القسط)، الجوهري: القسط، بالكسر: العدل، تقول منه: أقسط الرجل فهو مقسط، قال الله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)[المائدة: 42]، والقسوط: الجور، والعدول

ص: 560

فإن قلت: مِمَّ بني أفعلا التفضيل؟ أعني: أقسط وأقوم. قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذي قسط، وأقوم من قويم. وقرئ:(ولا يسأموا أن يكتبوه) بالياء فيهما. فإن قلت: ما معنى (تِجارَةً حاضِرَةً)؟ وسواء أكانت المبايعة بدينٍ أو بعينٍ فالتجارة حاضرة، وما معنى إدارتها بينهم؟ قلت: أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الأبدال. ومعنى إدارتها بينهم: تعاطيهم إياها يداً بيد،

والمعنى: إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد، فلا بأس أن لا تكتبوه، لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين. وقرئ:(تجارة حاضرة) بالرفع على "كان" التامّة. وقيل: هي الناقصة على أنّ الاسم (تجارة حاضرة)، والخبر (تديرونها)؛ وبالنصب على: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب:

بَنِى أسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بلَاءَنَا

إذَا كانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن الحق، وقد قسط يقسط قسوطاً، قال الله تعالى:(وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)[الجن: 15]. النهاية: المقسط العادل، يقال: أقسط يقسط فهو مقسط، إذا عدل، وقسط يقسط فهو قاسط: إذا جار، فكأن الهمزة في أقسط للسلب.

قوله: (على طريقة النسب) قيده به لئلا يتوهم أنه اسم فاعل من القسوط.

قوله: (وقرئ: "تجارة حاضرة"، بالرفع): عاصم قرأ بالنصب، والباقون بالرفع.

قوله: (بني أسد)، البيت. البلاء بالفتح: القتال، يقال: أبلى فلان بلاء حسناً: إذا قاتل

ص: 561

أي: إذا كان اليوم يوماً. (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً، ناجزاً أو كالئاً؛ لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف. ويجوز أن يراد: وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع، يعني: التجارة الحاضرة، على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة. وعن الحسن: إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد. وعن الضحاك: هي عزيمة من اللَّه ولو على باقة بقل. (وَلا يُضَارَّ) يحتمل البناء للفاعل والمفعول،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقاتلة محمودة، واليوم الأشنع: اليوم الذي ارتفع شره، ويقال لليوم الشديد: ذو الكواكب، يقال في التهديد: لأرينك الكواكب ظهراً، يقول: هل تعلمون مقاتلتنا يوم الحرب إذا كان يوماً مظلماً ترى الكواكب فيها ظهراً لانسداد عين الشمس بغبار الحرب؟

قوله: (وعن الضحاك: هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل)، الجوهري: الباقة من البقل: حزمة منه. قال القاضي: الأوامر التي في هذه الآية للاستحباب عند أكثر الأئمة، وقيل: إنها للوجوب، ثم اختلف في إحكامها ونسخها، وكرر لفظة الله في الجمل الثلاث، يعني:(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لاستقلالها، فإن الأولى حث على التقوى، والثانية وعد بإنعامه، والثالثة: لتعظيم شأنه، ولأنه أدخل في التعظيم من الكناية. وقلت: إن الأول على ظاهره؛ لأنه مذكور بعد قوله: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي: لا تفعلوا واتقوا الله واحذروا عقابه، والثاني: من وضع المظهر موضع المضمر للتفخيم، يعني: كيف لا يتقونه والحال أنه بجلالته وعظمته يعلمكم ولم يكل على الغير، ثم قال:(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي: من شأنه أن يعلم المعلومات كلها فيعلم تقواكم وفسقكم وشكركم لأداء نعمة التعليم، وكفرانكم فيجازيكم بها، فهذا تذييل للتهديد.

ص: 562

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: إن قيل: كيف قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) كرر لفظة الله ثلاث مرات متواليات، وقد استكرهوا ذلك لولا شرف لفظ الله، كقول الشاعر:

فما للنوى جذ النوى قطع النوى

حتى قيل: سلط على هذا البيت شاة ترعى منه النوى، وقول الآخر:

بجهل كجهل السيف والسيف منتضى

وحكم كحكم السيف والسيف مغمد

واعلم أن التكرير المستحسن هو: كل تكرير يقع على طريق تعظيم الأمر أو تحقيره في جمل متواليات، كل جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى واحد ولم يكن فيه التعظيم والتحقير، وهذا ظاهر في الآية والبيتين، فإن قوله:(وَاتَّقُوا اللَّهَ) حث على التقوى، (وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ): تذكير بنعمته، (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ): تعظيم له عز وجل ومتضمن للوعد والوعيد، فلما قصد تعظيم كل واحد من هذه الأحكام أعيد لفظة الله، وأما البيت الثاني فهو جملة واحدة؛ لأن قوله:"كجهل السيف" نعت لقوله: "بجهل"، وكذا: والسيف مغمد: حال من قوله: كحكم السيف،

ص: 563

والدليل عليه قراءة عمر رضى اللَّه عنه: (ولا يضارر) بالإظهار والكسر، وقراءة ابن عباس رضى اللَّه عنه:(ولا يضارر) بالإظهار والفتح، والمعنى: نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم ويُلزا، أو لا يعطى الكاتب حقه من الجعل، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد. وقرأ الحسن:(ولا يضار) بالكسر. (وَإِنْ تَفْعَلُوا) وإن تضارّوا (فَإِنَّهُ) فإنّ الضرار (فُسُوقٌ بِكُمْ)، وقيل: وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتم عنه (عَلى سَفَرٍ): مسافرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والبيت الأول كرر "جذ النوى" و"قطع النوى" وهما في معنى واحد.

