المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الأنعام مكية، وعن ابن عباس: غير ست آيات وهي مئة وستون - فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب (حاشية الطيبي على الكشاف) - جـ ٦

[الطيبي]

فهرس الكتاب

‌سورة الأنعام

مكية، وعن ابن عباس: غير ست آيات

وهي مئة وستون آية وخمس آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

[(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الأنعام

مكية، وعن ابن عباس: غير ست آيات

وهي مئة وخمس وستون آية

بس الله الرحمن الرحيم

قال المصنف رحمه الله: كتبت تفسير هذه السورة بالطائف، عند قبر ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 5

"جَعَلَ" يتعدّى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى: أحدث وأنشأ، كقوله (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)، وإلى مفعولين إذا كان بمعنى: صير، كقوله:(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)[الزخرف: 19]. والفرق بين "الخلق" و"الجعل": أن "الخلق" فيه معنى التقدير. وفي "الجعل" معنى التضمين،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفي "الجعل" معنى التضمين)، ولهذا لا يتصور إلا بين شيئين، ومن ثم قال:"كإنشاء شيءٍ من شيء".

الجوهري: "كل شيء جعلته في وعاءٍ فقد ضمنته".

قال الراغب: "جعل: لفظ عام في الأفعال كلها، وهو أعم من "فعل"، ويتصرف على خمسة أوجه:

أولها: يجري مجرى "صار" و"طفق"، فلا يتعدى. نحو:"جعل زيد يقول كذا".

وثانيها: يجري مجرى "أوجد"، فيتعدى إلى واحد. قال تعالى: {وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ {[النحل: 78].

وثالثها: في إيجاد شيءٍ من شيء، وتكوينه منه. قال تعالى: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا {[النحل: 72].

ورابعها: في تصيير شيءٍ على حالةٍ دون حالة، نحو: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا {[البقرة: 22]، و {جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً {[النحل: 81]، وقال: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا {[الزخرف: 3].

وخامسها: الحكم بالشيء على الشيء؛ حقاً، قال تعالى: {إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وجَاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ {[القصص: 7]، أو باطلاً، قال تعالى: {ويَجْعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ {[النحل: 57].

ص: 6

كإنشاء شيءٍ من شيء، أو تصيير شيءٍ شيئاً، أو نقله من مكانٍ إلى مكان، ومن ذلك:(وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)[الأعراف: 189]، (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)؛ لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار، (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) [النبأ: 8]، (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص: 5] .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كإنشاء شيءٍ من شيء، أو تصيير شيءٍ شيئاً، أو نقله من مكانٍ إلى مكان): لف، وما بعده: نشر، فقوله: {وجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا {[الأعراف: 189]، {وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ {[الأنعام: 1] المثالان: نشر لقوله: "كإنشاء شيءٍ من شيء"؛ لأن حواء من ضلع آدم، كما أن الظلمات من تكاثف الأجرام.

قال الإمام: "إن النور والظلمة لما تعاقبا كأنما تولد أحدهما من الآخر".

وقوله: (وجعلناكم أزواجاً): مثال لتصيير شيءٍ شيئاً، وذلك أن كلاً من الزوجين يفتقر إلى الآخر في حالا الانفراد، وبعد انضمام أحدهما إلى الآخر يصيران زوجين.

وقوله: ({أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا {[ص: 5]): مثال للنقل، وذلك أن الكفار كانوا قد حكموا بالشرك والتعدد في الإلهية، فلما جاء الإسلام أبطل حكمهم بالتعدد، وألزمهم حكم التوحيد، كأنه نقل الحكم من التعدد إلى الوحدة.

فإن قلت: لم كرر المثال في القسم الأول، ولم يكتف بقوله: {وجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا {[الأعراف: 189] كما في التوالي؟ قلت: ليوقفك على أن قوله: {وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّور {[الأنعام: 1] من هذا القسم، وأنه المقصود في الإيراد.

ص: 7

فإن قلت: لم أفرد "النور"؟ قلت: للقصد إلى الجنس، كقوله تعالى:(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها)[الحاقة: 17]، أو لأن الظلمات كثيرة، لأنه ما من جنسٍ من أجناس الأجرام إلا وله ظل، وظله هو الظلمة، بخلاف النور فإنه من جنس واحدٍ وهو النار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (للقصد إلى الجنس)، أي: على ما يعرف كل أحدٍ أن النور ما هو، وهو الكيفية الفائضة من نحو النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية له. وهو وإن كان مفرداً في اللفظ، لكنه متكثر بحسب حصوله في مطارحه، كالظلمات. ومن ثم أفرد "الملك"، مع تعدد المتنزلات، في قوله: {والْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا {[الحاقة: 17]. ونحوه قول الشاعر:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

لم يرد لئيماً واحداً في زمانٍ واحد، بل لئاماً لا تنحصر في أزمنة لا تحصى، لأنه يصف نفسه بالحلم والأناة، وأنه دأبه وعادته.

قوله: {والْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا {[الحاقة: 17]، أي: جنس الملك على جوانب أفق السماء.

قوله: (أو لأن الظلمات كثيرة) إلى قوله: (بخلاف النور)، يعني: جمع {الظُّلُمَاتِ {لكثرة أسبابها، والأجرام الحاملة لها، وأفرد "النور" لإفراد سببه، وهو النار، كما قال:"فإنه من جنسٍ واحد".

لكن أسباب النور أيضًا غير واحد، فإن النيرين والكواكب، وغيرها، أسباب شتى.

وكذلك قال صاحب "التقريب": "والظلمة أكثر، إذ لكل جرمٍ ظلمة، وليس لكل جرمٍ نور، بل لكل نير".

وقال الإمام: "إن النور هاهنا عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية، ثم إنها تقبل السواد قليلاً قليلاً، وهي لها مراتب كثيرة؛ فلهذا عبر عن "الظلمات" بصيغة الجمع".

ص: 8

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وروى الإمام عن الواحدي، عن ابن عباس:"الظلمات: ظلمة الشرك، والنفاق، والكفر. والنور: نور الإسلام".

ونحوه على الحسن.

وقال الإمام: "حمل اللفظ على الوجه الأول أولى؛ لأن النور والظلمة حقيقتان في هاتين الكفيفيتين المحسوستين، ولأنهما إذا قرنتا بذكر السماوات والأرض، لا يفهم منهما غير ذلك".

قلت: والذي ينصر مذهب الحبر ابن عباس رضي الله عنه الاستعمال والنظم، أما الاستعمال: فإنه تعالى كلما ذكر لفظ "الظلمات" جمعاً، و"النور" مفرداً، أراد الضلالات والهداية. فمن ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ والَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ {[البقرة: 257].

وقوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وجَعَلْنَا لَهُ نُورًا {، إلى قوله: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا {[الأنعام: 122]. وقال تعالى: {الّر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ {[إبراهيم: 1]، إلى غير ذلك.

وقال القاضي: "الهدى واحد، والضلال متعدد"، قال تعالى: {وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ {[الأنعام: 153].

الراغب: "النور: يعبر به عن العلم والإيمان. والظلمة: عن ضديهما. ووجه ذلك أنه لما كان للإنسان بصران: الحاسة التي في الرأس، والبصيرة [التي] في القلب، فكما أن البصر لا يستغني في إدراك ما يدركه عن ضوء، كذلك البصيرة لا تستغني عن نور التوفيق والإيمان. ويقال لفقد البصرين: عمىً، ولفقدان النورين: ظلمة. وأعظمهما ضرراً فقد البصيرة. ولهذا

ص: 9

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال تعالى: {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور {[الحج: 46]، فلم يعد فقد البصر عمىٍ بالإضافة إلى فقد البصيرة. وقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وجَعَلَ الظُّلُمَاتِ والنُّورَ {يعني بذلك كلا النورين، وكلتا الظلمتين".

وأما المعنى والنظم: فإن لفظة "ثم" الاستبعادية في قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا {تقتضي أن يكون ما قبلها مما يوفى فيه جميع ما يزيل الشبهة عما بعدها من الكفر والعدول عن الحق إزالةً تامة، بحيث لا يبقي معه لأحدٍ متمسك يتشبث به، كقوله تعالى: {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا {[السجدة: 22]. وذلك إنما يتم إذا حمل قوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ {على نصب الأدلة على معرفة الله وتوحيده، وقوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ {على وضع الشرائع، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل، لبيان طرق الضلالات، والإرشاد إلى الطريق المستقيم.

ومثله قرر المصنف في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ {[آل عمران: 18] حيث قال: "شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد بشهادة الشاهد في البيان والكشف".

وتلخيص المعنى: أنه لم يبق بعد تلك البيانات الشافية، والدلائل الواضحة، حجة وتشبث للراكب على متن الضلال؛ فبعيد من الناظر المهتدي، بعد ذلك، ألا ينخلع من ضلاله وكفره، مع ذلك هؤلاء يعدلون به ما لا يقدر على شيءٍ من ذلك.

ص: 10

فإن قلت: علام عطف قوله: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)؟ قلت: إما على قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، على معنى: أن الله حقيقٌ بالحمد على ما خلق؛ لأنه ما خلقه إلا نعمة، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكافرون نعمته، وإما على قوله (خَلَقَ السَّماواتِ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الإمام: (إنما قدم الظلمات على النور، لأن عدم المحدثات متقدم على وجودها. جاء في الحديث: أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمةٍ، ثم رش عليهم من نوره".

وقلت: الحديث من رواية الإمام أحمد بن حنبل، والترمذي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل خلق الخلق في ظلمةٍ، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذٍ، فمن أصابه من نوره اهتدى، ومن أخطأه ضل". وفي رواية الترمذي: "فلذلك أقول: جف القلم بما هو كائن".

قوله: (وإما على قوله: {خَلْقِ السَّمَوَاتِ {. يعني أن الكفر يصح أن يحمل على معنى الشرك تارة، وعلى كفران النعمة أخرى، ويحسب هذين المعنيين يدور معنى {يَعْدِلُونَ {على هذا من العدول، والباء صلة {كَفَرُوا {على حذف المضاف، أي: كفروا بنعمة ربهم، وإليه الإشارة بقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا {به، أي: بالله {يَعْدِلُونَ {عن الحق، فيكفرون نعمته.

وفي قوله: "إن الله حقيق بالحمد على ما خلق" معنى ترتب الحكم على الوصف. وإنما ترك متعلق {يَعْدِلُونَ {على هذا ليقع الإنكار على نفس الفعل، وحقيقة العدول.

ص: 11

على معنى: أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإذا جعل بمعنى الشرك، يجب أن يعطف على {خَلَقَ السَّمَوَاتِ {، لأن كفرهم بتسويتهم الأصنام بخالق السموات والأرض، كقوله تعالى حكايةً عن قول الكفار يوم القيامة: {تَاللَّهِ إن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (97) إذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ {[الشعراء: 97 - 98]. و {يَعْدِلُونَ {على هذا بمعنى: "يسوون"، ليستقيم معنى الشرك، والباء متعلق به. وإليه الإشارة بقوله:"خلق ما خلق" إلى آخره.

وإلى الوجهين ينظر معنى الحديث الذي أورده المصنف في البقرة في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ {[البقرة: 172]، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إني والجن والإنس في نبأٍ عظيمٍ: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري".

وعلى الوجهين قوله: {رَبِّهِمْ {مظهر أقيم مقام المضمر، للعلية.

وعلى الأول معناه: التربية، وعلى الثاني: المالكية والقهر، و {الْحَمْدُ {على الأول: محمول على الشكر اللساني، وعلى الثاني: الثناء على الجميل.

قال صاحب "الانتصاف": في العطف على قوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ {نظر؛ لأن العطف على الصلة يوجب الدخول في حكمها. ولو قلت: الحمد لله الذي الذين كفروا بربهم يعدلون؛ لم يستقم. ويحتمل أن يقال: وضع الظاهر موضع المضمر تفخيماً، ونظيره: {لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ {[آل عمران: 81] فيمن جعلها موصولةً لا شرطية.

يريد أن "ما" في قوله تعالى: {لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ

ص: 12

ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه.

فإن قلت: فما معنى (ثم)؟ قلت: استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته، وكذلك (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) [الأنعام: 2] استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ {[آل عمران: 81] إذا جعلت موصولةً لابد من راجعٍ في الصلة، فينبغي أن يجعل "ما معكم" في موضع الضمير الراجع، أي: مصدق له.

وقلت: ليس بذلك، لأنه من باب عطف حصول مضمون الجملتين، لقوله:"إنه خلق ما خلق، ثم هم يعدلون به". يعني: حصل من الله عز وجل خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور للمكلفين، ليعرفوه، ويوحدوه ويعبدوه، فحصل منهم عكس ذلك، حيث سووا معه غيره، نحو قوله تعالى: {وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ {[الواقعة: 82]، فموقعه الفاء في الظاهر، فجيء بـ {ثُمَّ {للاستبعاد، ولأنه ليس من موضع وضع المظهر موضع المضمر، لأنه ابتداء كلام الكفار، على أنه لو قيل: ثم الكافرون والمشركون، كان ظاهراً أيضاً.

فإن قلت: {الحّمْدُ {هو: الثناء على الجميل، من نعمةٍ أو غيرها، فما معنى هذا الترتيب؟ قلت: معناه بيان فضله، وكمال حلمه ورحمته، كأنه قيل: ما أحلمه! وما أرحمه! لما يصدر منه تلك الفضائل والإنعام، وتقابل بذلك الكفر والكفران، ولا يصب عليهم العذاب صبا! كما في قوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ إنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا {[الفرقان: 6].

قوله: (يعدلون به)، الأساس:"لا عدل له: لا مثل له. وما يعدلك عندي شيء: أي ما يشبهك".

قوله: (وكذلك {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ {استبعاد). يعني: ذيل كلا من الآيتين بكلمة "الاستبعاد" بحسب ما تقتضيه من المعنى:

ص: 13

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أما الآية الأولى: فلما تضمنت دلائل الآفاق من الأجرام والأعراض، ذكر منها أعظمها جرماً في النظر، وأشملها تناولاً للأعراض، ليدخل في الأول سائر الأجسام، من الكبير والصغير، وفي الثاني جميع الأعراض: الظاهرة والخفية. ولهذا فسره الزجاج بالليل والنهار، والقاضي بالضلال والهداية.

والدليل على الاستيعاب: الجمع في أحد المكررين، والإفراد في الآخر، لأن في ذكر "الأرض" و"النور" مفردين، واقترانهما بالجمعين، إشعاراً بإرادة الجنسية في الإفراد، والاستغراق في الجمع. وفي ذكر "الخلق" و"الجعل" إشارةً إلى استيعاب الإنشاءين.

ثم إن الله تعالى بعد هذا الكلام الجامع، والبيان الكامل، نعي على الكفار بقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ {[الأنعام: 1] يعني: انظروا إلى هؤلاء الكفار، مع ظهور هذه الأدلة كيف يتركون عبادة خالق الأرض والسماوات، ويشتغلون بعبادة الحجارة والموات! وإليه الإشارة بقوله:"استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته".

وأما الآية الثانية، فلما اشتملت على دلائل الأنفس، ذكر فيها المبدأ والمنتهي تصريحاً، ولوح إلى ما يتوسطهما تلويحاً: ذكر خلقهم من طين، ونص على الأجلين، وعبر بـ {ثُمَّ {دلالةً على أطوار ما في النشء من النطفة، والعلقة، والمضغة المخلقة وغير المخلقة، والنشء حياً،

ص: 14

[(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ)].

(ثُمَّ قَضى أَجَلًا): أجل الموت، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ): أجل القيامة. وقيل: الأجل الأوّل: ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل: الأوّل النوم، والثاني: الموت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم الطفولة، والشباب، والشيخوخة، إلى الموت. ونبه بذكر الامتراء، والعدول من الغيبة في قوله: {بِرَبِهِمْ {، إلى الخطاب في قوله: {أَنتُمْ تَمْتَرُونَ {على التنبيه عن رقدة الغفلة والجهالة، وأن دلائل الأنفس أقرب الدلائل وأدق، وهي التي يضطر معها الناظر إلى المعرفة التامة.

وتلخيص المعنى: أن دلائل الآفاق موجبة لإزالة الشرك وإثبات التوحيد، فناسب أن يستبعد منهم الشرك مع وجودها، وأن دليل الأنفس مقتضٍ لحصول الإيمان، فناسب أن يستبعد منهم الامتراء.

قوله: (وقيل: الأجل الأول: ما بين أن يخلق)، وعلى هذا: الأجل عبارة عن جميع المدة. وعلى الأول عن آخرها. وإنما لم يؤخذ بهذه الأقوال لأنه لم يرتبط قوله تعالى: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ {بما قبله كما ينبغي أن يكون.

ص: 15

فإن قلت: المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تأخيره. فلم جاز تقديمه في قوله: (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)؟ قلت: لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة، كقوله:(وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ)[البقرة: 221].

فإن قلت: الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جيد، ولي عبدٌ كيس، ........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

واعلم أن قطب هذه السورة الكريمة يدور مع إثبات الصانع، ودلائل التوحيد وما يتصل بها. انظر كيف جعل احتجاج الخليل على قومه، ومآله إلى قوله: {إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ حَنِيفًا {[الأنعام: 78 - 79]. وكيف أوقع أمر حبيبه صلوات الله عليه بقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ {[الأنعام: 90] بعد ذكر معظم الأنبياء واسطة العقد، ولجة بحر التوحيد! ثم تفكر في قوله: {قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ {[الأنعام: 162 - 163] كيف جاءت خاتمة لها! فسبحان من له تحت كل سورةٍ من كتابه كريم، بل كل آيةٍ وكلمةٍ، أسرار ينفد دون نفاد بيانها الأبحر!

قوله: (الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جيد). هذا السؤال غير واردٍ على القياس اللغوي، لأنهم إنما يوجبون تقديم الظرف إذا لم يكن المبتدأ مخصصاً، كما سبق في الكتاب. وعليه كلام صاحب "المفتاح" حيث قال:"ولا يجب التقديم على المنكر إذا كان موصوفاً. قال تعالى: {وأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ {[الأنعام: 2]. ولكن وارد على استعمال الفصحاء فإنهم أوجبوا التقديم ولو كان مخصصاً"، ولهذا قال:"الكلام السائر".

ص: 16

وما أشبه ذلك؛ فما أوجب التقديم؟ قلت: أوجبه أن المعنى: وأي أجلٍ مسمى عنده! تعظيماً لشأن الساعة، فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقريب منه عن صاحب "المثل السائر".

ورد في التنزيل: {إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ {[ص: 23]. فلفظة: {لي {مقدمة جاءت حسنة، وإذا جاءت منقطعةً لا تجيء لائقة، كقول المتنبي:

تمسي الأماني صرعى دون مبلغه

فلا يقول لشيءٍ: ليت ذلك لي

وإذا خولف الاستعمال، وأزيل من مقره، دل على الاهتمام بشأنه، والاعتناء بذكره، فيحمل التنكير فيه على التعريف والتعظيم. فقال:"وأي أجل مسمىٍ عنده"، ليؤذن بالفرق بين الأجلين. ومن ثم أتم معنى التخصيص بتعظيم قوله: {عِندَهُ {وحسن كذلك أن يوقف على {أَجَلاً {.

قال صاحب "المرشد": وحسن الوقف على قوله: {أَجَلاً {ليفصل بينه وبين الآخر، وهو البعث والنشور.

قوله: (وأي أجل مسمى عنده): بيان لمعنى التنكير والتهويل فيه، لا أن الكلام متضمن لمعنى الاستفهام كما ظن: قال المصنف في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ {[البقرة: 5]: "نكر {هُدًى {ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه، كأنه قيل: على أي هدى".

فظهر من هذا الفرق بين قول صاحب "المفتاح": ولا يجب التقديم على المنكر إذا كان موصوفاً، وبين قول صاحب "الكتاب":(أوجبه أن المعنى: وأي أجلٍ مسمى عنده! تعظيماً)،

ص: 17

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأنه نظر إلى القياس النحوي، والمصنف إلى استعمال الفصحاء، كما بينا أن المراد ها هنا تعظيم هذا الأجل، للفرق بين الأجلين، وما يكون معظماً مفخماً لابد أن يكون مهتماً بشأنه، والاهتمام موجب للتقديم. وهو المراد بقوله: (فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم".

وقال صاحب "الانتصاف": التعظيم لا يوجب التقديم. وقد ورد: {وعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ {[الزخرف: 85]. والمراد: تعظيمها.

وقال صاحب "الإنصاف": "ولو مثل بقوله: {ولَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ {[المؤمنون: 62] كان أحسن، لأنه نكرة موصوفة، و {عِلْمُ السَّاعَةِ {معرفة".

وقلت: أما تنظير صاحب "الانتصاف" فبعيد المرمى لفظاً ومعنىً، أما اللفظ فلما ذكر، وأما المعنى فلأن ذلك المقام يقتضي الاختصاص والحصر لا التعظيم، أي: عنده علم الساعة لا عند غيره. ونحو قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ ولِيَ دِينِ {[الكافرون: 6].

وأما التنظير الآخر فإنه وارد على مقتضي الاستعمال، ولا موجب لإزالته عن مفره، إذ موجب التقديم في تلك الآية الفرق بين الأجلين، ولا يراد ها هنا الفرق بين الكتاب وغيره، يعلم ذلك مما سبقه من قوله تعالى: {والَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وقُلُوبُهُمْ وجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وهُمْ لَهَا سَابِقُونَ* ولا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وسْعَهَا ولَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ {[المؤمنون: 60 - 62].

قال القاضي: والاستئناف به لتعظيمه، ولذلك نكر، ووصف بأنه {مُسَمٍّى {، أي: مثبت

ص: 18

[(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ)].

(فِي السَّماواتِ) متعلق بمعنى اسم "الله"، كأنه قيل: وهو المعبود فيها، ومنه قوله:(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ)[الزخرف: 84]، أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها، أو هو الذي يقال له:"الله" فيها، لا يشرك به في هذا الاسم، ويجوز أن يكون (اللَّهُ فِي السَّماواتِ) خبراً بعد خبر؛ على معنى: أنه الله، وأنه في السموات والأرض، بمعنى أنه عالمٌ بما فيهما لا يخفى عليه منه شيء، كأن ذاته فيهما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

معين، لا يقبل التغيير، وأخبر عنه بأنه "عند الله"، ولا مدخل لغيره فيه بعلمٍ ولا قدرة، ولأنه المقصود ببيانه.

قوله: ({فِي السَّمَوَاتِ {متعلق بمعنى اسم "الله"). قال الزجاج: لو قلت: "هو زيد في المدينة"، لم يجز، إلا أن يكون في الكلام دليل على أن زيداً قد يدبر أمر المدينة.

ونقل أبو البقاء عن أبي علي أنه قال: لا يجوز أن يتعلق باسم "الله"، لأنه صار بدخول الألف واللام، والتغيير الذي دخله، كالعلم. ولهذا قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًا {[مريم: 65].

والمصنف اختار مذهب الزجاج، وزاد عليه في الاعتبار، وأول التركيب على وجوه؛ أحدها: جعل اسم "الله" مشتقاً من "أله يأله": إذا عبد. فالإله: فعال في معنى المفعول، أي: المألوه، وهو المعبود. ثم تصرف فيه، فصار "الله" كما سبق. هذا هو المراد من قوله:"وهو المعبود فيها".

ص: 19

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثانيها: جعل معنى شهرته في الإلهية عاملاً في الظرف. قال: هو كما تقول: "هو حاتم في طيء"، على تضمين معنى الجود الذي اشتهر به، كأنك قلت:"هو جواد في طيء".

ومنه قول أبي النجم:

أنا أبو النجم وشعري شعري

أي: أنا ذلك المشهور في الفصاحة، وشعري هو المعروف بالبلاغة. وهو الذي عناه بقوله: >وهو المعروف بالإلهية".

وقال صاحب "الفرائد": يمكن أن يقال: {فِي السَّمَوَاتِ {: حال مؤكدة، أي: وهو الله معروفاً في السموات والأرض، كقولك:"هو زيد معروفاً في العالم"ز

وقال المالكي: لا تكون الحال المؤكد بها خبر جملة جزآها معرفتان جامدتان، إلا بلفظٍ دال على معنىً لازم، أو شبيه باللازم، في تقدم العلم، والعامل فيها:"أحقه" أو "أعرفه". وهذا أولى من قول الزجاج: العامل هو الخبر لتأويله بمسمى، ومن قول ابن خروف:"إن العامل هو المبتدأ" لتضمنه معنى التنبيه.

وثالثها: أن يكون رداً للمشركين في إثبات إلهٍ غيره. قال الزجاج: والمعنى: هو المتفرد في التدبير في السموات والأرض، خلافاً للقائل المخذول بأن المدبر فيهما غيره. وإليه الإشارة بقوله:"المتوحد بالإلهية فيها".

ص: 20

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال ابن الحاجب: وفائدة قولك: "أنا زيد"، أو:"هو زيد" الإخبار عما كان يجوز أنه متعدد، بأنه واحد في الوجود. وهذا إنما يكون إذا كان المخاطب قد عرف مسميين في ذهنه، أو أحدهما في ذهنه، والآخر في الوجود، فيجوز أن يكونا متعددين. فإذا أخبر المخبر بأحدهما عن الآخر، كان فائدته أنهما في الوجود ذات واحدة.

ورابعها: أن يكون مأخوذاً من قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًا {[مريم: 65]. وهو المراد من قوله: "وهو الذي يقال له: "الله" فيها، لا يشرك به في هذا الاسم". وهو اختيار أبي علي.

وخامسها: ألا يكون {فِي السَّمَوَاتِ {متعلقاً بالاسم، وذلك بأن يكون خبراً بعد خبر، وهو المراد من قوله:"أنه الله، وأنه في السموات". أما قوله: "أن يكون {اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ {خبراً بعد خبر" فمعناه أنهما خبران متعاقبان؛ لأن قوله: {فِي السَّمَوَاتِ {وحده خبر بعد خبر، لا كليهما.

قال صاحب "الفرائد": إذا كان خبراً بعد خبر، كان معناه أنه عالم بما فيها، كقوله تعالى: {وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ {[الحديد: 4] أي: بالعلم والقدرة. فإذا جاز هذا فأي ضرورةٍ في ما ذكر من التقديم البعيد؟ أي: كأن ذاته فيها.

قلت: الضرورة بيان فائدة العدول عن إثبات العلم، إلى هذه العبارة، والإشعار بأنها من باب الكناية، وأن علمه الكامل شامل لما ظهر فيها وما بطن.

ومن ثم فصل قوله تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ ويَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ {بياناً موضحاً لهذه الجملة. وعلى هذا قوله تعالى: {وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ {الآية [الحديد: 4].

ص: 21

فإن قلت: كيف موقع قوله: (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)؟ قلت: إن أردت المتوحد بالإلهية كان تقريراً له؛ لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو الله وحده، وكذلك إذا جعلت (في السموات) خبراً بعد خبر، وإلا فهو كلام مبتدأ؛ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم، أو خبر ثالث.

(وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من الخير والشر، ويثبت عليه، ويعاقب.

[(وَما تَاتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ* فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَاتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)].

(مِنْ) في (مِنْ آيَةٍ) للاستغراق، وفي (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) للتبعيض، يعني: وما يظهر لهم دليلٌ قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار، ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإلا فهو كلام مبتدأ)، أي: وإن لم يرد بقوله تعالى: {وهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ {[الأنعام: 3] المتوحد بالإلهية فيها، وأنه الله، ولا أنه عالم بما فيها، فكان كلاماً مبتدأ مستأنفاً، لأنه على التقديرين تأكيد وتقرير لمعناهما، كما قرره، بقي أن يراد: هو المعبود فيها، أو هو المعروف، أو هو الذي يقال له: الله فيها. فهو على هذه الوجوه استئناف.

وبيان السؤال على الأول أنه لما قيل: هو المعبود فيها، اتجه لسائلٍ أن يسأل: فما شأنه مع عابده حينئذ؟ فأجيب: يعلم سرهم وجهرهم، ويعلم ما يكسبون، فيجازيهم على أعمالهم: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

وعلى الثاني والثالث: السؤال: بماذا عرف فيهما؟ وما وصفه فيهما؟ فقيل: وصفه فيهما بالعلم الشامل الكلي والجزئي، كما سبق في آخر "المائدة"، في قوله تعالى: {إنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ {[المائدة: 109]. قال المصنف: " (علام الغيوب) قرئ بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله: {إنَّكَ أَنتَ {، أي: إنك موصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره".

ص: 22

(إلا كانوا عنه معرضين): تاركين للنظر لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأساً، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب.

(فَقَدْ كَذَّبُوا) مردودٌ على كلامٍ محذوف، كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات، فقد كذبوا بما هو أعظم آيةٍ وأكبرها، وهو الحق، (لَمَّا جاءَهُمْ) يعني: القرآن الذي تحدّوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه، (فَسَوْفَ يَاتِيهِمْ أَنْباءُ) الشيء الذي (كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو القرآن، أي: أخباره وأحواله، بمعنى: سيعلمون بأي: شيءٍ استهزؤوا، وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته.

[(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَانا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ)].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مردود على كلامٍ محذوف)، أي: شرطٍ محذوف، ونحوه قول الشاعر:

قالوا: خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول، فقد جئنا خراسانا

أي: إن صح ما قلتم من أن خراسان المقصد، فقد جئنا، وأين لنا الخلاص؟

قوله: (أو عند ظهور الإسلام). فإن قلت: اتصال قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم {بما قبله على أن المراد بالأنباء في قوله: {فَسَوْفَ يَاتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {ظاهر، لمناسبة الاعتبار بنزول العذاب على الأمم السالفة بالتهديد والوعيد. فما وجه اتصاله به إذا أريد به ما قال:"عند ظهور الإسلام"؟

ص: 23

مكن له في الأرض: جعل له مكانا فيها، ونحوه: أرّض له، ومنه قوله:(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ)[الكهف: 84]، (أَوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ) [القصص: 57]، وأمّا "مكنته في الأرض": فأثبته فيها. ومنه قوله: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)[الأحقاف: 26]، ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله:(مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ)، والمعنى: لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم؛ من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال، والاستظهار بأسباب الدنيا.

و(السماء): المظلة؛ لأن الماء ينزل منها إلى السحاب، .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: معناه: فسوف يأتيهم أنباءُ القرآن، ومن نزل عليه عند تباشير الظفر، ونصرة الله الإسلام، وقهر أعداء الدين، وغلبة أوليائه، أولم يروا كم أهلكنا من قبلهم من المكذبين، ونصرنا الأنبياء وضعفة المؤمنين على من هم أشد من هؤلاء!

قوله: (ولتقارب المعنيين جمع بينهما). يعني: قوله: "مكن له في الأرض"، وقوله:"مكنته في الأرض" بعد التفرقة بينهما من حيث اللفظ والمعنى منزلان منزلة معنىً واحدٍ في إعطاء معنى الكتابة، ويجمعهما كون الموصوف بهما في منعةٍ من الرجال، والسعة في الأموال والمآل والأحوال.

وإليه الإشارة بقوله: "لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم، من البسطة، والسعة، والاستظهار".

وتحريره: أن كونهم ثابتين في الأرض يدل على أنها جعلت مكاناً لهم، وهو يدل على كونهم في الاستظهار بأسباب الملك، في غايةٍ من الكمال.

ويعضده قوله تعالى: {ويَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا* إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ {، ثم بينه بقوله: {وآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا* فَأَتْبَعَ سَبَبًا {[الكهف: 83 - 85].

قوله: (لأن الماء ينزل منها إلى السحاب). يعني: قال تعالى: {وأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا {

ص: 24

أو السحاب أو المطر. و"المدرار": المغزار.

فإن قلت: أي: فائدةٍ في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟ قلت: الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرناً، ويخرب بلاده منهم؛ فإنه قادرٌ على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده، كقوله تعالى:(وَلا يَخافُ عُقْباها)[الشمس: 15].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[الأنعام: 6]، وإنما المرسل هو السحاب، لأن الماء ينزل من المظلة إلى السحاب.

قوله: (والمدار: المغزار). قال الزجاج: {مِّدْرَارًا {: أي داراً ذات غيثٍ كثير. و"مفعال" من أسماء المبالغة، كقولهم:"امرأة مذكار": إذا كانت كثيرة الولادة للذكور. وكذلك "مثنات" من الإناث.

قوله: (إنشاء قرنٍ آخرين بعدهم). قال الزجاج: القرن: أهل كل مدةٍ كان فيها نبي، أو كان فيها طبقة من أهل العلم، قلت السنون أو كثرت. يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".

قوله: (ويخرب بلاده منهم). ضمن "خرب" معنى "أخلى"، وعداه بـ"من"، أي: أخلى الله تعالى بلاده منهم، فهي خربة.

قوله: (كقوله تعالى: {ولا يَخَافُ عُقْبَاهَا {[الشمس: 15]). يعني: وزان قوله تعالى: {وأَنشَانَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ {[الأنعام: 6]، وزان قوله: {ولا يَخَافُ عُقْبَاهَا {[الشمس: 15] في كونه تقريراً للكلام السابق، وتتميماً لمعنى عدم المبالاة. كأنه قيل: فأهلكناهم بذنوبهم، وما خفنا

ص: 25

[(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ* وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ)].

(كِتاباً): مكتوباً، (فِي قِرْطاسٍ): في رق، (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) ولم يقتصر بهم على الرؤية، لئلا يقولوا: سكرت أبصارنا، فيبقى لهم علة. لقالوا:(إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) تعنتا وعناداً للحق بعد ظهوره.

(لَقُضِيَ الْأَمْرُ): لقضي أمر هلاكهم، (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) بعد نزوله طرفة عين، .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عقباهم، وذلك أن المتسلط على تخريب الديار، وقلع الآثار، إنما يخاف من عقبى الأمر إذا لم يقدر على إنشاء مثل ما خربه ودمره، وأما من هو قادر على إنشاء مثله، فلا يخاف عقباها. قال:"فلا يخاف عاقبتها وتبعتها، كما يخاف كل معاقبٍ من الملوك، فيبقي بعض الإبقاء".

قوله: (ولم يقتصر بهم على الرؤية): عطف على محذوف، يعني: ضم مع قوله تعالى: {كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ {، قوله: {فَلَمَسُوهُ {، ولم يقتصر على الرؤية، للتتميم والمبالغة.

قوله: (لقالوا: {إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ {) إنما أتي بالضمير، وفي التنزيل: {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا {ليؤذن أن قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا {مظهر وضع موضع المضمر للعلية.

قوله: (سكرت أبصارنا) أي: حبست من النظر، على المجاز. كذا في "الأساس".

قوله: (لقضي أمر هلاكهم). قال الزجاج: "أي: لتم إهلاكهم. و"قضى" على ضروب، ومرجعها إلى معنى انقطاع الشيء وتمامه".

ص: 26

إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته، وهي آيةٌ لا شيء أبين منها وأيقن، ثم لا يؤمنون كما قال:(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى)[الأنعام: 111]- لم يكن بدّ من إهلاكهم، كما أهلك أصحاب المائدة، وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملك، فيجب إهلاكهم، وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون.

ومعنى (ثُمَّ): بعد ما بين الأمرين؛ قضاء الأمر، وعدم الإنظار. جعل عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر؛ لأنّ مفاجأة الشدّة أشدّ من نفس الشدّة.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً): ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا - لأنهم كانوا يقولون: لولا أنزل على محمدٍ ملك! وتارةً يقولون: (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)[المؤمنون: 33]، ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن). فإن قيل: هذا يؤذن أن هذه الآية أبين من سائر المعجزات، مثل: انشقاق القمر، وفلق البحر، وإحياء الموتى، قلت: نعم، لأنه أراد بقوله:"لأنهم إذا عاينوا الملك": الملك المطلوب، والآية المقترحة، ولا ارتياب أنه لا شيء أبين منها في إزاحة العلل، وأيقن لنزول العذاب. ولذلك أتي بقوله:"كما أهلك أصحاب المائدة" مستشهداً به، لأنها أيضاً كانت مقترحة، فأهلكوا بالمسخ.

قوله: (لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف)، يعني: إذا نزلت الملائكة، اضطروا إلى الإيمان، وقاعدة التكليف الاختيار.

هذا في حق الكفار عند نزول العذاب بعد الإنذار، كما قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَاسَنَا {[غافر: 85]. وأما المؤمنون إذا رأوا الملائكة، فيزيد إيمانهم، {ومَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى لَكُمْ ولِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ {[آل عمران: 126].

قوله: (وتارة يقولون). اعلم أن "تارة" مقتضية مقارنتها، وهي محذوفة، إذ التقدير:

ص: 27

(لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً)[فصلت: 14]- (لَجَعَلْناهُ رَجُلًا): لأرسلناه في صورة رجل، كما كان ينزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلم الأحوال في صورة دحية، لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم، (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ): ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ،

..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأنهم تارة كانوا يقولون: لولا أنزل على محمدٍ ملك، وتارةً يقولون: {مَا هَذَا إلاَّ بَشَرٌ {[المؤمنون: 24]، فأوجب ذلك أن يجعل الضمير في قوله: {ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا {لما يقال له: الرسول، سواء كان مبعوثاً إليهم لما قالوا: {مَا هَذَا إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ {[المؤمنون: 24]، أو إلى من هو مبعوث إليهم لما قالوا: لولا أنزل على محمدٍ ملك.

فلذلك فسر الضمير بالرسول المطلق في قوله: "ولو جعلنا الرسول ملكاً"، وعلله بقوله:"لأنهم كانوا يقولون" إلى آخره.

فقوله تعالى: {ولَوْ جَعَلْنَاهُ {: عطف على: {ولَوْ نَزَّلْنَا {، فأردف الجواب بجواب آخر، أعم منه، قلعاً لشبههم من سنخها.

قال القاضي: " {ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا {: جواب ثانٍ إن جعل الهاء للمطلوب، وإن جعل للرسول فهو جواب اقتراحٍ ثان، فإنهم تارةً يقولون: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ {، وتارة يقولون: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً {[فصلت: 14] ".

وما ذهب إليه المصنف أقضى لحق البلاغة، لاشتمال الجواب على المطلوب، وعلى غيره.

قوله: (في صورة دحية). قال صاحب "الجامع": "دحية: بكسر الدال وسكون الحاء

ص: 28

فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة إنسان: هذا إنسانٌ وليس بملك، فإن قال لهم: الدليل على أني ملكٌ أني جئت بالقرآن المعجز، وهو ناطقٌ بأني ملك لا بشر، كذبوه كما كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن، فهو ليس الله عليهم.

ويجوز أن يراد: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ حينئذٍ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله البينة، وقرأ ابن محيصن:"ولبسنا عليهم"، بلامٍ واحدة. وقرأ الزهري:"وللبسنا عليهم ما يلبسون"، بالتشديد.

[(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المهملة، كذا يرويه أكثر أصحاب الحديث، وأهل اللغة، وقال الأمير أبو نصر بن ماكولا: هو بالفتح"، وهو الذي كان ينزل جبريل عليه السلام في صورته.

قوله: (ويجوز أن يراد: وللبسنا عليهم حينئذٍ)، اعلم أن {مَّا {في قوله: {مَّا يَلْبِسُونَ {: إما موصولة، والعائد محذوف، وهو مفعول {ولَلَبَسْنَا {، كما ذكره أبو البقاء. وعليه الوجه الأول في الكتاب، ومن ثم قدر "حينئذٍ" بعد تمام الكلام.

والمراد باللبس: الخلط في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. المعنى: لخلطنا عليهم الذي يخلطونه على أنفسهم، في كون الرسول ينبغي أن يكون ملكاً لا بشراً. هذا على مذهب أهل السنة ظاهر، دون مذهبهم، ولهذا أول اللبس بالخذلان، حيث قال:"خذلوا كما هم مخذولون الآن، فهو لبس الله عليهم".

ص: 29

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه، (فَحاقَ) بهم: فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو الحق، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به.

[(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)].

فإن قلت: أي: فرق بين قوله: (فَانْظُروا) وبين قوله: (ثُمَّ انْظُرُوا)؟ قلت: جعل النظر مسبباً عن السير في قوله: (فَانْظُروا)، فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين، وأما قوله:(سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) ......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أو مصدرية، وهو مفعول مطلق، والكلام فيه تشبيه، وحينئذ لبس الله غير لبسهم. ولهذا كرر الظرف، حيث قال أولاً:"حينئذٍ"، وثانياً:"الساعة". والمراد باللبس: الكفر في أمر آيات الله، وهو ما يعلم من قوله: {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ {[الأنعام: 7]. وإليه الإشارة بقوله: "في كفرهم بآيات الله البينة".

قوله: (حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به). يعني أن قوله: {مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ {من باب إطلاق السبب على المسبب، لأن المحيط بهم هو العذاب، لا المستهزأ به، ولما كان سبباً له وضع موضعه للمبالغة.

قوله: (أي فرقٍ بين قوله: {فَانظُرُوا {)، أي: في قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا {[آل عمران: 137].

ص: 30

فمعناه: إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين. ونبه على ذلك بـ (ثم)، لتباعد ما بين الواجب والمباح.

[(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)].

(لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) سؤال تبكيت،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إباحة السير في الأرض للتجارة

، وإيجاب النظر). يريد: الأمر على الأول واحد مقيد، وعلى الثاني شيئان: فالأول مباح، والثاني واجب، بدلالة {ثم {.

قال صاحب "التقريب": "إنما لم يحمل على التراخي، وعدل إلى المجاز، إذ واجب النظر في آثار الهالكين حقه ألا يتراخي عنه السير".

وقلت: يمكن أن يأمرهم بالسير أولاً، وبالنظر ثانياً على الوجوب، ويكون الثاني أعلى رتبة، لأن الكلام مع المنكرين، كما تقول:"توضأ ثم صل"، والآية مع الفاء متضمنة للتنبيه على الغفلة، أو للتوبيخ على التغافل، ومع "ثم" للتعبير على التواني والتقاعد. وإلى الأول الإشارة بقوله:"ولا تسيروا سير الغافلين".

الراغب: "قيل: حث على السياحة في الأرض بالجسم، وقيل: على إجالة الفكر، ومراعاة أحواله، كما روي في وصف الأنبياء عليهم السلام: أبدانهم في الأرض سائرة، وقلوبهم في الملكوت جائلة".

قوله: (سؤال تبكيت)، الأساس:"ومن المجاز: بكته بالحجة، أي: غلبه. وبكته: ألزمه ما عيي بالجواب عنه".

ص: 31

و (قُلْ لِلَّهِ) تقريرٌ لهم، أي: هو الله، لا خلاف بيني وبينكم، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئاً منه إلى غيره، (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي: أوجبها على ذاته؛ في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شيءٍ بقوله:(لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فيجازيكم على شرككم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعني: إذا سئلوا عن قوله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ {[الأنعام: 12]، لا محيد لهم إلا أن يقولوا: لله، {ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ {[لقمان: 25].

قوله: (و {قُل لِّلَّهِ {: تقرير)، قيل: أي إلجاء إلى الإقرار. الجوهري: "تقرير الإنسان بالشيء: حمله على الإقرار به"، والأولى أن يكون من تقرير الشيء: إذا جعل في مكانه.

الجوهري: "قررت عنده الخبر حتى استقر".

أي: قرر الجواب لأجلهم، فكأن قوله قولهم، لأنه لا خلاف بينه وبينهم. وهذا هو المراد من قوله:"لا خلاف بيني وبينكم".

قال الإمام: "أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالسؤال أولاً، وبالجواب ثانياً. وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا على دفعه دافع".

قوله: (أوجبها على ذاته؛ في هدايتكم إلى معرفته) إلى آخره. قال القاضي: " {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ {: التزمها فضلاً وإحساناً. والمراد بالرحمة: ما يعم الدارين، ومن ذلك: الهداية إلى معرفته، والعلم بتوحيده، بنصب الأدلة، وإنزال الكتب، {لَيَجْمَعَنَّكُمْ {:

ص: 32

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

استئناف وقسم للوعيد في إشراكهم وإغفالهم النظر، أي: ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة، أو في يوم القيامة. و"إلى" بمعنى: في".

وقال الزجاج: يجوز أن يكون تمام الكلام: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ {، ثم استأنف {لَيَجْمَعَنَّكُمْ {، ويجوز أن يكون {لَيَجْمَعَنَّكُمْ {بدلا من {الرَّحْمَةَ {، وفسر رحمته بأنه يمهلهم إلى يوم القيامة. والإمهال: الرحمة.

وقلت: تفسير الرحمة بالعموم أولى، لما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما قضى الله الخلق كتب كتاباً، فهو عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي"، وفي رواية:"غلبت غضبي".

والحمل على الاستئناف أقضى لحق البلاغة، وذلك أن للكفار - عند ذلك السؤال المبكت، والجواب المقرر المسكت - أن يزعموا: ما بال هذا العزم القوي والتشديد فيه؟ فيقال لهم: لأنكم ما خلقتم سدى، ما خلقكم الله إلا لرحمته، تعرفونه، وتعبدونه، وتفعلون ما تستأهلون به رحمته، لأنه واسع الرحمة، والله يدعو إلى دار السلام.

ويؤيده قول محيي السنة: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ {: استعطاف منه للمتولين عنه إلى الإقبال عليه، وإخبار بأنه رحيم بالعباد، ولا يعجل العقوبة، ويقبل الإنابة والتوبة.

ص: 33

وقوله: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) نصبٌ على الذم، أو رفع؛ أي: أريد الذين خسروا أنفسهم، أو أنتم الذين خسروا أنفسهم.

فإن قلت: كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرانهم، والأمر على العكس؟ قلت: معناه: الذين خسروا أنفسهم في علم الله: لاختيارهم الكفر. فهم لا يؤمنون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم إن القوم لما كانوا ممن طبع على قلوبهم، لهم أن يقولوا عند الأمر بالتكليف، وترك العبادات، وأنهم خلقوا ليعملوا فيجازوا به: ليس الأمر كذلك، بل {نَمُوتُ ونَحْيَا ومَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْر {[الجاثية: 24]. فوبخوا عند ذلك بقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ {، كقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ {[المؤمنون: 115].

وإدخال لام القسم دل على الترقي في الإنكار، كقول الرسل: {إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ {[يس: 16] في الكرة الثانية.

قوله: (معناه: الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى). قال الإمام: هذا يدل على أن سبق القضاء بالخسران هو الذي حملهم على الامتناع من الإيمان. وذلك عين مذهب أهل السنة.

وقال صاحب "الفرائد": "ويمكن أن يقال: من أضاع رأس المال، لم يحصل له الربح. ورأس المال هو نفس الحياة، والربح الإيمان، فإذا أضاعها فيما لا يعنيه فقد أهلكها، فلم يحصل له الربح".

هذا أقرب إلى أصول المعتزلة. كما أن قول المصنف عين مذهب أهل السنة.

ص: 34

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: مدار هذين القولين على معنى الذم في قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ {، فإذا حمل على قوله:"أريد الذين خسروا أنفسهم" كان الأولى أن يجري على العموم، ليدخل هؤلاء فيه دخولاً أولياً. فحينئذٍ يتوجه عليه سؤال المصنف، ونطبق عليه جوابه.

وإذا حمل على "أنتم الذين خسروا أنفسهم" ليختص بالمخاطبين، كان المناسب ما ذهب إليه صاحب "الفرائد".

والذي يقتضيه النظم أن الآية كالتذييل لما سبق، وذلك أن الكلام من ابتداء السورة في حق المعاندين الممترين، ذكرهم آيات الآفاق والأنفس، ثم أنذرهم بإهلاك من هم أشد منهم تمكناً في الأرض، ثم وبخهم على قولهم في الكتاب: إنه {سِحْرٌ مُّبِينٌ {، وعلى اقتراحهم: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ {، وأرشدهم إلى السير في الأرض للاعتبار، ومكنهم، وقررهم، وعرضهم لرحمة الله الواسعة، ثم بعد الإياس من إيمانهم أتى بقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ {، أي: في علم الله {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {ذماً لهم، وتسليةً للرسول صلى الله عليه وسلم لئلا تذهب نفسه عليهم حسرات.

نحوه ما سبق في قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ {[البقرة: 7] بقوله: {وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {[القرة: 6]. ولهذا أوقع الفاصلة بين

ص: 35

[(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)].

(وَلَهُ) عطفٌ على (الله)، (ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) من السكنى، وتعديه بفي كما في قوله (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [إبراهيم: 45]. (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع كل مسموع، ويعلم كل معلوم، فلا يخفى عليه شيءٌ مما يشتمل عليه الملوان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: {ولَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ والنَّهَارِ {الآية، وبين المعطوف عليه، لأن لهما مدخلاً في التسلي.

قوله: ({ولَهُ {عطف على: {لِلَّهِ {) أي: قل: لله ما في السموات والأرض، {ولَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ والنَّهَارِ {). يعني:"سكن" من السكني، جاء متعدياً بنفسه وبـ"في".

وقال في "الأساس": "وسكنوا الدار، وسكنوا فيها. وأسكنتهم الدار، وأسكنتهم فيها".

ومقصوده من جعله من "السكنى" دون "السكون": التعميم والشمول، إذ لو جعل من السكون الذي يقابل الحركة، لفات الشمول الذي عناه بقوله:"مما يشتمل عليه الملوان"، واقتضاه عطف {ولَهُ {على: {لِلَّهِ {. كما قال صاحب "التقريب": وإنما أدرجه، يعني: قوله: {ولَهُ مَا سَكَنَ {تحت قوله: {قُلْ {، ولم يجعله مستأنفاً، كما هو السابق إلى الفهم، ليكون احتجاجاً ثانياً على المشركين إيذاناً بأن له ما استقر في الأمكنة، وما استقر في الأزمنة. وعليه معنى كلام الزجاج.

ص: 36

[(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ)].

(أ) وَلي (غَيْرَ اللَّهِ)؟ همزةُ الاستفهام دون الفعل الذي هو (أَتَّخِذُ)؛ لأنّ الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً، لا في اتخاذ الولي، فكان أولى بالتقديم، ونحوه:(أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ)[الزمر: 64]، (آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ) [يونس: 59]. وقرئ: (فاطِرِ السَّماواتِ) بالجرّ صفة لله، وبالرفع على المدح. وقرأ الزهري:"فطر"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال القاضي: "ويجوز أن يكون من السكون أيضاً، أي: وله ما سكن فيهما، أو تحرك. فاكتفي بأحد الضدين عن الآخر".

وقلت: ثم المناسب أن يكون قوله: {وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ {مردوداً إلى المعطوف والمعطوف عليه، أي: يعلم كل معلوم من الأجناس المختلفة في السموات والأرض، ويسمع هواجس كل ما سكن في الملوين من الحيوان وغيره. وعلى ما ينبئ عنه كلام المصنف أنه من تتمة قوله: {ولَهُ مَا سَكَنَ {لقوله: "مما يشتمل عليه الملوان".

قوله: (لأن الإنكار في اتخاذ غير الله) سيجيء تحقيقه في قوله: {وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ {[الأنعام: 100].

قوله: ({آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ {. إيراده هاهنا يوهم أن تقديم اسم "الله" على

ص: 37

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفعل كتقديم "غير الله" على الفعل في الموضعين. وليس بذلك، إذ المراد أن إيلاء هذا الاسم حرف الإنكار، وبناء الخبر عليه، دون العكس، وأن يقال: أأذن الله لكم؟ لأنه الأصل في الاستفهام، لاسيما وقد عطف عليه: {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ {[يونس: 59]، وهي فعلية، إذن بتقوية حكم إنكار أن الله هو الآذن، لا حصول الإذن مطلقاً. ألا ترى كيف استشهد به لقوله:"لأن الإنكار في اتخاذ غير الله، لا في اتخاذ الولي"؟ وكيف يوهم تقديم المعمول؟ .

والتركيب من باب تقوى الحكم، مثله في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ {[الزمر: 23]. وقال فيه المصنف: "إيقاع اسم {الله {مبتدأ، وبناء {نَزَّلَ {عليه، فيه تفخيم لـ {أَحْسَنَ الحَدِيثِ {، وتأكيد لإسناده إلى الله، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا منه".

فظهر أن المراد بالتقديم في قوله: "فكان أولى بالتقديم" الاهتمام دون التخصيص.

وإلى هذا ينظر قول صاحب "المفتاح": "فلا يحمل قوله تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ {[يونس: 59] على التقديم، فليس المراد أن الإذن ينكر من الله دون غيره، ولكن احمله على الابتداء، مراداً منه تقوية حكم الإنكار". تم كلامه.

هذا التقدير مبني على أن تكون {أَمْ {منقطعة، والهمزة فيها للتقرير، وفي {آللَّهُ}

ص: 38

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ما عرفت ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها.

(وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ): وهو يرزق ولا يرزق، كقوله:(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ)[الذاريات: 59]، والمعنى: أن المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع.

وقرئ: "ولا يطعم"؛ بفتح الياء. وروى ابن المأمون عن يعقوب: "وهو يطعم ولا يطعم"؛ على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للإنكار، فيفيد توكيد الافتراء ومزيد تقريره، والله أعلم.

قوله: (أن المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع). يريد أن قوله تعالى: {وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ {من إطلاق أعظم الشيء على كله، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى {[النساء: 10]، لأن أعظم المنافع عند الحيوان الطعم. وإنما عبر عن المنافع بالطعم، لأن قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ ولِيًا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ {جاء تقريراً للجواب السابق، وهو قوله: {قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ {إلى قوله: {وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ {.

يعني: قل لهم بعد ذلك التقرير: أغير الذي ذكرته من له ما في السموات وما في الأرض، والذي منه الرحمة العظمي أتخذ ولياً؟ فوضع: {يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ {، موازياً لـ {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ {تعييراً لهم، وأنهم لا يعرجون إلا إلى المعارف الوارفة من الطعم، واستيفاء الشهوات واللذات الجسمانية، كالبهائم.

ص: 39

والضمير لـ"غير الله". وقرأ الأشهب. "وهو يطعم ولا يطعم"، على بنائهما للفاعل، وفسر بأن معناه: وهو يطعم ولا يستطعم. وحكى الأزهرى: أطعمت، بمعنى: استطعمت، ونحوه: أفدت. ويجوز أن يكون المعنى: وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى؛ على حسب المصالح، كقولك: وهو يعطي ويمنع، ويبسط ويقدر، ويغني ويفقر.

(أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لأنّ النبي سابق أمته في الإسلام، كقوله:(وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام: 163] وكقول موسى: (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)[الأعراف: 143].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الضمير لـ"غير الله"، أي: في قوله: "وهو يطعم" على البناء للمفعول. وفيه إشكال، لأن الأصنام لا توصف بأنها تطعم ولا تطعم، وليس الكلام مع اليهود والنصارى، ليقال: إن المسيح أو عزيز يطعم ولا يطعم

والجواب: أن المقصود من قوله: {وهُوَ يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ {إذا أخذ بزبدته على سبيل الكناية، إنها تربي ولا تربي، كقوله: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وهُمْ يُخْلَقُونَ {[النحل: 20].

قوله: (ونحوه: أفدت)، أي: استفدت. الأساس: "أفدت منه خيراً واستفدته".

قال الشماخ:

أفاد سماحة وأفاد حمداً

فليس بجامدٍ لحزٍ ضمين

أي: استفاد حمداً.

ص: 40

(وَلا تَكُونَنَّ) وقيل لي: لا تكونن (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ومعناه: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.

و(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) العذاب (يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رحمه الله الرحمة العظمى، وهي النجاة، كقولك: إن أطعمت زيداً من جوعه فقد أحسنت إليه، تريد: فقد أتممت الإحسان إليه، أو: فقد أدخله الجنة، لأن من لم يعذب لم يكن له بدّ من الثواب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({فَقَدْ رَحِمَهُ {الله الرحمة العظمى). فسر مطلق الرحمة بالرحمة العظمى، لأن الشرط والجزاء إذا اتحدا معنى، وكان الجزاء مطلقاً، دل على عظم شأن الجزاء.

أصل الكلام: من يصرف عنه العذاب يومئذٍ فقد نجا، فوضع موضعه: {فَقَدْ رَحِمَهُ {. وإليه الإشارة بقوله: "هي النجاة". نظيره قوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ {[آل عمران: 185]، أي: فقد حصل له الفوز المطلق المتناول ما يقاربه. وقوله تعالى: {إنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ {[آل عمران: 192]. قال المصنف: "فقد بالغت في إخزائه".

قوله: (أو فقد أدخله الجنة) فهو من التقسيم الحاصر، لأنه لا ثالث. وإليه الإشارة بقوله:"لم يكن له بد من الثواب".

قال في "الانتصاف": "لو بقيت الرحمة على إطلاقها، لما زاد الجزاء على الشرط، لأن صرف العذاب رحمة، فاحتاج إلى أحد التأويلين، فصححه الزمخشري بأن صرف العذاب يستلزم الثواب. ولعمري، قاعدة الاعتزال تلجئه إلى التأويل. وقال القونوي: إن صرف العذاب لا يستلزم الثواب، فأفاد الجزاء إذن فائدة لم تفهم من الشرط".

وقلت: لا يلجئه إلى التأويل سوى اتحاد الجزاء مع الشرط، وكونه مطلقاً، فتارةً قيد الرحمة بالعظمي، وأخرى بالجنة.

ص: 41

وقرئ: "من يصرف عنه" على البناء للفاعل، والمعنى: من يصرف الله عنه في ذلك اليوم فقد رحمه، بمعنى: من يدفع الله عنه ويحفظه، وقد علم من المدفوع عنه. وترك ذكر المصروف، لكونه معلوماً أو مذكوراً قبله وهو العذاب. ويجوز أن ينتصب (يومئذ) بـ"يصرف" انتصاب المفعول به، أي: من يصرف الله عنه ذلك اليوم- أي: هَوْلَه- فقد رحمه. وينصر هذه القراءة قراءة أبىّ رضى الله عنه: "من يصرف الله عنه".

[(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)].

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ) من مرض أو فقر أو غير ذلك من بلاياه،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "من يصرف عنه" على البناء للفاعل) أبو بكر، وحمزة، والكسائي.

قوله: (وقد علم من المدفوع عنه) يعني: من منهم، ولم يبينه، لأنه علم أن الذي يدفع عنه العذاب لا يكون غير المكلف، ولذا ترك ذكر المصروف، وهو العذاب، لأن المقام لا يقتضي غيره.

قوله: ({بِضُرٍ {من مرضٍ أو فقرٍ، أو غير ذلك)، الراغب: "الضر: سوء الحال، إما في النفس، لقلة العلم والفضل والعفة، وإما في البدن، لعدم جارحه، ونقص، ومرض، وإما في حالة ظاهرة من قلة مالٍ وجاه. وقوله تعالى: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ {[الأنبياء: 84]

ص: 42

فلا قادر على كشفه إلا هو، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) من غنى أو صحة، (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكان قادراً على ادامته أو إزالته.

[(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)].

(فَوْقَ عِبادِهِ) تصوير للقهر والعلوّ بالغلبة والقدرة، كقوله:(وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ)[الأعرافك 127].

[(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)].

"الشيء": أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فيقع على القديم والجرم والعرض والمحال والمستقيم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يحمل عليها. ورجل ضرير: كناية عن فقد بصره. والضرة: أصلها الفعلة التي تضر، لاعتقادهم أنها تضر بالمرأة الأخرى. والإضرار: حمل الإنسان على ما يضره. وهو في التعارف: حمله على أمرٍ يكرهه".

قوله: (فكان قادراً على إدامته أو إزالته). يريد أن قوله: {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {جواب للشرط مقابل لقوله: {فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ {. وكان من الظاهر أن يقال: فلا راد لفضله، كما جاء في قوله تعالى: {وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ وإن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ {[يونس: 107]. لكن جيء به هاهنا عاماً ليشمل ذلك وغيره، وليتصل به قوله: {وهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ {.

ص: 43

ولذلك صحّ أن يقال في الله عز وجل: شيء لا كالأشياء، كأنك قلت: معلوم لا كسائر المعلومات، ولا يصح: جسم لا كالأجسام.

وأراد: أي شهيدٍ (أَكْبَرُ شَهادَةً)، فوضع "شيئاً" مقام "شهيد" ليبالغ في التعميم، (قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولذلك صح أن يقال في الله تعالى: شيء لا كالأشياء). نقل الإمام عن جهم أنه كان ينكر كونه تعالى شيئًا، ويحتج بقوله تعالى: {ولِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى {[الأعراف: 180]، ويقول:"إذا دل اسم على صفةٍ من صفات الكمال، يطلق عليه، والشيء ليس كذلك، فلا يجوز إطلاقه عليه".

دليل الجمهور هذه الآية، وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وجْهَهُ {[القصص: 88]، استثنى من {كُلِّ شَيْءٍ {ذاته، ولأن لفظ "الشيء" أعم الأشياء، فيشمل الواجب والممكن. فالنزاع لفظي.

قوله: (ليبالغ بالتعميم)، وذلك أنه لو قيل: أي شهيدٍ أكبر شهادة؟ خص بالشاهد المتعارف، ومن يقال له:"شهيد" فيعم، ليعرض ما يصلح للشهادة من أي جنس كان، متعارفاً وغير متعارف، فيكون أدخل في المبالغة.

ص: 44

يحتمل أن يكون تمام الجواب عند قوله: (قُلِ اللَّهُ)، بمعنى: الله أكبر شهادة، ثم ابتدئ:(شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي: هو شهيد بيني وبينكم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن يكون تمام الجواب عند قوله تعالى: {قُلِ الله {، فهو أيضاً من باب قوله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ قُل لِّلَّهِ {[الأنعام: 12].

وأما قضية النظم على هذا، فهي أنه تعالى لما افتتح السورة بدلائل الآفاق والأنفس، وقرن معهما حججاً شتى، نبه بهذه الآية على أن كل ذلك شهادة من الله على إثبات توحيده، وعلمه، وقدرته، وسائر الصفات المستتبعة، لأن نصب الأدلة، وإقامة البراهين والحجج، هو الأصل فيها. ولهذا فصل شهادة الله عن شهادة الغير في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ والْمَلائِكَةُ وأُوْلُوا العِلْمِ {[آل عمران: 18]. يعني: من يقدر على مثل هذه الأشياء إلا الله، حتى يكون أكبر شهادةً منه؟

ثم جعل ذلك مخلصاً ووسيلةً إلى إثبات رسالته صلوات الله عليه بقوله: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ {. يعني: مثل هذا الشاهد العظيم الشأن، الباهر القدرة، يشهد بيني وبينكم، وهو مصدق لدعواي بأني رسول حق، وكلامي صدق، وشهادته لي بأن أنزل على هذا الكتاب الكريم، المعجز، الفائق، الهادي إلى الطريق المستقيم. وإليه الإشارة بقوله: {وأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ ومَن بَلَغَ {، أي: لأثبت دعواي به، وأنذركم؛ فأعظم بمشهودٍ له من هذه صفات شاهده!

ثم أنكر عليهم الإنكار البليغ بقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى {[الأنعام: 19]، يعني: بعد توضيح هذه الدلالات، وتبيين هذه الآيات البينات، أنتم ثابتون مستقرون على ما كنتم عليه؟ ما أشد شكيمتكم، وأعظم عنادكم! وإليه الإشارة بقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ {تقرير لهم، مع إنكارٍ واستبعاد.

ص: 45

وأن يكون (اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) هو الجواب، لدلالته على أنّ الله عز وجل إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيدٍ له.

(وَمَنْ بَلَغَ) عطفٌ على ضمير المخاطبين من أهل مكة. أي: لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل: من الثقلين. وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم.

(أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ) تقرير لهم مع إنكار واستبعاد، (قُلْ لا أَشْهَدُ) شهادتكم.

[(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم قوله: {قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ واحِدٌ وإنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ {[الأنعام: 19] أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم، والتبري من شركهم، والتبتل إلى الله تعالى، لأن ذلك سنة أبيه إبراهيم، فإنه بعد ما أنذر وبالغ فيه، قال: {وأَعْتَزِلُكُمْ ومَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وأَدْعُو رَبِّي {[مريم: 48].

وبعد الاحتجاج عليهم بالكواكب، قال: {إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ {[الأنعام: 78 - 79].

قوله: (وأن يكون {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ {هو الجواب)، أي: المجموع. فعلى هذا هو من الأسلوب الحكيم. يعني: شهادته معلومة، كما سبق، لا كلام فيه، وإنما الكلام في أنه شاهد لي عليكم، مبين لدعواي بإنزال هذا الكتاب الكريم. وإذا ثبت أن الله تعالى شاهد لي، يلزم ما قال المصنف:"فأكبر شيء شهادةً شهيد له".

قوله: (وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة). قال القاضي: "هو دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله، ومن بعدهم، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه".

ص: 46

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني: اليهود والنصارى، يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين معرفة خالصة، (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بحلاهم ونعوتهم، لا يخفون عليهم ولا يلتبسون بغيرهم. وهذا استشهادٌ لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوّته.

ثم قال: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) من المشركين ومن أهل الكتاب الجاحدين (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) به، ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهذا استشهاد لأهل مكة)، أي: هذا الكلام استشهاد لأجل أهل مكة.

ووزان هذا مع ما قبله وزان قوله تعالى: {ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ ومَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ {[الرعد: 43]. قال: " {كَفَى بِاللَّّهِ شَهِيدًا {، لما أظهر من الأدلة على رسالتي، {ومَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ {من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا".

ولكن هذا خاص ابتداءً، وما نحن بصدده عام مخصص بقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ {. وبيانه: أنه تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أولً بأن يقول للكافرين: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ وأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القُرْآنُ {إثباتاً لنبوته، بكونه تعالى أظهر هذا الكلام المعجز دلالةً عليها، ثم ثنى بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ {[البقرة: 146] تقريراً وتوكيداً، ثم قدر للمشركين أن يقولوا: إن أكثر أهل الكتابين لا يشهدون بذلك، فيجابوا بقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم {: من المشركين ومن أهل الكتاب"، يعني كما أن الكفار عرفوه حق معرفته، بالمعجزات القاهرة، أنه رسول من الله، صادق فيما جاء به، ثم كابروا وعاندوا، كذلك أكثر أهل الكتابين: عرفوه بحليته ونعته الثابت في الكتابين، فهم فيه سواء. والله أعلم.

ص: 47

جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح، حيث قالوا:(لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا)[الأنعام: 148]، وقالوا:(وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها)[الأعراف: 28]، وقالوا:"الملائكة بنات الله"، و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ) [يونس: 18]، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (جمعوا بين أمرين متناقضين)، فيه جمع، وتقسيم، وتفسير، فالجمع قوله:"جمعوا بين أمرين متناقضين"، والتقسيم: قوله: "فكذبوا على الله ما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة". وقوله: "حيث قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا {[الأنعام: 148]، إلى قوله: "تحريم البحائر والسوائب" تفسير لقوله: فكذبوا على الله". وقوله: "وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات، وسموها سحراً، ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم" تفسير لقوله: "وكذبوا بما ثبت بالحجة".

ص: 48

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبيان التناقض أنهم نسبوا إلى الله تعالى ما لم ينزل به سلطاناً، فصدقوه، وعزلوا عن الله تعالى ما كان منسوباً إليه، من القرآن والآيات والرسول، فكذبوا بها.

وفي قوله: "بين أمرين متناقضين" تسامح. قال القاضي: "إنما ذكر: {أَوّ {بمعنى الواو، كقوله تعالى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا {[المرسلات: 6].

وفي كلامه رائحة من الاعترال

ثم الأحسن والأوفق لتأليف النظم أن تستنبط هذه المعاني من الآيات الثلاث، فقوله: {إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {أصله: لا يفلح الكافرون، لأنه تذييل وتأكيد لما سبق، وليس فيه إلا حديث الكذب والتكذيب، فعلم منه أن دأبهم الكذب، وأنهم ليسوا من الصدق في شيء.

ثم قوله: {واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {: بيان لدأبهم وعادتهم. وقوله: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ {، وقوله: {وضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ {: بيان لكذبهم على الله، كقوله: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ {[يونس: 18]. وقوله: {وإن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا {، إلى قوله: {إنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {: بيان لتكذيبهم بآيات الله.

ص: 49

وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات، وسموها سحراً، ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.

[(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ* ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ* انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)].

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) ناصبه محذوف، تقديره: ويوم نحشرهم كان كيت وكيت، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو داخل في التخويف، (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) أي: آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وذهبوا فكذبوا القرآن)، الأساس:"ومن المجاز: ذهب على كذا: نسيته. وذهب الرجل في القوم، والماء في اللبن: ضل".

قوله: ({ويَوْمَ نَحْشُرُهُمْ {: ناصبه محذوف)، إلى قوله:(كان كيت وكيت)، أي: مما لا يدخل تحت الوصف.

ورأيت أيها المخاطب أمراً فظيعاً، يسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه تعالى لما أرشده صلوات الله عليه إلى توبيخ المشركين، بقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى {، ثم أمره بأن يواجههم بكلمة المتاركة والموادعة، وهي قوله: {وإنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ {، شرع يسليه بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ {، إلى قوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {. يعني: إن كان أولئك الخاسرون لا يعرفونك، ولا يؤمنون بما جئت به، فالمؤمنون من أهل الكتابين يعرفونك حق المعرفة. وفي قوله:"هذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به" إيماء إلى ذلك.

ص: 50

وقوله: (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) معناه: تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان.

وقرئ: "يحشرهم"، "ثم يقول"؛ بالياء فيهما. وإنما يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ.

ويجوز أن يشاهدوهم، إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة، فكأنهم غيب عنهم، وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها، فيروا مكان خزيهم وحسرتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم قال: {إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {، أي: لا يفوزون في الدنيا بمباغيهم، بل يخسرون أنفسهم، وتستأصلون شأفتهم بأيديكم، ثم يوم القيامة أدهي وأمر.

قوله: (فكأنهم غيب). الغيب: ما غاب عنك. وجمع الغائب: غيب، وغياب، وغيب أيضاً. وإنما تثبت فيه الياء مع التحريك، لأنه شبه بـ"صيد"، وإن كان جمعاً، وصيد: مصدر قولك: بعير أصيد.

قوله: (وأن يحال بينهم) عطف على "أن يشاهدوهم". وقوله: "ويجوز أن يشاهدوهم" على قوله: "وإنما يقال لهم ذلك على جهة التوبيخ".

يعني: إنما يقال للمشركين: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ {على سبيل التوبيخ، كقوله تعالى: {ولَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ {، إلى قوله: {ومَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ {[الأنعام: 94].

أو يقال لهم وهم يشاهدونهم على سبيل التعيير، أي: ادعيتم أن هؤلاء شركاؤنا، فيشفعون لنا عند الله، فأين شفاعتهم؟ كما تقول للمهدد، ومعه صاحبه، وقد ادعى أنه يعينه في الشدائد، وقد وقع فيها وخذله:"أين زيد؟ " فجعلته، لعدم نفعه وإن كان حاضرًا، كالغائب.

ص: 51

(فِتْنَتُهُمْ): كفرهم، والمعنى: ثم لم تكن عاقبة كفرهم - الذي لزموه أعمارهم، وقاتلوا عليه وافتخروا به، وقالوا دين آبائنا- إلا جحوده والتبرؤ منه، والحلف على الانتفاء من التدين به. ويجوز أن يراد: ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا فسمى فتنة، لأنه كذب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أو يقال لهم حين يحال بينهم وبينهم، كما تقول لمن ادعى أن له ناصراً ينصره، ويدفع عنه المكاره، وقد جاء لنصرته، فطمع في ذلك، فضربت الحيلولة بينه وبينه، ثم قلت: أين ناصرك الذي علقت به الرجاء؟ ادعه! لتريه تحسره وخيبته.

ومنه قول الشاعر:

كما أبرقت قوماً عطاشاً غمامة

فلما رأوها أقشعت وتجلت

لذلك قال: "علقوا بهم الرجاء فيها".

الوجه الأول حقيقة، والثاني مجاز، والثالث كالأول.

قوله: (لأنه كذب). يعني: إنما سمي الجواب فتنةً، لأن قولهم: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {كان كذباً، والكذب سبب لإيقاع الإنسان في الفتنة وورطة الهلاك. فعلى هذا، قولهم: {واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {مجرى على ظاهره. و"ثم" للتراخي في الرتبة.

يعني: أن جوابهم هذا أعظم في تصورهم من توبيخنا إياهم بقولنا: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ {؟ وهذا هو الداعي إلى وضع الفتنة موضع الجواب.

ص: 52

وقرئ: (تكن) بالتاء، و"فتنتهم" بالنصب، وإنما أنث "أَنْ قالُوا" لوقوع الخبر مؤنثاً، كقولهم: من كانت أمّك؟ وقرئ بالياء ونصب "الفتنة"، وبالياء والتاء مع رفع "الفتنة"،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعلى الأول قولهم: {واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {كناية عن التبري عنهم، وانتفاء التدين به، و"ثم" مجرى على ظاهره، لقوله:"ثم لم تكن عاقبة كفرهم".

قوله: (وقرئ: {تَكُن {بالتاء) - المنقوطة فوقها نقطتان - (و"فتنتهم" بالنصب). ذكر فيه ثلاث قراءات، أولها: لحمزة والكسائي، وثانيتها: شاذة، وثالثتها: لحفص، وابن كثير، وابن عامر.

قال الزجاج: "إن نضب "فتنة" على خبر {تَكُن {، و {أَن قاَلُوا {: الاسم، فأنثت {تَكُن {، وفاعله: {أَن قاَلُوا {، لأن {أَن قاَلُوا {هو الفتنة، ويجوز: "إلا مقالتهم" وهو مؤنث. ويجوز رفع "الفتنة" على اسم {تَكُن {، و {أَن قاَلُوا {: الخبر. ويجوز: "لم يكن" على التذكير، والفاعل {أَن قاَلُوا {. ويجوز على التذكير، والفاعل "فتنتهم" على تأويل الافتتان. وتأويل الآية حسن لطيف، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام، وتصرف العرب.

ومثلها أن ترى إنساناً يحب غاوياً، فإذا وقع في هلكةٍ تبرأ منه، فيقال له: ما كانت محبتك لفلانٍ إلا أن تبرأت منه".

وقال صاحب "التقريب" في الاستشهاد بقوله: "من كانت أمك" نظر، لأن "من" يذكر ويؤنث.

ص: 53

وقرئ: "ربنا" بالنصب على النداء.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ): وغاب عنهم، (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي: يفترون إلهيته وشفاعته.

فإن قلت: كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور، وعلى أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً؛ ألا تراهم يقولون: (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ)[المؤمنون: 107]، وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه، وقالوا:(يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ)[الزخرف: 77]، وقد علموا أنه لا يقضى عليهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأجيب: أن "من" إنما يؤنث ويذكر باعتبار مدلوله، وإبهامه، وشيوعه، كالمشترك. وأما لفظه فليس إلا مذكراً.

روى المصنف عن سيبويه: "إنما يخرج التأنيث من التذكير، ألا ترى أن "الشيء" يقع على ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى! والشيء مذكر وهو أعم العام".

قوله: (وقرئ: "ربنا" بالنصب): حمزة والكسائي.

قوله: (أي: يفترون إلهيته وشفاعته). خص هذا التقدير، لأن قولهم: {واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {جواب عن قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ {، أي: أين آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله، وزعمتم أنهم يشفعون لكم؟ حتى يخلصوكم الآن مما أنتم فيه من ورطات الهلاك. و {مَّا {في {ومَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {موصولة، فحذف المضاف أولاً، فصار:"يفترونه"، ثم حذف الضمير الراجع.

ص: 54

وأما قول من يقول: معناه: ما كنا مشركين عند أنفسنا، وما علمنا أنا على خطأٍ في معتقدنا، وحملُ قوله:(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) يعني: في الدنيا، فتمحل وتعسف وتحريفٌ لأفصح الكلام إلى ما هو عيّ وإقحام؛ لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا منطبقٍ عليه، وهو نابٍ عنه أشدّ النبوّ، .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأما قول من يقول: معناه: ما كنا مشركين) إلى آخره: إشارة على خلاف. قال الإمام: "للناس فيه قولان، الأول: قول أبي علي الجبائي والقاضي: أن أهل المحشر لا يجوز إقدامهم على الكذب، لأنهم يعرفون الله بالاضطرار، فيلجؤون إلى ترك القبيح، وأقبح القبائح القول بالكذب، وأتمه الحلف عليه. فإذا يحمل قوله تعالى: {واللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {على: ما كنا في اعتقادنا وظنونا مشركين، لأنهم كانوا معتقدين أنهم كانوا موحدين. ويحمل قوله: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ {[الأنعام: 24] في الدنيا في أمورٍ كانوا يخبرون عنها، كقولهم: إنهم على صواب، وإن ما هم عليه ليس بشرك، والكذب يصح عليهم في الدنيا.

والثاني قول الجمهور: إن الكذب عليهم في الآخرة جائز، بل واقع. واستدلوا بآيات كثيرة.

وأما حمل هذه الآية على أن المراد: ما كنا مشركين في ظنوننا واعتقادنا، فمخالفة للظاهر، وقوله: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ {على أنهم كذبوا في الدنيا، يوجب تفكك النظم، وصرف أول الآية إلى أحوال القيامة، وآخرها إلى أحوال الدنيا".

وهو المراد من قول المصنف: "وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عي وإفحام".

ص: 55

وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ)[المجادلة: 18]، بعد قوله:(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[المجادلة: 14]، فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا؟ !

[(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ* وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)].

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) حين تتلوا القرآن، روي: أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهلٍ وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة، ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته - يعني: الكعبة - ما أدري ما يقول، إلا أنه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين، مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان: إني لأراه حقاً. فقال أبو جهل: كلا! فنزلت.

والأكنة على القلوب، والوقر في الآذان: مثل في نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ {). "من": موصوله، وهو فاعل "يصنع"، وذلك أنه تعالى قال في حق المنافقين: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ ولا مِنْهُمْ ويَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وهُمْ يَعْلَمُونَ {[المجادلة: 14]. يعني: تولوا اليهود وناصحوهم، ثم قالوا للمسلمين: والله إنا لمسلمون. ثم قال بعده: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ {[المجادلة: 18]. قال المصنف: "فيحلفون لله على أنهم مسلمون في الآخرة، كما يحلفون لكم في الدنيا"، وهو المراد من قوله هاهنا:"فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا".

قوله: (والوقر في الآذان: مثل في نبو قلوبهم)، أي: استعارة. قال الزجاج: "الوقر بالفتح: ثقل في السمع. يقال: فلان في أذنه وقر. وقد وقرت الأذن توقر. قال الشاعر:

ص: 56

ووجه إسناد الفعل إلى ذاته - وهو قوله: (وَجَعَلْنا) - للدلالة على أنه أمر ثابتٌ فيهم لا يزول عنهم، كأنهم مجبولون عليه، أو هي حكايةٌ لما كانوا ينطقون به من قولهم:(وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ)[فصلت: 5].

وقرأ طلحة: "وقراً"؛ بكسر الواو.

(حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) هي "حتى" التي تقع بعدها الجمل، والجملة قوله: (إِذا جاؤُكَ

يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكلام سيءٍ قد وقرت

أذني منه وما بي من صمم

والوقر بكر الواو: أن يحمل البعير أو غيره مقدار ما يطيق. تقول: عليه وقر".

قوله: (ووجه إسناد الفعل إلى ذاته - وهو قوله: {وَجَعَلْنَا {- للدلالة على أنه أمر ثابت)، وهذا هو أول الوجوه المذكورة في إسناد {خَتَمَ {إلى {الله {في "البقرة".

وقوله: (أو هي حكاية) هو من آخر الوجوه المذكورة هناك، وهو من باب المشاكلة، وقد حققنا القول فيها.

قوله: (والجملة قوله: {إذَا جَاءُوكَ

يَقُوُل {)، أي: الجملة: {إذَا جَاءُوكَ {، وجوابه وهو: {يَقُوُل {. وقوله: {يُجَادِلُونَكَ {: حال"، أي: لمجيئهم.

ص: 57

و (يُجادِلُونَكَ) في موضع الحال، ويجوز أن تكون الجارة، ويكون (إذا جاءوك) في محل الجرّ، بمعنى: حتى وقت مجيئهم، و (يجادلونك) حال.

وقوله: (يقول الذين كفروا) تفسيرٌ له، والمعنى: أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك، وفسر مجادلنهم بأنهم يقولون:(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)، فيجعلون كلام الله - وأصدق الحديث- خرافاتٍ وأكاذيب، وهي الغاية في التكذيب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المعنى: حتى إذا جاؤوك مجادلين يقولون: {إنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {. فوضع {الَّذِينَ كَفَرُوا {موضع الضمير، ليشعر بأن مجيئهم على تلك الحالة كفر وعناد، وقولهم كذب بحت.

قوله: (حتى وقت مجيئهم)، يعني:"حتى": إما حرف ابتداء، وبعده الجملة الشرطية. قال أبو البقاء:" {إِذَا {في موضع نصب بجوابها، وهو {يَقُوُل {، وليس لـ {حَتَّى {هاهنا عمل، وإنما أفادت معنى الغاية، كما لا تعمل في الجمل".

أو حرف جر بمنزلة "على"، فعلى هذا لها عمل. و {يَقُوُل {جملة مفسرة لقوله: {يُجَادِلُونَكَ {، لأن المجادلة هي قولهم: {إنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {، و"حتى" غايةُ هذه الحالة الفظيعة.

يعني بلغ تماديهم في الطغيان، وتكذيب آيات الله في الأزمنة الماضية، على سبيل التدرج والاستمرار، إلى حد انتهي إلى هذا الزمان، وهذا الطغيان، وهو مجيئهم إليك، وتكذيبهم هذه الآية البينة، والحجة الساطعة.

قوله: (خرافاتِ وأكاذيب)، العطف تفسيري. الجوهري: "خرافة: اسم رجلٍ من

ص: 58

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ) الناس عن القرآن أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام واتباعه، ويثبطونهم عن الإيمان به، (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) بأنفسهم، فيضلون ويضلون، (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) بذلك (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)، ولا يتعداهم الضرر إلى غيرهم، وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو أبو طالب، لأنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأي عنه فلا يؤمن به. وروي: أنهم اجتمعوا إلى أبي طالبٍ وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً. فقال:

وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم

حَتَّي أُوَسَّدَ فِى التُّرَابِ دَفِينَا

فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ

وَأَبْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا

ودَعَوْتَنِى وَزَعَمْتَ أنَّكَ نَاصِحٌ

وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أمِينَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عذرة استهوته الجن، فكان يحدث ما رأي، فكذبوه، وقالوا: حديث خرافة. والراء فيه مخففة".

قوله: (وقيل: هو أبو طالب): عطف على قوله: ({وهُمْ يَنْهَوْنَ {الناس)، أي: الناهون إما جميع المشركين، وإما أبو طالب، وإنما أتي بضمير الجماعة استعظاماً لفعله.

قوله: (والله لن يصلوا إليك بجمعهم)، الأبيات.

ص: 59

وَعَرَضْتَ دِيناً لَا مَحَالَةَ أنَّهُ

مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا

لَوْلَا الْمَلَامَةُ أوْ حذَارِىَ سُبَّةٌ

لَوَجَدْتَنِى سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا

فنزلت.

[(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)].

(وَلَوْ تَرى) جوابه محذوف، تقديره: ولو ترى لرأيت أمراً شنيعاً، (وُقِفُوا عَلَى النَّارِ): أروها حتى يعاينوها، أو أُطلعوا عليها إطلاعاً هي تحتهم، أو أُدخلوها فعرفوا مقدار عذابها؛ من قولك: وقفته على كذا؛ إذا فهمته وعرفته، وقرئ:"وقفوا" على البناء للفاعل، من وقف عليه وقوفاً، (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) تم تمنيهم، ثم ابتدؤوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أوسد: من الوسادة، أي: أوسد يميني في رمسي. دفيناً: منصوب على الحال. فأصدع بأمرك: أي: أظهر بأمرك، أي: بدينك. غضاضة: منقصة، وهي: ما إذا سمعه الإنسان غض عليه بصره. وقر منه: أي: من أجل ذلك. أراد بالعيون: العينين، على أن أقل الجمع اثنان، أو عيون المسلمين.

قوله: (تم تمنيهم ثم ابتدؤوا)، قال صاحب "المرشد": التقدير: يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب، ونحن من المؤمنين رددنا أو لم نرد. فلا يدخلان في جملة التمني، ويرتفعان على استئناف خبر. وعلى هذا يجوز أن تقف على قوله: {نُرّدُ {، ثم تَبتدئ، فنقول:"ولا نكذب" أي: لا نكذب أبداً، ونكون من المؤمنين أبداً. وهو وقف بيان. ووجه آخر: وهو أن يكون

ص: 60

(وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) واعدين الإيمان، كأنهم قالوا: ونحن لا نكذب، ونؤمن على وجه الإثبات. وشبهه سيبويه بقولهم: دعني ولا أعود، بمعنى دعني وأنا لا أعود، تركتني أو لم تتركني، ويجوز أن يكون معطوفاً على (نردّ)، أو حالاً على معنى: يا ليتنا نردّ غير مكذبين وكائنين من المؤمنين، فيدخل تحت حكم التمني.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التقدير: يا ليتنا نرد، ويا ليتنا لا نكذب، ويا ليتنا نكون من المؤمنين، أي: نوفق للتصديق، وألا نكذب. ولا وقف على هذا إلى قوله:"مؤمنين".

قوله: (واعدين الإيمان): حال من فاعل "ابتدؤوا"، أي: ثم ابتدؤوا قائلين: نحن لا نكذب بآيات ربنا، على سبيل الوعد. يقال: كذبه، وكذب به.

قوله: (دعني ولا أعود)، قال صاحب "الإقليد"، وهو كالشرح لكلام ابن الحاجب: "إنما ذكر هذا الرفع، لتعذر النصب والجزم على العطف، أما لانصب فيفسد المعنى، إذ المعنى على هذا: ليجتمع تركك لي وتركي لما تنهاني عنه. وقد علم أن طلب هذا المتأدب لترك المؤدب إياه، إنما هو في الحال بقرينة ما عراه من ألمه بتأديب مؤدبه، وغرض المؤدب الترك لما نهي عنه في المستقبل. ولا يحصل هذا الغرض بترك المتأدب المنهي عنه في الحال، وإنما يحصل بالترك للعود في المستقبل، ولا يستقيم الجزم، لأنه إذا جزم عطف، أدى إلى عطف المعرب على المبني، وهو ممتنع، إذ العطف لاشتراك الشيئين في الإعراب، ولا موضع للأول حتى يحمل عليه.

وأما امتناع الجزم في "ولا أعود"، فلما فيه من عطف الجملة المنهية على الأمرية. فكأنه قال" "دعني" ثم شرع في جملةٍ أخرى ناهياً لنفسه عن العود، لأنه لا يلزم من النهي تحقق الامتناع، ولذا لم يأت التناقض في قولك: أنا أنهي نفسي عن كذا في كل وقتٍ ثم أفعله، كما أتى

ص: 61

فإن قلت: يدفع ذلك قوله: (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)؛ لأنّ المتمني لا يكون كاذباً.

قلت: هذا تمنّ قد تضمن معنى العدة، فجاز أن يتعلق به التكذيب، كما يقول الرجل: ليت الله يرزقني مالاً فأحَسن إليك وأكافئك على صنيعك، فهذا متمنّ في معنى الواعد، فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب، كأنه قال: إن رزقني الله مالاً كافأتك على الإحسان.

وقرئ: (ولا نكذب

ونكون) بالنصب بإضمار أن على جواب التمني، ومعناه: إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التناقض في قولك: أنا لا أفعل كذا في كل وقتٍ ثم أفعله، والمقصود نفي وقوع العود في المستقبل. ولا يحصل هذا إلا بالخبر".

قوله: (وقرئ: {وَلَا تُكَذْبَ .... وَنكُونَ {بالنصب): حمزة وحفص. قال الزجاج: "النصب على {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ

ونكون {على الجواب بالواو في التمني، كما تقول:"ليتك تصير إلينا ونكرمك" أي: ليت مصيرك يقع وإكرامك. المعنى: ليت ردنا وقع وألا نكذب، أي: إن رددنا لم نكذب".

وقال القاضي: "والجواب بإضمار "أن" بعد الواو، إجراء لها مجرى الفاء. وقرأ ابن عامر برفع الأول على العطف، ونصب الثاني على الجواب".

ص: 62

(بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم؛ فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً، لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا. وقيل: هو في المنافقين، وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه. وقيل: هو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(وَلَوْ رُدُّوا) إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار، (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) من الكفر والمعاصي، (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون به.

[(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وبشهادة جوارحهم) عطف على قوله: (في صحفهم)، وهو ظرف لقوله: {بَدَا لَهُم {. المعنى: بل بدا لهم في صحفهم، وبسبب شهادة جوارحهم عليهم، ما كانوا يخفون من الناس.

قوله: (لا أنهم عازمون على أنهم لو ردوا لآمنوا)، يعني: {بَلْ {: إضراب عن معنى تمنيهم الباطل الناشئ من إبداء ما يفضحهم، وهو: إن رددنا لم نكذب، أي: ليس ذلك من عزم صحيح، بل هو من إبداء ما افتضحوا به.

قال الواحدي: " {بَلْ {: هاهنا رد لكلامهم؛ يقول الله: ليس الأمر كما قالوا من أنهم لو ردوا لآمنوا".

قوله: ({وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون به)، قال الزجاج: "المعنى: أن أكثر من عاند من اليهود والمشركين قد علم أن أمر الله حق، فركن إلى الرفاهية، وأن الشيء متأخر عنهم إلى أمد، كما فعل إبليس، فاعلم الله أنهم لو ردوا لعادوا، لأنهم قد كفروا بعد وضوح الحجة.

ص: 63

(وَقالُوا) عطف على (لعادوا)، أي: ولو ردّوا لكفروا ولقالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة. ويجوز أن يعطف على قوله: (وإنهم لكاذبون)، على معنى: وإنهم لقومٌ كاذبون في كل شيء، وهم الذين قالوا:(إن هي إلا حياتنا الدنيا)، وكفى به دليلاً على كذبهم.

[(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ* قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ)].

(وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) مجازٌ عن الحبس للتوبيخ والسؤال،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وروى بعضهم أنه صلوات الله عليه سئل، فقيل له: ما بال أهل النار، عملوا في عمر قصير، فخلدوا في النار، وأهل الجنة كذا، فخلدوا في الجنة؟ فقال:"إن الفريقين كان كل واحدٍ منهما لو أنه عاش أبداً عمل بذلك العمل".

قوله: (ويجوز أن يعطف على قوله: {وإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {، هو من عطف الخاص على العام، وإنما قدر المبتدأ، وأوقع "قالوا" صلة للموصول، وجعل الصلة مع الموصول خبراً، ليوازي المعطوف عليه المؤكد، وليشنع عليهم هذا الكذب الخاص.

قوله: ({وقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ {: مجاز عن الحبس)، يعني: لا يجوز أن يقال: وقف على الله

ص: 64

كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاتبه. وقيل: وقفوا على جزاء ربهم. وقيل: عرفوه حق التعريف، (قالَ) مردودٌ على قول قائلٍ قال:ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل: (قال أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ)، وهذا تعيير من الله تعالى لهم على التكذيب وقولهم لما كانوا يسمعون من حديث البعث والجزاء: ما هو بحق، وما هو إلا باطل.

(بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ): بكفركم بلقاء الله ببلوغ الآخرة وما يتصل بها. وقد حقق الكلام فيه في مواضع أُخر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حقيقة ولا كناية، لأن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة، كما سبق في "آل عمران"، عند قوله: {ولا يَنظُرُ إلَيْهِمْ {[آل عمران: 77] فوجب الحمل على المجازي: أي الاستعارة التمثيلية.

قوله: (وقيل: عرفوه حق التعريف)، هذا مثل تفسيره في قوله: {إذْ وقِفُوا عَلَى النَّارِ {[الأنعام: 27]: "هو من قولك: وقفته على كذا: إذا فهمته وعرفته". والضمير في "عرفوه" للجزاء.

قوله: (مردود)، أي: متعلق أو متوقف على سؤال سائل.

قوله: (ما هو بحق، وما هو إلا باطل)، وإنما قدر كذلك، لأن قوله: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ {[الأنعام: 30] سؤال تقرير، وقد أتي المنكر باسم الإشارة لمزيد التقرير، فيقتضي أن يكون مسبوقاً بإنكارٍ قوي.

قوله: (وقد حقق الكلام فيه): أي في سورة "يونس". قال المصنف في قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا {[يونس: 15]: "فإن قلت: كيف جاز النظر على الله وفيه معنى المقابلة؟ قلت: هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجوداً، شبه بنظر الناظر في تحققه". وفي "العنكبوت" أبسط منه.

ص: 65

و (حَتَّى) غاية لـ (كذبوا) لا لـ (خَسِرَ)، لأن خسرانهم لا غاية له، أي: ما زال بهم التكذيب إلى حسرتهم وقت مجيء الساعة.

فإن قلت: أما يتحسرون عند موتهم؟ قلت: لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدّماتها جعل من جنس الساعة، وسمي باسمها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من مات فقد قامت قيامته» ، أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن خسرانهم لا غاية له)، ويمكن أن يحمل على معنى قوله تعالى: {وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلَى يَوْمِ الدِّينِ {[ص: 78]: أي: إنك مذموم، مدعو عليك باللعنة إلى يوم الدين، ثم إذا جاء ذلك اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه. أي: خسر المكذبون إلى قيام الساعة، بأنواع من المحن والبلاء، فإذا قامت الساعة يقعون فيما ينسون معه هذا الخسران، وذلك هو الخسران المبين، يؤيده قوله:"يا حسرتنا".

قال سيبويه: "كأنه يقول: أيتها الحسرة، هذا أوانك". وقال أبو البقاء: "يا حسرة احضري، هذا أوانك".

والمعنى: تنبيه أنفسهم لتذكر أسباب الحسرة.

وقلت: هذا أقرب من قول المصنف بوجهين: أحدهما: سلامته من ذلك السؤال، وثانيهما: أن قوله: {وهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ {مقارن بهذا التحسر، وهو غير مناسب إلا بالحسر.

قوله: (أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته)، أي: وضع الساعة موضع الموت، لسرعة مجيئها.

ص: 66

(بَغْتَةً) فجأة وانتصابها على الحال بمعنى باغتة، أو على المصدر، كأنه قيل: بغتتهم الساعة بغتة.

(فَرَّطْنا فِيها) الضمير للحياة الدنيا، جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة، أو "للساعة"؛ على معنى: قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها، كما تقول: فرّطت في فلان. ومنه: (فرّطت في جنب الله)[الزمر: 56].

(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) كقوله: (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)[الشورى: 30]؛ لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور، كما أُلف الكسب بالأيدي، (ساءَ ما يَزِرُونَ) بئس شيئاً يزرون وزرهم، كقوله:(ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ)[الأعراف: 177].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الضمير للحياة الدنيا، جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر). فإن قلت: أما سبق قبيل هذا: {وقَالُوا إنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا {[الأنعام: 29] لم لا يجوز أن يعود إليها، ويكون قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ {من وضع الظاهر موضع المضمر؟

قلت: ولا ارتياب أن القائلين لقوله: {إنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا {[الأنعام: 29] هم الناهون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار قريش، كما مر، وأن قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ {إلى قوله: {ولَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ {[الأنعام: 31 - 32] كالاعتراض والتوكيد لما يتضمن معنى الكلام السابق واللاحق من التهديد والوعيد، لاشتماله على جميع من أنكر الحشر، وسوء مغبتهم، وإظهار حسرتهم وندامتهم، ووخامة أمر حياة الدنيا.

وليس المقام من مجاز وضع المظهر موضع المضمر، لأن الاعتراض مستقل بنفسه، لا تعلق له بالسابق إلا من حيث المعنى.

قوله: (كقوله: {سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ {، أي: مثله في تقدير المخصوص، أي: "ساء مثلا

ص: 67

[(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)].

جعل أعمال الدنيا لعباً ولهواً واشتغالا بما لا يعنى ولا يعقب منفعة، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة. وقوله:(لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) دليلٌ على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو. وقرأ ابن عباسٍ رضي الله عنه: "ولدار الآخرة"، وقرئ:(تعقلون) بالتاء والياء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مثل القوم" ليحصل التطابق بين الفاعل والمخصوص بالذم، لأن {مَثَلاً {تمييز، والفاعل مضمر.

قوله: ({لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ {دليل على أن ما سوى أعمال المتقين لعب ولهو). وذلك أن الظاهر أن يقال: {ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَعِبٌ ولَهْوٌ {، وما الدار الآخرة إلا جد وحق، لا باطل زائل. فوضع موضعه: {خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ {إطلاقاً لاسم المسبب على السبب.

يعني: أن حقيقة الدارين معلومة محققة عند من يدعي النهي والحجي، لكن العاقل الذي يستأهل أن يسمى عاقلاً هو من يؤثر ما يعينه وينجيه على ما لا يعينه ويرديه.

وتلخيصه: أن العاقل هو المتقي الذي يرغب عن الدنيا إلى الآخرة.

وفيه تعريض بمن سبق ذكرهم في قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا {[الأنعام: 31]، أي: اشتغلنا بلذات الدنيا عن الآخرة، وكذبنا بمجيء الساعة. وهو إقناط كلي.

ولهذا كانت هذه الآية تتمة للاعتراض، ثم عاد إلى ما سبق من ذكر المشركين، مسليا لحبيبه صلوات الله عليه: {قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ {[الأنعام: 33].

ص: 68

[(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)].

(قَدْ) في (قَدْ نَعْلَمُ) بمعنى «ربما» الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته، كقوله:

أَخُو ثِقَةٍ لَا تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَهُ

وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({قَدْ {في {قَدْ نَعْلَمُ {: بمعنى "ربما" الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته). يعني: أن لفظة "قد" للتقليل، وقد تعني به ضده للمجانسة بين الضدين. مثله "رب" للتقليل، ثم يراد به في بعض المواضع ضده، وهو الكثرة، كقوله تعالى: {رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ {[الحجر: 2].

والنكتة هاهنا تصبير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذي قومه وتكذيبهم، يعني: من حقك، وأنت سيد أولي العزم، ألا تكثر الشكوى من أذي قومك، وألا تعلم الله من إظهارك الشكوى إلا قليلاً.

أو يكون تهكما بالمكذبين، وتوبيخاً لهم، لقوله: {فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ {قوله: (ولكنه قد يهلك المال نائله)، أوله:

أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله

بعده:

تراه إذا ما جئته متهللا

كأنك تعطيه الذي أنت سائله

ص: 69

والهاء في (إِنَّهُ) ضمير الشأن، (لَيَحْزُنُكَ) قرئ بفتح الياء وضمها. (والَّذِي يَقُولُونَ) هو قولهم: ساحرٌ كذاب (لا يُكَذِّبُونَكَ) قرئ بالتشديد والتخفيف، من: كذبه؛ إذا جعله كاذباً في زعمه، وأكذبه، إذا وجده كاذباً. والمعنى: أن تكذيبك أمر راجعٌ إلى الله، لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته، فاله عن حزنك لنفسك،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقول: جوده ذاتي، لا يزيد بالسكر، ولا ينقص بالصحو. متهللاً: أي: ضاحكاً.

قوله: ({لَيَحْزُنُكَ {: قرى بفتح الياء وضمها). نافع: بالضم، وغيره بالفتح.

قوله: ({لا يُكَذِّبُونَكَ {قرئ بالتشديد والتخفيف). التخفيف: نافع والكسائي، والباقون: مشدداً.

قال الزجاج: "معنى كذبته: قلت له: كذبت. وأكذبته: أريته أن ما أتي به كذب".

قوله: (فاله عن حزنك)، الجوهري:"لهيت عن الشيء، بالكسر، ألهي، لهياً ولهياناً: إذا سلوت عنه، وتركت ذكره، وأضربت عنه".

ص: 70

فإنهم كذبوك وأنت صادق، وليشغلك عن ذلك ما هو أهمّ، وهو استعظامك بجحود آيات الله تعالى والاستهانة بكتابه. ونحوه قول السيد لغلامه - إذا أهانه بعض الناس -: إنهم لم يهينوك وإنما أهانونى! وفي هذه الطريقة قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ)[الفتح: 10].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويقال: أله عن الشيء: أي: اتركه.