قوله: (أو النهي عن الضرار بهما) عطف على قوله: "نهى الكاتب والشهيد" يعني: النهي فيقوله: (وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) يحمل: إما على نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة، وعن التحريف، أو على نهي المشهود له عن تعجيل الكاتب والمنع من مؤونة الشاهد إذا دعي من بلد آخر، قال الزجاج: والأول أبين، لقوله:(فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)، فإن الفسق أشبه بالتحريف وبالكذب من تعجيل الكاتب أو منع مؤونة الشاهد.

قوله: (وقيل: وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتم عنه): عطف على "وإن تضاروا"، والثاني أبلغ؛ لأن مثل هذا الفعل غالباً يجيء كناية عن أفعال شتى وكيفيات متعددة كما سبق في قوله تعالى:(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا)[البقرة: 24] أن الفائدة فيه أنه جار مجرى الكناية التي تعطيك اختصاراً ووجازة، ألا ترى أن الرجل يقول: ضربت زيداً وشتمته ونكلت به، ويعد كيفيات وأفعالاً، فتقول: بئس ما فعلت.

ص: 564

وقرأ ابن عباس وأبيّ رضي الله عنهما: (كتاباً)، وقال ابن عباس: أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة؟ . وقرأ أبو العالية: (كتباً). وقرأ الحسن: كتاباً، جمع كاتب (فرهان) فالذي يستوثق به رهن. وقرئ:(فرُهن) بضم الهاء وسكونها، وهو جمع رهن، كسقف وسقف، و (فرهانٌ). فإن قلت: لم شرط السفر في الارتهان ولا يختص به سفر دون حضر، وقد رهن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم درعه في غير سفر؟ قلت: ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة، ولكن السفر لما كان مظنة لإعواز الكتب والإشهاد، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد. وعن مجاهد والضحاك: أنهما لم يجوّزاه إلا في حال السفر أخذاً بظاهر الآية، وأما القبض فلا بدّ من اعتباره، وعند مالكٍ: يصح الارتهان بالإيجاب والقبول بدون القبض. (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً): فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به. .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أرأيت؟ ) أي: أخبرني إن وجدت الكاتب، أي: إذا وجدت الكاتب ولم تجد ما به تتم الكتابة من الدواة والصحيفة وغيرهما هل تجوز المداينة بلا رهن! وأما إذا لم تجد كتاباً يلزم الارتهان بأي شيء فقد من هذه الأشياء، أراد بهذا أن قراءته أرجح لأن كتاباً: مصدر كتب، يقال: قد كتبت كتباً وكتاباً وكتابة، وهو لا يحصل إلا بعد استجماع الشرائط.

قوله: (و (فَرِهَانٌ)) أي: قرئ: (فَرِهَانٌ)، قرأ بها الجماعة إلا ابن كثير وأبا عمرو فإنهما قرآ "فرهن" بضم الراء والهاء بغير ألف، ورهان: جمع رهن، نحو حبل وحبال، قال القاضي: المعنى: فالذي يستوثق به رهان، أو: فعليكم رهان، أو فليؤخذ رهان.

قوله: (وأما القبض فلابد من اعتباره، وعند مالك: يصح الارتهان بالإيجاب والقبول بدون القبض)، الانتصاف: لا خلاف بين مالك والشافعي في صحة الرهن بالإيجاب والقبول،

ص: 565

وقرأ أبٌيّ: (فإن أومن) أي: آمنه الناس. ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن الارتهان من مثله. (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) حث للمديون على أن يكون عند ظن الدائن به وأمنه منه وائتمانه له، وأن يؤدّي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه. وسمي الدين أمانة وهو مضمون؛ لائتمانه عليه بترك الارتهان منه. والقراءة أن تنطق بهمزة ساكنة بعد الذال أو ياءٍ، فتقول:"الذئتمن"، أو "الذيتمن". وعن عاصم أنه قرأ:(الذتمن) بإدغام الياء في التاء قياساً على اتسر في الافتعال من اليسر، وليس بصحيح،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإنما مالك يرى لزومه بالعقد، وعند الشافعي: لا يلزم إلا به، لكن للقبض عند مالك اعتبار في الابتداء والدوام، فلو عري عن القبض وأنكر الغرماء لم يختص به عند الشافعي، ولم ينتفع بذلك عند مالك، بل له أسوة الغرماء للتهمة، ويشترط مالك بقاء الرهن مقبوضاً بيد المرتهن طوعاً، لو عاد على يد الراهن بعارية أو إجارة أو وديعة خرج من الرهن، دليله أن الرهن في اللغة هو: الدوام، وأنشد أبو علي:

فالخبز والدهن لهم راهن

وقهوة راووقها ساكب

قوله: (وسمي الدين أمانة، وهو مضمون) يعني: إنما سمي الدين أمانة والحال أن الدين مضمون، والأمانة غير مضمونة، لما بين هذا الدين الخاص وبين الأمانة مشابهة من حيث إن ائتمان الدائن المديون بترك الارتهان منه كائتمان المودِعِ المودَع بترك طلب الوثيقة منه.