والمعنى: أضرب عن الاشتغال بحزن نفسك، إلى الاشتغال بحزن ما هو أهم، وهو استعظام جحود آيات الله، والاستهانة بها.

فإن قيل: هذا غير مطابق للمثال والعادة، يقال: إذن تأمل، وقف على المطابقة، فإن قوله: {ولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ {استدراك، وضع فيه مظهران موضع مضمرين، لشدة الخطب وعظم الأمر! وفيه تهديد للظالمين، وتنبيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. كأنه قيل له: اشتغلت بخاصة نفسك، وذهلت عما هو أهم من ذلك، وهو ما تستعظمه من جحود آيات الله، والاستهانة بكتابه، ومن عادتك أن تؤثر حق الله على حق نفسك.

ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط، إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه: وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيءٍ قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم".

وكذلك قول السيد: "وإنما أهانوني" وإن كان تهديداً للجاني، لكن فيه ردع للغلام عن تركه الأولى، وهو استعظام إهانة السيد.

ص: 71

وقيل: (فإنهم لا يكذبونك) بقلوبهم، ولكنهم يجحدون بألسنتهم.

وقيل: (فإنهم لا يكذبونك) لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق، ولكنهم يجحدون بآيات الله. وعن ابن عباسٍ رضى الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين، فعرفوا أنه لا يكذب في شيء، ولكنهم كانوا يجحدون، وكان أبو جهلٍ يقول: ما نكذبك وإنك عندنا لمصدق، وإنما نكذب ما جئتنا به.

وروي: أنّ الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس عندنا أحدٌ غيرنا؟ فقال له: والله إن محمداً لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قُصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوّة؛ فماذا يكون لسائر قريش؟ ! فنزلت.

وقوله: (وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ) من إقامة الظاهر مقام المضمر، للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: {فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ {بقلوبهم) عطف على قوله: "والمعنى: أن تكذيبك أمر راجع إلى الله". فعلى هذا معنى قوله: "يجحدون بألسنتهم" هو قولهم: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ {[ص: 4].

قوله: (وقيل: {فَإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ {، معنى قولهم: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ {: لا يريدون به تكذيبك، "لأنك عندهم الصادق"، ولكن مرادهم به أن ما جئت به من الآيات سحر وكذب، وهو المراد بقول أبي جهل: إنك عندنا لمصدق، وإنما نكذب ما جئتنا به.

والوجه هو الأول، لقوله: {ولَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا {، فإنه عزاء وتسليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يليق بالوجهين الآخرين.

قوله: (باللواء والسقاية والحجابة): أي: والسدانة. النهاية: "سقاية الحاج: هي ما كانت

ص: 72

[(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ)].

(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ) تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أن قوله:(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ)[الأنعام: 33] ليس بنفي لتكذيبه، وإنما هو من قولك لغلامك: ما أهانوك ولكنهم أهانوني، (عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا): على تكذيبهم وإيذائهم، (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ): لمواعيده؛ من قوله: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ)[الصافات: 171 - 172].

(وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ): بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين.

[(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَاتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ* إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)].

كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزل: (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ)[الشعراء: 3]، (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص: 56]، (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء. وكان يليها العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام".

"واللواء: الراية، ولا يمسكها إلا صاحب الجيش".

"والسدانة: سدانة الكعبة: وهي خدمتها، وتولي أمرها، وفتح بابها وإغلاقه".

وفي نسخةٍ بدل "الحجابة": "السدانة". قالت بنو قصي: فينا الحجابة، يعنون حجابة البيت، وهي: سدانتها.

ص: 73

إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ): منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها، (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَاتِيَهُمْ) منها (بِآيَةٍ) فافعل، يعني: أنك لا تستطيع ذلك. والمراد: بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآيةٍ من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({فَتَأتِيَهُم {[منها] {بِأَيَةٍ {فافعل). "فافعل": جواب لقوله: {فَإنِ اسْتَطَعْتَ {، وهو مع جوابه: جواب لقوله: {وإن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْرَاضُهُمْ {. ثم من الجائز أن تعبر عن هذا المحذوف بالإخباري تارة، وبالإنشائي أخرى. ففيه وجوه ثلاثة:

أحدها: المقدر: "أتيت" على الإخبار. وعنه بني قوله: "لأتي بها"، لأنه جعل "إن" بمعنى "لو"، ليؤذن أن فيه تعليق إسلام قومه بالمحال. والمعنى: بلغت من حرصك على إيمانهم بحيث إن قدرت أن تأتي بالمحال لأتيت. وتلخيصه: بيان حرصه على إسلام قومه على المبالغة.

وثانيها: المقدر: "فافعل" على الأمر. وفيه نوع توبيخ. وتلخيصه: بيان حرصه على تبني مطلوب القوم من الاقتراحات. وهذا الوجه أبلغ، لأنه إذا وبخ على طلب ما اقترحوه من الآيات تعريضاً بهم، كان توبيخهم على اقتراحهم الآيات أولى وأجدر وأنسب إلى قوله: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ {لصراحته في التعريض.

وثالثها: "لفعلت" على الإخبار أيضًا. لكن المعنى بابتغاء النفق والسلم نفس الآية والمعجزة، لإخراجها منهما.

ص: 74

وقيل: كانوا يقترحون الآيات، فكان يورّ أن يجابوا إليها لتمادي حرصه على إيمانهم، فقيل له: إن استطعت ذلك فافعل، دلالةً على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا من الآيات لعلهم يؤمنون.

ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآية، كأنه قيل: لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الرقي إلى السماء لفعلت، لعل ذلك يكون لك آية يؤمنون عندها.

وحذف جواب «إن» كما تقول: إن شئت أن تقوم بنا إلى فلانٍ نزوره.

(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) بأن يأتيهم بآيةٍ مُلجئة، ولكنه لا يفعل، لخروجه عن الحكمة، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ): من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) يعني: أن الذين تحرص على أن يصدّقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، وإنما يستجيب من يسمع، كقوله:(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى)[النمل: 80].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إن شئت أن تقوم بنا إلى فلانٍ نزوره). جوابه: "كان صواباً"، فدل متعلق ما في حيز الشرط به على أن الجواب ما هو. وكذلك تعلق {فَتَاتِيَهُم {بالشرط، يدل على أن الجزاء ما قدر، ولذلك ساغ حذفه.

قوله: (يجهلون ذلك)، أي: يجهلون أنه لا يفعل ذلك، لخروجه عن الحكمة. وفيه رمز إلى مذهبه.

ص: 75

(وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ) مثلٌ لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة، (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) للجزاء، فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان، وأنت لا تقدر على ذلك.

وقيل معناه: وهؤلاء الموتى - يعني: الكفرة - يبعثهم الله، (ثم إليه يرجعون): فحينئذٍ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم. وقرئ:"يرجعون"، بفتح الياء.

[(وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)].

(لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ): (نزل) بمعنى: أُنزل. وقرئ (أن ينزل) بالتشديد والتخفيف، وذكر الفعل والفاعل مؤنث، لأن تأنيث "آية" غير حقيقي، وحسن للفصل، وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أُنزل من الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه، كأنه لم ينزل عليه شيءٌ من الآيات؛ عناداً منهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({والْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ {: مثل لقدرته)، أي: استشهاد لتقرير الإنكار السابق، وإقناط كلي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيمان القوم، يعني: أنك لا تقدر أن تسمعهم، لأنهم كالموتى، وإنما القادر على ذلك من يقدر على تلك القدرة العظيمة، وهي بعث الموتى من القبور.

والباء في قوله: "بأنه هو الذي يبعث الموتى"، قيل: هو متعلق بـ"مثل" من حيث المعنى، أي: قوله: {والْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ {مثل ضربه الله لقدرته، بأنه هو الذي يبعث الموتى.

قوله: (وقرئ {أَن يُنَزِّلَ {بالتشديد والتخفيف): ابن كثير وحده.

ص: 76

(قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) تضطرهم إلى الإيمان، كنتق الجبل على بني إسرائيل ونحوه، أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّ الله قادر على أن ينزل تلك الآية، وأن صارفاً من الحكمة يصرفه عن إنزالها.

[(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)].

(أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) مكتوبةٌ أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم (ما فَرَّطْنا): ما تركنا وما أغفلنا (فِي الْكِتابِ): في اللوح المحفوظ (مِنْ شَيْءٍ) من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت مما يختص به، (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) يعني الأمم كلها من الدواب والطير، فيعوضها وينصف بعضها من بعض، كما روي:"أنه يأخذ للجماء من القرناء".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({مِن شَيْءٍ {من ذلك لم نكتبه). قيل: "لم نكتبه": حال من ضمير "تركنا". وليس بذلك، لأن "من ذلك" صفة {شَيْءٍ {، و"من" بيان، فلذلك "لم نكتبه": صفة أخرى، أو حال منه. "ولم نثبت": عطف تفسيري.

المعنى: ما تركنا في اللوح من شيءٍ كائنٍ من المذكور، ومتصل به، غير مكتوب، ولا مثبت فيه البتة. و"من" في "متما يختص به" بيان "ما". والضمير في "يختص" يعود إلى "ما". والمجرور يعود إلى "الكتاب".

قوله: (يأخذ للجماء من القرناء). روينا عن مسلمٍ والترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".

ص: 77

فإن قلت: كيف قيل: (إِلَّا أُمَمٌ) مع إفراد "الدابة" و"الطائر"؟ فإن قلت: لما كان قوله تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ) دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقال: وما من دواب ولا طير، حُمل قوله:(إِلَّا أُمَمٌ) على المعنى.

فإن قلت، هلا قيل: وما من دابة ولا طائرٍ إلا أمم أمثالكم؟ وما معنى زيادة قوله: (فِي الْأَرْضِ) و (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ)؟ قلت: معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة، كأنه قيل: وما من دابة فقط في جميع الأرضين السبع، وما من طائرٍ قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهملٍ أمرها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا الحديث استشهد به لقوله: "وينصف بعضها من بعض"، لا لقوله:"فيعوضها"، لأنه لا يثبت التعويض إلا إلى المكلفين، لأن قوله:"يعني الأمم كلها" مشتمل على المكلفين وغير المكلفين.

قوله: (معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة) فيه أن منزلة {فيِ الأَرضِ {، و {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ {من {دَآبةٍ {و {طَيرٍ {منزلة المؤكد مع المؤكد للشمول. ولهذا قال:"قط في جميع الأرضين السبع، وما من طائرٍ قط في جو السماء".

قال الزجاج: "قال: {بِجَنَاحَيْهِ {على جهةِ التوكيد، لأنك قد تقول للرجل: طر في حاجتي، أي: أسرع. وجميع ما خلق الله ليس يخلو من هاتين المنزلتين: إما أن يدب أو يطير".

قلت: عنى أن تعميم الجنسين كما حصل بالتوكيد حصل تعميم الحيوان بتكرير لفظ الدابة، ولفظ الطائر. وإلى هذا المعنى ينظر قول المصنف:"إن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان". وقول صاحب "المفتاح": "ذكر {فِي الأَرْضِ {مع {دَآبةٍ {، و {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ {مع {طَيرٍ {لبيان أن القصد من لفظ {دَآبةٍ {ولفظ {طَيرٍ {

ص: 78

فإن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه وتدبيره: تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس، المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها، مهيمنٌ على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأنّ المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان.

وقرأ ابن أبي عبلة: "ولا طائر"؛ بالرفع على المحل، كأنه قيل: وما دابة ولا طائر. وقرأ علقمة: "ما فرطنا"؛ بالتخفيف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنما هو إلى الجنسين، وإلى تقريرهما". قوله:"وإلى تقريرهما" تفسير لقوله: "إلى الجنسين". والمراد به التوكيد لا غير. وقد يظن أن قوله: "من هذا الباب من وجه"، أن الوجه الآخر ما ذكره صاحب "الكشاف"، وهو وهم، لأن مراده أنه لو أطلق {مِن دَابَّةٍ {، {ولا طَائِرٍ {غير مؤكدين، ربما اختلج في ذهن السامع إرادة غير الجنسين، وأن المراد بهما غير المتعارف، لقوله تعالى بعد ذلك: {إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم {، فلا يحصل الشمول المقصود، فأزيل الوهم بما يفيد أن القصد إلى الجنسين وإلى تقريرهما. أي: هو من باب البيان من هذا الوجه.

وما عليه أصحاب المعاني غير ما عليه النحويون، فإنهم يحملون سائر التوابع على البيان والتوضيح. وقد سبق في "الفاتحة" أن البدل تفسير وتوضيح للمبدل.

وقال المصنف في قراءة من قرأ: "أإزرا تتخذ أصناماً آلهة": " [معناه: أتعبد] على الإنكار، ثم قال: "تتخذ أصناماً آلهة" تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخل في حكم الإنكار، لأنه كالبيان له".

ص: 79

[(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَا يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)].

فإن قلت: كيف أتبعه قوله: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا)؟ قلت: لما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته، وينادي على عظمته، قال: والمكذبون (صُمٌّ): لا يسمعون كلام المنبه (وَبُكْمٌ): لا ينطقون بالحق، خابطون في ظلمات الكفر، فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه، ثم قال إيذاناً بأنهم من أهل الطبع:(مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ) أي: يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به، لأنه ليس من أهل اللطف، (وَمَنْ يَشَا يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي: يلطف به لأنّ اللطف يجدي عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ألا ترى كيف جعل التأكيد بياناً؟ وكيف يعني بقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ {أنه من باب عطف البيان! والمبين كالترجمة والتفسير لما اشتمل عليه المبين من الإبهام، وهو عين التأكيد؟

قال الإمام: "هو كقولهم: نعجة أنثى، وكلمته بقي، ومشيت برجلي".

قال صاحب "التقريب": "في قول المصنف نظر، لأنهما صفتان، فهما بالدلالة على التخصيص أولى من التعميم".

وأجيب: أن التوكيد لا ينافي الصفة، كقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ واحِدٌ {[النحل: 51]، و {نَفْخَةٌ واحِدَةٌ {[الحاقة: 13]، وقولهم:"أمس الزائل لا يعود"، وأن التعميم نوع من التخصيص.

قوله: (ثم قال: إيذاناً بأنهم من أهل الطبع: {مَن يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ {). ما أظهر دلالته على مذهب أهل السنة! وذلك أنه تعالى لما أنكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه على إسلام قومه،

ص: 80

[(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ)].

(أَرَأَيْتَكُمْ) أخبروني، والضمير الثاني لا محل له من الإعراب، لأنك تقول: أرأيتك زيداً ما شأنه؟ فلو جعلت للكاف محلاً لكنت كأنك تقول: أرأيت نفسك زيداً ما شأنه؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتهالكه عليه، ذلك الإنكار البليغ، وضرب لهم مثلاً بالموتى أتى بقوله: {ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ {الآية [الأنعام: 38]، بياناً لربوبيته، وشاهداً على عظمة ألوهيته. وعقبه بقوله: {والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ {[الأنعام: 39]، ليدل به على أن هؤلاء الكفرة، مع هذه الأدلة الظاهرة، والأنوار الساطعة، خابطون في ظلمات الكفر، صم لا يسمعون كلام المنبه، بكم لا ينطقون بالحق.

يعني أنه ليس في مقدورك هدايتهم {وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {[البقرة: 6] لأن ذلك مبني على المشيئة، وعلمه السابق. {ولَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ولَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ {[السجدة: 13]. وكم ترى من آيات هذا الكتاب الكريم معاضدة بعضها بعضاً في هذا المعنى، كما أشرنا إليها في أماكنها.

وأما قول المصنف: " {يُضْلِلْهُ {، أي: يخذله ويخله وضلاله" فهو نابٍ عن مظانه، كأنه جاء يرقعه ليسد ثلمه، هيهات! "اتسع الخرق على الراقع".

قوله: (والضمير الثاني لا محل له من الإعراب). قال الزجاج: "ذهب الفراء إلى أن الكاف في "أرأيتك" لفظها نصب، ومعناها رفع. نحو: "دونك زيداً"، الكاف مخفوض لفظاً، مرفوع معنى، لأن المعنى: خذ زيداً. وهذا خطأ، لأن "أرأيت" في قولك: أرأيتك زيداً ما شأنه؟

ص: 81

وهو خلفٌ من القول، ومتعلق الاستخبار محذوف، تقديره:(إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) من تدعون؟ ثم بكتهم بقوله: (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ) بمعنى: أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ، أم تدعون الله دونها؟

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ): بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة، (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) أي: ما تدعونه إلى كشفه (إِنْ شاءَ) إن أراد أن يتفضل عليكم ولم يكن مفسدة (وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ): وتتركون آلهتكم، ولا تذكرونها في ذلك الوقت، لأنّ أذهانكم مغمورة بذكر ربكم وحده، إذ هو القادر على كشف الضر دون غيره. ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله:(أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ) كأنه قيل: أرأيتكم أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعدت إلى الكاف وإلى "زيد"، فصار لها اسمان، والمعنى: أرأيت نفسك زيداً ما حاله؟ وهذا محال. والذي يعتمد عليه أن الكاف زائدة لا موضع لها، والمعنى: أرأيت زيداً ما حاله؟ والكاف لبيان الخطاب، وهي المعتمد عليها في الخطاب، فتقول للمؤنث: أرأيتك زيداً ما حاله؟ بفتح التاء على أصل خطاب المذكر، وبكسر الكاف، لأنها صارت مبينة للخطاب. أرأيتكما، وأرأيتكم، وأرأيتكن زيداً ما حاله؟ فتوحد التاء فيها. فإن عديت الفاعل إلى المفعول في هذا الباب، صارت الكاف مفعوله. تقول: أرايتني عالماً بفلان؟ أرأيتك، أرأيتكما، وأرأيتكم عالماً وعالمين وعالمين بفلان؟ ".

قوله: (خلف من القول) بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام، الجوهري: يقال في خلف القول: سكت ألفاً ونطقت خلفاً، أي: رديئاً.

قوله: (وتتركون آلهتكم، أو لا تذكرونها في ذلك الوقت، لأن أذهانكم مغمورة بذكر ربكم). نقل الإمام "أن بعض الزنادقة - خذلهم الله - أنكر الصانع عند جعفر الصادق

ص: 82

فإن قلت: إن علقت الاستخبار به، فما تصنع بقوله:(فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) مع قوله: (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ)، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

رضي الله عنه، فقال جعفر: هل ركبت البحر؟ قال: بلى. قال: هل رأيت أهواله؟ قال: بلى، هاجت يوماً رياح هائلة، فكسرت السفن، وغرق الملاحون، فتعلقت ببعض ألواحها، ثم ذهب عني اللوح، فدفعت إلى تلاطم الأمواج، حتى حصلت بالساحل. قال جعفر رضي الله عنه: قد كان اعتمادك من قبل على السفينة وعلى الملاح، وعلى اللوح، فلما ذهبت، هل أسلمت نفسك للهلاك، أم كنت ترجو السلامة بعد ذلك؟ قال: بل رجوت السلامة. قال: ممن؟ فكست: فقال جعفر رضي الله عنه: إن الصانع هو الذي كنت ترجوه ذلك الوقت، وهو الذي أنجاك. فأسلم الرجل".

قوله: (فإن علقت الاستخبار به، فما تصنع؟ ). قال صاحب "التقريب": "لم يرد السؤال على الأول، لأن الشرطين وهما: {إنْ أَتَاكُمْ {، {أَوْ أَتَتْكُمُ {يتعلقان فيه بالمضمر، وهو "من تدعون؟ " وينقطع قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ {عما قبله، فلا يتوهم تقيد الكشف بالشرطين. وفي الثاني لا يتعلقان بمضمر، فيلزم تعليق الشرطين بما بعدهما، وهو قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ {، فيتوهم تقييد الكشف بالشرطين، ولذلك خصصه بالسؤال. وفيه دقة".

وقلت: تحرير السؤال: إن علقت {أَرَءَيتكُمْ {بقوله: "من تدعون" المقدر، على أنه مفعوله، والدال عليه ما بعد الاستفهام، فالمعنى: أخبروني من تدعون {إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ {فيتم الكلام عنده، ثم استؤنف مقرر لذلك المعنى، سائلاً عن الواقع في الدنيا، وما شوهد منهم في الشدائد، سؤال تبكيت: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ {أي: أتخصون آلهتكم بالدعوة؟

ص: 83

وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت: قد اشترط في الكشف المشيئة، وهو قوله:(إِنْ شاءَ)؛ إيذاناً بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة، إلا أنه لا يفعل لوجهٍ آخر من الحكمة أرجح منه.

[(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَاساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ* فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَاسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ* فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا بل أنتم قوم عادتكم أنكم تخصون الله بالدعاء عند الكرب والشدائد، فيكشف ما تدعون إليه.

وإن علقته بالاستفهام، أي: بقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ {، يكون هو الدال على الجزاء. فالمعنى: أخبروني إن أتتكم الساعة: أدعوتم غير الله، أم دعوتم الله، فيكشف ما تدعون؟ ودخلت همزة الاستفهام لمزيد التقرير، وحينئذ يلزم كشف قوارع الساعة عنهم، وهي لا تنكشف عن الكفار.

قال أبو البقاء: "مفعول {أَرَءَيْتَكُمْ {محذوف، أي: أرأيتكم عبادتكم الأصنام؟ دل عليه قوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ {. وقيل: الشرط والجزاء مفعوله. وأما جواب الشرط فما دل عليه الاستفهام، أي: إن أتتكم الساعة دعوتم الله".

قوله: (قوارع الساعة)، الجوهري:"القارعة: الشديدة من شدائد الدهر، وهي الداهية. يقال: قرعتهم قوارع الدهر، أي: أصابتهم".

ص: 84

البأساء والضراء: البؤس والضر. وقيل: البأساء: القحط والجوع. والضراء: المرض ونقصان الأموال والأنفس. والمعنى: ولقد أرسلنا إليهم الرسل، فكذبوهم فأخذناهم. (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ): يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون عن ذنوبهم.

(فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَاسُنا تَضَرَّعُوا) معناه: نفي التضرع، كأنه قيل: فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. ولكنه جاء بـ"لولا" ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم، وقسوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) من البأساء والضراء، أي: تركوا الاتعاظ به ولم ينفع فيهم ولم يزجرهم، (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) من الصحة والسعة وصنوف النعمة، ليراوح عليهم بين نوبتي الضراء والسراء، ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولكنه جاء بـ"لولا" ليفيد أنه لم يكن لهم عذر)، وذلك أن "لولا" إذا دخلت على المضي أفاد التنديم والتوبيخ، كأنه قيل: لم لم يتضرعوا؟ وليتهم تضرعوا، وكانوا متمكنين منه، غير ممنوعين. وإليه الإشارة بقوله:"لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم". ولو بقي التضرع صريحاً لم يدل عليه عدم المانع من التضرع.

قال صاحب "المفتاح": "فإذا قيل: "هلا أكرمت زيداً؟ "، فكأن المعنى: ليتك أكرمت زيداً، متولداً منه معنى التنديم".

قوله: (ليراوح عليهم)، الجوهري:"المراوحة في العملين: أن يعمل هذا مرة وهذا مرة. وتقول: راوح بين رجليه: إذا قام على إحداهما مرة، وعلى الأخرى مرة".

ص: 85

كما يفعل الأب المشفق بولده؛ يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى؛ طلباً لصلاحه، (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا) من الخير والنعم، لم يزيدوا على الفرح والبطر، من غير انتدابٍ لشكر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله: (ليراوح عليهم) إلى قوله: (كما يفعل الأب المشفق) لا يصلح أن يكون تعليلاً لقوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ {، لأن هذا مكر واستدراج من حيث لا يعلمون، وذلك تثقيف وتأديب.

روينا في "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب: فإنما هو استدراج". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ {، الآية، أي: تركوا الاتعاظ من البأساء والضراء. نعم في قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَاسَاءِ والضَّرَّاءِ {رائحة من تأديب الأب المشفق. ونظيره قوله تعالى: {ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَاسَاءِ والضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ والسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وهُمْ لا يَشْعُرُونَ {[الأعراف: 94 - 95].

قوله: (لم يزيدوا على الفرح والبطر من غير انتدابٍ لشكر، ولا تصد لتوبة): ليس جوابا لقوله: {إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا {، بل هو تفسير له، والجواب: {أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً {، وقوله:"من غير انتدابٍ لشكر" قيل: هو حال من المجرورين، و"من": ابتدائية، أي: لم يزيدوا على الفرح والبطر، كائنين من عدم الشكر والتوبة، وذلك أنه تعالى حكي عن حال الأمم الخالية، الذين بطرت معيشتهم فأخذهم بالبأساء، ليتضرعوا ويتوبوا، فما تضرعوا، ثم فتح عليهم أبواب

ص: 86

ولا تصدّ لتوبةٍ واعتذار، (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ): واجمون متحسرون آيسون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخيرات ليشكروا فما شكروا وداموا على ما كانوا عليه من البطر، وما غيروا من حالهم.

وقيل: هو صفة "شيئاً" مفعول "لم يزيدوا". ويدفعه لفظة "غير"، وقيل: هو حال من فاعل "لم يزيدوا"، و"من": مزيدة، أي: لم يزيدوا على الفرح حال كونهم غير منتدبين لشكر، ولا متصدين لتوبة. ويمكن أن يقال: إنه صفة مصدرٍ محذوفٍ من حيث المعنى، وإن القرينتين عبارتان عن عدم تغيير الحال، أي: أخذناهم بالبأساء ليتضرعوا ويتوبوا، ثم فتحنا عليهم أبواب السماء ليشكروا، فما نفعهم ذلك. كأنه قيل: حتى إذا استمروا على البطر استمراراً من غير انتدابٍ لشكر، ولا تصد لتوبةٍ، أخذناهم بغتة. نظيره: ما ذكره في "القصص": "الغابط: هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه، من غير أن تزول عنه". وفي الحديث: "من سن سنة حسنةً، فله أجرها وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيء".

هذا على تقرير المصنف، لكن معنى الآية ما ذكرناه. والله أعلم.

قوله: "من غير انتدابٍ لشكر"، يقال: ندبه لأمر، فانتدب له: أي: دعاه له، فأجاب.

قوله: ({أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً {. قال أبو البقاء: " {بَغْتَةً {: مصدر في موضع الحال من الفاعل، أي: مباغتين، أو من المفعولين، أي: مبغوتين. ويجوز أن يكون مصدراً على المعنى، لأن {أَخَذْنَاهُم {بمعنى: "بغتناهم"، و {إِذَا {للمفاجأة، وهي ظرف مكان، و {هُم {: مبتدأ، و {مُبْلِسُونَ {: خبره، وهو العامل في {إذَا {".

قوله: (وأجمون)، الجوهري:"وجم من الأمر وجوماً، والواجم: الذي اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام".

ص: 87

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ): آخرهم، لم يترك منهم أحد، قد استؤصلت شأفتهم، (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) إيذانٌ بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: "الإبلاس: الحزن من شدة البأس، ومنه اشتق "إبليس" فيما قيل. ولما كان المبلس كثيراً ما يلزم السكوت، وينسى ما يعنيه، قيل: أبلس فلان: إذا سكت وإذا انقطعت حجته".

قوله: (قد استؤصلت شأفتهم)، أي: أذهبهم الله. النهاية: "الشأفة بالهمز وغير الهمز: قرحة تخرج في أسفل القدم، فتقط وتكوى، فتذهب. ومنه قولهم: استأصل الله شأفته: أي أذهبه".

قوله: (إيذان بوجوب الحمد [الله] عند هلاك الظلمة). هذا يؤذن أن {والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ {- كما قال في الكواشي - إخبار بمعنى الأمر: أي: احمدوا الله. وكذا كل ما ورد في القرآن من هذا. ثم "الحمد" على ما سبق في أول الكتاب، قد يكون شكراً للصنيعة، وقد يكون للثناء على الفضائل الاختيارية.

أما بذله على الشكر فإن قوله: {ولَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَاسَاءِ {إلى قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا {وارد ليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: هؤلاء المشركون الذين تدعوهم إلى الله، وهم يعاندون، ويكذبونك، لابد أن يكون لهم أسوة بمن قبلهم في هلاكهم وتدميرهم، واستئصال شأفتهم، فإذا تم عليهم ذلك، فاحمد الله على طهارة الأرض من عبث الظلمة.

فالرب على هذا فيه معنى التربية، لأن في هلاكهم تخليصاً لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وإضلالهم، واحتباس الخير النازل من السماء. وذلك نعمة جليلة يجب أن يحمد عليها.

وأما بذله على الفضائل الاختيارية، فإنه تعالى لما ذكر إهلاك المتمردين، وتطهير الأرض

ص: 88

وأنه من أجلّ النعم وأجزل القسم. وقرئ «فتحنا» بالتشديد.

[(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَاتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ)].

(إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) بأن يصمكم ويعميكم، (وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) بأن يغطي عليها ما يذهب عنده فهمكم وعقلكم (يَاتِيكُمْ بِهِ) أي: يأتيكم بذاك، إجراءً للضمير مجرى اسم الإشارة ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من أدناسهم، مدح نفسه المقدسة بالقهارية والعظمة. فالرب على هذا بمعنى المالك. فالمعنى: الحمد لله الملك القهار، الذي له الكبرياء والعظمة، وله التصرف في ملكه كيف شاء.

وهذا أحرى في الإيراد، لأن قوله: {والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ {مجرى على ظاهر الإخبار. فيكون قوله: {ولَقَدْ أَرْسَلْنَا {إلى آخر {والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ {، على التقديرين، معترضاً بين قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ {، وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ {، مؤكداً لمضمون معنى الكلامين.

قوله: (وقرئ: "فتحنا" بالتشديد): ابن عامر. والباقون: بالتخفيف.

قوله: (إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة)، نحو قول رؤبة:

فيها خطوط من سوادٍ وبلق

كأنه في الجلد توليع البهق

ص: 89

أو بما أخذ وختم عليه يَصْدِفُونَ يعرضون عن الآيات بعد ظهورها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أبو عبيدة: "إن أردت الخطوط فقل: كأنها، وإن أردت السواد والبلق فقل: كأنهما، فقال: أردت: كأن ذالك".

قوله: (أو بما أخذ وختم عليه). قال الزجاج: "الهاء تعود على معنى الفعل: "أي: يأتيكم" بما أخذ منكم. ويجوز أن يكون {يَاتِيكُم بِهِ {أي: بسمعكم، ويكون ما عطف على السمع داخلاًً معه في القصة، إذ كان معطوفاً على السمع: أي {سَمْعَكُمْ وأَبْصَارَكُمْ {إلى آخره".

قوله: ({يَصْدِفُونَ {: يعرضون عن الآيات بعد ظهورها). قال القاضي: " {نُصَرِّفُ الآيَاتِ {: نكررها تارةً من جهة المقدمات العقلية، وتارة من جهة الترغيب والترهيب، وتارةً بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين، وهم يعرضون عنها".

وقلت مزيداً للتقرير: إن قوله: "بعد ظهورها" دل على أن "ثم" للاستبعاد، كما في قوله تعالى: {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا {[السجدة: 22]. وإن التعريف في "الآيات" للعهد، وهي الآيات المكررة من أول السورة، سيما من قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ {[الأنعام: 40] وما يشبهه، وإن هذه الآية كالمعترضة توكيداً للتذكير والاعتبار.

وأيضًا، إن كلمة {اُنظُر {معطية معنى التعجب، نحو: ألم تر؟ و: أرأيت؟ تعجب السامع من شدة شكيمة أولئك المشركين، وإصرارهم على العناد، ونفورهم عن الحق، بعد تكرير الآيات المنذرة المخوفة، كقوله تعالى: {ولَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ومَا يَزِيدُهُمْ إلاَّ نُفُورًا {[الإسراء: 41].

ص: 90

[(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ)].

لما كانت البغتة أن يقع الأمر من غير أن يشعر به وتظهر أماراته، قيل:(بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً)، وعن الحسن: ليلاً أو نهاراً. وقرئ: "بغتة أو جهرة"، (هَلْ يُهْلَكُ) أي: ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الظالمون. وقرئ. هل يهلك بفتح الياء.

[(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون)].

(مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) من آمن بهم وبما جاءوا به وأطاعهم، ومن كذبهم وعصاهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قلت: فلم قرنت هذه الآية من بين تلك الآي المنذرة بهذه؟ قلت: لأن تلك واردة في التخويف بالعذاب النازل من الخارج، وهذه من نفس المخاطب. يعني: إن أنشأنا العذاب من ذاتكم وما أنتم به أهم، من إله غير الله ينجيكم منها؟ {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ {. ومن ثم كان دلائل الأنفس أدق وأفيد للناظر من دلائل الآفاق.

قوله: (لما كانت البغتة)، يعني: {جَهْرَةً {: لا تقابل {بَغْتَةً {من حيث اللفظ، لأن مقابل "الجهرة":"الخفية". لكن معنى {بَغْتَةً {: وقوع الأمر من غير الشعور، فكأنها في معنى "خفية"، فحسن لذلك أن يقال: {بغتةً أو جهرةً {.

ص: 91

ولم يرسلهم ليتلهى بهم ويقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة (وَأَصْلَحَ) ما يجب عليه إصلاحه مما كلف.

[(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)].

جعل العذاب ماساً، كأنه حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام، ومنه قولهم: لقيت منه الأمرّين والأقورين، حيث جمعوا جمع العقلاء، وقوله:(إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)] [الفرقان: 12].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لم يرسلهم ليتهلي بهم ويقترح عليهم الآيات): إشارة إلى اتصال هذه الآية بقوله تعالى: {وقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ {[الأنعام: 37] الآيات. الجوهري: "لهوت بالشيء، ألهو لهواً: إذا لعبت به. وتلهيت به: مثله". يعني: ليسخر بهم.

قوله: (كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام). يجوز أن يريد أن الاستعارة واقعة في "المس" فتكون تبعية، أو في {اَلْعَذَابُ {فتكون مكنية. والظاهر الثاني، بشهادة الاستشهاد بـ"الأمرين".

قوله: (الأمرين). روى الجوهري عن أبي زيد: "لقيت منه الأمرين، بنون الجمع: وهي الدواهي"، وعن الكسائي:"لقيت منه الأقورين، بكسر الراء، والأقوريات: وهي الدواهي العظام".

وقال الميداني: "لقيت منه الأقورين والفتكرين والبرحين: إذا لقي منه الأمور العظام".

والأقورين: من: قوره، أي: قطعه مدوراً. والبرحين، بالضم والكسر، أي: الشدة.

ص: 92

[(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)].

أي: لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشرٍ من ملك خزائن الله - وهي قسمه بين الخلق وأرزاقه- وعلم الغيب، وأني من الملائكة الذين هم أشرف جنسٍ خلقه الله تعالى، وأفضله وأقربه منزلةً منه. أي: لم أدّع إلهية ولا ملكية؛ .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: لا أدعي ما يستبعد في العقول). قيل: المناسب: ما يستحيل ويمتنع، لأن المراد: لا أدعى الإلهية. كأنه يريد بالمستبعد: المستحيل، لقوله بعد هذا:"والمحال: وهو الإلهية والملكية".

قوله: (وأني من الملائكة) بفتح الهمزة قيل: هو عطف على قوله: "ما يستبعد". والوجه: العطف على قوله: "أن يكون لبشر"، ليكون داخلاً في حكم الاستبعاد، أي: لا أدعي ما يستعبد في العقول من أن يكون عندي ملك خزائن الله، وأني من الملائكة. والدليل عليه قوله:"والمحال: وهو الإلهية والملكية". وإنما وضع "لبشر" موضع "أني أملك خزائن الله"، ليشعر بالعلية، وهي: البشرية مما ينافي الإلهية والملكية.

قوله: (أي: لم أدع إليهةً ولا ملكية). جعل مجموع قوله تعالى: {عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ {عبارة عن معنى الإلهية، لأن قسمة الأرزاق بين العباد، ومعرفة علم الغيب، مخصوصتان به، ولهذا كرر في التنزيل لفظ: {ولا أَقُولُ {.

وهذا النسق يهدم قاعدة استدلاله في قوله تعالى: {لَن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ {[النساء: 172] على تفضيل الملك على البشر، لأن الترقي لا يكون من الأعلى إلى الأدنى، يعني من الإلهية إلى الملكية.

وأما قوله: "الذين هم أشرف جنسٍ خلقه الله، وأفضله" فهو بعيد، لأن سياق هذه الآية

ص: 93

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في الرد على اقتراح المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبهم الآيات يدل عليه إجمالاً قوله: {فَإنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَاتِيَهُم بِآيَةٍ {[الأنعام: 35]، وقوله: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ {[الأنعام: 37].

كما قال الزجاج: "هذه الآية متصلة بقوله: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ {[الأنعام: 8]، وقوله: {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ {[الأنعام: 37] ". وهذه الآية كالجواب عن تفصيل تلك الآيات، فقوله: {لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ {: جواب عن قولهم: إن كنت رسولاً من عند الله فاطلب من الله أن يوسع علينا خير الدنيا، وأن يوقفك على ما سيقع في المستقبل من المصالح والمضار، حتى تستعد لذلك، وقوله: {ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ {: جواب عن قولهم: {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ ويَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ {[الفرقان: 7].

والمعنى: لست إلهاً حتى تطلبوا مني قسمة الأرزاق، ومعرفة الغيب، فإنهما يختصان بالله وحده، ولست ملكاً حتى لا آكل ولا أشرب.

والمقصود من الرسالة تلقي الوحي من عند الله، والتبليغ إلى الخلق {إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ {، هذا على تقدير المصنف.

وأما الذي عليه الظاهر، وفي "المعالم":"فهو أني لست متصرفا في ملك الله، حتى تقترحوا مني خزائن رزق الله، فأعطيكم ما تريدون، ولا أعلم الغيب، فأخبركم بما غاب مما انقضي ومما سيكون، ولا أنا ملك أقدر على ما لا يقدر عليه الإنسان، بل أنا رسول من الله مأمور متبع لما يوحى إليَّ".

ص: 94

لأنه ليس بعد الإلهية منزلةٌ أرفع من منزلةِ الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكروها، وإنما أدّعي ما كان مثله لكثيرٍ من البشر، وهو النبوّة.

(هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) مثلٌ للضالّ والمهتدي، ويجوز أن يكون

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإذا كان الكلام رداً على المشركين، فمن أين دل على الأفضلية؟ وكل هذه المعاني مستنبطة من كلامه في سورة "هود" و"بني إسرائيل"، سيما من قوله: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا {إلى قوله: {ومَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ {[الإسراء: 90 - 97].

روى الإمام عن الجبائي: أن الآية دلت على فضل الملائكة على الأنبياء، لأن المعنى: لا أدعي منزلة أقوى من منزلتي. فأجاب القاضي عبد الجبار، منهم:"إن كان الغرض في النفي التواضع، فالأقرب لزوم الأفضلية، وإن كان نفي قدرته على أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة، فلا".

ثم إني نظرت في كلام صاحب "الانتصاف"، فوجدت فيه لمحةً من هذه المعاني، وفي آخره:"وفي لفظ الزمخشري قبح، فإنه قال: "ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من الملائكة". فجعل للألوهية منزلة، ولا يجوز هذا الإطلاق".

قوله: (مثل للضال والمهتدي). يريد أن هذه الخاتمة كالتذييل الذي يقع في آخر الكلام،

ص: 95

لمن اتبع ما يوحى إليه، ومن لم يتبع، أو لمن ادّعى المستقيم وهو النبوة، والمحال وهو الإلهية أو الملكية، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على سبيل التمثيل، وقوله:(أفلا تتفكرون) كالتتميم للتذييل، والتنبيه على مكان التذييل.

ثم المذيل إما ما سبق من أول هذه السورة، وجميع ما جرى له مع القوم: من الدعوة إلى الحق، وإبائهم إلا الباطل. وإليه الإشارة بقوله:"فلا تكونوا ضالين أشباه العميان": يعني أفلا تتفكرون في أحوالي وأحوالكم، لتميزوا بين الحق والباطل، ولتعلموا الضال والمهتدي؟ وإما ما سبق من قوله: {إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ {. فالبصير من يتبع ما يوحي إليه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، والأعمى من لا يرفع به رأساً. وهو المراد بقوله:"فتعلموا أن أتباع ما يوحي إلى ما لابد لي منه" حتى أكون مهتدياً لا ضالا، أفلا تتفكرون في حالي لتعلموا أني مهتدٍ حيث أتبع الوحي، ولست بضال في تركه؟ أو من قوله: {لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ ولا أَعْلَمُ الغَيْبَ ولا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ {. فالأعمى من يدعي هذا، والبصير من يتبع الوحي، ويدعى النبوة. وإليه الإشارة بقوله:"فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر"، يعني: أفلا تتفكرون في اهتدائي لطريق الحق، ومجانبتي عن الباطل؟

قوله: (والمحال، وهو الإلهية أو الملكية)، الانتصاف:"دعوى الملكية من الممكنات، لأن الجواهر متماثلة، والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها".

قال في "الإنصاف": "من البين فيه قوله تعالى: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ {[الأعراف: 20]، أطمع آدم في أن يصير ملكاً، والنبي لا يطمع في المستحيل".

ص: 96

(أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ): فلا تكونوا ضالين أشباه العميان، أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر، أو فتعلموا أن أتباع ما يوحى إليَ مما لا بدّ لي منه.

فإن قلت: (أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ما محله من الإعراب؟ قلت: النصب عطفاً على قوله: (عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ)، لأنه من جملة المقول، كأنه قال: لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول.

[(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)].

(وَأَنْذِرْ بِهِ) الضمير راجع إلى قوله: (ما يُوحى إِلَيَّ)[الأنعام: 50]، و (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا) إمّا قومٌ داخلون في الإسلام، مقرّون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل، فينذرهم بما يوحى إليه، (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي: يدخلون في زمرة المتقين من المسلمين، وإمّا أهل الكتاب، لأنهم مقرّون بالبعث، وإما ناسٌ من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ {: فلا تكونوا ضالين أشباه العميان)، الراغب:"الفكرة: قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم. والتفكير: جولان تلك القوة بحسب نظر العقل. وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب. ولهذا روي: "تفكروا في آلاء الله، ولا تتفكروا في الله"، إذ كان الله عز وجل منزهاً أن يوصف بصورة".

ص: 97

أن يكون حقاً فيهلكوا، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار، دون المتمرّدين منهم، فأمر أن ينذر هؤلاء.

وقوله: (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) في موضع الحال من (يحشروا)، بمعنى: يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم، ولا بدّ من هذه الحال، لأن كلا محشور، فالمخوف إنما هو الحشر على هذه الحال.

[(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن ينجع)، الجوهري:"نجع فيه الخطاب والوعظ والدواء: إذا دخل وأثر".

قوله: (ولابد من هذه الحال). قال صاحب "التقريب": "لأن المخوف هو الحشر على هذه الحال، لا أصل الحشر".

وقلت: معنى قول المصنف يعود إلى مذهبه، يعني: لابد من القيد لأن الحشر مطلقاً لا يخاف منه، وإنما الذي يخاف منه هو الحشر الذي يعتقد المكلف فيه أن لا شفيع ولا نصير إلا الله وهو قد فرط في جنب الله، فحينئذ خسر خسرانا مبيناً. فإذا خاف هذه الحالة نفع معه الإنذار، ونجع فيه الوعظ، ويفهم منه أن المتقي الذي يتحرى رضا الله لا يخاف حينئذ، وخرج من هذا الحكم.

ولهذا قال بعد هذا: "ذكر غير المتقين من المسلمين، وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين)، فاعتضد المفهوم بدلالة النظم والترتيب. ولكن النظم الأوفق أن قوله تعالى: {أَنذِرِ {: أمر وارد عقيب قوله: {ولا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ {[الأنعام: 50]، وقد عطف عليه النهي، وهو: {ولا تَطْرُدِ الَّذِينَ {[الأنعام: 52].

ص: 98

ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم، وأمره بتقريبهم وإكرامهم، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم، أي: عبادته، ويواظبون عليها. والمراد بذكر "الغداة" و"العشي": الدوام. وقيل: معناه: يصلون صلاة الصبح والعصر، ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله:(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)، والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والكلام مرتبط بعضه ببعض: أمر الله سبحانه وتعالى نبيه أولاً بالإعراض عن المتمردين الذين لا ينجع فيهم التذكير، ثم أمره ثانياً بالإنذار لمن ينجع فيه الوعظ من الكفار، ثم نهاه ثالثاً عن طرد المتقين، يعني: اترك المعاندين وإنذارهم، واشتغل بمن يرجي منهم الخير، وإلزم مصاحبة المؤمنين.

قال في "الانتصاف": "إنما تلزم الحال لو قيل: "وأنذر به الذين يحشرون"، إذ لولا الحال لعم الأمر بالإنذار، والمقصود تخصيصه. وأما وقد قيل: {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا {فهو مستقل بتخصيص الإنذار: إما لإقرارهم به، وإما لأخذهم بالأحوط، دون العتاة المتمردين، وليس كل خائفٍ من البعث لا شفيع له، فإن الموحدين أجمعين خائفون وهم مشفوع لهم. فإن عني بأن الحال لازمة، كقوله: {وهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقًا {[البقرة: 91]، كان بناءً على قاعدته في إنكار الشفاعة. فكل خائفٍ عنده غير مشفوع له، إذ لا يخاف عنده إلا أصحاب الكبائر غير التائبين، أو الكفار، ولا شفاعة لهم عنده، وإنما الشفاعة عنده في زيادة الثواب لمن استوجبه - بزعمه - بعمله الصالح. وهذا عنده لا يخاف من البعث، لأنه يستوجب الجنة. فجعل الحال لازمة، لأن غير الخائف لا تتناوله الآية، والخائف مستوجب للعقاب عنده، فلا شفاعة له. فتفطن لدقائقه".

قوله: (ويواظبون) تفسير "يواصلون". وفيه إيذان بأن {يَدْعُونَ {محمول على الاستمرار.

ص: 99

روي: أن رؤوساً من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو طردت عنا هؤلاء الأعبد - يعنون فقراء المسلمين، وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان الله عليهم-، وأرواح جبابهم - وكانت عليهم جباب من صوف -؛ جلسنا إليك وحادثناك، فقال عليه الصلاة والسلام:"ما أنا بطارد المؤمنين"، فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت، فقال:"نعم"؛ طمعاً في إيمانهم. وروي أن عمر رضي الله عنه قال: لو فعلت حتى ننظر إلى ما يصيرون. قال فاكتب بذلك كتاباً، فدعا بصحيفة وبعليّ رضي الله عنه ليكتب، فنزلت. فرمى بالصحيفة، واعتذر عمر من مقالته.

قال سلمان وخباب وصهيب: فينا نزلت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبنا ركبته،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم قوله: "والمراد بالغداة والعشي: الدوام" ينبي أن الدوام هو الزبدة من اختصاص هذين الوقتين، لاختصاصهما بعينهما. وإنهم يقولن:"أنا عند فلان صباحاً ومساءً"، ويريدون الدوام. فيكون التقدير: يواظبون على ذكر ربهم دائمين. فيكون حالاً مؤكدة.

قوله: (روي أن رؤوساً من المشركين). الحديث رواه ابن ماجه عن خباب، وقال:"جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حسن الفزاري". وليس فيه أن عمر رضي الله عنه قال شيئاً، ولا فيه قوله:"الحمد لله الذي لم يمتني".

قوله: (وأرواح جبابهم): أي: روائحها الكريهة، وهو عطف على "هؤلاء الأعبد"، على تقدير: وأبعدت أرواح جبابهم، نحو قوله:

علفتها تبناً وماءً باردا

ص: 100

وكان يقوم عنا إذا أراد القيام، فنزلت:(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم)، فترك القيام عنا إلى أن تقوم عنه، وقال:"الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرنى أن أصبر نفسي مع قوم من أمتى. معكم المحيا ومعكم الممات".

و(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)، كقوله:(إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي)[الشعراء: 113]، وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم، فقال:(ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله في أعمالهم، على معنى: وإن كان الأمر على ما يقولون عند الله، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيرة المتقين، وإن كان لهم باطنٌ غير مرضي، فحسابهم عليهم لازمٌ لهم لا يتعدّاهم إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعدّاك إليهم، كقوله:(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)[الزمر: 7].

فإن قلت: أما كفى قوله: (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) حتى ضم إليه (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ)؟

قلت: قد جُعلت الجملتان بمنزلة جملةٍ واحدة، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ({مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم {، كقوله: {إنْ حِسَابُهُمْ إلاَّ عَلَى رَبِّي {[الشعراء: 113]. قال أبو البقاء: {يُرِيدُونَ {: حال من {يَدْعُونَ {، و {مِنَ {في {مَنِ شَيءً {: زائدة، وموضعها رفع بالابتداء، و {عَلَيْكَ {: الخبر، و {مِن حِسَابِهِم {: صفة {شَيءٍ {قدم عليه، فصار حالاً، وكذلك الذي بعده، إلا أنه قدم {مَنْ حِسَابِكَ {على {عَلَيِهم {، ويجوز أن يكون الخبر {مَنِ حِسَابِكَ {و {عَلَيِهم {صفة لـ {شَيءِ {مقدمة عليه، {فَتَطْرُدَهُمْ {. جوال لـ {مَا {النافية، فلذلك نصب: {فَتَكُونَ {جواب {وَلَا تَطْرُدِ {.

ص: 101

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويجوز أن يكون {مِنَ شَيءٍ {: فاعل {عَلَيْكَ {، لاعتماده على النفي، و {مِنْ حِسَابِهِم {: حال من الفاعل مقدم عليه.

قيل: قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ {كقوله: {إنْ حِسَابُهُمْ إلاَّ عَلَى رَبِّي {[الشعراء: 113]، يخالف قوله:"فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعداهم إليك"، لأن صاحب "المفتاح" قال:" {إنْ حِسَابُهُمْ إلاَّ عَلَى رَبِّي {معناه: حسابهم مقصور على الاتصاف بـ {عَلَى رَبِّي {لا يتجاوز إلى أن يتصف بـ"علي"، فيلزم من أول الكلام أن يكون "حسابهم" مقصوراً على "الله"، ومن آخره ألا يكون مقصوراً عليه".

والجواب: أن قوله: {إنْ حِسَابُهُمْ إلاَّ عَلَى رَبِّي {نازل في الكفار من قوم "نوح"، لما طعنوا في مؤمنيهم بقولهم: {مَا نَرَاكَ إلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا ومَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّايِ {[هود: 27]. بعمنى أنهم ما آمنوا عن نظرٍ وبصيرة، كما نص عليه في موضعه. فهو مثل قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ {، لأنه نازل في طعن المشركين في ضعفاء المؤمنين في مثله. يدل عليه قوله:"وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم".

فمعنى هذه الآية ما قال المصنف: "فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر، وإن كان لهم باطن غير مرضي، فحسابهم عليهم لازم لهم، لا يتعداهم إليك"، أي: فحسابهم علي لا عليك.

وهو معنى قول نوح عليه السلام وهو ما قال صاحب "المفتاح": {حِسابُهُمْ {مقصور على الله، لا يتجاوز أن يتصف بـ"علي"، راجع إلى هذا. يعني: إن كان باطنهم غير مرضي، فلا علي، ولا يتعدى ضرره إليّ.

ص: 102

وقصد بهما مؤدىً واحد، وهو المعنيّ في قوله:(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)[الزمر: 7]، ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً، كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه.

وقيل: الضمير للمشركين. والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم، حتى يهمك إيمانهم، ويحرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين، (فَتَطْرُدَهُمْ) جواب النفي، (فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) جواب النهي، ويجوز أن يكون عطفاً على (فَتَطْرُدَهُمْ) على وجه التسبيب، لأن كونه ظالماً مسبب عن طردهم. وقرئ:"بالغدوة والعشي".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نعم، ضمت مع هذه الآية ضميمة أخرى مؤكدة لها، وهي قوله: {ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ {فصارت بمعنى: {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى {[الأنعام: 164]، ورجع معنى الآيتين إلى أنك غير مؤاخذٍ بسرائرهم، في كونهم غير مخلصين النية. كما أن قول نوح عليه السلام: {إنْ حِسَابُهُمْ إلاَّ عَلَى رَبِّي {[الشعراء: 113] معناه: إني غير مؤاخذٍ بسرائرهم وإخلاصهم، لأن المشبه به حكاية قول نوح عليه السلام مع قومه، والمشبه حكاية قول الله مع رسوله صلوات الله عليه، وأنه تعالى نهاه عما كان يشاهد منه من حرصه على إسلام قومه، ومن لم يعين المقام قال ما شاء.

قوله: (ويجوز أن يكون عطفاً على {فَتَطْرُدَهُمْ {على وجه التسبيب). قال القاضي:

ص: 103

[(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)].

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا): ومثل ذلك الفتن العظيم، فتنا بعض الناس ببعض، أي: ابتليناهم بهم. وذلك أنّ المشركين كانوا يقولون للمسلمين:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"وفيه نظر"، ووجه النظر هو أن قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ومَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ {حينئذ مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض أمر الحساب إليه، فيفهم منه أن لو كان حسابهم عليه وطردهم، لكان ظالماً. وليس كذلك، لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه.

والجواب: أنه أراد بذلك المبالغة في منع الطرد. يعني: لو قدر تفويض الحساب إليك مثلاً ليصح منك طردهم لم يصح أيضاً، فكيف والحساب ليس إليك؟

نظيره في إرادة المبالغة قول عمر رضي الله عنه: "نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه".

قوله: (ومثل ذلك الفتن العظيم). المشار إليه ما دل عليه التعليل والمعلل، كأنه تعالى

ص: 104

(أَهؤُلاءِ) الذين (مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) أي: أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا، ونحن المقدمون والرؤساء، وهم العبيد والفقراء، إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنونا عليهم من بينهم بالخير، ونحوه (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) [القمر: 25]، (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف: 11].

ومعنى "فتناهم ليقولوا ذلك": خذلناهم فافتتنوا، حتى كان افتتانهم سبباً لهذا القول، لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذولٌ مفتون.

(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أي: الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان، وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أشار إلى فتنةٍ عظيمة مقدرة. قال القاضي: "ومثل ذلك الفتن - وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا - {فَتَنَا {، ثم علله بقوله: {لِيَقُولُوا {.

وإليه الإشارة بقوله: "خذلناهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سبباً لهذا القول".

قال محيي السنة: " {فَتَنَا {: أراد: ابتلينا ابتلاء الغني بالفقير، والشريف بالوضيع، وذلك أن الشريف إذا نظر إلى الوضيع قد سبقه بالإيمان، امتنع من الإسلام بسببه - فكان فتنة له - فذلك قوله: {لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا {".

قوله: (خذلناهم فافتتنوا)، أي: وضع الافتتان موضع الخذلان، إطلاقاً لاسم المسبب على السبب، واللام في {لِيَقُولُوا {: لام "كي"، ولتقديره الخذلان علله بقوله:"لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلا مخذول"، بناءً على مذهبه.

ص: 105

[(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)].

(فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) إما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم، وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم، وكذلك قوله:(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) من جملة ما يقول لهم ليسرهم ويبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم. وقرئ: (إنَهُ

فَإِنَّهُ)؛ بالكسر على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ)، وبالفتح على الإبدال من الرحمة.

(بِجَهالَةٍ) في موضع الحال، أي: عمله وهو جاهل، وفيه معنيان:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أولاً: "فتنا بعض الناس ببعض: ابتليناهم بهم" بحسب اللغة، وثانياً:"معنى فتناهم ليقولوا ذلك: خذلناهم، فافتتنوا" بحسب تلخيص المعنى ومعزى الكلام.

قوله: (وقرئ: (إِنَهُ

فَإِنًّهُ))، والظاهر أنه يعني:"أنه" في قوله: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ)، و"فإنه" في قوله:(فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). قرأ عاصم وابن عامر: بفتحهما، ونافع: بفتح الأولى فقط، والباقون: بكسرهما، ولكن المراد بقوله:" (فَأَنَّهُ) بالكسر على الاستئناف" أي: قري: (أِنَّهُ) و "أنه) بالكسر والفتح، فالكسر على الاستئناف، والفتح على الإبدال، وهو لف تقديري. والفاء في (فَإِنَّهُ) تفصيلية، دليله تفسيره، ولا يبعد أن المصنف فتح همزة (أَنَّهُ) وكسرها في الكتابة، وكتب على الهمزة: "معاً".

ص: 106

أحدهما: أنه فاعلٌ فعل الجهلة، لأنّ من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالمٌ بذلك أو ظانٌّ فهو من أهل السفه والجهل، لا من أهل الحكمة والتدبير، ومنه قول الشاعر:

على أنّها قالت عشيّة زرتها:

جهلت على عمد ولم تك جاهلا

والثاني: أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة، ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته.

وقيل: إنها نزلت في عمر رضي الله عنه حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما سألوا، ولم يعلم أنها مفسدة.

[(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)].

قرئ: (وَلِتَسْتَبِينَ) بالتاء والياء مع رفع "السبيل"، لأنها تذكر وتؤنث، وبالتاء على خطاب الرسول مع نصب "السبيل"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على أنها قالت) البيت. جهلت: سفهت، أي: ما تدبرت العاقبة بهذه الزيارة، فكأنها خافت عليه من قومها حين زارها، فلامته على ذلك ونسبته إلى الجهل.

قوله: (أنه جاهل بما يتعلق من المكروه). جعل (بِجَهَالِةٍ) في الوجه الأول مطلقةً غير مقيدة، ليفيد المبالغة، وإليه الإشارة بقوله:"فهو من أهل السفه والجهل". وفي الثاني قيدها بما يقتضيه السياق. فالجهالة على الأول مجاز، وعلى الثاني حقيقة.

قوله: ((وَلِتَسْتَبِينَ)): بالياء التحتانية: حمزة وأبو بكر والكسائي، والباقون: بالتاء الفوقانية

ص: 107

يقال: استبان الأمر وتبين، واستبنته وتبينته. والمعنى: ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين؛ من هو مطبوعٌ على قلبه لا يرجى إسلامه، ومن يرى فيه أمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به، فصلنا ذلك التفصيل.

[(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ* قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ* قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في صفة أحوال المجرمين؛ من هو مطبوع على قلبه): "من": بدل من "المجرمين"، و"من يرى فيه أمارة" معطوف على "من"، وكذلك:"ومن دخل في الإسلام"، يريد أن "ذلك" في قوله:(وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ) إشارة إلى ما سبق من أحوال الطوائف الثلاث من لدن قوله: (والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)[الأنعام: 49] لأن هذه الطائفة هي المطبوع على قلوبهم، و (الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ) [الأنعام: 51] هي الطائفة التي يرى فيها أمارة القبول، لأنها هي المنذرة التي يرجى إسلامها، لقوله:(يَخَافُونَ)، وقوله:(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الأنعام: 50]. وإليه الإشارة بقوله: "وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة".

والتي في قوله: (وإذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) هي الطائفة التي دخلت في الإسلام، إلا أنها لا تحفظ حدوده، ومن ثم خوطبوا بقوله:(أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ)[الأنعام: 54]. فعلى هذا قوله: (ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ) إذا قدر المعلل فصلنا ذلك التفصيل بدلالة السابق، عطف جملةٍ على جملة، وقال القاضي: ويجوز أن يعطف

ص: 108

(نُهِيتُ): صرفت وزجرت- بما ركب فيّ من أدلة العقل، وبما أُوتيت من أدلة السمع - عن عبادة ما تعبدون (مِنْ دُونِ اللَّهِ)، وفيه استجهالٌ لهم، ووصفٌ بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة، (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) أي: لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل، وهو بيانٌ للسبب الذي منه وقعوا في الضلال،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على علة مقدرة، أي:(نُفَصِّلُ الآيَاتِ) ليظهر الحق (ولِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ).

قوله: (وفيه استجهال لهم). يعني: أدمج في هذا الكلام معنى الاستدراج، وإرخاء العنان، كقوله تعالى:(وَإنَّا أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)[سبأ: 24]، وذلك أنه نسب النهي إلى نفسه، يعني: كنت على ما أنتم عليه من الضلال، فنهاني عنه دليل العقل، وما أوتيت من العلم، فانزجرت عنه وانصرفت، فما بالكم ثابتون عليه لا تستعملون دليلي: العقل والعلم؟ !

فإذا نظروا بعين البصيرة في هذا الكلام المنصف، وعلموا أنه صلوات الله عليه لم يزل على الحق المبين، والطريق المستقيم، ووقفوا على أنهم على الضلال البعيد، رجعوا عن ذلك.

فقولنا: فما بالكم ثابتون عليه .. إلى آخره، معنى قوله:"ووصف بالاقتحام" أي: الوقوع في الشدائد فيما كانوا فيه على غير بصيرة.

قوله: (وهو بيان للسبب الذي منه وقعوا في الضلال) يعني: فصل قوله: (قُل لاَّ أَتَّبِعُ) للاستئناف وبيان الموجب، كأنه قيل: لم نهيت عما نحن فيه من عبادة دون الله؟ فأجاب: لأن ما أنتم عليه هوى، ليس بهدى، فكيف أتبع أهواءكم؟ ! (قَدْ ضَلَلْتُ إذًا).

قال الزجاج "إذا: شرط، أي: قد ضللت إن عبدتها".

ص: 109

وتنبيهٌ لكل من أراد إصابة الحق ومجانبة الباطل. (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً) أي: إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال، وما أنا من الهدى في شيء، يعني أنكم كذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وتنبيه لكل من أراد). يعني: تنبيه لغير هؤلاء من رقدة الغفلة، ومتابعة الهوى، وإرشاد إلى متابعة دليلي العقل والكتاب المنير.

قوله: (وما أنا من الهدى في شيء)، يعني: اللام في (الْمُهْتَدِينَ) للجنس، والمعنى: وما أنا في عدادهم وزمرتهم، تعريضا بهم، وهو المراد بقوله:"أنكم كذلك"، يعني: إذا لم تكونوا من زمرة المهتدين، فلا تكونوا من الهدى في شيء، على طريق الكناية.

قالوا: في قوله: "وما أنا من الهدى في شيء" في تفسير (ومَا أَنَا مِنَ المُهْتَدِينَ) نظر؛ لأن هذا الأسلوب في الآيات يوجب أن يكون المدخول ليس ممن له حظ قليل في ذلك الوصف، بل له حظوظ وافية، لا أنه غير محظوظ فيه، وفي السلب يوجب أن يكون المدخول ممن له حظ ما فيه.

قال في قوله: (إنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ القَالِينَ)[الشعراء: 168]: "قولك: فلان من العلماء أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنك تشهد له بكونه معدوداً في زمرتهم، ومعروفة مساهمته لهم في العلم". وأجيب بأن إفادة معنى الاستغراق في نفي الهدى ليست من هذا القبيل، بل من قبيل كون قوله:(قَدْ ضَلَلْتُ إذًا ومَا أَنَا مِنَ المُهْتَدِينَ) جوابا وجزاءً لما دل عليه قوله: (قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهُوَاءَكُمْ) على سبيل التعريض، كأنه قيل: إن اتبعت أهواءكم قد ضللت إذن، وكنت مثلكم متوغلاً في الضلال منغمساً فيه، ولا أكون من الهدى في شيءٍ كما أنتم عليه، وفيه أني من زمرة المهتدين، ولي مساهمته معروفة في الهداية. ومن ثم أتبعه بقوله:(إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ) أي: بينة لا يقدر قدرها.

ص: 110

ولما نفى أن يكون الهوى متبعاً نبه على ما يجب اتباعه بقوله: (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) ومعنى قوله: (قُل إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ): أني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه، على حجة واضحة وشاهد صدق، (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أنتم حيث أشركتم به غيره. يقال: أنا على بينةٍ من هذا الأمر، وأنا على يقينٍ منه؛ إذا كان ثابتاً عندك بدليل.

ثم عقبه بما دل على استعظام تكذيبهم بالله،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((وكَذَّبْتُم بِهِ) أنتم حيث أشركتم به غيره)، أي: كذبتم بالبينة، ولذلك أشركتم بالله، قال الزجاج: الهاء كناية عن البيان، لأن البينة والبيان في معنى واحد، أو: كذبتم ما أتيتكم به، لأنه هو البيان.

قال أبو البقاء: (وكَذَّبْتُم): يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً، و"قد" معه مرادة، وفي كلام المصنف إشعار بالثاني.

قوله: (ثم عقبه بما يدل على استعظام تكذيبهم بالله): بيان لاتصال قوله: (مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) بقوله: (وكَذَّبْتُم بِهِ)، والظاهر أنه متصل بالمقالات الثلاث،

ص: 111

وشدة غضبه عليهم لذلك، وأنهم أحقاء بأن يغافصوا بالعذاب المستأصل، فقال:(ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) يعني: العذاب الذي استعجلوه في قولهم: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ)[الأنفال: 32]، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) في تأخير عذابكم، (يقضي الحق) أي: القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل في أقسامه، (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أي: القاضين. وقرئ: (يَقُصُّ الْحَقَّ)، أي: يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدّره، من قص أثره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أعني قوله: (قُلْ إنِّي نُهِيتُ)، (قُل لاَّ أَتَّبِعُ)، (قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ)، يعني: دعوتكم إياي إلى عبادة ما تعبدونه، وإلى متابعتي أهواءكم، وكوني على بينة، وأنتم تخالفون بالتكذيب، مما يؤذن أنكم تستعجلونني بالعذاب، واستئصال شأفتكم. ولذلك قال متضجرا:(إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ).

قوله: (وشدة غضبه عليهم لذلك) أي: لتكذيبهم بالله.

قوله: (يغافصوا)، الجوهري:"غافصت الرجل، أي: أخذته على غرة".

قوله: (وقرئ: (يَقُصُّ الحَقَّ)): بالصاد المهملة، مضمومة مشددة، قرأها نافع وابن كثير وعاصم، والباقون: بإسكان القاف وضاد معجمة مكسورة مخففة.

قال الزجاج: "هذه كتبت هاهنا بغير ياءٍ على اللفظ، لأن الياء سقطت لالتقاء الساكنين، كما كتبوا: (سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) [العلق: 18] بغير واو".

ص: 112

(لَوْ أَنَّ عِنْدِي) أي: في قدرتي وإمكاني، (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب، (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي، وامتعاضاً من تكذيبكم به، ولتخلصت منكم سريعاً، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) وبما يجب في الحكمة من كنه عقابهم.

وقيل: (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) على حجةٍ من جهة ربي، وهي القرآن، (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي: بالبينة، وذكر الضمير على تأويل البيان أو القرآن.

فإن قلت: بم انتصب (الحق)؟ قلت: بأنه صفةٌ لمصدر "يقضي"؛ أي: يقضي القضاء الحق، ويجوز أن يكون مفعولاً به؛ ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وامتعاضاً)، الجوهري:"معضت من ذلك الأمر أمعض، وامتعضت منه: إذا غضبت وشق عليك".

قوله: (وقيل: (عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي): على حجةٍ من جهة ربي): عطف على قوله: "إني من معرفة ربي، وأنه لا معبود سواه، على حجةٍ واضحة".

هذا أشمل، وللنظم أوفق، لأنه قال في قوله تعالى:(قُلْ إنِّي نُهِيتُ): "أي: صرفت وزجرت بما ركب في من أدلة العقل، وما أوتيت من أدلة السمع"، كأنه قيل: إني صرفت عن الشرك بدليلي العقل والنقل، وثبت على التوحيد بهما، كما قال:"لما نفي أن يكون الهوى متبعاً، نبه على ما يجب إتباعه".

قوله: (بم انتصب (الحَقِّ)؟ ). السؤال مستدرك لما سبق "يقضي الحق"، أي: القضاء الحق، لعل إعادته لبيان وجه الإعراب بعد سبق تلخيص المعنى: أو كرر ليتعلق به وجه آخر.

ص: 113

من قولهم: قضى الدرع إذا صنعها، أي: يصنع الحق ويدبره. وفي قراءة عبد الله: "يقضى بالحق".

فإن قلت: لم أسقطت الياء في الخط؟ قلت: اتباعاً للخط اللفظ، وسقوطها في اللفظ لالتقاء الساكنين.

[(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)].

جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة، لأنّ المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال، ومن علم مفاتحها وكيف تفتح، توصل إليها، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قضى الدرع: إذا صنعها). قال الزجاج: أما "قضى" في معنى "صنع"، فمثله قول الهذلي:

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السوابغ تبع

قوله: (وفي قراءة عبد الله: "يقضي بالحق")، قال الزجاج:"القراء لا يقرؤونه لمخالفة المصحف".

قوله: (جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة). يمكن أن تكون الاستعارة مصرحة تحقيقية، استعير للعلم المفاتح، وجعلت القرينة إضافتها إلى الغيب، يعني: عنده علوم الغيب، وقوله: (لأن المفاتح" تعليل لبيان العلاقة، يعني إنما ساغت استعارة المفاتح لعلم الله تعالى لأن

ص: 114

فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده، لا يتوصل إليها غيره، كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها، فهو المتوصل إلى ما في المخازن. و"المفاتح": جمع مفتح، وهو المفتاح، وقرئ:"مفاتيح"، وقيل: هي جمع مفتحٍ - بفتح الميم - وهو المخزن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المفاتح هي التي يتوصل بها من علم بها، وبكيفية فتح المخازن المستوثق منها بالإغلاق، إلى ما في المخازن من المتاع. فعلم منه أنه تعالى أراد بهذه العبارة أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده، وأن تكون استعارة تمثيلية، بأن يجعل الوجه منتزعاً من أمور متوهمة، وهو ما يتوهم من تمكين تحصيل شيء مستوثق منه، يختص حصوله بمن عنده ما يتوصل به، وأنه مركب من أمور متعددة.

وهذا البيان ينبهك على أن "من" في "من علم" موصولة، والخبر "توصل إليها"، والجملة معطوفة على اسم "أن" مع خبره، على سبيل التفسير. والفاء في قوله:"فأراد" نتيجة مما حصل من معنى الاستعارة، وبيان كيفية حقيقتها. ولهذا ذكر المشبه والمشبه به، وصرح بكاف التشبيه. يعني إذا كانت استعارة، يكون أصلها كيت وكيت. هذا على تقدير المصنف.

وإن شئت جعلت الاستعارة في "الغيب" على سبيل المكنية، والقرينة: إضافة "المفتاح" إليه على التخييلية.

وقيل: جعل "من" موصولة ضعيف، لأنه يفوت الإيهام المراد هاهنا، فـ"من" شرطية عطفت على قوله:"المفاتح"، وإن كان لـ"من" الشرطية صدر الكلام، لأنه يجوز تقديراً ما لا يجوز مصرحاً به، نحو:"رب شاةٍ وسخلتها"، ولا يجوز "رب سلختها".

وقوله: "فأراد" إلى آخره عطف على "جعل"، لأن الاستعارة فرع التشبيه.

قوله: (أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده، لا يتوصل إليها غيره)، الانتصاف:"لا يجوز إطلاق "التوصل" على الله، لما يوهم من تجدد الوصول".

ص: 115

(وَلا حَبَّةٍ)(وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) عطف على (وَرَقَةٍ) وداخلٌ في حكمها، كأنه قيل: وما يسقط من شيءٍ من هذه الأشياء إلا يعلمه. وقوله: (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كالتكرير لقوله: (إِلَّا يَعْلَمُها)؛ لأنّ معنى (إِلَّا يَعْلَمُها) ومعنى (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) واحد. و"الكتاب المبين": علم الله تعالى، أو اللوح.

وقرئ: "ولا حبةٌ"، "ولا رطب ولا يابسٌ"؛ بالرفع، وفيه وجهان: أن يكون عطفاً على محل (مِنْ وَرَقَةٍ)، وأن يكون رفعاً على الابتداء، وخبره (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)، كقولك: لا رجلٌ منهم ولا امرأة إلا في الدار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: لا بأس إن أريد الاستمرار الدائم.

قوله: (أنه هو المتوصل وحده*. هذا التخصيص والتأكيد فيه يفهم من استعمال الظرف وإثباته لله عز وجل على سبيل الكناية، وتقديمه على المبتدأ، وتشبيه علم الغيب بمعرفة من يعلم كيفية فتح المخازن، ثم إرداف ذلك كله بقوله: (لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ)، وتكرير (إلاَّ فِي كِتَابٍ) تتميماً للمبالغة، وإزالةً لدفع من يتوهم أن أحداً يعلم الغيب، وقوله:(ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ والْبَحْرِ) إلى آخره، كالتكميل، ليضم مع علم الغيب علم الشهادة، على منوال قوله:(عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ)[الأنعام: 73]. كل ذلك ترغيماً للمنجم المخذول الذي يدعى علم الغيب، والفلسفي المطرود الذي يزعم أنه تعالى لا يعلم الجزئيات.

قوله: (كالتكرير): يعني كرر ما في معنى (إلاَّ يَعْلَمُهَا) لتعلقه بقوله: (ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ولا رَطْبٍ ولا يَابِسٍ) للتأكيد.

ص: 116

[(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)].

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) الخطاب للكفرة، أي: أنتم منسدحون الليل كله كالجيف، (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) ما كسبتم من الآثام فيه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أبو البقاء: " (إلاَّ فِي كِتَابٍ): إلا هو في كتاب. ولا يجوز أن يكون استثناءً يعمل فيه (يَعْلَمُهَا)، لأن المعنى يصير: وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها إلا في كتاب، فينقلب معناه إلى الإثبات، أي: إلا يعلمها في كتاب. وإذا لم يكن يعلمها إلا في كتاب وجب أن يعلمها في الكتاب. فإذاً يكون الاستثناء الثاني بدلاً من الأول، أي: وما تسقط من ورقة، ولا حبة، ولا رطب، ولا يابس، إلا هي في كتاب، وما يعلمها إلا هو".

وقال الزجاج رحمه الله: "معنى (إلاَّ يَعْلَمُهَا) أنه يعلمها ساقطةً وثابتة. فأنت تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه. فليس تأويله: إلا وأنا أعرفه في حال مجيئه فقط".

قلت: لما كانت سنة الله في الغالب جارية أن يضم مع ذكر دلائل الآفاق، دلائل الأنفس، عقب هاهنا إثبات علم الآفاق علم الأنفس تكميلاً، وذلك قوله:(وهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ). سبحانه! ما أعظم شأنه، وما أتم بيانه، وأوضح برهانه! (قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ)، وأشد طغيانه!

قوله: (أنتم منسدحون) أي: مستلقون. الجوهري: "السدح: الصرع بطحاً على الوجه، أو إلقاءً على الظهر".

ص: 117

(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ): ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار، ومن أجله، كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: في أمر كذا. (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم. (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) وهو المرجع إلى موقف الحساب، (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في ليلكم ونهاركم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومن أجله): عطف - على سبيل البيان - على قوله: "في شأن ذلك"، وفيه إشارة إلى أن الضمير في (فيه) واقع موقع اسم الإشارة.

قوله: (وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى) يريد أن معنى قوله: (ليقضي أجل مسمى) لينتهي أمد سماه الله تعالى لبعث الموتى، أو يؤدي ما التزمه الله تعالى بالوعد، لحلول القيامة. قيل: في تفسيره لـ"الأجل المسمى" و"البعث" إشكال، لأن البعث من القبور في شأن المذكور لا يكون علة لقضاء أجل مسمى إلا أن يقدر مضاف، أي: لقضاء أحوالٍ أو أمور أجل مسمى، وفي أكثر التفاسير:(يبعثكم فيه): يوقظكم في النهار، (ليقضي أجل مسمى)، أي: مدة الحياة، (ثم إليه مرجعكم) بعد الممات.

وقال القاضي: (يبعثكم): يوقظكم، أطلق البعث ترشيحاً للتوفي، (فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى): ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا. (ثُمَّ إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ): بالموت، (ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ): بالمجازاة عليه. وقيل: الآية خطاب للكفرة، والمعنى: أنكم ملقون كالجيف بالليل. وساق الكلام على ما بني عليه المصنف.

ص: 118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: تفسيره أقضى لحق البلاغة، لأنه لو أريد ما اختاره الأكثرون، لقيل: هو الذي يتوفاكم بالليل، ويبعثكم بالنهار، ليقضي أجل مسمى، ولأن إيراد العلم، واختصاص لفظة (يَتَوَفَّاكُمْ)، (جَرَحْتُم) دون آثامكم: كسبتم، وكلمة (فِيِه)، و (ثُمَّ)، و (يُنَبِئثكُم)، وتكرير الخطاب يدل على توبيخٍ شديد، وتهديد عظيم. ولا يليقُ ذلك إلا للمعاند الجاحد، ولهذا فسر التوفي بالليل بالانسداح كالجيف، ليقابل الاجتراح.

المعنى: أنتم في الليل متساقطون على الفراش كالموتى، وفي النهار كاسبون للمآثم والمظالم، كالجوارح، فإن الله تعالى إن أمهلكم في الدنيا، فلابد أن يميتكم، ثم يبعثكم بعد ذلك من القبور، لإنجاز ما وعدكم به وليجزيكم بما عملتم.

هذا، وإن المقام ينطبق عليه، لأن الله عز وجل في هذه السورة كلما أثبت صفةً من صفات الجلال، عاد إلى تهديد الكفار بما يناسب تلك الصفة، فهاهنا لما استوفى حق الكلام في شأن العلم، أتى بقوله:(ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) تهديداً ووعيداً، وذلك أن إيراد العلم، خصوصاً علم الغيب، استطراد لقوله تعالى:(قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ) يعني: ليس عندي ما تستعجلون به من العذاب، وأنه متى هو، ولو كان عندي ذلك لأهلكتكم عاجلاً، ولتخلصت منكم سريعاً، لكن الله أعلم بكم وبظلمكم، لأن عنده مفاتح الغيب، لا يعلمها إلا هو.

ولما فرغ منه عاد إلى تهديد أولئك الكفرة بقوله: (وهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَار) ليبعثكم فيه، ويجازيكم على النقير والقطمير. وفي إسناد "التوفي"

ص: 119

[(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ* ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ)].

(حَفَظَةً): ملائكةً حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون.

وعن أبي حاتم السجستاني: أنه كان يكتب عن الأصمعى كل شيءٍ يلفظ به من فوائد العلم، حتى قال فيه: أنت شبيه الحفظة، تكتب لفظ اللفظة، فقال أبو حاتم: وهذا أيضاً مما يكتب!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلى الله تعالى، و"الكسب" إليهم، إشعار بأن نومهم أفضل من يقظتهم، لإمساكهم عن اكتساب المآثم حينئذ.

وإنما جعل الانسداح المسند إلى أنفسهم تفسيراً للتوفي المسند إلى ذاته تعالى، لأنه مقابل لقوله:(ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ)، فجعل فعل الله تابعاً لفعل العبد، ولا مناقشة في هذا، لأن الكسب عند أهل السنة منسوب إلى العبد، وعلى هذا الضمير في (فيه) راجع إلى ما دل عليه التوفي والجرح.

وأما قول القائل: إن البعث من القبور في شأن المذكور لا يكون علة لقضاء أحوال أجل مسمى، فالمصنف ما ذهب إليه لأنه جعل البعث من القبور علةً لقضاء الوعد الذي وعده، وهو الأجل الذي ضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم، كقوله تعالى:(إلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وعْدَ اللَّهِ حَقًا إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله: (والَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ)[يونس: 4].

ص: 120

فإن قلت: الله تعالى غنيّ بعلمه عن كتبة الملائكة، فما فائدتها؟ قلت: فيها لطفٌ للعباد، لأنهم إذا علموا أن الله رقيبٌ عليهم والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم، يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح، وأبعد عن السوء.

(تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) أي: استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه.

وعن مجاهد: جعلت الأرض له مثل الطست يتناول من يتناوله، وما من أهل بيتٍ إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرّتين. وقرئ:(توفاه)، ويجوز أن يكون ماضياً ومضارعاً بمعنى: تتوفاه، و (يُفَرِّطُونَ) بالتشديد والتخفيف، فالتفريط: التواني والتأخير عن الحدّ، والإفراط: مجاوزة الحدّ، أي: لا ينقصون مما أمروا به، أو لا يزيدون فيه.

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ) أي: إلى حكمه وجزائه، (مَوْلاهُمُ): مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم، (الْحَقِّ): العدل الذي لا يحكم إلا بالحق،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فيها لطف للعباد)، قال القاضي:"وذلك أن العبد إذا وثق بلطف سيده، واعتمد على ستره وعفوه، لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه".

قوله: (وقرئ: "توفاه") حمزة: بالألف ممالة، والباقون: بالتاء الفوقانية.

قوله: (و (يُفَرِّطُونَ) بالتشديد) الجماعة. والتخفيف شاذة.

قوله: (لا ينقصون مما أمروا به) معنى القراءة بالتشديد، (أو لا يزيدون فيه) معنى التخفيف.

ص: 121

(أَلا لَهُ الْحُكْمُ) يومئذٍ لا حكم فيه لغيره، (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) لا يشغله حسابٌ عن حساب. وقرئ:"الْحَقِّ" بالنصب على المدح، كقولك: الحمد لله الحق.

[(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)].

(ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) مجازٌ عن مخاوفهما وأهوالهما، يقال لليوم الشديد: يومٌ مظلم، ويومٌ بارد، ويومٌ ذو كواكب. أي: اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل، ويجوز أن يراد: ما يشفون عليه من الخسف في البر والغرق في البحر بذنوبهم، فإذا دعوا وتضرعوا كشف الله عنهم الخسف والغرق، فنجوا من ظلماتهما، (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) على إرادة القول (مِنْ هذِهِ): من هذه الظلمة والشدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويوم ذو كواكب). وأنشد الزجاج:

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي

إذا كان يوم ذا كواكب أشهبا

والعرب تقول لليوم الذي تلقى منه شدة: "يوم مظلم".

قوله: (ما يشفون عليه)، الجوهري:"وأشفى على الشيء: أشرف عليه. وأشفى المريض على الموت". فعلى هذا المراد بـ (ظُلُمَاتِ البَرِّ والْبَحْرِ): الحقيقة.

ص: 122

وقرئ: (يُنَجِّيكُمْ) بالتشديد والتخفيف. و (أنجانا)، و (خُفيةً) بالضم والكسر.

[(قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَاسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ* وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ* لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)].

(هُوَ الْقادِرُ) هو الذي عرفتموه قادراً، وهو الكامل القدرة، (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) كما أمطر على قوم لوطٍ وعلى أصحاب الفيل الحجارة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: (يُنَجِيكُم) بالتخفيف والتشديد). بالتخفيف: نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن ذكوان. و (أَنَجانَا): عاصم وحمزة والكسائي، والباقون:"أنجيتنا".

قوله: ("وخفية" بالضم والكسر"، بالكسر: أبو بكر. والباقون: بالضم.

قوله: ((هُوَ القَادِرُ): هو الذي عرفتموه قادراً). ولما كان الخبر معرفاً باللام، وهو إما للعهد، فهو المراد من قوله:"الذي عرفتموه قادراً"، وإما للجنس، فهو المراد من قوله:"وهو الكامل القدرة".

وفيه إشعار بمذهبه، حيث لم يجعل الحصر حقيقياً، وفسره بالكمال، كما في (آلم *

ص: 123

وأرسل على قوم نوح الطوفان، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) كما أغرق فرعون وخسف بقارون، وقيل:(من فوقكم): من قِبَلِ أكابركم وسلاطينكم، و (من تحت أرجلكم): من قِبَلِ سِفْلَتِكُم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً): أو يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواءٍ شتى، كل فرقة منكم مشايعةٌ لإمام. ومعنى خلطهم: أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال، من قوله:

وكتيبة لبستها بكتيبةٍ

حتّى إذا التبست نفضت لها يدي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذَلِكَ الكِتَابُ) [البقرة: 1 - 2] و"حاتم الجواد". قال الإمام: "هذا يفيد الحصر، فوجب أن يكون غير الله غير قادر".

قوله: (أو يخلطكم). قال الزجاج: "لبست عليه الأمر ألبسه: إذا لم أبينه، وخلطت بعضه ببعض. ومعنى (شِيَعاً): فرقاً، أي: لا يكون شيعةً واحدة". يعني: يخلط أمركم خلط اضطراب، لا خلط اتفاق، فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضاً.

قوله: (أن ينشب القتال)، الجوهري:"يقال: نشب الشيء في الشيء نشوباً: علق فيه. وأنشبته أنا فيه: أي أعلقته. ويقال: نشبت الحرب بينهم".

قوله: (وكتيبةٍ) البيت، ألحق الباء بالكتيبة لأنه جعله اسماً للجيش، وهو من: تكتبت

ص: 124

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت الله أن لا يبعث على أمتى عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطانى ذلك، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني، وأخبرنى جبريل أنّ فناء أمتي بالسيف» .

وعن جابر بن عبد الله: لما نزل (مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك» ، فلما نزل:(أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) قال: «هاتان أهون» .

ومعنى الآية: الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخيل، أي: تجمعت. يقول: رب جيش خلطتها بجيش، فلما اختلطت نفضت يدي، وتركتهم وشأنهم.

وفي البيت كنايات، إحداها: أنه مهياج للحرب، وثانيها: قوله: "نفضت لها يدي" فإنه يدل على أنه خلاهم والفتنة، وثالثها: أنه فتان جبان.

قوله: (سألت الله). الحديث من رواية الترمذي، والنسائي، عن خباب، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم:"سألت الله ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة. سألته ألا يهلك أمتي بسنةٍ فأعطانيها، وسألته ألا يسلط عليهم من غيرهم [عدوا] فأعطانيها، وسألته ألا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها".

قوله: (أعوذ بوجهك) الحديث رواه البخاري وأحمد والترمذي عن جابر، مع زيادة يسيرة.

ص: 125

والضمير في قوله: (وَكَذَّبَ بِهِ) راجعٌ إلى العذاب، (وَهُوَ الْحَقُّ) أي: لا بدّ أن ينزل بهم، (قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ): بحفيظٍ وكل إليَ أمركم، أمنعكم من التكذيب إجباراً، إنما أنا منذر.

(لِكُلِّ نَبَإٍ): لكل شيءٍ يُنبأ به، يعني: إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به، (مُسْتَقَرٌّ): وقت استقرار وحصولٍ لا بدّ منه، وقيل: الضمير في (نَبَإٍ) للقرآن.

[(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)].

(يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) في الاستهزاء بها والطعن فيها؛ وكانت قريشٌ في أنديتهم يفعلون ذلك، (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ): فلا تجالسهم وقم عنهم، (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) فلا بأس أن تجالسهم حينئذ، (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ): وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم، (فَلا تَقْعُدْ) معهم (بَعْدَ الذِّكْرى): بعد أن تذكر النهي. وقرئ: (ينسينك) بالتشديد.

ويجوز أن يراد: وإن كان الشيطان ينسينك قبل النهي قُبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول، (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى): بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "ينسينك" بالتشديد). ابن عامر، والباقون: بالتخفيف.

قوله: (مما تنكره العقول) يعني: كانت مجالسة المستهزئين في آيات الله قبحاً في العقول، فكان للشيطان والوهم مجال في إيراد الشبه، وكان العقل يتحير ويبقي كالناسي والساهي، فحين زالت الموانع بالنص القامع للشبه، والدافع للوهم، فلا تقعد بعد ذلك معهم.

ص: 126

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ): وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيءٌ مما يحاسبون عليه من ذنوبهم، (وَلكِنْ) عليهم أن يذكروهم (ذِكْرى) إذا سمعوهم يخوضون؛ بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم، وموعظتهم، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال في "الانتصاف": هذا تنزيل على قاعدة الحسن والقبح، وأن العقل مدرك للأحكام، والشرع مبين لمقتضاه. ومما يدل على أن المراد خلاف ذلك ورود (يُنِسيَنَّكَ) مستقبلاً، ولو كان المراد نسيان ما علمه لقال: وإن أنساك فيما تقدم، فلا تقعد بعد النهي.

وقلت: المستقبل غير مانع، لأن له أن يقول: معناه: إن استمر ذلك النسيان السابق - الذي كان سبباً لورود قولنا: (وإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعرِضْ عَنْهُم) - فلا تقعد بعد أن ذكرنا به، أي: بقولنا: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ). لكن الوجه هو الأول، وهو أن يراد بقوله:(بَعْدَ الذِّكْرَى): بعد أن تذكر النهي.

قيل: "الخطاب بقوله: (وَإِذَا رَأَيْتَ) للرسول صلي الله عليه وسلم والمراد غيره، أو المراد: إذا رأيت أيها السامع". كذا ذكره الإمام.

وقال الواحدي: "إن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في الرسول صلي الله عليه وسلم والقرآن، فأمرهم ألا يقعدوا معهم".

وفيه: أن التكليف ساقط عن الناسي.

قوله: (بالقيام) يتعلق بقوله: "أن يذكروهم (ذِكْرَى) ".

ص: 127

(لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ): لعلهم يجتنبون الخوض حياءً أو كراهةً لمساءتهم. ويجوز أن يكون الضمير لـ (الذين يتقون)، أي: يذكرونهم إرادة أن يثبتوا على تقواهم ويزدادوها.

وروي أن المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزؤوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف، فرخص لهم.

فإن قلت: ما محل (ذِكْرى)؟ قلت: يجوز أن يكون نصباً على: ولكن يذكرونهم ذكرى، أي: تذكيراً، ورفعاً على: ولكن عليهم ذكرى. ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل (مِنْ شَيْءٍ)، كقولك: ما في الدار من أحد ولكن زيدٌ، لأنّ قوله:(مِنْ حِسابِهِمْ) يأبى ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لمساءتهم): أي: الذين يتقون. وهو مصدر: ساءه يسوؤه سوءاً - بالفتح - ومساءةً. وإضافتها إلى المفعول، وقيل: إلى الفاعل، والأول أظهر.

قوله: (يجوز أن يكون الضمير) أي: في (لَعَلَّهْمْ).

قوله: (لأن قوله: (مِنْ حِسَابِهِم) يأبي ذلك). قال أبو البقاء: (مِنْ) في (مِنْ شَيءٍ): زائدة، و (مِنْ حِسَابِهِم): حال، تقديره: شيء من حسابهم، يعني: شيء كائن من حسابهم، فإذا عطف (ذِكْرَى) على محل (مِنْ شَيءٍ)، رجع المعنى: ما يلزم المتقين الذكر الذي (مِنْ حِسَابِهِم)، لأن (مِنْ شَيءٍ) مقيد بقيد (مِنْ حِسَابِهِم) فإذا عطف عليه لابد من تقييده به.

واعترض صاحب "التقريب" وقال: "لا يلزم من وصف المعطوف عليه بشيء وصف المعطوف".

وأجيب أن ذلك في عطف الجملة على الجملة، وأما في عطف مفردات الجمل فملتزم،

ص: 128

[(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)].

(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي: دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً، وذلك أن عبادة الأصنام وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك، من باب اللعب واللهو واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كما سيجيء بيانه على سورة "براءة" في قوله: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ويَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)[التوبة: 25].

والمصنف لما فرغ من تقرير عطف الجملة على الجملة بقوله: "ولكن يذكرونهم ذكرى"، "أو لكن عليهم ذكرى"، أخذ في تقرير عطف المفرد بقوله:"على محل (مِنْ شَيءٍ) "، ومنعه.

قوله: (وذلك أن عبادة الأصنام) هو بيان اتخاذهم لعباً ولهواً. والمراد بالدين: مطلق الدين وحقيقته، يعني: كان يجب على كل مكلفٍ أن يتدين بدين، وينتحل بملة، وهؤلاء تدينوا باللعب واللهو، فعلى هذا: لَعِبًا ولَهْوًا ثاني مفعولي "اتخذ"، وعلى قوله:"أو اتخذوا ما هو لعب ولهو ديناً لهم" بالعكس. لعل المراد أنه من باب القلب، لتصحيح أصل المعنى. ولهذا جعل (دِيَنُهمْ) نكرة. ونحوه ذكر الزجاج في "الفرقان" عند قوله تعالى: (أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ

ص: 129

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مِنْ أَوْلِيَاءَ) [الفرقان: 18]، إذا قرئ "نتخذ" مجهولاً، فقال: أجاز الفراء أن يجعل (مِنْ أَوْلِيَاءَ) هو الاسم، ويجعل الخبر ما في "نتخذ" كأنه يجعل على القلب.

واعلم أن الوجه الأول محمول على معنى قوله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ)[الفرقان: 43]، لأن الأصل: من اتخذ هواه كالإله نزل أمر الهوى والشهوات في متابعة ما يدعوهم إليه منزلة الإله الواجب العبادة، ثم قيل:(مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ) فقد المشبه به على المشبه، عكساً للتشبيه، روماً للمبالغة، وإيذاناً بأن الهوى في باب استحقاق العبادة أقوى من الإله. وفي كلام صاحب "المفتاح" إشعار بهذا.

فكذلك حكم هذه الآية، شبه أولاً ما بنوا عليه نحلتهم من عبادة الأصنام، وتحريم البحائر والسوائب، بالدين الذي يجب على كل أحدٍ أن ينتحل به، فينتفع به عاجلاً وآجلاً، ثم سميت تلك النحلة باللعب واللهو، لكونها مبنية على قاعدة التشهي وأنهم لا ينتفعون بها، بل يتضررون من أجلها، ثم قدم المشبه به على المشبه للمبالغة المذكورة.

وعلى هذا المنوال ينسج الوجه الثاني عند صاحب "المفتاح"، لأن باب القلب عنده

ص: 130

ومن جنس الهزل دون الجد، أو: اتخذوا ما هو لعبٌ ولهوٌ من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم، أو: اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه- وهو دين الإسلام- لعباً ولهواً، حيث سخروا به واستهزؤا.

وقيل: جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً، غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محمول على أصل المعنى، لكن المختار أنه جارٍ على أصل التشبيه، من تقديم المشبه على المشبه به، وإن كان قلباً في اللفظ. والأول أبلغ.

وأما الوجه الثالث فتقديره: جعلوا دين الإسلام، والملة الحنيفية التي تستحق كل تبجيل وتعظيم، كاللعب واللهو الذي يستلزم السخرية والاستهزاء، فاستهزؤوا به، كقوله تعالى:(وإذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا)[الجاثية: 9].

وأما بيان النظم فإن قوله تعالى: (وذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا): عطف على قوله: (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وهو متصل بقوله:(وإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعرِضْ عَنْهُم)، يعني: فلا تقعد بعد الذكرى مع هؤلاء الظلمة الذين يخوضون في آياتنا، ودع مصاحبة من بني دينه على اللعب واللهو، وغرته الحياة الدنيوية. ويجوز أن تكون الواو استئنافاً، والآية مستطردة.

قوله: (أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه) فعلى هذا المراد بالدين: الدين المقيد، ومن ثم قال:"وهو دين الإسلام".

قوله: (وقيل: قد جعل الله لكم قومٍ عيداً) سمى العيد بالدين مجازاً، لأن العيد مبني على العادات، والدين: العادة. النهاية: "وفي الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام كان على دين

ص: 131

ومعنى (ذرهم): أعرض عنهم، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم (وَذَكِّرْ بِهِ) أي: بالقرآن، (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب، وترتهن بسوء كسبها. وأصل الإبسال: المنع، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قومه، أي: على ما بقي فيهم من إرث إبراهيم، من الحج والنكاح والميراث، وليس المراد الشرك الذي كانوا عليه، وقيل: هو من الدين: العادة، يريد به: أخلاقهم في الكرم، والشجاعة، وغير ذلك".

قوله: (وأصل الإبسال: المنع). قال الزجاج: (تُبْسَلَ): تسلم بعملها غير قادرةٍ على التخلص، والمستبسل: المستسلم الذي يعلم أنه لا يقدر على التخلص. قال الشاعر:

وإبسالي بني بغير جرم

بعوناه ولا بدمٍ مراق

أي: إسلامي إياهم. والبعو: الجناية.

"وقيل: أبسل: رهن، والمعنى واحد. يقال: أسد باسل، أي: معه من الإقدام ما يستبسل له قرنه، ويقال: هذا بسل عليك، أي: حرام". تم كلامه.

قائل البيت: عوف بن الأحوص، وكان حمل عن غني لبني قشيرٍ دم ابني السجفية، فقالوا: لا نرضى بك، فرهنهم بنيه طلباً للصلح، فقال تحسراً وتلهفاً على تسليم بنيه إلى الهلكة بغير جرمٍ جرموه، ولا دمٍ أهراقوه.

ص: 132

لأن المسلم إليه يمنع المسلم، قال عوف بن الأحوص:

وإبسالى بنىَّ بغير جرم

بعوناه ولا بدم مراق

ومنه: هذا عليك بسلٌ، أي: حرامٌ محظور. والباسل: الشجاع لامتناعه من قرنه، أو لأنه شديد البسور، يقال: بسر الرجل؛ إذا اشتدّ عبوسه، فإذا زاد قالوا: بسل. والعابس: منقبض الوجه.

(وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها): وإن تفد كل فداء، والعدل: الفدية، لأن الفادي يعدل المفدي بمثله. و (كلّ عدلٍ): نصبٌ على المصدر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن المسلم إليه يمنع المسلم). يعني: إذا أسلموا أحداً إلى الهلاك، فالهلاك هو المسلم إليه يمنع الشخص المسلم من الخروج منه.

فالمعنى: ذكر بالقرآن، مخافة أن تسلم نفس إلى الهلكة، بسبب ما كسبت من المآثم، فلا تتخلص منها، كما أن أعمالها السيئة تمنعها من الخلاص، كما أن المسلم إليه يمنع المسلم أن يتخلص منه، نحوه في المعنى قوله تعالى:(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)[المدثر: 38].

وقال القاضي: "إنما قيل: أسد باسل، لأن فريسته لا تفلت منه".

الراغب: "البسل: ضم الشيء ومنعه، ولتضمنه لمعنى الضم استعير لتقطيب الوجه، فقيل: هو باسل ومبتسل الوجه. ولتضمنه لمعنى المنع، قيل للمحرم والمرتهن: بسل. والفرق بين الحرام والبسل أن الحرام: عام للممنوع منه حكماً أو قهراً. والبسل هو الممنوع منه قهراً. قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا، أي: حرموا الثواب، وفسر بالارتهان، كقوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) ".

ص: 133

وفاعل (يُؤْخَذْ) قوله: (مِنْها) لا ضمير العدل، لأنّ العدل هاهنا مصدر، فلا يسند إليه الأخذ.

وأما في قوله تعالى: (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ)[البقرة: 48] فبمعنى المفديِّ به، فصحّ إسناده إليه.

(أُولئِكَ) إشارةٌ إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً. قيل: نزلت في أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان.

[(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفاعل (يُؤْخَذْ) قوله: (مِنْهَا)). وهذا كما تقول: "أُخِذ مِنّي" وتسكت. وتقول: "سير من البلد". فالفعل لابد له من فاعل، وفاعله ما يصح السكوت عليه.

قوله: (لا ضمير العدل). أي: الضمير في (لا يُؤْخَذُ مِنْهَا) لا يرجع إلى "العدل"، لأنه مصدر. فإن قيل: كيف صح إسناده في تلك الآية، على تأويل المفتدى به، ولم يصح هاهنا؟

وأجيب: لأنه في تلك الآية لم يقع مفعولاً مطلقاً ابتداءً، بخلافه هاهنا.

قال في "الانتصاف": "ونظيره ما سبق أن الضمير في: (فَتَنفُخُ فِيهَا) لا يعود إلى "الهيئة" من قوله: (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)، وأوجب كون "العدل" هاهنا مصدراً يتعدى الفعل إليه بغير واسطة، ولو كان مفعولاً به لقيل: بكل عدل".

ص: 134

(قُلْ أَنَدْعُوا) أنعبد، (مِنْ دُونِ اللَّهِ) الضارّ النافع ما لا يقدر على نفعنا ولا مضرتنا، (وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا) راجعين إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله منه وهدانا للإسلام (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ): كالذي ذهبت به مردة الجن والغيلان، (فِي الْأَرْضِ): في المهمه، (حَيْرانَ): تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع! (لَهُ) أي: لهذا المستهوى (أَصْحابٌ) رفقة، (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى): إلى أن يهدوه الطريق المستوي. أو سمي الطريق المستقيم بالهدى، يقولون له:(ائْتِنا) وقد اعتسف المهمه تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم. وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده: أن الجنّ تستهوي الإنسان، والغيلان تستولي عليه، كـ (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة: 275]، فشبه الضالّ عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم، (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ) وهو الإسلام، (هُوَ الْهُدى) وحده، وما وراءه، ضلالٌ وغيّ، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) [آل عمران: 85]، (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس: 32].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو سمي الطريق المستقيم بالهدى): عطف على "أن يهدوا"، أي:(الْهُدّى) يجوز أن يكون مصدراً على أصله، وأن يسمى الطريق المستقيم به.

قوله: (وقد اعتسف)، الجوهري:"العسف: الأخذ على غير الطريق، وكذلك: التعسف والاعتساف".

قوله: (وهاذ مبني على ما تزعمه العرب). قال صاحب "الانتصاف": "من أنكر استهواء الجن، واستيلاءهم هم على بعض الناس، بقدرة الله، فهو ممن استهوته الشياطين في مهامه الضلال، والفلسفي حيران له أصحاب من الموحدين يدعونه إلى الهدى: ائتنا، وهو راكب في ضلاله التعاسيف".

ص: 135

فإن قلت: ما محل الكاف في قوله: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ)؟ قلت: النصب على الحال من الضمير في "نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا" أي: أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟

فإن قلت: ما معنى (اسْتَهْوَتْهُ)؟ قلت: هو استفعال، من هوى في الأرض؛ إذا ذهب فيها، كأن معناه: طلبت هويه وحرصت عليه.

فإن قلت: ما محل: "أُمِرْنا"؟ قلت: النصب عطفاً على محل قوله: (إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى)، على أنهما مقولان، كأنه قيل: قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: يمكن حمل قول المصنف على ما ذهب إليه صاحب "النهاية" في قوله صلي الله عليه وسلم: "لا غول" ليس نفياً لعين الغول ووجوده، وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة، فيكون المعنى: أنها لا تستطيع أن تضل أحداً، ويشهد له الحديث الآخر:"لا غول ولكن السعالي"، والسعالي: سحرة الجن، أي: ولكن في الجن سحرة، لهم تلبيس وتخييل.

قوله: (على الحال من الضمير في "نرد". قال صاحب "الفرائد": "حاصل هذا الكلام: نرد في حال أشباهنا كقولك: جاء زيد راكباً، أي: في حال ركوبه. والرد ليس في حال الأشباه، كما أن المجيء في حال الركوب، ويمكن أن يقال: الكاف منصوب المحل على المصدر، أي: نرد رداً مثل رد الذي استهوته".

وقلت: الحال مؤكدة، كقوله تعالى:(ثُمَّ ولَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)[التوبة: 25] فلا يلزم ذلك. والتشبيه، على أن يكون حالاً، من التمثيلي: شبه حال من خلص من الشرك، ثم نكص على

ص: 136

فإن قلت: ما معنى اللام في (لِنُسْلِمَ)؟ قلت: هي تعليل للأمر، بمعنى: أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم.

فإن قلت: فإذا كان هذا وارداً في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام:(قل أندعوا)؟ قلت: للاتحاد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، خصوصاً بينه وبين الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

[(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ* وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عقبيه، بحال من ذهب به الغيلان في المهمه، بعدما كان على الجادة المستقيمة، وعلى أن يكون مصدراً يكون من المركب العقلي.

قوله: (هي تعليل للأمر). قال أبو البقاء: "أي: أمرنا بذلك لنسلم، وقيل: اللام بمعنى الباء، وقيل: هي زائدة، أي: أن نسلم".

قال الزجاج: "العرب تقول: أمرتك أن تفعل، وأمرتك بأن تفعل، وأمرتك لتفعل، فعلى الأولى الباء محذوفة. فمن قال: أمرتك بأن تفعل، فالباء للإلصاق، أي: وقع الأمر بهذا الفعل. وعلى الثالث اللام للتعليل، فقد أخبرنا بالعلة التي لها وقع الأمر".

ص: 137

فإن قلت: علام عطف قوله: (وَأَنْ أَقِيمُوا)؟ قلت: على موضع (لِنُسْلِمَ)، كأنه قيل: وأُمرنا أن نسلم وأن أقيموا. ويجوز أن يكون التقدير: وأمرنا لأن نسلم، ولأن أقيموا: أي: للإسلام ولإقامة الصلاة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال في "الانتصاف": "قوله: اللام تعليل للأمر، بناءً على أن الأمر يلزمه الإرادة. وأما أهل السنة فيرون في هذه اللام، وفي قوله: (إلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] إن كانت تعليلاً، أنهم بإزاحة العلل عوملوا معاملة من أريد منهم ذلك، وإن لم تكن الطاعة مرادة".

قوله: (على موقع (لِنُسْلِمَ)). قال الزجاج: (وأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) فيه وجهان، أحدهما: أن يكون: أمرنا لنسلم، ولأن نقيم الصلاة، وثانيهما: أن يكون محمولاً على المعنى، لأن المعنى: أمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة، ويجوز أن يكون محمولاً على قوله:(يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى ائْتِنَا)[الأنعام: 71]، (وأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ)، أي: ويدعونه أن أقيموا الصلاة، وكذا عن أبي البقاء. وذكر القاضي ما ذكره المصنف. فقول المصنف:"على موقع (لِنُسْلِمَ) "، أي: لو وقع موقعه "أن نسلم"، بحذف الجار، لصح العطف، فعطف عليه بذلك الاعتبار، كما في (فَأَصَّدَّقَ وأَكُن) [المنافقون: 10].

وقال الإمام: "وكان من الظاهر أن يقال: أمرنا لنسلم ولأن نقيم، وإنما عدل إلى قوله: (وأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ) (وأَنْ أَقِيمُوا) ليؤذن بأن الكافر ما دام كافراً كان كالغائب الأجنبي، فخوطب بما يخاطب به الغيب، وإذا أسلم ودخل في زمرة المؤمنين، صار كالقريب الحاضر، فخوطب بما يخاطب به الحاضرون".

ص: 138

(قَوْلُهُ الْحَقُّ) مبتدأ، و (وَيَوْمَ يَقُولُ) خبره مقدّماً عليه، وانتصابه بمعنى الاستقرار، كقولك: يوم الجمعة القتال. واليوم بمعنى الحين، والمعنى: أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحق والحكمة، وحين يقول لشيءٍ من الأشياء:"كُنْ"، فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة، أي: لا يكون شيئاً من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب.

و(يَوْمَ يُنْفَخُ) ظرفٌ لقوله: (وَلَهُ الْمُلْكُ)، كقوله:(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ)؟ [غافر: 16].

ويجوز أن يكون (قَوْلُهُ الْحَقُّ) فاعل (يكون)، على معنى: وحين يقول لقوله الحق- أي: لقضائه الحق-: (كُنْ فيكون قوله الحق) .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((قَوْلُهُ الحَقُّ): مبتدأ، و (ويَوْمَ يَقُولُ) خبره). قال أبو البقاء:"فعلى هذا الواو داخلة على الجملة المقدم فيها الخبر. و (الْحَقُّ) صفة لـ: (قَوْلُهُ)، وقوله: ويجوز أن يكون الظرف متعلقاً بمعنى الجملة التي هي (قَوْلُهُ الحَقُّ)، أي: يحق قوله في يوم يقول: كن".

قلت: الواو استثنائية، والجملة تذييل لقوله:(وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِالْحَقِّ). ولهذا جعل "اليوم" بمعنى "الحين" ليعم الزمان، ثم قال:"أي: لا يكون شيئاً من السماوات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمةٍ وصواب".

قوله: (ويجوز أن يكون (قَوْلُهُ الحَقُّ) فاعل (يَكُوُن). قال أبو البقاء: "المعنى: فيوجد قوله الحق. فعلى هذا يكون (قُوْلُهُ) بمعنى: "مقولة"، أي: فيوجد ما قال له: "كن".

ص: 139

وانتصاب "اليوم" لمحذوفٍ دلّ عليه قوله: (بِالْحَقِّ)، كأنه قيل: وحين يكوّن ويقدّر يقوم بالحق.

(عالِمُ الْغَيْبِ) هو عالمُ الغيب، وارتفاعه على المدح.

[(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ* فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأي: كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأي: الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأي: الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)].

(آزَرَ): اسم أبي إبراهيم عليه السلام. وفي كتب التواريخ أنّ اسمه بالسريانية تارح، والأقرب أن يكون وزن (آزَرَ): فاعل،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: قريب منه قول المصنف: "أي: لقضائه الحق".

قوله: (وانتصاب "اليوم"): أي (ويَوْمَ يَقُولُ) - على هذا التقدير - منتصب بمحذوف، وهو "يقوم"، والدال عليه:(بِالْحَقِّ)، لأنه حال، وتقديره كما قال:"قائماً بالحق"، ففيه معنى "يقوم".

قال أبو البقاء: "يجوز أن يكون عامله: اذكر".

قوله: (أن اسمه بالسريانية: تارح). قال صاحب "الجامع": "تارح. التاء فوقها نقطتان، وفتح الراء وبالحاء المهملة".

ص: 140

مثل تارخ، وعابر، وعازر، وشالخ، وفالغ، وما أشبهها من أسمائهم، وهو عطف بيانٍ لأبيه. وقرئ:«آزر» بالضم على النداء.

وقيل: «آزر» : اسم صنم، فيجوز أن ينبز به للزومه عبادته، كما نبز ابن قيسٍ بالرقيات اللاتي كان يشبب بهنّ، فقيل: ابن قيس الرقيات. وفي شعر بعض المحدثين:

أُدعى بأسماء نبزاً في قبائلها

كأن أسماء أضحت بعد أسمائي

أو أريد: عابد آزر، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

وقرئ "ءأزر تتخذ أصناما آلهةً" بفتح الهمزة وكسرها بعد همزة الاستفهام وزاي: ساكنة وراءٍ منصوبةٍ منونة، وهو اسم صنم. ومعناه: أتعبد إزراً؟ على الإنكار، ثم قال: تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخلٌ في حكم الإنكار، لأنه كالبيان له.

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) عطفٌ على (قال إبراهيم لأبيه)، وقوله:(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) جملةٌ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كان يشبب بهن). الشبيب: النسيب. يقال: هو يشبب بفلانه، أي: يذكر صفتها وحاله معها، في الشعر.

قوله: (بعض المحدثين). هو: أبو بكرٍ محمد الأصفهاني، خازن الصاحب ابن عباد.

ص: 141

معترضٌ بها بين المعطوف والمعطوف عليه. والمعنى: ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره ملكوت السموات والأرض، يعني الربوبية والإلهية، ونوفقه لمعرفتها، ونرشده بما شرحا صدره وسدّدنا نظره وهديناه لطريق الاستدلال، (وَلِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ) فعلنا ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومثل ذلك التعريف)، يريد أن المشار إليه بقوله:"كذلك" معنى ما سيجيء. وعليه في وجه قوله تعالى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ)[الكهف: 78]. قال المصنف: "قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده، فأشار إليه".

كذلك سبحانه وتعالى جعل المشار إليه معنى الآيات التالية، وهي التعريف والتبصير.

ويجوز أن يقال: إن الجملة معترضة بين المعطوف، وهو (فَلَمَّا جَنَّ)، والمعطوف عليه، وهو:(قَالَ إبْرَاهِيمُ). والجملة المعترضة مؤكدة، فمرتبتها التأخير، فيكون المشار إليه سابقاً في المرتبة وإن تأخر في اللفظ.

ويجوز أن يكون المشار إليه: ما به أنذر أباه، وضلل قومه من المعرفة والبصارة، فيكون قوله:(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) تفصيلاً وبياناً لمعنى المثل في "كذلك".

قوله: (يعني الربوبية) تفسير لقوله: (مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ)، وقوله:"ونوفقه لمعرفتها": تفسير للتفسير.

قال القاضي: " (مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ): ربوبيتها وملكها. وقيل: عجائبها وبدائعها، والملكوت: أعظم الملك، والتاء فيه للمبالغة".

ص: 142

و (نُرى) حكايةُ حالٍ ماضية، وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدٍّ إلى أن شيئاً منها لا يصح أن يكون إلهاً، لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثاً أحدثها، وصانعاً صنعها، ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها.

(هذا رَبِّي): قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، لأنّ ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب، ثم يكرّ عليه بعد حكايته، فيبطله بالحجة.

(لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ): لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين عن حالٍ إلى حال، المتنقلين من مكانٍ إلى مكان، المحتجبين بستر، فإنّ ذلك من صفات الأجرام.

(بازِغاً): مبتدئاً في الطلوع، (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) تنبيهٌ لقومه على أنّ من اتخذ القمر إلهاً- وهو نظير الكوكب في الأفول- فهو ضال، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه.

(هذا أَكْبَرُ) من باب استعمال النصفة أيضاً مع خصومه، (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها.

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي: للذي دلَّت هذه المحدثات عليه، وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها.

وقيل: هذا كان نظره واستدلاله في نفسه، فحكاه الله،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أنجى من الشغب)، الجوهري:"الشغب - بالتسكين، والغين المعجمة-: تهييج الشر، ولا يقال: شغب، بالفتح".

قوله: (وقيل: هذا كان نظره): معطوف على جملة قوله: "وكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام

، فأراد أن ينبههم على الخطأ". فعلى هذا الفاء في (فَلَمَّا جَنَّ) تفصيلية كما سبق.

ص: 143

والأوّل أظهر لقوله: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي)، وقوله:(يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ، وكلاهما انتقال من حالٍ إلى حال؟ قلت: الاحتجاج بالأفول أظهر، لأنه انتقال مع خفاءٍ واحتجاب.

فإن قلت: ما وجه التذكير في قوله: (هذا رَبِّي) والإشارة للشمس؟ قلت: جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارةً عن شيءٍ واحد، كقولهم: ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك؟ و (لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأنعام: 23]، وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث. ألا تراهم قالوا في صفة الله:«علام» ، ولم يقولوا:«علامة» وإن كان العلامة أبلغ، احترازاً من علامة التأنيث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والأول أظهر) أي: استدلاله لأجل قومه على سبيل الاستدراج أقوى لقوله: (لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي).

قال الزجاج: "واحتج القائلون بأن قوله كان على وجه النظر والاستدلال، بهذه الآية، وهذا لا يوجب ذلك، لأن الأنبياء تسأل الله أن يثبتها على الهدى، وتعلم أنه لولا هداية الله ما اهتدت، وقد قال: (واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35] ".

والعجب أن المصنف قلب القضية، فجعل دليل الخصم دليله، وذلك أن اللام في قوله:(لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي) موطئة للقسم، بدليل قوله:(لأَكُونَنَّ). وقد تقرر أن الجملة القسمية إنما يتلقى بها من ينكر ويبالغ في الإصرار. وعلى تقدير أنه عليه الصلاة والسلام كان مستدلا، واختلج في خلده تردد، لم يبلغ تردده أن ينكر على نفسه هذا الإنكار البليغ، ولأن قوله:(رَبِي) تصريح بأنه لم يكن مستدلا لنفسه، ولهذا قال:"الأول أظهر".

ص: 144

وقرئ: "تري إبراهيم ملكوت السموات والأرض" بالتاء ورفع "الملكوت"، ومعناه: تبصره دلائل الربوبية.

[(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ* وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ* وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الانتصاف: "إنما عرض بضلالهم في أمر القمر، لأنه قد أيس منهم في أمر الكواكب، ولو قاله في الأول لما أنصفوا ولا أصغوا، ولهذا صرح في الثالثة بالبراءة منها، وأنهم على شرك، لما تبلج الحق، وبلغ الغاية في الظهور، ثم قال: "صدق صاحب الكشاف، بل يتعين هذا. وقد جاء في حديث الشفاعة:"فيأتون إبراهيم، فيذكر كذباته الثلاث" وهي كلها معاريض، فلو صدر منه أمر أشد، لذكره، ولو كان هذا مع نفسه لكان شكاً في الله، ولكان أعظم ما صدر عنه، فكان أولى أن يعده، والصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك".

قلت: وأما حسن التأليف فإن قوله لأبيه، وإنكاره عليه بقوله:(أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إنِّي أَرَاكَ وقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) إنما ينتظم انتظاماً مع قوله: (يَا قَوْمِ إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ) إذا كان الاستدلال لأجل القوم، لأن صرف الخطاب معه إلى القوم يستدعي ألا يكون قد أشرك بالله طرفة عين، يؤيده قوله تعالى:(إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الصافات: 84].

ص: 145

مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ)].

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ) وكانوا حاجوه في توحيد الله ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك، (وَقَدْ هَدانِ) يعني: إلى التوحيد، (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) وقد خوفوه أنّ معبوداتهم تصيبه بسوء، (إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً): إلا وقت مشيئة ربي شيئاً يُخاف، فحذف "الوقت"، يعني: لا أخاف معبوداتكم في وقتٍ قط؛ لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة، إلا إذا شاء ربي أن يصيبني بمخوفٍ من جهتها إن أصبت ذنباً أستوجب به إنزال المكروه، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونحو هذا الخطاب قول الرسل: (ومَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[يس: 22]. وأما معنى قوله تعالى: (وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ) على ما فسره: (ومثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم"، فالمراد هداية طريقة الاستدلال مع الخصوم، ومزيد تسديد النظر لنفسه. ولا شك أن العارف كلما كر إلى الدلائل، وقررها مع الخصوم، ازداد يقينه، لاسيما إذا حصل مع ذلك إفحام الخصوم، ومن ثم كررها الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد.

ص: 146

مثل أن يرجمني بكوكبٍ أو بشقةٍ من الشمس أو القمر، أو يجعلها قادرة على مضرتي، (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي: ليس بعجبٍ ولا مستبعدٍ أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها، (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) فتميزوا بين الصحيح والفاسد، والقادر والعاجز.

(وَكَيْفَ أَخافُ) لتخويفكم شيئاً مأمون الخوف لا يتعلق به ضررٌ بوجه، (و) أنتم (لا تَخافُونَ) ما يتعلق به كل مخوف، وهو إشراككم بالله (ما لم ينزل) بإشراكه (سُلْطاناً) أي: حجة، لأن الإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة، كأنه قال: وما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويعضده ما ذكره محيي السنة: (لا يجوز أن يكون لله رسول، يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد، وبه عارف، ومن كل معبودٍ سواه بريء. وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله، وطهره، وآتاه رشده من قبل، وأخبر عنه، فقال: (إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الصافات: 84]، وقال:(وكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ)! أفتراه أراهه الملكوت ليوقن، فلما أيقن (رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي) معتقداً! هذا لا يكون أبداً، بل أراد أن يستدرج القوم بهذا القول، ويعرفهم خطأهم وجهلهم في تعظيم ما عظموه، وكانوا يعظمون النجوم، ويعبدونها، ويرون أن الأمور كلها إليها".

قوله: (وما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن؟ ) زاد "الموضع" ليشير إلى أنه متمكن على الأمن، فلا يحوم الخوف بساحته، وأنهم على عكسه، تأكيداً لقوله:(وكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ولا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ)، وإنما زاد "أنتم" لينبه على أنهم أحقاء بالخوف، فبني الكلام على تقوي الحكم.

ص: 147

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفيه: أن الشرك مكان الخوف ومعدنه، كما أن التوحيد موضع الأمن ومقره، ولهذا استؤنف بقوله:(الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ) أي: بشرك، بياناً لأمن من تمسك بالتوحيد، وتبرأ عن الشرك، كأنه سأل صلوات الله عليه: أي الفريقين - يعني: فريقي المشركين والموحدين - أحق بالأمن؟ وأجاب هو: هم الذين آمنوا. وهو من باب التبكيت، كقوله تعالى:(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ)[الأنعام: 19]، (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) [الرعد: 16]. و"قل" في الآية مقدر.

فظهر من هذا أن الواجب أن يفسر الظلم بالشرك، ولفظ "اللبس" لا يأباه كما سنقرره، وكان تفسير سيد المرسلين، وإمام الموحدين، أولى بالتلقي، على ما روينا عن البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل والترمذي، عن ابن مسعود: لما نزلت الآية شق ذلك على المسلمين، وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]؟ ". وفي رواية البخاري: "ليس كما تظنون"، ولأن اسم الإشارة الواقع خبراً للموصول مع صلتها،

ص: 148

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يشير إلى أن ما بعده ثابت لمن قبله، لاكتسابه ما ذكر من الصفة، ولا ارتياب أن الأمن المذكور بعده هو الأمن المذكور قبل، وهو الأمن الحاصل للموحدين في قوله:(أَحَقُّ بِالأَمْنِ) لأن المعرف إذا أعيد كان الثاني عين الأول، فيجب أن يكون الظلم عين الشرك، ليسلم النظم، فإذا ليس الكلام في المعصية والفسق.

أما معنى "اللبس" فهو ما قال القاضي: "لبس الإيمان بالظلم: أن يصدق بوجود الصانع الحكيم، ويخلط بهذا التصديق الإشراك به".

وقلت: يؤيده قوله تعالى: (ومَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إلاَّ وهُم مُّشْرِكُونَ)[يوسف: 106]، قال المصنف:" (ومَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم) في إقراره (بِاللَّهِ)، وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض، إلا وهو مشرك بعبادته الوثن، وعن الحسن: هم أهل الكتاب، معهم شرك وإيمان".

وقال صاحب "التقريب": "ويحتمل أن يقال: النفاق: لبس الإيمان الظاهر بالكفر الباطن".

وقلت: هو نحو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ)[النساء: 136]. قال المصنف: "كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا نفاقاً آمنوا إخلاصاً"، ويجوز أن يراد بـ (الَّذِينَ آمَنُوا) المصدقون بألسنتهم، كما قال في قوله تعالى:(واخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 215]: "فيه وجهان: أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين، وأن يريد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم، وهم صنفان: صنف صدق واتبع، وصنف ما وجد منه إلا التصديق فحسب".

ص: 149

ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف؟ ولم يقل: فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم؟ احترازاً من تزكيته نفسه، فعدل عنه إلى قوله:(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) يعني فريقي المشركين والموحدين.

ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) أي: لم يخلطوا إيمانهم بمعصيةٍ تفسقهم، وأبى تفسير "الظلم" بالكفر لفظ اللبس.

(وَتِلْكَ) إشارةٌ إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) إلى قوله: (وَهُمْ مُهْتَدُونَ).

ومعنى (آتَيْناها): أرشدناه إليها ووفقناه لها، (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) يعني: في العلم والحكمة. وقرئ بالتنوين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما قوله: "وأبى تفسير "الظلم" بالكفر لفظ اللبس": فمبني على أن لفظ "اللبس" موضوع للخلط، وهو يقتضي شيئين، وذلك لا يتصور هاهنا، إذ الكفر والإيمان لا يجتمعان، وأما المعصية فيتصور فيه الخلط، كقوله تعالى:(خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا)[التوبة: 102].

قال الجوهري: "اللبس - بالضم: مصدر قولك: لبست الثوب، ألبس. واللبس - بالفتح: مصدر قولك: لبست عليه الأمر ألبس: خلطت"، والجواب ما سبق.

قوله: (ولم يقل: فأينا أحق بالأمن: أنا أم أنتم؟ احترازاً من تزكية نفسه)، لأن الكلام مرتب بالفاء على (أَخَافُ) ولا تخافون، فيجب تقدير "أينا: أنا وأنتم" مفرداً وجماعة، فيلزم منه أمن نفسه وخوفهم، فكان تزكيته لنفسه صريحاً.

قوله: (وقرئ بالتنوين): عاصم وحمزة والكسائي. قال أبو البقاء: (دَرَجَاتٍ) يقرأ

ص: 150

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) الضمير لنوحٍ أو لإبراهيم، و (داوُدَ) عطفٌ على (نُوحاً)، أي: وهدينا داود، (وَمِنْ آبائِهِمْ) في موضع النصب عطفاً على (كلاً)، بمعنى: وفضلنا بعض آبائهم.

(وَلَوْ أَشْرَكُوا) مع فضلهم وتقدّمهم وما رفع لهم من الدرجات؛ لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم، كما قال تعالى وتقدّس:(لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)[الزمر: 65].

(آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يريد الجنس، (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ) بالكتاب والحكمة والنبوّة، أو بالنبوّة، (هؤُلاءِِ) يعني: أهل مكة، (قَوْماً) هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم، بدليل قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)، وبدليل وصل قوله:(فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) بما قبله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بالإضافة، وهو مفعول (نَرْفَعُ)، ورفع درجة الإنسان رفع له، ويقرأ بالتنوين، و (مَن) على هذا: مفعول (نَرْفَعُ)، و (دَرَجَاتٍ): ظرف. أو حرف الجر محذوف، أي: إلى درجات.

وقيل: منتصب انتصاب المصدر: أي نرفعه رفعات. ويجوز أن ينتصب على التمييز من (مَن نَشَآءُ)، لأنه ما رفع أنفسهم، وإنما رفعت درجاتهم.

قوله: ((ومِن ذُرِّيَّتِهِ) الضمير لنوحٍ أو لإبراهيم)، نقله من "معاني" الزجاج. والصحيح الأول.

قال محيي السنة: (ومِن ذُرِّيَّتِهِ)، أي: من ذرية نوح، ولم يرد: من ذرية إبراهيم، لأنه ذكر في جملتهم يونس ولوطاً، ولم يكونا من ذرية إبراهيم، وكذا في "الوسيط" و"الكواشي".

ص: 151

وقيل: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكل من آمن به. وقيل: كل مؤمنٍ من بني آدم. وقيل: الملائكة. وادّعى الأنصار أنها لهم. وعن مجاهدٍ: هم الفرس.

ومعنى توكيلهم بها: أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه.

والباء في (بِها) صلة "كافرين"، وفي (بِكافِرِينَ) تأكيد النفي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي "جامع الأصول": أن يونس كان من الأسباط في زمن شعيا، أرسله الله إلى أهل نينوى من بلد الموصل، وقال:"إن لوطاً كان ابن أخي إبراهيم: هاران بن تارح، آمن بإبراهيم، وشخص معه مهاجراً إلى الشام، فأرسله الله إلى أهل سدوم".

وقال الإمام: "لأن نوحاً أقرب المذكورين". وذكر ما قالوه، وقال:"ومن قال: إن الضمير لإبراهيم، يقدر: "ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان هدينا" لأن إبراهيم هو المقصود بالذكر، وذكر نوح لتعظيم إبراهيم"، ولذلك ختم بـ (ويُونُسَ ولُوطًا). وجعلهما معطوفين على (نُوحًا هَدَيْنَا) لا على "داود" فيكون من عطف الجملة على الجملة.

وصاحب "الكشف" أخرج إلياس أيضاً من ذرية إبراهيم، وليس كذلك، لما ذكر أبو عبد الله الكسائي في "المبتدأ": أنه ابن عيزار بن هارون بن عمران.

ص: 152

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقد ذكرنا عن "جامع الأصول" أن يونس أيضاً من ذرية إبراهيم، فبقي لوط خارجاً منها، ولما كان ابن أخيه، وآمن به، وهاجر معه، أمكن أن يجعل من الذرية على سبيل التغليب.

وقال صاحب "المرشد": اختلفوا في أن الضمير في: (ومِن ذُرِّيَّتِهِ) هل يرجع إلى إبراهيم أو نوح؟ والوجهان محتملان، ومعناه: وهدينا من ذريته داود وسليمان، ثم الوقوف على (المُحْسِنِينَ) كافٍ، ثم يبتدئ (وَزَكَرِيَّا) على أنه معطوف على ما قبله إلى قوله:(وَلُوَطاً)، ويبتدئ:(وكُلاًّ فَضَّلْنَا).

وقلت: فعلى هذا كل من الآيات مستقلة في الدلالة، وهو الوجه، إذ ورود ذكر الأنبياء على غير ترتيب، لا سيما إسماعيل، وهو ولد إبراهيم، أخر ذكره، يدل دلالة ظاهرة على الاستقلال.

قوله: "بدليل قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، وبدليل وصل قوله: (فَإن يَكْفُرْ) "، يعني: دل نظم الآيات على أن المراد بقوله: الأنبياء، فإن الآيتين اللتين صدرتا بـ (أُوْلَئِكَ) إنما عقبتا قوله:(ولَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) للتسلي والتأسي. وذلك أنه تعالى لما ذكر أولئك القادة السادة، وبين مراتبهم وطبقاتهم: تارة بالإحسان، وتارةً بتفضيلهم على العالمين، وأخرى بالاجتباء والهداية على صراطٍ مستقيم، وفذلك ذلك بقوله:(ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ) على طريقة قول حاتم:

ولله صعلوك

ص: 153

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم عدد له خصالاً فاضلة، ثم عقب تعديدها بقوله:

فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه

وجعل عمدة ما منحوا، لأجل تلك الخصال، البراءة من الشرك، تعريضاً بالمشركين، كما قال:(ولَوْ أَشْرَكُوا) مع فضلهم وتقدمهم، وما رفع لهم من الدرجات؛ لكانوا كغيرهم، عقب ذلك كله بالآيتين، كما ذكرنا، للتسلي والتأسي.

أما التسلي فإن الفاء في قوله: (فَإن يَكْفُرْ بِهَا) إما عاطفة، عطفت الجملة الشرطية على الأولى على الترتيب، على معنى: أولئك الكملة المذكورون، هم الذين آتيناهم الكتاب والحكمة والنبوة، وجعلناهم أهلاً لها، ومضطلعاً للقيام بحقها وحفظها، فإن يكفر بها هؤلاء الحمقى فلا بأس، فإن أولئك الموصوفين بتلك الفضائل النابهة قد آمنوا بها، وصدقوا بها حق التصديق، وأنت منهم، فقد آمنت بكتابك، ومن اتبعك من المؤمنين.

أو جزائية، لأن في (والَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ) معنى الشرط، والجملة الشرطية خبر له، والجملة كما هي خبر (أُوْلَئكَ).

ولابد في الجزاء من رابطة بالمبتدأ، فوضع (قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) موضع الضمير، للإشعار بالعلية. والمعنى: أنا منحناهم الكتاب والحكم والنبوة، ووكلناهم بها،

ص: 154

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقومون بحقها، ولا يضيعونها، فإن أضاعها هؤلاء الكفرة، ولم يشكروا حق تلك النعمة، فأولئك الأقوام غير موصوفين بذلك، وأنت سيدهم، فلا تحتفل بذلك، كما تقول لصاحبك: منحتك هذا، فإن نازعك فلان فيه، أو أراد إتلافه، فلا بأس، لأنك مليء قادر على حفظه.

وأما التأسي فهو قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ). قال الزجاج: "معنى قوله: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) الأنبياء الذين ذكرهم (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ): أي: اصبر كما صبروا، فإن قومهم كذبوهم، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا، فاقتد بهم". وكذا عن صاحب "المرشد".

وقلت: ويعضده قوله: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)، فإنه من أجل ما يتأسى به وأولاه. قال في سورة "هود":"ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول، لأن شأنهم النصيحة، والنصيحة لا يمحصها ولا يمحضها إلا حسم المطامع، وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع"، وهذا التقرير مبني على أن الكلام مبني على التفريق والجمع، فرقهم أولاً مع خلائقهم وخصائلهم في تلك الآيات، ثم جمع خصائلهم في قوله:(ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، الآية، وجمع ذواتهم معها في قوله:(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) وأمر حبيبه صلوات الله عليه بالاقتداء بهداهم، والانخراط في سلكهم.

ولذلك قال الإمام: "الآية دالة على فضله صلوات الله عليه على سائر الأنبياء، لأنه تعالى

ص: 155

(فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فاختص هداهم بالاقتداء، ولا تقتد إلا بهم. وهذا معنى تقديم المفعول، والمراد بـ"هداهم": طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإنها مختلفة، وهي هدى ما لم تنسخ، فإذا نسخت لم تبق هدىً، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبداً.

والهاء في (اقْتَدِهْ) للوقف، تسقط في الدرج، واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف.

[(وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أمره بالاقتداء بهداهم، ولابد من امتثاله لذلك الأمر، فوجب أن يجتمع فيه جميع خصائلهم وخلائقهم المتفرقة، ويدخل في هذا المقام، الصبر دخولاً أولياً".

واعلم أن هذه الفضيلة - وهي كونه صلوات الله عليه مأموراً بإتباعهم - أعلى فضائلهم، وأسنى مراتبهم المذكورة.

ونحوه قوله تعالى: (إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) إلى قوله: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ)[النحل: 120 - 123] قال: "فيه تعظيم منزلة رسول الله صلي الله عليه وسلم وإجلال محله، والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة إتباع رسول الله صلي الله عليه وسلم ملته".

قوله: (والهاء في (أقْتَدِه) للوقف). قال أبو البقاء: "يقرأ بسكون الهاء، وإثباتها في الوقف دون الوصل، وهي على هذا هاء السكت. ومنهم من يثبتها في الوصل أيضاً لشبهها

ص: 156

(وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ): وما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده، واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحى إليهم، وذلك من أعظم رحمته وأجلّ نعمته، (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ، [الأنبياء: 107]، أو: ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين، وشدّة بطشه بهم، ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة.

والقائلون هم اليهود،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بهاء الإضمار". وقال الزجاج: "المختار أن يوقف عند هذه الهاء". وروى صاحب "الكشف" عن أبي علي: "أن الهاء كناية عن المصدر، أي: اقتد اقتداءً".

قوله: (أو: ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين)، يريد أن كلا من المعلق والمعلق به، يعني:(إذْ قَالُوا)، (ومَا قَدَرُوا اللَّهَ) يحتمل معنيين مختلفين، وذلك أن قوله:(ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يحتمل أن يكون صفة لطفٍ وصفة قهر، فإذا فسر باللطف جعل (إذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ) إنكاراً منهم لرحمته، لأن بعثة الرسل من جلائل نعمته، وعظائم رأفته، وإذا فسر بالقهر جعل قولهم جسارة على جحود حكمته، لحلول نقمته.

قوله: (والقائلون هم اليهود)، وبيان النظم أنه تعالى لما وصف أمة محمد صلوات الله عليه بقوله:(فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)، وأنهم الذين قاموا بحقوق جميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء، ووفقوا بالإيمان بكلها، وبحفظ مقتضاها، استطرد

ص: 157

بدليل قراءة من قرأ: (تَجْعَلُونَهُ) بالتاء، وكذلك (تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ)، وإنما قالوا ذلك مبالغةً في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذكر اليهود، وأنهم على ضد ذلك، حيث طعنوا على الكتب المنزلة، وحرفوا التوراة وغيروها، وكتموا بعضها.

وأما إذا أريد بالقوم: الأنبياء، وهو الوجه كما سبق، فالمعنى: أنهم الذين يعرفون الله، وجلال سلطانه، وكمال حكمته في إنشاء خلقه، لأنه تعالى ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وهو أن يعبد حق عبادته، ويعرف حق معرفته، وذلك لا يتم إلا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، لإرشاد الخلق إلى ما خلقوا لأجله، وهؤلاء اليهود (ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ).

قوله: (بدليل قراءة من قرأ: (تَجْعَلُونَهُ) بالتاء) الفوقانية: كلهم إلا ابن كثير وأبا عمرو. واعلم أن القراءة بالتاء الفوقانية تدل دلالة ظاهرةً على أن القائلين لقوله: (مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ) هم اليهود، لأنهم هم الذين غيروا التوراة ونقضوها، وأما بالياء على هذا فمحمولة على الالتفات، كأنهم جعلوا بعداً لتلك الفعلة القبيحة، ويكون قوله:(وعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا) في موضع الحال في ضمير الفاعل في (تَجْعَلُونَهُ)، والمعنى: تجعلونه ذا قراطيس والحال من أنكم علمتم على لسان محمد صلي الله عليه وسلم، مما أوحي من تصديق كتابكم (مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ ولا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ)، كما أومأ إليه المصنف.

ص: 158

فألزموا ما لا بدّ لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى عليه السلام، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم وأن نعى عليهم سوء حملهم لكتابهم، وتحريفهم، وإبداء بعضٍ وإخفاء بعض، فقيل:(جاءَ بِهِ مُوسى) وهو نورٌ وهدى للناس حتى غيروه ونقصوه وجعلوه قراطيس مقطعةً وورقاتٍ مفرقة، ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإن القراءة بالياء التحتانية ظاهرة على أن القائلين المشركون، كما قال:"وقيل: القائلون المشركون، وقد ألزموا إنزال التوراة"، فعلى هذا:(وعُلِّمْتُم): عطف على (أُنزِلَ الكِتَابُ) من حيث المعنى، أي: قل من أنزل التوراة؟ ومن علمكم ما لم تعلموا؟ وتقديره أنهم لما قالوا: (مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ) قيل لهم: ما الكتاب المنزل على موسي واليهود يفعلون به، ويصنعون ما ذكر؟ وما ذلك الكتاب الذي عرفتموه؟ حيث تحديتم به وأنتم فرسان البيان، وزعماء الحوار، فما قدرتم على الإتيان بأقصر سورةٍ منه، فعرفتم أنه حق وصدق. ثم جيء بقوله:(قُلِ اللهُ) إلزاماً لهم وتبكيتاً.

وأما توجيه القراءة بالتاء الفوقانية على هذا فمشكل، لعل القائل به يتمحل، ويقول: إنهم لما كانوا يسمعون من اليهود، وكانوا راضين بفعلهم، خوطبوا بذلك، والله أعلم.

قوله: (وأدرج تحت الإلزام توبيخهم) يعني: كان من حق الظاهر أن يقال: قل: ما التوراة؟ ثم من أنزل التوراة؟ فإنه كان في الإلزام، فعدل إلى قوله:(الْكِتَابَ)، ووصفه باسم الموصول، وجعل صلته ما ينبئ عن التوبيخ والنعي، على سبيل الإدماج.

وبيانه أنه تعالى وصف الكتاب أولاً بالتعظيم والتفخيم، فذكر النبي المكرم، وجعله نوراً وهدى للناس كافة، ثم أتي بقوله:(تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ)، على سبيل الاستئناف، لبيان

ص: 159

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الموجب، على سبيل التعكيس، لأن كونه نوراً وهدي موجب لأن يجعل ذريعةً إلى التخلص من ظلمات الجهالات، ووسيلةً إلى النجاة من ورطات الكفر والضلالات، فعكسوا وحقروه، حيث جعلوه ذا قراطيس مقطعة، وورقاتٍ مفرقة، وبعضوه، فأخفوا ما أرادوا، وأبدوا ما اشتهوه، ليضلوا ويضلوا.

وقد أومأ إلى هذا المعنى بقوله: "وإن نعى عليهم سوء حملهم لكتابهم"، يعني كلفوا علمها والعمل بها، لكونها نوراً وهدى، فخاسوا بها، وظلموا حقها. وهو مقتبس من قوله تعالى:(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا)[الجمعة: 5].

قال صاحب "المرشد": "هدى للناس": وقف كافٍ، ومنهم من فرق بين القراءتين، وقال: هو وقف حسن إذا قرئ بالياء التحتاني، ولا فرق عندي، وهو وقف حسن على القراءتين.

وقال أبو البقاء: (نُوراً): حال من الهاء في (بِه) أو من (الْكِتَابَ)، و (بِهِ): يجوز أن تكون مفعولاً به، وأن تكون حالاً، و (تَجْعَلُونَهُ): مستأنف لا موضع له.

ولذلك فرق المصنف حين أخرج (نُوراً وَهُدىً) في صورة الجملة الاسمية، ليؤذن بأنها حال مؤكدة، وأبرز تفسير (تَجْعَلُونَهُ) مصدراً بكلمة الغاية، ليدل على القطع،

ص: 160

وروي: أن مالك بن الصيف - من أحبار اليهود ورؤسائهم - قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أنّ الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين، قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود"، فضحك القوم، فغضب، ثم التفت إلى عمر فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له قومه: ويلك! ما هذا الذي بلغنا عنك؟ قال: إنه أغضبني، فنزعوه، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف.

وقيل: القائلون قريش، وقد ألزموا إنزال التوراة، لأنهم كانوا يسمعون من اليهود بالمدينة ذكر موسى والتوراة، وكانوا يقولون: لو أنا أنزل علينا الكتاب، لكنا أهدى منهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأن مجيء ذلك النور، وتلك الهداية، امتد إلى زمن أولئك الضالين المضلين، حتى فعلوا بها ما فعلوا.

ثم وزان هذه الآية مع ما يتلوها من قوله: (وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ) وزان قوله تعالى في آخر السورة: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وتَفْصِيلاً)[الأنعام: 154] الآية: مع قوله: (وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ)[الأنعام: 155].

أما قوله: (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) وقوله: (ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) الآية، فكالتفصيل لما يحصل من إجمال قوله:(ولِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى ومَنْ حَوْلَهَا)، لأن المعنى: إيذان بإنذار أهل أم البلاد، ثم شرع في إنذار من حولها من المكلفين، فهم: إما مصدقون أو مكذبون.

قوله: (أنشدك)، الجوهري:"نشدت فلاناً": إذا قلت له: نشدتك الله، أي: سألتك بالله، كأنك ذكرته إياه.

ص: 161

(وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) الخطاب لليهود، أي: علمتم على لسان محمدٍ صلى الله عليه وسلم مما أوحي إليه ما لم تعلموا أنتم، وأنتم حملة التوراة، ولم تعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم، (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النمل: 76]. وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش، كقوله تعالى:(لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم)[يس: 6].

(قُلِ اللَّهُ) أي: أنزله الله، فإنهم لا يقدرون أن يناكروك، (ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) في باطلهم الذي يخوضون فيه، ولا عليك بعد إلزام الحجة. ويقال لمن كان في عملٍ لا يجدى عليه: إنما أنت لاعب.

و(يَلْعَبُونَ) حالٌ من (ذرهم)، أو من (خوضهم)، ويجوز أن يكون (فِي خَوْضِهِمْ) حالاً من (يلعبون)، وأن يكون صلةً له أو لـ (ذرهم).

[(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فإنهم لا يقدرون أن يناكروك) أي: قوله: (قُلِ اللهُ)، بمعنى: قل: الله (أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى) إلى آخره، تبكيت وإلزام وإشعار بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيه على أنهم مبهوتون، لا يقدرون على الجواب، ولهذا عقبه بقوله:(ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).

قوله: (و (يَلْعَبُوَن): حال من (ذَرْهُمْ) أو من (خَوْضِهِمْ)، أو (فيِ خَوْضِهِمْ) حال من (يَلْعَبُونَ)). وفي كلامه توسع، لأن المراد: حال من الضمائر على التقادير، وهي حال مؤكدة، كقوله تعالى:(ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[البقرة: 60].

ص: 162

(مُبارَكٌ): كثير المنافع والفوائد، (ولتنذر) معطوفٌ على ما دلّ عليه صفة الكتاب، كأنه قيل: أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار. وقرئ: (ولينذر) بالياء والتاء.

وسميت مكة (أُمَّ الْقُرى) لأنها مكان أول بيتٍ وضع للناس، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم، ولأنها أعظم القرى شأناً.

ولبعض المجاورين:

فمن يلق في بعض القريّات رحله

فأمّ القرى ملقى رحالي ومنتابي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أبو البقاء: " (فِي خَوْضِهِمْ): يجوز أن يتعلق بـ (ذَرْهُمْ) على أنه ظرف له، وأن يكون حالاً من ضمير المفعول في (ذَرْهُمْ)، وأن يكون متعلقاً بـ (يَلْعَبُونَ)، و (يَلْعَبُونَ) حال صاحبها ضمير المفعول في (ذَرْهُمْ) إذا لم تجعل (فيِ خَوْضِهِمْ) حالاً منه، وإن جعلته حالاً منه كانت الحال الثانية من ضمير الاستقرار في الحال الأولى، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المجرور في (خَوْضِهِمْ) ويكون العامل: المصدر، والمجرور: فاعل في المعنى".

قوله: (وقرئ: "لينذر" بالياء والتاء): كلهم بالتاء الفوقانية سوى أبي بكر.

قوله: (ولِبَعْض المجاورين). قيل: عنى به نفسه، وقيل له: لم تجاور مكة؟ قال: القلب

ص: 163

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ): يصدّقون بالعاقبة ويخافونها، (يُؤْمِنُونَ) بهذا الكتاب، وذلك أنّ أصل الدين خوف العاقبة، فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن. وخصّ الصلاة لأنها عماد الدين. ومن حافظ عليها كانت لطفاً في المحافظة على أخواتها.

[(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)].

(افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) فزعم أن الله بعثه نبياً، (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) وهو مسيلمة الحنفي الكذاب، أو كذاب صنعاء الأسود العنسي.

وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب، فكبرا عليّ وأهماني، فأوحى الله إليّ: أن انفخهما، فنفختهما فطارا عني، فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما؛ كذاب اليمامة مسيلمة، وكذاب صنعاء الأسود العنسي".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الذي أجده ثمة لا أجده هاهنا. منتابي: مرجعي، انتاب فلان القوم، أي: أتاهم مرة بعد أخرى، وهو افتعال من النوب.

قوله: (كانت لطفاً له). أي: كانت المحافظة على الصلاة فتح باب في المحافظة على الصوم والإنفاق والحج وغيرها، وزجراً عن المعاصي.

قوله: (رأيت فيما يرى النائم) الحديث أخرجه الشيخان عن أبي هريرة، ولعله صلوات الله عليه أول السوارين بالكذابين، لأن السوار، سيما إذا كان ذهباً، ليس من سمة

ص: 164

(وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ) هو عبد الله بن سعد بن أبي سرحٍ القرشي، كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه:"سميعاً عليماً"، كتب هو:"عليماً حكيماً"، وإذا قال عليماً حكيماً، كتب:"غفوراً رحيماً، فلما نزلت: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون: 12] إلى آخر الآية، عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان، فقال: تبارك الله أحسن الخالقين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتبها، فكذلك نزلت"، فشك عبد الله وقال: لئن كان محمدٌ صادقاً لقد أوحي إليّ مثل ما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلت مثل ما قال، فارتدّ عن الإسلام، ولحق بمكة، ثم رجع مسلماً قبل فتح مكة.

وقيل: هو النضر بن الحرث والمستهزئون.

(وَلَوْ تَرى) جوابه محذوف، أي: رأيت أمراً عظيماً، (إِذِ الظَّالِمُونَ) يريد: الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة، فتكون اللام للعهد، ويجوز أن تكون للجنس، فيدخل فيه هؤلاء لاشتماله، و (غَمَراتِ الْمَوْتِ): شدائده وسكراته، وأصل الغمرة: ما يغمر من الماء، فاستعيرت للشدّة الغالبة.

(باسِطُوا أَيْدِيهِمْ): يبسطون إليهم أيديهم يقولون: هاتوا أرواحكم، أخرجوها إلينا من أجسادكم. وهذه عبارةٌ عن العنف في السياق، والإلحاح، والتشديد في الإزهاق، من غير تنفيسٍ وإمهال،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرجال، خصوصاً الأنبياء، وكونهما في يديه دل على شخصين ينازعانه فيما يتقوى به من الرسالة والنبوة، كقوله تعال:(سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ)[القصص: 35]، ولا يكونان إلا كذابين. وقال التوربشتي:"نبه بنفخهما على استحقار شأنهما، وأنهما يمحقان بأدنى ما يصيبهما من بأس الله".

قوله: (عبارة عن العنف) أي: كناية، لا أن ثمة تبسط الأيدي.

ص: 165

وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملظ؛ يبسط يده إلى من عليه الحق، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله، ويقول له: أخر إليّ مالي عليك الساعة، ولا أريم مكاني، حتى أنزعه من أحداقك. وقيل: معناه: باسطو أيديهم عليهم بالعذاب.

(أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ): خلصوها من أيدينا، أي: لا تقدرون على الخلاص، (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) يجوز أن يريدوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع، وأن يريدوا الوقت الممتدّ المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة. والهون والهوان: الشديد،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله: (أنهم يفعلون بهم فعل الغريم) إلى آخره: بيان لوجه التمثيل، وأن أصل الكناية أخذ الزبدة والخلاصة من التمثيل، الذي هو تشبيه الحالة بالحالة.

قوله: (الغريم الملظ)، الجوهري:"ألظ فلان بفلان: إذا لزمه، عن أبي عمرو: هو ملظ به: إذا لزمه لا يفارقه". الإزهاق: "من: زهقت نفسه تزهق زهوقاً، أي: خرجت".

قوله: (ولا أريم مكاني)، الجوهري: رامه يريمه ريماً، أي: برحه. يقال: لا ترمه، أي: لا تبرحه. والسياق: نزع الروح.

قوله: (اليَوْمَ تُجْزَوْنَ) يجوز أن يريدوا وقت الأمانة،

وأن يريدوا الوقت الممتد المتطاول): والظاهر هذا الثاني، لأن قوله:(ولَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى)[الأنعام: 94] مناسب لحال القيامة، لأن الآيات الواردة في معناها في فيها، وقد عطف من حيث المعنى على (تُجْزَوْنَ). والتقدير: يقولون: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ) واليوم يقال لهم: (ولَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى)[الأنعام: 94].

ص: 166

وإضافة "العذاب" إليه كقولك: رجل سوء، يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه. (عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) فلا تؤمنون بها.

[(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)].

(فُرادى): منفردين عن أموالكم وأولادكم وما حرصتم عليه، وآثرتموه من دنياكم، وعن أوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله، (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ): على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد، (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ): ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة، (وَراءَ ظُهُورِكُمْ): لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيراً، ولا قدّمتموه لأنفسكم، (فِيكُمْ شُرَكاءُ) في استعبادكم، لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم.

وقرئ: "فراداً" بالتنوين. و"فراد" مثل: ثلاث، و"فردى" مثل: سكرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كقولك: رجل سوء) أي: عذاباً شديداً، فأضيف ليدل على أن العذاب ملك له، لأن نسبة الإضافة ألصق من نسبة الصفة بالموصوف. ومن ثم قال:"يريد العراقة في الهوان": أي: الأصالة.

الأساس: "فلان معرق في الكلام أو اللؤم، وهو عريق فيه، واعترقت الشجرة، واستعرقت: ضربت بعروفها".

قوله: (في استعبادكم) أي: زعمتم أن الأصنام شركاء لله في عبادتكم، لأنهم إذا عبدوا الآلهة، فقد جعلوا لله شركاء، والإضافة إلى الفاعل، أي: استعبادكم الآلهة. وقوله: "وفي استعبادهم" عطف تفسيري على قوله: "فيهم"، على نحو:"أعجبني زيد وكرمه".

قوله: (وقرئ: "فراداً" بالتنوين)، كـ"رحال" جمع:"رحل"، في الشواذ. والسبعة:

ص: 167

فإن قلت: (كما خلقناكم)، في أي: محلٍّ هو؟ قلت: في محل النصب صفة لمصدر (جئتمونا)، أي: مجيئاً مثل خلقنا لكم.

(تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ): وقع التقطع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين، تريد: أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل، ومن رفع فقد أسند الفعل إلى الظرف، كما تقول: قوتل خلفكم وأمامكم. وفي قراءة عبد الله: "لقد تقطع ما بينكم".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"فرادى" بالألف بغير تنوين، جمع "فردان"، أي: كـ"سكارى" و "سكران".

قوله: (أي: مجيئاً مثل خلقنا لكم). المجيء: عبارة عن خلق الله إياهم ثانياً، فهو مثل خلقه إياهم أولاً. ونحوه قوله تعالى:(كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)[الأعراف: 29].

قال القاضي: لقد جئتمونا للحساب والجزاء، منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا، (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، أي: على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد. فعلى هذا (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ): بدل من (فُرَادَى) أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها، أو حال من الضمير في (فُرَادَى)، أي: مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلاً. أو صفة مصدر؛ كما قال المصنف، والأحسن للتأليف أن يكون حالاً من الضمير في (فُرَادَى) معنى ولفظاً.

قال أبو البقاء: (أَوَلَ): ظرف لـ (خَلَقْنَاكُمْ). والمرة، في الأصل، مصدر مر يمر، ثم استعمل ظرفاً اتساعاً. وهذا يدل على قوة شبه الزمان بالفعل".

قوله: (وقع التقطع بينكم). قال القاضي: "البين: من الأضداد، يستعمل في الوصل والفصل. وقيل: هو الظرف أسند إليه الفعل على الاتساع، والمعنى: وقع التقطع بينكم. ويشهد

ص: 168

[(إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)].

(فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) بالنبات والشجر. وعن مجاهدٍ: أراد الشقين الذين في النواة والحنطة، (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي: الحيوان، والنامي من النطف والبيض والحب والنوى، (وَمُخْرِجُ) هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي.

فإن قلت: كيف قال: (مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) بلفظِ اسم الفاعل، بعد قوله:(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)؟ ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

له قراءة نافعٍ والكسائي وحفص عن عاصم: بالنصب، على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه، أو أقيم مقام موصوفه، وأصله: لقد تقطع ما بينكم. وقد قرئ به".

وقال صاحب "الكشف": (مَا): موصوف، و (بَيْنَكُمْ): صفته، وليس بموصول، لأن الموصول لا يحذف.

قال صاحب "الفرائد": قوله: (لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) على إسناد الفعل إلى مصدره" يعني: وقع التقطع بينكم بعيد، لأن التقطع لازم، وما ذكره من النظر مستبعد، وهو قوله: "جمع بين الشيئين"، لأنه تقدير أصله: "أوقع الجمع بين الشيئين"، وهو من قبيل ما جعل المفعول به، لنسيانه، بتأويل جمع الجمع بينهما، أو أوقع الجمع بينهما. هذا إذا كان متعدياً، فأما إذا كان لازماً فليس كذلك. ويمكن أن يقال: إن الاستشهاد لمجرد إسناد الفعل إلى مصدره، سواء كان لازماً أو متعدياً.

ص: 169

قلت: عطفه على (فالق الحب والنوى)، لا على الفعل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عطفه على (فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى) لا على الفعل). فإن قلت: لم لم يعطف عليه، كما ذهب إليه الإمام، ويكون الغرض إرادة الاستمرار في الأزمنة المختلفة، كما سبق في قوله تعالى:(اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)[البقرة: 15]، ليكون إخراج الحي من الميت أولى في القصد من عكسه، ولأن المناسبة في الصنعة البديعية تقتضي هذا، لأنه من باب العكس والتبديل، كقوله تعالى:(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ)[الحج: 61]، ولورود سائر ما يشبه الآية على هذا المنوال؟ قلت: يمنعه ورود الجملة الثانية مفصولة عن الأولى على سبيل البيان، ولو عطفت الثالثة على الثانية كانت بيانيةً مثلها، لكنها غير صالحة له، لأن (فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى) ليس متضمناً لإخراج الميت من الحي.

فإن قلت: فقدر لها مبيناً مناسباً لها، كما صنعت في قوله تعالى:(لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ)[النساء: 95] على تقدير: (فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى)، وخالق الحب والنوى. قلت: يفوت إذن غرض التعميم الذي تعطيه الآية، من إرادة "يخرج الحيوان والنامي من النطف والبيض والحب والنوى"، فإن هذا المعنى إنما يحصل إذا قدر: و (وَمُخْرِجُ) معطوفاً على (فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى). ثم يسري معنى العموم إلى قرينتها، فيصح أن يقال:(يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ)، أي: الحيوان والنامي من النطف والبيض والحب والنوى، ومخرج هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي. ولو قدر معطوفاً على (يُخْرِجُ) اختص بالحب والنوى.

ص: 170

و (يخرج الحيَّ من الميت) موقعه موقع الجملة المبينة لقوله: (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى)، لأنّ فلق الحب والنوى بالنبات والشجر النامين من جنس إخراج الحيّ من الميت، لأنّ النامي في حكم الحيوان، ألا ترى إلى قوله:(يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها)[الروم: 50].

(ذلِكُمُ اللَّهُ) أي: ذلكم المحيي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ): فكيف تصرفون عنه وعن توليه إلى غيره.

[(فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)].

(الْإِصْباحِ) مصدرٌ سمي به الصبح. وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح وأنشد قوله:

أفنى رباحًا وبني رباح

تناسخ الإمساء والإصباح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال صاحب "الانتصاف": "تكرر في القرآن (يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ) [يونس: 31]. فيبعد قطعها عن نظيرها، والوجه أن قياس الآية أن تكون الصفات باسم الفاعل، كقوله: (فَالِقُ الحَبِّ)، (فَالِقُ الإصْبَاحِ)، (وجَعَلَ اللَّيلَ)، وإنما عدل إلى صيغة المضارع في (يُخْرِجُ) ليدل على تصوير ذلك وتمثيله واستحضاره، وإخراج الحي من الميت أولى في الوجود، وأعظم في القدرة، فكانت العناية به أتم، ولذلك جاء مقدماً في مواضعه، وحسن عطف الاسم على الفعل المضارع لأنه في معناه".

قوله: (أفنى رياحاً)، رياح: اسم قبيلة، أي: أفناهم تعاقب الدهور والأعصار، ومرور الليل والنهار.

ص: 171

بالكسر والفتح؛ مصدرين، وجمعي مسي وصبح.

فإن قلت: فما معنى فلق الصبح، والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح، كما قال:

تردّت به ثمّ انفرى عن أديمها

تفرّى ليل عن بياض نهار

قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يراد: فالق ظلمة الإصباح، وهي الغبش في آخر الليل، ومنقضاه الذي يلي الصبح. والثاني: أن يراد فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره.

وقالوا: انشق عمود الفجر. وانصدع الفجر. وسموا الفجر فلقا بمعنى مفلوق، وقال الطائي:

وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه

وأوّل الغيث قطر ثمّ ينسكب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (تفري ليلٍ عن بياض نهار) الشعر لأبي نواس يصف الخمر، قبله:

كأن بقايا ما عفا من حبابها

تفاريق شيبٍ في سوادٍ عذار

تردت به ثم انفرى عن أديمها

تفري ليلٍ عن بياض نهار

تردت به، أي: بالحباب، يعني: أظهرته الخمر على وجهها.

فريت الأديم فرياً، أي: شققته، وأراد به: تشقق الحباب على وجه الخمر.

قوله: (وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه) الطائي: هو البحتري، وتمامه:

ص: 172

وقرئ: "فالق الإصباح وجاعل الليل" بالنصب على المدح. وقرأ النخعي: "فلق الإصباح وجعل الليل".

السكن: ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناساً به واسترواحاً إليه، من زوج أو حبيب، ومنه قيل للنار: سكن؛ كأنه يستأنس بها، ألا تراهم سموها المؤنسة؟ والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأول الغيث رش ثم ينسكب

قبله:

هذي مخايل برق خلقه مطر

جود، ووري زنادٍ خلفه لهب

استشهد به على أن الصبح هو الذي ينشق عن بياض النهار.

قوله: (وقرأ النخعي: "فلق الإصباح وجعل الليل"). "فلق": شاذ، و (جَعَلَ): قرأ بها عاصم وحمزة والكسائي، حملوه على معنى المعطوف عليه، فإن (فَاِلقُ) بمعنى:"فلَق".

قوله: (والليل يطمئن إليه التعب بالنهار)، الأساس:"من المجاز: اطمأن إليه: سكن إليه: ووثق به"، كأنه ضمن "اطمأن" معنى "سكن".

وإسناد "سكن" إلى الليل من باب: قائم ليله، وصائم نهاره، أي: يسكن إليه من تعب في النهار، ولهذا علله بقوله:"لاستراحته فيه".

قوله: (وجمامه)، الجوهري:"الجمام - بالفتح -: الراحة، يقال: جم الفرس جماً وجماماً: إذا ذهب إعياؤه".

ص: 173

ويجوز أن يراد: وجعل الليل مسكوناً فيه، من قوله:(لتسكنوا فيه)[يونس: 67، غافر: 61].

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) قرئا بالحركات الثلاث:

فالنصب على إضمار فعل دل عليه "جاعل الليل"، أي: وجعل الشمس والقمر حسباناً، أو يعطفان على محل "الليل".

فإن قلت: كيف يكون لـ"الليل" محل والإضافة حقيقية، لأنّ اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضيّ، ولا تقول: زيدٌ ضاربٌ عمراً أمس؟ قلت: ما هو في معنى المضيّ، وإنما هو دال على جعلٍ مستمرّ في الأزمنة المختلفة، وكذلك (فالق الحب)، و (فالق الإصباح)، كما تقول: الله قادرٌ عالم، فلا تقصد زماناً دون زمان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((والشَّمْسَ والْقَمَرَ): قرئا بالحركات الثلاث). النصب: العامة، والرفع والجر: شاذتان.

قوله: (ولا تقول: زيد ضارب عمراً أمس). قال الزجاج: "ولا يجوز: "جاعل الليل سكناً"، لأن أسماء الفاعلين، إذا كان الفعل ماضياً، أضيفت إلى ما بعدها لا غير. تقول: هذا ضارب زيداً أمس. أجمع البصريون على أنه لا يجوز في "زيد" النصب، وبعض الكوفيين يجيزه. فإذا قلت: هذا معطي زيد درهماً، فنصب "درهماً" محمول على تأويل: أعطي".

قوله: (دال على جعلٍ مستمر). قال صاحب "التقريب": "فيه نظر، لأنه بخلاف ما ذكره في: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 4] ". والجواب: أنه ليس مخالفاً له، بل هو تبيين وتفصيل لما

ص: 174

والجرُّ عطفٌ على لفظ "الليل".

والرفع على الابتداء، والخبر محذوف، تقديره: والشمس والقمر مجعولان حسباناً، أو محسوبان حسباناً.

ومعنى جعل الشمس والقمر حسباناً: جعلهما على حسبان، لأنّ حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما.

والحسبان - بالضم -: مصدر حسب، كما أنّ الحسبان - بالكسر - مصدر حسب. ونظيره الكفران والشكران. (ذلِكَ) إشارةٌ إلى جعلهما حسباناً، أي: ذلك التسيير بالحساب المعلوم، (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الذي قهرهما وسخرهما (الْعَلِيمِ) بتدبيرهما وتدويرهما.

[(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذكره هنالك، لأنه قال بعد ما قرر أنه إضافة اسم الفاعل إلى معموله:"إنما تكون غير حقيقية، إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال، نحو: "مالك الساعة أو غدٍ"، وأما إذا قصد زمان مستمر، كقولك: "مالك العبيد"، كانت الإضافة حقيقية".

وقد استقصينا القول فيه هناك.

والذي نريده هاهنا هو أن اسم الفاعل المضاف، إذا كان بمعنى المضي فقط، تكون إضافته إلى ما بعده حقيقية، لانتفاء المشابهة المعنوية التي هي جزء العلة في إعمال اسم الفاعل، وإذا كان بمعنى الاستقبال أو الحال فقط، تكون إضافته غير حقيقية، لوجود المشابهة

ص: 175

(فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ): في ظلمات الليل بالبر والبحر، وأضافها إليهما لملابستها لهما، أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات.

[(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التامة المقتضية للعمل. وأما إذا كان بمعنى الاستمرار، يعني يكون معناه موجوداً في جميع الأزمنة: من الماضي والمستقبل والحال، كالعالم والقادر، فيكون في إضافته اعتباران:

أحدهما: محضة باعتبار معنى المضي وبهذا الاعتبار يقع صفة للمعرفة، وثانيهما: غير محضةٍ باعتبار معنى الاستقبال، وبهذا الاعتبار يعمل فيما أضيف إليه، نحو قوله تعالى:(أَيًا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى)[الإسراء: 110]، فإن (أَيَّا)، من جهة كونها متضمنة لمعنى الشرط، عامل في (تَدْعُوا)، ومن جهة كونها اسماً يتعلق بـ (تَدْعُوا) معمول له.

وقال صاحب "الفرائد" في قوله تعالى: (وقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ)[غافر: 3]: لما كان "القابل" بالنظر إلى أنه شيء له القبول، لا بالنظر إلى أنه عامل، صلح أن يكون صفةً له بالإضافة إلى "التوب"، وكان معرفة، فيصلح أن يكون "الشديد" من حيث إنه شيء له الشدة، لا بالنظر إلى أنه عامل، صفةً له بالإضافة إلى "العقاب"، فعلى هذا يكون (شَدِيدُ العِقَابِ) معرفة، فليتأمل.

وقال صاحب "لباب التفاسير": "والظاهر في (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 4] النكرة، لأنه بمعنى الاستقبال، وإضافة اسم الفاعل بمعنى الاستقبال لا يفيد تعريفاً، ولكن حمل على الماضي لتحقق لفظه".

ص: 176

من فتح قاف "المستقر" كان "المستودع" اسم مكانٍ مثله أو مصدراً، ومن كسرها، كان اسم فاعل و"المستودع" اسم مفعول. والمعنى: فلكم مستقرٌّ في الرحم ومستودعٌ في الصلب، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها، أو: فمنكم مستقرٌّ ومنكم مستودعٌ.

فإن قلت: لم قيل: (يَعْلَمُونَ) مع ذكر النجوم، و (يَفْقَهُونَ) مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفسٍ واحدة، وتصريفهم بين أحوالٍ مختلفةٍ ألطف وأدق صنعةً وتدبيراً، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقاً له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من فتح قاف "المستقر"). قرأها كلهم إلا ابن كثير وأبا عمرو، ويروى:"من فتح فاء المستقر" أي: فاء فعله، وهو القاف، لأن أصله:"قر". قال الزجاج: "الأكثر في القراءة: "مستقر"، بفتح القاف، وقد قرئت بكسرها، (وَمُسْتَوْدَعٌ) بالفتح لا غير".

قوله: (ألطف وأدق صنعةً): إشارة إلى أن في دلائل الأنفس من دقة النظر ما ليس في دلائل الآفاق.

ويوافقه ما ذكره حجة الإسلام: "الطبيعيون أكثروا البحث عن عجائب الحيوان والنبات، ورأوا في تشريح أعضاء الحيوان من عجائب صنع الله، وبدائع حكمته، ما اضطروا معه إلى الاعتراف بفاطر حكيم، مطلعٍ على غايات الأمور ومقاصدها".

الانتصاف: "لا يتحقق الفرق، وإنما أريد أن يكون لكل آية فاصلة مستقلة بالمقصود،

ص: 177

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعداً عن التكرار، وتفنناً في البلاغة. ويحتمل أن يقال: الفقه أدني درجات العلم، والجهل بالنجوم جهل بأمرٍ خارج عن الذات، فسمى عارفه عالماً، والآخر لا يخرج عن أحوال النفس، وجهل الإنسان بأحوال نفسه أبشع، فسمى العارف به فقيهاً، لأن "الفقه" هاهنا من "فقه" - بالكسر -: إذا فهم ولو أدني فهم، وليس من باب "فقه" بضم القاف، لأنها درجة عالية، أي: صار فقيهاً. قال الهروي: "قال سلمان لامرأةٍ وقد أجابته عن سؤال: "فقهت"، أي: فهمت".

"وقولنا: "لا يفقه شيئاً"، أذم من قولنا: "لا يعلم"، لأن نفي العلم نفي حصوله، وقد يكون فقيهاً، ويدل على أن جهل الإنسان بأمر نفسه أقبح لإنكاره، بقوله: (وفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات: 21] ".

وقلت: الصحيح ما ذهب إليه المصنف، لأن صاحب "النهاية" قال:"الفقه في الأصل: الفهم، يقال: فقه الرجل - بالكسر - يفقه فقهاً: إذا فهم وعلم. وفقه - بالضم - يفقه: إذا صار فقيهاً عالماً. وجعله العرف خاصاً بعلم الشريعة وتخصيصاً بعلم الفروع".

وقال الجوهري: "فقه الرجل - بالكسر - وفلان لا يفقه. ثم خص به علم الشريعة"، وقد تقرر أن لابد من رعاية المناسبة بين المنقول عنه والمنقول إليه. وإنما خص علم الشريعة بالفقه لأنه علم مستنبط بالقوانين والأدلة، والأقيسة، والنظر الدقيق، بخلاف علم اللغة، والنحو، والصرف، وغير ذلك.

ص: 178

[(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)].

(فَأَخْرَجْنا بِهِ): بالماء (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ): نبت كل صنف من أصناف النامي، يعني: أن السبب واحد وهو الماء، والمسببات صنوفٌ مفتنة، كما قال:(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ)[الرعد: 4]، (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) من النبات (خَضِراً): شيئاً غضاً أخضر، يقال أخضر وخضر، كأعور وعَوِر، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة، (نُخْرِجُ مِنْهُ): من الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) وهو السنبل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما حديث سلمان، فقد رواه صاحب "النهاية":"أن سلمان نزل على نبطيةٍ بالعراق، فقال لها: هل هاهنا مكان نظيف أصلي فيه؟ فقالت: طهر قلبك، وصل حيث شئت. فقال: فقهت، أي: فهمت وفطنت للحق". وقلت: لو قال: علمت، لم يقع هذا الموقع.

وروينا في "جامع الدارمي" عن عمران، قال:"قلت للحسن يوماً في شيءٍ قاله: يا أبا سعيد، ليس هكذا يقول الفقهاء، فقال: ويحك! هل رأيت فقيهاً قط؟ إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بأمر دينه، والمداوم على عبادة ربه".

ص: 179

و (قِنْوانٌ) رفعٌ بالابتداء، (ومِنَ النَّخْلِ) خبره، و (مِنْ طَلْعِها) بدلٌ منه، كأنه قيل: وحاصلةٌ من طلع النخل قنوان.

ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة "أخرجنا" عليه، تقديره: ومخرجة من طلع النخل قنوان. ومن قرأ: "يخرج منه حب متراكبٌ"، كان (قِنْوانٌ) عنده معطوفاً على "حبٌّ".

والقنوان: جمع قنو، ونظيره: صنوٌ وصنوان. وقرئ بضم القاف وبفتحها، على أنه اسم جمع كركب؛ لأنّ "فعلان" ليس من زيادة التكسير.

(دانِيَةٌ): سهلة المجتنى معرضةٌ للقاطف، كالشيء الداني القريب المتناول؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (و (قِنْوَانٌ) رفع بالابتداء): قرأ بها العامة. الجوهري: "القنوان: جمع قنو، وهو: العذق، وهو للتمر بمنزلة العنقود للعنب".

قوله: (ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً). قال صاحب "التقريب": الخبر في الوجه الأول عام، فلا يفتقر إلى القرينة، وفي الثاني خاص فافتقر، فلذلك قال فيه:"لدلالة (أَخْرَجْنَا) ". وذلك أن الخبر إذا كان عاماً، كان المذكور نائباً عن المقدر، فلا يقال: الخبر محذوف، وأما إذا كان خاصاً فلا يكون نائباً عنه، فيقال: الخبر محذوف.

قوله: (لأن "فعلان" ليس من زنات التكسير"، أي: بفتح الفاء. قال في "المفصل": "وما كانت زيادته ثالثة مدة، فلأسمائه في الجمع أحد عشر مثالاً". وذكر منها: فعلان وفعلان، بضم الفاء وكسرها.

قوله: (معرضة). يقال: أعرض له كذا: إذا أمكنه. وحقيقته إبداء عرضه، والعرض - بالضم -: الجانب.

ص: 180

ولأنّ النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتى بالثمر لا تنتظر الطول.

وقال الحسن: (دانيةٌ): قريبٌ بعضها من بعض. وقيل: ذكر القريبة وترك ذكر البعيدة، لأنّ النعمة فيها أظهر، أو: دلّ بذكر القريبة على ذكر البعيدة، كقوله:(سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ)[النحل: 81].

وقوله: (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) فيه وجهان: أحدهما: أن يراد: وثم جناتٌ من أعناب، أي: مع النخل. والثاني: أن يعطف على (قِنْوانٌ)؛ على معنى: وحاصلةٌ- أو: ومخرجةٌ- من النخل قنوانٌ وجناتٌ من أعناب، أي: من نبات أعناب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولأن النخلة) معطوف على قوله: "سهلة المجتنى" من حيث المعنى، كأنه قال: إنما قال تعالى: (دَاِنِيَةٌ)، لأن النخلة سهلة المجتني، ولأن النخلة كذا، والأولى عطفه على "كالشيء الداني"، لأن "الداني"، على هذا الوجه يراد به القريب حقيقة، وفي الأول المراد: المشابه بالشيء القريب، ولهذا قال:"كالشيء الداني".

قوله: (فإنها تأتي بالثمر): خبر "أن"، على قول من يجوز إدخال الفاء في الخبر مطلقاً، والشرط تأكيد، ويمكن أن يقال: إن الفاء جواب الشرط، وخبر "أن" محذوف بدلالة السياق، والشرط المذكور عطف عليه، والتقدير: لأن النخلة، إن كانت كبيرةً لا ينالها القاعد، فإنها سهلة المجتنى، وإن كانت صغيرة، فكيت وكيت. والأول أظهر من حيث المعنى؛ لأن أصل الكلام: ولأن النخلة تأتي بالثمر، لا تنتظر الطول وإن كانت صغيرة. ومثل هذا الشرط المذكور للمبالغة، لا يحتاج إلى الجزاء، ذكره بعض الفضلاء.

قوله: (أن يعطف على (قِنْوَانٌ) على معنى: وحاصلة أو مخرجة)، أي: على التقديرين المذكورين، فعلى هذا يكون من عطف المفرد على المفرد. قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، لأنه [إن] عطف على (قِنْوَانٌ)، فـ (مِنْ أَعْنَابٍ) حينئذٍ إما: صفة "جنات" فيفسد المعنى،

ص: 181

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إذ يؤول إلى قولنا: وحاصلة أو مخرجة من النخل جنات حصلت من أعناب، وإما خبر لـ"جنات"، فلا يصح، لأنه يكون عطفاً لها على مفرد، ويكون المبتدأ نكرة، بلا مصحح.

وقلت: العذر من الأول: أن المراد حصول هيئة الكروم، وخروجها من النخل، كما يرى في البساتين المعروشة الكرم، على فروع الأشجار المتدلية أغصانها، كأنها مخرجة منها. ومن ثم قال:"أي: من نبات الأعناب"، أي: بأغصان الكروم وأوراقها المخضرة، ولا تسمى الكروم جناتٍ إذا كانت مجتثة من فوق الأرض.

وعن الثاني: أن المصحح عطفه على مخصص، وأنشد الخبيصي:

عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي

فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا

وأجاز المالكي أيضاً نحو ذلك.

ص: 182

وقرئ: (وَجَنَّاتٍ) بالنصب عطفاً على (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) أى: وأخرجنا به جناتٍ من أعناب، وكذلك قوله:(وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: (وَجَنَّاتٍ) بالنصب) وهي قراءة الجمهور، وجعلها معطوفةً على (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ). وكذا أبو البقاء، وتبعهما الكواشي والقاضي، وأما الواحدي فعطفها على (خَضِراً) وقال:"فأخرجنا خضراً وجناتٍ من أعناب"، والأظهر أن يكون عطفاً على (حَبّاً)، لأن قوله:(نَبَاتَ كلِ شيءٍ) مفصل يشتمل على كل صنفٍ من أصناف النامي، كما قال:" (فَأَخْرَجْنَا) بالماء (نَبَاتَ كُلِ شَيءٍ): نبت كل صنفٍ من أصناف النامي"، والنامي: الحب والنوى وشبههما.

وقال الراغب: "النبت: يقال لما له نمو في أصل الخلقة، يقال: نبت الصبي والشعر والسن. ويستعمل النبات فيما له ساق وما ليس له ساق، وإن كان في التعارف قد يختص بما لا ساق له".

وقوله: (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا) طور آخر لذلك النبات، كما قال:" (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ): من النبات (خَضِراً): شيئاً غضاً أخضر". وقال أبو البقاء: " (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا)، أي: بسبب الماء، فيكون بدلاً من: (فَأَخْرَجْنَا) الأولي". يعني به: بدل الاشتمال، لاكتساء النبات بلباس الخضرة والطراوة، ومن هاهنا يقع التفصيل، فبعض يخرج منه السنابل ذات

ص: 183

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حبوب متكاثرة، كما قال:" (نُّخْرِجُ مِنْهُ) من الخضر (حَبًّا مُّتَرَاكِبًا)، وهو السنبل". وبعض خرج منه ذات قنوان دانية، كما قال تعالى:(ومِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) وبعض آخر جنات معروضات، كما قال:" (وجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ)، أي: من نبات أعناب"، وبعض ينبت زيتوناً ورماناً (مُشْتَبِهًا وغَيْرَ مُتَشَابِهٍ)، ولكنه أبرز النخل والزيتون والرمان من صورة الإفراد إلى الجملة تفصيلاً لها ومزية، ولهذا قال:"والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص".

ومما يدل على أن الأصل الإفراد، والمعطوف عليه (حَبّاً) قراءة من قرأ "حب متراكب"، ومن ثم قال:"ومن قرأ به كان (قِنْوَانٌ) عنده معطوفاً على (حب) ". وأحسن صاحب "المرشد" حيث قال: "والوقف على قوله (قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) لم أر به بأساً، وكان كافياً، ليعلم أن قوله: (وَجَنَّاتٍ) ليس عطفاً على (قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ)، وأنه معطوف على قوله (حَبًّا مُّتَرَاكِبًا)، والوقف على (مِّنْ أَعْنَابٍ) صالح. وقد أذن بتفضيل المذكورات على سائرها ذكرها مفصلاً بعد الإجمالي في قوله: (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) ".

وقال الإمام: "اعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها المجلدات، وإنما اكتفي بذكر هذه الأقسام التي هي أشرف أنواعها، للتنبيه على البواقي".

وقلت: هذه الآية كالتفسير لقوله تعالى: (وفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوَانٌ وغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[الرعد: 4]، وكالبيان لتفضيل بعضها على بعض، على ابلغ ما يكون من تدبر ورزق التوفيق.

ص: 184

والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص، كقوله:(وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ)[النساء: 162] لفضل هذين الصنفين.

(مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) يقال: اشتبه الشيئان وتشابها، كقولك استويا وتساويا. والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً. وقرئ:"متشابهاً وغير متشابه"، وتقديره: والزيتون متشابهاً وغير متشابه، والرمّان كذلك كقوله:

..... كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدَي

بَرِيّا .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص) أي: (والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ)، لأن الظاهر العطف على "جناتٍ"، أي: نخرج منه الزيتون والرمان. لكن الاختصاص، كما مر، هو الوجه، ولأن أسلوب الاختصاص مشروط بأن يكون المذكور صالحاً للمدح، وأن يكون مشهوراً، فإنه تعالى لما ذكر الأصناف الثلاثة، وصور كلا منها بما هو أحسن أحواله، تشويقاً للسامع، وتزييناً، أورد هذين الصنفين على طريقةٍ يظهر بها شر فهما، كأنه قال: الحب كذلك، والنخل على هذا، والأعناب كما ترى، ويذكر ما لا يخفى شأنهما في الفضل والكمال. هذا التقرير يقوي معنى الإجمال والتفصيل، ويخصص المذكورات لإنافتها على غيرها.

قوله: (رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي برياً)، تمامه:

. ومن أجل الطوي رماني

الطوي: البئر المبنية بالحجر والآجر أو غيرهما، والتقدير: كنت منه بريئاً، ووالدي بريئاً.

ص: 185

والمعنى: بعضه متشابهاً وبعضه غير متشابه، في القدر واللون والطعم. وذلك دليلٌ على التعمد دون الإهمال.

(انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ): إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به، وانظروا إلى حال ينعه ونضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ، نظر اعتبارٍ واستبصارٍ واستدلالٍ على قدرةِ مقدّره ومدبره وناقله من حال إلى حال.

وقرئ: "وَيَنْعِهِ" بالضم، يقال: ينعت الثمرة ينعاً وينعاً. وقرأ ابن محيصن: "ويانعه"، وقرئ:"وثمره" بالضم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (دليل على التعمد دون الإهمال) أي: الفاعل مختار لا موجب، كقوله بعض الزنادقة.

قوله: (وانظروا إلى حال ينعه). قال المصنف في "الحاشية": "فإن قلت: هلا قيل: من غض ثمره وينعه؟ قلت: في هذا الأسلوب فائدة، وهي أن "الينع" وقع فيه معطوفاً على "الثمر"، على سنن الاختصاص على نحو قوله: (وَجِبْرِيِلَ)، للدلالة على أن الينع أولى من الغض".

والتحقيق فيه أن قوله تعالى: (انظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ) عام في جميع أحوال الثمر، فيدخل النظر في حال بدئه ونضجه وغيرهما، فعطف (ويَنْعِهِ) على (ثَمَرِه)، ليؤذن بعموم أحوال الثمر، وأن حالة النضج مخرجة للثمر اليانع عن أن يسمى ثمراً، ونوعاً داخلاً في ذلك الجنس لشرفه وفضله. وفيه بحث، لعدم مطابقته لما في المتن، لأنه جعل (إذَا أَثْمَرَ) قيداً

ص: 186

[(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ)].

إن جعلت (لِلَّهِ شُرَكاءَ) مفعولي "جعلوا"، نصبت (الجن) بدلاً من (شركاء)، وإن جعلت (لِلَّهِ) لغوا كان (شُرَكاءَ الْجِنَّ) مفعولين قدّم ثانيهما على الأول.

فإن قلت: فما فائدة التقديم؟ قلت: فائدته استعظام أن يتخذ لله شريكٌ مَن كان، ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك، ولذلك قدّم اسم الله على "الشركاء".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لإرادة حالة بدئه. يدل عليه قوله فيما بعد: "لما أبيح لهم الأكل من ثمره، قيل: (إَذَا أَثْمَرَ) ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر".

قوله: (إن جعلت (لله) لغوا). قال ابن الحاجب: "الظرف إذا افتقر الكلام إليه، ولا يتم إلا به، يسمى ظرفاً مستقراً، يجوز أن يكون خبراً، أو حالاً، أو صفة. فإذا كان الكلام تاماً بدونه يسمى لغواً، نحو: ما كان أحدٌ خيراً منك فيها".

قوله: (ولذلك قدم اسم "الله") أي: لفائدة الاستعظام قدم أيضاً اسم "الله".

والحاصل أن في التركيب تقديمين، لأن الظرف إذا جعل لغواً كان مكانه بعد ذكر المفعولين، و (الِجنَّ) إذا جعل مفعولا أول، لأنه معرفة، رجع الأصل إلى قوله:"وجعلوا الجن شركاء لله"، ولا ارتياب أن فائدة التقديم الاهتمام بشأن المقدم، والاعتناء فيه.

قال سيبويه: "إنهم يقدمون شأنه أهم، وهم ببيانه أعني، وإن كانا جميعاً مما يهمانهم".

ص: 187

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتحقيقه: أن المقدم في الكلام هو المقصود الأولي في أجزاء الكلام. ولما كان تقديم المفعول الثاني، وهو (شُرَكآءَ)، أوجب أن يكون الكلام فيه، قال:"استعظام أن يتخذ لله شريك من كان، ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك"، وتقديم الظرف على المفعولين أوجب الاهتمام بشأنه، قال:"ولذل قدم اسم "الله" على الشركاء".

وقال صاحب "المفتاح": "مثل أن يكون الشيء مهتما بشأنه بسبب التفات الخاطر إليه، كما تجدك إذا قال لك أحد: عرفت شركاء الله، يقف شعرك، وتقول: لله شركاء؟ ! ".

فإذاً في تقديم اسم "الله" القصد إلى استعظام ذاته عز سلطانه أن يتصور لساحة جلاله معنى الشريك مطلقاً، من غير نظر إلى جواز إيجاده أو حظره، وفي تقديم (شُرَكَآءَ) على (الجِنَّ) استعظام إيجاد الشريك له، من غير نظر إلى كونه جنياً أو إنسياً أو غير ذلك.

قال صاحب "الإيضاح": "وفيه نظر، لأن الآية مسوقة للإنكار التوبيخي، فيمتنع أن يكون إنكار تعلقه به باعتبار تعلقه بـ (شُرَكآءَ)، وتعلقه بـ (شُرَكآءَ) كذلك منكر، باعتبار تعلقه بالله، فلم يبق فرق بين التلاوة وعكسها".

واعلم أنا على ما قررنا مغزى الكلام، وهو أن التقديم للاهتمام، سقط هذا السؤال بالكلية.

ص: 188

وقرئ: "الجن" بالرفع، كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الجن. وبالجرّ على الإضافة التي للتبيين.

والمعنى: أشركوهم في عبادته، لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله. وقيل: هم الذين زعموا أنّ الله خالق الخير وكل نافع، وإبليس خالق الشر وكل ضارّ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: هم الذين زعموا أن الله تعالى خالق الخير وكل نافع، وإبليس خالق الشر، وكل ضار) عطف على قوله: "المعنى: أشركوهم"، ففاعل "جعلوا لله شركاء"، على الأول، عام، وعلى الثاني خاص.

روى محيي السنة عن الكلبي أن الآية: "نزلت في الزنادقة، أثبتوا الشركة لإبليس من الخلق، فقالوا: الله خالق النور والناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع، والحيات والعقارب".

وقال الإمام: "القائلون بيزدان وأهرمن قالوا: إن الجن شركاء الله، وهم قد اعترفوا بأن أهرمن محدث. وفي المجوس من يقول: إن الله تعالى فكر في مملكة نفسه واستعظمها، فحصل نوع من العجب، فتولد الشيطان منه، ومنهم من يقول: شك في قدرة نفسه، فتولد منه الشيطان، فأقروا بحدوثه، وذلك قوله: (وَخَلَقَهُمْ) ".

وهذا القول اختاره الإمام، وروى في الآية وجهين آخرين، وضعفهما: أحدهما: قالوا: إن الكافرين كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، فسموا بالجن، كما سموا في قوله: (وجَعَلُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ

ص: 189

(وَخَلَقَهُمْ): وخلق الجاعلين لله شركاء. ومعناه: وعلموا أن الله خالقهم دون الجن، ولم يمنعهم علمهم أن يتخذوا من لا يخلق شريكاً للخالق. وقيل: الضمير للجن. وقرئ: "وخلقهم"، أي: اختلاقهم للإفك، يعني: وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم: (وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها)[الأعراف: 28].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجِنَّةِ نَسَبًا) [الصافات: 158]. ومعنى الشركة أنها، مع كونها بنات الله، مدبرة لأحوال هذا العالم. وثانيهما: قال الحسن وطائفة من المفسرين: إن الجن لما دعوا الناس إلى عبادة الأصنام، والقول بالشرك، وكانوا مطاعين فيه، صح معنى الشركاء.

وقال الزجاج: "إنهم أطاعوا الجن فيما سولت لهم من شركهم، فجعلوهم شركاء لله تعالى".

قوله: (وعلموا أن الله تعالى خالقهم دون الجن). قال القاضي: " (وَخَلَقَهُمْ) حال، بتقدير "قد"، أي: وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن، وليس من يخلق كمن لا يخلق". يعني: هي حال مقدرة لجهة الإشكال، ولهذا قدر المصنف "العلم" على نحو قوله تعالى:(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ)[البقرة: 28] كما مر في موضعه.

قوله: (وقيل: الضمير للجن): عطف على قوله: "وخلق الجاعلين لله شركاء".

وذكر الزجاج الوجهين، وقرر الثاني بقوله:" (وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ) والله خالق الجن، فكيف يكون الشريك لله عز وجل المحدث الذي لم يكن ثم كان؟ "، واختار الإمام الأول.

ص: 190

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: الذي عليه النظم: الوجه الثاني، لما علم من قوله:(وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ) هذا المعنى: أي: "خلق الجاعلين لله شركاء"، فالواجب أن يحمل على معنى زائد، لكن يجب تفسير الآية بما ذكره من قوله:"والمعنى: أشركوهم في عبادته"، ليعم جميع من اتخذ شريكاً لله عز وجل من المجوس وغيرهم، وجميع من جعلوه شركاء لله، من الملائكة والجن وأهرمن، لأن السورة إلى سياقها في شأن مشركي مكة، واختصاصها بالمجوس، مما يخرم النظم.

وأما بيان النظم فإن الآيات من لدن قوله: (فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى) إلى خاتمة (ذلكم الله ربكم)[الأنعام: 95 - 102] كالتفسير لسورة الإخلاص، والتفصيل لمجملها، وإن قوله:(وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ): عطف على الجمل السابقة من قوله: (إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى) من باب حصول مضمون الجملتين، على منوال ما سبق في فاتحة السورة التي هي كبراعة الاستهلال. يعني حصل من الله - عز شأنه، وجل سلطانه - تلك النعم العظمى، والآيات الباهرات، ليعبد ويوحد، وحصل من بني آدم ما ينافيه ويناقضه.

نحوه ما رواه المصنف: "إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري! ". وعلى هذا المنوال نسج المصنف في قوله تعالى: (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)[الرعد: 16] حيث قال: "أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد، من علمكم وإقراركم، سبب الإشراك؟ ".

ص: 191

(وَخَرَقُوا لَهُ): وخلقوا له، أي: افتعلوا له، (بَنِينَ وَبَناتٍ) وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعُزير، وقول قريشٍ في الملائكة يقال: خلق الإفك وخرقه، واختلقه واخترقه، بمعنىً. وسئل الحسن عنه، فقال: كلمةٌ عربيةٌ كانت العرب تقولها: كان الرجلُ إذا كذب كذبةً في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله.

ويجوز أن يكون من: خرق الثوب؛ إذا شقه، أي: اشتقوا له بنين وبناتٍ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: وما أحسن موقع قوله: (إنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) خاتمة لتلك الآيات الباهرات، وتخلصاً إلى هذا التقريع، وتعريضاً بالمشركين! ومن حق التقريع أن يجعل:(وَخَرَقُوا): من خرق الثوب، لينبه على التباين الشديد بين طرفي الإفراط والتفريط.

ويؤيد العموم عطف قوله: (وخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وبَنَاتٍ)، لأن القائلين بالبنين: اليهود والنصارى، وبالبنات: المشركون. يعني: جمع من مال من الدين الحنيف بين هاتين العظيمتين، فوزان المعطوف عليه كله وزان قوله:(اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ)[الإخلاص: 1 - 2]، ووزان قوله:(لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ * ولَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[الإخلاص: 3 - 4]، وزان قوله:(وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ). ووزان قوله: (لَم يَلِدْ) وزان قوله: (وخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

(الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)[الأعراف: 43].

قوله: (اشتقوا له بنين)، النهاية:"وفي الحديث: "النساء شقائق الرجال"، أي: نظائرهم

ص: 192

وقرئ: "وخرّقوا" بالتشديد للتكثير، لقوله:(بَنِينَ وَبَناتٍ)، وقرأ ابن عمر وابن عباسٍ رضي الله عنهما:"وحرّفوا" له، بمعنى: وزوّروا له أولاداً، لأنّ المزوّر محرّف مغير للحق إلى الباطل.

(بِغَيْرِ عِلْمٍ) من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأٍ أو صواب، ولكن رمياً بقولٍ عن عمى وجهالة. من غير فكرٍ وروية.

[(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)].

(بَدِيعُ السَّماواتِ) من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، كقولك: فلانٌ بديع الشعر، أي: بديعٌ شعره، أو هو بديعٌ في السموات والأرض، كقولك: فلانٌ ثبت الغدر، أي: ثابتٌ فيه، والمعنى أنه عديم النظير والمثل فيها.

وقيل: البديع بمعنى: المبدع، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأٍ محذوف، أو هو مبتدأٌ وخبره:(أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ)، أو فاعل "تعالى". وقرئ بالجرّ ردّاً على قوله:(وَجَعَلُوا لِلَّهِ)، أو على (سُبْحانَهُ)، وبالنصب على المدح.

وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأمثالهم في الأخلاق والطباع، كأنهن شققن منهم، ولأن حواء خلقت من آدم".

وقال في تفسير قوله تعالى: (وجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا)[الزخرف: 15]: "قالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءاً له، وبعضاً منه، كما يكون الولد بعضاً من والده، وجزءاً له".

قوله: (رداً على قوله: (وجَعَلُوا لِلَّهِ) أي: بدلاً منه.

قوله: (فيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه). قال صاحب "التقريب": "ولا يخفى افتقار الوجوه إلى مقدمات".

ص: 193

أحدها: أن مبتدع السموات والأرض - وهي أجسامٌ عظيمةٌ - لا يستقيم أن يوصف بالولادة، لأنّ الولادة من صفات الأجسام، ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والداً.

والثاني: أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد وهو متعالٍ عن مجانس، فلم يصح أن تكون له صاحبة، فلم تصح الولادة.

والثالث: أنه ما من شيءٍ إلا وهو خالقه والعالم به، ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شيء، والولد إنما يطلبه المحتاج.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: أما الوجه الأول: فتقديره - على ما قال المصنف - أن مبدع الأجسام لا ينبغي أن يتصف بصفة الولادة، لأنه إن اتصف بها يكون جسماً مثلها، لأن الولادة من صفات الأجسام، والله تعالى منزه عن أن يكون جسماً، لأن الأجسام ممكنة، محتاجة في إنشائها إلى مخترع منشئ.

والقاضي قرر هذا الوجه بأن قال: "إن من مبدعاته السموات والأرضين، وهي، مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة، مبرأة عنها، فهو أولى بأن يتعالى عنها، أو أن ولد الشيء: نظيره، ولا نظير له، فلا ولد له".

والثاني: قوله: "إن الولادة لا تكون إلا بين زوجين"، وتحريره: أنه ثبت بالدليل أنه تعالى خالق الأجسام كلها، ومبدعها، ومنشئها، والخالق لا يجانس المخلوق، والزوجية تقتضي المجانسة، والولادة متوقفة على الزوجين، فإذاً لا ولد له.

وقال القاضي: "والمعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثي متجانسين، والله تعالى منزه عن المجانسة".

والثالث: قوله: "إنه ما من شيءٍ إلا وهو خالقه والعالم به". وهذا ظاهر.

ص: 194

وقرئ: ولم يكن له صاحبة، بالياء، وإنما جاز للفصل كقوله:

لَقَدْ وَلَدَ الأُخَيْطِلَ أُمُّ سُوءِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فعلم من هذا التقرير أن قوله: (ولَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ): عطف على قوله: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ ولَدٌ)؟ فعلى هذا لا يتم الوجه الثاني دليلاً إلا بأن يضم إليه مقدمة من الدليل الأول، وفي الفاءين في قوله:"فلم يصح" مكرراً، إشعار بذلك. والوجه الثالث دليل مستقل كالأول، والجملة معطوفة على جملة قوله:(بَدِيعُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ). وإنما كرر (كُلِّ شَيْءٍ)[البقرة: 20]، ولم يكتف بقوله: وهو به عليم، ليشير به إلى استقلال كل من القدرة والعلم، بالإحاطة التامة، والقدرة الكاملة. ولهذا عطف الجملة الاسمية على الفعلية.

قال القاضي: "إن الولد كفؤ الوالد، ولا كفؤ له، بوجهين: الأول: أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه، والثاني: أنه لذاته عالم بكل المعلومات، ولا كذلك غيره بالإجماع".

وقال الإمام بعدما طول في تقرير الوجوه على غير هذا النمط: "ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاماً، يساويه أو يدانيه في القوة والكمال، لعجزوا عنه"، والله أعلم.

قوله: (لقد ولد الأخيطل أم سوءٍ)، تمامه:

ص: 195

[(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)].

(ذلِكُمُ) إشارةٌ إلى الموصف مما تقدم من الصفات، وهو مبتدأ، وما بعده أخبار مترادفة وهي (اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على قمع استها صلب وشام

ويروى: باب استها.

وقيل: كان الأخطل من نصارى العرب. واسمه: غياث. وزعموا أن جريراً لقيه. وصلب: جمع صليب النصارى. والشام: النقوش. أراد أن هذه المرأة تفعل فعل المومسات. والقياس: "ولدت"، لأن الفاعل مؤنث حقيقي.

قال ابن جني: "وهي قراءة إبراهيم النخعي. مثله ما حكاه سيبويه من قولهم: "حضر القاضي اليوم امرأة". وأنا أرى أن تذكير "كان" مع تأنيث اسمها أسهل من تذكير سائر الأفعال وتأنيث فاعليها، فـ" كان في الدار هند" أسوغ من: "قام في الدار هند"، وذلك أنه إنما احتيج إلى تأنيث الفعل عند تأنيث فاعله لأنهما يجريان مجرى الجزء الواحد، لأن كل واحد منهما لا يستغني عن صاحبه، فإنك لو حذفت الفعل لانفرد الفاعل، فلم يفد شيئاً، فأنث الفعل إيذاناً بأن الفاعل المتوقع بعده مؤنث، بخلاف "كان" وأخواتها، لأنك لو حذفتها لاستقل ما بعدها برأسه، فلم تقو حاجته إلى الفعل، فانحطت رتبته، ولم يذكر أحد من أصحابنا هذا، فافهمه".

ص: 196

أي: ذلكم الجامع لهذه الصفات، (فَاعْبُدُوهُ) مسببٌ عن مضمون الجملة، على معنى: أن من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة، فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه. ثم قال:(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) يعني: وهو مع تلك الصفات مالكٌ لكل شيءٍ من الأرزاق والآجال، رقيب على الأعمال.

[(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)].

البصر: هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر، به تدرك المبصرات، فالمعنى: أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه، لأنه متعالٍ أن يكون مبصراً في ذاته، .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: ذلكم الجامع لهذه الصفات): إشارة إلى الصفات السابقة، وقوله:(فَاعْبُدُوهُ): حكم ترتب على تلك الأوصاف، وهي علة مناسبة له، فحيث وجدت وجد، وحيث فقدت فقد، ولهذا قال:"فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه"، خص "البعض" لأن الكلام في الملائكة والجن، لقوله:(وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ)[الأنعام: 100]. وقوله: (وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ): تتميم للصفات، أو تكميل لأمر العبادة، فقوله:"وهو، مع تلك الصفات، مالك لكل شيءٍ من الأرزاق والآجال، رقيب على الأعمال" يحتملهما، أي: هو الحقيق بالعبادة، لأنه المنزه عن النقائص، والمنفرد بالإلهية، والمختص بالخالقية، ومع ذلك متكفل لأرزاق العباد، رقيب على أعمالهم، بيده آجالهم وسائر ما يرتفقون، ويحتاجون إليه، فلم لا يخصونه بالعبادة؟ !

قوله: (أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه): رد على أهل السنة، لأنه يفيد أن الأبصار لا تتعلق به لا بالإحاطة ولا بغير الإحاطة، لأن أهل السنة قالوا بالثاني دون الأول.

ص: 197

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الزجاج: "معنى هذه الآية: معنى إدراك الشيء والإحاطة بحقيقته. وهذا مذهب أهل السنة والحديث، لأن أحداً من خلقه لا يدرك المخلوق بكنهه، فكيف به جل وعز؟ فالأبصار لا تحيط به".

وقال الإمام: "المرئي إذا كان له حد ونهاية، وأدركه البصر بجميع حدوده، سمي إدراكاً، فالحاصل أن الرؤية جنس تحته نوعان: رؤية مع الإحاطة، ورؤية لا معها، فنفي الإدراك يفيد نوعاً واحداً، وهو لا يفيد نفي الجنس".

قال الواحدي: "يصح أن يقال: رآه وما أدركه، فالأبصار ترى الباري ولا تحيط به، كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به".

وقال الإمام: "هب أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية، لكن قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) يفيد عموم النفي عن جميع الأشخاص، في كل الأوقات، وفي كل الأحوال، فإن نفي العموم غير عموم النفي، ونفي العموم يوجب ثبوت الخصوص. ألا ترى أنه إذا قيل: إن زيداً ما ضربه كل الناس، فإنه يفيد أنه ضربه بعض الناس؟ ".

ومثله ذكر المصنف في قوله تعالى: (إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي)[مريم: 4].

ويقال: إن التعريف في (الأبْصَارَ) إما للاستغراق، أو للعهد، أو للجنس.

ص: 198

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أما الاستغراق: فيفيد أن جميع الأبصار لا تدركه، ودليل الخطاب - على ما قاله الإمام - يفيد أن البعض يدركه.

وأما العهد: فأريد بها أبصار الكفار، على ما روى محيي السنة عن مالك: لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة، لم يعير الكفار بالحجاب.

وأما الجنس: فهو أن البصر: ما يعلمه كل أحد أنه ما هو، وهي حاسة النظر، فلا شك أن الحاسة على ما هي الآن لا تدركه، وأما إذا طهرها الله من الكدورات، وأحدث فيها بلطفه ما يستعين به العبد على رؤية الله تعالى في دار الثواب، كما أراده، ويليق بحاله، بحيث لا تدركه الأذهان، فأي بعدٍ منه؟ !

نقل الإمام عن ضرار بن عمرو أن الله تعالى لا يرى بالعين، وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة، بها تحصل رؤية الله وإدراكه.

وروى محيي السنة عن ابن عباس ومقاتل: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) في الدنيا، وهو يرى في الآخرة (وهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)، ولا يخفى عليه شيء ولا يفوته".