قوله: (وعن عاصم أنه قرأ: الذتمن)، وهي شاذة، ومعنى قوله:"ليس بصحيح" أن المنسوب إليه من إدغام الياء في التاء ليس بصحيح، لأنه ليس بصحيح على قانون التعدية.

ص: 566

لأنّ الياء منقلبة عن الهمزة، فهي في حكم الهمزة و «اتزر» عاميٌّ، وكذلك "ريا" في "رؤيا". (آثِمٌ) خبر "إن". و (قَلْبُهُ) رفع بـ (آثم) على الفاعلية، كأنه قيل: فإنه يأثم قلبه. ويجوز أن يرتفع (قلبه) بالابتداء. و (آثم) خبر مقدّم، والجملة خبر "إن". فإن قلت: هلا اقتصر على قوله: (فَإِنَّهُ آثِمٌ)! وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؟ قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمرها ولا يتكلم بها، فلما كان إثما مقترفا بالقلب أسند إليه، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد: هذا مما أبصرته عيني، ومما سمعته أذني، ومما عرفه قلبي؟ ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله، فكأنه قيل: فقد تمكن الإثم في أصل نفسه، وملك أشرف مكانٍ فيه؛ ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط، ........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند إليه) يعني: أسند الفعل إلى القلب لدفع توهم المجاز، فصرح بالجارحة التي هي سببه، وهو المراد بقوله:"إذا أردت التوكيد تقول: هذا مما أبصرته عيني"، ونحوه قوله تعالى:(وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ)[الأنعام: 38].

قوله: (ولأن القلب هو رئيس الأعضاء)، هذا المجاز من باب إطلاق بعض الشيء على كله، ولما كان الشرط في صحة المجاز أن يكون هذا البعض أصل الشيء قال:"فقد تمكن الإثم من أصل نفسه وملك أشرف مكان فيه".

قوله: (والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد) مقتبس من قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب". أخرجه الشيخان، عن النعمان بن بشير.

قوله: (ولئلا يظن)، هذا جواب آخر بحسب المتعارف بين الناس، فإن الكاتم وإن كان

ص: 567

وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه، ومعدن اقترافه، واللسان ترجمان عنه؛ ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها. ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيئات الإيمان والكفر، وهما من أفعال القلوب! فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب.

وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: أكبر الكبائر: الإشراك باللَّه لقوله تعالى: (فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)[المائدة: 72]، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة. وقرئ:(قلبه)، بالنصب، كقوله:(سَفِهَ نَفْسَهُ)[البقرة: 130]، وقرأ ابن أبى عبلة:(أثم قلبه) أي: جعله آثماً.

[(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) 284].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشخص بجملته لكن اشتهر وتعورف بين الناس أن الكتمان من فعل اللسان وحده، وإن من أمسك لسانه عن الشهادة قيل في حقه: إنه كتم الشهادة، تعلق الإثم به فأريد دفع هذا الظن البين خطؤه فقيل:(آثِمٌ قَلْبُهُ)، ويدل على الإنكار إيقاع قوله:(فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) جزاء للشرط، كأنه قال: ظن الناس أن اختصاص الذنوب باللسان سبب للإخبار بأن يقال: إنه آثم قلبه.

قوله: (وليعلم) يحتمل أن لا يكون وجهاً آخر، بل هو تأكيد لقوله:(لئلا يظن) على آخره، وهو من باب قوله:(لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].

قوله: (ولأن أفعال القلوب) هذا وجه آخر في الجواب، ومبناه على الكناية، وتقريره أن عظم الذنب بحسب المحل الصادر منه، فلما كان القلب أعظم خطراً في الإنسان كان الذنب الصادر منه أعظم، وعلى هذا الطاعة الصادرة منه كالإيمان والمحبة وغيرهما،

ص: 568

(وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) يعني: من السوء (يحاسبكم به اللَّه فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ): لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمر، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ممن استوجب العقوبة بالإصرار. ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان: الوساوس وحديث النفس؛ لأنّ ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما: أنه تلاها، فقال: لئن آخذنا اللَّه بهذا لنهلكنّ. ثم بكى حتى سمع نشيجه، فذكر لابن عباس، فقال: يغفر اللَّه لأبى عبد الرحمن، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد فنزل:(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ)[البقرة: 286] .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويشهد لهذه الكناية قوله: "فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب".

قوله: (مما أظهر منه)، قيل: الضمير المستتر عائد إلى "من" في "من استوجب"، والمحذوف: إلى "ما"، وفي "منه": إلى "السوء"، ومنه: بيان لما أظهر، وقلت: من في "مما أظهر" متعلق بقوله: (فَيَغْفِرُ)، "وما" فيه: موصولة، أي: فيغفر لمن يشاء من الذي أظهره المكلف من السوء أو أضمر منه، ويجوز أن يتعلق "من" بالتوبة، وقوله:"لمن استوجب المغفرة بالتوبة" مبني على مذهبه.

قوله: (حتى سمع نشيجه)، الجوهري: نشج الباكي ينشج نشيجاً: إذا غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.