وقال الواحدي: "والدليل على أن هذه الآية مخصوصة بالدنيا قوله: (وجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 22 - 23]، فقيد النظر إليه بيوم القيامة، وأطلق في هذه الآية، والمطلق يحمل على المقيد".

ص: 199

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال السجاوندي: " (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) ليس بمدح، لعدم كونه مرئياً، بل بيان أنه لا يرى في الدنيا، وهو يرى".

وقلت: قضية النظم تساعد قول ابن عباس رضي الله عنه، وذلك أن عطف قوله تعالى:(وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ)[الأنعام: 100] كما سبق، على قوله:(إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الحَبِّ والنَّوَى)[الأنعام: 95] على معنى: نحن أنعمنا عليهم بالنعم المتكاثرة، وأريناهم الآيات المتظاهرة، ليشكرونا، ولا يعبدوا غيرنا، وهم قد عكسوا؛ إذ عبدوا الجن، وجعلوا لله بنين وبنات: دل على استحقاق العبادة لله تعالى وعلى أنه ما خلق الخلق إلا للعبادة فلما أراد أن يبطل ما نسبوا إليه من اتخاذ بنين وبنات، على وجهٍ يستتبع المقصود من اختصاص العبادة به عز وجل قال:(بَدِيعُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ ولَدٌ ولَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[الأنعام: 101]، ورتب عليه قوله:(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ)[الأنعام: 102].

ومن المقرر أن العبادة لا تكون معتداً بها، مقبولة، حتى تكون مصحوبة بالإخلاص، غير مشوبة بالرياء، فنبه بقوله:(وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ)[الأنعام: 102] على أنه بذاته الأقدس مراقب لأحوالهم، حافظ لما يصدر منهم، كقوله تعالى:(ولِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[طه: 39]، وأن مراقبته على خلاف ما عليه المراقب في الشاهد، لأنه مراقب بحيث لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، لئلا يبطل غرض التكليف، لأن العابد إذا رآه يضطر إلى العبادة.

وفي تخصيص ذكر إدراكه الأبصار التلويح إلى المحافظة التامة، لئلا يسترق المرائي النظر إلى الخلق، وفي ذكر (اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) الرمز إلى المراقبة الكاملة لخبيئات الصدور،

ص: 200

لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلاً أو تابعاً، كالأجسام والهيئات.

(وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ): وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك، (وَهُوَ اللَّطِيفُ) يلطف عن أن تدركه الأبصار، (الْخَبِيرُ) بكل لطيفٍ فهو يدرك الأبصار، لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللطف.

[(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)].

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) هو واردٌ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله:(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وخفيات الهواجس، ليكون المريد واقفاً على مواقف الإخبات والخضوع، آخذاً أهبة الحذر عن الشرك الخفي. وإلى هذه المعاني لمح صلوات الله عليه:"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

فظهر من هذا البيان أن قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ): إما استئناف على تقدير سؤال مورده قوله: (وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ)، أو صفة لـ (وَكِيلٌ)، وكالمقابل لمعنى قوله تعالى:(يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ) إلى قوله: (إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ)[الأعراف: 27]. قال المصنف: " (إنَّهُ يَرَاكُمْ): تعليل للنهي، وتحذير من فتنته، بأنه بمنزلة العدو المداجي، يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون".

قوله: ((قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ)): هو وارد على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم لدلالة قوله: (ومَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ)، لأنه إما حال من فاعل "جاء"؛ وهو (بَصَائُر)، أو من المفعول؛ وهو الضمير المنصوب، ويؤيد الثاني قوله:"أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها".

ص: 201

والبصيرة: نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر. أي: جاءكم من الوحي والبينة على ما يجوز على الله وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر، (فَمَنْ أَبْصَرَ) الحق وآمن (فَلِنَفْسِهِ) أبصر وإياها نفع، (وَمَنْ عَمِىََ) عنه فعلى نفسه عمى وإياها ضرَّ بالعمى، (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم.

[(وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)].

(وَلِيَقُولُوا) جوابه محذوف تقديره: وليقولوا "درست" نُصرّفها. ومعنى (دَرَسْتَ): قرأت وتعلمت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والبصيرة: نور القلب الذي به يستبصر، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر)، فيه بيان لربط هذه الآية بما قبلها، يعني: كما نفي إدراك البصر عن المكلفين، أثبت لهم البصيرة، ومن عليهم بما منى لهم، وحذرهم أن يغفلوا عنها بقوله:(ومَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا).

وقلت: والذي يقتضيه النظم أن "قل" هاهنا مقدرة، بدليل قوله:(ومَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) فكأنه تعالى يقول: قل يا محمد للقوم: قد جاءكم فيما سبق في هذه السورة، من الآيات البينات، والبراهين الساطعات، ما يفتح به آذاناً صماً، وأعيناً عمياً، وقلوباً غلفاً، فمن أبصر الحق فلنفسه بصر، وإياها نفع، ومن عمي عنه فعلى نفسه عمي، وإياها ضر، وأنا لا أحفظ أعمالكم، وإنما أنا منذر، والله هو الحفيظ عليكم.

ولما قلنا: إن المراد: جاءكم في السورة من الآيات البينات، قال فذلكة:(وكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ولِيَقُولُوا دَرَسْتَ ولِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

قوله: (جوابه محذوف)، أي: معلله.

ص: 202

وقرئ: (دارست)، أي: دارست العلماء، و (درست) بمعنى: قدّمت هذه الآيات وعفت، كما قالوا: أساطير الأولين، و"درست" بضم الراء، مبالغة في "درست"، أي: اشتدّ دروسها. و"درست" - على البناء للمفعول - بمعنى: قرئت أو عفيت، و (دارست) وفسروها بـ: دارست اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم، وجاز الإضمار، لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم، ويجوز أن يكون الفعل للآيات، وهو لأهلها، أي: دارس أهل الآيات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "دارست"): ابن كثير وأبو عمرو. و"درست": ابن عامر ويعقوب.

قوله: (أي: اشتد دروسها)، لأن "فعل"، من أوزان أفعال الطبائع والغرائز، ولا شك في إثباتها وتمكنها.

قوله: (بمعنى: قرئت)، أي: قرأها النبي صلي الله عليه وسلم، كما قالوا: تعلمت من يسار وحبر، وكانا عبدين من سبي الروم.

قوله: (و"دارست"): أي: وقرئ: "ودارست".

قال ابن جني: "رويت عن الحسن: "درست"، وعن ابن مسعود، وأبي: "درس". وأما "درست" ففيه ضمير الآيات، أي: وليقولوا: درستها أنت يا محمد، كقراءة العامة: "دارست". ويجوز أن يكون "درست"، أي: عفت وتنوسيت، كقوله تعالى:(أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)[الأنعام: 25].

ص: 203

وحملتها محمداً، وهم أهل الكتاب. و"درس" أي: درس محمد، و"دارسات"، على: هي دارساتٌ، أي: قديمات، أو ذات دروس، كـ (عيشة راضية) [الحاقة: 21، القارعة: 7].

فإن قلت: أي فرقٍ بين اللامين في (لِيَقُولُوا)، "لِنُبَيِّنَهُ"؟ قلت: الفرق بينهما أنّ الأول مجازٌ، والثانية حقيقة؛ وذلك أن الآيات صرفت للتبيين، ولم تصرف ليقولوا: دارست، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين، شبه به فسِيق مساقه. وقيل: ليقولوا كما قيل لنبينه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما "درس" ففيه ضمير النبي صلي الله عليه وسلم، وشاهد هذا:"دراست"، أي: فإذا جئتهم بهذه القصص والأنباء، قالوا: شيء قرأه، فأتي به، وليس من عند الله تعالى. أي: يفعل هذا التقوى أثرة التكليف عليهم، زيادة في الابتلاء لهم، كالحج والغزو وتكليف المشاق المستحق عليها الثواب. وإن شئت كان معناه: فإذا هم يقولون كذا، كقوله تعالى:(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا)[القصص: 8]، أي: فإذا هو عدو لهم".

وقال الزجاج: "أهل اللغة تسمي هذه اللام: لام الصيرورة".

وقال أبو البقاء: "قصد بالتصريف إلى أن يقولوا: (دَرَسْت) عقوبةً لهم"، أي: ليعاقبهم به. نحوه قوله تعالى: (ومَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا)[المدثر: 31].

قوله: (شبه به، فسيق مساقه). تحقيق تشبيهه سيجيء في "القصص" عند قوله تعالى:

ص: 204

فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: "لِنُبَيِّنَهُ"؟ قلت: إلى (الآيات)، لأنها في معنى القرآن، كأنه قيل: وكذلك نُصرف القرآن، أو: إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر، لكونه معلوماً، أو: إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل، كقولهم: ضربته زيداً.

ويجوز أن يراد فيمن قرأ: "درست" و"دارست": درست الكتاب ودارسته، فيرجع إلى "الكتاب" المقدّر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا)[القصص: 8]. المعنى: ولكن شبه به، فسيق مساقه، لأنه حصل هذا القول.

قوله: (ضربته زيداً). الضمير لمصدر "ضرب"، كقوله:

هذا سراقة للقرآن يدرسه

ومنه قوله تعالى: (ولِكُلٍّ وجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)[البقرة: 163] إذا كان الضمير للتولية.

ص: 205

[(اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)].

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) اعتراضٌ أكد به إيجاب اتباع الوحي لا محلّ له من الإعراب. ويجوز أن يكون حالاً من (ربك)، وهي حالٌ مؤكدةٌ كقوله:(وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً)[البقرة: 91].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ): اعتراض أكد به إيجاب إتباع الوحي)، وذلك أن قوله:(لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ) كلمة التوحيد، اعتراض بين قوله:(اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ) وبين قوله: (وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ)، توكيداً لما في كلمة التوحيد [من] التمسك بحبل الله، والاعتصام به، والتبري والإعراض عما سواه. ولأن الموحي ليس إلا التوحيد. قال الله تعالى:(إنَّمَا يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ واحِدٌ)[الأنبياء: 108].

وفيه تسلية لرسول الله صلي الله عليه وسلم والحث على احتمال الأذى من الكفار، والصفح عن مساوئهم، وذلك أنه تعالى ختم الآيات بقوله:(وكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ولِيَقُولُوا)[الأنعام: 105].

وفيه معنى التعكيس، وهو أن تكرير الآيات البينات ليس إلا ليهتدوا ويتبعوك، فقد جعلوها وسيلةً إلى الطعن فيك، والقول بأنك درست وتعلمت من اليهود، فاصفح عنهم، واتبع ما جاءك من توحيد ربك.

قوله: (وهي حال مؤكدة)، قال صاحب "التقريب":"وفيه نظر، إذ شرط المؤكدة تقدم جملةٍ اسمية". قلت: هذا شرط لحذف العامل، كما مرَّ مراراً.

ص: 206

[(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)].

(وَلا تَسُبُّوا) الآلهة (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ)، وذلك أنهم قالوا عند نزول قوله تعالى:(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)[الأنبياء: 98]: لتنتهينّ عن سب آلهتنا أو لنهجونّ إلهك. وقيل: كان المسلمون يسبون آلهتهم، فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله تعالى.

فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة، فكيف صحّ النهي عنه، وإنما يصح النهى عن المعاصي؟ قلت: ربّ طاعةٍ علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة، فيجب النهى عنها لأنها معصية، لا لأنها طاعة، كالنهي عن المنكر، هو من أجلّ الطاعات، فإذا علم أنه يؤدّي إلى زيادة الشر انقلب معصية، ووجب النهي عن ذلك النهي، كما يجب النهي عن المنكر.

فإن قلت: فقد روي عن الحسن وابن سيرين: أنهما حضرا جنازة، فرأى: محمد نساءً، فرجع، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أبو البقاء: " (لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ) يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً مؤكدة من (ربك)، أي: منفرداً بالإلهية".

قوله: (أنهم قالوا عند نزول: (إنَّكُمْ ومَا تَعْبُدُونَ))، فإن قلت: لا يستقيم هذا مع النهي في (ولا تسبوا). قلت: إذا قصد بالتلاوة وغيظهم، يستقيم النهي عنها.

ص: 207

فقال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا. قلت: ليس هذا مما نحن بصدده، لأنّ حضور الرجال الجنازة طاعة، وليس بسببٍ لحضور النساء، فإنهن يحضرنها، حضر الرجال أو لم يحضروا، بخلاف سب الآلهة. وإنما خُيل إلى محمدٍ رحمه الله أنه مثله حتى نبه عليه الحسن.

(عَدْواً): ظلماً وعدواناً. وقرئ: "عدوّاً" بضم العين وتشديد الواو بمعناه. ويقال: عدا فلانٌ عدواً وعدواً وعدواناً وعداءً. وعن ابن كثير: "عدوّاً"، بفتح العين بمعنى: أعداء، (بِغَيْرِ عِلْمٍ): على جهالةٍ بالله وبما يجب أن يذكر به، (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ) مثل ذلك التزيين زينا لكل أمّةٍ من أمم الكفار سوء عملهم، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأسرع ذلك في ديننا): أي لأسرع فساد ذلك في ديننا، أو: لأسرع ذلك في فساد ديننا. ضمن "أسرع" معنى التأثير: أي أثر الترك في ديننا سريعاً.

قلت: إن صحت الرواية، فالحق مع ابن سيرين، لما روينا في "مسند أحمد بن حنبل"، و"سنن ابن ماجه"، عن ابن عمر قال:"نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم أن تتبع جنازة معها رانة".

وعن ابن ماجه، عن عمران بن حصين وأبي برزة، قالا: خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في جنازة، فرأي قوماً قد طرحوا أرديتهم، يمشون في قمص، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:"أبفعل الجاهلية تأخذون - أو: بصنيع الجاهلية تشبهون-؟ لقد هممت أن أدعو عليكم دعوةً ترجعون في غير صوركم" قال: فأخذوا أرديتهم، ولم يعودوا لذلك.

قوله: (مثل ذلك التزيين) المشار إليه قوله: (فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ)، وهو أمر

ص: 208

أي: خليناهم وشأنهم، ولم نكفهم، حتى حسن عندهم سوء عملهم، أو: أمهلنا الشيطان حتى زين لهم، أو: زيناه في زعمهم. وقولهم: إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا، (فَيُنَبِّئُهُمْ): فيوبخهم عليه ويعاتبهم ويعاقبهم.

[(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)].

(لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) من مقترحاتهم، (لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ) وهو قادرٌ عليها، ولكنه لا ينزلها إلا على موجب الحكمة، أو: إنما الآيات عند الله لا عندي، فكيف أُجيبكم إليها وآتيكم بها، (وَما يُشْعِرُكُمْ): وما يدريكم (أَنَّها): أن الآية التي تقترحونها (إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) بها، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عظيم، فاستبعده، حيث أشار إليه بقوله:"ذلك"، ولا يحمل على مثل ذلك الأمر العظيم إلا التزيين.

قوله: (أو زيناه في زعمهم): إشارة إلى أنه هو من باب المشاكلة، كقوله تعالى:(إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً)[البقرة: 26].

قوله: (وما يدريكم أن الآية التي تقترحونها (إذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)). قال أبو البقاء: " (وما يشعركم): (ما): استفهام في موضع رفعٍ بالابتداء، و (يشعركم): الخبر، وهو يتعدى إلى مفعولين".

ص: 209

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال صاحب "الانتصاف": "إذا قيل لك: أكرم زيداً يكافئك، قلت في إنكاره: وما يدريك أنني إذا أكرمته يكافئني؟ فإن قال: لا تكرم زيداً فإنه لا يكافئك، قلت في إنكاره: وما يدريك أنه لا يكافئني؟ تريد: وأنا أعلم منه المكافأة. فكان مقتضي حسن ظن المؤمنين بهؤلاء المعاندين أن يقال لهم: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون؟ وإثبات (لا) يعكس المعنى إلى أن المعلوم لك الثبوت، وأنت تنكر على من نفي، فلهذا حملها بعض العلماء على زيادة "لا"، وبعضهم على معنى "لعل"، والزمخشري أبقاها على وجهها بطريق نوضحه بمثالنا المذكور.

فإذا قيل لك: أكرم زيداً يكافئك، فلك حالتان: حالة تنكر عليه ادعاءه العلم بما يعلم خلافه، وحالة تعذره في عدم العلم أنه لا يكافئ، فإنكار الأول بحذف "لا"، وإنكار الثاني يجوز معه ثبوت "لا"، بمعنى: ومن أين تعلم أنت ما علمته أنا من أنه لا يكافئ؟ فالآية أقيم فيها عذر المؤمنين في عدم علمهم بالغيب الذي علمه الله، وهو عدم إيمان هؤلاء فاستقام دخول (لا) ".

وقلت: الظاهر من تفسير المصنف بقوله: و"ما يدريكم (أنها): أن الآية التي تقترحونها (إذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) بها"، وقوله:"يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وأنتم لا تدرون" أن الاستفهام فيه للإنكار، وفيه معنى النفي، وإن منع صاحب "الكشف"

ص: 210

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذلك بقوله: (ولا يجوز أن يكون "ما" نفياً، على تقدير: وما يشعركم الله إيمانهم، لأن الله تعالى قد أعلمنا أنهم لا يؤمنون، بقوله: (ولَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وكَلَّمَهُمُ المَوْتَى) إلى قوله: (مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)[الأنعام: 111]"، لأن تقريره - وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها - بيان لمقتضي المقام، يعني: نزل المؤمنون، لحرصهم على إيمان القوم، منزلة من يدعي أن الآيات من عند رسول الله صلي الله عليه وسلم البتة، ومنزلة من لا يدري أن علم الله سبق بأنهم لا يؤمنون إذا جاءت الآيات. وذلك أن قريشاً لما سألت رسول الله صلي الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية، وحلفوا: (ليؤمنن بها)، سأل المسلمون أيضاً ذلك إظهاراً للحرص على إيمانهم، فقيل له صلوات الله عليه أن يقول لهم: أولاً: (إنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ) لا عندي، وثانياً: (ومَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) بمعنى: كأنكم لا تدرون سبق علمي بأنهم لا يؤمنون إذا جاءت الآيات، بسبب طمعكم هذا. وهو المراد من قوله: "وما يدريكم أنهم لا يؤمنون؟ على معنى: أنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون".

ولخصه القاضي حيث قال: "وما يدريكم، استفهام إنكار، أي: لا تدرون أنهم لا يؤمنون؛ أنكر السبب مبالغةً في نفي المسبب". يعني: أنكر الدراية بهذا العلم، وأريد إنكار إظهار الحرص على إيمانهم، أي: أنتم لا تدرون هذه المسألة، فلذلك تطمعون في إيمانهم.

ومنه قوله تعالى: (وإن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْرَاضُهُمْ فَإنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ) الآية [الأنعام: 35]، قال: "كانوا يقترحون الآيات، فكان يود أن يجابوا إليها، لتمادي حرصه

ص: 211

يعني: أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وأنتم لا تدرون بذلك. وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها، فقال عز وجل: وما يدريكم أنهم لا يؤمنون، على معنى أنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون به، ألا ترى إلى قوله:(كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[الأنعام: 110]. وقيل: (أنها) بمعنى: «لعلها» ، من قول العرب: ائت السوق أنك تشتري لحماً. وقال امرؤ القيس:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على إيمانهم، فقيل له: إن استطعت كذا فافعل، دلالةً على أنه بلغ في حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله".

وقال الإمام نور الدين الحكيم الأبرقوهي رحمه الله: "معنى الآية: وما يشعركم أيها المؤمنون المتمنون مجيء الآيات التي اقترحوها أنها إذا جاءت لا يؤمنون؟ أي: أنكم لا تدرون ذلك وأنا أدري". فالاستفهام بمعنى النفي. وعلى هذا قال بعضهم: إن قوله فيما بعد: (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)[الأنعام: 110] متصل بهذا، تدرون أنهم (إذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)، (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

والآية شديدة الشبه بقول السيد الذي حبس عبده - مثلاً - للذي يشفع إليه من أصحابه في إطلاقه: إنه إذا أطلق لا يمتثل، أي: أنا رزته، وذقت طباعه، وأعلم إصراره، وأنت لا تعلم.

قوله: (ألا ترى إلى قوله: (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) أي: هذه الآية التالية مؤذنة بأن (لا) غير مزيدة.

ص: 212

عوجوا على الطّلل المحيل لأنّنا

نبكي الديار كما بكى ابن خذام

وتقويها قراءة أُبيّ: "لعلها إذا جاءت لا يؤمنون"، وقرئ:(إنها) بالكسر على أن الكلام قد تمّ قبله، بمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال:(أنها إذا جاءت لا يؤمنون) البتة.

ومنهم من جعل (لا) مزيدةً في قراءة الفتح وقرئ: "وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون" أي: يحلفون بأنهم يؤمنون عند مجيئها، وما يشعرهم أن تكون قلوبهم حينئذٍ كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات مطبوعا عليها فلا يؤمنوا بها.

[(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (عوجوا على الطلل) البيت، عاج من راحلته: مال وعطف، والعوج: عطف رأس البعير بالزمام، والطلل المحيل: المنزل الذي أتي عليه الحول، أو حال وتغير من صفته بصوب الأمطار، وهبوب الرياح، وابن خذام، بكسر الخاء المعجمة: قيل: إنه أول من بكي من الشعراء على الديار.

قال الزجاج: "فزعم سيبويه عن الخليل أن معناها: "لعلها"، وهي قراءة أهل المدينة".

قوله: (وقرئ "إنها" بالكسر": ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بخلافٍ عنه، والباقون: بفتحها.

قوله: (ومنهم من جعل (لا) مزيدةً في قراءة الفتح). قال الزجاج: "المعنى: وما يشعركم

ص: 213

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُم

وَنَذَرُهُمْ) عطفٌ على (يؤمنون)، داخلٌ في حكم (وما يشعركم)، بمعنى: وما يشعركم أنهم لا يؤمنون، وما يشعركم اما نقلب أفئدتهم وأبصارهم، أي: نطبع على قلوبهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق، كما كانوا عند نزول آياتنا.

أو لا يؤمنون بها لكونهم مطبوعاً على قلوبهم، وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم أي: نخليهم وشأنهم لا نكفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه.

وقرئ: "ويقلب"، "ويذرهم" بالياء، أي: الله عز وجل. وقرأ الأعمش: "وتقلب أفئدتهم وأبصارهم" على البناء للمفعول.

[(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)].

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ)؛ كما قالوا: (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ)[الفرقان: 21]، (وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى)؛ كما قالوا:(فَاتُوا بِآبائِنا)[الدخان: 36]، (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا)؛ كما قالوا:(أَوْ تَاتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا)[الإسراء: 92].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أنها إذا جاءت يؤمنون، كقوله تعالى:(وحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ)[الأنبياء: 95] ".

قوله: ((أَوْ تَاتِيَ بِاللَّهِ والْمَلائِكَةِ قَبِيلاً)) يعني: معنى: (وحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً): هذا المقترح، وقد مر أن (كل شيء) من إطلاق الكل على معظم الشيء.

ص: 214

(قبلا): كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا، أو جماعاتٍ. وقيل:(قُبُلًا): مقابلة. وقرئ: (قُبُلًا) أي: عياناً. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) مشيئة إكراهٍ واضطرار.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((قبلاً): كفلاء): شروع في تفسير (قبلاً).

قال القاضي: " (قبلاً): جمع قبيل، بمعنى: كفيل، أي: كفلاء بما بشروا به وأنذروا، أو: جمع "قبيل" الذي هو: جمع قبيلة، بمعنى: جماعات، أو: مصدر، بمعنى: مقابلة. وهو على الوجوه: حال من (كل)، وإنما جاز ذلك لعمومه".

قال الجوهري: "رأيته قبلاً - بضم القاف وكسرها وفتحها-، أي: مقابلةً وعياناً، وقوله تعالى: (وحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً): قال الأخفش: أي: قبيلاً، وقال الحسن: أي: عياناً".

قوله: (وقرئ: "قبلاً") أي: بكسر القاف وفتح الباء: نافع وابن عامر، والباقون: بضمهما.

قوله: (مشيئة إكراه واضطرار): مذهبه.

قال القاضي: " (إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ): استثناء من أعم الأحوال، أي: لا يؤمنون في حالٍ إلا حال مشيئة الله إيمانهم. وقيل: منقطع، وهو حجة واضحة على المعتزلة".

ص: 215

أو: ولكنّ أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرّهم فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة.

[(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)].

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا): وكما خلينا بينك وبين أعدائك، كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو: ولكن أكثر المسلمين يجهلون). فإن قلت: لم نسب الجهل إلى المسلمين في هذا الوجه، وإلى المشركين في الوجه السابق؟ قلت: أما تخصيص المسلمين بالذكر فهو مفرع على القراءة المشهورة في الآية السابقة في قوله: (ومَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)، وفسره بقوله:"إن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية، ويتمنون مجيئها"، فالمعنى كما قال:"أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون، إلا أن يضطرهم، فيطعمون في إيمانهم".

وتخصيص المشركين بالذكر مبني على القراءة الشاذة، وهي:"وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون"، وفسره بقوله:"وما يشعرهم أن تكون قلوبهم حينئذ كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات، مطبوعاً عليها". فالمعنى كما قال: "وأكثرهم يجهلون، فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات".

والحاصل: أن هذا الكلام تذييل للكلام السابق بحسب اعتبار القراءتين.

قوله: (وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذل فعلنا بمن قبلك). قال القاضي: "وهو دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء بفعل الله وخلقه".

ص: 216

لم نمنعهم من العداوة، لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر، وكثرة الثواب والأجر.

وانتصب (شَياطِينَ) على البدل من (عدوّا)، أو على أنهما مفعولان كقوله:(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ)[الأنعام: 100].

(يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ): يوسوس شياطين الجنّ إلى شياطين: الإنس، وكذلك بعض الجنّ إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض. وعن مالك ابن دينار: إنّ شيطان الإنس أشد عليّ من شيطان الجنّ، لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجنّ عني، وشيطان الإنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عياناً، (زُخْرُفَ الْقَوْلِ): ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ويموّهه، (غُرُوراً): خدعاً وأخذاً على غرّة، (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ): ما فعلوا ذلك، أي: ما عادوك، أو ما أوحى بعضهم إلى بعضٍ زخرف الفول، بأن يكفهم ولا يخليهم وشأنهم.

[(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: الظاهر: أن المشار إليه بقوله: (كذلك) ما سبق من الأقوال التي لا تصدر إلا عن أعداء الأنبياء، تسليةً لرسول الله صلي الله عليه وسلم مثل قولهم:(درست)[الأنعام: 105]، ومثل السب الذي يفهم من قوله:(فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا)[الأنعام: 109]. يدل على أن الكلام في هذا قوله: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا)، ثم بين أن ذلك بتمكين الله إياهم، بقوله:(ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ).

قوله: (على غرة) أي: "غفلة. والغار: الغافل، واغتره: إذا أتاه على غفلة". قاله الجوهري.

ص: 217

(وَلِتَصْغى) جوابه محذوف، تقديره: وليكون ذلك (جعلنا لكل نبيّ عدوّاً)، على أن اللام لام الصيرورة وتحقيقها ما ذكر.

والضمير في (إِلَيْهِ) يرجع إلى ما رجع إليه الضمير في (فعلوه)، أي: ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين، (أَفْئِدَةُ) الكفار، (وَلِيَرْضَوْهُ) لأنفسهم، (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) من الآثام.

[(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)].

(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً) على إرادة القول، أي: قل يا محمد: أفغير الله أطلب حاكماً يحكم بيني وبينكم، ويفصل المحق منا من المبطل، (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) المعجز،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (جوابه محذوف)، أي: معلله، وهو ما قدره من قوله:(جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًا) لدلالة المذكور عليه. ولأن الصغو إلى ما ذكره من عداوة الأنبياء لم يصح عنده أن يكون مطلوباً لله بجعل كل نبي عدواً، قال:"إن اللام للصيرورة".

والمعنى عند أهل السنة: وليكون إصغاء الأتباع، وميل قلوبهم إلى المتبوعين من شياطين الإنس والجن، وإلى ما عادوا به الأنبياء من زخرف القول والغرور؛ (جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ)، تلخيصه: إنما جعلنا لكل نبي عدواً ذا قول مزخرف، ليميل إليه قلوب الذين قدرنا في الأزل أنهم لا يؤمنون، هذا يؤيد قول القاضي:"فيه دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء بفعل الله".

قوله: (وليكون ذلك) المشار إليه: الصغو المذكور.

قوله: (وتحقيقها ما ذكر) أي: عند قوله: (ولِيَقُولُوا دَرَسْتَ ولِنُبَيِّنَهُ)[الأنعام: 108].

ص: 218

(مُفَصَّلًا): مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل، والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء، ثم عضد الدلالة على أنّ القرآن حقٌّ بعلم أهل الكتاب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ثم عضد الدلالة على أن القرآن حق). يعني: احتج بقوله: (وهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً) أن القرآن حق، ثم أيده بشهادة أهل الكتاب، فيكون "ثم عضد" عطفاً على قوله في الكتاب:(وهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ) من حيث المعنى. وفيه أن قوله: (والَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ) عطف على قوله: (وهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ) حال مثله.

هذا يدل على إنكار عظيم من القوم، ولذلك صدرت الآية بهمزة الإنكار، مع إضمار فعل المنكر، وتقديم المفعول.

وقريب منه قوله تعالى: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ وأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا القُرْآنُ)[الأنعام: 19]، وهذا أبلغ، وذلك أنهم طعنوا في نبوته، وما عدوا القرآن معجزةً عناداً، واتهموه تارة بقوله:(درست) وتعلمت من اليهود، وأنكروا نبوته، وأخرى بقوله:(وأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا)[الأنعام: 109]، يعني: أنك لست بنبي وأن ما جئت به ليس بآية، فأت بآيةٍ حتى نؤمن بها. فبين الله تعالى عنادهم، وأنهم مختوم على قلوبهم، وعلى أبصارهم غشاوة.

وأمثاله في آيات تسليته لحبيبه صلوات الله عليه.

ص: 219

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم أمره أن يوبخهم، وينكر عليهم بقوله:(أَفَغَيْرَ اللَّهِ)؟ : أي أأزل عن الطريق السوي بأباطيلكم هذه، فأخص غير الله بالحكم؟ وهو الذي أنزل هذا الكتاب المعجز، الذي أفحمكم، وأبكم فصحاءكم! وكفى به حاكماً بيني وبينكم بإنزال هذا الكتاب المفصل بالآيات البينات؛ من التوحيد، والعدل، والنبوة، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والقصص والإخبار عن الغيوب، وبما تضمن من الألفاظ الفائقة الرائقة، كالعقد المفصل الذي أعجزكم عن آخركم.

هذا كله معنى قوله: (مفصلاً)، كأنه تعالى أجابهم على الأسلوب الحكيم، والقول بالموجب، لأنهم طعنوا في معجزته، أي: القرآن، فبكتهم به على أحسن وجه، وضم مع ذلك علم أهل الكتاب بأنه حق، لتصديقه ما عندهم، وموافقته له، ثم أردف كل ذلك، على سبيل التتميم قوله:(وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ).

قال صاحب "المرشد": "ولا يوقف عند قوله (أبتغي حكماً)، لأن ما بعده متعلق به، أي: أغير الله أبتغي حكماً، وهو الإله، ومنزل الكتاب الذي فيه الأحكام، ولا حكم لغيره؟ ".

ص: 220

أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) من باب التهييج والإلهاب، كقوله تعالى:(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[الأنعام: 14].

أو (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) في أنّ أهل الكتاب يعلمون أنه منزلٌ بالحق، ولا يربك جحود أكثرهم وكفرهم به.

ويجوز أن يكون (فَلا تَكُونَنَّ) خطاباً لكل أحد، على معنى: أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه، فما ينبغي أن يمتري فيه أحد. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطابٌ لأمته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لتصديقه): تعليل لـ"العلم"، وهو "بعلم" متعلق بـ"عضد".

قوله: (والإلهاب). ويقال: ألهبه على كذا، أي: حرضه عليه. الأساس: "ومن المجاز: ألهبته على الأمر: أردت بذلك تهييجه".

قوله: (وقيل: الخطاب لرسول الله صلي الله عليه وسلم خطاب لأمته) يريد: أن قوله: (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) من باب تلوين الخطاب، فيجوز أن يراد به رسول الله صلي الله عليه وسلم خاصةً؛ مزيداً للثبات على اليقين، والتجنب عن الامتراء، تهييجاً وإلهاباً، ولأمته عامة؛ بالطريق الأولى، وأن يراد به جميع الناس ابتداءً، وذلك أنه لما أمر النبي صلي الله عليه وسلم أن يقول: أفغير الله أبتغي حاكماً، وهو الذي أنزل القول الفصل، الفارق بين الحق والباطل، المشهود له بالصدق، التفت إلى من يصح أن يخاطب بقوله:(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ)، وهذا لا يصار إليه، إلا أن ما يجري لأجله الخطاب معنى به جداً، فلا يختص بواحد دون آخر: وإليه الإشارة بقوله: "إذا تعاضدت

ص: 221

[(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)].

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي: تم كل ما أخبر به، وأمر ونهى، ووعد وأوعد، (صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأدلة على صحته، فلا ينبغي أن يمتري فيه أحد"، وأن يراد جميع الناس، لكن على سبيل التبعية، تعظيماً للمخاطب، لأن الرسول صلي الله عليه وسلم رئيس أمته، وعليه تدور رحى الأمة، كقوله تعالى:(ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)[الطلاق: 1]. والله أعلم.

قوله: (أي: تم كل ما أخبر به وأمر ونهي، ووعد وأوعد)، خصها بالذكر بدلالة السابق، وهو قوله:(وهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً)[الأنعام: 114]: أي: فصله بمثل تلك الأنواع. واللاحق، وهو قوله:(صدقاً وعدلاً)، على النشر للف التقديري، كما قدره المصنف؛ فإن الصدق مناسب للخبر والوعد والوعيد، وإن العدل موافق للأمر والنهي، لأنه تعالى يأمر وينهي بمقتضي حكمته، ويضع كلا في موضعه، ويتصرف في ملكه بالأمر والنهي على ما أراد.

وفسرت "الكلمة" بـ"كن"، والمقام ينبو عنه كما ترى، ومعنى تمام الإخبار والوعد والوعيد أن يكون صدقاً، وفي الأمر والنهي يكون عدلاً، لأن تمام الشيء انتهاؤه وكماله؛ لا

ص: 222

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يحتاج إلى خارج عنه، والناقص بخلافه. ومنه ما ورد في الحديث:"أعوذ بكلمات الله التامات". أخرجه مسلم.

ويجوز أن يجري الصدق والعدل على كل واحد من تلك الأنواع، لأن الصدق قد يعبر به مجازاً عن كل فعل فاضل، قال تعالى:(أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ)[يونس: 2]، و (مدخل صدق)، و (مخرج صدق) [الإسراء: 80]. وجميع ما أمر الله تعالى به فواضل، وما نهي عن أضدادها إلا لتحققها.

ويستعمل الصدق في التحقيق، قال تعالى:(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ)[الفتح: 27]: أي: حقق رؤيته، وقال تعالى:(والَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ)[الزمر: 33]، أي: حقق ما أورده قولاً بما تحراه فعلاً. وأوامر الله تعالى ونواهيه محققه لما رتب عليها من الجزاء.

وإن العدل هو الاستواء والتقسيط على السواء، من غير زيادة ونقصان. فالكلمة الصادقة عادلة مستقيمة.

و(صدقاً وعدلاً): مصدران منصوبان على الحال، إما من (ربك) أو من الـ"كلمة" على الإسناد المجازي. ويجوز أن يكون تمييزاً أو مفعولاً به.

ص: 223

لا أحد يبدّل شيئاً من ذلك مما هو أصدق وأعدل. و (صدقاً وعدلاً): نصبٌ على الحال. وقرئ: (كلمةُ ربك)، أي: ما تكلم به. وقيل: هي القرآن.

[(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)].

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي: من الناس أضلوك، لأنّ الأكثر في غالب الأمر يتبعون هواهم، ثم قال:(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)، وهو ظنهم أنّ آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم، (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ): يُقدّرون أنهم على شيء. أو يكذبون في أنّ الله حرّم كذا وأحلّ كذا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا أحد يبدل شيئاً من ذلك)، قال القاضي:"لا أحد يقدر أن يحرفها تحريفاً شائعاً ذائعاً، كما فعل بالتوراة، على أن المراد بها القرآن، فيكون ضماناً من الله تعالى بالحفظ، كقوله: (وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9] ".

قوله: (وقرئ: (كلمت ربك)): عاصم وحمزة والكسائي. وفي قوله: "أي: ما تكلم به" إشارة إلى أن هذه القراءة أشمل من القراءة الـ"كلمات"، حيث قال:"كل ما أخبر به ونهي، ووعد وأوعد"، لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، كما سبق في آخر "البقرة" أن "كتابه" أكثر من "كتبه" عن ابن عباس.

ص: 224

[(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ* فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ* وَما لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)].

وقرئ: "مَنْ يَضِلُّ" بضم الياء، أي: يضله الله.

(فَكُلُوا) مسببٌ عن إنكار اتباع المضلين، الذين يحلون الحرام ويحرّمون الحلال ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "من يضل" بضم الياء، أي: يضله الله). قال القاضي: " (من) منصوبة بالفعل المقدر، أو مجرورة بإضافة (أعلم) إليه، أي: أعلم المضلين، من قوله تعالى: (ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ) [العراف: 186]، أو من: أضللته: إذا وجدته ضالا. وعلى المشهورة: (من) موصولة، أو موصوفة في محل النصب بفعل دل عليه (أعلم) لا به، فإن "أفعل" لا ينصب الظاهر في مثل ذلك".

والتفصيل في العلم لكثرته وإحاطته، وبالوجوه التي يمكن تعلق العلم بها، ولزومه، وكونه بالذات، لا بالغير.

وقال الزجاج: "موضع (من): رفع بالابتداء، أي: إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله، نحو قوله: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى) [الكهف: 12] ".

قوله: ((فكلوا): مسبب عن إنكار إتباع المضلين) بيان لترتيب النظم، وذلك أنه تعالى

ص: 225

وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم، فقيل للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإيمان (فكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) خاصةً دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم، أو مات حتف أنفه، وما ذكر اسم الله عليه هو المذكى بـ: بسم الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لما قال: (وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلا)[الأنعام: 115]، وأتبع ذلك قوله:(وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)[الأنعام: 116]، ليؤذن بمعنى قوله:(فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إلاَّ الضَّلالُ)[يونس: 32]، أتي بنوع دعوة المشركين المسلمين إلى أهوائهم وأباطيلهم، وهو أنهم كانوا يقولون للمسلمين: فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم، فقيل للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإيمان فلا تتبعوا أهواءهم، وكلوا مما ذكر اسم الله عليه، فالفاء في (فكلوا) إذاً: نتيجة.

قوله: (إن كنتم متحققين بالإيمان): أي: إن صرتم عالمين بحقائق الأمور بسبب إيمانكم بالله، وهذا من جملة ذلك، فالزموه. ويجوز أن يكون "تفعل" بمعنى "فعل" للمبالغة، أي: إن كنتم ثابتين في الإيمان، وأن يكون بمعنى "استفعل"، أي: إن كنتم طالبين الحق بسبب الإيمان.

قوله: (خاصةً دون ما ذكر عليه اسم غيره) هذا الحصر يفيده توكيد الكلام بالشرط، أي: إن خصصتم الإيمان بآيات الله، فكلوا ما أحلته الآيات، دون ما أحلوه من الميتة، أو ما ذبحوه على النصب. أو أن الفاء في قوله:(فكلوا) لما دل على التسبيب وإنكار إتباع المضلين

ص: 226

(وَما لَكُمْ أَلَّا تَاكُلُوا) وأي: غرضٍ لكم في أن لا تأكلوا، (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ) وقد بين لكم ما حُرِّمَ عليكم مما لم يحرّم، وهو قوله:(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)[المائدة: 3] وقرئ: (فَصَّلَ لَكُم مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) على تسمية الفاعل، وهو الله عز وجل، (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) مما حُرِّم عليكم، فإنه حلالٌ لكم في حال الضرورة، (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ) قرئ بفتح الياء وضمها، أي: يضلون فيحرّمون ويحللون (بِأَهْوائِهِمْ) وشهواتهم من غير تعلقٍ بشريعة.

[(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ)].

(ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ): ما أعلنتم منه وما أسررتم. وقيل: ما عملتم وما نويتم. وقيل: ظاهره الزنى في الحوانيت، وباطنه الصديقة في السرّ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقولهم: كلوا ما قتله الله كما تأكلون ما قتلتم أنتم، فقيل لهم: كلوا ما قتلتم أنتم باسم الله خاصة، ولا تأكلوا ما أمروكم به.

قوله: (وقرئ: (فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) على تسمية الفاعل): نافع وحفص.

قوله: (قرئ بفتح الياء وضمها). بالضم: عاصم وحمزة والكسائي.

قوله: (وقيل: ظاهره: الزنى في الحوانيت، وباطنه: الصديقة في السر). فعلى هذا قوله: (وذروا) معطوف على قوله: (فكلوا) وداخل في حكم التسبيب عن إنكار إتباع المضلين في تحليل ما حرمه الله، وتحريم ما أحله: من أكل الميتة، ومن الزنا.

لكن الذي يقتضيه النظم أن تكون معترضةً بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو قوله:

ص: 227

[(وَلا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)].

(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) الضمير راجعٌ إلى مصدر الفعل الذي دخل عليه حرف النهي، يعني: وإنّ الأكل منه لفسقٌ، أو إلى الموصول على: وإنّ أكله لفسقٌ، أو جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقاً.

فإن قلت: قد ذهب جماعةٌ من المجتهدين إلى جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيانٍ أو عمد؟ قلت: قد تأوله هؤلاء بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه، كقوله:(أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ به)[الأنعام: 145].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(ولا تأكلوا)(فكلوا)، معناه: ما قال أولاً: " (ظاهر الإثم وباطنه) وما أسررتم، وقيل: ما عملتم وما نويتم"، توكيداً للإنكار في قوله:(ومَا لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)[الأنعام: 119].

قوله: (قد تأوله هؤلاء بالميتة) قال الإمام: "نقل عن عطاء أنه قال: كل ما لم يذكر عليه اسم الله من طعام أو شراب فهو حرام، تمسكاً بعموم الآية، والفقهاء خصوا العام بالذبح"، ويعضد قول الفقهاء ترتيب نظم الآيات.

وروى الإمام أن مذهب مالك: كل ما ذبح وترك اسم الله عليه؛ عمداً كان أو خطأ، فهو حرام، وهو قول ابن سيرين.

وقال أبو حنفية: إن ترك عمداً فهو حرام، وإلا فهو حلال.

ص: 228

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الشافعي رحمه الله: "حلال؛ سواء ترك عمداً أو نسياناً، إذا كان الذابح أهلاً له. وقال: هذا النهي مخصوص بما ذبح على النصب، أو مات حتف أنفه".

وقال صاحب "الانتصاف" - وكان مالكياً-: "مذهب مالك كمذهب أبي حنيفة: أنه لا يعذر العامد فيها، وأما السهو فقول شاذ بجواز أكل مذكي غير المتهاون في التسمية، والآية تساعد على ذلك مساعدةً بينة، فإن ذكره الفسق عقيبه؛ إن كان عن فعل المكلف - وهو إهمال التسمية - فلا يدخل الناسي لأنه غير مكلف، فلا يكون فعله فسقاً، وإن كان عن نفس الذبيحة التي لم يسم عليها، وليست مصدراً، فهو منقول من المصدر، فالذبيحة المتروك التسمية عليها نسياناً لا يصح تسميتها فسقاً، إذ الفعل الذي نقل منه هذا الاسم ليس بفسق.

فإما أن يقول: لا دليل في الآية على تحريم المنسي، فبقي على أصل الإباحة، أو يقول: فيها دليل من حيث مفهوم تخصيص النهي بما هو فسق، فما ليس بفسق ليس بحرام. هذا إذا لم تكن الميتة مرادة، فإن ثبت أنها مرادة تعين صرف الفسق إلى الأكل أو المأكول، وكان الضمير في (إنه) عائداً إلى المصدر المنهي عنه، أو إلى الموصول، وحينئذ يندرج المنسي في النهي، ولا تبقي - على هذا - الميتة مندرجةً إلا اندراج المنسي، إذ يكون الفسق إما للأكل أو للمأكول نقلاً من الأكل، ولا ينصرف إلى غير ذلك، لأن الميتة لم يفعل المكلف فيها فعلاً يسمى فسقاً سوى الأكل، والمنسي تسميتها لا يكون ذبحها فسقاً لأجل النسيان، فتعين صرفه إلى الأكل، فلأجله قوي عند الزمخشري تعميم التحريم في الناسي، لأنه يرى أن الميتة مرادة من الآية، إذ هي سبب نزول الآية.

ص: 229

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والظاهر: أن العام باقٍ على ظهوره فيما عداها، إذا ثبت اندراج الميتة لزم اندراج المنسي، وحينئذ يضطر مبيح المنسي إلى مخصص، فيتمسك بقوله صلي الله عليه وسلم:"ذكر الله في قلب كل مؤمن؛ سمى أو لم يسم"، وكان الناسي ذاكراً حكماً، وإن لم يكن ذاكراً وجوداً.

وهذا ليس بتخصيص، ولكن منع لاندراج الناس في العموم، ويؤيده أن العام الوارد على سبب خاص - وإن قوي - تناوله السبب، حتى ينتهض الظاهر فيه نصاً، إلا أنه ضعيف التناول لما عداه، حتى ينحط عن أعالي الظواهر فيه، ويكتفي في معارضته بما لا يكتفي به منه لولا السبب".

وقلت: هذا الكلام فيه تطويل وتعسف، إذ لم يلتفت فيه إلى النظم، وتكلم في حواشي المعاني، ولم يتعمق فيها، واستدلال الإمام في غاية من الجودة، قال:"والذي يدل على أن الآية واردة في أمر خاص قوله: (وإنه لفسق)، لأن الواو للحال، لقبح عطف الخبرية على الطلبية. والمعنى: لا تأكلوه حال كونه فسقاً. ثم إن الفسق مجمل، وقد فصل بما جاء بعده؛ وهو قوله: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) [الأنعام: 145] فيبقي ما عداه حلالاً؛ إما لمفهوم تخصيص التحريم في هذه الآية، أو للعمومات المحللة".

وقلت: يؤيد هذا التأويل مضمون قوله: (وإنه لفسقٌ)، لأنه جملة اسمية مؤكدة

ص: 230

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بـ"إن" واللام، ومثلها لا يليق بترك التسمية، لا سهواً ولا عمداً، وكذا عطف قوله:(وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)، والمجادلة: هي قولهم: لم لا تأكلون ما قتله الله، وتأكلون ما قتلتموه أنتم؟ وذلك إنما يصح في الميتة، فدخل في قوله:(وإنه لفسقٌ): ما أهل لغير الله فيه، وبقوله:(وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ)، فيتحقق قول الشافعي: هذا النهي مخصوص بما ذبح على اسم النصب، أو مات حتف أنفه.

وفي كلام المصنف إشعار بهذا المعنى.

ثم قضية النظم تساعده مساعدةً ليس بعدها، فإن قوله تعالى:(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)[الأنعام: 118] كما قال: "مسبب عن إنكار إتباع المضلين؛ الذين يحلون الحرام، ويحرمون الحلال، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم، فقال للمسلمين: إن كنتم متحققين بالإيمان، فكلوا مما ذكر اسم الله عليه خاصة، دون ما ذكر عليه اسم غيره، أو مات حتف أنفه. وما ذكر اسم الله عليه: هو المذكي باسم الله".

ثم حث المسلمين بقوله: (ومَا لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) على أكل ما أحل لهم، والاجتناب عما حرم عليهم، يعني: أي غرض لكم في توقفكم فيه بما أوقعوا من الشبه، وقد نص الله تعالى في أكل ما أباح أكله وترك ما يحترز عنه في قوله تعالى:(كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) إلى قوله: (إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ) الآية [البقرة: 172 - 173]، ثم لما أريد المزيد في التفصيل والبيان قيل:(ولا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ) كأنه قيل: كلوا مما ذكر اسم الله عليه، وما لكم لا تأكلون وقد أزيحت العلة بالبيان والتفصيل، وها قد تكرر عليكم النهي وتجدد مرةً أخرى بقوله:(ولا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ).

ص: 231

(لَيُوحُونَ): ليوسوسون (إِلى أَوْلِيائِهِمْ) من المشركين، (لِيُجادِلُوكُمْ) بقولهم: ولا تأكلوا مما قتله الله؟ وبهذا يرجع تأويل من تأوله بالميتة، (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) لأنّ من اتبع غير الله تعالى في دينه فقد أشرك به، ومن حق ذي البصيرة في دينه أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان؛ لما يرى في الآية من التشديد العظيم، وإن كان أبو حنيفة رحمه الله مرخصاً في النسيان دون العمد، ومالكٌ والشافعي رحمهما الله فيهما.

[(أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويدل على التوكيد قوله: (وإنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ)، وقوله أيضاً:(وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)، لأنهما في معنى قوله:(وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ)[الأنعام: 116]، والله أعلم.

قوله: (لأن من اتبع غير الله

فقد أشرك به) قال الزجاج: "هذه الآية فيها دليل على أن كل من أحل شيئاً مما حرم الله، أو حرم شيئاً مما أحل الله، فهو مشرك، وإن أطاع الله في جميع ما أمره، وإنما سمي مشركاً لأنه اتبع غير الله، فأشرك به غيره".

والذي عليه كلام المصنف أنه من باب التغليظ، كقوله تعالى:(ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ)، وبعده:(ومن كفر)[آل عمران: 97]، لقوله: "ومن حق ذي البصيرة في دينه ألا

ص: 232

مثل الذي هداه الله بعد الضلالة، ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل والمهتدي والضال، بمن كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به، فيميز بعضهم من بعض، ويفصل بين حلاهم. ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها ولا يتخلص.

ومعنى قوله: (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) كمن صفته هذه، وهي قوله:(فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه"، وقوله: "وإن كان أبو حنيفة مرخصاً"، إلى آخره.

قوله: (ومن بقي على الضلالة): عطف على قوله: "الذي هداه الله".

وفي الآية استعارتان تمثيليتان، وتشبيه تمثيلي، أما الاستعارة الأولي: فبيانها ما قال: "مثل الذي هداه الله تعالى بمن كان ميتاً فأحييناه" والثانية: "مثل من بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها" والاستعارة الأولي بجملتها مشبه، والثانية مشبه به، نحوه في التشبيه قوله:(أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ)[السجدة: 18].

قوله: (كمن صفته): خبر، والمبتدأ: قوله: "ومعنى قوله"، أي: معنى ذلك كمعنى هذه.

ص: 233

بمعنى: هو في الظلمات ليس بخارج منها، كقوله تعالى:(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ)[محمد: 15]، أي: صفتها هذه، وهي قوله:(فِيها أَنْهارٌ).

(زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ) أي: زينه الشيطان، أو الله عزّ وعلا؛ على قوله:(زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ)[النمل: 4]، ويدل عليه قوله:(وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها)، يعني: وكما جعلنا في مكة صناديدها (ليمكروا فيها)، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جعل (مثله) مبتدأ خبره محذوف، وجعل قوله:(في الظلمات) خبر مبتدأٍ محذوف، حيث قدر أولاً:"صفته هذه"، ثم ثانياً:"هو في الظلمات ليس بخارج منها"، والجملة الثانية مبينة للأولي، فإنه لما قيل: كمن صفته هذه، اتجه لسائل: وما صفته؟ فقيل: هو (فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا).

قال المصنف في قوله تعالى: (مثل الجنة)[محمد: 15]: "ويجوز أن يكون خبر مبتدأٍ محذوف؛ هي (فيها أنهار) [محمد: 15]، وكأن قائلاً قال: وما مثلها؟ فقيل: فيها أنهار".

فقوله: "هي": مبهم مبين بالخبر، كما قال في "المؤمنون" في قوله:(إنْ هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا)[المؤمنون: 37]: "هذا ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من الخبر. ومنه: هي النفس ما حملتها تتحمل".

قال أبو البقاء: " (مثله): مبتدأ، وخبره: (في الظلمات)، و (ليس بخارج منها) حال من المستكن في الظرف، لا من الهاء في (مثله) للفصل بينه وبين الحال بالخبر".

قوله: (وكما جعلنا في مكة صناديدها) مشعر بأن قوله: (أو من كان ميتاً) الآية، متصلة

ص: 234

كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لذلك. ومعناه: خليناهم ليمكروا، وما كففناهم عن المكر، وخص "الأكابر" لأنهم هم الحاملون على الضلال والماكرون بالناس، كقوله:(أَمَرْنا مُتْرَفِيها)[الإسراء: 16].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقوله: (وإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)، لأن الضمير المرفوع للمسلمين، والمنصوب المفعول فيه للمشركين، وهم الذين قيل فيهم" (وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام: 116]، وهم الذين قالوا: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم.

فالجملة الشرطية، أعني:(وإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) متضمنه لمعنى الإنكار العظيم. وقوله: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ)[الأنعام: 122] إلى آخره: إما حال مقدرة لجهة الإشكال، وهمزة التوبيخ مقحمة بينها وبين عاملها، أي:(إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) بسبب إطاعتكم إياهم، والحال أنكم متحققون أنكم على هدىً مبين، وهم على ضلالٍ بعيد. أو أن يقدر بعد الهمزة معطوف عليه، أي: أتشركون بإطاعتهم ولا تعلمون أن الموحد والمشرك لا يستويان؟ أو: أتجمعون بين طاعة المبطلين، والعلم بأنكم على الحق المبين، وهم في الباطل منغمسون؟

قوله: (لذلك): أي ليمكروا فيها. قال القاضي: " (وجعلنا) بمعنى: صيرنا، ومفعولاه: (أكابر مجرميها)، على تقديم المفعول الثاني، أو (في كل قريةٍ أكابر). وقوله: (مجرميها) بدل، ويجوز أن يكون مضافاً إليه، إن فسر الجعل بالتمكين".

ص: 235

وقرئ: "أكبر مجرميها"؛ على قولك: هم اكبر قومهم، وأكابر قومهم.

(وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) لأنّ مكرهم يحيق بهم، وهذه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديم موعد بالنصرة عليهم.

روي: أن الوليدين المغيرة قال: لو كانت النبوّة حقاً لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سناً، وأكثر منك مالاً، وروي: أن أبا جهلٍ قال: زاحمنا بني عبد منافٍ في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهانٍ قالوا: منا نبيٌّ يوحى إليه، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقول المصنف: "ومعناه: خليناهم ليمكروا": تأويل على مذهبه.

قوله: (وقرئ: "أكبر مجرميها") هذا يقوي الإضافة في (أكابر مجرميها) في تلك القراءة. قال القاضي: "أفعل التفضيل إذا أضيف، جاز فيه الإفراد والمطابقة".

وقيل: أما المطابقة فعلى المشهورة (أكابر مجرميها)، وأما عدم المطابقة فعلى غيرها، كقوله:(ولَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ)[البقرة: 96]، قال ذو الرمة:

ومية أحسن الثقلين جيداً

وسالفةً وأحسنه فذالا

قوله: (كفرسي رهان)، النهاية:"وفي حديث الضحاك في رجل آلي من امرأته، ثم طلقها، فقال: "هما كفرسي رهان: أيهما سبق أخذ به". أي: أن العدة، وهي ثلاثة أطهار، أو ثلاث حيض، إن انقضت قبل انقضاء وقت إيلائه، وهي أربعة أشهر، فقد بانت المرأة بتلك

ص: 236

والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلا أن يأتينا وحى كما يأتيه، فنزلت. ونحوها قوله تعالى:(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً)[المدثر: 52].

[(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ)].

(اللَّهُ أَعْلَمُ) كلامٌ مستأنفٌ للإنكار عليهم، وأن لا يصطفي للنبوّة إلا من علم أنه يصلح لها، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التطليقة، ولا شيء عليه من الإيلاء، لأن الأشهر تنقضي وليست له بزوجة، وإن مضت الأشهر وهي في العدة بانت منه بالإيلاء مع تلك التطليقة فكانت اثنتين، فجعلهما كفرسي رهانٍ يتسابقان إلى غاية".

قوله: (كلام مستأنف للإنكار عليهم) أي: جواب عن سؤال مورده قوله: (لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)، يعني لما قالوا: والله ما نرضي به ولا نتبعه إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، سئل: فما كان جواب البارئ عز شأنه لهم؟ قيل: أجيبوا بأن النبوة فضل من الله تعالى يختص بها من يشاء، وليس ذلك بالكبر والصغر، بل بفضائل نفسانية يجتبي لها من يصلح لها. ثم زيد في الإنكار لاستحقاق النبوة بالكبر بقوله:(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ)، يعني: أن الكبر والاستعلاء موجب للذلة والقماءة والمقت، لا التعظيم والكرامة. فوضع (الذين أجرموا) موضع (أكابر مجرميها)، لأنهم هم المرادون في قوله:(أكابر مجرميها) في الآية السابقة [الأنعام: 123]. ولهذا بينه بقوله: "من أكابرها". وهم القائلون: (لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)، والمعنى ما ذكر:"قال الوليد: لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك، وقال أبو جهل: زاحمنا بني عبد منافٍ في الشرف".

ص: 237

(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) من أكابرها (صَغارٌ) وقماءةٌ بعد كبرهم وعظمهم، (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) في الدارين، من الأسر والقتل وعذاب النار.

[(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ* وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ* لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)].

(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ): أن يلطف به، ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والحاصل أن قوله: (الذين أجرموا) مظهر وضع موضع المضمر، للإيذان بأن استكبارهم ذلك سبب لإيصال الذل والهوان، بالقتل والأسر يوم بدر، وإذاقة العذاب الشديد في الآخرة؛ فجمع لهم خزي الدارين.

نحوه قوله تعالى: (وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والْمَسْكَنَةُ وبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ) إلى قوله: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وكَانُوا يَعْتَدُونَ)[البقرة: 61].

وفيه أن تصديق آيات الله، وطاعة رسل الله موجب للعز والنجاة في الدارين.

قوله: (ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف): إشارة إلى مذهبه. أي: لا يلطف ابتداء، بل يلطف بمن يستحق اللطف، وينفعه، بسبب إحداثه الإيمان والعمل الصالح.

ص: 238

(يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ): يلطف به حتى يرغب في الإسلام، وتسكن إليه نفسه، ويحب الدخول فيه، (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ): أن يخذله ويخليه وشأنه، وهو الذي لا لطف له، (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً): يمنعه ألطافه، حتى يقسو قلبه، وينبو عن قبول الحق وينسدّ، فلا يدخله الإيمان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال القاضي " (يهديه): يعرفه طريق الحق، ويوفقه للإيمان، (يشرح صدره للإسلام)، فيتسع له، ويفسح فيه مجاله، وهو كناية عن جعل النفس قابلةً للحق، مهيأة لحلوله فيها، مصفاةً عما يمنعه وينافيه".

وقال محيي السنة: " (يشرح صدره للإسلام)، أي: يفتح قلبه، وينوره، حتى يقبل الإسلام. ولما نزلت هذه الآية، سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن شرح الصدر، قال: "نور يقذفه الله في قلب المؤمن، فينشرح له وينفسح" قيل: فهل لذلك أمارة؟ قال: "نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت"".

وقلت: قد أجمع أكثر المفسرين على نقل هذا الحديث، وقد رواه البيهقي في كتاب "شعب الإيمان" عن ابن مسعود، وقضية النظم تستدعيه، فإن الفاء رابطة مرتبة للكلام

ص: 239

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على ما قبله، فإنه تعالى لما ضرب للمؤمنين والكافرين مثلاً، بقوله:(أو من كان ميتا فأحيينه)[الأنعام: 122]، ونص على أنه تعالى هو المزين للكافرين عملهم، وأنه صير في كل قرية أكابر مجرميها، وحكي عنهم أنهم يطلبون ما ليس لهم، رتب على ذلك قوله:(فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ) الآية، تسلياً لرسول الله صلي الله عليه وسلم وإرشاداً إلى تفويض الأمور إلى الله، وإعلاماً بأن إرادته ومشيئته إذا تعلقت بهداية بعض العباد (يشرح صدره للإسلام)، وإذا تعلقت بضلالة بعضٍ (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا).

وهؤلاء المجرمون الذين خلقهم للصغار والدناءة، وأراد ضلالهم، لا يهتدون، (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ).

فشرح الصدر يجب أن يحمل على الانفتاح والانفساح، لأنه مقابل لضيقها وصعودها إلى السماء.

وقوله تعالى: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) كالخاتمة على الختم.

اللهم إني أتضرع إليك بسوابغ فضلك، وسوابق أفضالك، وأبتهل إلى جنابك الأقدس، أن تشرح صدري، وتقذف النور في قلبي، إنك أنت الوهاب، وأدعوك بما دعا به حبيبك صلوات الله عليه:"اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، وأمامي نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، واجعلني نوراً"، وارزقني الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور.

ص: 240

وقرئ: (ضَيِّقاً) بالتخفيف والتشديد، (حَرَجاً) بالكسر، و (حرجاً) بالفتح وصفاً بالمصدر، (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ): كأنما يزاول أمراً غير ممكن، لأن صعود السماء مثلٌ فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال المصنف: "هذا آخر المرتفع عند قبر ابن عباس رضي الله عنه"، وفتح فاء "المرتفع"، أي: هذا آخر الحاصل.

قوله: (وقرئ: "ضيقاً" بالتخفيف): ابن كثير، والباقون بالتشديد.

قوله: ("حرجاً" بالكسر): نافع وأبو بكر، والباقون بفتحها. قال الزجاج:"هو بمنزلة: رجل دنف، بكسر النون، و"حرج" بمنزلة: دنف، والمعنى: ذو دنف. وعن ابن عباس، الحرج: موضع الشجر الملتف، كأن قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة، كما لا تصل الراعية إلى الموضع الملتف من الشجر، والحرج في اللغة: أضيق الضيق".

قوله: (كأنما يزاول أمراً غير ممكن) ما بين أن المشبه ما هو؛ فراراً، وصرح به الواحدي حيث قال:" (ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ) فإنه في نفوره عن الإسلام، وثقله عليه، بمنزلة من يكلف ما لا يطيقه، كما أن صعود السماء لا يستطاع".

ص: 241

وقرئ: "يصعد"، وأصله: يتصعد. وقرأ عبد الله: "يتصعد". و (يصاعد)، وأصله: يتصاعد، و (يصعد)، من صعد، و"يصعد" من: أصعد، (يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ) يعني: الخذلان ومنع التوفيق، وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال ابن عباس: "فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ إلى السماء، فكذلك لا يقدر على أن يدخل التوحيد والإيمان في قلبه، حتى يدخله الله في قلبه".

وقلت: لابد من هذا التأويل لمقابلة الآية، قوله:(فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ) أي: ومن يرد أن يهديه يفسح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يضيق صدره، حتى لا يدخل فيه؛ فضرب بالممتنع مثلاً للتوكيد، ولئلا يفسر بخلاف ما عليه القضاء والقدر.

قوله: (وقرئ "يصعد"). روي عن الشيخ المعزي: أن من عادة المصنف إذا قال: قرئ كذا وكذا، وعدد قراءاتٍ متفاوتة؛ مشهورةً وغير مشهورة، أن يقدم المشهورة كما فعل هاهنا، وفيه نظر، لأن قراءة عبد الله:"يتصعد" شاذة، ومقدمة على قراءة أبي بكر وابن كثير. قال في "التيسير":"ابن كثير: "كأنما يصعد"، بإسكان الصاد مخففاً من غير ألف، وأبو بكر: "يصاعد"، بتشديد الصاد، وألف بعدها، وتخفيف العين، والباقون: بتشديد الصاد والعين من غير ألف".

قوله: (وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق) يعني: كما وصف المعاني ومنه التوفيق بما يوصف به الأعيان، وصف ما يقابله من الخذلان بما يناقضه من الرجس، قال تعالى:(وَهُدُوا إلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ)[الحج: 24]. النهاية: "قد يرد الطيب بمعنى الطاهر. قال صلي الله عليه وسلم لعمار:

ص: 242

أو أراد الفعل المؤدّي إلى الرجس وهو العذاب؛ من الارتجاس وهو الاضطراب.

(وَهذا صِراطُ رَبِّكَ): وهذا طريقه الذي اقتضته الحكمة، وعادته في التوفيق والخذلان، (مُسْتَقِيماً): عادلاً مطرداً، وانتصابه على أنه حال مؤكدة كقوله:(وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً)[البقرة: 91].

(لَهُمْ): لقومٍ يذكرون (دارُ السَّلامِ): دارُ الله، يعني: الجنة، أضافها إلى نفسه تعظيماً لها، أو دار السلامة من كل آفة وكدر، (عِنْدَ رَبِّهِمْ): في ضمانه، كما تقول: لفلانٍ عندي حق لا ينسى. أو ذخيرةٌ لهم لا يعلمون كنهها، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"مرحباً بالطيب المطيب"، أي: الطاهر المطهر، و"الطيبات" في التحيات، أي: الطيبات من الصلاة والدعاء".

وقوله: (أو أراد الفعل المؤدي إلى الرجس، وهو العذاب)، قال القاضي:"وضع الرجس موضع العذاب، وهو من وضع المظهر موضع المضمر للتعليل".

قوله: ((لهم): لقوم يذكرون) يريد: أن قوله (لهم دار السلام)، صفة لـ"قوم"، (عند ربهم) حال من الضمير في (لهم)، والعامل الاستقرار. وقوله:(عند ربهم) إما كناية عن الوعد الصادق، أو عن الذخيرة، كقوله:(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 133].

ص: 243

كقوله: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)[السجدة: 17]، (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) مواليهم ومحبهم، أي: ناصرهم على أعدائهم، (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ): بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاه ما كانوا يعملون.

[(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)].

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) منصوبٌ بمحذوف، أي: واذكر يوم نحشرهم، أو: ويوم نحشرهم قلنا: (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ)، أو: ويوم نحشرهم وقلنا: (يا معشر الجن) كان ما لا يوصف لفظاعته! والضمير لمن يحشر من الثقلين وغيرهم، والجن هم الشياطين.

(قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ): أضللتم منهم كثيراً أو جعلتموهم أتباعكم فحشر معكم منهم الجم الغفير، كما تقول: استكثر الأمير من الجنود، واستكثر فلانٌ من الأشياع. (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم، (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي: انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم، وقيل: استمتاع الإنس بالجن: .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون). يريد: أن الولي إذا كان بمعنى المحب والناصر، فالوجه أن تكون الباء سببية، أي: يحبهم وينصرهم بسبب عملهم، وإذا كان بمعنى متولي الأمور، فالباء للملابسة، والمعنى: يتولاهم ملتبسا بجزاء عملهم، أي: يعد لهم الثواب.

قوله: (الجم الغفير)، النهاية:"يقال: جاء القوم جماً غفيراً، والجماء الغفير، أي: مجتمعين كثيرين. ويقال: جاؤوا الجم الغفير: اسم وضع موضع المصدر".

ص: 244

ما في قوله: (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ)[الجن: 6]، وأن الرجل كان إذا نزل وادياً وخاف قال: أعوذ بربّ هذا الوادي، يعني به: كبير الجن. واستمتاع الجن بالإنس: اعتراف الإنس لهم بأنهم يقدرون على الدفع عنهم وإجارتهم لهم، (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) يعنون: يوم البعث، وهذا الكلام اعترافٌ بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث، واستسلامٌ لربهم، وتحسر على حالهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإجارتهم لهم)، الجوهري:"الجار: الذي أجرته من أن يظلمه ظالم. وأجاره الله من العذاب: أنقذه". وأنشد لمروان بن أبي حفصة:

هم المانعون الجار حتى كأنه

لجارهم فوق السماكين منزل

قوله: (وهذا الكلام اعتراف) إلى قوله: (وتحسر على حالهم)، يعني قوله:(رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا) متضمن للاعتراف بأشياء ثلاثة وللاستسلام والتحسر أيضاً، وهو جواب عن قوله تعالى:(يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإنسِ)، فإنه من جوامع الكلم، وهو سؤال توبيخ وتعريض، ولهذا أجاب الإنس عنه، وطابقوا، لأن معنى:(استكثرتم): "أضللتم كثيراً منهم وجعلتموهم أتباعكم" كما قال.

يعني: أنتم، يا معشر الجن، اجتهدتم في تزيين الشهوات وأسبابها، وما قصرتم في الإغواء، وإنهم أيضاً ما تهاونوا في القبول والطاعة، فركنوا إلى الخلود في الأرض، ومتابعة الهوى، حتى جحدوا لقاء يومهم هذا.

وإليه الإشارة بقوله: "إتباع الهوى، والتكذيب بالبعث"، نظيره قوله:(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ) إلى قوله: (أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ)[الأعراف: 175 - 176].

ص: 245

(خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي: يخلدون في عذاب النار الأبد كله، (إلا ما شاء الله): إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النّار إلى عذاب الزمهرير، فقد روي أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم. أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومعنى قوله: (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ) كما قال: "استمتع الإنس بالشياطين، حيث دلوهم على الشهوات، وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس، حيث أطاعوهم، وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم".

وهذا معنى الاستكثار بعينه، كما شرحناه، ولذلك كان اعترافاً، ولهذا عقب بقوله:(قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا) الآية.

وأما الاستسلام: فقولهم: (وبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا)، أي: جاء اليوم الذي لا ملك إلا للواحد القهار، وما لنا من ناصرين.

وأما التحسر: فمن لفظة (ربنا)، قالوها تحسراً على ما فرطوا في جنب الرب الغفور الرحيم. نظيره قولهم:(يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ)[الزمر: 56]، والله أعلم.

قوله: (أي: يخلدون فيها من عذاب النار) قيل: "من" بيان الهاء في "فيها". وفي نسخة: "في عذاب النار"، بدل من "فيها" بإعادة العامل.

قوله: ((إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ): إلا الأوقات). (ما) في (ما شاء الله): مصدرية، ويقدر معه مضاف، أي: إلا أوقات مشيئة الله تعالى، خص مشيئة الله بقوله:"إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير". وسيجيء تحقيق هذا الاستثناء في قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُ إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إنَّ رَبَّكَ)[هود: 107].

قوله: (الموتور)، الأساس:"يقال: وترت الرجل: قتلت حميمه، وأفردته، وطلب وتره، أي: ثأره".

ص: 246

ولم يزل يحرق عليه أنيابه، وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه: أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت! وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد، فيكون قوله: إلا إذا شئت، من أشد الوعيد، مع تهكمٍ بالموعد، لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع.

(إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ): لا يفعل شيئاً إلا بموجب الحكمة (عَلِيمٌ) بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد.

[(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)].

(نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً): نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس، أو يجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم، كما كانوا في الدنيا بِما (كانُوا يَكْسِبُونَ): بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي.

[يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يحرق عليه أنيابه)، الأساس:"ليحرق عليه الأرم: أي يسحق بعض الأضرا ببعضٍ للغيظ فعل الحارق بالمبرد".

الأرم، بالهمز وتشديد الراء: الأضراس، جمع آرم.

فعلى هذا: الاستثناء للتأبيد، كما نص عليه في قوله تعالى:(ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ)[الكهف: 23 - 24]، ونحوه قوله:(ومَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ)[الأعراف: 89].

ص: 247

يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ: (لَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)؟

واختلف في أن الجن هل بعث إليهم رسل منهم؟ فتعلق بعضهم بظاهر الآية ولم يفرق بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم، لأنهم به آنس وله آلف. وقال آخرون: الرسل من الإنس خاصة، وإنما قيل رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صحَّ ذلك، وإن كان من أحدهما، كقوله:(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ)[الرحمن: 22]، وقيل: أراد رسل الرسل من الجنّ إليهم، كقوله تعالى:(وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)[الأحقاف: 29]. وعن الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن.

(قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) حكايةٌ لتصديقهم وإيجابهم قوله: (أَلَمْ يَاتِكُمْ)، لأن الهمزة الداخلة على نفى إتيان الرسل للإنكار، فكان تقريراً لهم.

وقولهم: (شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا) إقرارٌ منهم بأن حجة الله لازمةٌ لهم، وأنهم محجوجون بها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجَانُ)) قال الزجاج: "وإنما جاز ذلك لأن الجماعة تعقل وتخاطب؛ فالرسل هم بعض من يعقل، نحوه: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجَانُ) [الرحمن: 22]، وإنما يخرج من المالح دون العذب، فقال: (منهما)، لأن ذكرهما قد جمع، وهذا جائز في كل ما اتفق في أصله، كما اتفق الجن مع الإنس في باب التمييز".

قوله: (وإيجابهم) تفسير لقوله: "لتصديقهم"، أي: يقرون بالاستفهام الداخل على النفي، ويقرون أن الحجة لازمة لهم، وأنهم محجوجون بالإيجاب، هو الذي في مقابل النفي.

ص: 248

فإن قلت: ما لهم مقرّين في هذه الآية جاحدين في قوله: (وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)[الأنعام: 23]؟ قلت: تتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول، فيقرّون في بعضها، ويجحدون في بعضها.

أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم.

فإن قلت: لم كرّر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت: الأولى حكايةٌ لقولهم كيف يقولون ويعترفون؟ والثانية: ذمّ لهم، وتخطئةٌ لرأيهم، ووصفٌ لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قومٌ غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه، وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم.

[(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ* وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم) إشارة إلى أن قوله: (وغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا) بعد قوله: (قالوا شهدنا) من باب ترتيب الحكم على الوصف المناسب، يعني: أنهم قالوا: (شهدنا على أنفسنا)، إقراراً منهم بأن حجة الله لازمة لهم، وأنهم محجوبون لقلة نظرهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا، واللذات الدنيوية. فعلى هذا عطف قوله:(وغرتهم) على ما قبله، من باب الإخبار عن وجود شيئين مترتبين، وقد عول الترتيب إلى الذهن.

وأما الواو الداخلة على (وشهدوا على أنفسهم) فاستئنافية مصدرة على الجملة التذييلية؛ نعى عليهم، بعد الفراغ من أخبار القيامة، سوء صنيعهم، تقبيحاً وفضيحة لهم، وتحذيراً للسامعين من مثل حالهم.

ص: 249

(ذلِكَ) إشارةٌ إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة، وهو خبر مبتدأٍ محذوف: أي: الأمر ذلك، (وأَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) تعليل، أي: الأمر ما قصصناه عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم، على أن (أن) هي التي تنصب الأفعال، ويجوز أن تكون مخففةً من الثقيلة، على معنى: لأن الشأن والحديث: (لم يكن ربك مهلك القرى بظلمٍ). ولك أن تجعله بدلاً من (ذلك)، كقوله:(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ)[الحجر: 66].

(بِظُلْمٍ): بسبب ظلم قدموا عليه، أو ظالماً، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبهوا برسول وكتاب، لكان ظلماء وهو متعالٍ عن الظلم وعن كل قبيح.

(وَلِكُلٍ) من المكلفين (دَرَجاتٌ): منازل (مِمَّا عَمِلُوا) من جزاء أعمالهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو ظالماً) أي: ملتبساً بظلم. فعلى هذا: (وأهلها غافلون) حال متداخلة.

هذا الوجه قريب إلى مذهبه، بعيد من النظم، لأن قوله تعالى:(أَلَمْ يَاتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) استفهام على سبيل التوبيخ والتقرير يوم القيامة. وقد آذن أن الحجة قد لزمتهم، وهي أنه تعالى لا يهلك قريةً ظالمة ابتداء، بل يبعث إليهم من ينذرهم ويخوفهم عذاب الآخرة، فإذا لم يقلعوا عما هم فيه، أنحى عليهم بالقلع والدمار فيهم، فقوله:(ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ) كالتذييل والتأكيد للآية السابقة، ولابد من إثبات الظلم لهم، ولا يستقيم هذا المعنى استقامةً من غير تعسف إلا بذلك الوجه.

قوله: ((ولكل) من المكلفين (درجات))، أي: للمطيعين والعاصين درجات ودركات، فغلب. وهو قول أبي مسلم. قال الإمام: "وفيه قولان؛ أحدهما: لكل عاملٍ عمله،

ص: 250

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) بساه عنه يخفى عليه مقاديره وأحواله وما يستحق عليه من الأجر.

[(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ* إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)].

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) عن عباده وعن عبادتهم، (ذُو الرَّحْمَةِ) يترحم عليهم بالتكليف ليعرّضهم للمنافع الدائمة، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ......

فله في عمله درجات، يعني في الثواب والعقاب، على قدر أعمالهم في الدنيا، وإنه عالم بها على التفصيل، فرتب على كل درجةٍ ما يليق به من الجزاء". هذا تقرير ما ذكره المصنف. "والثاني: أن هذا مختص بأهل الطاعة، لأن لفظة "الدرجة" لا تليق إلا بهم".

وقلت: فعلى هذا: الجملة معطوفة من حيث المعنى على قوله: (ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ)، يعني: إرسال الرسل لم يكن إلا لتنبيه الغافلين، لتلزمهم الحجة، ولظهور طاعة المطيعين، وثبوت درجاتهم لأعمالهم الصالحة، ليجازيهم الله على ذلك.

قوله: ((وربك الغني) عن عباده). قال الإمام: "اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات، وعقاب أصحاب المعاصي، وذكر أن لكل قوم درجةً مخصوصة، ومرتبةً معينة، بين أن تخصيص المطيعين بالثواب، والمذنبين بالعذاب، ليس لأجل أنه يحتاج إلى طاعة المطيعين، أو ينتقص لمعصية المذنبين، فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين، ومع كونه غنياً، فإن رحمته عامة

ص: 251

(إِنْ يَشَا يُذْهِبْكُمْ) أيها العصاة (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ) من الخلق المطيع (كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) من أولاد قومٍ آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم، وهم أهل سفينة نوح عليه السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاملة، ولا سبيل إلى تربية المكلفين، وإيصالهم إلى درجات الأبرار، إلا بعد الترغيب في الطاعات، والترهيب عن المحظورات".

وإلى هذا المعنى أشار المصنف بقوله: "يترحم عليهم بالتكليف، ليعرضهم للمنافع الدائمة". وقال القاضي: "وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه، بل لترحمه على العباد، وتأسيس لما بعده؛ وهو قوله: (إن يَشَا يُذْهِبْكُمْ)، أي: ما به إليكم حاجة. إن يشأ يذهبكم أيها العصاة".

قلت: هذا أحسن لتأليف النظم، يعني أنه تعالى إنما ذكر "الرحمة"، وقرن به "الغنى" في قوله:(ورَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) لأمرين: أحدهما: ليشير إلى أن ذلك الإرسال المذكور لم يكن إلا لمحض رحمة العباد، لأنه غني مطلقاً، وثانيهما: أن يكون تخلصاً إلى خطاب العصاة من أمة محمد صلوات الله عليه بقوله: (إن يَشَا يُذْهِبْكُمْ) لأجل ذلك الاقتران، يعني أنه تعالى مع كونه ذا الرحمة، بإرسال الرسل، كذلك غني عن العالمين، وعنكم خاصة أيها العصاة، إن يشأ يذهبكم ويأت بآخرين، ولذلك عقبه بقوله:(إنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ).

قوله: (وهم أهل سفينة نوحٍ) شبه إذهاب المخاطبين من عصاة الأمة واستبدالهم، وإنشاء

ص: 252

[(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)].

«المكانة» : تكون مصدراً، يقال: مكن مكانةً إذا تمكن أبلغ التمكن، وبمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة. وقوله:(اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) يحتمل: اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله: على مكانتك يا فلان، أي: اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه (إِنِّي عامِلٌ) أي: عامل على مكانتى التي أنا عليها. والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أينا تكون له العاقبة المحمودة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

قومٍ آخرين من بقايا صالحيهم، باستئصال طالحي قوم نوح، وإنشاء آباء المخاطبين من بقايا صالحيهم، وهم أهل سفينته عليه السلام.

قوله: (واعملوا على جهتكم) هذا تقرير الاحتمال الثاني، على سبيل الكناية، لأن المكانة بمعنى المكان، وفي تقريره لف ونشر. أما قوله:"إني عامل على مكانتي" فمتفرع على الوجهين في (مكانتكم).

ص: 253

وطريقة هذا الأمر طريقة قوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)[فصلت: 40]، وهي التخلية، والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر، فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه.

فإن قلت: ما موضع (مَنْ)؟ قلت: الرفع إذا كان بمعنى «أي» ، وعلق عنه فعل العلم. أو النصب إذا كان بمعنى «الذي» .

و(عاقِبَةُ الدَّارِ): العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها.

وهذا طريقٌ من الإنذار لطيف المسلك،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها) تفسيره ما ذكره في "القصص": "أن الله وضع الدنيا مجازاً إلى الآخرة، وأراد بعباده ألا يعملوا فيها إلا الخير، ليتلقوا خاتمة الخير، ومن عمل خلاف ما وضعه الله تعالى فقد حرف، فإذاً عاقبتها الأصلية هي الخير، وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها، لأنها من نتائج تحريف الفجار" هذا بناءً على مذهبه.

والحق أن (عاقبة الدار) كناية عن خاتمة الخير، فكأنه قيل: من يكون له عاقبة الخير، سواء كان الظفر في الدنيا، كما قال الإمام:"العاقبة تكون على الكافر ولا تكون له. كما يقال: لهم الكرة، ولهم الظفر. وفي ضده: عليهم الكرة، وعليهم الظفر"، أو الجنة في العقبى، كما قال محيي السنة:" (عاقبة الدار): الجنة".

قوله: (وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك) يريد أن تعقيب قوله: (إنَّهُ لا يُفْلِحُ

ص: 254

فيه إنصاف في المقال وأدب حسن، مع تضمن شدّة الوعيد، والوثوق بأنّ المنذر محق والمنذر مبطل.

[(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ)].

كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاجٍ لله، وأشياء منها لآلهتهم؛ فإذا رأوا ما جعلوه لله زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً، رجعوا فجعلوه للآلهة، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها، واعتلوا بأنّ الله غنىّ، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها.

وقوله: (مِمَّا ذَرَأَ) فيه أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الظَّالِمُونَ)، من العدول من المضمر إلى المظهر، حيث لم يصرح بنفي الفلاح عنهم قوله:(مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ)، مع التعميم فيه المبني على الأمر في قوله:(اعملوا على مكانتكم): طريقاً من الكلام المنصف، وإرخاء العنان، لطيف المسلك، حيث ضمن ذلك "شدة الوعيد، والوثوق بأن المنذر محق، والمنذر مبطل".

قوله: (فيه أن الله كان أولى) أي: في إتيان (مما ذرأ)، وبيانه بقوله:(مِنَ الحَرْثِ والأَنْعَامِ) إشعار وإدماج لمعنى أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي، لأنه الخالق والمزكي، وإلا فكان من الظانين:(وجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيبًا).

ص: 255

لأنه هو الذي ذرأه وزكاه، ولا يرد إلى ما لا يقدر على ذرء ولا تزكية (بِزَعْمِهِمْ) وقرى بالضم، أي: قد زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة التي هي من الشرك، لأنهم أشركوا بين الله وبين أصنامهم في القربة، (فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ) أي: لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين، (فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ) من إنفاقٍ عليها؛ بذبح النسائك عندها، والإجراء على سدنتها، ونحو ذلك، (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) في إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم ما لم يشرع لهم.

[(وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ)].

(وَكَذلِكَ) ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربات .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ذرأه) قال الزجاج: "يقال: ذرأ الله الخلق ذرءاً: إذا خلقهم". النهاية: "في الحديث: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر كل ما خلق وذرأ وبرأ". ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءاً: إذا خلقهم، وكأن الذرء مختص بخلق الذرية".

قوله: (وقرئ بالضم) أي: "بزعمهم": الكسائي، وهو لغة.

قوله: (أي: قد زعموا أنه لله، والله لم يأمرهم بذلك، ولا شرع لهم تلك القسمة) النهاية: "إنما يقال: "زعموا" في حديث لا سند له، ولا تثبت فيه، وإنما يحكي على الألسن".

قوله: (ومثل ذلك التزيين، وهو تزيين الشرك في قسمة القربات بين الله والآلهة) يعني

ص: 256

بين الله تعالى والآلهة، أو: ومثل ذلك التزيين البليغ الذي هو علم من الشياطين.

والمعنى: أن شركاءهم من الشياطين، أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم بالوأد، وبنحرهم للآلهة، وكان الرجل في الجاهلية يحلف: لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنّ أحدهم، كما حلف عبد المطلب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المشار إليه بقوله: "ذلك" ما يعلم من قوله: (وجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيبًا) الآية.

قوله: (أو ومثل ذلك التزيين البليغ) هذا على أن يكون المشار إليه ما في الذهن، ولذلك قال:"الذي هو علم من الشياطين"، وسيجيء بيانه في قوله:(هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ)[الكهف: 78]، والمبالغة إنما يفيدها الإبهام الذهني، والتفسير بقوله:(زين) وهو ما يعلمه كل أحد أن المزين من هو، وهو الشيطان.

قوله: (سدنة الأصنام)، الجوهري:"السادن: خادم الكعبة وبيت الأصنام. والجمع: السدنة".

قوله: (بالواد)، الجوهري:"وأد ابنته، يئدها وأداً، وهي موءودة، أي: دفنها في القبر وهي حية".

قوله: (لينحرن أحدهم، كما حلف عبد المطلب) روى ابن الجوزي في كتاب "الوفا": "كان عبد المطلب قد رأي في المنام: "احفر زمزم"، ونعت له موضعها. وقام يحفر وليس له ولد يومئذ إلا الحارث، فنازعته قريش، فنذر: لئن ولد له عشرة نفرٍ، ثم بلغوا، لينحرن أحدهم لله

ص: 257

وقرئ: (زين)، على البناء للفاعل الذي هو (شركاؤهم)، ونصب (قَتْلَ أَوْلادِهِمْ)، و (زين) على البناء للمفعول الذي هو "القتل"، ورفع (شركاؤهم) بإضمار فعلٍ دل عليه "زُين"، كأنه قيل- لما قيل زين لهم قتل أولادهم من زينه؟

فقيل: زينه لهم شركاؤهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعالى عند الكعبة. فلما تموا عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه، أخبرهم بنذره، فأطاعوه، وكتب كل منهم اسمه في قدح، فخرج على عبد الله، فأخذ الشفرة لينحره، فقامت قريش من أنديتها، وقالوا: لا تفعل حتى ننظر فيه. فانطلق به إلى عرافة. فقال: قربوا عشرةً من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها القداح، إن خرجت على صاحبكم، فزيدوا من الإبل حتى يرضي ربكم، فإذا خرجت على الإبل فقد رضي، ونجا صاحبكم. فقربوا عبد الله وعشراً، فخرجت على عبد الله، فلم يزالوا كذلك حتى جعلوها مئة، فخرج القدح على الإبل، فقالوا: قد رضي ربك. فقال: لا والله حتى أضرب عليه وعليها مرات، ففعل، فخرج القدح على الإبل، فنحرت ثم تركت، لا يصد عنها إنسان ولا سبع".

قوله: (و"زين" على البناء للمفعول

، ورفع (شرؤكاهم)) ابن عامر:"زين" بضم الزاي، "قتل" بالرفع، و"أولادهم" بالنصب، و"شركائهم" بالخفض، والباقون: بفتح الزاي، و" (قتل) بالنصب، و (أولادهم) بالخفض، و (شركاؤهم) بالرفع".

قال ابن جني: "و"زين" على البناء للمفعول، ورفع (شركاؤهم): قراءة أبي عبد الرحمن السلمي. والوجه أن يكون مرفوعاً بفعل مضمر، دل عليه هذه الظاهر، ولا يرتفع بهذا الظاهر، لأن الفعل الواحد لا يرفع إلا الواحد، ونحوه بيت "الكتاب".

ص: 258

وأما قراءة ابن عامر: (قتل أولادهم شركائهم) - برفع "القتل" ونصب "الأولاد" وجرّ "الشركاء" على إضافة "القتل" إلى "الشركاء"، والفصل بينهما بغير الظرف، فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر، لكان سمجاً مردوداً، كما سمج وردّ

زجّ القلوص أبى مزاده

فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته؟ ! والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركاؤهم مكتوباً بالياء. ولو قرأ بجر "الأولاد" و"الشركاء" - لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم - لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليبك يزيد ضارع لخصومةٍ

ومختبط مما تطيح الطوائح

كأنه لما قيل: ليبك يزيد، قيل: من يبكيه؟ قال: ليبكه ضارع لخصومة. ويشهد له قراءة العامة، لأن الشركاء هم المزينون".

قوله: (والذي حمله على ذلك أن رأي في بعض المصاحف "شركائهم" مكتوباً بالياء) قال موفق الدين الكواشي: "هذا يشعر أن ابن عامر قد ارتكب محظوراً، وأن قراءته قد بغت من الرداءة مبلغاً لم يبلغه شيء من جائز كلام العرب وأشعارهم، وأنه غير ثقة، لأنه يأخذ القراءة من المصحف لا من المشايخ، ومع ذلك أسندها إلى النبي صلي الله عليه وسلم وهو جاهل بالعربية. وليس الطعن في ابن عامر طعناً فيه، وإنما هو طعن في علماء الأمصار، حيث جعلوه أحد

ص: 259

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القراء السبعة المرضية، وفي الفقهاء، حيث لم ينكروا عليهم إجماعهم على قراءته، وأنهم يقرؤونها في محاريبهم. والله أكرم من أن يجمعهم على الخطأ".

وذكر قريباً منه صاحب "الانتصاف"، وفيه:"ولولا العذر أن المنكر ليس من أهل علمي القراءة والأصول، لخيف عليه الخروج من ربقة الإسلام بذلك. ثم مع ذلك، هو في عهدةٍ خطرة، وزلةٍ منكرة".

قلت: إنه ذهب في هذا المقام أن مثل هذا المركب ممتنع، وخطأ إمام أئمة الإسلام، وضعفه في قوله:(فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وعْدِهِ رُسُلَهُ)[إبراهيم: 47] فبين كلاميه تخالف.

وقال أبو محمد المكي: "لم أر أحداً يحمل قراءته إلا على الصحة والسلامة، وقراءته أصل يستدل به لا له".

وقال الإمام في "تفسيره": "وكثيراً أرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهد في تقريره ببيت مجهول، فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم، لأنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلاً على صحته، فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلاً على صحته كان أولى".

ص: 260

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال السكاكي: "لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف، ونحو قوله:

بين ذراعي وجبهة الأسد

محمول على حذف المضاف إليه من الأول. ونحو قراءة من قرأ: "قتل أولادهم شركائهم"، و"مخلف وعده رسله" لإسنادها إلى الثقات وكثرة نظائرها من الأشعار، ومن أرادها فعليه بخصائص ابن جني، محمولة عندي على حذف المضاف إليه من الأول، وإضمار المضاف في الثاني، على قراءة من قرأ:"والله يريد الآخرة" بالجر، أي: عرض الآخرة، وما ذكرت - وإن كان فيه نوع بعدٍ - فتخطئة الثقات والفصحاء أبعد".

روى الواحدي عن أبي علي: أن الفصل بين المضاف والمضاف إليه قبيح، قليل في الاستعمال، ولكنه قد جاء في الشعر، كما أنشده أبو الحسن الأخفش:

فزججتها متمكناً

زج القلوص أبي مزاده

وفي "المفصل": "فزججتها بمزجة. الزج: الطعن. والمزجة - بكسر الميم -: الرمح القصير كالمزراق. وأبي مزادة: كنية رجل".

ص: 261

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونقل صاحب "الإقليد" عن المصنف: "ووجهه أن يجر "القلوص" على الإضافة، ويقدر مضاف إلى: "أبي مزادة" محذوفاً بدلاً عن "القلوص"، تقديره: زج القلوص قلوص أبي مزادة. والقلوص: الشابة من النوق".

وقال صاحب "الانتصاف": "إن إضافة المصدر إلى معموله مقدر بالفعل، ولهذا عمل. وهو وإن كانت إضافته محضة، مشبه بما إضافته غير محضة، حتى قال بعض النحاة: هي غير محضة. والحاصل أن اتصاله بالمضاف إليه، ليس كاتصال غيره، وجاء الفصل في غيره بالظرف، فتميز المصدر عن غيره، لجوازه بغير الظرف. وكأنه فكه، وقدم المفعول على الفاعل". ثم ذكر شواهد. وقال: "وليس القصد تصحيح القراءة بالعربية، بل تصحيح العربية بالقراءة".

وأنشد السجاوندي:

تمر على ما تستمر، وقد شفت

غلائل عبد القيس منها صدورها

ومثله في شعر المتنبي:

حملت إليه من لساني حديقةً

سقاها الحجي سقي الرياض السحائب

ص: 262

(لِيُرْدُوهُمْ) ليهلكوهم بالإغواء، (وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ): وليخلطوا عليهم ويشبهوه. ودينهم: ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك. وقيل: دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل: معناه: وليوقعوهم في دين ملتبس. فإن قلت: ما معنى اللام؟ قلت: إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة.

(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ) مشيئة قسر، (ما فَعَلُوهُ): لما فعل المشركون ما زُين لهم من القتل، أو لما فعل الشياطين أو السدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ذلك، إن جعلت الضمير جارياً مجرى اسم الاشارة (وَما يَفْتَرُونَ): وما يفترونه من الإفك. أو: وافتراؤهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جعل القصيدة كالروضة التي يحدث بها حاجز، وجعل العقل ساقياً لها، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول.

قوله: (فعلى معنى الصيرورة)، نحوه قوله تعالى:(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا)[القصص: 8].

قوله: (إن جعلت الضمير جارياً مجرى اسم الإشارة). أي: الضمير في (فعلوه)، كقوله تعالى:(إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء: 36]. وأنشد ابن جني:

مثل الفراخ نتفت حواصله

ص: 263

[(وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ)].

(حِجْرٌ): فعلٌ، بمعنى: مفعول، كالذبح والطحن، ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع، لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات. وقرأ الحسن وقتادة «حُجر» بضم الحاء. وعن ابن عباس:"حرجٌ"، وهو من التضييق وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا:(لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ)، يعنون خدم الأوثان، والرجال دون النساء، (وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها) وهي البحائر والسوائب والحوامي (وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) في الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام. وقيل: لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها. والمعنى:

أنهم قسموا أنعامهم، فقالوا: هذه أنعام حجر، وأنعام محرّمة الظهور، وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم الله، فجعلوها أجناساً بهواهم، ونسبوا ذلك التجنيس إلى الله (افْتِراءً عَلَيْهِ) أي: فعلوا ذلك كله على جهة الافتراء، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً - وانتصابه على أنه مفعولٌ له، أو حال، أو مصدر مؤكد، لأنّ قولهم ذلك في معنى الافتراء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: حواصل ذلك، أو حواصل ما ذكرنا، ذهب بالضمير إلى ذلك القدر والمبلغ، فلاحظ معنى الواحد فحمل عليه.

قوله: (أو حال، أو مصدر مؤكد)، والحال أولى الوجوه: لملاءمته قوله: (بزعمهم)،

ص: 264

[(وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)].

كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب: ما ولد منها حياً فهو خالصٌ للذكور لا تأكل منه الإناث، وما ولد منها ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث. وأنث (خالِصَةٌ) للحمل على المعنى، لأنّ (ما) في معنى الأجنة، وذكر "مُحَرَّمٌ" للحمل على اللفظ. ونظيره (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) [محمد: 16]. ويجوز أن تكون التاء للمبالغة مثلها في رواية الشعر، وأن تكون مصدراً وقع موقع "الخالص"، كالعاقبة، أي: ذو خالصة. ويدل عليه قراءة من قرأ: "خالِصَةٌ" بالنصب على أنّ قوله (لِذُكُورِنا) هو الخبر، و"خالصةً" مصدر مؤكد، ولا يجوز أن يكون حالاً متقدمة، لأن المجرور لا يتقدم عليه حاله. وقرأ ابن عباس:"خالصةٍ" على الإضافة، وفي مصحف عبد الله:"خالص".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأنه حال من فاعل: (قالوا) أي: قالوا زاعمين مفترين، قال أبو البقاء:(بزعمهم) متعلق بـ (قالوا).

قوله: (ويدل عليه) أي: على أن (خالصة) في قراءة الرفع، مصدر بمعنى: ذو خالصة، قراءة النصب، فإنها مصدر قطعاً، لعدم جواز أن يكون حالاً من المجرور في (لذكورنا)، لأنها لا تتقدم عليه، ولا من الضمير في "لذكورنا" لأنها لا تتقدم على العامل المعنوي.

وفيه بحث من وجهين: أحدهما: أن التقسيم غير حاصر، لجواز أن يكون حالاً من ضمير

ص: 265

(وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً): وإن يكن ما في بطونها ميتة. وقرئ: (وإن تكن)، بالتأنيث، على: وإن تكن الأجنة ميتة. وقرأ أهل مكة: (وإن تكن ميتة) بالتأنيث والرفع على كان التامّة وتذكير الضمير في قوله (فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى، فكأنه قيل: وإن يكن ميت فهم فيه شركاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاستقراء في: (فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ). وعليه أبو البقاء، وصاحب "الكشف"، والكواشي، والقاضي. ويؤيده معنى قراءة ابن عباس:"خالصه" بالإضافة، أي: حيه.

وثانيهما: أن التعليل بتقديم الحال ضعيف، لأنه يؤذن بأنها لو تأخرت عن المجرور لجاز، وأنه لا يجوز معنى، لأن (خالصةً) جارية على ما في بطون هذه الأنعام لا على الذكور. يدل عليه حمل (خالصة) عليه في قراءة الرفع، وقول المصنف:"ما ولد منها حياً، فهو خالص للذكور، لا تأكل منه الإناث" إلى آخره.

على أن المالكي أجاز تقديمها على المجرور، وذكر شواهد ودلائل سنذكرها في "سبأ" إن شاء الله تعالى.

قوله: ("وإن تكن" بالتأنيث): أبو بكر وابن عامر، والباقون: بالتذكير. وابن كثير وابن عامر: "ميتة" بالرفع، والباقون: بالنصب. و"قتلوا" بالتشديد: ابن كثير وابن عامر، والباقون: بالتخفيف.

ص: 266

(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) أى، زاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم من قوله تعالى:(تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ)[النحل: 116].

[(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)].

نزلت في ربيعة ومضر والرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ): لخفة أحلامهم، وجهلهم بأنّ الله هو رازق أولادهم، لا هم.

وقرئ: «قتلوا» بالتشديد (ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ): من البحائر والسوائب وغيرها.

[(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من قوله: (تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ)). قال: "جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم، فقد حلت الكذب بحليته، وصورته بصورته"، ويجيء تمام تحقيقه في موضعه.

قوله: (لخفة أحلامهم، وجهلهم بأن الله تعالى هو رازق أولادهم). الظاهر أن "جهلهم" عطف على "خفة"، وتفسير لقوله:(بغير علمٍ)، و"لخفة أحلامهم" تفسير لقوله:(سفها)، وأنه مفعول له. ولا يجوز أن يكون (بغير علم) معطوفاً عليه. قال أبو البقاء:" (سفها): مفعول له، أو مصدر لفعلٍ محذوف. و (بغير علم): حال".

ص: 267

(أَنْشَأَ جَنَّاتٍ) من الكروم، (مَعْرُوشاتٍ): مسموكاتٍ (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ): متروكاتٍ على وجه الأرض لم تعرّش. وقيل: المعروشات: ما في الأرياف والعمران مما غرسه الناس واهتموا به فعرّشوه، (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) مما أنبته وحشياً في البراري والجبال، فهو غير معروش. يقال: عرّشت الكرم؛ إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القضبان، وسقف البيت: عرّشه.

(مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) في اللون والطعم والحجم والرائحة. وقرئ (أكله) بالضم والسكون وهو ثمره الذي يؤكل. والضمير للنخل والزرع داخل في حكمه، لكونه معطوفاً عليه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: المعنى: قتلوا أولادهم في حال كونهم جاهلين بالله، وبأنه هو الرازق ذو القوة المتين، لأجل خفة عقولهم.

قوله: (ما في الأرياف). الريف: أرض فيها زرع وخصب. والجمع: أرياف.

قوله: ((وغير معروشات) مما أنبته الله) من بيان (وغير معروشات)، وكان من حق الظاهر أن يقال: وغير معروشات: ما في البراري والجبال مما أنبته الله تعالى؛ ليصح التقابل مع قوله: "المعروشات: ما في الأرياف والعمران، مما غرسه الناس" فعلق "في البراري والجبال" بقوله: "وحشياً" وأخره، ليرتب عليه قوله:"فهو غير معروش"، ليؤذن بالفرق بين المأهول والوحشي.

وفيه تنبيه على أن من لم يكن تحت سياسة سائس، وتأديب مؤدب، ولا ضبط ضابط، ينشأ كما ينشأ الوحشي، غير مؤدب، كأرباب البوادي والجبال.

قوله: (وقرئ: (أكله) بالضم): كلهم إلا نافعاً وابن كثير، فإنهما قرآ بالسكون.

قوله: (والضمير للنخل، والزرع داخل في حكمه)، لأن الأصل أن يطلق "الأكل" على

ص: 268

و (مختلفاً): حال مقدّرة لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك، كقوله تعالى (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر: 73]. وقرئ «ثمره» بضمتين.

فإن قلت: ما فائدة قوله: (إِذا أَثْمَرَ)، وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه؟ قلت: لما أبيح لهم الأكل من ثمره قيل: (إذا أثمر)، ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر، لئلا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع.

(وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) الآية مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة، فأريد بـ"الحق": ما كان يتصدّق به على المساكين يوم الحصاد، وكان ذلك واجباً حتى نسخه افتراض العُشر ونصف العُشر. وقيل مدنية، والحق هو الزكاة المفروضة، ومعناه: واعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الثمرة والجناة بالحقيقة، فيه الزرع. الأساس:"يقال: أكل بستانك دائم، أي: ثمره". ذكره في الحقيقة.

الجوهري: "الأكل: ثمر النخل والشجر، وكل ما يؤكل فهو أكل". ولم يفرق بين الحقيقة والمجاز، فالضمير إذاً للمذكور.

قوله: (وقرئ: "ثمرة" بضمتين): حمزة والكسائي، والباقون: بفتحتين.

قوله: (لئلا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك) قال القاضي: "قيل: فائدة قوله: (إذا أثمر): رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله. وفائدة الأمر بالإيتاء يوم الحصاد: اهتمام

ص: 269

(وَلا تُسْرِفُوا) في الصدقة، كما روى عن ثابت بن قيس بن شماس: أنه صرم خمسمائة نخلة ففرّق ثمرها كله، ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء: 29].

[وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّانِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)].

(حَمُولَةً وَفَرْشاً) عطفٌ على (جناتٍ)، أى: وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأداء عند الحصاد حتى لا يؤخر عنه، وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتبقية".

قوله: ((ولا تسرفوا) في الصدقة) علق (ولا تسرفوا) في الصدقة بالقريب، وهو:(وءاتوا حقه) على طريقة التنازع، فيقدر مثله لقوله:(كلوا من ثمره).

قوله: ((حمولةً وفرشاً) عطف على (جناتٍ)): والجهة الجامعة: إباحة الانتفاع بالنوعين في عرف الشرع؛ وذلك أنه تعالى لما حكي عن المشركين تحريم ما في أجنة البحائر والسوائب، وسجل عليهم بالخسران، بسبب تحريمهم ما رزقهم الله افتراءً على الله، نص على

ص: 270

وقيل: «الحمولة» الكبار التي تصلح للحمل، «والفرش»: الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم، لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها، مثل الفرش المفروش عليها. (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) بدلٌ من (حمولة وفرشاً)، (اثْنَيْنِ): زوجين اثنين، يريد الذكر والأنثى، كالجمل والناقة، والثور والبقرة، والكبش والنعجة، والتيس والعنز - والواحد إذا كان وحده فهو فرد، فإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحدٍ منها زوجاً، وهما زوجان، بدليل قوله:(خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى)[النجم: 45]، والدليل عليه قوله تعالى:(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ثم فسرها بقوله: (مِنَ الضَّانِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ)، (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)، ونحو تسميتهم الفرد بالزوج، بشرط أن يكون معه آخر من جنسه: تسميتهم الزجاجة كأساً بشرط أن يكون فيها خمر.

والضأن والمعز: جمع ضائنٍ وما عز، كتاجر وتجر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما خلق للمكلفين، فأباح لهم أكله، وحمل الأثقال عليه، وقدم أولاً ذكر الجنات المختلفة، والزروع المتفاوتة، وأمرهم بالأكل منها، وأداء حقوق الله منها، ثم ثنى بذكر الأنعام المختلفة، ثم عم الخطاب في إباحة أكل سائر ما رزقهم الله تعالى، ونهي عن إتباع خطوات الشيطان؛ من تحريم ما أحل الله تعالى.

قوله: (بدليل قوله: (خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنثَى)) تعليل لقوله: "سمي كل واحدٍ منهما زوجاً، وهما زوجان". وقوله: "والدليل عليه"، أي: على أنه يريد الذكر والأنثى؛ كالجمل والناقة، إلى آخره.

ص: 271

وقرئا بفتح العين. وقرأ أُبيّ: "ومن المعزى". وقرئ: "اثنان"، على الابتداء.

الهمزة في (آلذَّكَرَيْنِ) للإنكار، والمراد بالذكرين: الذكر من الضأن والذكر من المعز، وبالأنثيين: الأنثى من الضأن والأنثى من المعز، على طريق الجنسية. والمعنى إنكار أن يحرّم الله تعالى من جنس الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها، ولا مما تحمل إناث الجنسين، وكذلك الذكران من جنسى الإبل والبقر، والأنثيان منهما، وما تحمل إناثهما، وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكورة الأنعام تارةً، وإناثها تارة، وأولادهما كيفما كانت ذكوراً وإناثاً، أو مختلطةً تارة، وكانوا يقولون: قد حرّمها الله، فأنكر ذلك عليهم.

(نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ): أخبروني بأمرٍ معلوم من جهة الله تعالى يدل على تحريم ما حرّمتم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنّ الله حرّمه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئا بفتح العين)"المعز" - بفتح العين -: ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والباقون: بإسكانها.

قوله: (إنكار أن يحرم الله). قال صاحب "المفتاح": "قل في إنكار نفس الضرب: "أزيداً ضربت أم عمراً؟ "، فإنك إذا أنكرت من يردد الضرب بينهما، تولد منه إنكار الضرب على وجه برهاني. ومنه قوله تعالى: (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ) ".

قوله: "على وجه برهاني"، يعني به: أن الضرب يستلزم محلاً، فإذا نفيت المحل، نفي اللازم، وانتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم.

ص: 272

(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ): بل أكنتم شهداء؟ ومعنى الهمزة الإنكار، يعني أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم؟ وذكر المشاهدة على مذهبهم، لأنهم كانوا لا يؤمنون برسولٍ وهم يقولون: الله حرّم هذا الذي نحرّمه، فتهكم بهم في قوله:(أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) على معنى: أعرفتم التوصية به مشاهدين، لأنكم لا تؤمنون بالرسل؟ (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) فنسب إليه تحريم ما لم يحرّم، (لِيُضِلَّ النَّاسَ) وهو عمرو بن لحي بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب.

فإن قلت: كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟ قلت: قد وقع ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وذكر المشاهدة على مذهبهم) أي: على ما يؤدي إليه مذهبهم، فإنهم كانوا يقولون: الله حرم هذا. وطريق تصحيح هذه الدعوى أن يقال: إن هؤلاء إنما علموا ذلك إما بأن بعث الله تعالى رسولاً أخبرهم به، أو بأن كانوا مشاهدين يسمعون كلام الله في التحريم. والأول منافٍ لمذهبهم، لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالرسل، فبقي الثاني، وذلك محال؛ فتهكم بهم.

قال الزجاج: "قد بين الاحتجاج أنهم لا يدعون بأن نبياً أخبرهم عن الله أن هذا حرام، ولا أنهم شاهدوا الله قد حرم ذلك. أي: هل شاهدتم الله قد حرم هذا إذ كنتم لا تؤمنون برسول؟ ثم بين ظلمهم فقال: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، ثم قال: (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا)، أعلمهم أن التحليل والتحريم إنما يقبل بالوحي والتنزيل".

قوله: (فصل بين بعض المعدود) وهو قوله: (مِّنَ الضَّانِ اثْنَيْنِ ومِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ)، (وبعضه)، وهو:(ومِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ ومِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ)، والفاصل:(قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ) الآية.

ص: 273

الفاصل بينهما اعتراضاً غير أجنبي من المعدود؛ وذلك أنّ الله عز وجل منّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم، فاعترض بالاحتجاج على من حرّمها، والاحتجاج على من حرّمها تأكيدٌ وتشديدٌ للتحليل، والاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد.

[(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)].

(فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ) تنبيهٌ على أنّ التحريم إنما يثبت بوحي الله تعالى وشرعه، لا بهوى الأنفس، (مُحَرَّماً): طعاماً محرّماً من المطاعم التي حرّمتموها، (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) إلا أن يكون الشيء المحرّم ميتة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (غير أجنبي من المعدود) يريد أن قوله: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) لما كان بدلاً من قوله: (حمولةً وفرشاً) على تقدير: أنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال، وما يفرش للذبح، وكان ذكرها للامتنان على المكلفين، لينتفعوا بها أنواع الانتفاعات، ثم جيء بقوله:(مِّنَ الضَّانِ اثْنَيْنِ ومِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ)، تفصيلا لتلك الفذلكة، فصل المعدود بقوله:(آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ) الآية، للاحتجاج على من حرمها، لأن أصل الكلام كان مسوقاً في تحريمهم البحائر والسوائب وما تولد منها، وفي افترائهم على الله، وتضليلهم فيها يدل عليه قولهم:(مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا)، وقوله تعالى:(وحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ومَا كَانُوا مُهْتَدِينَ).

قوله: (طعاماً محرماً من المطاعم التي حرمتموها

إلا أن يكون الشيء المحرم ميتة)،

ص: 274

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ظاهر هذا التركيب مشعر بأنه ذهب إلى أن الاستثناء منقطع، كما سيجيء بيانه.

وقال أبو البقاء: " (يطعمه) صفة لـ (طاعم)، وقوله: (إلا أن يكون) استثناء من الجنس، وموضعه نصب، أي: لا أجد محرماً إلا الميتة. ويقرأ (يكون) بالياء، و (ميتةً) بالنصب، أي: إلا أن يكون المأكول، أو ذلك. ويقرأ بالتاء، أي: المأكولة".

واعلم أن هذا الموضع من المشكلات، فلابد من بسط الكلام فيه؛ فنقول: المستثنى هاهنا مخصص، لأن اسم (يكون) ضمير راجع إلى ما سبق، ومن ثم قال:"الشيء المحرم"، وقد خصص بقوله:(ميتةً)، وما عطف عليها، وقد قيد المستثنى منه بقوله:"من المطاعم التي حرمتموها"، وما هذا شأنه لا يكون متصلاً، فكأنه قيل: لا أجد فيما أوحي إلى من التنزيل، طعاماً محرماً بما قيدتموه، ولكني أجد ذلك الطعام المحرم مقيداً بهذه القيود المذكورة.

وينكشف هذا التقرير بما ذكره في قوله تعالى: (إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إلاَّ آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ)[الحجر: 58 - 59]. قال: " (إلا آل لوطٍ): لا يخلو من أن يكون استثناءً من (قومٍ)، فيكون منقطعاً، لأن "القوم" موصوفون بالإجرام، فاختلف لذلك الجنسان، وأن يكون استثناءً من الضمير في (مجرمين) فيكون متصلاً".

والنظم والتركيب يساعد الانقطاع، ويأبي الاتصال؛ أما التركيب: فإن قوله: (يطعمه) صفة مؤكدة لـ (طاعم) على نحو: (ولا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ)[الأنعام: 38] فيفيد مزيد التعميم والإحاطة، فإذا استثنى المذكورات، آذن بقصر المحرمات على المذكورات، وليس بذلك؛ فوجب الانقطاع والتخصيص.

ص: 275

(أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) أي: مصبوباً سائلا، كالدم في العروق، لا كالكبد والطحال. وقد رخص في دم العروق بعد الذبح.

(أَوْ فِسْقاً) عطف على المنصوب قبله. سمى ما أهلّ به لغير الله فسقاً لتوغله في باب الفسق. ومنه قوله تعالى: (وَلا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ)[الأنعام: 121]، و (أهل): صفةٌ له منصوبة المحل. ويجوز أن يكون مفعولا له من (أهلّ)، أي: أهلّ لغير الله به فسقاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما النظم: فإن هذه الآيات وردت عقب افترائهم على الله من تحريم ما حرموه، قالوا:(هَذِهِ أَنْعَامٌ وحَرْثٌ حِجْرٌ)[الأنعام: 138]، و (هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا ومُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) [الأنعام: 139]، كأنهم ادعوا أن ما حرموه ليس من عند أنفسهم بل هو من عند الله. فقيل لهم: ليست الأطعمة المحرمة ما وصفتموه، ولكنها ما وصفه الله تعالى، ومن ثم قيل:(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، وعقبه بقوله:(قل لا أجد) الآية، ثم ختمها بقوله:(قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا)[الأنعام: 150]، ثم شرع بعد ذلك فيما حرمه الله تعالى بقوله:(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ)[الأنعام: 150] الآيات.

قوله: (وقد رخص في دم العروق بعد الذبح). قال الإمام: "الدم المسفوح: السائل. وعن ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح. وعلى هذا التقدير: لا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما، ولا ما يختلط باللحم من الدم، فإنه غير سائل. وسئل أبو مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم، وعن القدر يرى فيه حمرة الدم، فقال: لا بأس به، إنما نهي عن الدم المسفوح".

ص: 276

فإن قلت: فعلام تعطف (أُهِلَّ)؟ وإلام يرجع الضمير في (بِهِ) على هذا القول؟ قلت: يعطف على (يكون)، ويرجع الضمير إلى ما يرجع إليه المستكنّ في (يكون).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الشافعي رضي الله عنه: "قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم) [البقرة: 173]: بيان لتحريم الدم مطلقاً، فوجب الحكم بحرمة جميع الدماء، ونجاستها، سوى الكبد والطحال، بالحديث، فيجب إزالتها عن اللحم ما أمكن".

قال صاحب "الجامع": "أبو مجلز: لا حق بن حميدٍ السدوسي البصري، تابعي، سمع عبد الله بن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك. وسمع منه قتادة، وسليمان التيمي، وعمران ابن حدير".

قوله: (فعلام تعطف (أهل)) الفاء: للإنكار؛ يعني: إذا جعل (فسقاً) مفعولاً له، من (أهل) مقدماً على العامل، ينقلب مدخول حرف العطف من الإفراد إلى الجملة، والضمير المجرور بلا عائد ظاهر، إذ تلك الجملة المعطوف عليها، وإلام يرجع الضمير؟

قوله: (يعطف على (يكون)). وقلت: الأول أولى، ليحصل في الكلام الترقي، وليؤذن بأن ما أهل لغير الله أقذر وأخبث من لحم الخنزير، ولذلك علل لحم الخنزير بالرجس، ثم أتبعه ذلك، وسماه أولاً بنفس الفسق، ثم وصفه بما يكشف عن حقيقته، كأن

ص: 277

(فَمَنِ اضْطُرَّ): فمن دعته الضرورة إلى أكل شيءٍ من هذه المحرّمات، (غَيْرَ باغٍ) على مضطر مثله تارك لمواساته، (وَلا عادٍ): متجاوزٍ قدر حاجته من تناوله، (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لا يؤاخذه.

[(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ* فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَاسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)].

ذو الظفر: ما له أصبعٌ من دابةٍ أو طائر، وكان بعض ذات الظفر حلالاً لهم، فلما ظلموا حرّم ذلك عليهم، فعمّ التحريم كل ذى ظفر بدليل قوله:(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ)[النساء: 160].

وقوله: (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) كقولك: من زيدٍ أخذت ماله، تريد بالإضافة زيادة الربط

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفسق تفسيره، وبيانه: أنه أهل لغير الله. فعلى هذا ففي تأخير الدم عن الميتة الإشعار بأنه أخبث منه، فيجب أن يحترز منه ما أمكن، كما ذهب إليه الشافعي.

قوله: (ذو الظفر: ما له أصبع من دابةٍ أو طائر). قال القاضي: "وقيل: كل ذي مخلبٍ وحافر. وسمي الحافر ظفراً مجازاً".

قوله: (تريد بالإضافة زيادة الربط). قيل: الإضافة: لفظ مشترك بين نسبة فعل إلى اسم، أو نسبة اسم إلى اسم، بواسطة حرف ملفوظٍ أو مقدر، والأول يسمى جاراً ومجروراً، والثاني مضافاً ومضافاً إليه.

ص: 278

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: والمراد هاهنا إضافة الشحوم إلى الضمير، لأن الظاهر أن يقال: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم الشحوم، وأخذت من زيد المال، فأضيف لزيادة الربط. وإلى هذا ذهب صاحب "التقريب".

وأما بيان نسبة الفعل إلى الاسم فإن الظاهر أن يقال: "أخذت مال زيد" فأنت في قولك: "من زيد أخذت" مجمل، لأن المأخوذ يحتمل أن يكون جميع ما يملك، أو يكون شيئاً دون شيء، وإذا قلت:"ماله"، تعين المال.

وقريب منه - من حيث الإجمال والتفصيل - قوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)[الشرح: 1]. هذا، وإن اقتضاه التركيب، لكنه ليس بمعنى هاهنا. وأما الحصر في قوله:"لم يحرم منهما إلا الشحوم الخالصة"، فمن تقديم المعمول على العامل، وتخصيصه في الثاني، وتأخيره وتعميمه في الأول.

وقال أبو البقاء: " (ومن البقر) معطوف على (كل)، وجعل (حرمنا عليهم شحومهما) تبييناً للمحرم من البقر. ويجوز أن يكون (البقر) متعلقاً بـ (حرمنا) الثانية". وقال صاحب "الكشف": "والتقدير حينئذ: وحرمنا من البقر والغنم عليهم

ص: 279

والمعنى: أنه حرّم عليهم لحم كل ذى ظفرٍ وشحمه وكل شيءٍ منه، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرّم منهما إلا الشحوم الخاصة، وهي الثروب وشحوم الكلى.

وقوله: (إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما) يعني: إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحفة، (أَوِ الْحَوايا) أو اشتمل على الأمعاء (أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) وهو شحم الإلية. وقيل (الْحَوايا) عطف على (شحومهما). و (أو) بمنزلتها في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شحومهما، فتقف على قوله:(ذي ظفر). فإن حملت (ومن البقر والغنم) على (ذي ظفر) - لأن المعنى: من كل ذي ظفر ومن البقر والغنم - وقفت على قوله: (والغنم). والوجه: الأول".

قوله: (وهي الثروب)، الجوهري:"الثروب: شحم قد غشي الكرش والأمعاء، رقيق". و"السحفة" - بفتح السين وسكون الحاء المهملة، والفاء -:"الشحمة التي على الظهر، الملتزقة بالجلد، فيما بين الكتفين إلى الوركين".

قوله: (و (أو) بمنزلتها في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين). قال الزجاج: "يجوز أن يكون (الحوايا) نسقاً على (شحومهما) لا على الاستثناء. المعنى: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت الظهور، فإنه غير محرم، ودخلت (أو) على طريق الإباحة، كما قال:(ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)[الإنسان: 24] أي: هؤلاء أهل أن يعصى، فاعص هذا أو اعص هذا، و (أو) بليغة في هذا المعنى، لأنك إذا قلت: لا تطع زيداً وعمراً، فجائز أن تكون نهيتني عن طاعتهما معاً في حال، فإن أطعت زيداً على حدته،

ص: 280

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

لم أكن عصيتك، وإذا قلت: لا تطع زيداً أو عمراً أو خالداً، أي: هؤلاء كلهم أهل ألا يطاع، فلا تطع واحداً منهم، ولا تطع الجماعة، ومثله:"جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي" فليس المعنى أني أمرتك بمجالسة واحد منهم، بل المعنى: كلهم أهل أن يجالس، فإن جالست واحداً منهم فأنت مصيب، وإن جالست الجماعة فأنت مصيب".

وقال ابن الحاجب: " (أو) في قوله تعالى: (ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) [الإنسان: 24] بمعناها، وهو أحد الأمرين، وإنما جاء التعميم من النهي الذي فيه معنى النفي، لأن المعنى قبل وجود النهي فيهما: تطيع آثماً أو كفوراً، أي: واحداً منهما، فإذا جاء النهي ورد على ما كان ثابتاً في المعنى، فيصير المعنى: ولا تطع واحداً منهما، فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي الداخل، بخلاف الإثبات، فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر. فهو معنى دقيق" تم كلامه.

وحاصل ذلك أنك إذا عطفت (أَوِ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) على (شحومهما) دخلت الثلاث تحت حكم النفي، فيحرم الكل سوى ما استثنى منه، وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى "الشحوم". و (أو) على الأول للإباحة، وعلى الثاني للتنويع.

قال أبو البقاء: " (أو): هاهنا لتفصيل مذاهبهم، لاختلاف أماكنها، كقوله تعالى: (وقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [البقرة: 111]، فلما لم يفصل في قوله: (وقالوا) جاء بـ (أو) للتفصيل، إذ كانت موضوعةً لأحد الشيئين".

ص: 281

(ذلِكَ) الجزاء (جَزَيْناهُمْ)، وهو تحريم الطيبات (بِبَغْيِهِمْ) بسبب ظلمهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة. فلما عصوا وبغوا ألحقنا بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ) في ذلك وزعموا أن الله واسع الرحمة، وأنه لا يؤاخذ بالبغي ويخلف الوعيد جوداً وكرماً (فَقُلْ) لهم (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) لأهل طاعته (وَلا يُرَدُّ بَاسُهُ) مع سعة رحمته (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) فلا تغترّ برجاء رحمته عن خوف نقمته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((وإنا لصادقون) فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة)، الثاني صحيح، والأول اعتزال.

وأنشد أصحابنا:

وإني إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وقال الإمام: " (وإنا لصادقون): في الإخبار عن بغيهم، وفي الإخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم".

قوله: ((فإن كذبوك) في ذلك)، أي: في "إنا لصادقون فيما أوعدنا به العصاة، لا نخلفه"، وإنما فسره بقوله:"وزعموا أن الله واسع الرحمة"، لوقوع قوله: (فَقُل رَّبُّكُمْ

ص: 282

[(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَاسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ* قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)].

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إخبار بما سوف يقولونه، ولما قالوه، قال:(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)[النحل: 35]، يعنون بكفرهم وتمردهم. أن شركهم وشرك آبائهم، وتحريمهم ما أحل الله، بمشيئة الله وإرادته. ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك، كمذهب المجبرة بعينه، (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي: جاءوا بالتكذيب المطلق، لأنّ الله عز وجل ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) جواباً لتكذيبهم، فقرر ما قالوه، وزيد عليه:(ولا يُرَدُّ بَاسُهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ) أي: رحمته، وإن كانت واسعة، لكن لأهل طاعته. وهو من أسلوب القول بالموجب، كما سيجيء بيانه في سورة التوبة في قوله:(ويَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ)[التوبة: 61].

قوله: (وقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا): الآية في سورة "النحل"[35].

قوله: (ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك، كمذهب المجبرة). قال القاضي: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) أي: لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاء، كقوله:(فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)

ص: 283

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

لما فعلنا نحن ولا آباؤنا. أرادوا بذلك أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله، لا الاعتذار عن ارتكاب هذه القبائح بإرادة الله إياها منهم، حتى ينهض ذمهم به دليلاً للمعتزلة".

وقلت: وأما مقتضي النظم: فهو أن الله تعالى من ابتداء قوله: (وجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ)[الأنعام: 100]، وقوله:(ومَا لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)[الأنعام: 119] وهلم جراً، إلى آخر الآيات المتعلقة بأمر الأنعام، يحتج عليهم في اتخاذهم شركاء لله من الجن والملائكة، وينعي عليهم سوء صنيعهم في تحريم البحائر والسوائب، ويعلم نبيه صلي الله عليه وسلم طريقة الرد عليهم بقوله:(قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا)[الأنعام: 145].

وحين لم تجد معهم الآيات والنذر، أخذ يسليه صلي الله عليه وسلم مما قاسي من تكذيبهم، بقوله:(فَإن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ)[الأنعام: 147] وبقوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إلى قوله: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)، أي: لا تتهاون في الإنذار والاحتجاج، ولا تبال بقولهم:(لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا)، فإنه دأبهم، ودأب من سلف من أمثالهم عند إلزامهم، لأن ديدن المحجوج، إذا لم يبق له حجة يتمسك بهأ، التشبث بأمثال هذا، فإنهم إذا تفكروا في الأمر، ورأوا أن الحجة قد لزمتهم، وتيقنوا بطلان مذهبهم، لابد أن يقولوا:(لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا).

ونحوه ما روينا عن البخاري ومسلم، عن الحسين بن علي عليهما السلام، أن عليا أخبره: أن النبي صلي الله عليه وسلم طرقه ليلاً وفاطمة، فقال:"ألا تصليان؟ "، قال على: فقلت: يا رسول الله، إن أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قلت له ذلك، ولم يرجع

ص: 284

والرسل أخبروا بذلك. فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله، وهو تكذيب الله وكتبه ورسله، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره، (حَتَّى ذاقُوا بَاسَنا): حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم، (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ): من أمرٍ معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم (فَتُخْرِجُوهُ لَنا)، وهذا من التهكم، والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شيئاً. ثم سمعته وهو منصرف يضرب فخذه، ويقول:" (وكَانَ الإنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف: 54] ".

والحاصل: أن هذه كلمة حق، يريد بها هذا القائل في هذا المقام باطلاً. ويعضد ما ذكرناه، قوله:(هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا)، يعني: هذا الذي قلتموه جهل محض، لأنه لازم عليكم، فإن كان لكم حجة أخرى مما يصح الاحتجاج به، فأخرجوها. وقوله:(قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)، يعني: أن المحق الصادق الدعوى، كأهل السنة، إذا تمسكوا بهذا الكلام ابتداءً على إظهار الحق، فلله ولهم الحجة البالغة، لعلمهم بذلك، ومن تمسك به لمجرد المماراة والجدال وإبطال الحق، يكون حجةً عليهم، ودليلاً على إفحامهم وعجزهم.

ونحوه ما ذكره المصنف في أول "البقرة"، عند قوله تعالى:(وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ)[البقرة: 23]: "يعني: لا تستشهدوا بالله، ولا تقولوا: الله يشهد أن ما ندعيه حق، كما يقوله العاجز عن إقامة الحجة"، وقال:"هذا بيان لتعجيزهم وانقطاعهم".

فإذاً، التكذيب واقع في واقعة معينةٍ وحالة مخصوصة، فكيف يقال:"جاؤوا بالتكذيب المطلق"، "وقد كذب التكذيب كله"؟ ! ومراده بالتكذيب المطلق: قولهم: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، لأنه يهدم جميع قاعدة التكليف.

ص: 285

(إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) في قولكم هذا، (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ): تقدّرون أن الأمر كما تزعمون أو تكذبون.

وقرئ: "كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" بالتخفيف.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم إني، بعد استخراج هذه المعاني، وقفت على كلام إمام الحرمين في كتاب "الإرشاد"، قال:"إنهم إنما استوجبوا التوبيخ، لأنهم كانوا يهزؤون بالدين، ويبغون رد دعوة الأنبياء، وكان قد قرع مسامعهم من شرائع الرسل تفويض الأمور إلى الله تعالى، فلما طولبوا بالإسلام، والتزام الأحكام، تعللوا بما احتجوا به على النبيين، وقالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)، ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم، والدليل عليه قوله: (قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إن تَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنْ أَنتُمْ إلاَّ تَخْرُصُونَ)، فكيف لا يكون الأمر كذلك، والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان بالله تعالى والمقرعون بالآية كفرة؟ ! ".

قوله: (وقرئ: "كذلك كذب الذين من قبلهم" بالتخفيف). هذه القراءة شاذة، بل كادت أن تكون موضوعة، وابن جني ما ذكرها في "المحتسب"، وردها الإمام أبلغ رد. والقراءة بالتشديد هي المتفق عليها، والاستدلال بها لا بهذه. ولو أريد التفصي منها يقال: إن قوله: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) دفع لداعيهم إلى الإيمان. المعنى: إن الله تعالى لم يشأ منا الإيمان على زعمكم، فامضوا من حيث جئتم منه، واتركونا، فإذا قالوه أجب عنه، وقل: هل عندكم من علم أن الله تعالى أراد منكم الكفر، ولم يرد الإيمان؟ بل هذا الذي تقولونه كذب بحت، لأن مشيئة الله مخفية عن الخلق، ولا يعلم أحد ما قضي له من الكفر والإيمان، ومن ادعى أنه يعلم ما قدره الله تعالى عليه، يكون جاهلاً خارصاً.

ص: 286

(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) يعني: فإن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله، فلله الحجة البالغة عليكم على قود مذهبكم، (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) منكم ومن مخالفيكم في الدين، فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضى أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته، فتوالوهم ولا تعادوهم، وتوافقوهم ولا تخالفوهم، لأنّ المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه.

[(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)].

(هَلُمَّ) يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث عند الحجازيين، وبنو تميم تؤنث وتجمع. والمعنى: هاتوا شهداءكم وقرّبوهم.

فإن قلت: كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين يشهدون أنّ الله حرم ما زعموه محرما، ثم أمره بأن لا يشهد معهم؟ ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا معنى ما روي عن الحسن أنهم قالوا: إن الله رضي منا ما نحن عليه، وأراده منا، ولو لم يرض منا لحال بيننا وبين ما نحن عليه، ولعالجنا بالعقوبة.

قوله: (على قود مذهبكم)، الجوهري:"قدت الفرس وغيره، أقوده قوداً ومقادةً وقيدودةً. وفرس قؤود: سلس منقاد". والقود في الكتاب: بمعنى مفعول.

المعنى: فلله الحجة البالغة على ما يقوده مذهبكم، وهو مساواة جميع الملل المخالفة، لأن ما خالف مذهبكم من الملل يجب أن يكون عندكم حقاً، لأنه بمشيئة الله، فيؤدي إلى تصحيح الأديان المتناقضة.

هذا تفسير في نهاية من التعسف. والحق ما مر.

ص: 287

قلت: أمره باستحضارهم- وهم شهداء بالباطل-، ليلزمهم الحجة، ويلقمهم الحجر، ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء، لتساوي أقدام الشاهدين والمشهود لهم في أنهم لا يرجعون إلى ما يصح التمسك به.

وقوله: (فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) يعني: فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم، لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم، وكان واحداً منهم، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) من وضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على أنّ من كذب بآيات الله وعدل به غيره فهو مُتبع للهوى لا غير، لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقا بالآيات موحداً لله تعالى.

فإن قلت: هلا قيل: قل هلم شهداء يشهدون أنّ الله حرّم هذا؟ وأي: فرقٍ بينه وبين المنزل؟ قلت: المراد أن يحضروا شهداءهم الذين علم أنهم يشهدون لهم وينصرون قولهم، وكان المشهود لهم يقلدونهم، ويثقون بهم، ويعتضدون بشهادتهم، ليهدم ما يقومون به، فيحق الحق ويبطل الباطل، فأضيفت الشهداء لذلك، وجيء بـ (الذين) للدلالة على أنهم شهداء معروفون موسومون بالشهادة لهم وبنصرة مذهبهم، والدليل عليه قوله تعالى:(فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ)، ولو قيل:"هلم شهداء يشهدون"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأنه إذا سلم لهم، فكأنه شهد معهم). تلخيصه: أن قوله: "لا تشهد معهم" أبلغ في النهي من قوله: "ولا تصدقهم"، فهو من باب الكناية، ويجوز أن يكون من باب المشاكلة.

قوله: (والدليل عليه)، أي: على أنهم شهداء معروفون، قوله تعالى:(فَإن شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ)، لأنه لو أريد مطلق الشهداء، لم يقل:(فإن شهدوا)، فإن العاقل لا يشهد بالباطل، ومن يشهد بالحق لا يجوز أن يقال لمن يشهد معه: لا تشهد معه، أي: لا تصدقه.

ص: 288

لكان معناه: هاتوا أناساً يشهدون بتحريم ذلك، فكان الظاهر طلب شهداء بالحق، وذلك ليس بالغرض، ويناقضه قوله تعالى:(فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ).

[(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)].

تعال: من الخاص الذي صار عاماً، وأصله أن يقوله من كان في مكانٍ عالٍ لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عمّ. و (ما حَرَّمَ) منصوب بفعل التلاوة، أي: أتل الذي حرمه ربكم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولا يقال ذلك إلا في حق من علم بطلان شهادته. وإليه الإشارة بقوله: "ويناقضه قوله تعالى: (فَإن شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) ".

قال في "الانتصاف": "وجه مناقضته: أن قوله: (هلم شهدآءكم) يفهم منه أن الطالب لذلك ليس على يقين أن ثم شهداء، كما يقول الحاكم: "هات بينةً تشهد لك" من غير أن يتحقق أن ثم بينة، ويكون قوله: "هلم شهداء يشهدون" تحقيقاً أن ثم شهداء".

وقلت: بل مثاله أن يقول الحاكم لمن يدعي أن له شهداء، وهو يعرف بأنهم شهداء زورٍ وباطل، فيقول:"هات شهداءك ليشهدوا لك" فإذا شهدوا له، ثم خرجوا، وعرف كذبهم، كان أفحم له من أن يطلب الشهداء مطلقاً. وإليه الإشارة بقوله:"ويلقمهم الحجر".

ص: 289

أو بـ (حرم) بمعنى: أقل أي: شيء حرّم ربكم، لأن التلاوة من القول، و «أن» في (أَلَّا تُشْرِكُوا) مفسرة و «لا» للنهى.

فإن قلت: هلا قلت هي التي تنصب الفعل، وجعلت (ألا تشركوا) بدلاً من (ما حَرَّمَ)؟ قلت: وجب أن يكون (َلَّا تُشْرِكُوا) و (لا تَقْرَبُوا) و (لا تَقْتُلُوا) و (لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)[الأنعام: 153] نواهي لانعطاف الأوامر عليها، وهي قوله:(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)، لأن التقدير: وأحسنوا بالوالدين إحساناً، و (أَوْفُوا)، (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام: 152]، (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) [الأنعام: 152].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو بـ (حرم) بمعنى: أقل). يريد أن (ما) في قوله: (ما حرم ربكم): إما أن تكون موصولةً أو استفهامية، فإن كان الأول كان مفعولاً لـ:(أتل)، "وأن" في (ألا تشركوا): ناصبة للفعل، و"لا" نافية، والمنصوب - وهو:(ألا تشركوا) - بدل من الهاء المحذوفة.

قال أبو البقاء: "أن: مصدرية، وفي موضعها وجهان؛ أحدهما: أنها منصوبة، وفي ذلك وجهان، أحدهما: هي بدل من الهاء المحذوفة، أو من (ما)، و"لا" زائدة؛ أي: حرم ربكم أن تشركوا، والثاني: أنها منصوبة على الإغراء، والعامل فيها: (عليكم)، والوقف على ما قبل (عليكم) أي: الزموا ترك الشرك. والوجه الثاني: أنها مرفوعة، والتقدير: المتلو: هو (ألا تشركوا)، أو المحرم: أن تشركوا، و "لا" زائدة".

وإن كان الثاني - أي: "ما" استفهامية - كان (حرم) عاملاً فيها، و "أن" هي المفسرة، و (أتل): في معنى القول، و "لا": للنهي. التقدير: أقل: أي شيء حرم ربكم؛ أي: أقل قولاً فيه تحريم أشياء، وهي:(ألا تشركوا به شيئاً) إلى آخره.

قوله: (هلا قلت: هي التي تنصب الفعل؟ ): أي: لم لا تجعل "أن" ناصبة، والمنصوب بدلاً من (ما حرم)؟

ص: 290

فإن قلت: فما تصنع بقوله: (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ)[الأنعام: 153] فيمن قرأ بالفتح، وإنما يستقيم عطفه على (ألا تشركوا) إذا جعلت "أن" هي الناصبة للفعل، حتى يكون المعنى: أتل عليكم نفى الإشراك والتوحيد، وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيماً؟ قلت: أجعل قوله (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً)[الأنعام: 153] علة للاتباع بتقدير اللام، كقوله تعالى:(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً)[الجن: 18]، بمعنى: ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه. والدليل عليه القراءة بالكسر، كأنه قيل: واتبعوا صراطي لأنه مستقيم، أو: واتبعوا صراطي إنه مستقيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأجاب عنه أن المانع من ذلك وجوب حمل (ألا تشركوا)، (ولا تقتلوا)، (ولا تقربوا) على أن تكون نواهي، ليحسن عطف "أحسنوا" و (وأوفوا) عليها. ولو جعلت "أن" ناصبة، و "لا" نافية، لزم عطف الطلبي على الخبري، فالواجب أن تجعل "أن" مفسرة، و "لا" ناهية، لتتفق الأوامر مع النواهي.

ثم أورد على القول الذي اختاره سؤالين.

أحدهما: قوله: "فما تصنع بقوله: (وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) [الأنعام: 153]؟ ". وأجاب بأن الواو ليست عاطفة، بل هي استئنافية، والجملة معترضة مؤكدة لمضمون الجمل، واللام متعلقة بقوله:(فاتبعوه)، أي: فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم، كما قدر في قوله:(وأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)[الجن: 18]: أي: "فلا تدعوا مع الله أحداً في المساجد، لأنها لله تعالى خاصة". والدليل عليها القراءة بكسر "إن"، لأنها صريحة في العلية.

ص: 291

فإن قلت: إذا جعلت "أَنَّ" مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بـ (ما حرم ربكم)، وجب أن يكون ما بعده منهياً عنه محرما كله، كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي، فما تصنع بالأوامر؟ قلت: لما وردت هذه الأوامر مع النواهي، وتقدمهنّ جميعاً فعل التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه، علم أن التحريم راجعٌ إلى أضدادها، وهي الإساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان، وترك العدل في القول، ونكث عهد الله.

(مِنْ إِمْلاقٍ) من أجل فقر ومن خشيته، كقوله تعالى:(خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)[الإسراء: 31]. (ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) مثل قوله: (ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ)[الأنعام: 120]، (إِلَّا بِالْحَقِّ) كالقصاص، والقتل على الردّة، والرجم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والسؤال الثاني قوله: "إذا جعلت "أن" مفسرة". وتقديره: أنك إذا جعلت "أن" مفسرةً لفعل التلاوة، لزمك أيضاً محذور، وهو وجوب اشتراك النواهي والأوامر في التحريم، لأن فعل التلاوة معلق بـ (ما حرم)، أي: مفعول له، وأجاب بما أجاب. فتفطن له، فإنه دقيق جداً.

قوله: (محرماً كله) بالرفع: إما تأكيد لقوله: "ما بعده"، أو فاعل "محرماً".

قوله: (أن التحريم راجع إلى أضدادها). قال صاحب "الفرائد": ومما يشاكل هذا في اعتبار المعطوف عليه من حيث المعنى: قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ)[البقرة: 258]، ثم قوله:(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ)[البقرة: 259]، وقوله:(وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى)[البقرة: 260]، وقول الشاعر:

بدا لي أني لست مدرك ما مضى

ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا

ص: 292

[(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)].

(إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ): إلا بالخصلة التي هي أحسن ما يفعل بمال اليتيم، وهي حفظه وتثميره والمعنى: احفظوه عليه حتى يبلغ أشدّه فادفعوه إليه (بِالْقِسْطِ): بالسوية والعدل، (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها): إلا ما يسعها ولا تعجز عنه. وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك، لأن مراعاة الحدّ من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج، فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفوّ عنه، (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى): ولو كان المقول له أو عليه في شهادةٍ أو غيرها من أهل قرابة القائل، فما ينبغي أن يزيد في القول أو ينقص، كقوله:(وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)[النساء: 135].

[(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)].

وقرئ: (وأن هذا صراطي مستقيماً) بتخفيف «أن» وأصله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: تقدير الآية: أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مر على قرية. وفائدة الاختلاف: أن المنهيات، نحو: الشرك، وقتل الأولاد، وقربان الزنا، وقتل النفس المحرمة، كانت العرب مستقرةً عليها، ولا يستنكفون منها، بل كانوا متدينين بها. وأما إحسان الوالدين، وإيفاء الكيل، والقول الصدق، والوفاء بالعهد، ونحوها فكانوا يفتخرون بالانتساب إليها، ويذكرونها في أشعارهم، فأمروا بإزالة ما كانوا فيه من الرذائل، والثبات على ما كانوا عليه من الفضائل.

قوله: (وقرئ: (وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا) بتخفيف "أن"): ابن عامر.

ص: 293

وأنه هذا صراطي، على أن الهاء ضمير الشأن والحديث. وقرأ الأعمش:"وهذا صراطي"، وفي مصحف عبد الله:"هذا صراط ربكم"، وفي مصحف أُبيّ:"وهذا صراط ربك".

(وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ): الطرق المختلفة في الدين، من اليهودية والنصرانية، والمجوسية وسائر البدع والضلالات، (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ): فتفرقكم أيادي سبأ، (عَنْ سَبِيلِهِ): عن صراط الله المستقيم، وهو دين الإسلام. وقرئ:(فتفرق) بإدغام التاء.

وروى أبو وائل عن ابن مسعودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خط خطاً ثم قال: هذا سبيل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أيادي سبأ) وقع في الكتاب صفة مصدرٍ محذوف، أي: فيفرقكم إتباع السبل تفرقاً مثل تفرق أيادي سبأ، والأيدي: كناية عن الأبناء والأسرة، لأنهم في التقوى والبطش بهم بمنزلة الأيدي.

الجوهري: "ذهبوا أيدي سبأ، وأيادي سبأ، أي: متفرقين، وهما اسمان جعلا أسماً واحداً".

النهاية: "سبأ: اسم مدينة بلقيس باليمن، وقيل: هو اسم رجل ولد عامة قبائل اليمن. وكذا جاء مفسراً في الحديث. وسميت المدينة به".

قوله: ("فتفرق بكم" بإدغام التاء): ابن كثير.

قال أبو البقاء: " (فتفرق) جواب النهي، والأصل: فتتفرق. و (بكم): في موضع المفعول، أي: فتفرقكم. ويجوز أن يكون حالاً، أي: فتتفرق وأنتم معها".

قوله: (عن النبي صلي الله عليه وسلم "أنه خط خطاً"). الحديث: رواه أحمد بن حنبل، والنسائي، والدارمي، مع اختلافٍ يسير.

ص: 294

الرشد، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال:"هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"،

ثم تلا هذه الآية (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "هذه الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب". وقيل: إنهنّ أمّ الكتاب، ومن عمل بهنّ دخل الجنة، ومن تركهنّ دخل النار. وعن كعب الأحبار: والذي نفس كعبٍ بيده، إنّ هذه الآيات لأول شيء في التوراة.

فإن قلت: علام عطف قوله: (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ)[الأنعام: 154]؟ قلت: على (وَصَّاكُمْ بِهِ).

فإن قلت: كيف صح عطفه عليه بـ (ثم)، والإيتاء قبل التوصية بدهر طويل؟ قلت: هذه التوصية قديمة، لم تزل توصى بها كل أمّة على لسان نبيهم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما:"محكمات لم ينسخهنّ شيءٌ من جميع الكتب"، فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به، يا بني آدم قديماً وحديثاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هذه الآيات محكمات). يعني: من قوله: (قل تعالوا) إلى قوله: (لعلكم تتقون).

قوله: (إنهن أم الكتاب)، لأنها جامعة لمعظم ما يجب أن يؤتي به، وما ينبغي أن يتحرز عنه. كما سميت "الفاتحة" بأم القرآن.

قوله: (وعن كعب الأحبار). قال صاحب "الجامع": "هو كعب بن ماتع، بكسر التاء، فوقها نقطتان، وبالعين المهملة: من حمير، أدرك زمن النبي صلي الله عليه وسلم ولم يره، وأسلم في زمن عمر بن الخطاب".

ص: 295

[(ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ)].

(ثُمَّ) أعظم من ذلك أنَّا (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) وأنزلنا هذا الكتاب المبارك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النهاية: "الأحبار: هم العلماء. جمع حبر وحبر بالفتح والكسر، والفتح أكثر".

قوله: ((ثم) أعظم من ذلك أنا (آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ)). اعلم أنه أوهم في الجواب بقوله: "هذه التوصية قديمة" أن معنى التراخي في (ثم) زماني، وبقوله:"ثم أعظم من ذلك" أنها للتراخي في الرتبة.

وذهب القاضي إلى أن "ثم" للتفاوت في الرتبة. وما يفهم من كلام الزجاج أنها للتراخي في الزمان، لكن بحسب الإخبار والتلاوة. قال:"أدخلت (ثم) في العطف على معنى التلاوة. المعنى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)، ثم أتل عليكم ما آتاه الله موسي".

وقلت: يمكن الجمع بينهما، إذ لا منافاة بين الاعتبارين، وذلك أن قوله:(ثُمًّ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ)، وقوله:(وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ)[الأنعام: 155] من جملة ما وصاه الله تعالى قديماً وحديثاً، ويكون قوله:(ذلكم وصاكم) مشاراً به إلى جميع ما ذكر من أول هذه السورة، لاسيما هذه المنهيات المختتمة بقوله:(وأن هذا صراطي). فالعطف على طريقة: (ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكَالَ)[البقرة: 98] لشرفهما على سائر وصاه الله، وأنزل فيه كتاباً،

ص: 296

وقيل: هو معطوفٌ على ما تقدّم قبل شطر السورة من قوله تعالى: (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ)[الأنعام: 84].

(تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ): تماماً للكرامة والنعمة، (على الذي أحسن)، على من كان محسناً صالحاً، يريد جنس المحسنين. وتدل عليه قراءة عبد الله:"على الذين أحسنوا"، أو أراد به موسى عليه السلام، أي: تتمةً للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به أو تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع، من: أحسن الشيء؛ إذا أجاد معرفته، أي: زيادةً على علمه على وجه التتميم. وقرأ يحيى بن يعمر: "على الذي أحسن" بالرفع، أي: على الذي هو أحسن، بحذف المبتدأ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فحصل التراخي بحسب الزمان، وبحسب الرتبة أيضاً، ثم ربي معنى التعظيم بالالتفات من الغيبة إلى التكلم، وإيثار ضمير الجمع المؤذن بالتعظيم.

قوله: (وقيل: هو معطوف على ما تقدم). فعلى هذا (ثم) للتراخي بحسب الزمان، وهو متعسف.

قوله: (أي: على الذي هو أحسن، بحذف المبتدأ). فعلى هذا الصلة والموصول صفة موصوفٍ محذوف، وهو:"الدين"، والعائد محذوف.

قال ابن جني: "هذا مستضعف لحذف المبتدأ العائد على (الذي)، وذلك إنما يحذف في نحو: "مررت بالذي ضربت" أي: ضربته، لأن من المفعول بداً، وطال الاسم بصلته، وليس المبتدأ بفضلة، فيحذف تخفيفاً، لاسيما وهو عائد إلى الموصول، وقد جاء نحوه عنهم. حكي سيبويه عن الخليل: ما أنا بالذي قائل لك شيئاً وسوءاً". و"أحسن" على هذا على التفضيل.

ص: 297

كقراءة من قرأ: "مَثَلًا ما بَعُوضَةً"[البقرة: 26] بالرفع، أي: على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه. أو آتينا موسى الكتاب تماماً- أي: تامّاً كاملاً- على أحسن ما تكون عليه الكتب، أي: على الوجه والطريق الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي: أتمَّ له الكتاب على أحسنه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو آتينا موسى الكتاب تماماً): عطف على قوله: "تماماً للكرامة". فعلى الوجوه: الأول: (تماماً): مفعول له. قال الزجاج: "وكذلك (تفصيلاً)، أي: إتيانه للتمام والتفصيل". وعلى الثاني: حال من (الكتاب).

ثم التعريف في (الذي أحسن): إما للجنس أو للعهد. فعلى الجنس يوافق معناه قوله تعالى: (الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)[البقرة: 1 - 2]. وإليه الإشارة بقوله: "على من كان محسناً صالحاً، يريد جنس المحسنين".

وعلى العهد: (أحسن) إما بمعنى الإحسان في الطاعة، والامتثال بجميع ما أمر به، كقوله تعالى:(وأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ)[البقرة: 195]، أو بمعنى الجودة في العمل والإتقان فيه. قال الله تعالى في سورة يوسف:(من المحسنين)[يوسف: 36]: "من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، ويجيدونها، أو من المحسنين إلى أهل السجن".

وفي هذا الوجه من المبالغة ما ليس في الأول، لأن الإحسان على الأول نفس الطاعة، وفي هذا زيادة عليها. ومن ثم قال:"أي: زيادة على علمه وجه التتميم". والتتميم على هذا للاستيعاب، وعلى الأول بمعنى التكميل.

ص: 298

[(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ* أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ)].

(أَنْ تَقُولُوا): كراهة أن تقولوا، (عَلى طائِفَتَيْنِ): يريدون أهل التوراة وأهل الإنجيل (وَإِنْ كُنَّا) هي "إن" المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والأصل: وإنه كنا عن دراستهم غافلين، على أن الهاء ضمير الشأن، (عَنْ دِراسَتِهِمْ): عن قراءتهم، أي: لم نعرف مثل دراستهم.

(لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) لحدّة أذهاننا، وثقابة أفهامنا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كراهة أن تقولوا). قال الزجاج: "قال بعضهم: معناه: أنزلناه لئلا تقولوا: إنما أنزل الكتاب على الطائفتين، أي: أنزلناه لتنقطع حجتكم، وإن كانت الحجة لله. وقال البصريون: معناه: أنزلناه كراهة أن تقولوا. ولا يجيزون إضمار "لا". فالمعنى: هذا كتاب أنزلناه إلى العرب، لئلا يحتجوا فيقولوا: إنما أنزل على اليهود والنصارى الكتاب، وما أنزل إلينا كتاب".

قوله: (مثل دراستهم)، أي: مثل قراءتهم. أي: لم يكن على لغتنا، فلم نقدر على قراءته مثل ما قدروا عليها.

قوله: (وثقابة أفهامنا)، النهاية:"ومنه قول الحجاج لابن عباس: "إن كان لمثقباً" أي: ثاقب العلم مضيئه. والمثقب - بكسر الميم -: "العالم الفطن"". ويروى: "ثقافة"، بالفاء.

ص: 299

وغزارة حفظنا لأيام العرب ووقائعها، وخطبها وأشعارها، وأسجاعها وأمثالها، على أنا أمّيون. وقرئ:"أن يقولوا"، "أو يقولوا"، بالياء.

(فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) تبكيتٌ لهم، وهو على قراءة من قرأ "يقولوا" على لفظ الغيبة أحسن، لما فيه من الالتفات. والمعنى: إن صدّقتكم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم فقد جاءكم بينةٌ من ربكم، فحذف الشرط وهو من أحاسن الحذوف، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ) بعد ما عرف صحتها وصدقها، أو تمكن من معرفة ذلك (وَصَدَفَ عَنْها) الناس، فضلّ وأضلّ، (سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) كقوله:(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ)[النحل: 88].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النهاية: (وهو غلام ثقف: كـ"قضبٍ"، أي: ذو فطنة وذكاء".

قوله: (ووقائعها): عطف تفسيري لقوله: "أيام العرب".

قوله: ((فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ): تبكيت لهم). فالفاء: جزاء شرطٍ محذوف. نحوه قول الشاعر:

قالوا: خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول، فقد جئنا خراسانا

أي: إن صح ما قلتم: إن خراسان المقصد، فقد جئناه، وأين الخلاص؟

ولهذا قدر: "إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم، فقد جاءكم بينة من ربكم". وقد حققنا القول فيه في "الحجرات".

قوله: (على لفظ الغيبة أحسن، لما فيه من الالتفات) لأنه من مجازه، فإنه تعالى لما خاطبهم بقوله:(وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) الآية، ثم قال على الغيبة: (أَن تَقُولُوا

ص: 300

[(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَاتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)].

(الْمَلائِكَةُ): ملائكة الموت، أو العذاب (أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ): أو يأتي كل آيات ربك، بدليل قوله (أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ). يريد آيات القيامة والهلاك الكلي، وبعض الآيات: أشراط الساعة، كطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنَّمَا أُنزِلَ) الآية، (لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ)، جعلهم بعداء، أي: أنزلنا [الكتاب إليكم] لئلا يقول أولئك البعداء المتصلفون: (لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ). ولما عاد إلى ذكر المنزل عليهم، خاطبهم تبكيتاً وإلزاماً؛ أي: أنتم أولئك الذين تصلفتم، وقلتم: كيت وكيت! فقد جاء مطلوبكم، فأين مقتضي قولكم؟

وساعد عليه حذف الشرط. يعني: لم يثبت عنكم مجيء ما طالبتموه، مع بلوغه أقصى غاياته، وهو كونه بينةً ظاهرة من خالقطم ومالككم، وهادياً إلى طريق مستقيم، ورحمةً من الله، كثير البركات. ومن ثم قال:"وهو من أحاسن الحذوف". وقد سمى مثل هذه الفاء في سورة "الحجرات": فاء فصيحة، وإن كانت جزائية، لدلالتها على السرعة، كما في قوله تعالى:(اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ)[البقرة: 60].

قوله: (أشرط الساعة كطلوع الشمس). روينا عن أحمد بن حنبل، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "ثلاث إذا خرجن لا

ص: 301

وعن البراء بن عازب: كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما تتذاكرون"؟ فقلنا: نتذاكر الساعة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض".

وعند هذا البيان، أمر الله تعالى حبيبه صلوات الله عليه أولاً بأن يقول لهم: انتظروا ذلك الموعود، إني معكم من المنتظرين، إقناطاً له عن إيمانهم. ثم ثنى بما ينبئ عن الإعراض عنهم، بقوله:(إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)[الأنعام: 159]. وثلث بالإقبال على من ينجع فيه الإنذار والوعظ، بقوله:(مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)[الأنعام: 160]. وربع بما يسليه من خاصة نفسه بقوله: (قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[الأنعام: 161]. وخمس بخاتمةٍ شريفةٍ مطابقة لما بدئت السورة به من المقاصد، وهي قوله:(قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ)[الأنعام: 162 - 163].

فإن الفاتحة فتحت بذكر بدء النشأة الأولي، لبيان إثبات التوحيد، ونفي الشرك، والخاتمة بذكر بدء النشأة الأخرى، والأمر بالإخلاص، ونفي الشرك. فسبحانه ما أعظم شأنه! وما أعجز بيانه

قوله: (وعن البراء بن عازب). الحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي، عن حذيفة

ص: 302

قال: "إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، ودابة الأرض، وخسفاً بالمغرب، وخسفاً بالمشرق، وخسفاً بجزيرة العرب، والدجال، وطُلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، وناراً تخرج من عدن".

(لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) صفة لقوله: (نفساً)، وقوله (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) عطف على (آمنت). والمعنى: أنّ أشراط الساعة إذا جاءت - وهي آيات ملجئة مضطرّة- ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذٍ نفساً غير مقدّمةٍ إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو مقدّمة الإيمان غير كاسبة خيراً في إيمانها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ابن أسيد الغفاري. وفي موضع: "نار تخرج من عدن". وآخر ذلك: "نار تطرد الناس إلى محشرهم".

قوله: (بجزيرة العرب)، النهاية:"قال أبو عبيد: هو اسم صقعٍ من الأرض، وهو ما بين حفر أبي موسي الأشعري، إلى أقصى اليمن في الطول، وما بين رمل يبرين إلى منقطع السماوة في العرض. قال الأزهري: سميت جزيرةً لأن بحر فارس وبحر السودان أحاطا بجانبيها، وأحاط بجانبها الشمالي دجلة والفرات".

ص: 303

فلم يفرّق كما ترى بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقته ولم تكسب خيراً، ليعلم أنَّ قوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [البقرة: 25] جمع بين قرينتين، لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى، حتى يفوز صاحبهما ويسعد، وإلا فالشقوة والهلاك (قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) وعيد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فلم يفرق - كما ترى - بين النفس الكافرة إذا آمنت في غير وقت الإيمان، وبين النفس التي آمنت في وقتها، ولم تكسب خيراً)، قال في "الانتصاف":"يروم الاستدلال على أن الكافر والعاصي في الخلود سواء، حيث سوي في الآية بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركانه بعد ظهور الآيات. ولا يتم ذلك، فإن هذا الكلام في البلاغة يلقب باللف. وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً - لم تكن مؤمنة قبل - إيمانها بعد، ولا نفساً - لم تكسب في إيمانها خيراً قبل - ما تكسبه من الخير بعد، ويظهر بذلك أنها لا تخالف مذهب الحق، فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير، وإن نفع الإيمان المتقدم في إسلامه".

وقال ابن الحاجب في "الأمالي": "الإيمان قبل مجيء الآيات نافع، وإن لم يكن عمل صالح غيره. ومعنى الآية: لا ينفع نفساً إيمانها، ولا كسبها، وهو العمل الصالح، لم تكن آمنت قبل الآية، أو كان العمل الصالح لا مع الإيمان قبلها، فاختصر للعلم به".

ص: 304

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((لم تكن) صفة لـ (نفساً)، وإن وقع الفصل، لأن المعنى على التأخير، لأن:(إيمانها) فاعل (لا ينفع)، وكان الواجب: لا ينفع إيمان نفسٍ نفساً لم تكن آمنت من قبل، فلما أوجب الضمير التقديم ليعود إلى النفس، بقيت الصفة في محلها.

وقال صاحب "التقريب": "وقد ثبت أن "من قال: "لا إله إلا الله" دخل الجنة" فلنؤول الآية بأن (أو) بمعنى الواو، كـ"جالس الحسن أو ابن سيرين". أي: إذا انتفيا لم ينفع وجودهما حال ظهور الأشراط، أو لا ينفع نفعاً منجياً من دخول النار، بل من الخلود، أو لا ينفع من لا يؤمن إيمانها، ولا من لم يكسب كسبها، فحذف لدلالة الكلام عليه. أو الإيمان: هو الاعتقاد، والكسب: هو العمل، والقول اللساني عمل وكسب. فالمراد بمن لم يكسب: من لم يتلفظ بالشهادتين، ونقول بشقاوته، أو نقول: ظاهر اللفظ أن عند انتفاء أحد الأمرين من الإيمان والكسب، ينتفي النفع، فلا يجزم بانتفاء النفع إلا بالجزم بانتفاء أحد الأمرين، ولا يجزم بانتفاء أحد الأمرين إلا عند انتفائهما جميعاً. فإذا انتفيا جميعاً فلا نزاع في أنه لا ينفع قطعاً، وأما إذا انتفي أحدهما دون الآخر، فهو محل الاحتمال. فلا يتم الاستدلال".

ص: 305

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال القاضي رحمه الله: " (أو كسبت): عطف على (آمنت). والمعنى: لا ينفع الإيمان حينئذ نفساً غير مقدمةٍ إيمانها، أو مقدمةً إيمانها غير كاسبةٍ في إيمانها خيراً. وهو دليل لمن لم يعتبر الإيمان المجرد عن العمل، وللمعتبر تخصيص هذا الحكم بذاك اليوم. وحمل الترديد على اشتراط النفع بأحد الأمرين، على معنى لا ينفع نفساً خلت عنها إيمانها، والعطف على (لم تكن) بمعنى: لا ينفع نفساً إيمانها الذي أحدثته حينئذ، وإن كسبت فيه خيراً قبل ذلك".

وقال الإمام: "المعنى: أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أو أن التكليف عندها فلم ينفع الإيمان نفساً ما آمنت قبل ذلك، وما كسبت في إيمانها خيراً قبل ذلك".

وقلت - والعلم عند الله -: والذي يقتضيه البلاغة والنظم الفائق، ويستدعيه مقام الحث على الاعتصام بحبل الله المجيد، والقرآن الكريم، والحض على الاهتداء بهديه، بقدر الوسع والإمكان، والاغتنام بالفرصة قبل فوات الأوان، ما عليه كلام ابن الحاجب، وصاحب "الانتصاف" مع تغيير يسير. وبيانه: أنه تعالى لما خاطب المعاندين المكذبين من قوم رسول الله صلي الله عليه وسلم بقوله: (وهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[الأنعام: 155]. وعلل الإنزال بقوله: (أَن تَقُولُوا إنَّمَا أُنزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا)[الأنعام: 156]، وبقوله:(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ)[الأنعام: 157]، إزاحةً للعذر، وإلزاماً للحجة - كر إلى قوله:(فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وهُدًى ورَحْمَةٌ)[الأنعام: 157] تبكيتاً لهم، وتقريراً لما سبق من طلب الاتباع والتقوى.

ص: 306

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعني: أنزلنا هذا الكتاب المبارك الكاشف لكل ريب، والهادي إلى طريقٍ مستقيم، والرحمة من الله للخلق ليجعلوه زاداً لمسيرهم إلى الله، في يومٍ لا ينفع فيه شيء سوى ما قدموه من الإيمان، والعمل الصالح، فجعلوا شكر تلك النعمة الخطيرة الجليلة، أن كذبوا بها، ومنعوا الناس عن الانتفاع بها: فضلوا وأضلوا، (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وصَدَفَ عَنْهَا) [الأنعام: 157].

يعني: ما ينتظر هؤلاء الضالون المضلون بما يفعلون إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا، بنزول الملائكة، أو عقابٍ من الله تعالى يستأصل شأفتهم، كما فعل بالمكذبين من الأمم السالفة، أو يأتي عذاب الآخرة وبأسها، بأن يأتي بعض قوارعها، فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة، فلا ينفعهم شيء قط مما كان ينفعهم من قبل من الإيمان، أو العمل الصالح مع الإيمان.

فكأنه قيل: (يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا) أو كسبها في إيمانها حينئذ، (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمَانِهَا خَيْرًا) من قبل.

ففي الآية لف، لكن حذف إحدى القرنتين بإعانة النشر عليه، كما في قوله تعالى:(ومَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ ويَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا)[النساء: 172] على ما مر بيانه في موضعه.

هذا الذي عناه صاحب "الانتصاف" بقوله: "هذا الكلام يلقب باللف".

ص: 307

وقرئ: أن يأتيهم الملائكة، بالياء والتاء، وقرأ ابن سيرين: لا تنفع، بالتاء، لكون الإيمان مضافاً إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولك: ذهبت بعض أصابعه.

[(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ)].

(فَرَّقُوا دِينَهُمْ) اختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى. وفي الحديث: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية، وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة. وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة» وقيل: (فرّقوا دينهم) فآمنوا ببعض وكفروا ببعض

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن فواضل نعم الله المتكاثرة، وسوابغ آلائه المتتابعة، العثور بعد هذا التقرير - معنى ولفظاً، من غير إفراطٍ وتقتير - على قوله تعالى:(ولَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى ورَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ تَاوِيلَهُ يَوْمَ يَاتِي تَاوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأعراف: 52 - 53]. فوازن معه، لنقف على صنع الملك العلام، ما نقر معه بالتحدث والإلهام، فنقول:(الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)[الأعراف: 43]، ونستعيذ من أن نتلفظ بمثل (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا) [الأعراف: 53].

وظهر منه أن الإيمان المجرد - قبل كشف قوارع الساعة - نافع، وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع، وأما بعدها فلا ينفع شيء قط.

قوله: (افترقت اليهود) الحديث: من رواية عبد الله بن عمرو، عن النبي صلي الله عليه وسلم: "إن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملةً، وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملة، كلهم في النار،

ص: 308

وقرئ: "فارقوا دينهم"، أي: تركوه (وَكانُوا شِيَعاً): فرقاً كل فرقة تشيع إماماً لها، (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي: من السؤال عنهم وعن تفرقهم. وقيل من عقابهم. وقيل: هي منسوخة بآية السيف.

[(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)].

(عَشْرُ أَمْثالِها) على إقامة صفة الجنس المميز مقام الموصوف، تقديره: عشر حسنات أمثالها، وقرئ:"عشر أمثالها"، برفعهما جميعاً على الوصف. وهذا أقل ما وعد من الأضعاف، وقد وعد بالواحد سبع مئة، ووعد ثواباً بغير حساب. ومضاعفة الحسنات فضل، ومكافأة السيئات عدل، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ): لا ينقص من ثوابهم ولا يزاد على عقابهم.

[(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلا ملةً واحدةً. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، أخرجه الترمذي.

قوله: (ومضاعفة الحسنات فضل، ومكافأة السيئات عدل). قال الزجاج: "معنى الآية غامض، لأن المجازاة من الله تعالى على الحسنة بدخول الجنة شيء لا يبلغ وصف مقداره. فإذا قال: (عشر أمثالها)، أو سبعمئة، أو أضعافاً كثيرة، فمعناه أن جزاء الله على الحسنات على التضعيف للمثل الواحد، الذي هو النهاية في التقدير وفي النفوس".

قلت: فعلى هذا لا يتصور في الحسنات إلا الفضل.

ص: 309

(دِيناً) نصب على البدل من محل (إِلى صِراطٍ مستقيمٍ)، لأنّ معناه: هداني صراطاً، بدليل قوله (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [الفتح: 2]، والقيم: فيعل، من قام، كسيدٍ من: ساد، وهو أبلغ من القائم. وقرئ:(قيماً). والقيم: مصدر بمعنى: القيام وصف به. و (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) عطف بيان. و (حَنِيفاً) حال من (إبراهيم).

[(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)].

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) وعبادتي وتقرّبى كله. وقيل: وذبحى. وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)[الكوثر: 2]، وقيل: صلاتي وحجي من مناسك الحج، (وَمَحْيايَ وَمَماتِي): وما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح، (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خالصة لوجهه، (وَبِذلِكَ) من الإخلاص (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) لأن إسلام كل نبيّ متقدّم لإسلام أمّته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: (قيماً)) بكسر القاف وفتح الياء مخففة: الكوفيون، والباقون: بفتح القاف وكسر الياء مشددة.

قوله: (ملة إبراهيم): عطف بيان)، يريد أن الدين القيم هو ملة إبراهيم بعينه.

قال الراغب: "الملة كالدين، وهو اسم لما شرع الله تعالى على لسان الأنبياء عليهم السلام ليتوصلوا به إلى جوار الله تعالى. والفرق بينها وبين الدين: أن الملة لا تضاف إلا للنبي الذي تسند إليه، نحو: (فاتبعوا ملة إبراهيم) [آل عمران: 95] ولا تكاد توجد مضافة إلى الله تعالى ولا إلى آحاد أمة النبي صلي الله عليه وسلم، ولا تستعمل إلا في حملة الشرائع، وأصلها من: أمللت الكتاب".

ص: 310

[(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)].

(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم، والهمزة للإنكار، أي: منكر أن أبغي ربا غيره (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) فكل من دونه مربوب، ليس في الوجود من له الربوبية غيره، كما قال:(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَامُرُونِّي أَعْبُدُ)[الزمر: 64]، (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) جواب عن قولهم:(اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ)[العنكبوت: 12].

[(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)].

(جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) لأن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فحلفت أمّته سائر الأمم. أو جعلهم يخلف بعضهم بعضاً، أو هم خلفاء الله في أرضه، يملكونها ويتصرفون فيها. (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) في الشرف والرزق، (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من نعمة المال والجاه، كيف تشكرون تلك النعمة؟ وكيف يصنع الشريف بالوضيع، والحرّ بالعبد، والغني بالفقير؟ (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) لمن كفر نعمته ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أغير الله أبغي ربا): جواب عن دعائهم له)، لأن كل تقديم إما للاهتمام، أو جواب إنكار، وكذا ما فيه أداة الحصر. ولهذا قال:" (ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا): جواب عن قولهم: (اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا) [العنكبوت: 12] ".

ص: 311

(وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن قام يشكرها. ووصف العقاب بالسرعة، لأن ما هو آت قريب.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملكٍ لهم زجلٌ بالتسبيح والتحميد، فمن قرأ الأنعام صلى الله عليه، واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوماً وليلة» .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن ما هو آتٍ قريب) أي: الموعود سريع الوصول، فإن سرعة العقاب تستدعي سرعة إنجاز الوعيد.

تمت السورة بعون الله وحسن توفيقه، والله أعلم.

* * *

ص: 312

‌سورة الأعراف

مكية، غير ثمان آيات:(واسئلهم عن القرية)[163] إلى: (وإذ نتقنا الجبل)[171]

وهي مائتان وست آيات

[(المص* كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ)].

(كِتابٌ) خبر مبتدأٍ محذوف، أي: هو كتاب. و (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفة له. والمراد بالكتاب: السورة، (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي: شك منه، كقوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) وسمي الشك حرجاً، لأن الشاك ضيق الصدر حرجه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سورة الأعراف

مكية غير ثمان آيات: (واسْئَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ) إلى (وإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ)

وهي مئتان وأربع آيات.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: (لأن الشاك ضيق الصدر)، أي: الحرج لضيق الشك ولازمه، فأطلق الحرج،

ص: 313

كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه. أي: لا تشك في أنه منزلٌ من الله، أو (حرج) من تبليغه، لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم، فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له فأمّته الله ونهاه عن المبالاة بهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأريد الشك، فيكون كناية.

قوله: (أو (حرج) من تبليغه). فعلى هذا "الحرج" في موضعه على ظاهره، والمضاف محذوف. ويمكن أن يكون كناية عن الخوف، لأن الخائف أيضاً غير منشرح الصدر. يشهد للأول:"وكان يضيق صدره من الأداء"، وللثاني:"فأمنه الله".

قال الزجاج: معناه: لا يضق صدرك بالإبلاغ، ولا تخافن، يروى أنه صلي الله عليه وسلم قال:"أخاف أن يثلغوا رأسي".

وقلت: الحديث رواه الإمام أحمد بن حنبل ومسلم، عن عياض المجاشعي، عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:"قال الله تعالى: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرق قريضاً، فقلت: رب إذا يثلغوا رأسي، فيدعوه خبزةً. قال: استخرجهم كما استخرجزك، واغزهم نغزك، وأنفق، فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسةً مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك" الحديث.

ص: 314

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا يغسله الماء": إما عبارة عن أن يكون محفوظاً في الصدور، غير متكل مما في المصاحف، كما جاء في الحديث: "أنا جيلهم في صدورهم"، يؤيده قوله: "تقرؤه نائماً ويقظان". أو عبارة عن ثباته وبقائه، وأنه يغلب ولا يغلب، ويعلو ولا يعلى.

الثلغ: الشدخ.

قال القاضي: "الفاء في (فلا يكن) تحتمل العطف والجواب، فكأنه قيل: إذا أنزل إليك لتنذر به، فلا يحرج صدرك".

وقلت: إن الفاء آذنت بترتيب النهي على كون الكتاب منزلاً - وتقريره على "الشك" - أن يقال: إذا حققت أن الكتاب منزل من عند الله، فلا ينبغي أن تشك فيه، لأن اليقين والشك لا يجتمعان. فالنهي من باب التهييج والإلهاب، ليداوم على اليقين، ويزيد فيه، كقوله تعالى:(فَإن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا)[يونس: 94]، وقوله:(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ)[البقرة: 147].

وعلى نفي الضيق والحرج أن يقال: إن (المص) إما وارد على قرع العصا لمن تحدي بالقرآن وبغرابة نظمه، أو هو تقدمة لدلائل الإعجاز. والمعنى:(المص) هو كتاب منزل من عند الله، بالغ حد الإعجاز، فكن منشرح الصدر، فسيح البال، قوي الجأش، ولا تبال بهم، وأنذرهم به، فإن لك الغلبة والسلطان، وهم مقهورون. وإليه الإشارة بقوله:"ونهاه عن المبالاة بهم". فالنهي من باب التشجيع. هذا هو الوجه معنى ونظماً كما سيجيء.

ص: 315

فإن قلت: بم تعلق قوله (لِتُنْذِرَ)؟ قلت: بـ (أنزل)، أي: أنزل إليك لإنذارك به أو بالنهي، لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم، وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار، لأن صاحب اليقين جسورٌ متوكل على ربه، متكل على عصمته.

فإن قلت: فما محل "ذكرى"؟ قلت: يحتمل الحركات الثلاث. والنصب بإضمار فعلها، كأنه قيل: لتنذر به وتذكر تذكيراً، لأن "الذكرى" اسم بمعنى التذكير، والرفع عطفاً على (كتاب)، أو بأنه خبر مبتدأٍ محذوف. والجر للعطف على محل "أن تنذر"، أي: للإنذار وللذكرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكذلك إذا أيقن): تعليل لتعلق (لتنذر) بالنهي على تأويل الحرج بالشك.

قوله: (متكل على عصمته)، التوكل: إظهار العجز، والاعتماد على الغير.

قوله: (النصب بإضمار فعلها). روي عن المصنف أنه قال: "لم أزعم معطوفاً على محل (لتنذر)، لأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحداً حتى يجوز حذف اللام منه".

قوله: (أو بأنه خبر مبتدأ محذوف). قال الزجاج: "التقدير: هو ذكرى للمؤمنين. كقولك: هو ذكر للمؤمنين". تم كلامه.

فإذا قلت: ما الفرق بينه إذا كان عطفاً على (كتب) وبينه إذا كان خبر مبتدأ محذوف؟

قلت: المعنى على الأول: هو جامع بين كونه كتاباً وكونه ذكرى للمؤمنين أنذر به.

وعلى الثاني: عطف جملةٍ على جملة، أي: هو كتاب منزل من عند الله، لإنذار الكافرين،

ص: 316

فإن قلت: النهي في قوله (فَلا يَكُنْ) متوجه إلى الحرج فما وجهه؟ قلت: هو من قولهم: لا أرينك هاهنا.

[(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ)].

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن والسنة، (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ): من دون الله (أَوْلِياءَ) أي: ولا تتولوا من دونه من شياطين الجن والإنس، فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو ذكرى للمؤمنين، وبشارة لهم، فيكون كل من الوصفين مستقلين بنفسهما، والتركيبان مستبدين برأسهما. وهذا يؤيد الوجه الثاني في تفسير الحرج، فيكون من إرادة التبليغ والتحدي، فتكون الآية على وزان قوله تعالى:(فَاتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) إلى قوله: (فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا ولَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) إلى قوله: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا)[البقرة: 23 - 25] كما سبق تقريره في موضعه.

قوله: (هو من قولهم: لا أرينك هاهنا). أي: هو من الكناية، ظاهره يقتضي أن المتكلم ينهي نفسه عن أن يرى المخاطب هناك، والمراد نهي المخاطب، أي: لا تكن هاهنا حتى لا أراك فيه، فإن كينونتك هاهنا مستلزمة لرؤيتي إياك.

المعنى: أن الحرج لو كان مما ينهي لنهيناه عنك، فانته عنه بترك التعرض له.

قوله: ((اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم) من القرآن والسنة). أمر الله سبحانه وتعالى الأمة بمتابعة جميع ما أنزل إليهم، بعدما نهى حبيبه عن ضيق الصدر، بتبليغ ما أوحي إليه، ليكون أدعى لانشراح الصدر.

ص: 317

ويضلوكم عن دين الله وما أنزل إليكم، وأمركم باتباعه.

وعن الحسن: "يا ابن آدم، أمرت باتباع كتاب الله وسنة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والله ما نزلت آيةٌ إلا وهو يحب أن تعلم فيم نزلت وما معناها؟ ".

وقرأ مالك بن دينار: "ولا تبتغوا"، من الابتغاء، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) [آل عمران: 85].

ويجوز أن يكون الضمير في (مِنْ دُونِهِ) لـ (ما أنزل)، على: ولا تتبعوا من دون دين الله دين أولياء.

(قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الزجاج: " (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم) أي: القرآن، وما أتي عن النبي صلي الله عليه وسلم لأنه مما أنزل عليه، لقوله تعالى: (ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر: 7] ".

قوله: (ما نزلت آية إلا وهو يحب أن تعلم فيم أنزلت وما معناها؟ ). يعن: ما أنزل الله آية إلا لأن تتبع، حتى يعلم معناها، ويعمل بمقتضاها.

روينا عن الدارمي، عن ابن مسعود:"ليس من مؤدبٍ إلا وهو يحب أن يرتى أدبه، وإن أدب الله القرآن".

قوله: ((قليلا ما تذكرون) حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره). تخصيص الذكر بقوله: "تتركون دين الله" يوهم أن هذه الفاصلة متعلقة بالتفسير الثاني: يعني أن الضمير في (من دونه) لما أنزل الله تعالى، لقوله:"ولا تتبعوا من دون دين الله أولياء" لكنها

ص: 318

وقرئ: (تذكرون) بحذف التاء، (ويتذكرون)، بالياء. و (قَلِيلًا): نصب بـ (تذكرون)، أي: تذكرون تذكراً قليلاً. وما مزيدة لتوكيد القلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تذييل على التفسيرين، لأن معنى:(اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ): هو دين الله. وعقب بقوله: (ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ). فيرجع معناه - على تقدير أن يكون الضمير لله أيضاً - إلى دين الله. ويؤيده قوله: "ويضلوكم عن دين الله"، فيكون في قوله:(اتبعوا)، وتوكيده بقوله:(ولا تتبعوا) دلالة على التقريع على توانيهم وتقاعدهم عن متابعة دين الله إلى إتباع غيره، فجيء بقوله:(قليلاً ما تذكرون) توكيداً لذلك. ثم أتبعه قوله: (وكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا)[الأعراف: 4] يعني: إن كان مواعظ الله لا تنجع فيكم، فاعتبروا بأحوال الأمم السالفة، الذين ظلموا أنبياءهم، وانظروا كم أهلكنا؟ فعلى هذا قوله: و (اتبعوا) شروع في تفصيل ما أجمل في قوله: (لتنذر) أي: كيف أنذرهم؟ فقيل: قل اتبعوا وانظروا.

قوله: (و "يتذكرون" بالياء): ابن عامر، والباقون: بغير ياء.

قال الزجاج: " (تذكرون): أصله: تتذكرون، حذفت التاء الثانية لا الأولي، فإنها تدل على الاستقبال، فلا يجوز حذفها. والثانية إنما دخلت على معنى: فعلت الشيء على تمهل، نحو: تفهمت الشيء وتعلمت، أي: أخذت الشيء على مهل، وعلى معنى إظهار الشيء والحقيقة غيره، نحو: تقيست، أي: أظهرت أني قيسي. والمحذوف التاء الثانية، لأن الباقي في الكلمة من تشديد العين يدل على المعنى، ولو حذفت الأولى لبطل معنى الاستقبال".

قوله: (و (ما) مزيدة لتوكيد القلة) فيؤذن بالعدم، كقوله:

ص: 319

[(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَاسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ)].

(فَجاءَها): فجاء أهلها (بَياتاً) مصدرٌ واقعٌ موقع الحال، بمعنى بائتين. يقال: بات بياتاً حسناً، وبيتةً حسنة، وقوله:(هُمْ قائِلُونَ) حالٌ معطوفةٌ على (بياتا)، كأنه قيل: فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين.

فإن قلت: هل يقدر حذف المضاف الذي هو "الأهل" قبل (قَرْيَةٍ) أو قبل الضمير في (أَهْلَكْناها)؟ قلت: إنما يقدّر المضاف للحاجة ولا حاجة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قليل التشكي

البيت.

وقال القاضي: "أو: زماناً قليلاً تذكرون. وإن جعلت (ما) مصدريةً لم ينتصب (قليلاً) بـ (تذكرون) "

وقال أبو البقاء: "لا يجوز أن تكون (ما) مصدرية، لأن (قليلاً) لا يبقى له ناصب".

ص: 320

فإنّ القرية تهلك كما يهلك أهلها، وإنما قدّرناه قبل الضمير في (فَجاءَها) لقوله:(أَوْ هُمْ قائِلُونَ).

فإن قلت: لا يقال: جاءني زيدٌ هو فارسٌ، بغير واو، فما بال قوله (هُمْ قائِلُونَ)؟ قلت: قدّر بعض النحويين الواو محذوفة، ورده الزجاج وقال: لو قلت: جاءني زيدٌ راجلاً، أو هو فارس. أو جاءني زيدٌ هو فارسٌ، لم يحتج فيه إلى "واو"، لأن الذكر قد عاد على الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالاً، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فإن القرية تهلك كما يهلك أهلها). يعني: أن الهلاك كما يطلق على الحيوان حقيقة، كذا يطلق على الجماد.

الجوهري: "هلك الشيء يهلك هلاكاً وهلوكاً ومهلكاً وتهلكةً"، قال الله تعالى:(كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ)[القصص: 88].

قوله: (وإنما قدرناه قبل الضمير في (فجآءها)) يعني: إنما يقدر المضاف ضرورة طلب الراجع، ولولاه لكان لنا مندوحة عن التقدير، لصحة إطلاق الهلاك على القرية نفسها.

قال صاحب "الفرائد": "إرادة الحقيقة مانعة من إرادة المجاز، وهو "الأهل" هاهنا. فإن كان المراد من ذكر القرية هنا الأهل بدليل قوله: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) امتنع أن يكون مفهوم القرية مراداً، وأن يكون داخلاً في الإرادة".

والجواب: إرادة الحقيقة والمجاز إنما تلزم إذا أريد بالقرية أهلها ونفسها معاً، وليس بذاك، فإنا نقدر المضاف في الثاني لا في الأول. فعلى هذا توجه الإهلاك إلى الأهل أصالةً، ليستلزم إهلاك القرية على الكناية. فكأنه قيل: وكم من قريةٍ أردنا إهلاكها، فأهلكنا أهلها

ص: 321

لاجتماع حرفي عطف، لأنّ واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل، فقولك: جاءني زيدٌ راجلاً أو هو فارس، كلامٌ فصيحٌ واردٌ على حدّه، وأمّا جاءني زيدٌ هو فارسٌ، فخبيث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لتبقى معطلةً خاوية على عروشها، لتكون عبرةً لمن بعدها. فالضمير في (أهلكنها) وفي (فجآءها) راجع إلى "القرية"، وفي "أولهم" راجع إلى الأهل المقدر في (فجآءها).

قال ابن الحاجب: "وفي الضمائر على "القرية" وجهان؛ أحدهما: أنك أقمته مقام المحذوف، فصارت المعاملة معه"، يعني: أن الضمائر الثلاثة راجعة إلى "القرية" تارة باعتبار لفظها، وأخرى باعتبار المحذوف. "وثانيهما: أن يقدر في الثاني حذف المضاف، كما قدر في الأول"، أي: وكم من قريةٍ أهلكنا أهلها، فجاء أهلها (بَاسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ).

قوله: (وأما: "جاءني زيد هو فارس" فخبيث)، قال صاحب "الفرائد": فيه نظر، لأنه يشكل بقوله:(اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)[البقرة: 36]، والجملة حال بدون الواو. وإنما صح ذلك لمكان العائد، وقد حصل به الارتباط المطلوب بالواو.

فعلى هذا لا وجه لما ذكر أن الحال المعطوفة على الحال صحت بدون الواو لاستثقال حرفي العطف، وأن الحال التي لم يعطف عليها لم تصح بدون الواو، فلم يمتنع صحة قولنا:"جاءني زيد هو فارس" - لتحقيق العائد". والجواب أن المصنف قابل قوله: "خبيث" بقوله: "فصيح"، فلا يلزم منه الامتناع، بل عدم الفصاحة.

ص: 322

فإن قلت: فما معنى قوله: (أَهْلَكْناها فَجاءَها بَاسُنا بيتاً)، والإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس؟ قلت: معناه أردنا إهلاكها، كقوله:(إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)[المائدة: 6]،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال صاحب "المفتاح": "الأصل في غير الحال المؤكدة أن يكون وصفاً غير ثابت من الصفات الجارية، وكالجملة الفعلية. وأما الاسمية فالوجه الواو، لأنها دالة على الثبوت، إلا صوراً معدودة".

وأما قوله: تعالى: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) فعلى تأويل متعاديين يعديهما إبليس ويعاديانه، كما قال ابن الحاجب: (معنى قولهم: كلمته فوه إلى في: كلمته مشافهاً. والوجه أنه لما كثر استعماله حتى علم منه معنى المشافهة، من غير نظرٍ إلى التفصيل؛ حتى يفهم ذلك من لا يخطر بباله فاه المتكلم، ولا فاه [غير] المتكلم، ولا مدلول الحال، فصار كالمفردات".

فعلم أن التأويل إنما يصح في جملة يمكن أن ينتزع من طرفي الجملة هيئة تدل على معنى مفرد، ولا كذلك: جاءني زيد هو فارس. فعلى هذا معنى قوله: "حذفت الواو استثقالاً" أن الواو المحذوفة مرادة، لأن الذكر وحده غير رابط، ولولا الاستثقال لم يجز حذفها.

الانتصاف: "الاكتفاء بالضمير في الجملة الاسمية الواقعة حالاً ضعيف، والأفصح دخول الواو، كما اختاره الزمخشري، ولكن في قوله: "إن واو الحال واو عطف" نظر، فإنها امتازت بدخولها على جملة اسميةٍ بعد جملة فعلية. تقول: جاءني زيد وهو راكب. ويقبح ذلك

ص: 323

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في العاطفة، فلامتيازها يصح اجتماعها معها، وإن كان معنى العطف فيها. ولهذا لم يقبح دخولها كما يقبح الجمع بين حرفي عطف، فنقول: سبح الله وأنت راكع، أو: وأنت ساجد. والتحقيق أن المصحح لوقوع الجملة المعطوفة على الحال حالاً [من غير واو] هو العطف المقتضي للمشاركة، واستغني به عن واو الحال، كما تعطف على المقسم به، فتدخله في حكم القسم من غير حرف قسم في مثل:(وَالضُّحَى * واللَّيْلِ)[الضحى: 1 - 2]، ولو قلت في غير التلاوة:"وبالليل" لصح. والحاصل أنه لو جاءت واو الحال مع العاطف لم يكن مستكرهاً، بل مؤكداً، وإن لم تأت بها كان فصيحاً مختصراً".

قال في "الإنصاف": "تنظيره بالقسم فاسد، لأن حرف القسم لا يشارك حرف العطف في معناه، بخلاف واو الحال. والعلة التي علل بها مفقودة في القسم".

وقلت: الجواب عن "الانتصاف" أن قول المصنف: "واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصول" صريح في أن واو الحال غير العاطفة الصرفة. وكذا قوله: "استثقالاً" ليس غير ما قال: "وإن لم تأت بها لكان فصيحاً مختصراً".

وتحقيق ذلك ما قال صاحب "المفتاح": "وحق النوعين - أي: الحال بالإطلاق والحال المؤكدة - ألا يدخلهما الواو، نظراً إلى إعرابهما الذي ليس بتبع، لأن هذه الواو، وإن كنا

ص: 324

وإنما خُصّ هذان الوقتان - وقت البيات ووقت القيلولة- لأنهما وقت الغفلة والدعة. فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع، وقوم لوطٍ أهلكوا بالليل وقت السحر، وقوم شُعيب وقت القليلوة.

[(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَاسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)].

(فَما كانَ دَعْواهُمْ): ما كانوا يدعونه من دينهم وينتحلونه من مذهبهم، إلا اعترافهم ببطلانه وفساده، وقولهم:(إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فيما كنا عليه. ويجوز: فما كان استغاثتهم إلا قولهم هذا، لأنه لا مستغاث من الله بغيره، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نسميها واو الحال - أصلها العطف"، وقال أيضاً: "إن الأصل في الجملة إذا وقعت موقع الحال ألا يدخلها الواو، ولكن النظر إليها من حيث كونها جملة مفيدة مستقلة بفائدة، غير متحدة بالأولى، وغير منقطعةٍ عنها كجهات جامعةٍ بينهما، يبسط العذر في أن يدخلها واو للجمع بينها وبين الأولي. مثله في نحو: قام زيد وقعد [عمرو] ".

قوله: (والدعة)، الجوهري:"الدعة: الخفض، والهاء: عوض من الواو. تقول: ودع الرجل - بالضم - فهو وديع، أي: ساكن، ووادع أيضاً. مثل: حمض فهو حامض".

وإنما خولف بين العبارتين، وبنيت الحال الثانية على تقوي الحكم، والدلالة على قوة أمرهم فيما أسند إليهم، لأن القيلولة أظهر في إرادة الدعة، وخفض العيش، فإنها من دأب المترفين والمتنعمين، دون من اعتاد الكدح والتعب. وفيه إشارة إلى أنهم كانوا أرباب أشر وبطر.

قوله: ((فما كان دعواهم): ما كانوا يدعونه من دينهم). اعلم أن (دعواهم) إما من الدعوى، أو من الدعاء. وعلى الأول: قوله: (إنا كنا ظالمين): كناية عن اعترافهم ببطلان

ص: 325

من قولهم: دعواهم: يا لكعبٍ. ويجوز: فما كان دعواهم ربهم إلا اعترافهم؛ لعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم، وأن لات حين دعاء، فلا يزيدون على ذمّ أنفسهم وتحسرهم على ما كان منهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما كانوا يدعونه، أي: وضعنا الشيء في غير موضعه، وعلى الثاني: الدعاء، إما محمول على الاستغاثة، أي: فما كان استغاثتهم إلا عن أنفسهم، والإقرار بالعجز، فيكون قوله:(إنا كنا ظالمين) كناية عن أنهم رجعوا مما كانوا يستغيثون إليه قبل ذلك، لأنهم علموا حينئذٍ أن لا مستغاث من الله بغيره. وإما هو مجرى على ظاهره. فقوله:(إنا كنا ظالمين) أيضاً كناية عن اعترافهم، لكن بالظلم على أنفسهم، بسبب المعاصي، من قوله:(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)[الأعراف: 23]، وقوله:(فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا)[غافر: 11]. وإليه الإشارة بقوله: "فلا يزيدون على ذم أنفسهم، وتحسرهم على ما كان منهم".

قوله: (دعواهم: يا لكعبٍ). قل: إنما أدخلوا اللام على المستغاث، لأن النداء حينئذٍ اضطراري، نحو: يا لكعب، فلابد من نصب علامةٍ ليتميز من النداء الاختياري، نحو: يا غلام، وعينت اللام للاختصاص، والموضع موضعه.

قوله: (وأن لات حين دعاء)، قال صاحب "المقتبس":"إن التاء إنما أردفت بـ"لا" المشبهة بـ"ليس" لتصير بها مشبهاً بـ"ليس" صورةً، كما لها شبه معنى، فيحسن فيها إضمار اسمها، لأن إضمار الاسم لا يكون في الحروف. والإضمار في "لات" كما في "ليس" ذكره سيبويه. وإنما اختصت بالأحيان لما في دخولها على غيرها من إلباس، لأن "لا" ليست لنفي الحال صريحاً، فتختص بالدخول على الأحيان، بخلاف "ليس" فهي أينما وقعت: لنفي الحال، فلا تختص بالأحيان".

ص: 326

و (دَعْواهُمْ) نصبٌ؛ خبرٌ لـ (كان)، و (أَنْ قالُوا) رفعٌ اسمٌ له، ويجوز العكس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز العكس). أي: يكون (دعواهم) الاسم، و (أن قالوا) الخبر. وفيه إشعار بأن الوجه هو الأول.

قال أبو البقاء: "جعل (أن) مع ما بعدها اسماً أولى، لأنه يشبه المضمر في أن لا يوصف". ولا يعلم الفرق بين الوجهين من أداة الحصر، لأنك سواء جعلت (دعواهم) اسماً أو خبراً لـ (كان) أفاد معنى الدعوى، على هذا القول، لأن التقدير: فما كان دعواهم قولاً من الأقوال إلا هذا القول المخصوص، أو: ما كان دعواهم قولاً من الأقوال إلا هذا، لأنه من قصر المطلق على المقيد. مثاله:"ما كان كلامهم إلا أن قالوا: كيت وكيت".

وإياك أن تأتي بمثال على غير هذا المنوال، فتزل عن الصواب.

نعم، التفاوت فيه من كون الاسم والخبر معرفتين، وفيهما التقديم والتأخير. أما الأول: فإنك إذا قلت: كان زيد أخاك، أو: كان زيداً أخوك، وجدت الفرق، فإن الأول يقال لمن عرف زيداً، لكنه متردد: هل هو أخوه أم لا، والثاني لمن عرف أخاً له، لكنه شاك في أنه زيد أم غيره. فإذا أتيت بالنفي والإثبات، أشرت إلى أن ذلك التردد ارتقى إلى الإنكار، فأنت تقصد ردة إلى الصواب بما أمكن لكون "ما" و"لا" إنما يتلقى بهما من يصر على الإنكار.

ص: 327

[(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ* فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ)].

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ): (أُرْسِلَ) مسندٌ إلى الجار والمجرور، وهو (إِلَيْهِمْ) ومعناه: فلنسألنّ المرسل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا عنه رسلهم، كما قال:(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)[القصص: 65] ويسأل المرسلين عما أجيبوا به، كما قال:(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ)[المائدة: 109].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كذا هاهنا إذا جعلت "الدعوى" اسماً، وقع التردد في القول، أي: الدعوى هي القول ليست غيره، فيتفق معنى هذا مع معنى القصر، فكان توكيداً مثله. وإذا عكست وقع التردد في "الدعوى"، أي: القول هو هذه الدعوى ليس غيرها. وفيه إشكال.

وأما اعتبار التقديم، فإنك إذا جعلت "الدعوى" خبراً، فقد أزلتها عن مقرها، فكان الاهتمام بشأنها، والمقام يقتضيه، لأن المقصود من الإيراد إظهار عجزهم، وإبداء تضرعهم واستغاثتهم. وأما تخصيص القول فتابع، والله أعلم.

قوله: (كما قال: (ويَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ)): دليل على أن قوله: (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ) واقع في الحشر، كما يدل عليه في هذا المقام قوله:(والْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ) الآية [الأعراف: 8]، قوله:(فما كان دعواهم): وارد في الدنيا، لأنه متعقب لقوله:(وكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) الآية: فالفاء في (فَلَنَسْئَلَنَّ) فصيحة، كأنه قيل: فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا في الدنيا إلا أن قالوا: إنا كنا ظالمين، فقطعنا دابرهم، ثم لنحشرنهم فلنسألنهم، فجيء بالجملة القسمية، ووضع (الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ) موضع الضمير، لمزيد التقرير.

ص: 328

(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ): على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم (بِعِلْمٍ): عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عنهم وعما وجد منهم.

فإن قلت: فإذا كان عالماً بذلك وكان يقصه عليهم، فما معنى سؤالهم؟ قلت: معناه التوبيخ والتقريع والتقرير إذا فاهوا به بألسنتهم وشهد عليهم أنبياؤهم.

[(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)].

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) يعني وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها، ورفعه على الابتداء، وخبره:(يَوْمَئِذٍ)، و (الْحَقُّ) صفته، أي: والوزن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم الوزن الحق، أي: العدل. وقرئ: "القسط".

واختلف في كيفية الوزن فقيل: توزن صحف الأعمال بميزانٍ له لسانٌ وكفتان، تنظر إليه الخلائق، تأكيداً للحجة، وإظهاراً للنصفة، وقطعاً للمعارة، كما يسألهم عن أعمالهم فيعترفون بها بألسنتهم، وتشهد بها عليهم أيديهم وأرجلهم وجلودهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكذا الفاء في (فلنقصن)، وذلك أنه لما سأل المرسلين عما أجيبوا به، والمرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم، وكل منهم أجابوا بما له وعليه إجمالاً، فيقص الله تعالى تفصيل ما أقروا به مجملاً بالنقير والقطمير لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وإليه أشار بقوله:(بعلم)، ثم تتميمه بقوله:(ومَا كُنَّا غَائِبِينَ)، فيكون أدخل في التقريع والتوبيخ.

قوله: (إذا فاهوا): متعلق بقوله: "والتقرير". يعني: تكلموا بألسنتهم، فكان تقريراً لاستحقاق الوعيد.

ص: 329

وتشهد عليهم الأنبياء والملائكة والأشهاد، وكما تثبت في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب. وقيل: هي عبارةٌ عن القضاء السويّ والحكم العادل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: هي عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل). قال الإمام: "هذا قول مجاهد، والضحاك، والأعمش. وهو كناية عن العدل، كما يقال في رجل لا قدر له: فلان لا يقيم لفلان وزناً".

وقلت: الأول هو الصحيح، وعليه الاعتقاد، وهو قول ابن عباس. قال:"يؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة، فتوضع في الميزان". ذكره محيي السنة.

والأحاديث الصحيحة متعاضدة له، منها: ما روى أبو داود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكرت النار فبكيت، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:"ما يبكيك؟ " قالت: ذكرت النار فبكيت. فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحداً: عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل" الحديث.

روى صاحب "جامع الأصول"، عن رزين العبدري، عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكرٍ رضي الله عنه حين حضرته الوفاة، دعا عمر رضي الله عنه فقال: "إني مستخلفك على

ص: 330

0

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. يا عمر، إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الحق، وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه غلا الحق أن يكون ثقيلاً. يا عمر، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الباطل، وخفته عليهم، وحق لميزانٍ لا يوضع فيه سوى الباطل أن يكون خفيفاً".

وقال الزجاج: "الأولي أن يتبع ما جاء في الإسناد الصحيح، أنه ميزان له كفتان، من حيث ينقل عن أهل الثقة".

وقال القاضي: "والجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزانٍ له لسان وكفتان، ينظر إليه الخلائق إظهاراً للمعدلة، وقطعاً للمعذرة".

ويؤيده ما روي أن "الرجل يؤتى به إلى الميزان، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مثل مد البصر، فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة".

وقلت: الحديث أخرجه الترمذي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، مع تغيير يسير.

البطاقة: رقيعة صغيرة، وهي ما يجعل في طي الثوب يكتب فيها ثمنه.

ص: 331

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) جمع "ميزانٍ" أو "موزون"، أي: فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزنٌ وقدر، وهي الحسنات. أو ما توزن به حسناتهم. وعن الحسن:"وحقّ لميزانٍ توضع فيه الحسنات أن يثقل، وحق لميزانٍ توضع فيه السيئات أن يخف".

(بِآياتِنا يَظْلِمُونَ): يُكذبون بها ظلماً، كقوله:(فَظَلَمُوا بِها)[الإسراء: 59].

[(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)].

(مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ): جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو ما توزن به حسناتهم) عطف على قوله: "أعماله الموزونة". هذا على أن يراد بقوله: (موازينه) جمع: ميزان.

فقوله: "فمن رجحت

" إلى آخره نشر لقوله: "جمع ميزان أو موزون" من غير ترتيب، بناءً على تفسير الميزان، على الخلاف.

قال القاضي: " (فمن ثقلت موازينه) أي: حسناته، أو ما يوزن به حسناته فهو جمع "موزون" أو "ميزان"، وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات، وتعدد الوزن".

قوله: (يكذبون بها ظلما). يريد أن قوله: (يظلمون) ضمن معنى التكذيب، فعدي بالباء.

قوله: (أو ملكناكم فيها): يعني: (مكناكم في الأرض)، إما: مجرى على ظاهره، أي:"جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً"، أو: هو كناية عن: "أقدرناكم على التصرف فيها".

ص: 332

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قلت: قد ذكر في "الأنعام" عند قوله: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ)[الأنعام: 6]، أن كلتا العبارتين كناية، وخالف هاهنا. قلت: الخطاب في "الأنعام" مع أهل مكة، كما صرح به، وتضمين الكلام معنى الاعتبار بالأمم السالفة، فالمناسب سلوك طريق الكناية، ليكون أبلغ. يعني: أن أهل مكة لم يكونوا متمكنين في الأرض تمكنهم من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال، والاستظهار بالدنيا، وهاهنا الخطاب عام، والكلام متضمن للامتنان، لدلالة قوله:(ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)[الأعراف: 11]، فالمناسب الإجراء على الظاهر، لأن جميع بني آدم لم يكونوا متصرفين في الأرض، مملكين، وكذلك عطف قوله:(وجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ) عليه، وأخر المصنف الكناية عن التصريح.

واعلم أن هذا نوع آخر من أنواع الإنذار. فإن قوله: (ولَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) جملة قسمية معطوفة على جملة قوله: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ)[الأعراف: 3] على تقدير: قل اتبعوا، وقل: والله لقد مكناكم، ولهذا ذيله بقوله:(قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ)، كما ذيل ذلك بقوله:(قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)، فإن الشكر مناسب لتمكنهم في البلاد، والتصرف فيها، كما أن التذكر موافق للتمييز بين إتباع دين الحق ودين الباطل.

ص: 333

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) جمع معيشة، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. وما يتوصل به إلى ذلك. والوجه تصريح الياء، وعن ابن عامرٍ: أنه همز، على التشبيه بـ"صحائف".