قوله: (قد وجد المسلمون منها- أي: من الآية- مثل ما وجد)، فنزلت:(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)، روينا عن مسلم، عن أبي هريرة قال: لما نزلت: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ) الآية، اشتد ذلك على الصحابة، فأتوا رسول الله، ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من العمل ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: (سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)؟ بل قولوا: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، فلما

ص: 569

وقرئ: (فيغفر

ويعذب) مجزومين؛ عطفاً على جواب الشرط، ومرفوعين على: فهو يغفر ويعذب. فإن قلت:

كيف يقرأ الجازم؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء. ومدغم الراء في اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشاً، وراويه عن أبي عمرو مخطئ مرّتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أقرأها القوم وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله تعالى في أثرها:(آمَنَ الرَّسُولُ) إلى قوله: (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل:(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) إلى آخرها. وقد أخرجه الأئمة عن علي وابن عباس وابن عمر بنحو من هذا، ورواية أبي هريرة أكمل وأطول.

وقوله: (وقرئك "فيغفر

ويعذب"): عاصم وابن عامر: برفعهما، والباقون: بجزمهما.

قوله: (لاحن مخطئ) يعني أن الراء في حكم حرفين، فإنك إذا وقفت عليها يعثر لسانك بما فيه من التكرير والقوة وبما في اللام من الضعف، وإدغامها فيها يبطل التكرير. قال الزجاج: إن أبا عمرو أدغم الراء في اللام، وما أظنه قرأها إلا بعد ما سمعها، وقال صاحب "الكواشي": لا يجوز تخطئة الرواة أصلاً، لأنه إذا حكم بتخطئتهم في هذا الحرف جاز خطؤهم في غيره، فإذن لا اعتماد عليهم، وكيف يجوز أخذ القرآن من غير ضابط! ولو نقل شعر آحاد العرب من غير ضابط لاستقبح، وجاز إدغام الراء مع ما فيها من القوة والتكرار في اللام مع ما فيها من الضعف؛ لأن الراء لما سكنت ضعفت فصارت كالميت الذي لا اعتداد به، والدليل

ص: 570

ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. وقرأ الأعمش: يغفر، بغير فاء مجزوما على البدل من يحاسبكم، كقوله:

مَتَى تَاتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِى دِيَارِنَا

تَجِدْ حَطَباً جَزْلًا وَنَاراً تَأجَّجَا

ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب، لأنّ التفصيل ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عليه إتباعهم ضمة الذال ضمة الميم في "منذ" فصارت اللام المتحركة بالنسبة إلى الراء الساكنة قوية. وأيضاً، فإن المدغم لا يدغم حتى يبدل ما قبل المدغم فيه، فعلى هذا إنما أدغم لام في لام.

قوله: (متى تأتنا تلمم بنا) البيت: تلمم، أي: تنزل، وهو بدل من "تأتنا"، والحطب الجزل: القوي الغليظ، تأجج، أي: اشتعل، قيل في "تأججاً" ثلاثة أوجه: أن يجعل الألف للتثنية وهي ضمير الحطب والنار، وغلب الحطب، وأن يكون للحطب، وأن يكون للنار في تأويل الشهاب، يقول: إنهم يوقدون غلاظ الحطب لتقوى نارهم، فينظر الضيفان من بعد فيقصدونها.

قوله: (ومعنى هذا البدل: التفصيل) إلى آخره، نقل المصنف أكثر عبارة ابن جني من "المحتسب" في هذا الموضع، ونحن نحكي خلاصة كلامه، قال: "جزم هذا على البدل من (يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) على وجه التفصيل لجملة الحساب، ولا محالة أن التفصيل أوضح من المفصل فجرى مجرى بدل البعض أو الاشتمال، والبعض كضربت زيداً رأسه، والاشتمال كأحب زيداً عقله، ونحو هذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان، فمن ذلك قوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ

ص: 571

أوضح من المفصل، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل، أو بدل الاشتمال، كقولك: ضربت زيداً رأسه، وأحب زيداً عقله، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فِيهِ مُهَاناً) [الفرقان: 68 - 69] "؛ لأن مضاعفة العذاب هي لقي الآثام، وعليه قول القائل:

رويداً بني شيبان بعض وعيدكم

تلاقوا غداً خيلي على سفوان

تلاقوا جياداً لا تحيد عن الوغى

إذا ما غدت في المأزق المتداني

تلاقوهم فتعرفوا كيف صبرهم

على ما جنت فيهم يدا الحدثان

فأبدل "تلاقوا جياداً" مع ما اتصل به من قوله: "تلاقوا غداً خيلي"، ثم جعل هذا البدل بتمامه مبدلاً منه لقوله:"تلاقوهم" مع المعطوف عليه، وهو قوله:"فتعرفوا" إلى آخره، وقال:"إذا حصلت فائدة البيان لم يبال أمن نفس البدل كانت أم مما اتصل به، فضلة أم معطوفاً عليه، فإن أكثر الفوائد إنما يجتنى من الألحاق والفضلات، نعم، وما أكثر ما تصلح الجمل وتتممها، ولولا مكانها لوهت فلم تستمسك، ألا تراك لو قلت: زيد قامت هند لم تتم الجملة؟ فلو وصلت بها فضلة ما، لتمت، وذلك كأن تقول: زيد قامت هند في داره أو: معه أو: بسببه أو: لتكرمه أو: فأكرمته أو نحو ذلك، فصحت المسألة بعود الضمير على المبتدأ من الجملة". تم كلام ابن جني.

قوله: (أوضح من المفصل). هذا لفظ ابن جني، قيل: وكان من حق الظاهر أن يقول: أوضح من المجمل أو الإجمال، لكن جعل ما وقع فيه ولأجله التفصيل مفصلاً.

قوله: (فهو جار مجرى بدل البعض من الكل). قيل: إن أريد بقوله: (يُحَاسِبْكُمْ) معناه

ص: 572

[(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)].

(وَالْمُؤْمِنُونَ) إن عطف على (الرسول)؛ كان الضمير الذي التنوين نائب عنه في (كل) راجعاً إلى الرسول والمؤمنين، أي: كلهم آمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله من المذكورين ووقف عليه؛ وإن كان مبتدأ؛ كان الضمير للمؤمنين ........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحقيقي فيكون قوله: "يغفر" بدل الاشتمال، كقولك: أحب زيداً علمه، وإن أريد به المجازاة فيكون قوله:(فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) بدل البعض، كقولك: ضربت زيداً رأسه، وقلت: إن الضمير المجرور في (يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) يعود على (مَا فِي أَنفُسِكُمْ)، وهو مشتمل كما ذكر على الخاطر السوء وعلى ما يخفيه الإنسان من الوساوس، وحديث النفس. والغفران والعذاب إنما يردان على ما اعتقده وعزم عليه من السوء لا على حديث النفس، فبهذا الاعتبار هو بدل البعض من الكل، وهذا معنى قول ابن جني: وإذا حصلت فائدة البيان لم يبال أمن نفس المبدل كانت أم مما اتصل به، إلى آخره، وإن محاسبتهم مستتبعة إما الغفران أو العذاب وملتبسة بهما، فبهذا الوجه هو بدل الاشتمال.

قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ)، قال الزجاج في نظم هذه الآية بما قبلها: لما ذكر الله عز وجل فرض الصلاة والزكاة، والطلاق والحيض والإيلاء، والجهاد، وأقاصيص الأنبياء عليهم السلام، والدين، والربا، ختم السورة بذكر تعظيمه وتصديق نبيه عليه السلام والمؤمنين لجميع ذلك، أي: صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها، وكذا المؤمنون، يريد أنها كالخاتمة للسورة، والفذلكة لها للتأكيد.

قوله: (وإن كان مبتدأ؛ كان الضمير للمؤمنين). قال أبو البقاء: "المؤمنون" معطوف على (الرَّسُولُ)، فيكون الكلام تاماً، وقيل:"المؤمنون" مبتدأ، و (كُلٌّ) مبتدأ ثان، والتقدير: كل

ص: 573

ووحد ضمير (كل) في (آمن) على معنى: كل واحدٍ منهم آمن، وكان يجوز أن يجمع، كقوله:(وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)[النمل: 87]، وقرأ ابن عباس: وكتابه، يريد القرآن أو الجنس، وعنه: الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت: كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس، والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها؛ لم يخرج منه شيء. وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع. (لا نُفَرِّقُ) يقولون:(لا نفرق)، وعن أبي عمروٍ:(يفرق) بالياء على أن الفعل لـ (كل)، وقرأ عبد اللَّه:(لا يفرقون). و"أَحَدٍ" في معنى الجمع، ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منهم، و (آمَنَ) خبر المبتدأ الثاني والجملة: خبر الأول. وقال السجاوندي: (كُلٌّ): ابتداء، ولو كان توكيداً لقوله:(وَالْمُؤْمِنُونَ) لقيل: كلهم، وقلت: الوجه الأول أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول؛ لأن الرسول حينئذ يكون أصلاً في حكم الإيمان بما أنزل إليه، والمؤمنون تابعون كما مر في قوله تعالى:(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ)[البقرة: 127]، ويلزم على الوجه الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول لكون الجملة اسمية ومؤكدة، وعلى أسلوب التقوي مع إفادة الاستقلال في الحكم، قال القاضي: إفراد الرسول بالحكم إما لتعظيمه أو لأن إيمانه عن مشاهدة وعيان، وإيمانهم عن نظر واستدلال.

قوله: (وقرأ ابن عباس: "وكتابه")، وهي قراءة حمزة والكسائي، قال الزجاج: قيل لابن عباس في قراءته، فقال:"كتابه" أكثر من "كتبه"، ذهب به إلى اسم الجنس نحو: كثر الدرهم في أيدي الناس. قال صاحب "التقريب" حاكياً عن مراد المصنف: إن الجنس يطلق على جميع أفراد الجمع ولا ينعكس، فذاك أكثر، ثم قال: وفيه نظر، وقلت: مراد المصنف من كلامه أن تناول الواحد حين يراد به الجنس أكثر من تناول الجمع إذا أريد به الجنس؛ لأن "كتابه" يدل على

ص: 574

كقوله تعالى: (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ)[الحاقة: 47]؛ ولذلك دخل عليه "بين". (سَمِعْنا): أجبنا. (غُفْرانَكَ) منصوب بإضمار فعله. يقال: غفرانك لا كفرانك، أي: نستغفرك ولا نكفرك. وقرئ: (وكتبه ورسله) بالسكون.