[(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)].

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) يعني خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر، ثم صورناه بعد ذلك، ألا ترى إلى قوله:(ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) الآية؟

(مِنَ السَّاجِدِينَ): ممن سجد لآدم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والوجه تصريح الياء، وعن ابن عامرٍ أنه همز؛ تشبيهاً بالصحائف).

قال الزجاج: "قرأ نافع بالهمز، وأجمع البصريون على أن الهمز لا يكون إلا إذا كانت الياء زائدة، نحو: صحيفة وصحائف، لأنها من "الصحف"، وأما "معايش" فمن "العيش"، فالياء أصلية، وإنما همزت الزائدة، لأنها لا حظ لها في الحركة، وقد قربت من آخر الكلمة، ولزمتها الحركة، فأوجبوا الهمز. وحكوا في "مصائب" الهمز في جمع "مصيبة"، وأجمعوا على أن الاختيار "مصاوب" ولا أعرف وجه "معائش" إلا أن هذه الياء أسكنت في "معيشة"، فصارت على لفظ "صحيفة". فحمل الجمع على ذلك".

قوله: (ألا ترى إلى قوله: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ)؟ ). يعني: لا يجوز أن يحمل قوله: (خلقناكم) على "خلقناكم يا بني آدم" بل على خلقنا أباكم، لأن التعقيب بقوله: (ثم قلنا" يأباه.

ص: 334

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الزجاج: "زعم الأخفش أن (ثم) هاهنا بمعنى الواو، يعني في قوله: (ثم قلنا)، لأنه يستدعي أن يعقب القول خلق المخاطبين بعد زمانٍ متراخٍ، وليس كذلك، والواو ليست للترتيب، فـ (ثم) بمعنى الواو". ثم قال الزجاج: "وهذا خطأ كبير لا يجيزه الخليل وسيبويه، ولا من يوثق بعلمه. وإنما المعنى إنا بدأنا خلق آدم من تراب، ثم صورناه. أي: هذا أصل خلقكم، ثم بعد الفراغ من أصلكم أمرت الملائكة بالسجود".

ولخصه القاضي حيث قال: "ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه، ثم قلنا للملائكة: اسجدوا، وقيل: (ثم قلنا) لتأخير الإخبار".

وقال السجاوندي: "المراد بهما آدم. يقال: ضربناكم وهزمناكم. كقوله تعالى: (وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ورَفَعْنَا فَوْْقَكُمُ الطُّورَ) [البقرة: 63]. وفائدته الامتنان على المخاطبين".

وقلت: يمكن أن تحمل (ثم) على التراخي في الرتبة، لأن مقام الامتنان يقتضي أن يقال: إن كون أبيهم مسجوداً للملائكة، أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم. وفيه تلويح إلى شرف العلم، وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة، ومن ثم عقب في "البقرة" الأمر بالسجود مسألة التحدي بالعلم.

ص: 335

[(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)].

(أَلَّا تَسْجُدَ)«لا» في "أَلَّا تَسْجُدَ" صلةٌ، بدليل قوله:(ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)[ص: 75]. ومثلها: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ)[الحديد: 29] بمعنى ليعلم.

فإن قلت: ما فائدة زيادتها؟ قلت: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك، (إِذْ أَمَرْتُكَ) لان أمري لك بالسجود أوجبه عليك إيجاباً، وأحتمه عليك حتما لا بدّ لك منه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (توكيد معنى الفعل): قال صاحب "المفتاح": "وللتعليق بين الصارف عن فعل الشيء وبين الداعي إلى تركه يحتمل عندي أن يكون (منعك) في قوله علت كلمته: (ما منعك ألا تسجد) مراداً به: ما دعاك إلى أن لا تسجد، وأن تكون "لا" غير صلة قرينة للمجاز". وقال الراغب: "المنع يقال في ضد العطية، وقد منع، وفلان ذو منعة، أي: عزيز ممتنع على من يرومه، وقوله: (مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ) ما حملك، وقيل: ما الذي حملك على ترك ذلك".

قوله: ((إذ أمرتك)، لأن أمري لك بالسجود أوجبه عليك إيجاباً). قال القاضي:"هذا دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور".

ص: 336

فإن قلت: لم سأله عن المانع من السجود، وقد علم ما منعه؟ قلت: للتوبيخ، ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم، وأنه خالف أمر ربه معتقداً أنه غير واجب عليه، لما رأى أنّ سجود الفاضل للمفضول خارجٌ من الصواب.

فإن قلت: كيف يكون قوله: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) جواباً لـ (ما منعك)، وإنما الجواب أن يقول: منعني كذا؟ قلت: قد استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم، وبعلة فضله عليه، وهو أنّ أصله من نارٍ، وأصل آدم من طين، فعلم منه الجواب وزيادة عليه، وهي إنكار للأمر واستبعادٌ أن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله، كأنه يقول: من كان على هذه الصفة كان مستبعداً أن يؤمر بما أُمر به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأنه خالف أمر ربه): عطف تفسيري على قوله: "معاندته وكفره". وقال الزجاج: "كل من خالف الله في أمره، ولم يره واجباً عليه، فهو كافر بالإجماع".

قوله: (كيف يكون [قوله: ] (أنا خير منه) جواباً؟ ): قال الزجاج: "موضع (ما) في قوله تعالى: (ما منعك) رفع. المعنى: أي شيءٍ منعك من السجود؟ والجواب: منعني كذا وكذا. لكن أتى بشيءٍ في معنى الجواب، ولفظه غير جواب، لأن قوله: (أنا خير منه) إنما هو جواب أيكما خير؟ المعنى: منعني من السجود فضلي عليه".

وقلت: فالجواب من الأسلوب الأحمق، كقول نمروذ:(أَنَا أُحْيِي وأُمِيتُ)[البقرة: 258].

قال القاضي: "قد غلط إبليس فيما قال، لأنه رأي الفضل كله باعتبار العنصر، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل، قال:(مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)[ص: 75]، وباعتبار الصورة،

ص: 337

[(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)].

(فَاهْبِطْ مِنْها): من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة، إلى الأرض التي هي مقرّ العاصين المتكبرين من الثقلين (فَما يَكُونُ لَكَ): فما يصح لك (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) وتعصي، (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ): من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه لتكبرك، كما تقول للرجل: قم صاغراً؛ إذا أهنته. وفي ضدّه: قم راشداً، وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: (ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[الحجر: 29]، وباعتبار الغاية وهو ملاكه، (قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ) [البقرة: 33]. وفي الآية دليل على أن الشياطين أجسام كائنة. وفيه أن إبليس بني كلامه على كون الحسن والقبح عقليين".

قوله: (إلى الأرض التي هي مقر العاصين المتكبرين). وفيه أن مكان المتكبر السفل وإن استعلى، ومكان المتواضع العلو وإن سفل، ومن ثم قال:(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ)[الزمر: 60].

وروينا عن الترمذي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكانٍ، يساقون إلى سجنٍ في جهنم يقال له: بولس" الحديث.

ص: 338

وعن عمر رضي الله عنه: من تواضع لله رفع الله حكمته، وقال: انتعش أنعشك الله، ومن تكبر وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض.

[(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)].

فإن قلت: لم أجيب إلى استنظاره، وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم؟ قلت: لما في ذلك من ابتلاء العباد، وفي مخالفته من أعظم الثواب، وحكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي، وما ركب في الأنفس من الشهوات؛ ليمتحن بها عباده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

قوله: (رفع الله حكمته). أي: قدره ومنزلته.

النهاية: "يقال: له عندنا حكمة، أي: قدر".

الأساس: "يقال: لا يقدر على الله من هو أعظم حكمةً منك".

الراغب: "الحكمة من الإنسان: أسفل وجهه. ورفع الحكمة: كناية عن الاعتزاز، لأن من صفة الذليل أن ينتكس، ويضرب بذقنه صدره. وقيل: الحكمة: القدر والمنزلة، من قولهم: لا يقدر على هذا من هو أعظم حكمةً منك".

قوله: (انتعش). أي: ارتفع. يقال: نعشه الله ينعشه: إذا رفعه. وانتعش العاثر: إذا نهض من عثرته. وهو اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه من قول عمر رضي الله عنه، أو هو عطف على "رفع الله"، أي: أراد الله رفعه. قال: "انتعش نعشك الله" أي: رفعك. ولا قول ثمة، كقوله تعالى:(كُن فَيَكُونُ)[البقرة: 117].

قوله: (وهصه الله)، النهاية:"وهصه الله إلى الأرض، أي: رماه رمياً شديداً. والوهص أيضاً: شدة الوطء، وكسر الشيء الرخو".

ص: 339

[(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)].

(فَبِما أَغْوَيْتَنِي): فبسبب إغوائك إياي: (لأقعدنّ لهم)، وهو تكليفه إياه ما وقع به في الغي، ولم يثبت كما ثبتت الملائكة، مع كونهم أفضل منه ومن آدم أنفسا ومناصب.

وعن الأصم: أمرتني بالسجود فحملني الأنف على معصيتك. والمعنى: فبسبب وقوعي في الغىّ لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي، كما فسدت بسببهم.

فإن قلت: بم تعلقت الباء، فإن تعلقها بـ (لأقعدنّ) يصدّ عنه لام القسم، لا تقول: والله بزيد لأمرّنّ؟ قلت: تعلقت بفعل القسم المحذوف، تقديره: فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنّ، أي: فبسبب إغوائك أقسم.

ويجوز أن تكون الباء للقسم، أي: فأقسم بإغوائك لأقعدنّ، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهو تكليفه إياه): بيان للسبب، و (ما وقع به في الغي): ثاني مفعولي التكليف. يعني: إغواء الله هو تكليفه إياه ما وقع به في الغي من أمره بالسجود. وفيه ميل إلى مذهبه.

قال الزجاج: "في (أغويتني) قولان، أحدهما: فبما أضللتني. وثانيهما: فبما دعوتني إلى شيء غويت به".

قوله: (فحملني الأنف)، النهاية:"الأنف: الحمية، من الغيرة والغضب".

قوله: (لا تقول: والله بزيدٍ لأمرن)، لأن معمول المقسم عليه لا يتقدم عليه.

ص: 340

وإنما أقسم بالإغواء، لأنه كان تكليفاً، والتكليف من أحسن أفعال الله، لكونه تعريضاً لسعادة الأبد، فكان جديراً بأن يقسم به.

ومن تكاذيب المجبرة ما حكوه عن طاووس: "أنه كان في المسجد الحرام، فجاء رجلٌ من كبار الفقهاء يرمى بالقدر، فجلس إليه فقال له طاووس: تقوم أو تقام؟ فقام الرجل، فقيل له: أتقول هذا لرجلٍ فقيه؟ فقال: إبليس أفقه منه، قال: (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَني) [الحجر: 39]، وهذا يقول: أنا أغوى نفسي"، وما ظنك بقوم بلغ من تهالكهم على إضافة القبائح إلى الله سبحانه، أن لفقوا الأكاذيب على الرسول والصحابة والتابعين.

وقيل: (ما) للاستفهام، كأنه قيل: بأي: شيءٍ أغويتني، ثم ابتدئ:(لأقعدنّ)، وإثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على «ما» الاستفهامية: قليلٌ شاذ.

وأصل الغيّ: الفساد. ومنه: غوى الفصيل؛ إذا بشم، والبشم: فسادٌ في المعدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإنما أقسم بالإغواء؛ لأنه كان تكليفاً) خلاصته: أنه إقسام بفعل الله. وللفقهاء فيه خلاف ذكرناه في سورة "الحجر".

قوله: (يرمي بالقدر)، أي: بالاعتزال. وقوله هذا حكاية عن لسان أهل السنة، لأنه لا يسمى أصحابه قدرية، فكيف وقد سمى أهل السنة بالقدرية في "حم" السجدة؟ ويعيد هذا في قوله:(وإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً)[الأعراف: 28].

قوله: (وأصل الغي: الفساد)، الراغب: "الغي: جهل من اعتقادٍ فاسد، وذلك أن الجهل قد يكون من كون الإنسان غير معتقدٍ اعتقاداً لا صالحاً ولا فاسداً، وقد يكون من اعتقاد شيءٍ فاسد. وهذا الثاني يقال له: الغي. قال تعالى: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى)[النجم: 2]. وقال تعالى: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًا)[مريم: 59] أي: أثر الغي. وقوله: (وعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)[طه: 121] أي: خاب. قال:

ص: 341

(لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ): لأعترضن لهم على طريق الإسلام، كما يعترض العدوّ على الطريق ليقطعه على السابلة وانتصابه على الظرف، كقوله:

كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

وقيل: فسد عيشه. من: غوى الفصيل".

قوله: (وانتصابه على الظرف): وقيل: فيه إشكال، لأن حكم مؤقت المكان كحكم غير الظروف، فلا يحذف "في" والبيت شاذ. وعذره ما قاله الزجاج:"لأقعدن لهم على صراطك المستقيم. ولا اختلاف بين النحويين في أن "على" محذوفه. ومثله قوله: ضرب زيد الظهر والبطن، أي: على الظهر والبطن".

قوله: (كما عسل الطريق الثعلب)

أوله:

لدن بهز الكف يعسل متنه

فيه كما عسل

ص: 342

وشبهه الزجاج بقولهم: ضرب زيد الظهر والبطن، أي: على الظهر والبطن.

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة؛ قعد له بطريق الإسلام فقال له:

تدع دين آبائك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له: تدع ديارك وتتغرب، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك، فعصاه فقاتل».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يصف الرمح.

لدن، أي: لين. عسل الذئب، يعسل عسلاً وعسلاناً، أي: أسرع. وعسل الرمح: اهتز واضطرب. والضمير في "فيه" للهز أو الكف.

قوله: (إن الشيطان قعد لابن آدم باطرقه). الحديث: أخرجه النسائي عن سبرة بن معبد، مع زيادة ونقصان.

النهاية: "الطريق يذكر ويؤنث، فجمعه على التذكير: أطرقة، كرغيفٍ وأرغفة، وعلى التأنيث: أطرق، كيمين وأيمن".

ص: 343

(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ) من الجهات الأربع التي يأتي منها العدوّ في الغالب. وهذا مثلٌ لوسوسته إليهم وتسويله ما أمكنه وقدر عليه، كقوله:(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ)[الإسراء: 64].

فإن قلت: كيف قيل: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) بحرف الابتداء، (وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) بحرف المجاوزة؟ قلت: المفعول فيه عدّي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به، فكما اختلفت حروف التعدية في ذاك اختلفت في هذا، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس، وإنما يفتش عن صحة موقعها فقط، فلما سمعناهم يقولون: جلس عن يمينه وعلى يمينه، وعن شماله وعلى شماله، قلنا: معنى «على يمينه» أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مثل لوسوسته إليهم)، أي: استعمال، أي: استعمال هذه الألفاظ على التمثيل والتخييل، وهو أن يؤخذ الزبدة والخلاصة من المجموع، وهي تسويله ما أمكنه، وقدر عليه، من غير تصور الجهات.

قال القاضي: "من أي وجه يمكنه، كإتيان العدو من الجهات الأربع، ولذلك لم يقل: من فوقهم ومن تحت أرجلهم".

قوله: (وتسويله)، النهاية:"التسويل: تحسين الشيء وتزيينه إلى الإنسان ليفعله أو يقوله".

قوله: ((واستزز)). استفزه الخوف: استخفه، وأفززته، أي: أزعجته.

قوله: (وكانت لغةً تؤخذ)، "لغة": خبر "كان"، و"تؤخذ": صفته.

ص: 344

ومعنى «عن يمينه» : أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين منحرفاً عنه غير ملاصقٍ له، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره، كما ذكرنا في «تعال» .

ونحوه من المفعول به قولهم: "رميت عن القوس"، و"على القوس"، و"من القول"؛ لأنّ السهم يبعد عنها، ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي، ويبتدئ الرمي منها. كذلك قالوا:"جلس بين يديه وخلفه" بمعنى: في؛ لأنهما ظرفان للفعل، و"من بين يديه ومن خلفه"، لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، كما تقول: جئته من الليل، تريد بعض الليل.

وعن شقيق: "ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربع مراصد: من بين يديّ، ومن خلفي، وعن يمينى، وعن شمالي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقيل: "لغة": تمييز، و"تؤخذ" خبر "كان"، واسمه ضمير "الحروف".

وزبدة الجواب: أن اختصاص كل من المفعول فيه والمفعول به بما اختص به من الحرف، إنما كان بوضع الواضع، فلا يسأل عن علة ذلك، وإنما يسأل عن حسن موقع كل واحدٍ عند الاستعمال. كأن الجواب من الأسلوب الحكيم.

قوله: (كما ذكرنا في "تعال") أي: "تعال" من الخاص الذي صار عاماً. وقد مر في قوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ)[الأنعام: 151].

قوله: (على كبدها)، الجوهري:"كبد القوس: مقبضها. يقال: ضع السهم على كبد القوس، وهي: ما بين طرفي مقبضها ومجرى السهم منها".

ص: 345

أمّا من بين يدي فيقول: لا تخف، فإن الله غفور رحيم، فأقرأ:(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً)[طه: 82]، وأمّا من خلفي، فيخوّفني الضيعة على مخلفي فأقرأ:(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها)[هود: 6]، وأمّا من قبل يميني، فيأتيني من قبل الثناء، فأقرأ:(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الأعراف: 128]، وأمّا من قبل شمالي، فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ:(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ)[سبأ: 54] ".

(وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) قاله تظنيناً، بدليل قوله:(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ)[سبأ: 20]، وقيل: سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى لهم.

[(قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أما من بين يدي). تقديره: أما إذا جلس بين يدي فيقول.

قوله: (فأقرأ: (وإنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ)): أي: أدفع هذه الوسوسة بهذه الآية، لأنها تدل على أن الغفران منوط بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، فمن ليس له هذا المجموع كيف يأمن؟ !

قوله: (على مخلفي) بفتح اللام وتشديدها، وتشديد الياء، على الجمع المضاف. مخلف الرجل: من يخلف بعده، كالأولاد.

النهاية: "الخلف - بالتحريك والسكون -: من يجيء من بعد من مضى، إلا أنه بالتحريك في الخير، وبالتسكين في الشر. يقال: خلف صدق، وخلف سوء".

قوله: (قاله تظنيناً، بدليل قوله: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ))، قال القاضي:"لما رأى فيهم مبدأ الشر متعدداً، ومبدأ الخير واحداً، قاله".

ص: 346

(مَذْؤُماً) من: ذأمه: إذا ذمّه. وقرأ الزهري: "مذوماً" بالتخفيف، مثل مسولٍ في مسؤول. واللام في (لَمَنْ تَبِعَكَ) موطئة للقسم، (ولَأَمْلَأَنَّ) جوابه، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط، (مِنْكُمْ): منك ومنهم، نغلب ضمير المخاطب، كما في قوله:(إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)[الأعراف: 138].

وروى عصمة عن عاصم: "لمن تبعك" بكسر اللام، بمعنى: لمن تبعك منهم هذا الوعيد، وهو قوله:(لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ)، على أن (لَأَمْلَأَنَّ) في محل الابتداء، و"لَمَنْ تَبِعَكَ" خبره.

[(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ* فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ* وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ* فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ)].

(وَيا آدَمُ) وقلنا: يا آدم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (منك ومنهم): تفسير لقوله: (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ).

قوله: (كما في قوله: (إنكم قوم تجهلون)) الأصل: "يجهلون" بالياء التحتاني، على الغيبة، لأنه صفة "قوم"، فغلب المخاطبين.

قوله: ((ويا آدم): وقلنا: يا آدم)، إنما قدر:"قلنا"، ليؤذن بأن هذه القصة بتمامها معطوفة على مثلها، وهي قوله:(قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا)[الأعراف: 11] لا على (قال)، وهو أقرب. وأنها كرامة أخرى، منحت أبا البشر، امتناناً على المخاطبين من أولاده، ومن ثم

ص: 347

وقرئ: "هذي الشجرة"، والأصل الياء، والهاء بدلٌ منها، ويقال: وسوس، إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره، ومنه: وسوس الحليّ، وهو فعلٌ غير متعدّ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أتى بصيغة التعظيم. وأن قوله: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ)[الأعراف: 12] إلى آخره، وارد على الاستطراد لحديث الأمر بالسجدة، وامتناع إبليس منه، كما أن قوله:(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا)[الأعراف: 28] مستطرد لذكر بدو السوآت. وقوله: (وإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً)[الأعراف: 28] استطراد في استطراد، لأنه حكاية عن فعل قبيحٍ كانوا يفعلونه، ويزعمون أنه نسك من المناسك، وهو طوافهم بالبيت عراةً، فشنع عليهم بتسميته فاحشة.

والدليل على كونه متسطرداً: العود إلى حديث الاستطراد الأول، بقوله:(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31]. وفائدة تأخيره عنه الأمر بالتستر، وأكل المباحات، بعد تقبيح تلك الفعلة، والتزني بزي المتقين، ولذلك صرح بذكر (كل مسجدٍ).

ويؤيده قول الإمام: "إن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون الطعام في الموسم إلا القليل، ويحترزون عن الدسم تعظيماً، فأنزل الله تعالى: (وكُلُوا واشْرَبُوا) [الأعراف: 31] بياناً لفساد تلك الطريقة".

وسبيل هذا الاستطراد سبيل قوله تعالى: (ولَيْسَ البِرُّ بِأَن تَاتُوا البُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ولَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى واتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)[البقرة: 189] سواء بسواء.

قوله: (وقرئ: "هذي الشجرة")، قال ابن جني:"قرأها ابن محيصن. والهاء في "ذه": بدل من الياء في "ذي". ويدل على أن الياء الأصل قولهم في المذكر: "ذا"، فالألف: بدل

ص: 348

كولولت المرأة ووعوع الذئب، ورجلٌ موسوسٌ - بكسر الواو - ولا يقال: موسوسٌ -بالفتح-، ولكن: موسوس له، وموسوسٌ إليه، وهو الذي تلقى إليه الوسوسة. ومعنى "وسوس له": فعل الوسوسة لأجله، و"وسوس إليه": ألقاها إليه.

(لِيُبْدِىَ) جعل ذلك غرضاً له ليسوءهما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من الياء، فإن أصله عندنا "ذي" مثل "حي" فحذفت الياء الثانية، فبقي "ذي". قال أبو علي: فكرهوا أن يشبه آخره آخر "كي" و"أي" فأبدلوها ألفاً. والذي يدل على أن "ذا": "ذي"، وأنه ثلاثي، جواز تحقيره في قولك:"ذيا"، ولو كان ثنائياً لما جاز تحقيره، كما لا تحقر "ما" و "من"".

قوله: ((ليبدي) جعل ذلك غرضاً له)، قال القاضي:"وقيل: اللام للعاقبة أو للغرض، على أنه أراد أيضاً بوسوته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما، ولذلك عبر عنهما بالسوآة".

وقيل: إن اللام، على هذا، غير واقعةٍ موقعها، لأن شرائط الإضمار موجودة، وهو كونه: مصدراً، وفعلاً لفاعل الفعل المعلل، ومقارناً في الوجود.

وأجيب: أن عند فقدان الشرط ينعدم المشروط، ولا يجب عند وجوده، كما أن الوضوء شرط للصلاة، ولا يجب من وجوده وجود الصلاة.

والدليل على أنه شرط قوله في "المفصل": "وفيه ثلاث شرائط. واللام هاهنا للتأكيد، ليؤذن أن هذا الغرض كان مهتماً بشأنه في الوسوسة".

ص: 349

إذا رأيا ما يؤثران ستره وأن لا يطلع عليه مكشوفاً. وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور، وأنه لم يزل مستهجناً في الطباع مستقبحاً في العقول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال صاحب "المفتاح": "والأصل فيه اللام، فإذا لم يجتمع ما ذكر، التزم الأصل. ويعلم من المفهوم أنه إذا اجتمع لا يلتزم الحذف".

قوله: (ما يؤثران ستره)، "ما": موصولة، وهي عبارة عن العورة، أي: الذي يختار أن ستره، لأن كل أحد يجتهد في ستر عورته، و"أن لا يطلع" معطوف على "ستره" على سبيل التفسير.

قوله: (وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور): أي: في جعل الإبداء غرضاً للشيطان في الوسوسة، دليل على أنه المطلوب الأولي منه، وأنه مهتم بشأنه، لكونه مستتبعاً للإخراج من الجنة، وموجباً للفضيحة وشماتة العدو، ثم في إيقاع الصلة والموصولة، وهي (ما ورى عنهما)، موضع العورة، على نحو قوله تعالى:(ورَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا)[يوسف: 23]، إشعار بزيادة التقبيح، وفي جعل (سوءاتهما) بياناً له إيذان بمزيد الشناعة والقبح، على منوال قوله تعالى:(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ)[البقرة: 187]. وإنما كان مستقبحاً في الطباع والعقول، لأنه لم يكن في الجنة تكليف سوى المنع من قربان الشجرة، وإنما علم قبحة من جهة العقل.

قال في "الانتصاف": "فيه ميل إلى الاعتزال، وأن العقل يقبح ويحسن. وهذا اللفظ لو

ص: 350

فإن قلت: ما للواو المضمومة في (وورى) لم تقلب همزةً كما قلت في "أويصل"؟ قلت: لأن الثانية مدّة كألف "وارى". وقد جاء في قراءة عبد الله "أوري"، بالقلب.

(إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ): إلا كراهة أن تكونا ملكين. وفيه دليلٌ على أن الملكية بالمنظر الأعلى، وأن البشرية تلمح مرتبتها كـ"لا" و"لا". وقرئ:"ملكين" بكسر اللام، كقوله:(وَمُلْكٍ لا يَبْلى)[طه: 120]. (مِنَ الْخالِدِينَ): من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين. وقرئ: "من سوأتهما" بالتوحيد، "وسوّاتهما" بالواو المشدّدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صدر من السني، كان تأويله أن العقل أدرك المعنى الذي لأجله حسن المشرع الستر، وقبح الكشف".

قوله: (في "أو يصل") وهو تصغير: واصل، والأصل: وويصل.

قوله: (لأن الثانية مدة). أي: إنما تقلب إذا كانت الثانية متحركة. شبه الواو الثانية بالألف لسكونها في أن لا أثر لها. أما "أو يصل": فحركتها أخرجتها من ذلك الحكم.

قوله: (في قراءة عبد الله: "أوري" بالقلب). قال الزجاج: " (ورى): يجوز فيه "أوري"، لأن الواو مضمومة، فإن شئت أبدلت منها همزة، إلا أن القراءة المشهورة تتبع، لأنها موافقة لخط المصحف".

قوله: (تلمح مرتبتها كـ"لا" و"لا"): أي: ينظر إلى مرتبتها العليا لمحاً، كـ:"لا لمح ولا لمح"، والثاني تأكيد.

قال المطرزي: "وفي الأمثال: أسرع من "ها" و "لا"، وأقل من لفظ (لا) ". وأنشد:

يكون نزول الركب فيها كلا ولا

غشاشاً ولا يدنون رحلاً على رحل

ص: 351

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: ما كان بطؤهم إلا مدةً يسيرة، كالتفوه بـ"لا" و"لا". غشاشاً، بالكسر، أي: على عجلةٍ.

قال القاضي: "واستدل على فضل الملائكة على الأنبياء بهذه الآية. وجوابه: أنه كان من المعلوم أن الحقائق لا تنقلب، وإنما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما أيضاً ما للملائكة من الكمالات الفطرية، والاستغناء عن الأطعمة والأشربة. وذلك لا يدل على فضلهم مطلقاً".

وقلت: بل كان رغبتهما في الأكل لأجل القسم، لا لإخباره المتقدم، لما علم أنه لا يحتمل الصدق، كما قال المصنف:"فنزلهما إلى الأكل من الشجرة بما غرهما به من القسم بالله"، وقوله بعيد هذا:"بلي وعزتك، ولكن ما ظننت أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً"، لا لأن يصيرا ملكين بالأكل، لأنه على خلاف ما عليه الملك، ولا لطلب المرتبة، لأن كونه مسجوداً للملائكة كفاه دلالةً على أنه أفضل منهم، ومن ثم امتنع إبليس من السجود. نعم، قد يمكن أن تكون رغبته لأجل الخلود، لقوله:(هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لاَّ يَبْلَى)[طه: 120].

وقال الإمام: "المحققون أنكروا حصول التصديق، وقالوا: إنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة، لا أنهما صدقاه علماً أو ظناً كما نجد من أنفسنا عند الشهوة نقدم على الفعل إذا زينه الغير، وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال".

وقال صاحب "الانتصاف": "لا يلزم من اعتقاد إبليس ذلك أن يكون الأمر على ما اعتقده، ووسوس به، فقد علل إبليس منع الشجرة بأنه كراهة أن يخلدا أو يكونا ملكين، وهو كاذب فيه، فلم يقرر الله قوله، بل أشار إلى كذبه بقوله: (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ)، فلعل تفضيله الملائكة من الغرور".

ص: 352

(وَقاسَمَهُما): وأقسم لهما (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ).

فإن قلت: المقاسمة: أن تقسم لصاحبك ويقسم لك، تقول: قاسمت فلاناً: حالفته، وتقاسما: تحالفا. ومنه قوله تعالى: (تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ)[النمل: 49]؟ . قلت: كأنه قال لهما: أقسم لكما إني لمن الناصحين، وقالا له: أتقسم بالله إنك لمن الناصحين، فجعل ذلك مقاسمةً بينهم. أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها، أو أُخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة، لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كأنه قال لهما: أقسم لكما إني لمن الناصحين. وقالا له: أتقسم بالله إنك لمن الناصحين؟ )، جعل تقريرهما بقسم إبليس بمنزلة قسمهما، فإن الهمزة في:"أتقسم بالله" للتقرير.

قال صاحب "الانتصاف": "فيكون في الكلام لف، لأن آدم وحواء لا يقسمان بلفظ المتكلم، بل بلفظ الخطاب".

وقلت: كلام المصنف إلى التغليب أقرب.

قوله: (أو أقسم لهما بالنصيحة، وأقسما له بقبولها)، الانتصاف:"إنما يتم هذا لو لم يذكر المقسم عليه، أما إذا ذكره، فلا يتم إلا بأن يسمى قبول النصح نصحاً، للمقابلة، كما قرئ: (ووعدنا موسى) [الأعراف: 142]، جعل التزامه بالوعد وحضوره: وعداً، وكلامه من أوله إلى آخره مدخول، لأن الكلام لما دل على القسم من الطرفين، فيجب تقدير المقسم والمقسم عليه بغير المذكور".

ص: 353

(فَدَلَّاهُما): فنزّلهما إلى الأكل من الشجرة، (بِغُرُورٍ): بما غرهما به من القسم بالله. وعن قتادة: وإنما يخدع المؤمن بالله. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا رأى من عبده طاعةً وحسن صلاة أعتقه، فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق، فقيل له: إنهم يخدعونك، فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له.

(فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ): وجدا طعمها آخذين في الأكل منها. وقيل: الشجرة هي السنبلة. وقيل: شجرة الكرم، (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أي: تهافت عنهما اللباس، فظهرت لهما عوراتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر. وعن عائشة رضي الله عنها:"ما رأيت منه ولا رأى مني". وعن سعيد بن جبير: "كان لباسهما من جنس الأظفار". وعن وهب: "كان لباسهما نوراً يحول بينهما وبين النظر".

ويقال: طفق بفعل كذا، بمعنى: جعل يفعل كذا. وقرأ أبو السمال: "وطفقا" بالفتح (يَخْصِفانِ) ورقة فوق ورقةٍ على عوراتهما ليستترا بها، كما تخصف النعل، بأن تجعل طرقةً على طرقة وتوثق بالسيور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((فدلاهما): فنزلهما)، روى الإمام عن الأزهري:"أن الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر، ليأخذ الماء، فلا يجد فيها ماء، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه. فيقال: دلاه: إذا أطعمه، أو بمعنى: جرأهما، من الدال والدالة، أي: الجرأة".

السجاوندي: " (فدلاهما): حطهما عن درجتهما، وأجرأهما. والدالة: الجرأة.

قوله: (بأن تجعل طرقةً على طرقة)، الجوهري:"الطرقة: مثل العرقة والصف".

الأساس: "وضع الأشياء طرقةً طرقةً وطريقةً طريقة، أي: وضع بعضها فوق بعض".

قوله: (وتوثق بالسيور)، الجوهري:"السير: ما يقد من الجلد. والجمع: السيور".

ص: 354

وقرأ الحسن: "يخصفان" بكسر الخاء وتشديد الصاد، وأصله يختصفان. وقرأ الزهري:"يخصفان"، من أخصف، وهو منقولٌ من خصف، أي: يخصفان أنفسهما، وقرئ:"يخصفان"، من: خصف بالتشديد. (مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قيل: كان ورق التين، (أَلَمْ أَنْهَكُما) عتابٌ من الله تعالى وتوبيخٌ وتنبيه على الخطأ، حيث لم يتحذرا ما حذرهما الله من عداوة إبليس. وروي: أنه قال لآدم: ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحةٌ عن هذه الشجرة؟ فقال: بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أنّ أحداً من خلقك يحلف بك كاذباً. قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدّا. فأهبط وعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث، فحرث وسقى، وحصد وداس وذرى وطحن وعجن وخبز.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وأصله: يختصفان)، قال ابن جني:"آثر إدغام التاء في الصاد، فأسكنها، والخاء قبلها ساكنة، فكسرها لالتقاء الساكنين، فصار "يخصفان"".

قوله: (وهو منقول من "خصف")، قال أبو البقاء:" (يخصفان) ": ماضيه "خصف"، وهو متعد إلى مفعول واحد، والمفعول: شيئاً من ورق الجنة. وقرئ بضم الياء وكسر الصاد مخففاً، وماضيه "أخصف"، وبالهمزة يتعدى إلى اثنين. والتقدير: يخصفان أنفسهما".

قوله: (حصد وداس وذرى وعجن)، يقال: ذرت الريح التراب. ومنه ذرى الناس الحنطة. اختصر في الكلام، لأن بين التذرية والعجن أموراً كثيرة.

ص: 355

[(قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)].

وسميا ذنبهما وإن كان صغيراً مغفوراً ظلماً لأنفسهما، وقالا:(لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) على عادة الأولياء والصالحين في استعظامهم الصغير من السيئات، واستصغارهم العظيم من الحسنات.

[(قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ* قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ)].

(اهْبِطُوا) الخطاب لآدم وحواء وإبليس، و (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) في موضع الحال، أي: متعادين؛ يعاديهما إبليس ويعاديانه، (مُسْتَقَرٌّ) استقرار، أو موضع استقرار، (وَمَتاعٌ): وانتفاعٌ بعيشٍ (إِلى حِينٍ): إلى انقضاء آجالكم. وعن ثابتٍ البناني: لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة، فجعلت حواء تدور حولهم، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وسميا ذنبهما) إلى قوله: (ظلماً) أتى بالواو ليدل على معطوف عليه، فإنه تعالى لما وبخهما بقوله:(أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وأَقُل لَّكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) استكانا إلى الله، واعترفا بالتقصير، وقالا:(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا)، وسميا ذنبهما ظلماً، هضماً لأنفسهما، على عادة الأنبياء.

قال الإمام: "كان ذلك قبل النبوة، لأنه بعد النبوة لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة".

وقيل: إن ذلك صدر منه سهواً، لقوله تعالى:(فَنَسِيَ ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)[طه: 115]، وعليه ظاهر كلام المصنف. وقيل: عن قصد، لأن قوله:(مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ)، إلى قوله:(وقَاسَمَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) صدر عن إبليس حال إقدامه على الذنب.

ص: 356

فقال لها: خلي ملائكة ربي، فإنما أصابني الذي أصابني فيك، فلما توفي غسلته الملائكة بماءٍ وسدرٍ وتراً، وحنطته وكفنته في وترٍ من الثياب، وحفروا له ولحدوا، ودفنوه بسرنديب بأرض الهند، وقالوا لبنيه: هذه سنتكم بعده.

[(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أصابني فيك): أي لأجلك وسببك.

الجوهري: "ربما استعمل "في" بمعنى الباء. قال زيد الخيل:

ويركب يوم الروع فيها فوارس

بصيرون في طعن الكلى والأباهر

أي: بطعن الكلى والأباهر".

لعله أراد ما رواه الإمام في سورة "البقرة": "رأيت في بعض التفاسير أن حواء سقته في الجنة خمراً، فسكر، فتناول الشجرة". ويرده قوله: (لا فِيهَا غَوْلٌ)[الصافات: 47].

قوله: (حنطته)، النهاية:"الحنوط: ما يخلط من الطيب لأكفان الموتى".

ص: 357

جعل ما في الأرض منزلاً من السماء، لأنه قضي ثم وكتب، ومنه (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر: 6]، والريش: لباس الزينة، استعير من ريش الطير، لأنه لباسه وزينته، أي: أنزلنا عليكم لباسين: لباساً يواري سوآتكم، ولباساً يزينكم، لأن الزينة غرضٌ صحيح، كما قال:(لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً)[النحل: 8]، (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) [النحل: 6]. وقرأ عثمان رضي الله عنه: "ورياشاً" جمع ريش، كشعبٍ وشعاب.

(وَلِباسُ التَّقْوى): ولباس الورع والخشية من الله تعالى، وارتفاعه على الابتداء، وخبره: إمّا الجملة التي هي (ذلِكَ خَيْرٌ)، كأنه قيل: ولباس التقوى هو خير، لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر، وإمّا المفرد الذي هو (خيرٌ)، و (ذلك) صفةٌ للمبتدأ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن الزينة غرض صحيح). يعني إنما عطف (وريشاً) على (لباساً)، ليؤذن بأن الزينة أيضاً غرض صحيح، كقوله تعالى:(والْخَيْلَ والْبِغَالَ والْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وزِينَةً)[النحل: 8]. وكما أن ستر العورة مأمور به، كذلك أخذ الزينة مأمور به. قال تعالى:(خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31].

قوله: (فيما يرجع إلى عود الذكر)، قال الزجاج:" (ذلك) بمنزلة "هو": أي: لباس التقوى هو خير، لأن أسماء الإشارة تقرب فيما يعود من الذكر من المضمر".

قوله: (و (ذلك): صفة للمبتدأ)، قال نور الدين الحكيم:"الوصف بـ"ذلك" غير سديد على الظاهر، لأن حق الموصوف أن يكون أخص، و"ذلك" أخص من (ولباس التقوى) وقد صرحوا بأن عامهم هذا جائز. والمضاف إلى المعرف باللام أحط درجةً من المعرف باللام".

ص: 358

كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير. ولا تحلو الإشارة من أن يراد بها تعظيم لباس التقوى، أو أن تكون إشارةً إلى اللباس المواري للسوأة، لأنّ مواراة السوأة من التقوى، تفضيلاً له على لباس الزينة.

وقيل: "لباس التقوى" خبر مبتدأ محذوف، أي: وهو لباس التقوى، ثم قيل:(ذلك خيرٌ). وفي قراءة عبد الله وأبيّ: "ولباس التقوى خيرٌ"، وقيل: المراد بلباس التقوى: ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها مما يتقى به في الحروب. وقرئ: "ولباس التقوى" بالنصب عطفاً على (لباساً وريشاً).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أبو البقاء: "يجوز ذلك على تأويل المذكور أو المشار إليه".

وقال صاحب "الكشف": "كأنه قيل: المشار إليه خير، كما تقول: زيد هذا قائم".

قوله: (تعظيم لباس التقوى)، لأن المشار إليه قريب، و"ذلك" موضوع للبعيد، كقوله:(الم (1) ذَلِكَ الكِتَابُ) [البقرة: 1 - 2].

قوله: (أو أن تكون إشارةً إلى اللباس المواري): عطف على مجموع قوله: "وارتفاعه" إلى آخره، من حيث المعنى، أي: يجوز أن يكون (ذلك) إشارة إلى (ولباس التقوى) على الوجهين المذكورين، أو أن يكون إشارة إلى اللباس المواري، ويكون إما صفة والخبر: (خير"، أو الجملة خبر. وصح لأن اللباس المواري عين لباس التقوى. وإليه الإشارة بقوله: "لأن مواراة السوأة من التقوى".

قوله: (تفضيلاً له): مفعول له. والفعل المعلل معنى قوله: "أن تكون إشارة" أي: أشير إلى اللباس المواري تفضيلاً له على لباس الزينة.

ص: 359

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) الدالة على فضله ورحمته على عباده، يعني إنزال اللباس، (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيعرفوا عظيم النعمة فيه.

وهذه الآية واردةٌ على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوآت وخصف الورق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإظهاراً بأنّ التستر بابٌ عظيمٌ من أبواب التقوى.

[(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)].

(لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ): لا يمتحننكم بأن لا تدخلوا الجنة، كما محن أبويكم بأنّ أخرجهما منها (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) حال، أي: أخرجهما نازعاً لباسهما،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد) يعني: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ) جاءت تابعةً لحديث آدم والشيطان، وإظهار عداوته له، والتحذير عن متابعته، فجرى فيه حديث كشف العورة وقبحه، فاستطرد حديث ستر العورة وحسنه، حتى أنكر على من أعرض عنه، وقال بتحريمه، الدال عليه قوله:(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ) الآية [الأعراف: 32]. ثم عاد إلى بيان الزجر عن متابعة الشيطان بقوله: (يَا بَنِي آدَمَ إمَّا يَاتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ) الآيات [الأعراف: 35].

قوله: (كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها)، يريد أن قوله:(كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم) وضع موضع مصدر (يفتنتكم)، وضعاً للسبب موضع المسبب، أي: أوقعه في المحن والبلاء بسبب الإخراج.

ص: 360

بأن كان سبباً في أن نزع عنهما، (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ) تعليل للنهي، وتحذير من فتنته، بأنه بمنزلة العدوّ المداجي يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون.

وعن مالك بن دينار: إنّ عدواً يراك ولا تراه، لشديد المؤنة إلا من عصم الله.

(وَقَبِيلُهُ): وجنوده من الشياطين، وفيه دليل بين أن الجنّ لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدّعي رؤيتهم زورٌ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (العدو المداجي)، الجوهري:"المداجاة: المداراة. يقال: داجيته، أي: داريته، كأنك ساترته العداوة".

قوله: (إلا من عصم الله). يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً، أي: لا يخلص من مؤنته وكيده، إلا من عصمه الله. ويمكن أن يكون منقطعاً، أي: لكن من عصمه الله خفيف المؤنة.

قوله: (وأن زعم من يدعي رؤيتهم زور ومخرقة)، هذا يناقض ما رواه في "الأحقاف"، عن عبد الله بن مسعود، في قصة الجن، وفيها:"غشيته - أي: رسول الله صلي الله عليه وسلم - أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه، إلى قوله صلي الله عليه وسلم: "هل رأيت شيئاً؟ " قلت: نعم، رجالاً سوداً، مستثفري ثيابٍ بيض، فقال: "أولئك جن نصيبين".

وأورده الإمام أحمد في "مسنده".

ص: 361

ومخرقة. (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي: خلينا بينهم وبينهم، لم نكفهم عنهم حتى تولوهم .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والحق أن الآية واردة في التحذير منهم ومن مكائدهم، والخطاب عام، ويمكن أن يمكن الله بعض البشر على رؤيتهم. وقد ورد في "الصحاح" أحاديث في ذلك؛ منها: ما رواه البخاري، عن أبي هريرة: "وكلني رسول الله صلي الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ، فجعل يحثو

" إلى أن ساق الحديث إلى قوله صلي الله عليه وسلم: "تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ " قلت: لا، قال: "ذلك شيطان".

قوله: (مخرقة)، الأساس:"خرق الكذب واخترقه وتخرقه: افتراه"، والمخرقة: الكذب.

قوله: ((إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)، أي: خلينا بينهم وبينهم، لم نكفهم عنهم حتى تولوهم). جعل "الجعل" تخليةً، بناءً على مذهبه.

قال الزجاج: "جعل: على ضروب منها: جعلت بعض الشيء فوق بعض، أي: عملته وهيأته. ومنها: جعل زيد فلاناً عاقلاً، أي: سماه عاقلاً. ومنها: بمعنى: أخذ وطفق".

وما في الآية على الأول، أي: أنهم عوقبوا بأن سلطت عليهم الشياطين، تزيدهم في غيهم، كقوله تعالى:(أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًا)[مريم: 83] أي: تحملهم على المعاصي حملاً شديداً.

ص: 362

وأطاعوهم فيما سئلوا لهم من الكفر والمعاصي، وهذا تحذير آخر أبلغ من الأول.

فإن قلت: علام عطف (وقبيله)؟ قلت: على الضمير في (يراكم) المؤكد بـ (هو)، والضمير في (إنه) للشأن والحديث، وقرأ اليزيدي:"وَقَبِيلُهُ" بالنصب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهذا تحذير آخر أبلغ من الأول)؛ لأن فيه التسلط والإطاعة والتسويل، لقوله:"تولوهم وأطاعوهم".

وقلت: ليس بتحذيرٍ آخر، إذ لو كان لوجب العطف عليه، بل هو تعليل للتعليل، ولذلك فصل بياناً للموجب. فإن تعالى لما حذر بني آدم من فتنة الشيطان، ونهاهم عنها نهياً بليغاً، اتجه لهم أن يسألوا: لم هذا التحذير والنهي البليغ؟ فقيل: لأنه بمنزلة العدو المداجي يراكم ولا ترونه. ثم قيل: كيف تمكن هذا التمكن؟ ومن أين تسنى له ذلك؟ فقيل: لأنا جعلناه متولياً على أوليائه، ومسلطاً عليهم، كما قال:(واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ والأَوْلادِ)[الإسراء: 64].

وعليه كلام الزجاج، كما مر آنفاً.

وقال الإمام: "احتج أصحابنا بهذا النص على أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان عليهم حتى أضلهم وأغواهم".

قوله: (على الضمير في (يرياكم) المؤكد بـ"هو")، قال المصنف:"فإن قيل: لم امتنع العطف على الضمير المنفصل؟ قلت: لأن العاطف يجعل ما بعده شريكاً لما قبله من معمول الفعل، والذي هو معمول الفعل "هو" المستكن دون البارز، فوجب العطف عليه".

قالوا: لعل هذا النقل خطأ، لأن القول بالانسحاب في التوابع هو المختار عنده وعند ابن الحاجب.

ص: 363

وفيه وجهان: أن يعطفه على اسم "إن"، وأن تكون الواو بمعنى "مع"، وإذا عُطف على اسم "إن" وهو الضمير في (أنه)، كان راجعاً إلى إبليس.

[(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَامُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)].

الفاحشة: ما تبالغ في قبحه من الذنوب، أي: إذا فعلوها اعتذروا بأن آباءهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم، وبأنّ الله تعالى أمرهم بأن يفعلوها، وكلاهما باطلٌ من العذر، لأن أحدهما تقليد، والتقليد ليس بطريق العلم. والثاني: افتراء على الله وإلحادٌ في صفاته، كانوا يقولون: لو كره الله منا ما نفعله لنقلنا عنه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: إنما لم يحسن هاهنا، لأن اعتبار الفرع مع وجود الأصل بعيد، لأن استجلاب الثاني لتصحيح العطف عليه، فلا تنقلب الوسيلة أصلاً.

قوله: (وإذا عطف على اسم "إن" وهو الضمير في (إنه) كان راجعاً إلى إبليس)، لأن هذا العطف يأبى أن يكون الضمير للشأن، بخلاف الرفع والعطف على الضمير في (يراكم) فإنه غير مانع، وإنما جعل الضمير للشأن، وإن جاز أن يكون للشيطان، لأن مقام التفخيم يقتضيه، لأن قوله:(إنه يراكم) تعليل للنهي، وتحذير من فتنة الشيطان، كأنه قيل: لا يفتننكم الشيطان، لأن الشأن والأمر كيت وكيت.

وعلى النصب لا يبقي لضمير المرفوع المؤكد مزيد فائدة.

ص: 364

وعن الحسن: إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرةٌ يحملون ذنوبهم على الله. وتصديقه قول الله تعالى: (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَامُرُ بِالْفَحْشاءِ)، لأنّ فعل القبيح مستحيل عليه لعدم الداعي ووجود الصارف، فكيف يأمر بفعله؟ !

(أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) إنكارٌ لإضافتهم القبيح إليه وشهادةٌ على أن مبنى قولهم على الجهل المفرط.

وقيل: المراد بالفاحشة: طوافهم بالبيت عراةً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هم قدرية مجبرة يحملون ذنبهم على الله تعالى)، هذه فرية على الحسن، فإن القدرية من يثبت خالقاً غير الله. ووجه المناسبة بين هذا الاسم والمسمى يجيء في (حم) السجدة، على وجه يلزم طائرهم في عنقهم.

قوله: (لأن فعل القبيح مستحيل عليه، لعدم الداعي، ووجود الصارف)، قال القاضي:"إن الله لا يأمر بالفحشاء، لأن عادته جرت على الأمر بمحاسن الأفعال، والحث على مكارم الخصال، ولا دلالة فيه على أن قبح الفعل - بمعنى ترتب الذم عليه آجلاً - عقلي".

قوله: (وقيل: المراد بالفاحشة: طوافهم بالبيت عراةً)، هذا قول ابن عباس ومجاهد. كذا في "معالم التنزيل". ويساعد عليه السياق والسباق. أما السياق فإن قوله:(يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا) يدل على وجه التشبيه في قوله: (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ)[الأعراف: 27] أي: لا تتصفوا بصفةٍ يوقعكم الشيطان بسببها في الفتنة، وهي: العري

ص: 365

[(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)].

(بِالْقِسْطِ): بالعدل وبما قام في النفوس أنه مستقيم حسن عند كل مميز. وقيل: بالتوحيد، (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ): وقل: أقيموا وجوهكم، أي: اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في الطواف، فتحرموا دخول الجنة، كما حرمها على أبويكم، حين أخرجهما من الجنة، ونزع عنهما لباسهما، بسبب وسوسته.

وأما السباق فقوله: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31]. فعلى هذا: المراد بقولهم: (واللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا): نحن متدينون بالطواف عراةً، وهو شرع شرعه الله لنا.

قوله: (وبما قام في النفوس أنه مستقيم)، "أنه": فاعل "قام"، والضمير المنصوب عائد إلى "ما"، أي: بما قام في النفوس استقامته وحسنه.

قوله: (وقل: أقيموا وجوهكم)، يريد: أن (وأقيموا) عطف على (أمر ربي بالقسط) على تقدير العامل، لا الانسحاب، لئلا يلزم عطف الإنشائي على الإخباري.

وقال أبو البقاء: "في (وأقيموا) وجهان: أحدهما: هو معطوف على موضع "القسط"، أي: أمر ربي، فقال: "أقسطوا وأقيموا". وثانيهما: في الكلام حذف، أي: فأقبلوا وأقيموا".

ص: 366

(عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ): في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود وهو الصلاة (وَادْعُوهُ): واعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي: الطاعة، مبتغين بها وجه الله خالصاً، (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ): كما أنشأكم ابتداءً يعيدكم، احتجّ عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق، والمعنى: أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة.

[((فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)].

(فَرِيقاً هَدى) وهم الذين أسلموا، أي: وفقهم للإيمان (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) أي: كلمة الضلالة، وعلم الله أنهم يضلون ولا يهتدون. وانتصاب قوله:(وَفَرِيقاً) بفعل مضمرٍ يفسره ما بعده، كأنه قيل: وخذل فريقاً حق عليهم الضلالة، (إِنَّهُمُ): إنّ الفريق الذي حقّ عليهم الضلالة (اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ) أي: تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به، وهذا دليلٌ على أن علم الله لا أثر له في ضلالهم، وأنهم هم الضالون باختيارهم وتوليهم الشياطين دون الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (في كل وقت سجود): إشارة إلى أن قوله: (مسجدٍ) مصدر ميمي والوقت مقدر، أو اسم مكانٍ كني به عن الصلاة. وإليه الإشارة بقوله:"وهو الصلاة".

قوله: (وهذا دليل على أن علم الله لا أثر له في ضلالهم)، وجه الاستدلال أن قوله:(إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ) جملة استثنافية على سبيل التعليل، كأنه قيل: لم حق عليهم الضلالة؟ أي: لم ثبت في علم الله أنهم يضلون ولا يهتدون؟ فأجيب: لأنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله.

فيكون علمه تعالى تابعاً لضلالتهم وتوليهم الشياطين؛ فلا يكون مؤثراً فيها.

وقلت: إذا أجرى قوله تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) على ما يقتضيه النظم، وورد فيه

ص: 367

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآثار من السلف الصالح، نظر: هل يستقيم دليله أم لا؟ كما روى محيي السنة عن ابن عباس: "إن الله بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً كما قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ) [التغابن: 2] ثم يعيدهم يوم القيامة على ما خلقهم: مؤمناً وكافراً"، وقال سعيد بن جبير:"كما كتب عليكم تكونون". وقال محمد بن كعب: "من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إليها، وإن عمل بأعمال أهل السعادة، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل الشقاوة".

ويؤيده ما روينا عن الترمذي، عن عمرو بن العاص، قال: خرج علينا رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال:"أتدرون ما هذان الكتابان؟ " قلنا: لا يا رسول الله. فقال للذي في يده اليمنى: "هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً". ثم قال للذي في شماله: "هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبداً". فقال أصحابه. ففيم العمل يا رسول الله، إن كان الأمر قد فرغ منه؟ فقال:"سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل. وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل". ثم قال - أي: أشار - رسول الله صلي الله عليه وسلم بيديه، فنبذهما، ثم قال:"فرغ ربكم من العباد: فريق في الجنة، وفريق في السعير".

ص: 368

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والظاهر أن قوله: "هذا كتاب من رب العالمين" صار على طريق التمثيل والتصوير. و"أجمل على آخرهم": من قولهم: أجمل الحساب: إذا تمم، ورد من التفصيل إلى الجملة، فأثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته. و"فرغ ربكم": فذلكة الكلام ونتيجته. قاله القاضي.

وأما النظم، فإنهم لما ادعوا أن الله شرع لهم الطواف عرايا، وأمر به كما سبق، ورد الله عليهم بأنه لا يشرع ولا يأمر بما فيه الفحشاء والمنكر، بل يشرع بما فيه القسط والعدل من التوحيد والإخلاص في العمل، نبههم على دقيقةٍ جليلة، وهي التنبيه على خطأ رأي من لا يفرق بين الأمر والإرادة. يعني: أن الله تعالى وإن أمر بالقسط، لكن لا يهدي إليه إلا من أراده له، وسبق حكمه به، وأبرم قضاءه له، لأنه (كما بدأكم تعودون). ومن قضائه وقدره أن هؤلاء الكفرة اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، وزين لهم سوء عملهم، حيث افتروا على الله الكذب، ومع ذلك يحسبون أنهم مهتدون. ويجوز الاستئناف، كأنه قيل: فإذا ما حكم هؤلاء الضلال؟ فأجيب: (إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ).

وحاصل التقرير أن قوله: (كما بدأكم تعودون) متصل بالأمر على ما سبق، لا على ما قال:"كما أنشأكم ابتداءً يعيدكم"، احتج عليهم في إنكارهم الإعادة؛ لأنه لا مدخل له في هذا المقام.

وأن قوله: (فَرِيقًا هَدَى وفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ): بيان وتفصيل لقوله: (كَمَا بَدَأَكُمْ

ص: 369

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تَعُودُونَ). وموقع هذا البيان مع هذا المبين موقع قوله تعالى: (خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ) مع قوله: (إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ)[آل عمران: 59].

هاهنا نكتة سرية، وهي أنه تعالى قدم في قوله (كما بدأكم تعودون): المشبه به على المشبه، لينبه العاقل على أن قضاء الشؤون لا يخالف القدر والعلم الأزلي ألبتة.

وكما روعي هذه الدقيقة في المفسر، روعيت في التفسير، وزيدت عليها، وهي أن قدم مفعول (هدى) للدلالة على الاختصاص، وأن فريقاً آخر ما أراد الله هدايتهم، وقرر ذلك بأن عطف عليه (وفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ)، وأبرزه في صورة الإضمار على شريطة التفسير، أي: أضل فريقاً حق عليهم الضلالة.

وفيه مع الاختصاص التوكيد، كما قرره صاحب "المفتاح" في كتابه، ليقلع ريبة المخالف من نسخها، ولا يقول: إن علم الله لا أثر له في ضلالهم.

فانظر إلى هذا الطريق الواضح، ثم انظر كيف تعسف أولاً بقوله:"كما أنشأكم ابتداءً يعيدكم"، ثم ثنى بقوله:"وخذل فريقاً حق عليهم الضلالة"، كأنه ما التفت إلى تلك

ص: 370

[(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)].

(خُذُوا زِينَتَكُمْ) أي: ريشكم ولباس زينتكم (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) كلما صليتم أو طفتم، وكانوا يطوفون عراة. وعن طاووس: لم يأمرهم بالحرير والديباج، وإنما كان أحدكم يطوف عرياناً ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت عنه، لأنهم قالوا: لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها: وقيل: تفاؤلاً ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب. وقيل: الزينة المشط. وقيل: الطيب. والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئته للصلاة.

وكان بنو عامرٍ في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتاً، ولا يأكلون دسماً؛ يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: فإنا أحق أن نفعل، فقيل لهم:"كلوا واشربوا ولا تسرفوا". وعن ابن عباسٍ رضي الله عنه: "كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الروايات، ولا إلى هذه الإشارات، مع دقة نظره، حباً لمذهبه، (واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب: 4].

قوله: (وعن ابن عباس: "كل ما شئت") الحديث: رواه البخاري عنه تعليقاً.

المخيلة: الكبر.

النهاية: "اختال، فهو مختال، وفيه خيلاء ومخيلة، والمخيلة: الكبر".

يقال: أخطأ فلان كذا: إذا عدمه.

الأساس: "ومن المجاز: لن يخطئك ما كتب لك. وأخطأ المطر الأرض: لم يصبها. وتخاطأته النبل: تجاوزته".

ص: 371

ويحكى: أنّ الرشيد كان له طبيبٌ نصرانيٌ حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء. والعلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان، فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آيةٍ من كتابه. قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)، فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيءٌ في الطب؟ فقال: قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظٍ يسيرة. قال: وما هي؟ قال: قوله: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواءس، وأعط كل بدن ما عوّدته"، فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ("المعدة بيت الداء")، معنى الحديث ما رواه البيهقي في "شعب الإيمان" وابن الجوزي في "لقط المنافع" عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "المعدة حوض البدن، والعروق إليها واردة، فإذا صحت المعدة، صدرت العروق بالصحة، وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسقم".

شبه صلي الله عليه وسلم المعدة بالحوض، والبدن بالشجرة، والعروق الواردة إليها بعروق الشجر الضاربة إلى الحوض، الجاذبة ماءه إلى الأغصان والأوراق، فمتى كان الماء صافياً، ولم يكن ملحاً أجاجاً، كان سبباً لنضارة الأشجار وغضارتها، وإلا كان سبباً لذبولها وجفافها. فكذا حكم البدن مع المعدة. وذلك أن الله تعالى بلطف حكمته، وبديع فطرته، جعل

ص: 372

[(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)].

(زِينَةَ اللَّهِ) من الثياب وكل ما يتجمل به، (وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) المستلذات من المآكل والمشارب. ومعنى الاستفهام في (من): إنكار تحريم هذه الأشياء. قيل: كانوا إذا أحرموا حرّموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها.

(قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) غير خالصةٍ لهم، لأنّ المشركين شركاؤهم فيها، (خالِصَةً) لهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ) لا يشركهم فيها أحد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحرارة الغريزية في بدن الإنسان مسلطةً عليه، تحلل الرطوبات، تسليط السراج على السليط، وخلق فيه أيضاً قوة جاذبةً ساريةً في مجاري عروق واردةٍ إلى الكبد، طالبة منه ما صفا فيها من الأخلاط التي حصلت فيه، بسبب عروقٍ واردةٍ منه إلى المعدة، جاذبةٍ منها ما انهضم فيها من المشروب والمطعوم، لينطبخ في الكبد مرة أخرى، فيصير بدلاً لما تحلل منه.

هذا معنى الصدور بعد الورود، لأن العروق مجارٍ لما يرد فيها ويصدر منها، كعروق الشجر. فالأسلوب من باب: سال الوادي، وجرى الميزاب.

فإذا كان ما في المعدة غذاءً صالحاً، وانحدر في تلك العروق إلى الكبد يحصل منه الغذاء المحمود للأعضاء، خلفاً لما تحلل منها، وإذا كان فاسداً، إما لكثرة أكلٍ وشرب، أو إدخال

ص: 373

فإن قلت: هلا قيل: هي للذين آمنوا ولغيرهم. قلت: لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأن الكفرة تبعٌ لهم، كقوله تعالى:(وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ)[البقرة: 126].

وقرئ: (خالصةً) بالنصب على الحال، وبالرفع على أنها خبر بعد خبر.

[(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طعام على طعام، أو غير ذلك، كان سبباً لتولد الأخلاط الرديئة، المؤدية للأمراض المردية. وذلك بتقدير العزيز العليم.

وهذا الحديث أجمع وأعرف وأبين مما أورده المصنف.

قوله: (كقوله: (ومن كفر فأمتعه قليلاً))، وذلك أن إبراهيم عليه السلام لما قال:(وارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم)[البقرة: 126] لقنه سبحانه تعالى: (ومن كفر فأمتعه قليلاً).

والاستشهاد على قراءة ابن عباس: "فأمتعه" - بلفظ الأمر - أظهر.

قال السجاوندي: "الذين آمنوا": الأصل في ضيافة الدنيا، لكن التبع أكثر تمتعاً، والمتبوع أقرب تشرفاً. ولهذا قال:(وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا)[الأعراف: 6].

قوله: (وقرئ: (خالصةً) بالنصب)، نافع: بالرفع، والباقون: بالنصب.

ص: 374

(الْفَواحِشَ): ما تفاحش قبحه، أي: تزايد، وقيل هي ما يتعلق بالفروج، (وَالْإِثْمَ) عام لكل ذنب، وقيل: شرب الخمر،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال السجاوندي: " (خالصةً): حال. نحو: "صائداً به غداً". وعامله اللام المحذوفة، أي: في الحياة الدنيا مشتركة، ولهم في الآخرة خالصة".

وقال أبو البقاء: "العامل فيها (للذين) أو (في الحيوة الدنيا) إذا جعلته خبراً أو حالاً. أي: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، في حال خلوصها لهم يوم القيامة. أي: [أن] الزينة يشاركون فيها في الدنيا، وتخلص لهم في الآخرة. ولا يجوز أن يعمل في (خالصةً) (زينة الله)، لأنه قد وصفها بقوله (التي)، والمصدر إذا وصف لا يعمل. ولا قوله: (أخرج) لأجل الفصل الذي بينهما، وهو قوله: (قل). وأجاز أبو علي أن يعمل فيها (حرم)، وهو بعيد، لأجل الفصل أيضاً".

قوله: ((الفواحش): ما تفاحش قبحه، أي: تزايد)، والظاهر أنه أراد أنه تكرار لقوله قبيل هذا:"الفاحشة: ما تبالغ في قبحه من الذنب"، لأن الفواحش: جمع فاحشة.

وأما في التنزيل فإن هذه أعم وأشمل من الأولى، كما تقرر أن المراد بالأولى طوافهم بالبيت عرايا، ومن ثم جمعها، ثم فصلها بقوله:(ما ظهر منها وما بطن)، وعطف عليه "الإثم والبغي والشرط"، لأن هذه الآية كالخاتمة للآيات السابقة، وما يعقبها كالأخذ في مشرعٍ آخر، وتلك مستطردة لحديث قبح كشف العورة، كما سبق.

ص: 375

(وَالْبَغْيَ): الظلم والكبر، أفرده بالذكر كما قال:(وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)[النحل: 90]. (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) فيه تهكم، لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره، (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ): وأن تتقوّلوا عليه وتفتروا الكذب من التحريم وغيره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((والبغي): الظلم والكبر، أفرده بالذكر)، قال القاضي:"أفرده بالذكر للمبالغة وعلق به قوله: (بغير الحق) توكيداً". قلت: هو مثل قولك: أخذته بيدي، ونظرته بعيني.

وقال أبو البقاء: " (بغير الحق): حال من الضمير الذي في المصدر، أي: وأن تبغوا بغير الحق".

وقلت: الحال مؤكدة، كما مر في قوله تعالى:(ثُمَّ ولَّيْتُم مُّدْبِرِينَ)[التوبة: 25].

ذكر "الإثم" في هذه الآية، وهو عام لكل ذنب، ثم عطف عليه "البغي" المقيد، كما ذكر "المنكر" في تلك الآية، وهو عام، وعطف عليه "البغي"، ليؤذن بأن الكبر أفحش الإثم وأقبح المنكر، ولذلك ورد:"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار". أخرجه أبو داود عن أبي هريرة.

فالمتكبر يبغي على ربه وينازعه، ويبغي على الخلق، لأنه ينزل نفسه فوق منزلته، ويرى الناس دونه، فيهضم حقهم، والله أعلم.

قوله: ((ما لم ينزل به سلطاناً): فيه تهكم، لأنه لا يجوز أن ينزل به برهاناً بأن يشرك به غيره)، قال في "الانتصاف": قياسه أن يكون كقوله:

ص: 376

[(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)].

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) وعيدٌ لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم وقرئ: "فإذا جاء آجالهم".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على لاحبٍ لا يهتدى بمناره

وقلت: هذا هو الحق، لأن المعنى: حرم ربي أن تشركوا بالله شركاء لا ثبوت لها، ولا أنزل الله بإشراكها سلطاناً.

بالغ في نفي الشريك، فنفي لازمه، لينتفي ملزومه بالطريق البرهاني.

قوله: (وقرئ: "فإذا جاء آجالهم")، قال ابن جني: "قرأها ابن سيرين. هذا هو

ص: 377

وقال: (ساعَةً) لأنها أقل الأوقات في استعمال الناس. يقول المستعجل لصاحبه: في ساعة، يريد أقصر وقت وأقربه.

[(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)].

(إِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ) هي «إن» الشرطية ضمت إليها «ما» مؤكدةً لمعنى الشرط، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة.

فإن قلت: فما جزاء هذا الشرط؟ قلت: الفاء وما بعده من الشرط والجزاء. والمعنى: فمن اتقى وأصلح منكم، والذين كذبوا منكم. وقرئ:"تأتينكم" بالتاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الظاهر، لأن لكل إنسان أجلاً. وأما إفراده فإنه جنس، أتته الجنسية من قبل المصدر. وحسن الإفراد أيضاً لإضافته إلى الجماعة. وقد علم أن لكل إنسانٍ أجلاً".

قوله: (أقل الأوقات في استعمال الناس)، يريد أن تقدير "الساعة" ليس للتحديد، بل للمثل لأقصر وقت، لأن التأخير والتقديم لا يتصور ثمة.

قال الزجاج: "ولا أقل من ساعة، ولكن ذكرت الساعة، لأنها أقل أسماء الأوقات".

قوله: (ضمت إليها "ما" مؤكدةً)، قال الزجاج:"إنما تلزم "ما" النون، لأن "ما" تدخل مؤكدة، كما تلزم اللام النون في القسم، إذا قلت: والله لتفعلن. فـ"ما" توكيد، كما أن اللام توكيد، فلزمت النون".

ص: 378

[(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)].

(فَمَنْ أَظْلَمُ): فمن أشنع ظلماً ممن تقوّل على الله ما لم يقله، أو كذب ما قاله. (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) أي: مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار، (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا):(حتى) غايةٌ لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له، أي: إلى وقت وفاتهم، وهي «حتى» التي يُبتدأ بعدها الكلام، والكلام هاهنا الجملة الشرطية، وهي (إذا جاءتهم رسلنا .... قالوا)، و (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) حالٌ من الرسل، أي: متوفيهم. والرسل: ملك الموت وأعوانه.

و«ما» وقعت موصولة بـ"أين" في خط المصحف، وكان حقها أن تفصل؛ لأنها موصولةٌ بمعنى: أين الآلهة الذين تدعون (ضَلُّوا عَنَّا): غابوا عنا فلا نراهم ولا ننتفع بهم، اعترافاً منهم بأنهم لم يكونوا على شيءٍ فيما كانوا عليه، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة.

[(قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ* وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقيل: إن "ما" تفيد زيادة عموم، فمعنى قولك:"إما تفعلن": إن اتفق منك وجود الفعل بوجهٍ من الوجوه.

قوله: (أي: متوفيهم)، الياء فيه: ياء الجمع، لا ياء التوفي، أي: متوفين لهم.

قوله: (لم يحمدوه) الضمير راجع إلى "ما" في "فيما كانوا عليه".

ص: 379

(قالَ ادْخُلُوا) أي: يقول الله تعالى يوم القيامة لأولئك الذين قال فيهم: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ)[الأعراف: 37]، وهم كفار العرب، (فِي أُمَمٍ) في موضع الحال، أي: كائنين في جملة أمم، وفي غمارهم مصاحبين لهم، أي: ادخلوا في النار مع أمم، (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) وتقدّم زمانهم زمانكم (لَعَنَتْ أُخْتَها) التي ضلت بالاقتداء بها، (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها) أي: تداركوا، بمعنى: تلاحقوا واجتمعوا في النار، (قالَتْ أُخْراهُمْ) منزلةً وهي الأتباع والسفلة، (لِأُولاهُمْ) منزلةً وهي القادة والرؤوس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفي غمارهم)، الجوهري:"الغمرة: الزحمة من الماء والناس، والجمع: غمار. ودخلت في غمار الناس - يضم ويفتح -، أي: في زحمتهم وكثرتهم".

روي عن المصنف أنه قال: (في) في هذه الآية: مثل "في" في قول عروة بن أذينة:

إن تك عن أحسن الصنيعة مأ

فوكاً ففي آخرين قد أفكوا

أي: في جملة آخرين هم في مثل حالك.

أفكه يأفكه أفكاً، أي: قلبه وصرفه عن الشيء.

يقول: إن لم توفق للإحسان، فأنت في قومٍ قد صرفوا عن الإحسان.

قوله: ((اداركوا فيها) أي: تداركوا)، قال الزجاج:(اداركوا): تداركوا، فأدغمت التاء في الدال. (جميعاً): حال، أي: إذا تداركوا فيها مجتمعين".

ص: 380

ومعنى (لأولاهم): لأجل أولاهم؛ لأن خطابهم مع الله لا معهم، (عَذاباً ضِعْفاً): مضاعفاً، (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) لأنّ كلاً من القادة والأتباع كانوا ضالين مضلين، (وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) قرئ بالياء والتاء.

(فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسفلة: (لِكُلٍّ ضِعْفٌ)، أي: فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا، وأنا متساوون في استحقاق الضعف، (فَذُوقُوا الْعَذابَ) من قول القادة، أو من قول الله لهم جميعاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن كلاً من القادة والأتباع كانوا ضالين مضلين)، هذا في حق القادة ظاهر، وأما الأتباع فلأنهم لما اتخذوهم رؤساء عظماء، ورضوا بذلك كأنهم أضلوهم. كقوله تعالى:(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ)[التوبة: 31].

والأحسن أن يقال: إن ضعف الأتباع لإعراضهم عن الحق الواضح وتولي الرؤساء لينالوا منهم عرض الدنيا إتباعاً للهوى، يدل عليه قوله تعالى:(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الهُدَى بَعْدَ إذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) (سبأ: 32.

قوله: (قرئ: بالياء والتاء): بالياء التحتانية: أبو بكر.

قال الزجاج: "من قرأ بالتاء، فمعناه: لا تعلمون، أيها المخاطبون، ما لكل فريقٍ منكم من العذاب، ومن قرأ بالياء فالمعنى: لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر".

قوله: (عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى): أي: رتبوا كلامهم على كلام الله، على وجه التسهيب، لأن إخبار الله بقوله:(لكل ضعف) سبب لعلمهم بالمساواة، وحملهم على أن يقولوا: وإذا كان كذلك فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا في استحقاق الضعف.

ص: 381

[(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ* لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)].

(لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ): لا يصعد لهم عملٌ صالح؛ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)[فاطر: 10]، (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين: 18]، وقيل: إنّ الجنة في السماء، فالمعنى: لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرّق لهم إليها ليدخلوا الجنة. وقيل: لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين. وقيل: لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون، (ففتحنا أبواب السماء) [القمر: 11].

وقرئ: (لا تفتح) بالتشديد، "ولا يفتح" بالياء. "ولا تفتح" بالتاء والبناء للفاعل ونصب "الأبواب" على أنّ الفعل للآيات، وبالياء على أن الفعل لله عز وجل.

وقرأ ابن عباس: "الجُمَّل" بوزن "القُمَّل"، وسعيد بن جبير:"الجُمل" بوزن النغر. وقرئ: "الجمل" بوزن "القفل". "والجمل" بوزن "النصب". "والجمل" بوزن "الحبل". ومعناها: القلس الغليظ «لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لا تنزل عليهم البركة)، هذا أولى الوجوه، لظهور فائدة قوله:(ولا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ). كأنه قيل: ينسد عليهم طريق خير الدارين، وتنغلق سبيل بركة المنزلين.

قوله: (وقرئ: (لا تفتح) بالتشديد): نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم. وبالتخفيف والتاء: أبو عمرو. والياء: حمزة والكسائي.

قوله: (بوزن النغر)، وهو طير كالعصافير حمر المناقير.

ص: 382

وعن ابن عباسٍ رضي الله عنه: إنّ الله أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل، يعني: أن الحبل مناسب للخيط الذي يُسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه؛ إلا أن قراءة العامّة أوقع لأن سم الابرة مثلٌ في ضيق المسلك. يقال: أضيق من خرت الابرة. وقالوا للدليل الماهر: خِرّيت، لاهتدائه في المضايق المشبهة بأخرات الإبر.

والجمل: مثل في عظم الجرم. قال:

جسم الجمال وأحلام العصافير

إن الرجال ليسوا بجزرٍ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن سم الإبرة مثل في الضيق)، الراغب:"السم والسم: كل ثقب ضيق، كخرت الإبرة، وثقب الأنف. وجمعه: سموم. وقد سمه: أدخله فيه. قال تعالى: (حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ). والسم: القاتل، هو مصدر في معنى الفاعل، فإنه يلطف تأثيره، ويدخل في بواطن البدن. والسموم: الريح الحارة، التي تؤثر تأثير السم".

قوله: (جسم الجمال وأحلام العصافير) أوله لحسان:

لا بأس بالقوم من طولٍ ومن عظم

يقول: لا يعجبنك من القوم عظم أجسامهم، وطول قامتهم، إنما المرء بالحلم والعلم، لا بالشحم واللحم.

قوله: (إن الرجال ليسوا بجزرٍ)، الجزر: جمع الجزور، وهو الإبل.

ص: 383

تراد منهم الأجسام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الميداني: "قاله شقة بن ضمرة، وكان المنذر يسمع قوله، ويعجبه ما يبلغه عنه، فلما رآه قال: "تسمع بالمعيدي خير من أن تراه". فأرسلها مثلاً. قال شقة: أبيت اللعن، وأسعدك إلهك، إن القوم ليسوا بجزر، وإنما الرجل بأصغريه: لسانه وقلبه. فأعجب المنذر كلامه، وسره كل ما رأى منه".

قوله: (تراد منهم الأجسام)، قيل: هو صفة "جزر" وليس بذلك، إذ لا عائد. وهو إما حال من اسم "ليسوا"، أو على تقدير: ليسوا بجزرٍ لأن تراد منهم الأجسام كما يراد منها، ثم حذف "أن" كما في قوله:

أحضر الوغى

ص: 384

فقيل: لا يدخلون الجنة، حتى يكون ما لا يكون أبداً من ولوج هذا الحيوان - الذي لا يلج إلا في بابٍ واسع- في ثقب الإبرة. وعن ابن مسعودٍ أنه سئل عن الجمل، فقال: زوج الناقة، استجهالاً للسائل، وإشارةً إلى أن طلب معنى آخر تكلف.

وقرئ: (فِي سَمِّ) بالحركات الثلاث، وقرأ عبد الله:"في سم المخيط"، والخياط، والمخيط - كالحزام والمحزم-: ما يخاط به، وهو الإبرة، (وَكَذلِكَ): ومثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) ليؤذن أن الإجرام هو السبب الموصل إلى العقاب، وأن كلّ من أجرم عوقب،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والوجه أن يكون خبراً بعد خبر لقوله: "ليسوا".

قوله: (فقيل: لا يدخلون) مترتب على قوله: "لأن سم الإبرة مثل

والجمل مثل" أي: أريد أن يوقع التمثيل فيهما، فقيل: "لا يدخلون" إلى آخره.

قوله: (ليؤذن أن الإجرام هو السبب الموصل إلى العقاب)، يريد أنه من باب ترتب الحكم الذي هو الجزاء بالعقاب، على الوصف المناسب الذي هو الإجرام.

ص: 385

وقد كرره فقال: (وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) لأن كلّ مجرم ظالمٌ لنفسه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقد كرره، فقال: (وكذلك)، يعني: أوقع قوله: (وكذلك نجزى المجرمين) تذييلاً للكلام السابق، لتلك العلة، لأن فائدة التذييل غالباً توكيد المذيل، وإبراز حكمه في صورةٍ كلية. ومن ثم فسره لك بقوله:"وأن كل من أجرم عوقب، لأن كل مجرمٍ ظالم لنفسه".

ونحوه قوله تعالى: (إنَّ المُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)[النمل: 34] أي: الإفساد. أي: كل من ملك دأبه الإفساد، إذا دخل أرض العدو.

وقوله: (لأن كل مجرم ظالم لنفسه) مشعر بأن قوله: (الظالمين) وضع موضع الضمير، وكرر التذييل، ليناط بما لم ينط به أولاً، فآذن أولاً بحرمانهم من دخول الجنة، وثانياً بحرمان خروجهم من النار، لأنهم في بحبوحتها.

قال القاضي: "عبر عنهم بالمجرمين تارة، وبالظالمين أخرى، إشعاراً بأنهم بتكذيبهم

ص: 386

(مِهادٌ): فراشٌ، (غَواشٍ): أغطية. وقرئ: "غواشٌ" بالرفع، كقوله تعالى:(وله الجوار المنشآت)[الرحمن: 24] في قراءة عبد الله.

[(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)].

(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد، مع التعظيم بما هو في الوسع، وهو الإمكان الواسع غير الضيق من الإيمان والعمل الصالح. وقرأ الأعمش:"لا تكلف نفسٌ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآيات، اتصفوا بهذه الأوصاف الذميمة. وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة، والظلم مع التعذيب بالنار، تنبيهاً على أنه أعظم الإجرام".

قوله: (وقرئ: "غواش" بالرفع) جعل عين الفعل معتقباً للإعراب.

قوله: (ما لا يكتنهه وصف الواصف): مقتبس من معنى قوله: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".

وفائدة الاعتراض توكيد الترغيب، وذلك أن في جعل (آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) صلة للموصول، وإيقاع (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ) خبراً له، إشعاراً بأن العمل الصالح سبب لدخول الجنة، وأن اسم الإشارة دل على أن ما بعده جدير بما قبله، بما اكتسب من الخصال الفاضلة. فإذا سمع المكلف هذا الترغيب، نشط لاكتسابها، ثم إذا سمع أن ذلك على السعة لا الضيق، يزيد في نشاطه ورغبته.

ص: 387

[(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)].

من كان في قلبه غلٌّ على أخيه في الدنيا نزع منه، فسلمت قلوبهم وطهرت، ولم يكن بينهم إلا التوادّ والتعاطف، وعن عليّ رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم.

(هَدانا لِهذا) أي: وفقنا لموجب هذا الفوز العظيم، وهو الإيمان والعمل الصالح، (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) اللام لتوكيد النفي، ويعنون: وما كان يستقيم أن تكون مهتدين لولا هداية الله وتوفيقه. وفي مصاحف أهل الشام: "ما كنا لنهتدي" بغير واو، على أنها جملةٌ موضحة للأولى، (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (اللام لتوكيد النفي)، وقد سبق تقريره في آخر سورة "النساء".

قوله: ((لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء، فاهتدينا).

جعل الجملة القسمية علةً لهدايتهم، وهي إلى إثبات صدق وعدهم بالجنة أقرب وأولى، لتبقي الهداية منحةً من الله، وفضلاً منه، لأن الهداية عقلية، ونبهنا عليها، كما قال في "الانتصاف":"هذه الآية تشهد بنفي الهدى عمن لم يهده الله، لا كمن يزعم أنه يخلق لنفسه الهدى، وإن لم يهده الله. فحرف الزمخشري "الهدى" إلى "اللطف"، فانظر أي المعنيين أقرب إلى لفظ: (ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) المقول في دار الجزاء، بعد تحقق الحق، وهم في مقعد صدق".

ص: 388

يقولون ذلك سروراً واغتباطاً بما نالوا، وتلذذاً بالتكلم به لا تقرباً وتعبداً، كما نرى من رزق خيراً في الدنيا يتكلم بنحو ذلك ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقربة.

(أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ)(أن) مخففةٌ من الثقيلة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (واغتباطاً)، النهاية:"يقال: غبطت الرجل أغبطه غبطاً: إذا أنت تمنيت أن يكون لك مثل ما له، وأن يدوم عليه ما هو فيه".

الجوهري: "الغبطة: أن تتمنى مثل حال المغبوط، من غير أن تريد زوالها عنه، وليس بحسد. وتقول منه: غبطته بما نال، أغبطه غبطاً وغبطةً، فاغتبط، هو كقولك: منعته فامتنع، وحبسته فاحتبس.

قال الشاعر:

وبينما المرء في الأحياء مغتبط

إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير

أي: هو مغتبط".

فقوله: "اغتباطاً بحالهم" معناه: المبالغة، وأنهم يغتبطون بحال أنفسهم، وبما نالوا من الكرامة، فهم مغتبطون.

ص: 389

تقديره: ونودوا بأنه تلكم الجنة، (أُورِثْتُمُوها) والضمير ضمير الشأن والحديث، أو تكون بمعنى: أي؛ لأنّ المناداة من القول، كأنه قيل: وقيل لهم أي: تلكم الجنة أورثتموها (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ): بسبب أعمالكم لا بالتفضل، كما تقول المبطلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ونودوا بأنه تلكم الجنة)، ذكر ضمير الشأن، مع أن في الكلام مؤنثاً، كقولهم: وأنه أمة الله ذاهبة.

قال ابن الحاجب: "كأنهم قصدوا بقولهم: يجيء مؤنثاً إذا كان في الكلام مؤنث، إلى المناسبة، وإلا فالمعنى سواء، سواء كان مذكراً أو مؤنثاً".

وقال الزجاج: "إنما قيل: (تلكم) لأنهم وعدوا بها في الدنيا، وجائز أن يكون عاينوها، فقيل لهم من قبل دخولها، إشارة إلى ما يرونه، كما تقول لمن تراه: ذلك الرجل أخوك. ولو قلت: هذا الرجل، لأنه يراك، جاز".

قوله: (بسبب أعمالكم، لا بالتفضل كما تقول المبطلة)، هذا قول باطل، مناقض لما روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة وجابر قالا: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعلمه". قالوا: ولا أنت؟ ! قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته".

ص: 390

[(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ* الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ)].

(أن) في (أَنْ قَدْ وَجَدْنا) يحتمل أن تكون مخففةً من الثقيلة، وأن تكون مفسرةً كالتي سبقت آنفاً، وكذلك (أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، وإنما قالوا لهم ذلك اغتباطاً بحالهم، وشماتةً بأصحاب النار، وزيادةً في غمهم، لتكون حكايته لطفاً لمن سمعها، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي رواية أخرى لأبي هريرة: "لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة". ذكره الحميدي في "الجمع بين الصحيحين".

النهاية: "أن يتغمدني الله برحمته، أي: يلبسنيها، ويسترني بها. مأخوذ من "غمد السيف" وهو: غلافه: "سددوا وقاربوا" أي: اقتصدوا في الأمور كلها، واتركوا الغلو فيها والتقصير.

قارب فلان في أموره: إذا اقتصد".

الانتصاف: "الآية جعلت الجنة جزاءً للعلم فضلاً ورحمة، لا أنه واجب لهم وجوب الديون. والذين كذبوا الخبر، وأوجبوا على الله ما لا يوجبه على نفسه، هم المبطلون".

قوله: (ولتكون حكايته): معطوف على قوله: "اغتباطاً". وصرح باللام لعدم كونه فعلاً لفاعل الفعل المعلل، أي: لتكون حكاية الله قولهم الذي هو بمنزلة الكائن لطفاً لمن سمعها، ليزجرهم عما يبعدهم عن تلك المنزلة، وترغيباً في حصولها.

فالظاهر أن معلله محذوف، والجملة عطف على الجملة، أي: إنما قالوا لهم ذلك اغتباطاً، وحكى الله عنهم ذلك ليكون لطفاً لمن سمعها.

ص: 391

وكذلك قول المؤذن بينهم: "لعنة الله على الظالمين"، وهو ملك يأمره الله فينادي بينهم نداءً يُسمِعُ أهل الجنة وأهل النار. وقرئ:(أنّ لعنة الله) بالتشديد والنصب، وقرأ الأعمش:"إن لعنة الله" بكسر "إن" على إرادة القول، أو على إجراء (أَذَّنَ) مُجرى "قال".

فإن قلت: هلا قيل: ما وعدكم ربكم، كما قيل: ما وعدنا ربنا؟ قلت: حذف ذلك تخفيفاً لدلالة (وعدنا) عليه، ولقائلٍ أن يقول: أطلق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة؛ لأنهم كانوا مكذبين بذلك أجمع، ولأن الموعود كله مما ساءهم، وما نعيم أهل الجنة إلا عذاب لهم فأطلق لذلك.

[(وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ)].

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) يعني: بين الجنة والنار، أو بين الفريقين، وهو السور المذكور في قوله تعالى:(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ)[الحديد: 13].

(وَعَلَى الْأَعْرافِ): وعلى أعراف الحجاب - وهو السور المضروب بين الجنة والنار-، وهي أعاليه، جمع "عُرفٍ"، استعير من عرف الفرس وعرف الديك،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "أن لعنة الله" بالتشديد والنصب): ابن عامر وحمزة والكسائي.

قوله: (أطلق ليتناول كل ما وعد الله)، يعني أن الله تعالى وعد المؤمنين الثواب، والكافرين العقاب، فلو قيل:"وعدكم" لاختص بالعقاب، لأن المخاطبين أصحاب النار، كما أن (وعدنا) مختص بالثواب، يدل عليه ذكر الجنة والنار في قوله:(ونَادَى أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ). فأطلق ليتناول الثواب والعقاب، وما يتصل بهما. يعني: هل وجدتم الوعود كلها صدقاً؟ توبيخاً وتقريعاً. أو قالوا كلك شماتةً بهم.

ص: 392

(رِجالٌ) من المسلمين من آخرهم دخولاً في الجنة لقصور أعمالهم، كأنهم المرجون لأمر الله، يحبسون بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم في دخول الجنة، (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من زمر السعداء والأشقياء (بِسِيماهُمْ): بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها، يلهمهم الله ذلك: أو تعرّفهم الملائكة.

[(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ* أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (المرجون لأمر الله) بفتح الجيم، وسكون الواو.

النهاية: "الإرجاء: التأخير. وهو مهموز، يقال: أرجأت الأمر، وأرجيته: إذا أخرته".

هذا تفسير بين، يؤيده قوله:(وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال) أي: على أعراف الحجاب، وهو الأعالي منه.

روى الإمام أنه قيل للحسن: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فضرب على فخذه، وقال: هم قوم جعلهم الله على تعرف أهل الجنة وأهل النار، يميزون البعض من البعض. والله لا أدري، لعل بعضهم الآن معنا. ثم آتى الإمام بوجوه ثلاثة متضمنة على أنهم: الأشراف من الملائكة، والأنبياء، والشهداء، وأطال فيها.

ص: 393

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والذي يقتضيه النظم ما ذهب إليه المصنف، فإنه تعالى بعد أن ذكر الفريقين: أصحاب الجنة، وأصحاب النار، أتى بمقاولاتهم ومناظراتهم، وما جرى بينهم، فقال أولاً:(ونَادَى أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وجَدْنَا مَا وعَدَنَا رَبُّنَا حَقًا)[الأعراف: 44].

ثم حكى نداء أصحاب النار أصحاب الجنة، بقوله:(ونَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ)[الأعراف: 50]. فوسط بين المقالتين ذكر قوم توسطت حالهم بين حاليهما في المكان والمقام:

أما المكان فقوله: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال). وأما المقام فهو الخوف والرجاء، فقد أشار إليه بقوله تعالى:(لم يدخلوها وهم يطمعون)، وقوله:(لا تجعلنا مع القوم الظالمين).

ويؤيد هذا التقسيم قوله تعالى في التوبة: (وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إمَّا يُعَذِّبُهُمْ وإمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)[التوبة: 106] بعد ذكر الفريقين من أهل الثواب والعقاب.

وإليه الإشارة بقوله: (كأنهم المرجون". وإنما لم يجزم لاختلاف المفسرين.

وقوله: "يعرفون كلا من زمرة السعداء والأشقياء بسيماهم"، الراغب:"المعرفة والعرفان: إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره، فهو أخص من العلم، يقال: فلان يعرف الله، ولا يقال: يعلم الله، متعدياً إلى مفعول واحد، لما كان معرفة البشر لله تعالى هي بتدبر آثاره دون إدراك ذاته، ويقال: الله يعلم، ولا يقال: يعرف، لأن المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصل إليه بتفكر، وأصله من عرفت، أي: أصبت عرفه، أي: رائحته، أو من أصبت عرفه، أي: خده، قال تعالى: (تعرفهم بسيماهم)، ويضاد المعرفة الإنكار، كالعلم الجهل، قال تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا)، (فَعَرَفَهُمْ وهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)، والعارف في تعارف القوم: هو المختص بمعرفة الله تعالى، ومعرفة ملكوته، وحسن معاملته لله تعالى".

ص: 394

إذا نظروا إلى أصحاب الجنة نادوهم بالتسليم عليهم، (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ) ورأوا ما هم فيه من العذاب استعاذوا بالله، وفزعوا إلى رحمته أن لا يجعلهم معهم.

ونادراً رجالاً من رؤوس الكفرة يقولون لهم: (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ) إشارةً لهم إلى أهل الجنة، الذين كان الرؤساء يستهينون بهم ويحتقرونهم لفقرهم وقلة حظوظهم من الدنيا، وكانوا يقسمون: أن الله لا يدخلهم الجنة (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) يقال لأصحاب الأعراف: (ادخلوا الجنة)، وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين، ويعرفوهم بسيماهم، ويقولوا ما يقولون. وفائدة ذلك: بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدّم والتأخر على حسبها، وأن أحداً لا بسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين،

..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إذا نظروا إلى أصحاب الجنة نادوهم)، إشارة إلى أن قوله:(ونادوا أصحاب الجنة)[الأعراف: 46] جزاء شرطٍ محذوف، لدلالة قوله:(وإذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ). وكلاهما كالتفصيل لقوله: (يعرفون كلا بسيماهم)[الأعراف: 46].

وإنما قدر: "نظروا" دون (صرفت) للمقابلة، ليؤذن بأن النظر إلى أصحاب الجنة وجد منهم على الرغبة، وميل النفس، وإلى أصحاب النار بخلافه. وإلى هذا المعنى أشار بقوله:"وفيه أن صارفاً يصرف أبصارهم".

قوله: (ونادوا رجالاً من رؤوس الكفرة، يقولون لهم: (أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ))، وفي التنزيل:(ونَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ ومَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ).

ص: 395

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

أخر تفسير قوله: (ما أغنى عنكم جمعكم) لينبهك على مكان نكتة، وهي: أن أصل الكلام جار في شأن أصحاب الجنة وتكريمهم، وتقريع أصحاب النار وتعييرهم متفرع عليه، وذلك أن أصحاب الأعراف لما سلموا على أصحاب الجنة، أقبلوا إلى أعدائهم ومن كانوا يستهينون بهم، ويحتقرونهم لفقرهم، قائلين: أهؤلاء الذين أقسمتم: إن الله لا يدخلهم الجنة؟ ثم لمزيد التوبيخ ادخلوا: (مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ ومَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) بين الكلامين اعتراضًا.

ويمكن أن يقال: إن قوله: (مآ أغني عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) في مقابل قولهم لأصحاب الجنة: (سلم عليكم). وكل من المتقابلين مضاد لمعنى الآخر، فقيل لهم:(سلام عليكم)، أي: سلمتم من متابع الدنيا، وتبعاتها، وما كنتم تسمعون من أذى المتكبرين الذين كانوا يفتخرون عليكم، ويستضعفونكم، ويستقلون بأحوالكم، وقيل لهؤلاء: ما أغنى عنكم أموالكم وما كنتم به تتنعمون، وتفتخرون على فقرائكم، فقد وقعتم في العذاب. ثم زيد فيما يزيد في حسرتهم وغيظهم، بقوله:(أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ) لأن الإحسان إليهم نكال لهم فوق النكال.

ويؤيده قول الإمام: "قوله: (وما كنتم تستكبرون) كالدلالة على شماتة أصحاب الأعراف

ص: 396

ويحرصوا على إحراز قصبتهم، وليتصوروا أن كل أحدٍ يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه، وليعلم أنّ العصاة يوبخهم كل أحدٍ حتى أقصر الناس عملاً.

وقوله: (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) فيه: أن صارفاً يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا وقرأ الأعمش: "وإذا قلبت أبصارهم"، وقرئ:"أدخلوا الجنة" على البناء للمفعول، وقرأ عكرمة:"دخلوا الجنة".

فإن قلت: كيف لاءم هاتين القراءتين قوله: (لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)؟ قلت: تأويله: أدخلوا، أو دخلوا الجنة مقولاً لهم: لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بوقوع أولئك في العقاب، وعلى تبكيتٍ عظيم. ثم زادوا على هذا التبكيت بقولهم:(أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ)، لأنهم كانوا يستضعفونهم، ويستهزئون بهم، وأنفوا من مشاركتهم في دينهم".

قوله: (فيه: أن صارفاً يصرفهم)، يعني: في بناء الفعل للمفعول إشارة إلى هذه الرمزة، وهي الإلجاء إلى النظر وإلى الاستعاذة وإلى التوبيخ: أما الاستعاذة فهي قولهم: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظلمين)، وأما التوبيخ فهو قولهم:(أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمةٍ).

قوله: (كيف لاءم هاتين القراءتين؟ ) أي: "أدخلوا" على البناء للمفعول، و"دخلوا" على الماضي، لأن مقتضاهما أن يقال:"لا خوف عليهم ولا هم يحزنون".

ص: 397

فإن قلت: ما محل قوله: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ)؟ قلت: لا محل له لأنه استئناف؛ كأن سائلاً سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل: لم يدخلوها وهم يطمعون، يعني: حالهم أنّ دخولهم الجنة استأخر عن دخول أهل الجنة، فلم يدخلوها لكونهم محبوسين، وهم يطمعون لم ييأسوا. ويجوز أن يكون له محل، بأن يقع صفة لـ (رجال).

(ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) المال، أو كثرتكم واجتماعكم (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) واستكباركم عن الحق وعلى الناس، وقرئ:"تستكثرون"؛ من الكثرة.

[(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ* الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)].

(أَفِيضُوا عَلَيْنا) فيه دليلٌ على أن الجنة فوق النار، (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) من غيره من الأشربة؛ لدخوله في حكم الإفاضة، ويجوز أن يراد: أو ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة، كقوله: .........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

قوله: (كأن سائلاً سأل) أي: قال: ما حال أصحاب الأعراف حينئذ؟ وأجيب: لم يدخلوا الجنة، لكنهم طامعون أن يدخلوها لم ييأسوا عن دخولها.

قوله: ((أو مما رزقكم الله) من غيره من الأشربة)، يعني: عطف قوله: (مما رزقكم الله) على (الماء)، فدخل تحت حكم الإفاضة، فيحمل على غير الماء من الأشربة، ليصح.

ص: 398

عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً

وإنما يطلبون ذلك مع يأسهم من الإجابة إليه حيرةً في أمرهم، كما يفعل المضطر الممتحن.

(حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ): منعهم شراب الجنة وطعامها، كما يمنع المكلف ما يحرّم عليه ويحظر، كقوله:

حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أَنْ تَطْعَمَ الْكَرَى

(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ): نفعل بهم فعل الناسين الذين ينسون عبيدهم من الخير لا يذكرونهم به،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (علفتها تبناً وماءً باردا)، أنشد تمامه ابن قتيبة الدينوري في كتاب "مشكل القرآن" عن الفراء:

حتى شكت همالةً عيناها

وفي الحواشي أن هذا المصراع تمام قوله:

حرام على عيني أن تطعما الكرى

قوله: (نفعل بهم فعل الناسين)، يعني: أنه تمثيل، لأنه متعالٍ أن ينسى شيئاً، لكن شبه معاملته مع هؤلاء المنكرين بمعاملة من ينسى عبده من الخير، فلا يلتفت إليه.

ص: 399

(كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا): كما فعلوا بلقائه فعل الناسين، فلم يخطروه ببالهم ولم يهتموا به.

[(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ* هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَاوِيلَهُ يَوْمَ يَاتِي تَاوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)].

(فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ): عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه، حتى جاء حكيماً قيماً غير ذي عوج؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كما فعلوا بلقائه فعل الناسين)، يعني: أن وصفهم بالنسيان أيضاً تمثيل، لأنهم في الدنيا لم يكونوا ذاكري الله حتى نسوا، فشبه عدم إخطارهم لقاء الله، أي: القيامة، ببالهم، وقلة مبالاتهم، بحال من عرف شيئاً ثم نسيه.

قوله: (عالمين كيف نفصل أحكامه؟ )، يعني: أوقع (على علم) حالاً عن ضمير الفاعل في (فصلناه)، ليكون كنايةً عن كون الكتاب حكيماً غير ذي عوج، لأن الفاعل إذا كان عالماً بما يفعل، متقناً فيه، جاء فعله محكماً مستقيماً.

قوله: (كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه؟ ) كأنه يشير إلى أن هذه

ص: 400

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الآية كالخاتمة لجميع ما سبق، والتخلص إلى مشرع آخر من التذكير بالدلائل الدالة على القدرة الباهرة، وتعداد أحوال الأمم السالفة، تنبيهاً للغافلين، وتبصرةً للمتذكرين، وعبرة للمعتبرين.

فإذن الآية متصلة بفاتحة السورة وبما بعدها، على سبيل الاعتراض، والتخلص، وذلك أنه تعالى لما نهاه عن ضيق الصدر، وعلله بإنزال هذا الكتاب المعجز، كما سبق، ثم أمره بأن ينذرهم، بقوله:(اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ولا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)[الأعراف: 3]، ويذكرهم بقوله:(ولَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ) الآية [الأعراف: 10] ما أولاهم من نعمة التمكين، وما خولهم من الكرامة، بأن جعل أباهم مسجوداً للملائكة، وطرد الشيطان بسبب امتناعه عن السجود، وحذرهم عن متابعته، وأدمج الكلام بعضه في بعض، على أساليب عجيبة، وفنون غريبة - عقبه بقوله:(ولَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ) أي: جئناهم بمثل هذا الكتاب الظاهر التفصيل، البين التأويل، الهادي السعداء إلى الصراط المستقيم. ثم بقوله:(هَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ تَاوِيلَهُ) أي: ما لهم بعد هذا التفصيل والتوضيح لا يؤمنون، وينتظرون فيما ينتظرون، إلا يوم يأتي عاقبة أمره، وما نطق به من قوارع الساعة، حتى "لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل"، وحينئذٍ يقولون متحسرين نادمين:(فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)!

فما أخسرهم! وما أوخم مآل أمرهم!

ثم قال: (وضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي: يفترونه في إبطال ما أنزل عليهم.

ص: 401

وقرأ ابن محيصن: "فضلناه" بالضاد المعجمة، بمعنى: فضلناه على جميع الكتب، عالمين أنه أهلٌ للتفضيل عليها، و (هُدىً وَرَحْمَةً) حالٌ من منصوب (فضلناه)، كما أن (على علمٍ) حال من مرفوعه.