[(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَانا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) 286].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما يعلمه كل أحد أنه كتابه ومسمى به، فلا يخرج منه شيء يسمى كتابه، وأن "كتبه" تدل على ما يعلمه كل أحد أنه كتبه على سبيل الجمعية ومسمى به، ويمكن أن يخرج منه كتاب أو كتابان، وهذا هو المراد من قول صاحب "المفتاح": استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، وتبين ذلك بأن ليس يصدق: لا رجل في الدار، لنفي الجنس إذا كان فيها رجل أو رجلان، ويصدق: لا رجال في الدار، فإن قلت: ليس كذلك؛ لأنا إذا سمعنا قوله تعالى: (وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) لم يتبادر إلى الذهن سوى الاستغراق والشمول، قلت: قد بينا أن الاستغراق الداخل على الجمع: إرادة الجموع حقيقة، وإرادة الأفراد مجاز، يؤيده ما روى صاحب "الانتصاف" عن إمام الحرمين: التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور، فإن التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة لفظه، والتمور يرده إلى تخيل الوحدان، ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع، وفي صيغة الجمع مضطرب.

قوله: ((فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ)[الحاقة: 47]) فإن قوله: (مِنْ أَحَدٍ) لو لم يكن في معنى الجمع لقيل: حاجز دون (حَاجِزِينَ)، كما يقال: ما من رجل عالم، ولا يقال: ما من رجل عالمين.

ص: 575

والوسع: ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، أي: لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله ورحمته، كقوله تعالى:(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)[البقرة: 185]؛ لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة. وقرأ ابن أبي عبلة:(وسعها) بالفتح. (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ): ينفعها ما كسبت من خير، ويضرها ما اكتسبت من شر، لا يؤاخذ بذنبها غيرها ولا يثاب غيرها بطاعتها. فإن قلت: لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمّارة به؛ كانت في تحصيله أعمل وأجدّ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في باب الخير؛ وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال. أي: لا تؤاخذنا بالنسيان أو الخطأ إن فرط منا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (دون مدى الطاقة) أي: لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويسهل عليه ويكون أدون وأدنى مما له القدرة عليه، كما إذا كان في قدرته أن يصلي ستاً فأوجب خمساً، فالواجب دون مدى طاقته، فقوله:"لأنه كان" تعليل لقوله: "ويتيسر عليه دون مدى الطاقة"، وهو تفسير لقوله:"يتسع فيه طوقه".

قوله: (في الاكتساب اعتمال)، قال في "الأساس": الرجل يعتمل لنفسه ويستعمل غيره ويعمل رأيه ويتعمل في حاجات الناس، أي: يتعنى ويجتهد، أنشد سيبويه:

إن الكريم وأبيك يعتمل

إذ لم يجد يوماً على من يتكل

أي: إن لم يعلم.

الراغب: الكسب مما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظ، والاكتساب

ص: 576

فإن قلت: النسيان والخطأ متجاوز عنهما، فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ قلت: ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يستعمل فيما يظن الإنسان أنه يجلب منفعة ثم استجلب به مضرة، والكسب يقال فيما أخذه لنفسه ولغيره، ولهذا قد يتعدى إلى مفعولين فيقال: كسبت فلاناً كذا، والاكتساب لا يقال إلا فيما استفاده لنفسه، وكل الاكتساب كسب وليس كل كسب اكتساباً، نحو: خبز واختبز، وشوى واشتوى. قال السجاوندي: اكتسبت من شر، والافتعال للالتزام أو للانكماش، والنفس تنكمش في الشر وتتكلف في الخير، وقال في الحسنة:(كَسَبَتْ) ليحقرها العامل في عينيه، وفي السيئة:(اكْتَسَبَتْ) تهويلاً للتنفير.

وقال صاحب "الفرائد": خص الكسب بالخير والاكتساب بالشر تنبيهاً على أن الكسب: ما يفعله الإنسان ويجوز أن يتعدى إلى غيره، والاكتساب: ما يفعله لنفسه كالاتخاذ والاقتطاع فلا يتعدى إلى غيره، أي: خيره متجاوز عنه وشره مقصور عليه، وهو موافق لقول السجاوندي: والافتعال للالتزام، وقول ابن الحاجب: كسبت معناه: أصبت، واكتسبت معناه: التصرف في تحصيل ذلك الفعل وظهور ما يقتضيه، ومن ثم قال الله تعالى:(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) تنبيهاً على أن الثواب بأدنى ملابسة للمثاب عليه، والعقاب إنما يكون بعد تبين المعاقب عليه وظهوره أحسن طباقاً، لقوله تعالى:(وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)؛ لأن قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) رافعة لحكمها ومسهلة لمشقتها، وفيها أن التكليف ليس على الطاقة بل دون مداها رحمة ورأفة بالعباد، ثم قوله:(لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) امتنان آخر وتنبيه على أن جانب الرحمة أرجح من جانب العذاب، ولا يستقيم هذا إلا على هذا القول، وعليه كلام المصنف.

قوله: (النسيان والخطأ متجاوز عنهما، فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ )، أي: متجاوز

ص: 577

ألا ترى إلى قوله: (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ)[الكهف: 63]، والشيطان لا يقدر على فعل النسيان، وإنما يوسوس فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان؟ ولأنهم كانوا متقين اللَّه حق تقاته، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل اللَّه لاستدامته .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عنهما عقلاً بناءً على مذهبه، وأجاب من وجوه، الأول: أنه مجاز من باب إطلاق المسبب على السبب، والثاني أنه من وادي قول:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وإليه أشار بقوله: "كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان"، والثالث: أنه على أسلوب قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة: 6] كما صرح به.

قوله: (حق تقاته)، الجوهري: التقاة: التقية، يقال: اتقى تقية وتقاة.

قوله: (لاستدامته) ولعمري هذا تكلف، وقد مر في حديث مسلم عن أبي هريرة: أن هذه الآية ناسخة لقوله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ)، فكما أن الخطرات والوساوس محلها النفس، كذلك معدن النسيان والخطأ النفس، فلم يكن النسيان والخطأ متجاوزاً عنهما عقلاً بل نقلاً. الانتصاف: لا يرد السؤال؛ لأن رفع المؤاخذة عن الخطأ والنسيان

ص: 578

والاعتداد بالنعمة فيه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عرف بالسمع لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، فلعل رفعهما كان إجابة لهذه الدعوة، وقد جاء أنه قال عند كل دعوة: قد فعلت، وإنما المعتزلة يذهبون إلى استحالة المؤاخذة بذلك عقلاً؛ تفريعاً على التحسين والتقبيح، والسؤال وارد عليهم.

الراغب: الخطأ على ضروب، أحدها: ما لا يحسن إرادته ويفعله، وهذا هو الخطأ التام من كل وجه المأخوذ به الإنسان، والثاني: أن يريد ما يجوز فعله ولكن وقع منه خلاف ما أراد، فيقال: أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل، وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم:"رفع عن أمتي الخطأ"، وقوله:"من اجتهد فأخطأ فله أجر"، والثالث: أنه يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه، فهذا مذموم لقصده محمود على فعله، وجملة الأمر أنه يقال لمن أراد شيئاً فاتفق منه خلافه: إنه أخطأ، وإذا وقع منه كما أراده: أنه أصاب، ويقال لمن فعل فعلاً لا يحسن أو أراده إرادة لا تحسن: أخطأ، ولهذا يقال: أصاب الخطأ فأخطأ الصواب وأصاب الصواب وأخطأ الخطأ، فإذا هذه اللفظة مشتركة كما ترى مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق تأمله، وهي مشكلة جداً.

قوله: (والاعتداد بالنعمة فيه) يعني: إذا كانت النعمة الحاصلة خطيرة ربما يذكرها ويردد ذكرها اعتداداً بها واعتناء بشأنها، كقوله تعالى:(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، روينا عن أحمد بن حنبل، عن أبي رجاء، قال: خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز، وقال إن

ص: 579

والإصر: العبء الذي يأصر حامله، أي: يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله، استعير للتكليف الشاقّ؛ من نحو قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب، وغير ذلك. وقرئ:(آصاراً) على الجمع. وفي قراءة أبيّ: (ولا تحمل علينا) بالتشديد. فإن قلت: أي: فرق بين هذه التشديدة والتي في (وَلا تُحَمِّلْنا)؟ قلت: هذه للمبالغة في "حمل عليه"، وتلك لنقل "حمله" من مفعول واحد إلى مفعولين. (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من العقوبات النازلة بمن قبلنا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده".

قوله: (وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب) أي: من جلد الخف والفروة.

قوله: (هذه للمبالغة في "حمل عليه"، وتلك لنقل "حمله" من مفعول واحد إلى مفعولين)، يريد أن التضعيف إذا كان لنقل باب إلى باب آخر ليفيد فائدته لم يكن فيه مبالغة، وأما إذا لم يرد تلك الفائدة كانت مبالغة، وقريب منه ما ذهب إليه صاحب "المثل السائر": أن المعنى إنما يزيد إذا كان هناك نقل كما في قتل وقتل، وأما إذا لم يكن نقلاً، كما في قوله تعالى:(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً)[النساء: 164] لم يزد، إذ ليس في "كلم" نقل، فدل على حصول الكلام معه لا للتكثير منه.

ص: 580

طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها. وقيل: المراد به الشاقّ الذي لا يكاد يستطاع من التكليف، وهذا تكرير لقوله:(وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) ........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (طلبوا الإعفاء)، الجوهري: يقال: أعفني من الخروج معك، أي: دعني منه، واستعفاه من الخروج معه وسأله الإعفاء، يعني: طلبوا من الله تعالى بقولهم: (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً) أن لا يكلفهم بالتكاليف الشاقة، ثم طلبوا الإعفاء بقوله:(وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) عما نزل بالأولين من العقوبات على تفريطهم، وإنما حمله على العقوبات كي لا يلزم التكرار؛ لأن معناهما واحد، والذي يدل على المقدر قوله:(وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً)؛ لأن التفريط فيه سبب للمعاقبة.