(إِلَّا تَاوِيلَهُ): إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد، (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) أي: تبين وصحّ أنهم جاءوا بالحق، (نُرَدُّ) جملة معطوفةٌ على الجملة التي قبلها، داخلة معها في حكم الاستفهام، كأنه قيل: هل لنا من شفعاء، أو هل نُردّ؟ ورافعه: وقوعه موقعاً يصلح للاسم، كما تقول ابتداءً: هل يضرب زيد؟ ولا يطلب له فعلٌ آخر يعطف عليه، فلا يقدّر: هل يشفع لنا شافعٌ أو نردّ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله: (الذين نسوه): مظهر وضع موضع الضمير. والمراد بالنسيان: الترك، وطلب التأويل.

قوله: ((نرد): جملة معطوفة على الجملة التي قبلها)، وهي قوله:(لنا من شفعاء) وهي: مبتدأ وخبر، و (من): زائدة، لأن الكلام منفي معنى.

قوله: (ورافعه: وقوعه موقعاً يصلح للاسم).

يعني به في ابتداء الكلام، لأن الابتداء صالح لأن يقع فيه الاسم أو الفعل المضارع. وأما الماضي لما انتفى استحقاقه الإعراب، انتفى ما هو مبني عليه، وهو استحقاقه الرفيعة.

قوله: (فلا يقدر: هل يشفع لنا شافع).

يعني: لا يجوز تقدير "يشفع" ليعطف (نرط) عليه فيطابقه، لأن جواب الاستفهام، وهو (فيشفعوا) يأبي ذلك، لما يؤدي هذا العطف إلى الانسحاب والاشتراك فيه، إذ التقدير:

ص: 402

وقرأ ابن أبي إسحاق: "أو نردّ" بالنصب عطفاً على (فيشفعوا لنا)، أو تكون (أو) بمعنى «حتى أنّ» أي: يشفعوا لنا حتى نردّ فنعمل، وقرأ الحسن بنصب "نُرَدُّ" ورفع "فَنَعْمَلَ"؛ بمعنى: فنحن نعمل.

[(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"هل نرد، فيشفعوا لنا؟ "، فيفسد المعنى، ويعطل أيضاً (فنعمل)، لأنه جواب، أي: للاستفهام الثاني، بخلاف ما عليه الظاهر، فإنه عطف الفعل مع جوابه، على مثلها من الجملة، وإن لزم عطف الجملة الفعلية على الاسمية، على أن "هل" تستدعي الفعلية، فكأنه عطف الفعلية على مثلها.

وفائدة العدول إظهار القصد إلى توخي الشفعاء، وأنه أهم شيءٍ عندهم حينئذ، ليتخلصوا من تلك الورطة، بخلاف الرد.

قال صاحب "المفتاح": " (فهل): أدعى للفعل من الهمزة. فترك الفعل معه يكون أدخل في الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد". ومن ثم أدخل (من) الاستغراقية على "الشفعاء".

قوله: ("أو نرد" بالنصب: عطفاً على (فيشفعوا)).

قال ابن جني: " (فيشفعوا): منصوب لأنه جواب الاستفهام، وفيه معنى التمني. كأنهم

ص: 403

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) وقرئ: (يغشي) بالتشديد، أي: يلحق الليل النهار، أو النهار بالليل يحتملهما جميعاً. والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس:"يغشى الليل النهار"، بفتح الياء ونصب "الليل" ورفع "النهار"، أي: يدرك النهار الليل و (يطلبه حثيثاً) حسن الملاءمة لقراءة حميد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قالوا: أنرزق شفعاء فيشفعوا لنا، أو نرد به فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ وذلك أنهم مع نصب "نرد" تمنوا الشفعاء وحدهم، وقطعوا بالشفاعة والرد. وعلى قراءة الجماعة برفع (نرد): تمنوا الشفعاء، وقطعوا بالشفاعة، وتمنوا الرد أيضاً، كأنه قال: أو هل نرد فنعمل".

قوله: (وقرئ: "يغشى الليل" بالتشديد): أبو بكر وحمزة والكسائي، والباقون: بالتخفيف.

قوله: (يحتملهما جميعاً)، أي: يحتمل أن يكون النهار ملحقاً بالليل، وأن يكون الليل ملحقاً بالنهار.

قوله: (والدليل على الثاني) أي: على أن يكون الليل ملحقاً بالنهار، قراءة حميد:"يغشى الليل النهار" بنصب "الليل" ورفع "النهار". فقوله: (يطلبه حثيثاً) مبتدأ، وقوله:"حسن الملاءمة" خبره.

ص: 404

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعني: يلزم على قراءة حميد، أن يكون الطالب النهار، والليل ملحق به، والطلب بالنهار أولى، والليل أحسن أن يكون ملحقاً به.

قال ابن جني: "يغشى الليل النهار" - على قراءة حميد - حال من قوله: (ثم استوى على العرش)، والعائد محذوف، أي: يغشى الليل النهار بأمره أو بإذنه، وإنما التزم هذا الحذف لتتفق القراءتان. فقوله:(يطلبه حثيثاً): يدل من قوله: "يغشى الليل النهار" للتوكيد. وعلى قراءة الجماعة: حال من (لليل)، أي: يغشى الليل النهار طالباً له حثيثاً، و (حثيثاً): حال من الضمير في (يطلبه). ووجه التقاء القراءتين أن الليل والنهار يتعاقبان، وكل واحد منهما فاعل، وإن كان مفعولاً فإن كل واحدٍ منهما مزيل لصاحبه، على أن الظاهر في الاستحثاث هو النهار، لأنه بسفوره وشروقه يظهر أثر الاستحثاث، لأن ضوء النهار هو الهاجم على الظلمة، ويطالبه حثيثاً، وقوله:(يطلبه حثيثاً) على هذا: حال من (النهار)، وإن كان مفعولاً، كقولك:"ضربت هند زيداً مؤلمةً له". فإن "مؤلمةً له" يجوز أن يكون حالاً من كل واحد منهما، لما اشتمل على ضميرهما. وهو نظير قوله:(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ)[مريم: 27]، (تحمله) يجوز أن يكون حالاً من كل واحد منهما، ومنهما معاً.

قلت: قوله: "على أن الظاهر في الاستحثاث هو النهار": هو المراد من قول المصنف: " (يطلبه حثيثاً): حسن الملاءمة لقراءة حميد". هذا هو التحقيق، لا ما قال صاحب "التقريب":"حسن الملاءمة اتحاد الإسناد، ورجوع الضمير إلى الأقرب"، وتبعه الجمهور.

والذي يؤيد قول ابن جني قوله تعالى: (وآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ)[يس: 37].

ص: 405

(بِأَمْرِهِ): بمشيئته وتصريفه، وهو متعلق (مسخرات)، أي: خلقهنّ جارياتٍ بمقتضى حكمته وتدبيره، وكما يريد أن يصرفها سمى ذلك "أمراً" على التشبيه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال المرزوقي: "يعلم منه أن الليل قبل النهار، لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ".

وقال الفراء: "الأصل هي الظلمة، والنهار داخل عليها".

وفي معناه أنشد بعضهم:

كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجي

نطير غراباً ذا قوادم جون

النهاية: "حث وأسرع. يقال: حثه على الشيء، وحثحثه بمعنى".

قوله: (وكما يريد أن يصرفها): عطف على قوله: "بمقتضي حكمته"، أي: خلقهن جارياتٍ كما يريد أن يصرفها.

قوله: (سمى ذلك "أمراً" على التشبيه)، أي: على الاستعارة، فإنها مسبوقة به.

بيانه: أنه تعالى جعل هذه الأشياء في كونها تابعةً لتكوينه، وتصرفه فيها بما شاء، غير ممتنعة عليه، كأنها عقلاء يميزون، قد عرفوا عظمته وجلالته، فكما يرد عليهم أمره لا يتوقفون عن الامتثال.

ص: 406

كأنهنّ مأمورات بذلك. وقرئ: (والشمس والقمر والنجوم مسخرات) بالرفع.

ولما ذكر أنه خلقهنّ مسخراتٍ بأمره، قال:(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)، أي: هو الذي خلق الأشياء كلها، وهو الذي صرفها على حسب إرادته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "والشمس والقمر والنجوم مسخرات" بالرفع): ابن عامر، والباقون بالنصب.

قوله: (ولما ذكر أنه خلقهن مسخرات بأمره قال: (ألا له الخلق والأمر))، يعني: هذه الآية كالتذييل للكلام السابق. واللام في (الخلق) و (الأمر) للجنس، فيدخل في (الخلق) قوله:(خلق السموات والأرض) وفي (الأمر) قوله: (مسخرات بأمره). وإلى الأول الإشارة بقوله: "هو الذي خلق الأشياء". وإلى الثاني بقوله: "وهو الذي صرفها على إرادته".

وأما توجيه النظم فهو ما ذكره القاضي، قال:" (تبارك الله رب العالمين) معناه: تعالى بالوحدانية في الإلوهية، وتعظم بالتفرد في الربوبية".

وتحقيق الآية - والله أعلم - أن الكفرة كانوا متخذين أرباباً، فبين لهم أن المستحق للربوبية واحد، وهو الله تعالى؛ لأنه الذي له الخلق والأمر، فإنه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم، وتدبيرٍ حكيم، فأبدع الأفلاك، ثم زينها بالكواكب، كما أشار إليه بقوله:(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ)[فصلت: 12]، وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية، فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدلة، والهيئات المختلفة، ثم قسمها بصورٍ مختلفة، متضادة الآثار والأفعال. وأشار

ص: 407

[(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)].

(تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) نصبٌ على الحال، أي: ذوي تضرع وخفية، وكذلك:(خوفاً وطمعاً)، والتضرع: تفعلٌ من الضراعة وهي الذل، أي: تذللاً وتملقاً. وقرئ: "خفيةً"، وعن الحسن رحمه الله: "إنّ الله يعلم القلب التقى والدعاء الخفي، إن كان الرجل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إليه بقوله: (خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)[فصلت: 9] أي: ما في جهة السفل، ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة، بتركيب موادها أولاً، وتصويرها ثانيًا.

كما قال بعد قوله: (خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ): (وجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وبَارَكَ فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ)[فصلت: 10] أي: مع اليومين الأولين، لقوله في سورة "السجدة":(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ)[السجدة: 4].

ثم لما تم له عالم الملك، عمد إلى تدبيره، كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض، بتحريك الأفلاك، وتسيير الكواكب، وتكوير الليالي والأيام.

ثم صرح بما هو فذلكة التقرير ونتيجته، فقال:(أَلا لَهُ الخَلْقُ والأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ). ثم أمرهم بأن يدعوه متذللين مخلصين، فقال:(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً)[الأعراف: 55].

قوله: (إن كان الرجل)، هي:"إن": المخففة من الثقيلة، وفيه ضمير الشأن. يعني: إن الرجل كان يحفظ القرآن.

ص: 408

لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير ولا يشعر الناس به، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة وعنده الزور وما يشعر به، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عملٍ يقدرون على أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم، وذلك أنّ الله تعالى يقول:(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)، وقد أثنى على زكريا فقال:(إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا)[مريم: 3] وبين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً".

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) أي: المجاوزين ما أمروا به في كل شيءٍ من الدعاء وغيره، وعن ابن جريجٍ: هو رفع الصوت بالدعاء، وعنه: الصياح في الدعاء مكروهٌ وبدعة. وقيل: هو الإسهاب في الدعاء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء. وحسب المرء أن يقول: اللهمّ إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قولٍ وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل» ، ثم قرأ قوله تعالى:(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعنده الزور). الجوهري: "رجل زائر، وقوم زور وزوار، مثل: سافر وسفرٍ وسفار". قوله: (ما كان على الأرض من عملٍ): معناه: لا يوجد على وجه الأرض عمل يقدرون على أن يعملوه في السر، فيعملونه علانية أبداً. يعني: ما أمكنهم أن يعملوه سراً لا يعملونه جهراً اجتناباً عن الرياء.

قوله: (سبعون ضعفاً): الأزهري: "الضعف في كلام العرب: المثل فما زاد، وليس بمقصورٍ على مثلين. فأقل الضعف محصور في الواحد، وأكثره غير محصور". ذكره في "النهاية".

قوله: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء): روينا في "مسند أحمد بن حنبل"، عن سعد بن

ص: 409

(إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ): كقوله: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً)[طه: 82]، وإنما ذكر (قَرِيبٌ)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبي وقاص: أنه سمع ابنًا له يدعو ويقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها، ونحواً من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، فقال: لقد سألت الله خيراً كثيراً، وتعوذت بالله من شر كثير. فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول:"إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء" وقرأ هذه الآية، وقال:"وإن حسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة" الحديث.

قوله: ((إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ) كقوله تعالى: (وإنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ)[طه: 82]).

يعني: هذه الجملة تذييل للكلام السابق، وتعميم بعد تخصيص، وتعليق لرحمته بإحسان عبادته، فإنه تعالى لما أمرهم بأن يدعوا الله متضرعين في الخفية، خائفين راجين، وكرر الأمر به، وذم الاعتداء فيه، ثم نهاهم عن الإفساد في الأرض، علم أن من أتى بهذا المأمور، وكف عن هذا المنهي، كان محسنًا، فجاء بخاتمةٍ تذييلاً له، كما أن قوله تعالى:(وإنِّي لَغَفَّارٌ) تذييل لقوله تعالى: (يَا بَنِي إسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ) إلى قوله تعالى: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ولا تَطْغَوْا فِيهِ)[طه: 80 - 81]. وتعميم بعد تخصيص، وتعليق لغفرانه بتوبة عباده.

ص: 410

على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم، أو لأنه صفة موصوف محذوف، أي: شيءٌ قريب، أو على تشبيه بـ"فعيلٍ" الذي هو بمعنى:"مفعول"، كما شبه ذاك به، فقيل: قتلاء وأسراء، أو على أنه بزنة المصدر، الذي هو النقيض والضغيب، أو لأنّ تأنيث "الرحمة" غير حقيقي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بالرحم). الرحم - بالضم -: الرحمة. قال الله تعالى: (وأَقْرَبَ رُحْمًا)[الكهف: 81]. قوله: (أو على تشبيه بـ"فعيل" الذي هو بمعنى: "مفعول"). فإنه يستوي فيه المذكر والمؤنث، كجريحٍ وأسيرٍ وقتيل.

قوله: (كما شبه ذاك به) أي "الفعيل" الذي بمعنى "مفعول"، بالفعيل الذي بمعنى "فاعل"، فجمع: قتيل وأسير، على: قتلاء، وأسراء، كما جمع: كريم، ورحيم، على: كرماء، ورحماء. ونجيب وعليم، على: نجباء، وعلماء.

قوله: (النقيض): الجوهري: "النقيض: صوت المحامل والرحال". "والضغيب: صوت الأرنب".

قوله: (أو لأن تأنيث "الرحمة" غير حقيقي): قال صاحب "الفرائد": "المتضمن لضمير المؤنث لم يحسن تذكيره على ما قيل. فهذا الوجه بعيد".

وقال الزجاج: "إن الرحمة والغفران والعفو في معنى واحد. وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي. وقال الأخفش: إن الرحمة في معنى المطر"

وقال أبو البقاء: "إن الرحمة والترحم بمعنى. وقيل: هو على النسب، أي: ذات قرب. وقيل: هو "فعيل" بمعنى "مفعول". وقيل: فرق بين القريب من النسب وبين القريب من غيره".

ص: 411

قرئ: (نشراً)، وهو مصدر نشر، وانتصابه إمّا لأن "أرسل" و"نشر" متقاربان، فكأنه قيل: نشرها نشراً، وإمّا على الحال بمعنى: منتشرات، و"نشراً" جمع نشور، و"نشراً" تخفيف "نشر"، كرسلٍ ورسل. وقرأ مسروق:"نشراً"، بمعنى: منشورات، فعل بمعنى: مفعول، كنقضٍ وحسبٍ، ومنه قولهم:«ضم نشره» ، و"بشراً" جمع "بشير"، و"بشراً" بتخفيفه، و"بشراً" - بفتح الباء - مصدر من: بشره بمعنى: بشره، أي: باشرات، و"بشرى".

(بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ): أمام نعمته، وهي الغيث الذي هو من أتمّ النعم وأجلها وأحسنها أثراً، (أَقَلَّتْ): حملت ورفعت، واشتقاق الإقلال من القلة، لأنّ الرافع المطيق يرى الذي يرفعه قليلاً، (سَحاباً ثِقالًا): سحائب ثقالاً بالماء جمع "سحابة".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الزجاج: "هذا غلط؛ لأن كل ما قرب من مكان أو نسب فيجوز فيه التأنيث والتذكير".

قوله: (قرئ: "نشراً"): قرأ عاصم: (بشرا) بالباء الموحدة مضمومة، وإسكان الشين حيث وقع. وابن عامر: بالنون مضمومة وإسكان الشين، وحمزة والكسائي: بالنون مفتوحة وإسكان الشين. والباقون: بالنون مضمومة، وضم الشين.

والبواقي شواذ.

قوله: (لأن الرافع المطيق يرى ما يرفعه قليلاً): قال المصنف: "حقيقة "أقله": جعله قليلاً، في زعمه، كقولك: أكذبه: إذا جعله كاذبًا في زعمه".

ص: 412

(سُقْناهُ) الضمير للسحاب على اللفظ، ولو حُمل على المعنى كالثقال لأُنث، كما لو حمل الوصف على اللفظ لقيل ثقيلاً، (لِبَلَدٍ مَيِّتٍ): لأجل بلدٍ ليس فيه حياً ولسقيه. وقرئ: "ميت".

(فَأَنْزَلْنا بِهِ): بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق، وكذلك (فَأَخْرَجْنا بِهِ).

(كَذلِكَ) مثل ذلك الإخراج- وهو إخراج الثمرات (نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فيؤدّيكم التذكر إلى أنه لا فرق بين الإخراجين، إذا كل واحدٍ منهما إعادةٌ للشيء بعد إنشائه.

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ): الأرض العذاة الكريمة التربة، (وَالَّذِي خَبُثَ): الأرض السبخة التي لا تنبت ما ينتفع به، (بِإِذْنِ رَبِّهِ): بتيسيره، وهو في موضع الحال، .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الفاضل نور الدين الحكيم: "أقله: وجده قليلاً، أو اعتقده قليلاً، من الجعل الاعتقادي كالكذبة".

قوله: (ولو حمل على المعنى، كالثقال، لأنث). يعني: اعتبر في "سقناه" لفظ "السحاب"، فذكر الضمير، كما اعتبر المعنى في قوله:(ثقالاً) فوصف "السحاب" بالجمع، ولو اعتبر اللفظ لقيل: ثقيلاً، لأن (سحاباً) لفظه مفرد.

قوله: (لأجل بلدٍ ليس فيه حياً): حيا - مقصور - وهو الخصب. الجوهري: "أحيا القوم: صاروا في الحيا، وهو الخصب. وأحييت الأرض: وجدتها خصبةً".

قوله: ((فأنزلنا به) بالبلد). أي الضمير في (به) إما راجع إلى "البلد"، فتكون الباء بمعنى "في"، أو إلى "السحاب"، فالباء إذا كما في قولك:"كتبت بالقلم"، وكذا إذا رجع إلى "السوق".

قوله: (العذاة)، وهي:"الأرض الطيبة التربة، والجمع: عذوات".

ص: 413

كأنه قيل: يخرج نباته حسناً وافياً، لأنه واقع في مقابلة (نَكِداً)، والنكد: الذي لا خير فيه. وقرئ: "يخرج نباته"، أي: يخرجه البلد وينبته. وقوله: (وَالَّذِي خَبُثَ) صفةٌ للبلد، ومعناه: والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً، فحذف المضاف الذي هو "النبات"، وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجع إلى "البلد" مقامه؛ إلا أنه كان مجروراً بارزاً، فانقلب مرفوعاً مستكناً لوقوعه موقع الفاعل، أو يقدّر: ونبات الذي خبث. وقرئ: "نكداً" بفتح الكاف على المصدر، أي: ذا نكد، و"نكداً"، بإسكانها للتخفيف، كقوله:

.. نزهٍ عن الريب

بمعنى: نزهٍ.

وهذا مثلٌ لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين، ولمن لا يؤثر فيه شيءٌ من ذلك. وعن مجاهدٍ: آدم وذرّيته منهم خبيثٌ وطيب. وعن قتادة: المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت، والكافر بخلاف ذلك. وهذا التمثيل واقعٌ على إثر ذكر المطر، وإنزاله بالبلد الميت، وإخراج الثمرات به على طريق الاستطراد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأنه واقع في مقابل (نكداً). أي: إنما فسر: (بإذن ربه) بقوله: "حسناً وافياً"، وإن كان معناه: بتيسيره وتسهيله، لكونه واقعاً في مقابلة (نكداً). فالمطابقة إذاً معنوية.

الجوهري: "نكدت الركية: قل ماؤها. ورجل نكد: عسر".

قوله: (وهذا التمثيل واقع على إثر ذكر المطر

على طريق الاستطراد). يعني: أن قوله:

ص: 414

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(والبلد الطيب) الآية، بالنظر إلى قوله:(كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تمثيل. وتقديره: إنا بينا تلك الآيات الدالة على القدرة الباهرة، والعلم الكامل، لعلكم تتفكرون فيها، أيها النظار، لتعلموا أنكم إلينا ترجعون، لكن لا تنجع تلك الآيات إلا فيمن شرح الله صدره، فيخرج نبات فكره طيباً، ومن جعل صدره ضيقاً لا يخر نبات فكره إلا خبيثاً، فلا يرفع بها رأساً، (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ).

روينا عن البخاري ومسلم، عن أبي موسي، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيثٍ أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلا والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفةً منها أخرى، إنما هي قيعان، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله عز وجل ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". وسيجيء شرحه في سورة الأنبياء.

وإليه أشار المصنف بقوله: "هذا مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين، ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك".

ثم في إيثار "الطيب" وهو صفة مشبهة في مقابل "الذي خبث" الدال على تجدد الفعل إيماء إلى معنى ما ورد في "صحيح مسلم" عن عياضٍ المجاشعي: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال في خطبته عن الله عز وجل: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم

ص: 415

(كَذلِكَ): مثل ذلك التصريف (نُصَرِّفُ الْآياتِ): نردّدها ونكرّرها (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) نعمة الله وهم المؤمنون، ليفكروا فيها ويعتبروا بها.

وقرئ: "يصرف" بالياء، أي: يصرفها الله.

[(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)].

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) جواب قسم محذوف.

فإن قلت: ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام، إلا مع «قد» وقلّ عنهم، نحو قوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن دينهم"، وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه".

وبالنظر إلى قوله تعالى: (أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ) إلى آخره: استطراد. ولما كان هذا أصلاً للكلام، جيء به في المستطرد بالواو، للمناسبة بينهما.

وأما قوله تعالى: (كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)، بعد قوله تعالى:(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فمن باب الترقي، لأن من تذكر آلاء الله، عرف حق النعمة فشكر.

قوله: (مثل ذلك التصريف (نصرف الآيات): نرددها ونكررها). يعني: ما ذكرنا من الآيات المتعددة المفصلة المبينة من أول هذه السورة، نصرف ونكرر ونبين سائر الآيات التي اشتمل عليها هذا الكتاب الكريم أو غيره.

ص: 416

حلفت لها بالله حلفة فاجرٍ

لناموا ........

قلت: إنما كان ذلك لأن الجملة القسمية لا تُساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها، التي هي جوابها، فكانت مظنةً لمعنى التوقع- الذي هو معنى «قد» - عند استماع المخاطب كلمة القسم.

قيل: أرسل نوحٌ عليه السلام وهو ابن خمسين سنة، وكان نجاراً وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وأخنوخ: اسم إدريس النبي عليه السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (حلفت لها بالله حلفة فاجرٍ لناموا)، تمامه:

فما إن من حديثٍ ولا صال

حلفة فاجر، أي: كاذب أو عاهر. واللام جواب القسم. من حديث، أي: من ذي حديث. ويجوز أن يكون الحديث بمعنى المحادث، كالخليل والعشير. والصالي: المصطلي. و"إن": زائدة.

يقول: طرقت المحبوبة، فاستشعرت من الرقباء، فحلفت لها أن القوم الذين كانوا يتحدثون، ويبيتون في السمر مصطلين، نيام.

والقائل: امرؤ القيس.

قوله: (لمعنى التوقع). يعني: أن الجملة إذا أكدت بالقسم، فالمخاطب لابد أن يتوقع حصول المقسم عليه، وينتظر وقوعه، فناسب إدخال "قد".

ص: 417

وقرئ: (غيره) بالحركات الثلاث؛ فالرفع على المحل، كأنه قيل: ما لكم إله غيره. والجر على اللفظ، والنصب على الاستثناء، بمعنى: ما لكم من إلهٍ إلا إياه، كقولك: ما في الدار من أحدٍ إلا زيداً أو غير زيدٍ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: (غيره) بالحركات الثلاث). الكسائي: بالخفض حيث وقع، إذا كان قبل "الإله" "من" الجارة. والباقون: بالرفع، والنصب: شاذة.

قوله: (ما في الدار من أحدٍ إلا زيداً أو غير زيدٍ). أي: سواء قلت: ما في الدار من أحدٍ إلا زيداً، أو قلت: من أحدٍ غير زيد.

وقال في "المفصل": "وحكم "غير" حكم الاسم الواقع بعد "إلا" تنصبه في الموجب والمنقطع".

وقال الزجاج: "النصب جائز في غير القرآن، على الاستثناء، وعلى الحال من النكرة. وأجاز الفراء: "ما جاءني غيرك". وهو خطأ. وإنما أنشد الخليل وسيبويه قوله:

ص: 418

فإن قلت: فما موقع الجملتين بعد قوله: (اعْبُدُوا اللَّهَ)؟ قلت: الأولى بيانٌ لوجه اختصاصه بالعبادة. والثانية: بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله.

واليوم العظيم: يوم القيامة، أو يوم نزول العذاب عليهم وهو الطوفان.

[(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ* قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصونٍ ذات أوفال

وأجازا فيه نصب "غير"، فاستشهد هو به، واستهواه اللفظ في قولهما:"إن الموضع موضع رفع، وإنما أضيفت "غير" في البيت إلى شيء غير متمكن، فبنيت على الفتح، كما يبني "يوم" إذا أضيف إلى "إذ" على الفتح".

قوله: (ما موقع الجملتين). يعني: (ما لكم من إله غيره) و (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم).

قوله: (الأولى بيان لوجه اختصاصه). وذلك أن نوحاً عليه السلام لما قال لقومه وهم مشركون: (يا قوم اعبدوا الله) فهم منه الاختصاص، لأنهم كانوا يشركون [غير] الله في

ص: 419

(الْمَلَأُ): الأشراف والسادة، وقيل: الرجال ليس معهم النساء، (فِي ضَلالٍ): في ذهابٍ عن طريق الصواب والحق. ومعنى الرؤية: رؤية القلب.

فإن قلت: لم قال: (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) ولم يقل "ضلالٌ" كما قالوا؟ قلت: "الضلالة" أخصّ من "الضلال"، فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه، كأنه قال: ليس بي شيءٌ من الضلال، كما لو قيل لك: ألك تمر؟ فقلت: ما لي تمرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبادته، فقال:(اعبدوا الله) يعني: لا تصح عبادة الله مع عبادة غيره، فكأنكم ما عبدتم الله حين أشركتم به غيره في العبادة. ثم لما أراد بيان هذا المعنى قال:(ما لكم من إلهٍ غيره) ثم أتي بقوله: (إني أخاف عليكم) مستأنفاً معللاً لدعواه، أي: إنما دعوتكم إلى ما دعوتكم، لأني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، إظهاراً للشفقة والمرحمة.

قوله: (الملأ): الأشراف والسادة): سموا ملأ لأنهم يملؤون العيون والقلوب، أو لأنهم مليئون قادرون بما يراد منهم من كفاية الأمور.

قوله: (ليس بي شيء من الضلال): روي عن المصنف أنه قال: نفى أن يكون معه طرف من الضلال، وأثبت أنه في الغاية القصوى من الهدى، حيث كان رسولاً من رب العالمين. وفيه إظهار لمكابرتهم وفرط عنادهم، حيث وصفوا من هو بهذه المنزلة من الهدى بالضلال المبين الظاهر شأنه، لا ضلال بعده.

قال صاحب "الفرائد": "جعل التاء في "الضلالة" بمنزلة التاء في التمرة والفعلة، في أنها للوحدة".

وقد قال صاحب "المجمل": "الضلال والضلالة بمعنى واحد".

ص: 420

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال صاحب "المثل السائر": "الأسماء المفردة الواقعة على الجنس، التي يكون بينها وبني وأحدها تاء التأنيث، فإنه متى أريد النفي، كان استعمال واحدها أبلغ، ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ، كما في الآية، ولا تظنن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين، من قولك: ضل يضل ضلالا وضلالةً، كان القولان سواء، لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن المصدر، بل عن المرة الواحدة. فإذا نفى نوح عليه السلام عن نفسه المرة الواحدة من الضلال، فقد نفى ما فوقها من المرتين والمرات الكثيرة".

وقال صاحب "الفلك" الدائر على المثل السائر": "الذي ذكره غير صحيح، لا أن كانت "الضلالة" مصدراً، ولا أن كانت المرة الواحدة. أما الأول فلأنهما لما دلا على المصدر، لم يكن دلالة أحدهما أبلغ من الآخر، لأن المصدر يدل على الماهية فقط، فإذا نفي نفيت الماهية، وأما الثاني فلا يصح أيضاً، لأنه لو قال القائل: ما عندي تمرة، بمعنى تمرة واحدة، وعنده تمر كثير، يصح ذلك، لأنه لو أظهر ما أضمر، فقال: ليس عندي تمرة واحدة بل تمرات، لم يكن متناقضاً. وقول نوح عليه السلام:(ليس بي ضلالة) بمعنى: ضلالة واحدة، لم يكن نافياً لكونه ضالا، لأنه إذا كانت الضلالات مختلفة الأنواع لم يفده قوله، لجواز ألا يكون ضلالةً واحدة، بل ضلالات مختلفة متنوعة. ومن وجدت عنده ضلالات كثيرة، فقد صدق عليه أنه قد انتفت عنه ضلالة واحدة".

وقال صاحب "التقريب": "في قول المصنف نظر، لأن الضلال إما أن يراد به الكثير أو الجنس، فعلى الأول لا نسلم أن الواحد أخص، بل الصحيح العكس، لأنه كلما وجد الكثير

ص: 421

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وجد الواحد، ولا ينعكس، فالواحد أعم. ويتم الجواب، إذ يلزم من نفي العام نفي الخاص من غير عكس، فكان نفيها أبلغ، أي: ليس بي شيء من الضلال. وعلى الثاني: يصح أن الضلالة أخص، ولكن لا يتم الجواب، إذ لا يلزم من نفي الخاص نفي العام. ولما تضمن كونه رسولاً، بمعنى كونه مهتدياً، صح الاستدلال به على انتفاء الضلالة".

وقريب من هذه المعاني ما ذكره صاحب "الانتصاف".

وقلت - وبالله التوفيق -: العجب من هؤلاء الفضلاء كيف يتكلمون بما لا جدوى معه؟ ! أين تفسير كلام الله المجيد المقدس عن العوج، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من اصطلاح المنطقي؟ ! فإن المصنف إنما يتكلم لمقتضى الحال، ومطابقة الجواب للسؤال، ولا يعتبر مفردات اللفظ.

بيانه: أن القوم لما أثبتوا له نوعاً من الضلال، وهو كونه ضلالاً مبيناً، لا مطلق الضلال كما توهموه، يدل عليه ما رويناه عنه: وصفوه بالضلال البين الظاهر شأنه، لا ضلال بعده. فالجواب إنما يطابق إذا كان أبلغ منه، فإذا لم تحمل "الضلالة" على ما قدره، فمن أين يفيد

ص: 422

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأبلغية؟ ولو لم ترد المبالغة، لكان مقتضى الظاهر أن يقال في جواب (إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ): ليس بي ضلال، فلما أثبتوا النوع نفى الوحدة.

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه عليه السلام نفى الجنس لتنتفي الماهية، فيحصل المقصود؟

قلت: فإذن يفوت مقتضى العدول من لفظ "الضلال" إلى "الضلالة" وإرادة التردة منها، لأن نفي الشيء مع الصفة في مقام نفيه أبلغ من نفيه وحده، كما ستقف عليه في قوله تعالى:(ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ)[غافر: 18]، ولأن نفي الوحدة لإرادة انتفاء الماهية أبلغ من العكس، لمكان الكناية، واستلزام الاستغراق بحسب أفراد الجنس، كما قال صاحب "المثل السائر": "فإذا نفى نوح عليه السلام عن نفسه المرة الواحدة من الضلال، فقد نفى ما فوقها من المرتين والمرات الكثيرة، فظهر أن التركيب إنما يفيد المطلوب إذا وقع جواباً مع إرادة المبالغة، لا بالنظر إلى اللفظ من حيث هو هو.

ألا ترى إلى أن قوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)[البقرة: 15] إنما كان أبلغ من قوله: (إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)[البقرة: 14] حيث وقع جواباً له؟ ولو نظر إلى اللفظ فقط كان هو أحط منه بدرجاتٍ كثيرة".

ص: 423

فإن قلت: كيف وقع قوله: (وَلكِنِّي رَسُولٌ) استدراكاً للانتفاء عن الضلالة؟ قلت: كونه رسولاً من الله مبلغاً رسالاته ناصحاً، في معنى كونه على الصراط المستقيم، فصحّ لذلك أن يكون استدراكاً للانتفاء .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما مسألة التمرة، فإذا قال القائل: ليس عندي تمرة ابتداءً، لصح ما قاله الزاعم، أما لو قاله إنكاراً لمن يتهمه بادخار التمر، كيف يصح ما قال؟

والحاصل أن اقتضاء المقام ينحي بالهدم لجميع ما بنوه.

ولما كان الإمام الداعي إلى الله ذا حظ وافر من علم البيان، قال في تفسيره: "فإن قيل: إن القوم قالوا: (إنا لنراك في ضلال)، وجوابه أن يقال: ليس بي ضلال، فلم ترك هذا، وعدل إلى قوله:(ليس بي ضلالة)؟ قلنا: لأن المراد بقوله: (ليس بي ضلالة) أي: ليس بي نوع من أنواع الضلالة البتة، فكان أبلغ في عموم السلب.

وقال القاضي: " (ليس بي ضلالة) أي: شيء من الضلال، بالغ في النفي كما بالغوا في الإثبات".

قوله: (فصح لذلك أن يكون استدراكاً). تلخيص السؤال أن "لكن" حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفياً وإيجاباً. وأين هذا المعنى في الآية؟

ص: 424

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأجاب: إن التغاير حاصل من حيث المعنى، لأن معنى قوله تعالى:(رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ) أي: على صراطٍ مستقيم، كأنه قال: ليس بي ضلالة قط، لكني على الهداية البينة. كقولك: جاءني زيد لكن عمراً غائب.

فإن قلت: ما فائدة العدول عن الظاهر؟ قلت: إرادة المبالغة في إثبات الهداية، على أقصى ما يمكن، كما نفى الضلالة كذلك. فكونه رسولاً من رب العالمين يوجب أن يكون مهتدياً، لا غاية بعده، لكونها انتهاء مراتب البشرية، وكمال الرسالة، وكونه ناصحاً للأمة، وأميناً في أداء الرسالة إليهم - كما سنقرره - يقتضي أن يكون هادياً، مرشداً، ليس بعده. ومن شأنه هذا كيف يقال في حقه:(إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ)؟

وهذا التقرير يؤيد ما ذهب إليه المصنف في تفسير الضلالة، لأن المعنى: ليس في شيء من الضلالة، لكني على هدى لا يكتنه كنهه.

وعلى منواله قول القائل:

له حاجب في كل أمرٍ يشينه

وليس له عن طالب العرف حاجب

ص: 425

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإن قلت: إن كان المعنى على ما ذكرت: لكني على هدىً لا يكتنه كنهه، فلم ترك الاختصار، وسلك طريق الإطناب؟ .

قلت: لا ارتياب أن هذا الاستدراك زيادة على الجواب، لأن قوله:(ليس بي ضلالة) كان كافياً كما مر، فيكون من الأسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي، لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد، وإخلاص العبادة لله تعالى. فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن، لما اعترضوا عليه من قولهم:(إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مِبينٍ) فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن وجه، حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف. يعني: دعوا نسبة الضلالة إلى، وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم، وأمينكم، ورسول رب العالمين.

ص: 426

عن الضلالة. وقرئ: (أبلغكم) بالتخفيف.

فإن قلت: كيف موقع قوله (أُبَلِّغُكُمْ)؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون كلاماً مستأنفاً بياناً لكونه رسول رب العالمين. والثاني: أن يكون صفةً لـ (رسول).

فإن قلت: كيف جاز أن يكون صفةً، والرسول لفظه لفظ الغائب؟ قلت: جاز ذلك، لأن "الرسول" وقع خبراً عن ضمير المخاطب، وكان معناه، كما قال:

أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِ أُمِّي حَيْدَرَهْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ألا ترى أن صالحاً عليه السلام لما لم يعترضوا عليه، عقب بإثبات الرسالة إثبات التوحيد في قوله:(اعْبُدُوا اللَّهَ) إلى: (قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ)[الأعراف: 73].

ففيه خمسة أنواع من الأنواع البديعية. فإذا اقتضى المقام هذا الإطناب، كان الاقتصار على تلك العبارة تقصيراً، والله أعلم.

قوله: (وقرئ: "أبلغكم" بالتخفيف): أبو عمرو.

وقوله: (لأن "الرسول" وقع خبراً عن ضمير المخاطب) بكسر الطاء، أي: المتكلم، في قوله:"لكني"، كأنه قال: لكني أبلغكم رسالات ربي. فأقحم (رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ) للإبهام، ثم بينه بقوله:(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي) تفخيماً وتعظيماً. ومن ثم زيد قوله: (رَّبِّ العَالَمِينَ).

ص: 427

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكذلك قوله: "أنا الذي سمتني أمي حيدره" أصله: أنا سمتني أمي حيدرة، فأقحم الموصولة للتفخيم.

ويعضده ما بعده:

كليث غاباتٍ كريه المنظره

أو فيهم بالصاع كيل السندره

أي: أنا ذلك المشهور، المعروف في الشجاعة، الذي لا يخفى على كل أحد. ولا يريد مجرد الإخبار عن أن أمه سمته بهذا الاسم؛ إذ لو أريد ذلك لقال: أنا الذي سمته أمه حيدرة.

قائله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.

الجوهري: "سمته أمه فاطمة بنت أسد باسم أبيها، وأبو طالب غائب، فلما قدم كرهه، وسماه علياً".

وكان القياس: أنا الذي سمته، ليرجع الضمير إلى الموصول، ولكنه ذهب إلى المعنى، لأن خبر المبتدأ هو الموصول مع الصلة، وفيه ضمير "أنا" الراجع إلى المبتدأ، كأنه قال: أنا سمتني.

ص: 428

(رِسالاتِ رَبِّي): ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة، أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر.

ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جدّه إدريس، وهي ثلاثون صحيفة، ومن صحف شيث وهي خمسون صحيفة.

(وَأَنْصَحُ لَكُمْ) يقال: نصحته ونصحت له، وفي زيادة اللام مبالغةٌ ودلالةٌ على إمحاض النصيحة وأنها وقعت خالصة للمنصوح له مقصوداً بها جانبه لا غير، فرب نصيحة ينتفع بها الناصح، فيقصد النفعين جميعاً، ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله تعالى ورسله عليهم السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والحيدرة: من أسماء الأسد. والسندرة: مكيال ضخم.

أي: أقتلهم قتلاً سريعاً.

وفي رواية مسلم: "قالها - أي: الأبيات - في مبارزة المرحب، ثم ضرب رأسه، فقتله".

قوله: ((رسالات ربي): ما أوحي إلى). يعني: إنما جمع: (رسالات ربي) لاختلاف أوقاتها، أو لتنوع معانيها، أو لكثرة المنزل عليهم من الرسل.

قوله: (ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله ورسله)، لاجتماع الرسل قاطبةً على نحو قوله:"قل ما سألتكم عليه أجراً فهو لكم إن أجري إلا على الله"، وأصل النصح في اللغة: الخلوص، يقال: نصحت العسل: إذا خلصته من الشمع، ويقال: هو مأخوذ من: نصح الرجل ثوبه، أي: خاطه، شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بفعل الخياط فيما يسد من خلل الثوب.

واعلم أن النصيحة باب عظيم في الدين، روينا عن مسلم وأبي داود والنسائي عن تميم الداري: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "إن الدين النصيحة" ثلاثاً، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله

ص: 429

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" هذا رواية مسلم. وأخرج نحوه الترمذي عن أبي هريرة.

قال أبو سليمان الخطابي: "النصيحة: كلمة جامعة يعبر بها عن جملة إرادة الخير، وليس يمكن أن يعبر بهذا المعنى بكلمة وجيزة يحصرها ويجمع معناها غيرها، كما قالوا في "الفلاح": ليس في كلامهم كلمة أجمع لخير الدنيا والآخرة منه.

فقوله صلي الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" يريد: عماد أمر الدين إنما هو النصيحة، وبها ثباته، كقوله صلي الله عليه وسلم:"الأعمال بالنيات"، أي: صحتها وثباتها بالنية.

فمعنى نصيحة الله: الإيمان به وصحة الاعتقاد في وحدانيته، وترك الإلحاد في صفاته، وإخلاص النية في عبادته، وبذل الطاعة فيما أمر به ونهي عنه، والاعتراف بنعمته والشكر له عليها، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصيحة نفسه، والله غني عن نصح كل ناصحٍ.

ومعنى نصيحة الكتاب: الإيمان به، وبأنه كلام الله ووحيه وتنزيله، لا يقدر على مثله أحد من المخلوقين، وإقامة حروفه في التلاوة، والتصديق بوعده ووعيده، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه.

وأما النصيحة لرسول الله صلي الله عليه وسلم: فهو التصديق بنبوته، وقبول ما جاء به ودعا إليه، وبذل الطاعة فيما أمر ونهي، والانقياد له، وإيثاره بالمحبة فوق نفسه، ووالده، وولده، والناس أجمعين.

ص: 430

(وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي: من صفات الله وأحواله، يعني: قدرته الباهرة وشدّة بطشه على أعدائه، وأن بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين.

وقيل: لم يسمعوا بقوم حلّ بهم العذاب قبلهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ونصيحة الأئمة: أن تطيعهم في الحق، ولا ترى الخروج عليهم إذا جاروا.

ونصيحة عامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم في الدنيا والدين".

وجماع القول فيه: أن النصيحة هي خلوص المحبة للمنصوح له، والتحري فيما يستدعيه حقه، فلا يبعد أن يدخل في المعنى ما رويناه عن البخاري ومسلم والترمذي عن معاذ، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم:"حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" فقلت: يا رسول الله، أفلا أبشر به الناس؟ قال:"لا تبشرهم فيتكلوا". ويدخل فيه أيضًا قوله تعالى: (تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا)[التحريم: 8]، قال:"التوبة النصوح: هي أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم فيأتوا بها على طريقتها، متداركةً للفرطات، ماحيةً للسيئات"، وعلى هذا جميع أعضاء الإنسان، كل على حسب ما خلق لأجله.

قوله: (أي: من صفات الله وأحواله). قيل: فيه نظر، لأن الحال صفة سريعة الزوال، وشيكة الانتقال، تدل على التغير والانفعال، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

والجواب أن المراد بالأحوال: الشؤون التي يبديها، كقوله تعالى:(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ)[الرحمن: 29].

وإليه الإشارة بقوله: "وشدة بطشه على أعدائه".

ص: 431

فكانوا آمنين لا يعلمون ما علمه نوحٌ بوحي الله إليه، أو أراد: وأعلم من جهة الله أشياء لا علم لكم بها قد أوحي إليّ بها.

[(أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)].

(أَوَعَجِبْتُمْ) الهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم. (أَنْ جاءَكُمْ): من أن جاءكم (ذِكْرٌ): موعظةٌ، (مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ): على لسان رجل منكم، كقوله:(ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ)[آل عمران: 194]، وذلك أنهم يتعجبون من نبوّة نوح عليه السلام ويقولون:(ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين) يعنون إرسال البشر، (ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة) [المؤمنون: 24].

(لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا): ليحذركم عاقبة الكفر وليوجد منكم التقوى، وهي الخشية بسبب الإنذار، (وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ): ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو أراد: وأعلم من جهة الله). يريد: أن (من) في قوله: (وأعلم من الله): إما بيان (ما) حال منه، أو من العائد المحذوف في الصلة. فالمعنى: وأعلم ما لا تعلمون من صفات الله تعالى، وهي: شدة بطشه على أعدائه. وإنما لم يعلموا لأنهم أول الأمم الهالكة، لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم. أو هو متعلق بقوله:"أعلم"، ابتدائية. فالمعنى ما قال:"وأعلم من جهة الله أشياء لا علم لكم بها"، لأن الوحي إنما يختص بالأنبياء.

قوله: (وليوجد منكم التقوى). أي: ليوجد منه الإنذار، وليوجد منكم التقوى.

نزلهما منزلة اللازم، وجعل العطف على مجموع (لينذركم) مع اللام، على منوال قوله

ص: 432

[(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ)].

(وَالَّذِينَ مَعَهُ) قيل: كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة. وقيل: تسعة، بنوه سامٌ وحامٌ ويافث، وستةٌ ممن آمن به.

فإن قلت: (فِي الْفُلْكِ) بم يتعلق؟ قلت: هو متعلق بـ (مَعَهُ)، كأنه قيل: والذين استقروا معه في الفلك أو صحبوه في الفلك. ويجوز أن يتعلق بفعل الإنجاء، أي: أنجيناهم في السفينة من الطوفان، (عَمِينَ): عُمي القلوب غير مستبصرين، وقرئ:"عامِين". والفرق بين العَمِي والعامي: أن العمي يدل على عمىً ثابت، والعامي على عمىً حادث. ونحوه (قوله وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) [هود: 12].

[(وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ* قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ* قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعالى: (ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا وقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ)[النمل: 15]، على رأي صاحب "المفتاح". ولهذا قال:"وهي الخشية بسبب الإنذار"، لأن إنذاره مقدم على خشيتهم.

قال القاضي: "لينذركم عاقبة الكفر والمعاصي، ولتتقوا منها بسبب الإنذار".

قوله: (أن العمى يدل على عمى ثابت) لدلالة الصفة المشبهة على الثبوت، (والعامي على عمىً حادث) لأن اسم الفاعل دونها في الدلالة على الثبوت.

ص: 433

لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ* أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)].

(أَخاهُمْ): واحداً منهم، من قولك: يا أخا العرب، للواحد منهم، وإنما جعل واحداً منهم، لأنهم أفهم عن رجلٍ منهم وأعرف بحاله في صدقه وأمانته، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، و (أخاهم) عطفٌ على (نوحاً) [الأعراف: 59]، و (هُوداً) عطف بيان له.

فإن قلت: لم حذف العاطف من قوله: (قالَ يا قَوْمِ)، ولم يقل:«فقال» كما في قصة نوح؟ قلت: هو على تقدير سؤال سائلٍ قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: قال يا قوم اعبدوا الله، وكذلك (قالَ الْمَلَأُ).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأنهم أفهم عن رجلٍ منهم): أي: أفهم للكلام الصادر عن رجلٍ هو من أنفسهم، من رجلٍ من غيرهم، وأعرف بحاله من حال غيره، كقوله تعالى:(ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ)[إبراهيم: 4]، وقوله:(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ)[التوبة: 128].

قوله: (على تقدير سؤال سائل): وحاصله: إن كان الفاء رابطاً لفظياً، فالاستئناف رابط معنوي، كما سبق في أول "البقرة".

قال صاحب "الفرائد": "إنما حسن هذا لأن قصة نوح عليه السلام ابتداء كلام، فالسؤال غير مقتضى الحال. وأما قصة "هود" فكانت معطوفة على قصة "نوح"، فيمكن أن يقع في خاطر السامع: أقال هود ما قال نوح، أم قال غيره؟ فكانت مظنه أن يسأل: ماذا قال هود لقومه؟ فقيل: قال ما قاله نوح لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ).

ص: 434

فإن قلت: لم وصف الملأ بـ (الَّذِينَ كَفَرُوا) دون الملأ من قوم نوح؟ قلت: كان في أشراف قوم هود من آمن به، منهم مرثد بن سعدٍ الذي أسلم وكان يكتم إسلامه فأريدت التفرقة بالوصف، ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن. ونحوه قوله تعالى:(وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة)[المؤمنون: 33]، ويجوز أن يكون وصفاً وارداً للذمّ لا غير.

(فِي سَفاهَةٍ): في خفة حلمٍ وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دينٍ آخر، وجعلت السفاهة ظرفاً على طريق المجاز. أرادوا أنه متمكنٌ فيها غير منفك عنها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فأريدت التفرقة بالوصف): يعني: إنما وصف الملأ من قوم هود، دون قوم نوح، ليمتاز الذين كفروا من الذين آمنوا منهم. ولما لم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن، لم يفتقر إلى التفرقة.

قال مولانا الإمام بهاء الدين الكاشي، تغمده الله برحمته:"وفيه نظر، لأن قوله تعالى في سورة "المؤمنين": (فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) [المؤمنون: 24] وارد في قوم نوح، وهو لا يساعد هذا الجواب. بقي أن يكون وصف ذم". يعني الجواب الأول مدخول، فتعين الجواب الثاني، وهو قوله:"ويجوز أن يكون وصفاً وارداً للذم".

وقلت: ويمكن أن يقال: إن اختصاص هذا المقام بالذم دون الأول، لأن هوداً كان

ص: 435

وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به، من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء وترك المقابلة، بما قالوا لهم مع علمهم بأنّ خصومهم أضلّ الناس وأسفههم: أدبٌ حسنٌ وخلقٌ عظيم، وحكاية الله عز وجل ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم.

(ناصِحٌ أَمِينٌ) أي: عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة، فما حقي أن أُتهم، أو: أنا لكم ناصحٌ فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منهم، لقوله تعالى:(أخاهم)، وكانوا أعرف بحاله أنه أحلم الناس، وأرشدهم سجيةً، وأصدقهم لهجة، فكان جوابهم:(إنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وإنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ) كفراً وعناداً، وستراً للحق، بخلاف قول الملأ من أشراف قوم نوحٍ في هذا المقام.

ألا ترى كيف ذمهم في سورة "المؤمنين"، حيث قالوا:(مَا هَذَا إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ (24) إنْ هُوَ إلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) [المؤمنون: 24 - 25].

قوله: (في إجابة الأنبياء) خبر، وقوله:"أدب حسن" مبتدأ، "وترك المقابلة" عطف على "إجابة"، و"بما أجابوهم به" متعلق بـ"إجابة"، والكلام فيه الإدماج المسمى بإشارة النص في الأصول.

قوله: ((ناصح أمين): أي عرفت فيما بينكم): يشير بهذا إلى أن قوله: (وأنا لكم ناصح أمين) جملة مستأنفه، وقعت معترضة. ثم قوله:"وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين"

ص: 436

(خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أي: خلفتموه في الأرض، أو جعلكم ملوكاً في الأرض قد استخلفكم فيها بعدهم، (فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) فيما خلق من أجرامكم ذهاباً في الطول والبدانة، قيل: كان أقصرهم ستين ذراعاً، وأطولهم مئة ذراع، (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ) في استخلافكم وبسطة أجرامكم وما سواهما من عطاياه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يؤذن أن الواو للحال. ونحوه صرح به في "البقرة" في قوله: (اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وأَنتُمْ ظَالِمُونَ)[البقرة: 92] اعتراضاً وحالاً.

قوله: (فيما خلق من أجرامكم): جعل قوله: (في الخلق) ظرفاً لقوله: (وزادكم)، (بصطة): مفعول به. وفسر "البسطة": بالطول والبدانة.

قال أبو البقاء: (في الخلق) يجوز أن يكون حالاً من (بصطةً)، وأن يكون متعلقاً بـ"زادكم".

واختار القاضي أن يكون حالاً، حيث قال:(وزادكم في الخلق بصطةً): قامةً وقوة. وهو تعميم بعد تخصيص".

قوله: ((فأذكروا الاء الله): في استخلافكم، وبسطة أجرامكم): يعني: أن المراد بـ (ألاء الله) ما ذكره في قوله تعالى: (واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً). كرره تقريراً وتوكيداً، ليشكروا تلك النعمة، بتصديق رسوله، وما

ص: 437

وواحد "الآلاء": «إلى» ونحو: إنىً وآناء، وضلعٍ وأضلاع، وعنبٍ وأعناب.

فإن قلت: (إذ) في قوله: (إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ)، ما وجه انتصابه؟ قلت: هو مفعولٌ به وليس بظرف، أي: اذكروا وقت استخلافكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جاء به، فيعبدوا الله، ويوحدوه، ويتركوا العناد والتعجب.

وفي ذكر نوح إشارة إلى دفع التعجب، يعني: هذا الذي جئت به ليس ببدع، فاذكروا نوحاً وإرساله إلى قومه، وإلى الوعيد والتهديد. أي: اذكروا إهلاك قومه لتكذيبهم رسول ربهم.

قوله: (وواحد "الآلاء": "إلى"): قال الزجاج: "آلاء الله: نعم الله. واحدها: إلى. قال الأعشى:

أبيض لا يرهب الهزال، ولا

يقطع رحماً، ولا يخون إلا

واحدها: إلى، وألا، وإلى.

قوله: (هو مفعول به وليس بظرف): قال صاحب "الفرائد": "يشكل هذا بقولهم: "إذ" و"إذا"، وقوعهما ظرفين لازم". وأجيب: أن باب الاتساع واسع.

ص: 438

[(قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَاتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ* فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ)].

(أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ) أنكروا واستبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، وترك دين الآباء في اتخاذ الأصنام شركاء معه، حباً لما نشؤوا عليه، وإلفاً لما صادفوا آباءهم يتدينون به.

فإن قلت: ما معنى المجيء في قوله: (أَجِئْتَنا)؟ قلت: فيه أوجه: أن يكون لهودٍ عليه السلام مكانٌ معتزلٌ عن قومه يتحنث فيه، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراءٍ قبل المبعث، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم.

وأن يريدوا به الاستهزاء، لأنهم كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لا يرسل إلا الملائكة، فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء كما يجيء الملك. وأن لا يريدوا حقيقة المجيء،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (يتحنث فيه)، النهاية:"أي: يتعبد. يقال: فلان يتحنث، أي: يفعل فعلاً يخرج به من الإثم، كما يقال: يتأثم ويتحرج: إذا فل ما يخرج به من الإثم والحرج".

قوله: (فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء؟ ): فإن قلت: أين قرينة هذا المجيء؟ قلت: إنهم لما استبعدوا اختصاص الله وحده بالعبادة، بنوا الأمر على المحال، كقوله تعالى:(كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)[الأنعام: 125]، فإثبات المجيء حينئذٍ على الحقيقة استهزاء.

ص: 439

ولكن التعرّض بذلك والقصد، كما يقال: ذهب يشتمني، ولا يراد حقيقة الذهاب، كأنهم قالوا: أقصدتنا لنعبد الله وحده وتعرّضت لنا بتكليف ذلك؟

(فَاتِنا بِما تَعِدُنا) استعجالٌ منهم للعذاب.

(قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ) أي: حق عليكم ووجب، أو قد نزل عليكم. جعل المتوقع الذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع، .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((قد وقع عليكم): أي: حق عليكم ووجب): يعني: استعمال (وقع) في الرجس والغضب مجاز من الوجوب الذي هو اللزوم، من إطلاق السبب، كاستعمال الوجوب الشرعي، لأنه في الأصل للوقوع.

قال تعالى: (فَإذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)[الحج: 36].

قال المصنف: "وجوب الجنوب: وقوعها على الأرض".

ويجوز أن يكون استعارة تبعية، شبه تعلق الغضب والرجس بهم، بنزول جسم من علو إلى سفل. وهو المراد من قوله:"أو قد نزل عليكم".

ص: 440

ونحوه قولك لمن طلب إليك بعض المطالب: قد كان ذلك.

وعن حسان: أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبورٌ وهو طفل، فجاء يبكي، فقال له يا بني مالك؟ قال: لسعني طويرٌ كأنه ملتفٌ في بردي حبرة، فضمه إلى صدره وقال له: يا بني، قد قلت الشعر.

والرجس: العذاب، من الارتجاس، وهو الاضطراب، (فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها): في أشياء ما هي إلا أسماءٌ ليس تحتها مسميات، لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الإلهية فيها معدومٌ محالٌ وجوده، وهذا كقوله تعالى:(ما تدعون من دونه من شيء)[العنكبوت: 42]، ومعنى (سَمَّيْتُمُوها): سميتم بها، من قولك: سميته زيداً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لمن طلب إليك بعض المطالب): أي: احتاج إليك في الطلب. وفيه تضمين.

قوله: (في بردي حبرة): النهاية: "الحبير من البرود: ما كان موشياً مخططاً. يقال: برد خبير، وبرد حبرة - بوزن: عنبة - على الوصف والإضافة، وهو برد يمانٍ".

قوله: (قد قلت الشعر): لما لفق ابنه هذه الألفاظ، توقع منه أنه سيقوله. فجعل المتوقع كالواقع، فقال:"قد قلت" على الماضي.

ص: 441

وقطعُ دابرهم: استئصالهم وتدميرهم عن آخرهم، وقصتهم: أن عاداً قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت. وكانت لهم أصنام يعبدونها، صداء. وصمود، والهباء، فبعث الله إليهم هوداً نبياً، وكان من أوسطهم وأفضلهم حسباً، فكذبوه وازدادوا عتوّاً وتجبراً، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا، وكان الناس إذا نزل بهم بلاءٌ طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه عند بيته المحرّم، مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة إذ ذاك العماليق؛ أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وسيدهم معاوية بن بكر، فجهزت عادٌ إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلاً، منهم قيل ابن عنز، ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه، فلما قدموا نزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان- قينتان كانتا لمعاوية - فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له أهمه ذلك، وقال: قد هلك أخوالي وأصهاري، وهؤلاء على ما هم عليه، وكان يستحي أن يكلمهم؛ خيفة أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين، فقالتا: قل شعراً نغنيهم به لا يدرون من قاله، فقال معاوية:

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعلّ الله يسقينا غماما

فيسقي أرض عادٍ إن عاداً

قد امسوا ما يبينون الكلاما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فهينم)، الهينمة: إخفاء الكلام. وهاهنا: عبارة عن الدعاء.

قوله: (يسقينا غماماً): أي: غيثاً.

قوله: (ما يبينون الكلاما) أي: لا يفقهون قولاً من ضعفهم.

ص: 442

فلما غنتا به قالوا: إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم، فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سقيتم، وأظهر إسلامه، فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثداً لا يقدمنّ معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا، ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله تعالى سحاباتٍ ثلاثاً: بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه منادٍ من السماء:

يا قيل، اختر لنفسك ولقومك، فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهنّ ماءً، فخرجت على عادٍ من وادٍ لهم يقال له: المغيث، فاستبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا، فجاءتهم منها ريحٌ عقيمٌ فأهلكتهم، ونجا هودٌ عليه السلام والمؤمنون معه، فأتوا مكة، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا.

فإن قلت: ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله: (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت:

هو تعريضٌ بمن آمن منهم، كمرثد بن سعد، ومن نجا مع هودٍ عليه السلام، كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أنّ الهلاك خص المكذبين، ونجى الله المؤمنين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هو تعريض بمن آمن منهم): يعني: إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين، وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان، تزيد رغبته فيه، ويعظم قدره عنده.

ونظيره في اعتبار شرف الإيمان قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ) إلى قوله: (ويُؤْمِنُونَ بِهِ)[غافر: 7]. وحملة العرش ليسوا ممن لا يؤمنون، لكن ذكر الإيمان لشرفه والترغيب فيه.

ص: 443

[(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَاكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَاخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)].

قرئ: (وَإِلى ثَمُودَ) بمنع الصرف بتأويل القبيلة، و"إلى ثمودٍ" بالصرف بتأويل الحيّ، أو باعتبار الأصل؛ لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. وقيل: سميت ثمود لقلة مائها، من الثمد، وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحِجْرَ بين الشام والحجاز إلى وادي القرى.

(قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ): آيةٌ ظاهرةٌ وشاهدٌ على صحة نبوّتي، وكأنه قيل: ما هذه البينة؟ فقال: (هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً)، و (آيةً) نصبٌ على الحال، والعامل فيها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل، كأنه قيل: أشير إليها آية.

و(لكم) بيانٌ لمن هي له آيةٌ موجبةٌ عليه الإيمان خاصة وهم ثمود، لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها وليس الخبر كالمعاينة، كأنه قال: لكم خصوصاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أخو إدريس) في بعض النسخ بعد ذكر نسب ثمود، وهو خطأ. ويعلم من انتسابه نوحاً قبيل هذا.

قوله: (لمن هي له آية موجبة عليه): اللام في "لمن" صلة "بيان"، و"من" موصولة، وصلتها الجملة، وقوله:"هي": مبتدأ، "آية موجبة": خبر، و"له": حال من "آية"، والجملة صلة الموصول.

ص: 444

وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيما لها وتفخيما لشأنها، وأنها جاءت من عنده مكوّنة من غير فحلٍ وطروقةٍ آيةً من آياته، كما تقول: آية الله.

وروي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض وكثروا، وعمروا أعماراً طوالاً، حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في سعةٍ ورخاءٍ من العيش، فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان، فبعث الله تعالى إليهم صالحاً عليه السلام، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مكونةً) أي: موجودة، لكن من غير واسطة، كما قيل لعيسى "كلمة".

قوله: (وطروقةٍ)، الجوهري:"يقال: ناقة طروقة الفحل، للتي بلغت أن يضربها الفحل"، "وناقة مخترجة: إذا خرجت على هيئة الجمل".

الراغب: "الطرق في الأصل: الضرب، إلا أنه أخص، لأنه ضرب يوقع بطرق الحديد بالمطرقة، ويتوسع فيه توسعهم في الضرب. ومنه قيل: طرق الفحل الناقة، وأطرقها، واستطرقت فلاناً فحلاً. ويقال للناقة: طروقة".

قوله: (آية من آياته): حال من ضمير "جاءت"، وكذا "مكونة"، والظاهر أنها حال من ضمير "مكونة" متداخلة.

وذكر المصنف في سورة "هود""أن (لكم): حال من (آية)، وكانت: صفة، فقدمت، وصارت حالاً".

ص: 445

وكانوا قوماً عرباً، وصالحٌ من أوسطهم نسباً، فدعاهم إلى الله تعالى، فلم يتبعه إلا قليلٌ منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آيةً، فقال: أية آيةٍ تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة، فتدعوا إلهك وندعو آلهتنا، فإن استجيب لك اتبعناك، وإن استجيب لنا اتبعتنا، فقال صالح: نعم، فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم، ثم قال سيدهم جندع بن عمرو- وأشار إلى صخرةٍ منفردةٍ في ناحية الجبل يقال لها: الكاثبة -: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجةً جوفاء وبراء - والمخترجة: التي شاكلت البُختَ-، فإن فعلت صدّقناك وأجبناك، فأخذ صالحٌ عليه السلام عليهم المواثيق: لئن فعلت ذلك لتؤمننّ ولتصدّقنّ! قالوا: نعم، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقةٍ عشراء جوفاء وبراء. كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى، وعظماؤهم ينظرون، ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندعٌ ورهطٌ من قومه، ومنع أعقابهم ناسٌ من رؤوسهم أن يؤمنوا، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء، وكانت ترد غباً، فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقريب منه معنى ما قاله هنا: "و (لكم): بيان لمن هي له آية".

قال أبو البقاء: "ويجوز أن يكون (لكم) حالاً من (آيةً). ويجوز أن يكون (ناقة الله) بدلاً من (هذه)، أو عطف بيان، و (لكم) الخبر. ويجوز أن يعمل في (أية): (لكم). وجاز أن يكون (آية) حالاً، لأنها بمعنى علامة ودليلاً".

قوله: (وسألوها) أي: سألوا الأصنام أن تستجيب دعاءهم، أي: تجيب. قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ)[آل عمران: 195].

ص: 446

فما ترفعه حتى تشرب كلّ ماء فيها، ثم تتفحج فيحتلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون ويدخرون.

قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعاً.

وكانت الناقة إذا وقع الحرّ تصيفت بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم، فتهبط إلى بطنه، وإذا وقع البرد تشتت بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان: عنيزة أمّ غنم، وصدقة بنت المختار، لما أضرّت به من مواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي، فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه، فانطلق سقبها حتى رقي جبلاً اسمه قارة، فرغى ثلاثاً، وكان صالحٌ قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها. فقال لهم صالح: تصبحون غداً ووجوهكم مصفرّة، وبعد غدٍ ووجوهكم محمرةٌ، واليوم الثالث ووجوهكم مسودّة، ثم يصبحكم العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله إلى أرض فلسطين، ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر، وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحةٌ من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ثم تتفحج) بالفاء، والحاء المهملة، والجيم بعدها.

نقل الجوهري عن أبي عمرو: "والتفحج مثل: التفشج: وهو أن يفرج بين رجليه".

قوله: (تصيفت): أي: تلبثت بالصيف. و"تشتت": إذا تلبثت بالشتاء.

قوله: (سقبها). السقب: الذكر من أولاد الإبل. "تحنطوا": أي: اتخذوا حنوطاً. والحنوط: الذريرة. "لا تريبوها"، من قولهم:"رابني فلان: إذا رأيت منه ما يسوؤك وتكرهه".

ص: 447

(تأكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ) أي: الأرض أرض الله والناقة ناقة الله، فذروها تأكل في أرض ربها، فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم، (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ): لا تضربوها ولا تطردوها ولا تريبوها بشيءٍ من الأذى، إكراماً لآية الله.

ويروى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحِجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: «لا يدخلنّ أحد منكم القرية، ولا تشربوا من مائها، ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم» . وقال صلى الله عليه وسلم: «يا عليّ، أتدري من أشقى الأوّلين» ؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال:«عاقر ناقة صالح، أتدري من أشقى الآخرين» ؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال «قاتلك» .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي: الأرض أرض الله، والناقة ناقة الله): فإن قلت: هذه الإضافة آذنت بالاختصاص، وقد قدر فيما سبق أن الإضافة في (ناقة الله) للتعظيم والتفخيم، ولا ارتياب أن الإضافة في (أرض الله) غير مطلوبٍ منها التعظيم، بل الاختصاص، فأين التطابق؟ قلت: الاختصاص لا يدفعه التعظيم.

قوله: (ويروى: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم): الحديث من رواية البخاري ومسلم، عن ابن عمر قال:"لما مر رسول الله صلي الله عليه وسلم بالحجر"، قال:"لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين". ثم قنع رأسه، وأسرع السير، حتى جاز الوادي.

أما رواية الكتاب. "باكين أن يصيبكم" فمعناه: خائفين أن يصيبكم مثل ما أصابهم.

قوله: (يا علي، أتدري من أشقى الأولين؟ ): وروى ابن عبد البر في "الاستيعاب" عن

ص: 448

وقرأ أبو جعفر - في رواية-: "تأكل في أرض الله"، وهو في موضع الحال بمعنى آكلة.

(وَبَوَّأَكُمْ): ونزلكم، والمباءة: المنزل (فِي الْأَرْضِ): في أرض الحِجرِ بين الحجاز والشام، (مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) أي: تبنونها من سهولة الأرض بما تعملون منها من الرهص واللبن والآجر. وقرأ الحسن: "وتنحتون" بفتح الحاء، و"تنحاتون" بإشباع الفتحة، كقوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النسائي، من حديث عمار بن ياسر، عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه:"أشقى الناس الذي قتل الناقة، والذي يضربك على هذا" - ووضع يده على رأسه - "حتى يخضب هذه" يعني: لحيته.

قوله: (من الرهص واللبن): الرهص: "العرق الأسفل من الحائط. كذا في "الأساس". والذي يوافق قول المصنف ما في "المغرب": "الرهص: الطين الذي يجعل بعضه على بعض".

"من) - في "من سهولة الأرض" -: بيان "ما" في "بما تعملون منها"، والباء - في "بما تعملون" - متعلقة بـ"تبنونها"، كما تقول: بنيت الدار بالحص والآجر والطين.

قال أبو البقاء: " (من سهولها): حال من (قصوراً)، أو مفعولاً ثانياً لـ (تتخذون) ".

ص: 449

يَنْبَاعُ مِنْ ذَفْرَى أَسِيلٍ حُرَّةٍ

فإن قلت: علام انتصب (بُيُوتاً)؟ قلت: على الحال، كما تقول: خط هذا الثوب قميصاً وأبر هذه القصبة قلماً، وهي من الحال المقدّرة، لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت، ولا الثوب ولا القصبة قميصاً وقلما في حال الخياطة والبري.

وقيل: كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء.

[(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ* قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ* فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ينباع من ذفرى أسيلٍ حرةٍ): تمامه:

زيافةٍ مثل الفنيق المكدم

البيت لعنترة.

ينباع: أصله: ينبع، فأشبع الفتحة لإقامة الوزن، فتولدت ألف، أي: يسيل.

والذفري من القفا: هو الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن، ولا ينون، لأن ألفها للتأنيث.

والأسيل: صفة الناقة. يقال: خد أسيل، إذا كان ليناً طويلاً. والحر من كل شيء: خالصه وجيده.

ص: 450

(لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا): للذين استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم، و (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدلٌ من "الذين استضعفوا".

فإن قلت: الضمير في (منهم) راجعٌ إلى ماذا؟ قلت: إلى (قَوْمِهِ) أو إلى "اِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا".

فإن قلت: هل لاختلاف المرجعين أثرٌ في اختلاف المعنى؟ قلت: نعم، وذلك أن الراجع إذا رجع إلى (قومه) فقد جعل "مَنْ آمَنَ" مفسراً لـ"من استضعف منهم"، فدل أن استضعافهم كان مقصوراً على المؤمنين، وإذا رجع إلى "الذين استضعفوا"، لم يكن الاستضعاف مقصوراً عليهم، ودلّ أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين.

(أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) شيءٌ قالوه على سبيل الطنز والسخرية، كما تقول للمجسمة: أتعلمون أن الله فوق العرش؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والزيافة من النوق: المختالة. والزيف: التبختر.

الفنيق: الفحل المكرم، والمكدم: المعضوض. يقال: ما بالبعير كدمة، أي: لم يكن به وسم ولا أثر.

يصف ناقةً يسيل العرق من خلف أذنيها، مؤثقة الخلق، شديدة التبختر، مثل فحل الإبل قد كدمته الفحول.

قوله: (فقد جعل "من آمن" مفسراً لـ"من استضعف منهم"): قال القاضي: " (لمن آمن منهم): يدل من (للذين استضعفوا)، بدل الكل، إذا رجع الضمير إلى (قولمه)، وإذا رجع إلى (للذين استضعفوا) بدل البعض"، لوجود الضمير حينئذ.

ص: 451

فإن قلت: كيف صحّ قولهم: (إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) جواباً عنه؟ قلت: سألوهم عن العلم بإرساله، فجعلوا إرساله أمراً معلوماً مكشوفاً مسلماً لا يدخله ريب، كأنهم قالوا: العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته، وإنما الكلام في وجوب الإيمان به، فنخبركم أنا به مؤمنون، ولذلك كان جواب الكفرة (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) فوضعوا (آمَنْتُمْ بِهِ) موضع (أُرْسِلَ بِهِ) رداً لما جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلماً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (سألوهم عن العلم بإرساله): حاصل الجواب أنه من باب الأسلوب الحكيم، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب.

قوله: (إنما الكلام في وجوب الإيمان به) أي: لا تسألوا عن العلم بإرساله، بل سلوا: هل يجب الإيمان به لأنه الأهم بشأنكم؟ فإن قلت: من أين دل الجواب على وجوب الإيمان به؟ قلت: من حيث إن أصل السؤال: أتعلمون أن صالحاً مرسل ثابت الرسالة بالدليل، فيجب الإيمان به عليكم وعلينا؟ فالجواب: نعم: علمنا وحققنا ثبوت رسالته بدعواه وإظهار المعجزة عليها، فنحن آمنا به وبما أرسل به من البينات، فأنتم أيضاً آمنوا به، فعدلوا عن ظاهر الجواب إلى ما تراه لتلك النكتة التي ذكرها المصنف، والقوم لما كانوا منكرين رسالة البشر تكبراً وعناداً، كما قالوا:(أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا)[المؤمنون: 47] ما أنصفوا، وقالوا:(إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ).

قوله: (ولذلك كان جواب الكفرة): أي: ولأجل أنهم ساقوا الكلام في وجوب الإيمان به، دون الإرسال، وكونه مرسلاً، قالت الكفرة:(إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ). فإنهم

ص: 452

(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) أُسند العقر إلى جميعهم، لأنه كان برضاهم وإن لم يباشره إلا بعضهم، وقد يقال للقبيلة الضخمة: أنتم فعلتم كذا، وما فعله إلا واحد منهم، (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ): وتولوا عنه واستكبروا عن امتثاله عاتين، و"أمر ربهم": ما أمر به على لسان صالح عليه السلام من قوله: (فَذَرُوها تَاكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ)[الأعراف: 73]، أو شأن ربهم وهو دينه. ويجوز أن يكون المعنى: وصدر عتوّهم عن أمر ربهم، كأن أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوّهم. ونحو "عن" هذه ما في قوله (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [الكهف: 82].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أيضاً عدلوا عن الظاهر، لأن جوابهم المطلق: إنا بالذي أرسل به كافرون. أي: ليس الأمر كما قلتم بأن الكلام في وجوب الإيمان به.

قال في "الانتصاف": "لو طابقوا، لقالوا: إنا بالذي أرسل به لكافرون، لكن عدلوا عن ذلك، لما فيه من إثبات رسالته، وهم يحجدونها، وقد ثبت مثل ذلك على وجه التهكم، كما قال: (إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء: 27]. لكن هؤلاء بالغوا في التحرز حذراً من النطق بثبوت الرسالة".

قوله: (ويجوز أن يكون المعنى: وصدر عتوهم): عطف على قوله: "وتولوا عنه". يريد أن الأمر في قوله: (عن أمر ربهم) إما بمعنى واحد الأوامر، أو واحد الأمور. فإن كان الأول، (فعتوا) إما مضمن لمعنى "التولي"، فالمعنى: تولوا واستكبروا عن امتثال أمرٍ عاتين. أو مضمن لمعنى الإصدار، فالمعنى: صدر عتوهم عن أمر ربهم. وسببه لأنه تعالى لما أمرهم بقوله: (فذروها تأكل في أرض الله) ابتلاءً، وهم ما امتثلوا الأمر، فصاروا عاتين لذلك. ولولا ذلك الأمر ما ترتب العتو.

ص: 453

(ائْتِنا بِما تَعِدُنا) أرادوا: من العذاب، وإنما جاز الإطلاق لأنه كان معلوماً، واستعجالهم له لتكذيبهم به، ولذلك علقوه بما هم به كافرون، وهو كونه من المرسلين.

(الرَّجْفَةُ): الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها (فِي دارِهِمْ): في بلادهم أو في مساكنهم (جاثِمِينَ): هامدين لا يتحركون موتى. يقال: الناس جُثمٌ، أي: قعودٌ لا حراك بهم ولا ينبسون نبسة، ومنه: المجثمة التي جاء النهي عنها، وهي البهيمة تربط وتجمع قوائمها لترمى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإن كان الثاني، فالمعنى: تولوا واستكبروا عن شأن الله، أي: دينه.

قوله: (واستعجالهم له) أي: للعذاب، لأجل تكذيبهم بالعذاب، لأن من حق من خاف النازلة، حذر واحترز، فضلاً عن أن يستعجل نزولها.

والدليل على أن استعجالهم كان للتكذيب تعليقهم استعجال العذاب، أي: بقوله: (إن كنت من المرسلين)، وقد أنكروا أنه من المرسلين، في قولهم:(إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ).

قوله: (لا ينبسون)، الجوهري:"ما نبس بكلمة، أي: ما تكلم".

قوله: (المجثمة) بفتح الثاء المثلثة.

المغرب: "هي بالفتح: ما يجثم، ثم يرمي حتى يقتل. وعن عكرمة: هي الشاة ترمى بالنبل. وعن شمر: بالحجارة. وقيل: إنها في الطير خاصة، والأرانب، وأشباه ذلك.

ص: 454

وعن جابر: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بالحِجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فأخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم إلا رجلٌ واحدٌ كان في حرم الله. قالوا: من هو؟ قال: ذاك أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه» . وروي: أنّ صالحاً كان بعثه إلى قوم، فخالف أمره. وروي: أنه عليه السلام مرّ بقبر أبي رغالٍ فقال: «أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فذكر قصة أبي رغال، وأنه دفن هاهنا ودفن معه غصنٌ من ذهب، فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) الظاهر أنه كان مشاهداً لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين، تولي مغتمّ متحسرٍ على ما فاته من إيمانهم، يتحزن لهم ويقول: يا قَوْمِ لَقَدْ بذلت فيكم وسعي، ولم آل جهداً في إبلاغكم والنصيحة لكم، ولكنكم (لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قال: أبو رغال). روى أبو داود عن ابن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبر، فقال صلي الله عليه وسلم:"هذا قبر أبي رغال، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه. وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهبٍ، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه" فابتدر الناس، فاستخرجوا الغصن.

قوله: (ولم آل جهداً)، الجوهري:"ألا يألو، أي: قصر. وفلان لا يألوك نصحاً، فهو آلٍ، والمرأة آلية".

ص: 455

ويجوز أن يتولى عنهم تولي ذاهبٍ عنهم، منكرٍ لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب.

وروي: أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت. وروي: أنه خرج في مئةٍ وعشرةٍ من المسلمين وهو يبكي، فالتفت، فرأى الدخان ساطعاً، فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفاً وخمس مئة دار. وروي: أنه رجع بمن معه، فسكنوا ديارهم.

فإن قلت: كيف صحّ خطاب الموتى وقوله: (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)؟ قلت: قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت- وكان قد نصحه حياً فلم يسمع منه حتى ألقى بنفسه في التهلكة-: يا أخي، كم نصحتك، وكم قلت لك فلم تقبل منى! وقوله:(وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) حكاية حالٍ ماضية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز أن يتولى عنهم تولى ذاهبٍ عنهم، منكرٍ) فعلى هذا: الخطاب مع القوم، يؤيده قوله:"حين رأى العلامات قبل نزول العذاب". والأول هو الظاهر، لترتب التولي بالفاء على (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) وهو المناسب منه عليه السلام، وأنه من العرب، ومن عادتهم البكاء على الديار وأهلها. وعليه يرد السؤال الآتي:"كيف صح خطاب الموتى؟ ".

قوله: (وكانوا ألفاً وخمس مئة دار) أي: كانت دورهم ألفاً وخمس مئة، فحذف المضاف، فانقلب الضمير المجرور مرفوعاً. كما مر في قوله:(والَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاَّ نَكِدًا)[الأعراف: 58]، أي: لا يخرج نباته.

قوله: (حكاية حالٍ ماضية) وكان من حق الظاهر أن يقال: نصحت لكم ولكن ما قبلتم نصحي، فعدل من الماضي إلى المضارع لاستحضار تلك الحالة التي وقعت فيها النصيحة،

ص: 456

[وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَاتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ* إِنَّكُمْ لَتَاتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ* وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ* فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ* وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)].

(وَلُوطاً) وأرسلنا لوطاً، و (إِذْ) ظرف لـ (أرسلنا). أو: واذكر لوطاً، و (إذ) بدلٌ منه، بمعنى: واذكر وقت (قالَ لِقَوْمِهِ أَتَاتُونَ الْفاحِشَةَ): أتفعلون السيئة المتمادية في القبح؟ (ما سَبَقَكُمْ بِها): ما عملها قبلكم، والباء للتعدية، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فأبوا إلا بغضها؛ تعجباً منه وتعجيباً لغيره من عدم القبول إلى المحبة، مبالغاً في الإصرار على الكفر، ومن الإفراد إلى الجمع المحلى باللام إيذاناً بأن ذلك كان دأبهم وعادتهم، وأنهم لا يقبلون نصح ناصحٍ، ومن ثم ما قبلوا نصحه.

قوله: (أو: واذكر لوطاً) على هذا عطف جملة القصة على مثلها. وعلى الأول: هو من عطف بعض مفردات الجملة على مثله، أي: لقد أرسلنا نوحاً ولوطاً.

وقوله: " (إذ) ظرف لـ (أرسلنا) " معناه: الزمان أو القرن الذي أرسل فيه لوط.

وقيل: إن الوقت الحقيقي لقوله: (أتأتون الفاحشة) هو الجزء المعين من الزمان الذي وقع فيه هذا الكلام. وذلك الجزء لا يصح أن يكون ظرفاً للإرسال. لكن كما أن ذلك الجزء زمان هذا القول، فكذلك ذلك اليوم، وذلك الشهر، وتلك السنة، وذلك القرن، فيتحقق من هذا التقرير معنى الأثر الحقيقي وغير الحقيقي.

وعلى عطف القصة على القصة، و (إذ) بدل، يكون أفيد، وذلك أن ذكر الأنبياء لتثبيت

ص: 457

من قولك: سبقته بالكرة، إذا ضربتها قبله. ومنه قوله عليه السلام:«سبقك بها عكاشة» . (مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ)(من) الأولى: زائدةٌ لتوكيد النفي، وإفادة معنى الاستغراق، والثانية للتبعيض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بتسليته مما يقاسي عن قومه. أي: اذكر تلك الحالة، وصورها في نفسك، لتعلم أن الأنبياء السالفة درجوا على ما أنت عليه مع القوم.

قوله: (سبقك بها عكاشة): عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "يدخل من أمتي زمرة هم سبعون ألفاً، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر". فقام عكاشة بن محصن الأسدي، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال صلي الله عليه وسلم:"اللهم اجعله منهم". ثم قام رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. فقال:"سبقك بها عكاشة".

قال صاحب "الجامع": عكاشة: بضم العين وتشديد الكاف وتخفيفها، والتشديد أكثر، ومحصن: بكسر الميم".

قوله: (والثانية للتبعيض). فتكون بدلاً من محل (من أحدٍ)، أي: ما سبقكم بها بعض العالمين، أي: أنتم تفردتم بهذا الفعل من بين من عداكم من العالمين.

قال في قوله تعالى: (أَتَاتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَالَمِينَ)[الشعراء: 165]: "أراد بالعالمين: الناس. أي: أتأتون من بين أولاد آدم - على فرط كثرتهم، وغلبة إناثهم - ذكرانهم؟ أو: أتأتون أنتم من بين من عداكم من العالمين الذكران؟ ".

ص: 458

فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: هي جملةٌ مستأنفة، أنكر عليهم أوّلاً بقوله:(أَتَاتُونَ الْفاحِشَةَ)، ثم وبخهم عليها فقال: أنتم أوّل من عملها.

أو على أنه جواب لسؤالٍ مقدّر، كأنهم قالوا: لم لا نأتيها؟ فقال: (ما سبقكم بها أحدٍ)، فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به.

(إِنَّكُمْ لَتَاتُونَ الرِّجالَ) بيانٌ لقوله: (أتأتون الفاحشة)، والهمزة مثلها في (أَتَاتُونَ) للإنكار والتعظيم. وقرئ:(إنكم) على الإخبار المستأنف. (لتأتون الرجال)، من: أتى المرأة؛ إذا غشيها.

(شَهْوَةً) مفعولٌ له، أي: للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلا مجرّد الشهوة من غير داع آخر، ولا ذم أعظم منه، لأنه وصفٌ لهم بالبهيمية، أنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة كطلب النسل ونحوه، أو حالٌ بمعنى مشتهين تابعين للشهوة غير ملتفتين ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هي جملة مستأنفة) أي: مبتدأة، مؤكدة لمعنى الإنكار، على سبيل التتميم والمبالغة فيه. أي: ما كفاكم ارتكاب هذه الفاحشة، حتى كنتم مقتدين فيها؟ كقولها:

وإن صخراً لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

وإنما قلنا: مبتدأة، ليعلم أن معنى قوله:"مستأنفة" وارد على اللغة لا على الاصطلاح، لقوله بعد ذلك:"أو على أنه جواب لسؤال مقدر"، وذلك هو المستأنفة المصطلحة.

قوله: (وقرئ: (إنكم) على الإخبار): نافع وحفص.

قوله: (أو حال بمعنى: مشتهين): وفرق بين أن يكون (شهوةً) حالاً، وبين أن يكون مفعولاً له؛ وذلك أن قضاء الشهوة في نفسه مسترذل سمج، لكن إذا جعل وسيلة إلى طلب

ص: 459

إلى السماجة، (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أضرب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح وتدعوا إلى اتباع الشهوات، وهو أنهم قومٌ عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثم أسرفوا في باب قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد، ونحوه:(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ)[الشعراء: 166].

(وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) يعني: ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوطٌ عليه السلام؛ من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الولد، وتكثير النسل، وذريعة إلى التعفف والتخلي للعبادة، كان محموداً.

فإذا قدر أنها حال، كان المطلوب مجرد الذم، والجري على الطبيعة. ولهذا قال:"تابعين الشهوة، غير ملفتتين إلى السماجة".

وإذا قدر أنها مفعول له، يعود معناه إلى تقبيح توخي قلب الحكمة، لأن الحكمة في وضعها: أن تكون ذريعة إلى بقاء النوع، وتكثير النسل، ووسيلةً إلى التعفف، والتخلي للعبادة. فإذا جعل الغرض الأصلي هو الشهوة، كان أسمج وأقبح من طلب مجرد الشهوة. ولذلك قال:"ولا ذم أعظم منه".

وقيل: قوله: "لأنه وصف لهم بالبهمية" يوهم ألا يكون على الحال وصفاً، وليس كذلك.

وأجيب: بأن المراد - على الأول - أنهم جمعوا بين الوصف بالبهمية، والوصف بأنه "لا داعي لهم من جهة العقل البتة" بخلاف الثاني، فإنه ساكت عن القصد وعدمه.

ص: 460

ولكنهم جاؤوا بشيءٍ آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته؛ من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجراً بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم.

وقولهم: (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) سخريةٌ بهم وبتطهرهم من الفواحش، وافتخاراً بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذا المتزهد.

(وَأَهْلَهُ): ومن يختص به من ذويه، أو من المؤمنين، (مِنَ الْغابِرِينَ): من الذين غبروا في ديارهم، أي: بقوا فهلكوا، والتذكير لتغليب الذكور على الإناث. وكانت كافرة مواليةً لأهل سدوم. وروي: أنها التفتت فأصابها حجرٌ فماتت.

وقيل: كانت المؤتفكةُ خمس مدائن. وقيل: كانوا أربعة آلافٍ بين الشام والمدينة، فأمطر الله عليهم الكبريت والنار ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومن معه من المؤمنين) عطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. وإنما جاز لأنه عطف على محل الضمير، لأنه منصوب على المفعولية، فليس بمتصلٍ بالمضاف اتصال الضمير المجرور في قوله تعالى:(تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ)[النساء: 1] وسبق الكلام فيه، في قوله تعالى:(كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)[البقرة: 200].

قوله: (وكانت كافرةً مواليةً): الواو: للحال. و"قد": مقدرة، والعامل:"تغليب الذكور". ويروى: "فكانت" بالفاء، والمعنى: قدرناها بين الذين غبروا، فالحال أنها كافرة.

قوله: (وروي أنها التفتت، فأصابها حجر، فماتت): عطف على قوله: "من الذين غبروا في ديارهم، أي: بقوا فهلكوا".

ص: 461

وقيل: خسف بالمقيمين منهم، وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم. وقيل: أمطر عليهم ثم خسف بهم. وروي: أن تاجراً منهم كان في الحرم، فوقف له الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه.

فإن قلت: أي: فرقٍ بين "مطر" و"أمطر"؟ قلت: يقال: مطرتهم السماء ووادٍ ممطور. وفي "نوابغ الكلم": حرى غير ممطور. حريٌّ أن يكون غير ممطور. ومعنى مطرتهم: أصابتهم بالمطر، .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا مبني على ما قاله في سورة "هود": "وفي إخراجها مع أهله روايتان: روي أنه أخرجها معهم، وأمر ألا يلتفت منهم أحد إلا هي، فالتفتت، فأصابها الحجر. وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها، فلم يسر بها".

وفيه بحث سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.

قوله: (وشذاذهم)، الجوهري:"شذاذ الناس: الذين يكونون في القوم وليسوا من قبائلهم".

قلت: يعني قوله: "أمطرت عليهم كذا" مطلق، يحتمل الخير والشر، وليس كذلك، لأن المصنف جعل هذا المثال مقدمة للأمثلة بعده، وهي في الشر.

قوله: (حرى)، الجوهري:"الحرى - بفتح الحاء، مقصوراً - الساحة، والعقوة، والناحية. ويقال: هو حرى أن يفعل ذلك - بالفتح - أي: خليق جدير. لا يثنى ولا يجمع".

قوله: (غير مطور) هو: من قولهم: لا يطور حوله، أي: لا يأتيه.

ص: 462

كقولهم: غاثتهم ووبلتهم وجادتهم ورهمتهم. ويقال: أمطرت عليهم كذا، بمعنى: أرسلته عليهم إرسال المطر. (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ)[الأنفال: 32]، (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [الحجر: 74].

ومعنى (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً): وأرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً، يعني: الحجارة، ألا ترى إلى قوله:(فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)[الشعراء: 173].

[(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النهاية: "وفي حديث علي رضي الله عنه: "والله لا أطور به ما سمر سمير"، أي: لا أقربه أبداً".

قوله: (ورهمتهم)، الأساس:"وقعت رهمته: مطرة لينة صغيرة القطر".

قوله: (ويقال: أمطرت عليهم كذا): عطف على: "يقال: مطرتهم السماء".

الانتصاف: "قصده الرد على من قال: "مطر" في الخير، و"أمطر" في الشر. فبين أن "أمطر" بمعنى أرسل إرسال المطر، خيراً كان أو شراً، لكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئاً يشبه المطر، إلا كان عذاباً، فمن هاهنا وقع الوهم لذلك القائل".

قوله: (نوعاً من المطر عجيباً، يعني الحجارة): قال أبو البقاء: " (مطراً): هو مفعول "أمطرنا". والمطر هنا: الحجارة، كما جاء في الآية الأخرى:(وأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً)[هود: 82، والحجر: 74].

ص: 463

سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ* وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)].

كان يقال لشعيب عليه السلام: خطيب الأنبياء؛ لحسن مراجعته قومه، وكانوا أهل بخس للمكاييل والموازين، (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ): معجزةٌ شاهدةٌ بصحة نبوّتي أوجبت عليكم الإيمان بي، والأخذ بما آمركم به والانتهاء عما أنهاكم عنه، فأوفوا ولا تبخسوا.

فإن قلت: ما كانت معجزته؟ قلت: قد وقع العلم بأنه كانت له معجزةٌ، لقوله:(قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ)،

ولأنه لا بدّ لمدعي النبوة من معجزة تشهد له وتصدقه، وإلا لم تصح دعواه، وكان متنبئاً لا نبياً، غير أنّ معجزته لم تذكر في القرآن، كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كانت له معجزة، لقوله: (قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ)): قال الزجاج: "قال بعض النحويين: لم يكن لشعيب معجزة. وهذا غلط فاحش، لأنه تعالى قال: (قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا) فجاء بالفاء، أي: أمرهم بالإيفاء بعد مجيء البينة، ولو ادعى مدعٍ النبوة بغير آية، لم يقبل منه، لكن الله لم يذكرها، فلا يدل على عدمها".

يريد الزجاج أن الفاء في (فأوفوا) سببية فيما يلزم من قوله: (قد جاءتكم بينة).

وإلى هذا المعنى أشار المصنف بقوله: " (قد جاءتكم بينة من ربكم): معجزة شاهدة بصحة نبوتي، أوجبت عليكم الإيمان بي، والأخذ بما آمركم به، (فأوفوا) ".

ص: 464

ومن معجزات شعيب عليه السلام: ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه، وولادة الغنم الدرع خاصةً حين وعده أن تكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات؛ لأنّ هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام، فكانت معجزاتٍ لشعيب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومن معجزات شعيبٍ عليه السلام: ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التنين): قال القاضي: "ما ذكره محتمل أن يكون كرامة لموسى، أو إرهاصاً لنبوته".

قال الإمام: "كلام صاحب "الكشاف" مبني على أصلٍ مختلف فيه، لأنه عندنا أن ذلك إرهاص، وهو أن يظهر الله تعالى على يد من سيصير نبياً خوارق العادات، وعند المعتزلة غير جائز".

وفيه نظر، لأنه قال سورة "آل عمران" في قوله تعالى:(وإذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ)[آل عمران: 42]: "إنهم كلموها شفاهاً معجزة لزكريا، أو إرهاصاً لنبوة عيسي عليه السلام".

قوله: (أن تكون له الدرع)، الجوهري:"الأدرع من الخيل والشاء: ما اسود رأسه، وأبيض سائره. والأنثى: درعاء. ومنه قيل لثلاث ليال من الشهر اللاتي يلين البيض: "درع" لظلمة أوائلها، وظاهر بظهور القمر في سائرها".

ص: 465

فإن قلت: كيف قيل: (الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ)، وهلا قيل: المكيال والميزان، كما في سورة هودٍ عليه السلام؟ قلت: أريد بالكيل: آلة الكيل، وهو المكيال، أو سمي ما يكال به بالكيل، كما قيل: العيش، لما يعاش به، أو أُريد: فأوفوا الكيل ووزن الميزان، ويجوز أن يكون الميزان كالميعاد والميلاد بمعنى المصدر.

ويقال: بخسته حقه: إذا نقصته إياه. ومنه قيل للمكس: البخس، وفي أمثالهم: تحسبها حمقاء وهي باخسٌ. وقيل: (أَشْياءَهُمْ) لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم، أو كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه، كما يفعل أمراء الحرمين. وروي: أنهم كانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد، وقالوا: هي زيوف! فقطعوها قطاعاً، ثم أخذوها بنقصانٍ ظاهر أو أعطوه بدلها زيوفاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومنه قيل للمكس: البخس)، المغرب:"المكس في البيع: استنقاص الثمن. والمكس أيضاً: الجباية، وهو فعل المكاس العشار. ومنه: "لا يدخل صاحب مكسٍ الجنة".

فقوله: "أو كانوا مكاسين" مبني على الوجه الثاني، وقوله:"لأنهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم" على الأول.

قوله: (تحسبها حمقاء وهي باخس) وفي رواية: "باخسة". فعلى الأول تأويله: إنسان باخس، أو على النسب، كـ:"لابن" و"تامر".

ص: 466

(بَعْدَ إِصْلاحِها): بعد الإصلاح فيها، أي: لا تفسدوا فيها بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم العاملين بشرائعهم، وإضافته كإضافة قوله:(بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ)[سبأ: 33] بمعنى: بل مكركم في الليل والنهار، أو بعد إصلاحٍ أهلها، على حذف المضاف.

(ذلِكُمْ) إشارةٌ إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض، أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه.

ومعنى: (خَيْرٌ لَكُمْ) يعني: في الإنسانية وحسن الأحدوثة، وما تطلبونه من التكسب والتربح، لأن الناس أرغب في متاجرتكم إذا عرفوا منكم الأمانة والسوية، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ): إن كنتم مصدقين لي في قولي: (ذلكم خيرٌ لكم).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الميداني: "أصل المثل أن رجلاً من بني العنبر جاورته امرأة، فنظر إليها، فحسبها حمقاء لا تعقل، ولا تحفظ مالها. فقال العنبري: ألا اخلط مالي ومتاعي بمالها ومتاعها، ثم أقاسمها، فآخذ خير متاعها، وأعطيها الردئ من متاعي؟ فقاسمها بعدما خلط متاعه بمتاعها، فلم ترض عند المقاسمة، حتى أخذت متاعها، ثم نازعته، وأظهرت له الشكوى، حتى افتدى منها بما أرادت، فعوتب عند ذلك، فقال: "تحسبها حمقاء وهي باخسة"، يضرب لمن يتباله. وفيه دهاء".

قوله: (يعني في الإنسانية وحسن الأحدوثة) أي: ما يتحدث به الناس، وهو من باب الاستدراج، وإرخاء العنان، لأن الكلام مع الكفار، ولو كان مع المؤمنين لقيل: لكان خيراً لكم عند الله من الثواب والدرجات، ولذلك فسر قوله:(إن كنتم مؤمنين) بقوله: "إن كنتم مصدقين"، وإنما قال:"مصدقين"، لأنهم ما كانوا مؤمنين مسلمين، وإن مثل هذا الشرط

ص: 467

(وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ): ولا تقتدوا بالشيطان في قوله: (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)[الأعراف: 16]، فتقعدوا بكل صراطٍ أي: بكل منهاجٍ من مناهج الدين. والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله: (وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، ومحل (تُوعِدُونَ) وما عطف عليه: النصب على الحال أي: ولا تقعدوا موعدين وصادّين عن سبيل الله، وباغيها عوجاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنما يجاء به في آخر الكلام للتوكيد فعلم منه أن شعيباً عليه السلام كان مشهوراً عندهم بالصدق والأمانة، كما كان رسول الله صلي الله عليه وسلم مشهوراً عند قومه بالأمين.

قوله: (ولا تقتدوا بالشيطان في قوله: (لأقعدن): يعني: القعود على الصراط: تمثيل، كما في تلك الآية. مثل إغواءهم الناس عن دين الحق بكل ما يمكن من الحيل، بمن يريد أن يقطع الطريق على السابلة، فيكمن لهم من حيث لا يدرون. ونحوه في التمثيل قول الشيطان:(لأقعدن لهم صراطك المستقيم)، أي: لأعترضن على طريق الإسلام، كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة.

فلما أشبه هذا التمثيل ذلك، وكان مقدماً عليه، قال:"ولا تقتدوا بالشيطان فتقعدوا بكل صراط".

قوله: (والدليل على أن المراد بالصراط: سبيل الحق، قوله: (وتصدون عن سبيل الله)): يعني: أن قوله تعالى: (ولا تقعدوا بكل صراطٍ) محتمل لأن يراد بها سبيل

ص: 468

فإن قلت: صراط الحق واحد، (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام: 153]، فكيف قيل:(بكل صراطٍ)؟ قلت: صراط الحق واحد، ولكنه يتشعب إلى معارف وحدودٍ وأحكامٍ كثيرةٍ مختلفة، فكانوا إذا رأوا أحداً يشرع في شيءٍ منها أوعدوه وصدّوه.

فإن قلت: إلام يرجع الضمير في (آمَنَ بِهِ)؟ قلت: إلى "كل صراطٍ"، تقديره: توعدون من آمن به وتصدّون عنه، فوضع الظاهر الذي هو (سبيل الله) موضع الضمير، زيادة في تقبيح أمرهم، ودلالة على عظم ما يصدّون عنه.

وقيل: كانوا يجلسون على الطرق والمراصد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحق لوقوعه في التنزيل، وأن يراد بها الجادة المتعارفة. ودل إيقاع (وتصدون) قيداً للفعل على أنها سبيل الحق، كقوله تعالى:(لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ)[الأعراف: 16] لاسيما وقد عطف عليه: (وتَبْغُونَهَا عِوَجًا).

والمعنى: لا تقعدوا في كل منهاجٍ من مناهج الدين تصدون الناس عنها، وتصفونها بالاعوجاج.

هذا هو الظاهر، ولهذا إذا حمل على الظاهر، وجب قطع (توعدون) والذهاب إلى الاستئناف.

قوله: (وقيل: كانوا يجلسون على الطرق) عطف على قوله: "ولا تقتدوا بالشيطان" من

ص: 469

فيقولون لمن مرّ بهم: إن شعيباً كذابٌ فلا يفتننكم عن دينكم، كما كان يفعل قريشٌ بمكة. وقيل: كانوا يقطعون الطرق. وقيل: كانوا عشارين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حيث المعنى، أي: كانوا يضلون الناس عن مناهج الحق ودين الحق، وقيل: كانوا يجلسون على الطرق، ويمنعون الناس أن يقصدوا شعيباً عليه السلام.

فعلى هذا لا يكون تمثيلاً، ولا يكون (تصدون) حالاً، ولا يكون (سبيل الله) من وضع الظاهر موضع المضمر، كما في الوجه السابق.

قوله: (فيقولون لمن مر بهم: إن شعيباً كذاب): دلت الفاء على أن: (توعدون) استئناف لبيان المقتضى، فكأنه لما قيل لهم:(ولا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ)، قالوا: لم ذلك؟ فأجيب: لأنكم توعدون وتصدون عن سبيل الله.