وقوله: (وقيل: المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع) عطف على قوله: "ما نزل عليهم". فإن قلت: هل هذا إلا تكرير لقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا)؟ قلت: لا؛ لأن قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) خاص لما سبق أنه ناسخ لقوله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ) الآية؛ كرامة لهذه الأمة المرحومة، ورفعاً لما كان شاقاً عليهم من المؤاخذة بحديث النفس، ثم أرشدهم إلى أن طلبوا منه ما كان شاقاً على الأمم السالفة من نحو قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب، وغير ذلك بقوله:(وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً)، ثم أرشدهم إلى طلب رفع الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف على سبيل العموم، فالتشديد في (وَلا تُحَمِّلْنَا) للتكثير؛ ليناسب العموم كرامة إلى كرامة، فعلى هذا يكون تكريراً، وفائدته تعليق الزيادة عليه من قوله وقيل: المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع: (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا) الآية.

ص: 581

(مَوْلانا): سيدنا ونحن عبيدك، أو ناصرنا، أو متولي أمورنا. (فَانْصُرْنا) فمن حق المولى أن ينصر عبيده، أو: فإنّ ذلك عادتك، أو: فإنّ ذلك من أمورنا التي عليك توليها. وعن ابن عباس: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل كلمة: قد فعلت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: فإن قيل: ما الفرق بين العفو والغفران والرحمة؟ وما وجه هذا الترتيب؟ قيل: العفو: إزالة الذنب بترك عقوبته، والغفران: ستر الذنوب وكشف الإحسان الذي يعطى به، والرحمة: إفاضة الإحسان عليه، وقد علم أن الثاني أبلغ من الأول، والثالث من الثاني.

قوله: ((مَوْلانَا) سيدنا) أي: أنت سيدنا ونحن عبيدك فانصرنا، فمن حق المولى أن ينصر عبيده ولا يخذلهم، أو: أنت ناصرنا فانصرنا، فإن ذلك عادتك، أو: أنت متولي أمورنا فانصرنا فإن ذلك من أمورنا التي عليك توليها بسبب الوعد، فهو من باب القول بترتب الحكم على الوصف المناسب لكن بالفرق بين هذه الاعتبارات؛ لأن النسبة بين السيد والعبد قوية، فكما أن السيد عليه رعاية العبد كذلك العبد يحتاج إلى رعاية سيده، فالنسبة بين الجانبين قوية، ولهذا قال:"ونحن عبيدك"، فمن حق المولى أن ينصر عبيده، وإن النسبة بين الناصر والمنصور ليست مثل الأولى، لكن من اتصف بصفة النصرة فعليه أن ينصر المظلومين، لكن لا يجب عليه أن ينصر كلهم، فقوة النسبة بين الناصر والمنصور ليست مثل الأولى لكن من جانب الناصر، وغليه الإشارة بقوله:"فإن ذلك عادتك"، يعني: هذه الصفة ذاتية منك وأن النسبة بين من يحتاج إلى قيم يقوم بأحواله ويفتقر إلى متول يتولى أموره وبين مولاه قوتها من جانب العبد، ولهذا قال:"فإن ذلك من أمورنا التي عليك توليها".

ص: 582

وعنه صلى الله عليه وسلم: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"، وعنه صلى الله عليه وسلم:«أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهنّ نبيٌّ قبلي» ، وعنه صلى الله عليه وسلم:«أنزل اللَّه آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة، من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» . فإن قلت: هل يجوز أن يقال: قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة؟ قلت: لا بأس بذلك، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:«من آخر سورة البقرة» ، و «خواتيم سورة البقرة» ، و «خواتيم البقرة». وعن عليّ رضي الله عنه: خواتيم سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش. وعن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنهما أنه رمى الجمرة ثم قال: من هاهنا- والذي لا إله غيره- رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة». ولا فرق بين هذا وبين قولك: سورة الزخرف، وسورة الممتحنة، وسورة المجادلة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أوتيت خواتيم سورة البقرة)، الحديث مخرج في "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن أبي ذر.

قوله: (من قرأ الآيتين)، الحديث أخرجه الشيخان، عن أبي مسعود البدري.

قوله: (أنزل الله آيتين)، الحديث أخرجه الدارمي، عن جبير بن نفير مع تغيير في الألفاظ.

قوله: (وعن عبد الله بن مسعود)، الحديث مخرج في "الصحيحين".

ص: 583

وإذا قيل: قرأت البقرة لم يشكل أنّ المراد سورة البقرة كقوله: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)[يوسف: 82]، وعن بعضهم: أنه كره ذلك، وقال: يقال: قرأت السورة التي تذكر فيها البقرة. عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإنّ تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة"، قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولن تستطيعها البطلة)، الحديث مخرج في "صحيح مسلم"، عن أبي أمامة الباهلي، كذلك قوله:"اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة"، ورواه الدارمي عن بريدة. قال مولاي الإمام المغفور [له] بهاء الدين القاشي رحمه الله: البطلة: جمع باطل، إما بمعنى صاحب البطالة، أي: لا يستطيع قراءة ألفاظها وتدبر معانيها والعمل بأوامرها ونواهيها أصحاب البطالة والكسالة، أو: البطلة: السحرة، أي: لا يقدر السحرة على الإتيان بمثلها، فمن أتى به لا يكون ساحراً، أو: المراد أنها من المعجزات التي لا يقدر الساحر أن يعارضها بالسحر، بخلاف المعجزات المحسوسة، فإنه قدي مكن للساحر أن يحاول معارضتها بالسحر. وقلت: يمكن أن يراد بالبطلة: السحرة الموحدون من أصحاب البيان، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن من البيان لسحراً".

تمت السورة

ص: 584