قال القاضي: " (من آمن به): الضمير يعود إلى "الصراط" على الأول، وإلى "الله" على الثاني. و (من): مفعول (تصدون) على إعمال الأقرب. ولو كان مفعول (توعدون) لقال: تصدونهم". وكذا عن أبي البقاء. فظاهر الآية مع الكوفيين.

قوله: (وقيل: كانوا يقطعون الطريق): فعلى هذا الآية مبالغة في الوعيد وتغليظ ما

ص: 470

(وَتَبْغُونَها عِوَجاً): وتطلبون لسبيل الله عوجاً، أي: تصفونها للناس بأنها سبيلٌ معوجةٌ غير مستقيمة، لتصدّوهم عن سلوكها والدخول فيها، أو يكون تهكماً بهم، وأنهم يطلبون لها ما هو محال، لأنّ طريق الحق لا يعوج.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانوا يرومونه من قطع السبيل، لأن قاطع الطريق ساعٍ في الأرض بالفساد، وإخراجها عن أن تكون منتفعاً بها، لأن ضرر ذلك يسري إلى الدين.

ألا ترى كيف أنزل الله فيهم: (إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ)[المائدة: 33] تمهيداً لمحاربة المؤمنين؟

وعلى هذا حكم العشار والمكاسين.

ولهذا اشترط في إيجاب الحج أمن الطريق من نحو الرصدي.

وعلى هذا لا يراد بقوله: (تبغونها عوجاً) التهكم ولا التوبيخ، بل المعنى: تقطعون السبيل، لتفسد الأرض، وتخرج عن أن تكون منتفعا بها، فعبر عن الإفساد بطلب الاعوجاج. ويؤيده قوله:(وانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ). ومعنى هذا الطلب معنى اللام في قوله: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا)[القصص: 8].

قوله: (أو يكون تهكماً بهم): عطف على قوله: "تصفونها للناس"، فعلى الأول يكون قوله:(وتبغونها عوجاً) كناية عن وصفهم لهم بالاعوجاج. فإنه تعالى عبر عن وصف الكافرين سبيل الله بالاعوجاج، بقوله:(تبغونها عوجاً) على سبيل التوبيخ. يعني: ما يريدون بهذا الوصف إلا المحال، وهو اعوجاج ذاتها. فهو إخبار فيه معنى التوبيخ، كما في قوله تعالى:(آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)[طه: 71، والشعراء: 49]. فقوله: "وأنهم يطلبون لها ما هو محال" تفسير للوجهين: التوبيخ والتهكم.

ص: 471

(وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا): (إذ) مفعولٌ به غير ظرف، أى: واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلاً عددكم، (فَكَثَّرَكُمْ) الله ووفر عددكم. قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوّج بنت لوطٍ فولدت، فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء، فكثروا وفشوا. ويجوز: إذ كنتم مقلين فقراء فكثركم، فجعلكم مكثرين موسرين، أو كنتم أقلة أذلةً فأعزكم بكثرة العَدَدِ والعُدَد. (عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم، كقوم نوحٍ وهود وصالحٍ ولوط، وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة.

(فَاصْبِرُوا): فتربصوا وانتظروا، (حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا) أي: بين الفريقين، بأن ينصر المحقين على المبطلين ويظهرهم عليهم. وهذا وعيدٌ للكافرين بانتقام الله منهم، كقوله:(فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ)[التوبة: 52]، أو هو عظةٌ للمؤمنين، وحثّ على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله بينهم وينتقم لهم منهم.

ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين، أي: ليصبر المؤمنون على أذى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي الكلام ترق، يعني: ما كفاكم أنكم توعدون الناس عن متابعته، وتصدونهم عن سبيله، حتى تصفونه بالاعوجاج، ليكون الصد بالبرهان والدليل؟ !

قوله: (مما أصاب المؤتفكة): المؤتفكات: قريات لوط، لأنها ائتفكت وانقلبت.

الجوهري: "الأفك - بالفتح - مصدر: أفكه يأفكه، أي: قلبه وصرفه عن الشيء".

قوله: (وهذا وعيد للكافرين): وفي إتيان حرف الشرط دلالة على تناهي إقناطه من رجوعهم، والإقلاع عن تماديهم، وأن البلاء لابد أن ينزل عليهم، وإن كان فيهم الصلحاء

ص: 472

الكفار، وليصبر الكفار على ما يسوؤهم من إيمان من آمن منهم، حتى يحكم الله، فيميز الخبيث من الطيب (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لأنّ حكمه حق وعدل، لا يخاف فيه الحيف.

[(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ* قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)].

أي: ليكوننّ أحد الأمرين: إمّا إخراجكم؛ وإمّا عودكم في الكفر.

فإن قلت: كيف خاطبوا شعيباً عليه السلام بالعود في الكفر في قولهم: (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) وكيف أجابهم بقوله: (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها)، والأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم من الصغائر إلا ما ليس فيه تنفير، فضلاً عن الكبائر، فضلاً عن الكفر؟ قلت: لما قالو: (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك) فعطفوا على ضميره الذين دخلوا في الإيمان منهم بعد كفرهم، قالوا:(لتعودنّ)، فغلبوا الجماعة على الواحد، فجعلوهم عائدين جميعاً، إجراء للكلام على حكم التغليب، وعلى ذلك أجرى شعيبٌ عليه السلام جوابه فقال:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الذين يدفع بهم البلاء، ولبلوغهم في التمادي (قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا).

قوله: (وعلى ذلك أجرى شعيب عليه السلام جوابه): أي: أجابهم بما أوردوا عليه السؤال من التغليب ليتطابقا. ويجوز أن يكون على المشاكلة، كما في قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ لا

ص: 473

إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها، وهو يريد عود قومه، إلا أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً من ذلك إجراء لكلامه على حكم التغليب.

فإن قلت: فما معنى قوله: (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ)، والله تعالى متعالٍ أن يشاء ردّة المؤمنين وعودهم في الكفر؟ قلت: معناه: إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الألطاف، لعلمه أنها لا تنفع فينا وتكون عبثاً، والعبث قبيحٌ لا يفعله الحكيم، والدليل عليه قوله:(وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي: هو عالمٌ بكل شيءٍ مما كان وما يكون،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً) [البقرة: 26] في أحد وجهيه.

قال في "الانتصاف": "وقد يستعمل "عاد" - من أخوات "كان" - بمعنى "صار"، فلا يستدعي الرجوع إلى حالةٍ سابقة، بل عكس ذلك: وهو الانتقال من حال سابقة إلى حالٍ مستأنفةٍ كأنهم قالوا: أو لتصيرن كفاراً في ملتنا".

قوله: (والدليل عليه قوله تعالى: (وسع ربنا كل شيءٍ علماً): أي: والدليل على أن المراد بقوله تعالى: (إلا أن يشاء الله): إلا أن يشاء الخذلان، ومنع الألطاف، لا الردة، لأن منع الألطاف لازم لسبق علمه أن الألطاف لا تجدي، وتابع له، ولو أريد: أن يشاء العود إلى الكفر لم يكن لمجيء العلم فائدة.

والجواب: أن في ذكر العلم فائدةً جليلة، لأن المعنى:(وما يكون لنا) أي: ما يصح ولا يستقيم منا على ما نحن عليه من الثبات على الدين، بعد وضوح الآيات البينات، وشرح الله

ص: 474

فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل؟ وقلوبهم كيف تتقلب؟ وكيف تقسو بعد الرقة، وتمرض بعد الصحة، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان؟

(عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا) في أن يثبتنا على الإيمان، ويوفقنا لازدياد الإيقان.

ويجوز أن يكون قوله: (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) حسمًا لطمعهم في العود، لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصدور أن نعود إلى الكفر، إلا أن يشاء الله العود، فإن معرفة المشيئة غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله. ويؤيده قوله: عليه توكلنا، أي: في أن تثبتنا على الإيمان. نحوه قوله تعالى: (ومَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ)[الأحقاف: 9].

قوله: ((إلا أن يشاء الله) حسماً لطمعهم في العود، لأن مشيئة الله لعودهم في الكفر محال): هذا على أن يكون معنى (أن يشاء الله) التأبيد، كما نص عليه في "الكهف".

قال الزجاج: "قال قوم: (إلا أن يشاء الله ربنا)، والله لا يشاء الكفر، مثل قولك: لا أكلمك حتى يبيض الفأر، ويشيب الغراب. والغراب لا يشيب، والفأر لا يبيض. وهذا خطأ لمخالفته كثيراً من النصوص الواردة في الكتاب والسنة، في أن الكائنات تابعة لمشيئة الله، ولكن الله تعالى غيب عن الخلق علمه فيهم، ومشيئته من أعمالهم، فأمرهم ونهاهم، لأن الحجة إنما تثبت من جهة الأمر والنهي. وكل ذلك جارٍ على ما سبق من العلم، وجرت به المشيئة، فعليهم السمع والطاعة للأمر إذا أمروا، وهم جارون على ما علم منهم أنهم يختارون الطاعة أو المعصية".

ص: 475

(أَوَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ) الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال، تقديره: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا، ومع كوننا كارهين. (وما يكون لنا): وما ينبغي لنا، وما يصح لنا، (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا): احكم بيننا. والفتاحة: الحكومة، أو أظهر أمرنا حتى يتفتح ما بيننا (وَبَيْنَ قَوْمِنا) وينكشف؛ بأن تنزل عليهم عذاباً يتبين معه أنهم على الباطل، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) كقوله:(وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)[يونس: 159].

فإن قلت: كيف أسلوب قوله (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ)؟ قلت: هو إخبارٌ مقيدٌ بالشرط، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب، كأنهم قالوا: ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام! لأنّ المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر، لأنّ الكافر مفترٍ على الله الكذب، حيث يزعم أنّ لله نداً، ولا ندّ له، والمرتدّ مثله في ذلك وزائدٌ عليه، حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل. والثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام، بمعنى: والله لقد افترينا على الله كذباً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والفتاحة: الحكومة): قال الزجاج: "وأهل عمان يسمون القاضي: الفتاح والفاتح".

قوله: (كيف أسلوب قوله: (قد افترينا)؟ ): يعني: ما معنى التأكيد الذي تعطيه (قد) مع مدخولها الماضي، ثم انضمام (إن) الشرطية معها؟

يدل على هذا التلخيص الجوابان. وأجاب أنه من باب إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر، لأن ظاهره إخبار مقيد بالشرط. وتأويله من وجهين.

ص: 476

[(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ)].

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي: أشرافهم للذين دونهم يثبطونهم عن الإيمان: (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) لاستبدالكم الضلالة بالهدى، كقوله تعالى:(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ)[البقرة: 16]، وقيل: تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف، لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم على الإيفاء والتسوية.

فإن قلت: ما جواب القسم الذي وطأته اللام في (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً)، وجواب الشرط؟ قلت: قوله: (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) سادّ مسدّ الجوابين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحدهما: أن يكون من باب التعجب، يعني روم إيقاع النفس في ورطة المهالك، من أولي النهية، بعد المزاولة الطويلة في الإخراج منها، مما يقتضي منه العجب. وإليه الإشارة بقوله:"ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام! ". فكأنه عليه السلام لما سمع كلامهم ما التفت إلى الجواب، وأنشأ التعجب من نفسه، قائلاً:(قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم). ولهذا قال: "كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب".

قال أبو البقاء: " (قد افترينا)، هو معنى المستقبل، لأنه لم يقع، وإنما سد مسد جواب (إن عدنا). وساغ دخول (قد) لأنهم نزلوا الافتراء عند العود منزلة الواقع، فقرنوه بـ (قد). وكأن المعنى: قد افترينا الآن، إن هممنا بالعود"، على أن يكون قسماً، لا يكون مستأنفاً، بل يكون رداً لكلامهم بأبلغ وجه.

ص: 477

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) مبتدأ، خبره:(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)، وكذلك (كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ). وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص، كأنه قيل: الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أُهلكوا واستؤصلوا، كأن لم يقيموا في دارهم؛ لأنّ الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله، الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران العظيم، دون أتباعه فإنهم الرابحون. وفي هذا الاستئناف والابتداء وهذا التكرير: مبالغةٌ في ردّ مقالة الملأ لأشياعهم، وتسفيهٌ لرأيهم، واستهزاءٌ بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص): كما في قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ ويَقْدِرُ)[الرعد: 26] في سورة "الرعد"، "أي: الله وحده هو يبسط الرزق، ويقدره دون غيره".

ولو حمل الجملة الأولى على تقوى الحكم، كما عليه كلام صاحب "المفتاح"، والثانية على التخصيص، لتوسيط ضمير الفصل، وتعريف الخبر باللام، ويكون التكرير، ليناط به كل مرة معنى زائد: لكان أوجه، كما سنقرره.

قوله: (وفي هذا الاستئناف والابتداء، وهذا التكرير، مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم، واستعظام لما جرى عليهم): أما الاستئناف

ص: 478

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والتكرير، فإنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة على التكذيب والعناد، وتركهم هامدين لا حراك بهم، اتجه لسائلٍ أن يسأل: إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم؟ فقيل: (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا) أي: استؤصلوا، وتلاشت جسومهم، كأن لم يقيموا في ديارهم.

ثم سال: أخصص الدمار بهم، أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل:(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ) أي: اختص الدمار بهم. فجعلت صلة الأولى ذريعةً إلى تحقيق الخبر.

كقول الشاعر:

إن التي ضربت بيتاً مهاجرةً

بكوفة الجند غالت ودها غول

ولذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم بقوله: (كأن لم يغنوا فيها)، وأوثر تقوي الحكم على التخصيص.

وجعلت صلة الثانية علةً لوجود الخبر، نحو قولك: الذين آمنوا لهم جنات النعيم، والذين كفروا لهم دركات الجحيم.

ص: 479

[(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)].

الأسى: شدّة الحزن. قال العجاج:

وانحلبت عيناه من فرط الأسى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما تسفيه رأيهم، فهو أنهم لما أظهروا محض النصح لقومهم، بقولهم:(لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إنَّكُمْ إذًا لَّخَاسِرُونَ)، حيث أتوا فيه بالجملة القسمية، وأقحموا فيها (إذا)، رد عليهم، يعني: ما تلفظوا به في قوله تعالى: (كانوا هم الخاسرين) ليكون مدمجاً فيه معنى الاستهزاء، يعني: نعم النصيحة التي نصحوهم، نسبوا الخسران إلى متابعته، والربح إلى مخالفته. كان ذلك، لكن بالعكس، وهو المراد من قوله:"واستهزاء بنصحهم".

وحينئذٍ يقع الاختصاص في موقعه، كما قال:"الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بالخسران، دون أتباعه، فإنهم الرابحون".

ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام الجنس، أي: هم الكاملون في الخسران.

وأما استعظام ما جرى عليهم فمن قوله: (كأن لم يغنوا فيها) أي: لم يبق عين ولا أثر، ولا جالبة خبر. وكذا من مجموع الكلام، والله أعلم.

قوله: (وانجلبت عيناه من فرط الأسى): وأنشد الشارح تمام البيت:

ص: 480

اشتدّ حزنه على قومه، ثم أنكر على نفسه، فقال: فكيف يشتدّ حزني على قومٍ ليسوا بأهلٍ للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم ما نزل بهم! ويجوز أن يريد: لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حلّ بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكيف غربي دالجٍ تبجسا

انحلبت عيناه، أي: سال دمع عينيه. والوكيف: القطر. وغربي: تثنية الغرب، وهو الدلو العظيم. والدالج - بالجيم-: الذي يأخذ الدلو من البئر، فيفرغها في الحوض. تبجس: انفجر بسعة وكثرة.

يقول: سال دمع عينيه من الخزن، ووكفتا وكيف دلوي دالجٍ تفجر وسال.

قوله: (ثم أنكر على نفسه): أي: جرد من نفسه شخصاً، وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه، كما فعل امرؤ القيس في قوله:

تطاول ليلك بالأثمد

ونام الخلي ولم ترقد

وكان من حق الظاهر أن يقول: وكيف يشتد حزنك؟ لقوله: "ثم أنكر على نفسه"، لكن التفت، وقال:"وكيف يشتد حزني! ". هذا إذا كان الخطاب مع نفسه. أما إذا كان مع غيره فلا يكون من التجريد.

قوله: (ويجوز أن يريد: لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ): أي: أنهيت إليكم العذر، وما قصرت فيه.

ص: 481

فكيف آسى عليكم؟ يعني: أنه لا يأسى عليهم لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى.

وقرأ يحيى بن وثاب: "فكيف إيسى"، بكسر الهمزة.

[(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَاساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ* ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومنه الحديث: "لقد أعذر الله تعالى إلى من بلغ به من العمر ستين سنةً"، أي: لم يبق فيه موضعاً للاعتذار، حيث أمهله طول هذه المدة.

يقال: أعذر الرجل: إذا بلغ أقصى الغاية في العذر.

فعلى هذا لا يكون الخطاب مع نفسه، بل مع القوم، تأنيباً وتوبيخاً لهم، من أوله إلى منتهاه، وعلى الأول قوله:(يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي) فيه معنى التلهف والتحسر، مع إنهاء الندامة إلى القوم، وقوله:(فكيف أسي) فيه معنى الإنكار والتأنيث للنفس. وعلى التقديرين قوله: (على قوم كافرين) إقامة للظاهر موضع المضمر، للإشعار بعدم استحقاقهم التأسف عليهم لكفرهم.

قوله: ("فكيف إيسي"، بكسر الهمزة) يعني: على لغة من يقول: "تعلم".

ص: 482

(إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَاساءِ): بالبؤس والفقر، (وَالضَّرَّاءِ): بالضر والمرض؛ لاستكبارهم عن اتباع نبيهم وتعززهم عليه، (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ): ليتضرعوا ويتذللوا ويحطوا أردية الكبر والعزة، (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي: أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة والرخاء والصحة والسعة، كقوله:(وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ)[الأعراف: 168]، (حَتَّى عَفَوْا): كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، من قولهم: عفا النبات وعفا الشحم والوبر؛ إذا كثرت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«وأعفوا اللحى» ، وقال الحطيئة:

بِمُسْتَأسِدِ القرْيَانِ عَافٍ نَبَاتُهُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بمستأسد القريان) قبله:

فإن نظرت يوماً بمؤخر عينها

إلى علمٍ في الغور قالت له: ابعد

بأرضٍ ترى فرخ الحبارى كأنه

بها راكب موفٍ على ظهر قردد

بمستأسد القريان عافٍ نباته

تساقطني والرحل من صوت هدهد

ص: 483

وقال:

ولكنّا نعضّ السّيف منها

بأسوق عافيّات الشّحم كوم

(وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) يعني: وأبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا: هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء، وقد مس آباءنا نحو ذلك، وما هو بابتلاءٍ من الله لعباده، فلم يبق بعد ابتلائهم بالسيئات والحسنات إلا أن نأخذهم بالعذاب، (فَأَخَذْناهُمْ) أشد الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة من غير شعور منهم.

[(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)].

اللام في (القرى): إشارةٌ إلى القرى التي دل عليها قوله: (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ)[الأعراف: 94]، كأنه قال: ولو أنّ أهل تلك القرى الذين كذبوا وأهلكوا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نظرت، أي: الناقة. وفي الغور: حال من الضمير في "نظرت". و"قالت": جزاء الشرط، أو صفة "علم" على التأويل، أو حال من الضمير في "نظرت"، و"قد" مقدرة. وجواب الشرط:"تساقطني". وعلى الأول: "تساقطني" حال من الضمير في "نظرت".

استأسد النبت: قوي والتف. والقربان: جمع القرى، وهو مجمع الماء في الروض. موفٍ: من أوفى الشيء، أي: أشرف. والقردد: المكان الغليظ المرتفع.

قوله: (ولكنا نعض السيف) البيت، أي: نجعله عاضاً. والباء في "بأسوق" زائدة، لأن "نعض" يتعدى إلى المفعولين. أسوق: جمع ساق. عافيات اللحم، أي: كثيراته. وكوم: جمع كوماء: عظيمة السنام. يقول: ننحر للأضياف، ونعقر لهم النوق السمان.

ص: 484

(آمَنُوا) بدل كفرهم (وَاتَّقَوْا) المعاصي مكان ارتكابها، (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ): لأتيناهم بالخير من كل وجه، وقيل: أراد المطر والنبات، (وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ) بسوء كسبهم. ويجوز أن تكون اللام في (القرى) للجنس.

فإن قلت: ما معنى فتح البركات عليهم؟ قلت: تيسيرها عليهم كما ييسر أمر الأبواب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أراد المطر والنبات): أي: لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء بالمطر، وبركاتٍ من الأرض بالنبات.

وعلى الأول اعتبر بالجهتين التكرير واستيعاب وجوه الخير كلها، كقوله تعالى:(ولَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وعَشِيًا)[مريم: 62]. ولهذا قال: "لأتيناهم بالخير من كل وجه".

قوله: (كما ييسر أمر الأبواب المستغلقة): يعني: أن الأسلوب من الاستعارة التبعية المستلزمة للتمثيلية، لقوله:"كما ييسر أمر الأبواب المستغلقة بفتحها"، فإنه اعتبر أمر الأبواب وأحوالها، وأطلق التيسير على الفتح بعد تشبيه أحدهما بالآخر، ثم الإفضاء من المصدر إلى الفعل، يدل عليه قوله:"ما معنى فتح البركات؟ " سأل عن المصدر، ليشير إلى أن الاستعارة تبعية، والوجه سهولة الوصول إلى المقصود.

ص: 485

المستغلقة بفتحها. ومنه قولهم: فتحت على القارئ، إذا تعذرت عليه القراءة فيسرتها عليه بالتلقين.

[(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ* أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ)].

"البيات" يكون بمعنى: البيتوتة، يقال: بات بياتاً، ومنه قوله تعالى:(فَجاءَها بَاسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ)[الأعراف: 4]، وقد يكون بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى: التسليم. يقال: بيته العدو بياتاً، فيجوز أن يراد: أن يأتيهم بأسنا بائتين- أي: وقت بياتٍ- أو مبيتاً، أو مبيتين، أو يكون بمعنى: تبييتاً، كأنه قيل: أن يبيتهم بأسنا بياتاً.

و(ضُحًى) نصبٌ على الظرف، يقال: أتانا ضُحىً، وضُحياً، وضحاء والضحى - في الأصل -: اسمٌ لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (المستغلقة) بكسر اللام، يقال: استغلق الباب، واستصعب الأمر. هذا هو الفصيح المشهور.

قوله: (ويكون بمعنى التبييت): يعني: جواز أن يكون "بياتاً) من الثلاثي، ومن المزيد، فعلى الأول: إما حال من المفعول، أو ظرف والوقت مقدر معه.

وعلى الثاني: إما حال من الفاعل أو المفعول، أو مصدر. والأوجه أن يكون ظرفاً ليناسب قوله:(بأسنا ضحى).

فإن قلت: لم جوز في الوجه الثاني أن يكون (بياتاً) حالاً من الفاعل، ومفعولا مطلقاً، ولم يجوزهما في الأول؟

قلت: لفساد المعنى؛ إذ لا يجوز أن يكون البأس بائتاً، لأن القوم هم البائتون.

ص: 486

والفاء والواو في (أَفَأَمِنَ) و (أَوَأَمِنَ) حرفا عطفٍ دخلت عليهما همزة الإنكار.

فإن قلت: ما المعطوف عليه؟ ولِمَ عُطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت: المعطوف عليه قوله: (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً)، وقوله:(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) إلى (يَكْسِبُونَ) وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه، وإنما عطف بالفاء، لأنّ المعنى: فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتةً، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحىً؟ ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (حرفا عطفٍ دخلت عليهما همزة الإنكار): قال صاحب "الفرائد": "ما ذكر يشكل بما قيل: إن لهمزة الاستفهام صدر الكلام، فلم يجز عطف ما بعدها على ما قبلها. وإنما الواجب أن يقدر المعطوف عليه بعد الهمزة وقبل الواو".

وقال صاحب "الإيجاز": "إنما تدخل ألف الاستفهام على فاء العطف، مع منافاة العطف للاستئناف، لأن التنافي في المفرد، إذ الثاني إذا عمل فيه الأول كان من الكلام الأول، والاستئناف يخرجه عن أن يكون منه. ويصح ذلك في عطف جملةٍ على جملة، لأنه على استئناف جملة بعد جملة".

وقلت: الحق أن هذه الهمزة مقحمه مزيدة، لتقرير معنى الإنكار والتقرير، فتدخل بين الشرط والجزاء، والمبتدأ والخبر، والحال وعاملها، كما سبق مراراً وأطواراً. وقد نص عليه أبو إسحاق الزجاج في قوله:(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّار)[الزمر: 19].

قوله: (المعطوف عليه قوله تعالى: (فأخذناهم بغتةً) إلى آخره: اعلم أن في تمييز مواقع

ص: 487

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذه الجمل، كما أشار إليه، موضع تأمل؛ فقوله:(أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَاتِيَهُم بَاسُنَا بَيَاتًا)، وقوله:(أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَاتِيَهُم بَاسُنَا ضُحًى) متقابلان، نحو قوله تعالى:(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا)[يونس: 50].

والجملتان من المعطوف والمعطوف عليه معطوفتان معاً على قوله تعالى: (فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً)[الأعراف: 95] على التعقيب، لأن المعنى: أأمن أهل هذه القرى بعدما سمعوا بما فعل أهل تلك القرى من الكفر والكفران وما فعل بم من الأخذ فجأة، من أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون، أو ضحى وهم يلعبون، أي: غافلون؟

والفاء في (فأخذناهم) للتسبب، يدل عليه قوله:"فعلوا وصنعوا"، (فأخذناهم بغتة)، و"فعلوا وصنعوا": كناية عن قوله: واستكبروا عن إتباع نبيهم، وتعززوا عليه، وقالوا بعد ابتلائهم بالحسنات والسيئات: هذه عادة الدهر. فلذلك أخذناهم أشد الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة.

وأما معنى هذه الفاء والاستفهام: فهو أن أهل القرى بخاصة، بعدما سمعوا ما فعل أولئك، وما فعلنا بهم، لم يعتبروا، وأمنوا من أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون، أو ضحى وهم غافلون كما فعلنا.

ص: 488

وقرئ: (أو أمن) على العطف بـ"أو"، (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يشتغلون بما لا يجدى عليهم كأنهم يلعبون.

[(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَامَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم لما تضمن المعطوف والمعطوف عليه معنى بعث الرسول، وتعرض الأمة للابتلاء ليؤمنوا، ويتركوا كفران النعمة، كان قوله تعالى:(ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ) الآية معترضةً مؤكدةً لمضمون الجملتين.

أما قوله في المعترضة: "اللام في (القرى) إشارة إلى القرى التي دل عليها قوله: (ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ) [الأعراف: 94] " فإن الظاهر أنها للعهد، لكن لا ينافي إرادة الجنسية؛ لأن (القرى) الأولى مطلقة، ولما كان الثاني عين الأول، كان أيضًا جنساً.

قال الزجاج: "هذا مما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة، لتعتبر أمة محمد صلوات الله عليه".

وأما اللام في قوله: (أفأمن أهل القرى): فإشارة إلى قرى معهودة، وهي ما بعث إليها رسول الله صلي الله عليه وسلم.

قال محيي السنة: " (أفأمن أهل القرى) الذين كفروا وكذبوا، يعني مكة وما حولها".

قوله: (وقرئ: "أو أمن"، على العطف بـ"أو"): نافع وابن كثير وابن عامر.

ص: 489

فإن قلت: فلم رجع فعطف بالفاء قوله: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ)؟ قلت: هو تكريرٌ لقوله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى)[الأعراف: 97]، "ومكر الله": استعارةٌ لأخذه العبد من حيث لا يشعر، ولاستدراجه، فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله، كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة.

وعن الربيع بن خثيم، أن ابنته قالت له: ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ فقال: يا بنتاه، إنّ أباك يخاف البيات، أراد قوله:(أَنْ يَاتِيَهُمْ بَاسُنا بَياتاً).

[(أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)].

إذا قرئ: (أَوَ لَمْ يَهْدِ) بالياء كان (أَنْ لَوْ نَشاءُ) مرفوعاً بأنه فاعله، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هو تكرير لقوله تعالى: (أفأمن أهل القرى)، فحينئذٍ (مكر الله) عبارة عما ذكره الله تعالى في قوله:(أن يأتيهم بأسنا بياتاً) الآيتين. والفاء في (فلا يأمن مكر الله) للعطف على مقدر، والهمزة في (أفأمنوا مكر الله) للتقرير والتوبيخ. يعني: بعد ما عرفوا ذلك أمنوا واطمأنوا؟ فإذا خسروا، لأنه (فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون).

قال أبو البقاء: "الفاء هاهنا للتنبيه على تعقيب العذاب أمن مكر الله".

قوله: (والغيلة)، الجوهري:"الغيلة - بالكسر -: الاغتيال. يقال: قتله غيلةً، وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فيقتله".

قوله: (إذ قرئ: (أو لم يهد) بالياء) التحتاني، وهي المشهورة، وبالنون: شاذة.

ص: 490

بمعنى: أو لم يهد للذين يخلفون، من خلا قبلهم في ديارهم ويرثون أرضهم هذا الشأن؟ وهو أنا (لو نشاء أصبناهم بذنوبهم)، كما أصبنا من قبلهم، وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورّثين.

وإذا قرئ بالنون، فهو منصوب كأنه قيل: أو لم يهد الله للوارثين هذا الشأن، بمعنى: أولم نبين لهم أنا (لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) كما أصبنا من قبلهم. وإنما عُدِّي فعل الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين.

فإن قلت: بم تعلق قوله تعالى: (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ)؟ قلت: فيه أوجهٌ: أن يكون معطوفاً على ما دلّ عليه معنى (أَوَلَمْ يَهْدِ)، كأنه قيل: يغفلون عن الهداية، ونطبع على قلوبهم، أو على (يَرِثُونَ اَلأَرْضَ)، أو يكون منقطعاً بمعنى: ونحن نطبع على قلوبهم.

فإن قلت: هل يجوز أن يكون (وَنَطْبَعُ) بمعنى وطبعنا، كما كان (لَوْ نَشاءُ) بمعنى: لو شئنا، ويعطف على (أصبناهم)؟ قلت: لا يساعد عليه المعنى، لأن القوم كانوا مطبوعاً على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال أبو البقاء: " (أو لم يهد) بالياء، وفاعله: (أن لو تشاء)، و (أن) مخففة من "أن" الثقيلة. أي: أو لم يتبين لهم علمهم بمشيئتنا؟ ".

قوله: (وإنما عدي فعل الهداية باللام لأنه ضمن معنى التبيين)، وذلك أنه يتعدى إلى المفعول الثاني باللام، أو بـ"إلى"، كما سبق، وهاهنا تعدى إلى الأول باللام.

قوله: (هل يجوز أن يكون (ونطبع) بمعنى: وطبعنا؟ ): يشير بهذا السؤال إلى ما ذكره الزجاج: " (ونطبع على قلوبهم) ليس بمحمولٍ على: (أصبناهم)، لأنه لو حمل عليه

ص: 491

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لكان "ولطبعنا"، لأنه على لفظ الماضي وفي معناه. ويجوز أن يكون محمولاً على الماضي، ولفظه لفظ المستقبل كما قال:(أن لو تشاء) ومعناه: لو شئنا".

وقلت: هذا وإن جاز بحسب اللفظ، لكن المعنى لا يساعد عليه، لأنه لو عطف على ما في خبر (لو) لدخل في حكمه، وهي لامتناع الشيء لامتناع غيره، فيلزم أن القوم لم يكونوا مطبوعاً على قلوبهم، والحال أنهم مطبوعون.

قال في "الانتصاف": "يجوز عطفه عليه، ولا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع، وإن كانوا كفاراً، إذ ليس الطبع من لوازم الكفر والاقتراف، إذ الطبع هو التمادي في الكفر والإصرار، حتى ييأس من قبول صاحبه للحق، وليس كل كافرٍ ولا مقترفٍ بهذه المثابة، بل يهدد الكافر بأن يطبع على قلبه، فيكون معنى الآية: قد هددتهم بأمرين: الإصابة ببعض الذنوب، والطبع على القلوب. وهذا الثاني، وإن كان نوعاً من الإصابة بالذنوب، فهو أشد، كما قال: (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة: 125]. والآية حجة على الزمخشري".

قال صاحب "التقريب": "وفي كلام جار الله نظر، لأن المذكور كونهم مذنبين دون الطبع. وأيضًا جاز أن يراد: "لو شئنا": لزدنا أو لأدمنا".

قلت: هذا مردود، لأن الكلام وارد على التوبيخ والتهديد والإهلاك والاستئصال، لقومٍ ورثوا ديار قوم هلكوا بالاستئصال، وهؤلاء استخلفوهم، واقتفوا آثارهم بمثل تلك الذنوب، وهم أهل مكة، كما سبق، لأن قوله تعالى:(للذين يرثون الأرض) إما مظهر وضع موضع المضمر، أو عام، فيدخلون فيه دخولاً أولياً.

ص: 492

وهذا التفسير يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة، وأن الله تعالى لو شاء لا تصفوا بها.

[(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ)].

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها): كقوله: (هذا بَعْلِي شَيْخاً)[هود: 72] في أنه مبتدأٌ وخبرٌ وحال، ويجوز أن يكون (الْقُرى) صفةً لـ (تلك) و (نَقُصُّ) خبراً، وأن يكون الْقُرى نَقُصُّ خبراً بعد خبر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولا شك أن الطبع وازدياده ليس من الإهلاك في شيء، حتى يهددوا به، وإن أريد التحقيق فلتتل الآيات السابقة. ثم المختار أن تكون الجملة منقطعة، واردةً على الاعتراض والتذييل، أي: ونحن نطبع على قلوبهم. أي: من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلوب من لم نرد منه الإيمان، حتى لا يعتبر بأحوال الأمم السالفة، ولا يلتفت إلى الدلائل الدالة، كما شوهد من هؤلاء، حيث آمنوا واطمأنوا.

فالمصنف هاهنا آثر مذهب الحق، وأعرض عن الاعتزال. وهذا مخالف لقول صاحب "المفتاح":"وهو أن الجملة متى نزلت منزلة الجملة العارية عن المعطوف عليها، كما إذا أريد القطع عما قبلها لم تكن موضعاً لدخول الواو هذه منقطعة، ومع الواو".

ووجه الجمع: أن قول صاحب "المفتاح" محمول على واو العطف، وقول المصنف على أن الواو واو الاستئناف الداخلة على الجملة المذيلة والمعترضة.

ص: 493

فإن قلت: ما معنى: (تِلْكَ الْقُرى) حتى يكون كلاماً مفيداً؟ قلت: هو مفيد، ولكن بشرط التقييد بالحال، كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك: هو الرجل الكريم.

فإن قلت: ما معنى الإخبار عن القرى بـ (نقص عليك من أنبائها)؟ قلت: معناه: أنّ تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها، ولها أنباءٌ غيرها لم نقصها عليك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بشرط التقييد بالحال): قال صاحب "التقريب": "وفيه نظر، لأنه جعل شرط كون (تلك القرى) كلاماً مقيداً تقييده بالحال. وإذا جعل خبراً ثانياً انتفى ذلك الشرط، إلا أن يريد: "تلك القرى المعلومة حالها وصفتها"، على أن اللام للعهد، لكنه حينئذٍ يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال".

وقلت: هذا وهم، لأن السؤال وارد على الوجه الأول، لأن المشهور أن الحال فضلة في فائدة الجملة، بخلافه إذا كان خبراً بعد الخبر، لأن (القرى) حينئذٍ بمنزلة "حلو" في قولك:"هذا حلو حامض"، فلا يكون كلاماً تاماً، فلا يرد السؤال، ولهذا استشهد بالصفة، لأنها قيد كالحال.

والجواب مبني على ما قال الزجاج: "والحال هاهنا من لطيف النحو وغامضه، وذلك أنك إذا قلت: "هذا زيد قائماً"، فإن قصدت أن تخبر به من لم يعرف زيداً أنه زيد، لم يجز أن تقول: "هذا زيد قائماً"، لأنه لا يكون زيد ما دام قائماً إذا زال عن القيام وليس بزيد. وإنما تقول ذلك للذي يعرف زيداً، فتعمل في الحال التنبيه، أي: أنبه لزيدٍ في حال قيامه، أو أشير إلى زيد في حال قيامه، لأن هذه إشارة على ما حضر". يريد بقوله: "ما حضر" تقييد المشار إليه بالحال، وإلا فلا فائدة في الجملة لأن السامع يعرفها، وكذلك في الآية، المعنى:

ص: 494

(فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) عند مجيء الرسل بالبينات بما كذبوه من آيات الله من قبل مجيء الرسل، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذبوا به أوّلا حين جاءتهم الرسل،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نخبرك عن القرى التي عرفتها في حال أنا قاصون بعض أنبائها، ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك، وإذا كان المقصود من الإيراد هذا فلابد من ذكر الحال، فيبطل قوله:"لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال".

وهو الجواب عن قوله أيضاً: "إلا أن تريد: تلك القرى المعلومة حالها وصفتها"، لأنه ليس من باب:

أنا أبو النجم وشعري شعري

ولما كان التقييد أيضاً فيه إبهام، لأن معناه الظاهر: نخبرك عن القرى المعهودة، قاصين عليك من أخبارها، سأل:"ما معنى الإخبار عن القرى بـ (نقص عليك من أنبائها)؟ " وأجاب: أنه تعالى أخبر أولاً بقوله: (تلك القرى) مجملاً، ثم فصل بقوله:" (نقص عليك): أن المراد بالأخبار بعض قصتهم لا كلها". نحوه في الأسلوب: "جاءني القوم أكثرهم".

قوله: (أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم): اعلم أنه تعالى جعل عدم إيمانهم مسبباً لتكذيبهم المقيد بقوله: (من قبل). فالفعل المضارع، وهو قوله:(ليؤمنوا)، إما أن يجرى على ظاهره، فيكون المعنى: ما كانوا ليؤمنوا الآن، أي: عند مجيء الرسل، لما سبق

ص: 495

أي: استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إليهم إلى أن ماتوا مصرّين، لا يرعوون ولا تلين شكيمتهم في كفرهم وعنادهم مع تكرر المواعظ عليهم وتتابع الآيات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منهم التكذيب قبل مجيئهم. وأما أن يحمل على الاستمرار، فالمعنى أنهم لم يؤمنوا قط، فاستمر تكذيبهم لما حصل منهم التكذيب، حتى مجيء الرسل. ولما اشتمل الفعل على معنى الاستمرار في الحالات، وتلك الحالات متعاقبة، صح أن يقال:"بما كذبوا به أولاً".

والوجه الأول مناسب لأصولهم، يعني: إنما لم يؤمنوا بالرسل لما خالفوا، قبل مجيئهم، عقلهم الهادي، فلما أبطلوا استعدادهم لم ينفعهم مجيء الرسل.

والثاني موافق لمذهب أهل السنة، لأن العقل غير مستقل، لابد من انضمام إنزال الكتب، وبعثة الرسل معه، فهؤلاء لما كذبوا الرسل والآيات، ولم تؤثر فيهم دعوتهم المتطاولة، والآيات المتتابعة، لا جرم لم يؤمنوا إلى آخر أعمارهم.

وهذا أنسب من الأول، لقوله تعالى:(كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الكَافِرِينَ)[الأعراف: 101]، ووضعه المظهر موضع المضمر يعني: سبب الطبع كفرهم بآيات الله والرسل.

ولهذا قال الزجاج: " (كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين): يدل على أنه قد طبع على قلوبهم بكفرهم، فما كانوا ليؤمنوا وقد طبع الله على قلوبهم".

قوله: (لا يرعوون): أي: لا يمتنعون ولا ينزجرون.

النهاية: "رعا يرعو: إذا كف عن الأمور. وقد ارعوى عن القبيح، يرعوي ارعواء".

ص: 496

ومعنى اللام: تأكيد النفي، وأنّ الإيمان كان منافياً لحالهم في التصميم على الكفر.

وعن مجاهد: هو كقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ)[الأنعام: 28].

(كَذلِكَ) مثل ذلك الطبع الشديد نطبع على قلوب الكافرين.

[(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)].

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) الضمير للناس على الإطلاق، أي: وما وجدنا لأكثر الناس من عهد، يعني: أنّ أكثرهم نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى، (وَإِنْ وَجَدْنا) وإنّ الشأن والحديث وجدنا أكثرهم "فاسقين" خارجين عن الطاعة مارقين، والآية اعتراض.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومعنى اللام: تأكيد النفي، وأن الإيمان كان منافياً لحالهم)، قوله:"وأن الإيمان" تفسير لقوله: "تأكيد النفي". يعني: جاء اللام تأكيداً لهذا المعنى الذي يعطيه التركيب. وقد مر في "النساء" في قوله: (لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ)[النساء: 137، 168] تحقيق هذا البحث.

قوله: (وعن مجاهد: هو كقوله: (ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه)): روى محيي السنة عنه: "فما كانوا، لو أحييناهم بعد هلاكهم، ليؤمنوا بما كذبوا به قبل هلاكهم، لقوله عز وجل: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) ".

وقلت: المعنى: بلغ تكذيبهم الرسل وآيات الله، بحيث لو قدر أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.

قوله: ((وما وجدنا لأكثرهم من عهدٍ)): قال أبو البقاء: " (لأكثرهم) حال من (عهدٍ)، و (من): زائدة. أي: ما وجدنا عهداً لأكثرهم".

ص: 497

ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين، وأنهم كانوا إذا عاهدوا الله في ضرُّ ومخافةٍ: لئن أنجيتنا لنؤمننّ، ثم نجاهم، نكثوا، كما قال قوم فرعون لموسى عليه السلام:(لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) إلى قوله: (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ)[الأعراف: 134 - 135].

والوجود بمعنى العلم، من قولك: وجدت زيداً ذا الحفاظ، بدليل دخول «إن» المخففة واللام الفارقة، ولا يسوغ ذلك إلا في المبتدأ والخبر، والأفعال الداخلة عليهما.

[(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ* وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين): فعلى هذا الجملة تكون تتميماً لا اعتراضاً.

وعلى الوجهين: قوله: (ومَا وجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وإن وجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) من باب الطرد والعكس، إن فسر "الفاسقين" بالناكثين.

قوله: (ثم نجاهم) معطوف على قوله: "عاهدوا الله"، وقوله:"نكثوا" معطوف على قوله: "إذا"، وقوله:"لئن أنجيتنا لنؤمنن": الجملة اعترضت للبيان والتأكيد.

قوله: (ذا الحفاظ)، الجوهري:"المحافظة: المراقبة: ويقال: إنه لذو حفاظ، وذو محافظة: إذا كانت له أنفة".

ص: 498

(مِنْ بَعْدِهِمْ) الضمير للرسل في قوله: (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ)[الأعراف: 101]، أو للأمم، (فَظَلَمُوا بها): فكفروا بآياتنا، أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من وادٍ واحد؛ (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]، أو: فظلموا الناس بسببها حين أو عدوهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الضمير للرسل في قوله تعالى: (ولقد جاءتهم رسلهم) أو للأمم): وفي تأخير العطف عن قوله تعالى: (ولقد جاءتهم رسلهم) إشعار بأن الضمير للرسل أوفق، لأن تلك القصص ذكرت تسليةً لرسول الله صلي الله عليه وسلم أصالة:(وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)[هود: 120].

يدل عليه قوله تعالى: (تِلْكَ القُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا)[الأعراف: 101]، وقوله:(فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ)، واعتبار الأمة تبعاً، يدل عليه قوله تعالى:(أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَاتِيَهُم بَاسُنَا) إلى آخره.

ثم لما وبخهم وزجرهم وعنفهم، عاد إلى ذكر نبي هو أعظمهم آية، وأكثفهم أمة، وأشبع في بيان أحواله مع أمته. ولهذا أفرز قصته من قصصهم، وقال فيهم:(نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا) أي: بعض أخبارها، وأطنب في قصته كل الإطناب.

والذي يقوي أن الضمير راجع إلى الرسل، أنه قيل:(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى وهَارُونَ إلَى فِرْعَوْنَ) ولم يقل: ثم أنشأنا من بعدهم أمة فرعون، وبعثنا إليهم موسى.

قوله: (أو: فظلموا الناس بسببها): يريد أن "الظلم" هاهنا إما مضمن فيه معنى "الكفر"، بوساطة تعديته بالباء، أو على معناه، والباء سببية، وإنما كان الثاني ظلماً، لأن الآيات سبب لا يرغب الناس إلى الإيمان بها، فقلبوا، ووضعوا الشيء في غير موضعه، حيث جعلوها سبباً للصد عنها، وإيذاء الناس.

ص: 499

وصدّوهم عنها، وآذوا من آمن بها، ولأنه إذا وجب الإيمان بها فكفروا بدل الإيمان كان كفرهم بها ظلماً، فكذلك قيل:(فظلموا بها)، أي: كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه، وهو موضع الإيمان.

يُقال لملوك مصر: الفراعنة، كما يقال لملوك فارس الأكاسرة، فكأنه قال: يا ملك مصر وكان اسمه قابوس، وقيل: الوليد بن مصعب بن الريان، (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) فيه أربع قراءات: المشهورة، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولأنه إذا وجب الإيمان بها): قيل: هو وجه ثانٍ لإطلاق "الظلم" على "الكفر".

وقلت: بل وجه ثالث. وتقريره: أن "الظلم" لا يعدى بالباء، فتعدت به، إما لكونه عبارة عن الكفر بقرينة الباء، وإليه الإشارة بقوله:"أجرى الظلم مجرى الكفر لأنهما من وادٍ واحد"، وإما لأن الباء للسببية، ومفعول "ظلموا" محذوف، وهو المراد من قوله:"فظلموا الناس بسببها". وإما أن الباء فيه دلالة على تضمين "الظلم" معنى "الكفر". وإليه أشار بقوله: "كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه".

قوله: (فيه أربع قراءات: المشهورة) أي: ما اجتمعت عليه القراء، سوى نافع. وقراءة عبد الله وأبي تؤيدان قراءة نافع.

قال الزجاج: "من قرأ: (حقيق علي ألا أقول) فالمعنى: واجب على ترك القول على الله إلا بالحق، ومن قرأ:(حقيق على أن لا أقول)، فالمعنى: حقيق علي ترك القول على الله إلا الحق.

والأولى ظاهرة. ولهذا قال: "وفي المشهورة إشكال".

ص: 500

(وحقيقٌ علي أن لا أقول)، وهي قراءة نافع، و"حقيقٌ أن لا أقول" وهي قراءة عبد الله، "وحقيقٌ بأن لا أقول"، وهي قراءة أُبيّ وفي المشهورة إشكال، ولا تخلو من وجوهٍ:

أحدها: أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الإلباس، كقوله:

وَتَشْقَى الرِّمَاحُ بِالضَّيَاطِرَةِ الْحُمْرِ

ومعناه: وتشقى الضياطرة بالرماح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا تخلو)، أي: لا تخلو صحة القراءة المشهورة من وجوه:

أحدها: أن يكون من باب القلب، كقولهم:"عرضت الناقة على الحوض". فحقها: حقيق علي ألا أقول، كما عليه قراءة نافع، فقلب كما قلب في قول الشاعر:

وتلحق خيل لا هوادة بينها

وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر

البيت لخداش بن زهير. الهوادة: الصلح والميل. والتهويد: المشي الرويد، مثل الدبيب. الضيطر: الرجل الضخم الذي لا غناء عنده. والحمر: العجم، لأن الشقرة غلبت عليهم.

قوله: (ومعناه): أي: معنى كل واحدٍ من الآية والبيت. ففيه لف ونشر.

قوله: (وهي قراءة نافع) يعني: معنى المشهورة يعود إلى قراءة نافع، وهي:"حقيق علي ألا أقول".

ص: 501

والثاني: أنّ ما لزمك فقد لزمته، فلما كان قول الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحق، أي: لازماً له.

والثالث: أن يُضمن (حَقِيقٌ) معنى: حريص، كما ضمن «هيجني» معنى ذكرني في بيت "الكتاب".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن ما لزمك فقد لزمته): قال صاحب "التقريب": " (حقيق) في هذا الوجه: بمعنى اللازم".

وقلت: بل قوله: "أن ما لزمك فقد لزمته" إيماء إلى أن الأسلوب من الكناية الإيمائية، كقول البحتري:

أو ما رأيت الجود ألقى رحله

في آل طلحة ثم لم يتحول

وقول ابن هانئ:

فما جازه جود ولا حل دونه

ولكن يصير الجود حيث يصير

يعني: بلغت الملازمة بين الجود والممدوح، بحيث وجب وحق على الجود أن لا يفارق ساحته، فيصير حيث صار.

وهو المراد بقوله: "فلما كان قول الحق حقيقاً عليه، كان هو حقيقاً على قول الحق".

قوله: (في بيت "الكتاب")، وهو:

ص: 502

والرابع: وهو الأوجه الأدخل في نكت القرآن: أن يُغرِق موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام، لا سيما وقد روي أنّ عدو الله فرعون قال له- لما قال:(إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) -: كذبت، فيقول: أنا حقيقٌ علي قول الحق، أي: واجبٌ على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به، ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به.

(فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ): فخلهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدّسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم، وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إذا تغنى الحمام الورق هيجني

ولو تعزيت عنها أم عمار

الورق: جمع أورق، وهو الذي لونه لون الرماد. تعزيت عنها، أي: تسليت.

"هيج": يتعدى إلى مفعولٍ واحد، فلما ضمنه معنى "ذكر" عداه إلى المفعول الثاني وهو "أم عمار"، أي: إذا تغنى الحمام ذكرني أم عمار.

"ولو تعزيت عنها": معترضة، فلا يكون الضمير في "عنها" إضماراً قبل الذكر، كما قيل.

قوله: (أن يغرق موسى في وصف نفسه بالصدق): أي: يبالغ فيه، يعني: كيف ينسب إلى الكذب؟ إذ لو كان الصدق مما يعقل، لكان الواجب عليه أن يجعلني قائله، أي: يجتهد

ص: 503

وانقرضت الأسباط، غلب فرعون نسلهم واستعبدهم، فأنقذهم الله بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام.

[(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَاتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ للِنَّاظِرِين)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لتحصيل ما يوجب أن أكون أنا قائله، والقائم بمصالحه، كما يقوم القيم بمصالح الطفل على طريقة قوله:(فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ)[الأعراف: 2]. فالآية، على هذا، من الاستعارة المكنية.

وإنما استدعى المقام المبالغة، لأن موسى عليه السلام حين ادعى الرسالة بين يدي فرعون، لم يخل من ارتيابٍ منه، فكان قوله:(إني رسول من رب العالمين)، وارداً لإزالة ذلك الارتياب، كقول الرسل في المرة الأولى:(إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ)[يس: 14]. ثم لما سمع فرعون قوله: (إنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ)، أنكره، فزاد موسى عليه السلام في المبالغة، بأن قال:(حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق) كما قال.

ص: 504

فإن قلت: كيف قال له: (فَاتِ بِها) بعد قوله: (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ)؟ قلت: معناه: إن كنت جئت من عند من أرسلك بآيةٍ فأتني بها وأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقد روي أن عدو الله قال: كذبت. وكان قوله: "أنا حقيق على قول الحق"، جواباً عن إنكاره، كقولهم في المرة الثانية:(إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ)[يس: 16].

فعلم من هذا البيان أن قوله: (حقيق على أن لا أقول) - على هذا - يجب أن يكون خبر مبتدأ محذوف ما، بخلافه على الوجوه السابقة.

قال أبو البقاء: " (حقيق) هاهنا على الصحيح: صفة لـ (رسول)، أو خبر ثانٍ، كما تقول: أنا حقيق بكذا، أي: أحق".

وقال صاحب الكواشي: "قرئ: (حقيق على أن لا أقول)، فـ (حقيق) على هذا صفة (رسول)، فلا تقف على (العالمين). وإن جعلت (حقيق) خبر مبتدأ - أي: أنا حقيق - وقفت عليه".

قوله: (كيف قال له: (فأت بها إن كنت من الصادقين)): أي: كيف قيد جزاء الشرط بالشرط؟ وما معناه؟

خلاصة الجواب: أن الشرط الثاني كالتأكيد والتعليل. ولهذا قال: "لتصح دعواك، ويثبت صدقك".

وقد مر عن أبي البقاء أن الشرط الثاني جوابه ما يدل عليه الشرط الأول مع جوابه، فالتقدير: إن كنت من الصادقين فأت بآية إن كنت جئت بها.

ص: 505

(ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ظاهرٌ أمره لا يشك في أنه ثعبان، وروي أنه كان ثعباناً ذكراً أشعر فاغراً فاه، بين لحييه ثمانون ذراعاً، وضع لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب، وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك! وهرب الناس وصاحوا، وحمل على الناس فانهزموا، فمات منهم خمسةٌ وعشرون ألفاً قتل بعضهم بعضاً، ودخل فرعون البيت وصاح: يا موسى، خذه وأنا أو من بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه موسى فعاد عصاً.

فإن قلت: بم يتعلق (لِلنَّاظِرِينَ)؟ قلت يتعلق بـ (بيضاء)، والمعنى: فإذا هي بيضاء للنظارة، ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة، يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولهذا قال الزجاج: "قد أوجب فرعون أنه ليس بإله، كما ادعى، لأنه قد أوجب له الصدق إذا أتى بآيةٍ يعجز عنها المخلوقون".

قوله: (فاغراًفاه)، الجوهري:"فغرفاه، أي: فتحه. وفغرفوه: انفتح. يتعدى ولا يتعدى". و"أحدث" أي: استطلق.

قوله: (ولا تكون بيضاء للنظارة، إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً): يريد: أن قوله تعالى: (للناظرين) من التتميم، كقول امرئ القيس:

حملت ردينياً كأن سنانه

سنا لهبٍ لم يتصل بدخان

فإن النار الشاعلة إذا لم يتصل بها دخان، كانت أشد ثقوباً. جلب في البيت معنىً لتربية المعنى، كما أثبت في الآية معنىً لتربية المعنى.

ص: 506

وذلك ما يروى: أنه أرى فرعون يده وقال: ما هذه؟ قال: يدك، ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوفٍ ونزعها، فإذا هي بيضاء بياضاً نورانياً غلب شعاعها شعاع الشمس، وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة.

[(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَامُرُونَ* قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَاتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ)].

(إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي: عالمٌ بالسحر ماهرٌ فيه، قد أخذ عيون الناس بخدعةٍ من خدعه، حتى خيل إليهم العصا حيةً، والآدم أبيض.

فإن قلت: قد عزي هذا الكلام إلى فرعون في "سورة الشعراء"، وأنه قاله للملأ، وعزي هاهنا إليهم؟ قلت: قد قاله هو وقالوه هم، فحكى قوله ثم، وقولهم هاهنا، أو قاله ابتداءً فتلقته منه الملأ، فقالوه لأعقابهم، أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة)، روى البخاري عن ابن عمر قال: قال النبي صلي الله عليه وسلم: "وأما موسى فآدم جسيم سبط، كأنه من رجال الزط".

النهاية: "الزط: جنس من السودان والهنود".

قوله: (قاله هو، وقالوه هم) فهو كوقع الحافر على الحافر. يدل عليه قوله: "أو قاله ابتداء، فتلقته منه الملأ": يعني قال فرعون ما في سورة "الشعراء": (قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَامُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وأَخَاهُ)[الشعراء: 34 - 36] ابتداءً.

ص: 507

كما يفعل الملوك؛ يرى الواحد منهم الرأي، فيكلم به من يليه من الخاصة، ثم تبلغه الخاصة العامة. والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم:(أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَاتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ)، وقرئ:(سحار)، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الملأ هاهنا نقلاً لكلامه ذلك، وهو:(قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه)، إما على وجه الإعادة لأجل أعقابهم، أو على وجه التبليغ إلى سائر الناس.

قال المصنف: "المناسب أن يقال: إن الملأ قالوا هذا الكلام مع الناس بطريق التبليغ، ويكون (فماذا تأمرون) من تتمته. فلما سمع الناس هذا من الملأ، أقبلوا على فرعون، وقالوا: (أرجه وأخاه) ".

وإليه الإشارة بقوله: "والدليل عليه أنهم أجابوه في قولهم: (أرجه وأخاه) " يعني: أن الدليل على أن الكلام وارد على التبليغ أنه لو كان الجواب من القوم للملأ لكان المطابق: أرجئوا وأرسلوا.

ولأن الظاهر أن قولهم: (فماذا تأمرون) كان مؤامرةً مع القبط ومشاورة، فلابد أن يحصل منهم أيضاً كلام ومشورة، كما قال:"وكانت مؤامرةً مع القبط" إلى قوله: "فأشار عليك برأي".

لكن ما في "الشعراء" تصريح في أن قوله تعالى: (أرجه وأخاه) من قول الملأ لفرعون، لا من القبط له، كأنهم لما أبلغوا إلى الناس رسالة فرعون، ما أصغوا إلى مشورتهم، فأشاروا هم إلى فرعون:(أرجه وأخاه).

هذا أحسن، ليتجاوب الآيتان، ويؤيده قوله بعد هذا:"كأنه قيل: قال: (فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه) ".

قوله: ((يأتوك بكل ساحرٍ عليمٍ)، وقرئ:"سحار"): لف، وقوله: "مثله في العلم

ص: 508

أي: يأتوك بكل ساحر مثله في العلم والمهارة. أو بخيرٍ منه، وكانت هذه مؤامرة مع القبط.

وقولهم: (فَماذا تَامُرُونَ) من: أمرته فأمرني بكذا؛ إذا شاورته فأشار عليك برأي. وقيل: (فَمَاذَا تَامُرُونَ)؟ من كلام فرعون، قاله للملأ لما قالوا له:(إن هذا لساحرٌ عليم* يريد أن يخرجكم)، كأنه لما قيل: فماذا تأمرون؟ قالوا: أرجئه وأخاه، ومعنى "أرجئه وأخاه": أخرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما وتدبر أمرهما. وقيل: احبسهما. وقرئ: "أرجئه" بالهمزة، و (أرجه)، من أرجأه وأرجاه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والمهارة أو بخير منه" نشر، وذلك أن هذا الجواب مقابل لقول الملأ: (إن هذا لساحر عليم). فمن قرأ: (بكل ساحرٍ) يكون مثله، ومن قرأ: "سحارٍ" يكون خيراً منه.

قوله: (والمهارة)، الجوهري:"المهارة: الحذق في الشيء. وقد مهرت الشيء مهارة".

قوله: (وقيل: (فماذا تأمرون) من كلام فرعون): نحوه قول يوسف: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)[يوسف: 52] بعد قولها: (الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)[يوسف: 51].

فعلى هذا الظاهر أن قول الملأ: (إنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم) ابتداء كلام، كما قال المصنف" "قد قاله هو، وقالوه هم".

وقولهم: (يخرجكم من أرضكم) بناء على خطاب الملوك بلفظ الجماعة.

قوله: ("أرجئه" بالهمز): أبو بكر وأبو عمروٍ وابن عامر. والباقون: بتركها.

ص: 509

[(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ* قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)].

فإن قلت: هلا قيل: وجاء السحرة فرعون فقالوا! قلت: هو على تقديرٍ سائلٍ سأل: ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله: "قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً" أي: جُعلاً على الغلبة، وقرئ:(إن لنا لأجراً) على الإخبار وإثبات الأجر العظيم وإيجابه، كأنهم قالوا: لا بد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم، كقول العرب: إنّ له لإبلاً، وإنّ له لغنماً، يقصدون الكثرة.

فإن قلت: (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ما الذي عطف عليه؟ قلت: هو معطوفٌ على محذوف سدّ مسدّه حرف الإيجاب، كأنه قال إيجاباً لقولهم:(إن لنا لأجراً)؟ -: (نعم) إن لكم لأجراً، (وإنكم لمن المقرّبين)، أراد: إني لأقتصر بكم على الثواب وحده، وإنّ لكم مع الثواب ما يقل معه الثواب، وهو التقريب والتعظيم، لأنّ المثاب إنما يتهنأ بما يصل إليه ويغتبط به إذا نال معه الكرامة والرفعة.

وروي: أنه قال لهم: تكونون أول من يدخل وآخر من يخرج. وروي: أنه دعا برؤساء السحرة ومعلميهم فقال لهم: ما صنعتم؟ قالوا قد علمنا سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض، إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به.

وروي أنهم كانوا ثمانين ألفاً، وقيل: سبعين ألفاً، وقيل: بضعةً وثلاثين ألفاً. واختلفت الروايات فمن مقل ومن مكثر!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: (إن لنا لأجراً): نافع وابن كثير وحفص.

قوله: (فمن مقل ومن مكثر) الفاء عقيب قوله: "واختلفت الروايات"، مفصلة له.

ص: 510

وقيل: كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى. وقيل: قال فرعون: لا نغالب موسى إلا بما هو منه، يعنى السحر.

[(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ* قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ* وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَافِكُونَ* فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ* وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ)].

تخييرهم إياه أدبٌ حسن راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا، كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع.

وقولهم: (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر، أو تعريف الخبر وإقحام الفصل، وقد سوَّغ لهم موسى ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاةٍ بهم، وثقةً بما كان بصدده من التأييد السماوي، وأنّ المعجزة لن يغلبها سحر أبداً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (نينوى): روي عن فخر المشايخ: أنها قرية بقرب الموصل، بعث فيها يونس.

قوله: (أو تعريف الخبر وإقحام الفصل): فإن قلت: ما الفرق بين أن يكون الضمير مؤكداً، وبين أن يكون فصلاً؟ قلت: التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه، فيلزم التخصيص من تعريف الخبر، أي: نحن نفعل الإلقاء البتة، لا غيرنا، والفصل يخصص الإلقاء بهم، لأنه لتخصيص المسند بالمسند إليه، فيعرى عن التوكيد.

ص: 511

(سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ): أروها بالحيل والشعوذة وخيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه، كقوله تعالى:(يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى)[طه: 66]، روي: أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخُشُباً طوالاً، فإذا هي أمثال الحيات، قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضاً، (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ): وأرهبوهم إرهاباً شديداً، كأنهم استدعوا رهبتهم (بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) في باب السحر. روي أنهم لونوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة، قيل: جعلوا فيها الزئبق.

(ما يَافِكُونَ): (مَا) موصولةٌ أو مصدرية، بمعنى: ما يأفكونه، أي: يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه. أو إفكهم، تسمية للمأفوك بالإفك.

روي أنها لما تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال ورفعها موسى، فرجعت عصاً كما كانت، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة، أو فرّقها أجزاءً لطيفةً، قالت السحرة: لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا، (فَوَقَعَ الْحَقُّ) فحصل وثبت،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

قوله: (أو إفكهم) هذا على أن تكون (ما) مصدرية، والمصدر بمعنى اسم المفعول، والمأفوك ما جعلوا فيه الزئبق.

قال الزجاج: "معنى قوله: (يأفكون) أي: يأتون بالإفك، وهو الكذب، وذلك أنهم زعموا أن حبالهم وعصيهم حيات، وكذبوا في ذلك، وإنما كانوا قد حشوها بالزئبق، وصوروها بصور الحيات".

قال أبو عبيدة: " (تلقف ما يأفكون) أي: تلقم ما يسحرون ويكذبون".

قوله: ((فوقع الحق): حصل وثبت). استعير للثبوت وللحصول الوقع، لأنه في

ص: 512

ومن بدع التفاسير: فوقع قلوبهم، أي: فأثر فيها؛ من قولهم: قاس وقيعٌ، (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ): وصاروا أذلاء مبهوتين.

(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ): وخرّوا سجداً، كأنما ألقاهم ملقٍ لشدّة خرورهم، وقيل: لم يتمالكوا مما رأوا، فكأنهم ألقوا، وعن قتادة: كانوا أول النهار كفاراً سحرةً، وفي آخره شهداء بررة، وعن الحسن: تراه ولد في الإسلام ونشأ بين المسلمين يبيع دينه بكذا وكذا، وهؤلاء كفار نشؤوا في الكفر، بذلوا أنفسهم لله.

[(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)].

(آمَنْتُمْ بِهِ) على الإخبار، أي: فعلتم هذا الفعل الشنيع، توبيخاً لهم وتقريعاً. وقرئ:(أآمنتم) بحرف الاستفهام، ومعناه الإنكار والاستبعاد،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

مقابل "بطل"، فإن الباطل زائل. وفائدتها شدة الرسوخ والتأثير، لأن الوقع يستعمل في الأجسام.

الأساس: "وقع الشيء على الأرض وقوعاً، وأوقعته إيقاعاً".

وهو كقوله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ)[الأنبياء: 18]، استعير القذف لإيراد الحق على الباطل، والدمغ لإذهاب الباطل، لأن القذف والدمغ يستعملان في الأجسام.

ولعل من فسر الوقع بالتأثير نظر إلى هذا المعنى.

قوله: ("أآمنتم" بحرف الاستفهام): الجماعة كلهم إلا حفصاً، فإنه قرأها على الإخبار.

ص: 513

(إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ): إن صنعكم هذا لحيلةٌ احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء، قد تواطأتم على ذلك لغرضٍ لكم، وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوها بني إسرائيل، وكان هذا الكلام من فرعون تمويهاً على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان. وروي أن موسى عليه السلام قال للساحر الأكبر: أتؤمن بي إن غلبتك؟ قال لآتين بسحر لا يغلبه سحر، وإن غلبتني لأومنن بك، وفرعون يسمع، فلذلك قال ما قال، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وعيدٌ أجمله، ثم فصله بقوله:(لَأُقَطِّعَنَّ)، وقرئ:"لأقطعن" بالتخفيف، وكذلك (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ مِنْ خِلافٍ): من كل شق طرفاً، وقيل: إن أوّل من قطع من خلاف وصلب لفرعون.

[(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ* وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ)].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

وفيها أيضاً معنى التوبيخ، كما في الاستفهام. ونحوه قال الحسن في قوله تعالى:(اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً)[الفرقان: 5] بكسر الهمزة: "إنه قول الله يكذبهم".

وإنما أفاد الخبر التوبيخ، لأن الأصل في الإخبار الساذج أن يكون المخاطب خالي الذهن، وألا يلزم تحصيل الحاصل، فإذا ألقى إليه الجملة، وهو عالم بفائدتها، تؤكد بحسب قرائن الأحوال ما ناسب المقام.

وهاهنا، لما خاطبهم بما فعلوا، مخبراً إياهم في ذلك المقام، أفاد التوبيخ والتقريع.

قوله: (وروي أن موسي عليه السلام قال للساحر الأكبر): عطف على قوله: "وكان

ص: 514

(إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) فيه أوجهٌ: أن يريدوا: إنا لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته، وخلاصنا منك ومن لقائك، أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب، أو إنا جميعاً- يعنون أنفسهم وفرعون- ننقلب إلى الله فيحكم بيننا. أو إنا لا محالة ميتون منقلبون إلى الله، فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه.

(وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا): وما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، أرادوا: وما تعيب منا إلا ما هو أصل المناقب والمفاخر كلها، وهو الإيمان. ومنه قوله:

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

هذا الكلام من فرعون تمويهاً على الناس". أي: لم يسمع شيئاً من السحرة، وموسى ما شعر بهذا المعنى، بل وضعه من تلقاء نفسه تمويهاً على الناس، أو سمع ما يدل عليه، كما جاء في الرواية: "أن موسى قال للساحر الأكبر" إلى آخره، ومن تمويهه قوله:(قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)[الأعراف: 123] أي: آمركم. يعني: أن غلبة موسى لم تكن غلبةً في الحقيقة، إذ لو كانت لآذنتكم بالإيمان به (إنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ).

قوله: ((إنا إلى ربنا منقلبون): فيه أوجه): إنما احتمل الوجوه، لأن هذه القصة في هذه السورة جاءت مختصرة، وفي "الشعراء" أو في منها، فتحمل هذه على تلك، والمذكور فيها:(لا ضَيْرَ إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ المُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 50 - 51]، عللوا عدم المبالاة الذي يعطيه معنى (لا ضير) بالانقلاب إلى الله، والطمع في الثواب.

وفسر الآية هناك بوجوه ثلاثة، وزاد هنا، بناءً على ذلك، وجهاً واحداً.

الوجه الأول: قوله: "إنا لا نبالي بالموت، لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته، وخلاصنا منك"، ومما يقرب منه هنالك قوله:"لا ضير علينا في قتلك، إنك إن قتلتنا انقلبنا إلى ربنا انقلاب من يطمع في مغفرته، ويرجو رحمته".

ص: 515

(أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً): هب لنا صبراً واسعاً وأكثره علينا، حتى يفيض علينا ويغمرنا، كما يفرغ الماء فراغاً، وعن بعض السلف: إن أحدكم ليفرغ على أخيه ذنوباً، ثم يقول: قد مازحتك، أي: يغمره بالحياء والخجل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

والثاني: قوله: "ننقلب إلى الله يوم الجزاء، فيثيبنا على شدائد القطع والصلب"، ومما يناسبه ثمة قوله:"لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم النفع، لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله من تكفير الخطايا، والثواب العظيم، مع الأعواض"، لأن المشار إليه بقوله:"ذلك": "القطع والصلب".

والثالث: قوله: "إنا جميعاً - يعنون أنفسهم وفرعون - ننقلب إلى الله فيحكم بيننا" لم يذكره هناك. والمعنى: ننقلب إلى الله جميعاً، فيحكم بيننا، وينتقم لنا منك، بما فعلت بنا، ويثيبنا على ما قاسيناه من البلاء والمحن.

والرابع: قوله: "إنا لا محالة ميتون منقلبون إلى الله"، ومما يدانيه هناك قوله:"لا ضير علينا فيما تتوعدنا به من القتل، لأنه لابد لنا من الانقلاب إلى ربنا، بسبب من أسباب الموت، والقتل أهون أسبابه".

وقد ذكرنا هناك وجه تخريج كل من الوجوه على التفصيل.

قوله: (هب لنا صبراً واسعاً، وأكثره علينا)، هذا أصل المعنى، فاستعير له قوله تعالى:(أفرغ علينا صبراً).

فالاستعارة في (أفرغ)، والقرينة (صبراً)، لأن الصبر لا يستعمل فيه الإفراغ، وهي استعارة تبعية.

ص: 516

أو صب علينا ما يطهرنا من أوضار الآثام، وهو الصبر على ما توعدنا به فرعون، لأنهم علموا أنهم إذا استقاموا وصبروا كان ذلك مطهرةً لهم، (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ): ثابتين على الإسلام.

[(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ)].

(وَيَذَرَكَ) عطفٌ على (لِيُفْسِدُوا)، لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم، .......

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

قوله: (أو صب علينا ما يطهرنا). فعلى هذا الاستعارة في "الصبر"، والقرينة (أفرغ)، وهي استعارة مكنية مستلزمة للتخييلية، لأن الإفراغ يستعمل في الماء، و"الصبر" المكنية، ولذلك قال:"أو صب علينا ما يطهرنا من أوضار الآثام، وهو الصبر".

قوله: (لأنه إذا تركهم) تعليل لما يؤدي إليه عطف "يذرك" على علة الفعل المنكر. وهو: (أتذر)، لأن ترك فرعون موسى وقومه على ما أرادوا يؤدي إلى الفساد في الأرض، وإلى ترك فرعون ألا يعظم، وترك الآلهة بألا تعبد.

فاللام في (ليفسدوا) كما في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًا وحَزَنًا)[القصص: 8].

ولهذا قال: "فكأنه تركهم لذلك" على التشبيه.

والإضافة في (والهتك) ليست للتخصيص، لتكون معبودة له، بل لأدنى ملابسة، لأنه صنعها، ودعا القوم إلى عبادتها. يعضده قوله:(أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)[النازعات: 24].

ص: 517

وكان ذلك مؤدّيا إلى ما دعوه فساداً وإلى تركه وترك آلهته، فكأنه تركهم لذلك.

أو هو جوابٌ للاستفهام بالواو كما يجاب بالفاء، نحو قول الحطيئة:

ألم أك جاركم ويكون بيني

وبينكم المودّة والإخاء

والنصب بإضمار «أن» ، تقديره: أيكون منك ترك موسى، ويكون تركه إياك وآلهتك.

وقرئ: "ويذرك وآلهتك" بالرفع عطفاً على (أتذر موسى)، بمعنى: أتذره وأيذرك، يعني: أتطلق له ذلك؟ أو يكون مستأنفاً أو حالاً على معنى: أتذره وهو يذرك وآلهتك. وقرأ الحسن: "ويذرك" بالجزم،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

قوله: (أو هو جواب الاستفهام بالواو): قال الزجاج: "المعنى: أيكون منك أن تذر موسى، وأن يذرك؟ " يعني: أتذر موسى وقومه ليغيروا دينك، ولنترك عبادتك وعبادة الأصنام التي أمرتنا بعبادتها؟

قوله: (والنصب بإضمار "أن") عطف على قوله: "هو جواب"، أي: هو جواب للاستفهام، والنصب بإضمار "أن".

قوله: (وهو يذرك وآلهتك) مثال للاستئناف والحال، كقوله تعالى:(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وأَنتُمْ ظَالِمُونَ)[البقرة: 92].

أما الاستئناف، فعلى أن تكون الجملة معترضة مؤكدةً لمعنى ما سبق، أي: أتذر

ص: 518

كأنه قيل: يفسدوا، كما قرئ:(وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ)[المنافقون: 10]، كأنه قيل:"أصدّق". وقرأ أنسٌ رضي الله عنه: "ونذرك"، بالنون والنصب، أي: يصرفنا عن عبادتك فنذرها. وقرئ: "ويذرك وإلاهتك"، أي: عبادتك.

وروي أنهم قالوا له ذلك، لأنه وافق السحرة على الإيمان ستمائة ألف نفس،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

موسى وعادته تركك وآلهتك؟ فلابد من تقدير "هو" ليدل على الدوام.

وأما الحال فكذلك لأن "يذرك" مضارع، لا يجوز مجيء الواو معه، فتقدر الجملة أسمية، ليصح دخولها عليه. والحال مقدرة لجهة الإشكال.

قوله: (كأنه قيل: يفسدوا): يعني: لو لم يكن في (ليفسدوا) اللام، لكان يجوز فيه الجزم على أنه جواب الاستفهام، بإضمار "إن" الشرطية، فيقدر كأنه ليس فيه اللام، كما في قوله:(وأكن).

قال ابن جني: "أما إسكان "يذرك". فهو كقراءة أبي عمرو: "إن الله يأمركم" بإسكان الراء، استثقالاً للضمة على توالي الحركات، ولم يسكن (يأمرهم) [الأعراف: 157] لخفاء الهاء وخفتها، بخلاف الكاف لثقلها وإظهارها".

قوله: (وإلاهتك): قال ابن جني: "قرأها علي وابن عباس والحسن رضي الله عنهم أي: عبادتك منه سميت الشمس: إلاهة، لأنهم كانوا يعبدونها".

قوله: (وروي أنهم قالوا له ذلك) عطف على قوله: "إلى ما دعوه فساداً" من حيث المعنى،

ص: 519

فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك وخافوا أن يغلبوا على الملك، وقيل: صنع فرعون لقومه أصناماً وأمرهم أن يعبدوها تقرباً إليه، كما يعبد عبدة الأصنامِ الأصنامَ، ويقولون: ليقربونا إلى الله زلفى، ولذلك قال:(أنا ربكم الأعلى)[النازعات: 24].

(سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) يعني: سنعيد عليهم، ما كنا محناهم به من قتل الأبناء، ليعلموا أنا على ما كنا عليه من الغلبة والقهر، وأنهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا، وأن غلبة موسى لا أثر لها في ملكنا واستيلائنا، ولئلا يتوهم العامة أنه هو المولود الذي أخبر المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده، فيثبطهم ذلك عن طاعتنا، ويدعوهم إلى اتباعه، وأنه منتظر بعد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

لأن المراد بالفساد إما ما هو المتعارف، قال تعالى:(لِيُفْسِدَ فِيهَا ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ)[البقرة: 205] أو غير المتعارف، وهو إيمان ست مئة ألف نفس، يدل عليه قوله:"فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك".

قوله: (أن يغلبوا على الملك)، الأساس:"غلبته على الشيء: أخذته، وهو مغلوب عليه".

قوله: (محناهم) وهي: من المحنة التي هي واحدة المحن، الذي يمتحن به الإنسان من بلية.

قوله: (وأنه منتظر)، قيل: هو معطوف على قوله: "إنه هو المولود" على أسلوب قوله:

علفتها تبناً وماءً باردا

المعنى: سنقتل أبناءهم، ليعلم بنو إسرائيل أنا على ما كنا عليه، وأن غلبة موسى لا أثر لها، ولئلا يتوهم العامة من القبط أن موسى هو المولود الذي تحدث به المنجمون، وليوقنوا أن ذلك المولود منتظر بعد، وليس بموسى.

ص: 520

[(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَاتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)].

(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ) قال لهم ذلك - حين قال فرعون: سنقتل أبناءهم فجزعوا منه وتضجروا - .....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

يريد: أن قوله: (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ ونَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ) من الأسلوب الحكيم، وإن صدر من الأحمق، لأن الجواب المطابق للملأ عن قولهم:(أتذر موسى وقومه): إنا سنقتله وقومه، ونسبي ذراريهم.

ولو أتى بهذا الجواب لظهر عجزه لبني إسرائيل، لأنه إذا ترك قتل الأبناء، وشرع في قتل الرجال، لتوهم أن ذلك للخوف منهم، وأن موسى عليه السلام هو الموعود، فلما صرح بالعود إلى ما كانوا عليه من القهر: بإبقاء الرجال، وقتل الأولاد، واستحياء النساء، دل على ذلة بني إسرائيل، وأن موسى غير الموعود به.

يعني: لا تلتفتوا إليه أيها القبط، ودوموا على ما كنتم عليه من قتل الأولاد، واستحياء النساء، ولا تعتمدوا عليه، يا بني إسرائيل، ولا تعتضدوا به، فأنتم بعد أذلاء مقهورون.

فعلى هذا قوله: (وإنا فوقهم قاهرون) كالتذييل للسابق وكذلك كان قول موسى لقومه: (استعينوا بالله) حين ضجر القوم من قول فرعون، من الأسلوب الحكيم، أي: ليس كما قال فرعون: (وإنا فوقهم قاهرون)، فإن القهر والغلبة لمن صبر، واستعان

ص: 521

يسكنهم ويسليهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويذكر لهم ما وعد الله بني إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم.

فإن قلت: لم أُخليت هذه الجملة عن الواو، وأُدخلت على التي قبلها؟ قلت: هي جملة مبتدأةٌ مستأنفة، وأمّا (وَقالَ الْمَلَأُ) [الأعراف: 127] فمعطوفةٌ على ما سبقها من قوله: (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ). وقوله: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) يجوز أن تكون اللام للعهد، ويراد أرض مصر خاصةً، كقوله:(وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ)[الزمر: 74]، وأن تكون للجنس، فيتناول أرض مصر لأنها من جنس الأرض، كما قال ضمرة:"إنما المرء بأصغريه"، فأراد بالمرء الجنس، وغرضه أن يتناوله تناولا أولياً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

بالله، ولمن وعده الله توريث الأرض، أن ذلك الموعود الذي وعدكم الله النصرة به، وقهر الأعداء، وتوريث أرضهم. فقوله:(إن الأرض لله يورثها من يشاء) كناية تلويحية.

قوله: (يسكنهم) قيل: حال من المستتر في "قال". فعلى هذا ترك الواو ظاهر. وفي بعض النسخ بالواو، إما على تأويل الجملة الاسمية، أي:"وهو يسكنهم"، أو على العطف.

قوله: (وغرضه) أي: غرض ضمرة بقوله: "المرء بأصغريه" نفسه، كما سبق في أول السورة أن المنذر كان يسمع بشقة بن ضمرة، ويعجبه أخباره، فلما رآه استحقره، وقال:"تسمع بالمعيدي خير من أن تراه"، فأجابه ضمرة:"المرء بأصغريه". فأتى بالحكم

ص: 522

(وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) بشارةٌ بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط، وأن المشيئة متناولةٌ لهم. وقرأ:"وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"- بالنصب- أبيٌّ وابن مسعود، عطفاً على (الأرض).

(أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَاتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) يعنون: قتل أبنائهم قبل مولد موسى عليه السلام إلى أن استنبئ، وإعادته عليهم بعد ذلك، وما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن ويمسون به من العذاب، (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) تصريحٌ بما رمز إليه من البشارة قبل، وكشفٌ عنه، وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر، (فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ): فيرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه، وشكر النعمة وكفرانها، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم. وعن عمرو بن عبيد رحمه الله: أنه دخل على المنصور قبل الخلافة وعلى مائدته رغيفٌ أو رغيفان، فطلب زيادةً لعمروٍ فلم توجد، فقرأ عمروٌ هذه الآية، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك، وقال: قد بقي (فينظر كيف تعملون).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

عاماً، وإن كان الغرض نفسه، ليدخل فيه دخولاً أولياً على سبيل الكناية.

قوله: ((عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ): تصريح بما رمز إليه من البشارة قبل، وكشف عنه): أراد به ما قال: " (والعاقبة للمتقين): بشارة بأن الخاتمة المحمودة للمتقين منهم ومن القبط، وأن المشيئة متناولة لهم".

وفيه أنه كناية رمزية، لأن المسافة من المذكور إلى المقصود قريبة، وفيها نوع خفاء. ثم

ص: 523

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

في قوله: "إن المشيئة متناولة لهم" إشارة إلى أن قوله تعالى: (إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أيضاً كناية، والثانية كالتذييل للأولى، فحصل في الكلام كنايتان وتصريح:

أما الكناية الأولى فتلويحية لتوسيط لوازم بني ما عليه التلاوة، وبين ما هو المقصود، وهو توريث أرض مصر بني إسرائيل، وإهلاك عدوهم، وبيانها أن المقام مقام التسلية، كما قال المصنف:"فجزعوا منه وتضجروا يسكنهم ويسليهم ويعدهم النصرة عليهم".

ولا ارتياب أن المراد بالأرض أرض مصر، وكان القبط مسلطين عليها، مملكين فيها، فلما قيل:(يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) علم أن لابد من نزعها من أيدي القبط، وإيتائها غيرهم. ولما لم يكن لهم عدو يناوئهم وينازعهم سوى موسى، ومن معه من بني إسرائيل، وضم إليه مقام التسلية، تناولهم تناولاً أولياً. وهو المراد من قوله:"إن المشيئة متناولة لهم" فكأنه قيل: إن الأرض لله، يورثها إياكم يا بني إسرائيل.

وإلى الكناية أشار الواحدي بقوله: "أطمعهم موسى عليه السلام بقوله: (إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم".

وكذا الإمام بقوله: "هذا إطماع من موسى عليه السلام لقومه في أن يورثهم الله أرض فرعون بعد إهلاكهم. وذلك معنى الإرث، وهو: جعل الشيء للخلف بعد السلف".

ص: 524

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

وأما بيان الكناية الثانية فإن قوله: "إن المشيئة متناولة لهم" عطف على قوله: "إن الخاتمة المحمودة للمتقين". ولن يكون بشارة بأن المشيئة متناولة لهم، إذا لم يؤخذ مفهوم الكلام الأول معه، وأن يكون الثاني كالتذييل للأول، كما سبق في قصة شقة قبيل هذا.

فكأنه قيل: إن الخاتمة المحمودة للمتقين من بني إسرائيل ومن القبط، وإن مشيئة الله في قوله:(يورثها من يشاء) متناولة لبني إسرائيل، فيلزم أن يقال: إن الخاتمة المحمودة لبني إسرائيل، ولا يبعد أن يعد هذا من تخصيص العام.

وفي كلام القاضي إشعار بهذا التقرير، قال:" (والعاقبة للمتقين) وعد لهم بالنصرة، وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط، وتوريثهم ديارهم، وتحقيق له".

وقيل: إن الضمير في "لهم" للمتقين، وإن المعنى: الخاتمة المحمودة لمن اتقى من بني إسرائيل ومن القبط، وإن المشيئة متناولة لهم وللقبط، فيلزم منه أن بعضاً من القبط، ومن بني إسرائيل، حسنت خاتمته.

يرده قول المصنف: " (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ): تصريح بما رمز إليه من البشارة".

قيل: فكما لا يجوز أن يدخل القبط في التصريح، فكذا لا يجوز أن يدخل فيما هو مكني عنه.

ص: 525

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

وإنما قلنا ذلك لأن قولهم: (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَاتِيَنَا ومِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) لا يليق إلا ببني إسرائيل. وأيضاً، الواقع أن بني إسرائيل هم الذين ورثوا ديار القبط بعدهم. يدل عليه قوله تعالى بعد هذا:(وأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ودَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ ومَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)[الأعراف: 137]، وقول المصنف:"الأرض: أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة".

والظاهر أن المراد بهذا الصبر قول موسى عليه السلام: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ واصْبِرُوا).

وأما التصريح بقوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ويَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ)(عسى) في هذا المقام قطع في إنجاز الموعود، والفوز بالمطلوب.

فإن قلت: كيف اتصال التصريح بالكنايتين؟ قلت: إنه عليه السلام لما بشرهم ووعدهم النصر وقهر الأعداء، قالوا:(أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَاتِيَنَا ومِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا). يعني: بحق لم نزل مغلوبين مقهورين تحت أيدي القبط، استعبدونا قبل إرسالك وبعده، فمن أين لنا التسلط عليهم، وتوريث ديارهم؟ وكيف نفوز بالنصرة؟

فأجاب بقوله: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ). وصرح بأن الله عز وجل هو وحده يقهر عدوكم ويهلكهم، من غير أن يحاولوا محاربتهم. وعدل إلى المظهر في قوله:(عدوكم) ليؤذن أن استحقاقهم الهلاك بسبب كونهم أعداءكم. وفيه إدماج معنى "من عادى ولياً لله فقد بارز مع الله".

ص: 526

[(وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)].

(بِالسِّنِينَ): بسني القحط، و «السنة»: من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم ونحو ذلك، وقد اشتقوا منها فقالوا: أسنت القوم، بمعنى: أقحطوا. وقال ابن عباسٍ رضي الله عنه: أما السنون فكانت لباديتهم وأهل مواشيهم، وأمّا نقص الثمرات فكان في أمصارهم. وعن كعب: يأتي على الناس زمانٌ لا تحمل النخلة إلا تمرة، (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيتنبهوا على أن ذلك لإصرارهم على الكفر وتكذيبهم لآيات الله، ولأن الناس في حال الشدّة أضرع خدوداً وألين أعطافاً، وأرق أفئدة.

وقيل: عاش فرعون أربعمائة سنة ولم ير مكروهاً في ثلاث مئةٍ وعشرين سنة، ولو أصابه في تلك المدّة وجعٌ أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقد اشتقوا منها فقالوا: أسنت القوم)، الجوهري:"السنة: إذا قلته بالهاء، وجعلت نقصانه الواو، فهو من هذا الباب، أي: باب "سنا"، تقول: أسنى القوم يسنون إسناء: إذا لبثوا في موضع سنة. وأسنتوا: إذا أصابتهم الجدوية، تقلب الواو تاءً للفرق بينهما. قال المازني: هذا شاذ، ولا يقاس عليه. وقال الفراء: توهموا أن الهاء أصلية، إذ وجدوها ثالثة، فقلبوها تاء".

قوله: (ولأن الناس) معلله محذوف، أي: لعلهم يذكرون، فيتنبهوا، ويتضرعوا، لأن الناس في حال الشدة أضرع خدوداً.

قال القاضي: " (لعلهم يذكرون): لكي يتنبهوا على أن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم، فيتعظوا، أو ترق قلوبهم بالشدائد، فيفزعوا إلى الله، ويرغبوا فيما عنده".

ص: 527

[(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)].

(فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ) من الخصب والرخاء، (قالُوا لَنا هذِهِ) أي: هذه مختصةٌ بنا ونحن مستحقوها، ولم نزل في النعمة والرفاهية، واللام مثلها في قولك: الجل للفرس، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) من ضيقةٍ وجدب، (يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ): يتطيروا بهم ويتشاءموا ويقولوا: هذه بشؤمهم، ولولا مكانهم لما أصابتنا، كما قالت الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(هذه من عندك)[النساء: 78].

فإن قلت: كيف. قيل: (فإذا جاءتهم الحسنة) بـ (إذا) وتعريف (الحسنة)، (وإن تصبهم سيئةٌ) بـ (إنّ) وتنكير "السيئة"؟ قلت: لأنّ جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولولا مكانهم لما أصابتنا) أي: لولاهم. كقوله: "ونفيت عنه مقام الذئب".

قوله: (كيف قيل: (فإذا جاءتهم الحسنة)؟ ): أي: كيف أدخل على الجملة الأولى "إذا"، وهي لا تدخل إلا فيما هو متقين الوجود؟ وعلى الجملة الثانية "إن" وهي لا تدخل إلا فيما هو جائز الوجود؟

قوله: (لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب): أراد بالجنس: العهد الذهني الشائع، كما قال في تفسير (الحمد لله) [الفاتحة: 2]: "التعريف فيه للجنس، وإن المراد به الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد أن الحمد ما هو".

فالمراد بالحسنة: الحسنة التي تحصل في ضمن فرد من الأفراد، ويصدق عليها اسم الحسنة، وهي تارةً تكون خصباً، وأخرى رفاهية، أو صحة، أو غير ذلك.

ص: 528

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإليه الإشارة بقوله: " (فإذا جاءتهم الحسنة): من الخصب والرخاء"، فإن بعضاً منها واقع دائماً لا ينقطع، وهو المراد بقوله:"وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه"، وهذا ملائم للمقام، لإمكان حمله على الفرد الذي هو حاصل، وعلى الذي يتوقع حصوله، وعلى الذي انعدم. ومن ثم لم يجز حمل التعريف على العهد الخارجي لتعين وتخصصه، فلا يكون مقطوعاً حصوله إذا زال، ولا على الجنس من حيث هو هو، فإن الحقيقة إذا أريد بها شيء بعينه مجازاً، حمل على المبالغة والكمال فيها.

والمقام لا يقتضي ذلك، وهو المعنى بقول صاحب "المفتاح":"لكون الحسنة المطلقة مقطوعاً بها كثرة وقوع واتساعاً. ولذلك عرف ذهاباً إلى كونها معهودة، أو تعريف جنس، والأول أقضى لحق البلاغة"، أي: المعهود الذهني أدعى لاقتضاء المقام من تعريف الحقيقة.

هذا هو التوفيق بين كلام الشيخين، وإن دل الظاهر على التنافي.

فإن قلت: إذا أريد بتعريف الجنس العهد الذهني الشائع، فأي فرقٍ بين الحسنة المعرفة والسيئة المنكرة في الآية، لأن مثل هذا التعريف لا توقيت فيه، وقد فرقت بينهما؟

قلت: الفرق بين تعريف الحقيقة وبين مدلول الاسم الموضوع لها، أن الاسم لها لا لتعينها، واللام لتعينها. فالتعين إذاً بحسب الذهن، والذيوع بحسب الوجود، فيفيد التعريف الذهني الاعتناء بشأن الحقيقة بوجهٍ من الوجوه، إما لأنها عظيمة الخط، أو الحاجة إليها ماسة، أو أن أسباباً بشأنها متأخرة، فهو لذلك بمنزلة المعهود الحاضر، بخلاف النكرة، فإنها غير ملتفتٍ إليها، ولا يقصد بها إلا الابتداء.

ص: 529

وأمّا السيئة فلا تقع إلا في الندرة، ولا يقع إلا شيء منها. ومنه قول بعضهم: قد عددت أيام البلاء، فهل عددت أيام الرخاء؟ (طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ) أي: سبب خيرهم وشرهم عند الله، وهو حكمه ومشيئته، والله هو الذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة والسيئة، وليس شؤم أحدٍ ولا يمنه بسببٍ فيه، كقوله تعالى:(قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)[النساء: 78].

ويجوز أن يكون معناه: ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجرى عليهم ما يسوءهم لأجله، ويعاقبون له بعد موتهم بما وعدهم الله في قوله سبحانه:(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) الآية [غافر: 46]، ولا طائر أشأم من هذا.

وقرأ الحسن: "إنما طيركم عند الله"، وهو اسمٌ لجمع طائرٍ غير تكسيرٍ، ونظيره: التجر والركب. وعند أبي الحسن:

هو تكسير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا يقع إلا شيء منها) يريد بهذه العبارة قلتها، لتقابل قوله:"لكثرته واتساعه"، وقوله:"إلا في الندرة" مقابل لقوله: "كالواجب".

قوله: (بسببٍ فيه)، الضمير المجرور عائد إلى "ما يصيبهم".

قوله: (وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوؤهم لأجله) هذا عين مذهب أهل السنة، وإن دل أول كلامه على مذهبه.

اعلم أن لفظ "الطائر" قد يطلق على الحظ والنصيب، سواء كان خيراً أو شراً. وهو المراد بقوله:"أي: سبب خيرهم وشرهم عند الله"، وعلى التشاؤم وحده، وهو الوجه الثاني: .

قال الزجاج: "إنما قالت العرب: الطيرة فيما يكرهون، لأنهم كانوا يزجرون الطير، فإذا كان على جهة ما يكرهون، جعلوا ذلك أمراً يتشاءمون به. وقال بعضهم: (طائرهم): حظهم".

ص: 530

[(وَقالُوا مَهْما تَاتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ)].

(مَهْما) هي «ما» المضمنة معنى الجزاء، ضمت إليها «ما» المزيدة المؤكدة للجزاء في قولك: متى ما تخرج أخرج، (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء: 78]، (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ) [الزخرف: 41]، إلا أنّ الألف قلبت هاءً استثقالاً لتكرير المتجانسين وهو المذهب السديد البصريّ، ومن الناس من زعم أن «مه» هي الصوت الذي يصوت به الكاف، و «ما» للجزاء، كأنه قيل: كف، ما تأتنا به من آيةٍ لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين.

فإن قلت: ما محل (مهما)؟ قلت: الرفع بمعنى: أيما شيءٍ تأتنا به، أو النصب، بمعنى: أيما شيءٍ تحضرنا تأتنا به، ........

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

وسيجئ الكلام فيه مستوفي في سورة "النمل".

وأما بيان النظم فقد قال القاضي: "هذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة، فإن الشدائد ترقق القلوب، وتذلل العرائك، سيما بعد مشاهدة الآيات، وهم لم تؤثر فيهم، بل زادوا عنادًا وإنهماكاً في الغي".

قوله: (هي "ما" المضمنة معنى الجزاء)، أراد به معنى الشرط، ولهذا سمى قوله:(إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)[يوسف: 99] في سورة "يوسف" بالجملة الجزائية.

قوله: (النصب بمعنى: أيما شيءٍ تحضرنا تأتنا به): يريد أنه من باب الإضمار على شريطة التفسير، نحو: زيداً مررت به.

ص: 531

و (من آية): تبيين لـ (مهما). والضميران في (بِهِ) و (بِها) راجعان إلى (مهما)، إلا أنّ أحدهما ذكر على اللفظ، والثاني أُنث على المعنى، لأنه في معنى الآية، ونحوه قول زهير:

ومهما يكن عند امرئ من خليقةٍ

وإن خالها تخفى على النّاس تعلم

وهذه الكلمة في عداد الكلمات التي يُحرفها من لا يد له في علم العربية، فيضعها غير موضعها، ويحسب "مهما" بمعنى: متى ما، ويقول مهما جئتني أعطيتك، وهذا من وضعه، وليس من كلام واضع العربية في شيء، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أحدهما ذكر على اللفظ، والثاني أنث على المعنى) قالوا: اللطيفة فيه: هي أن الضمير الأول لما عاد إلى (مهما) - ولفظه مذكر - ذكر، والضمير الثاني إنما رجع إليه بعدما بين بقوله تعالى:(من أيةٍ)، فأنث بهذا الاعتبار.

قوله: (ومهما يكن عند امرئٍ من خليقةٍ) البيت، والخلق والخليقة واحد. والشاعر ذكر الضمير في "يكن" حملاً على لفظ "مهما"، وأنث في الباقي حملاً على المعنى، لأنه في معنى الخليقة. ومعنى البيت ظاهر.

قوله: (ويحسب "مهما" بمعنى: متى ما، ويقول: مهما جئتني أعطيتك

، وليس من وضع العربية في شيء): ألا ترى إلى قوله تعالى: (مهما تأتنا به) فإنه ينادي بأن المراد: ما تأتنا به، لا: متى تأتنا، والهاء في (به): مفعول به، لا مفعول فيه، ولو كان مفعولاً فيه لذكر

ص: 532

ثم يذهب فيفسر (مَهْما تَاتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ) بمعنى الوقت، فيلحد في آيات الله وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مما يوجب الجثوّ بين يدي الناظر في "كتاب سيبويه".

فإن قلت: كيف سموها آيةً، ثم قالوا (لتسحرنا بها)؟ قلت: ما سموها آيةً لاعتقادهم أنها آية، وإنما سموها اعتباراً لتسمية موسى، وقصدوا بذلك الاستهزاء والتلهي.

(الطُّوفانَ): ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل، قيل: طغى الماء فوق حروثهم، وذلك أنهم مطروا ثمانية أيامٍ في ظلمةٍ شديدةٍ لا يرون شمساً ولا قمراً، ولا يقدر أحدهم أن يخرج من داره. وقيل أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكةٌ، فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، فمن جلس غرق، ولم تدخل بيوت بني إسرائيل قطرة، وفاض الماء على وجه أرضهم وركد، فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف، ودام عليهم سبعة أيام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"في" كما يقال: اليوم خرجت فيه، لأن الهاء في "فيه" عبارة عن اليوم. أما المفعول به فضميره تارةً يجيء مع الباء، وأخرى بغيرها، نحو: ذهب به وأذهبه.

و(مهما) لو كان بمنزلة "متى" والضمير معبر عن المفعول فيه، وهو "متى"، لقال: تأتنا فيه، فعلم أنه ليس بمعنى "متى".

ووجه آخر، وهو أن (من أيةٍ) بيان (مهما)، فيكون عبارةً عنها، و"الآية" ليست بزمان.

قال في "الانتصاف": غر هؤلاء من كلام سيبويه قوله: "وسألت الخليل عن "مهما"، فقال: هي "ما" أدخلت عليها "ما" لغواً، بمنزلتها مع "متى" إذا قلت: متى ما تأتني آتك". انتهى

ص: 533

وعن أبي قلابة: الطوفان الجدري، وهو أوّل عذابٍ وقع فيهم، فبقي في الأرض، وقيل: هو الموتان، وقيل: الطاعون، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا فرفع عنهم، فما آمنوا، فنبت لهم تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله، فأقاموا شهراً، فبعث الله عليهم الجراد، فأكلت عامة زروعهم وثمارهم، ثم أكلت كل شيءٍ حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء، ففزعوا إلى موسى، ووعدوه التوبة، فكشف عنهم بعد سبعة أيام، وخرج موسى عليه السلام إلى الفضاء، فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها، فقالوا: ما نحن بتاركي ديننا، فأقاموا شهراً، فسلط الله عليهم القمل- وهو الحمنان في قول أبي عبيدة: كبار القُردان، وقيل: الدبا، وهو أولاد الجراد. قيل: نبات أجنحتها. وقيل: البراغيث، وعن سعيد بن جبير: السوس- فأكل ما أبقاه الجراد، ولحس الأرض، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه، وكان يأكل أحدهم طعاماً فيمتلئ قُملاً، وكان يخرج أحدهم عشرة أجربةٍ إلى الرحى، فلا يرد منها إلا يسيراً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كلام سيبويه. وكأن هذا القائل اغتر بتشبيه الخليل لها بـ"متى" فظنها بمعنى "متى". وإنما شبه الخليل بها "ما" الثانية من "مهما" في لحوقها زائدةً مؤكدة.

قوله: (وهو الحمنان)، النهاية:"الحمنانة من القراد دون الحلم، أوله: فمقامة، ثم حمنانة، ثم قراد، ثم حلمة، ثم عل". والحلمة بالتحريك: القراد الكبير، والجمع: الحلم.

قوله: (الدبا). الدبا - مقصور -: الجراد قبل أن يطير. وقيل: نوع يشبه الجراد، واحدته: دباة. في "النهاية".

ص: 534

وعن سعيد بن جبير: أنه كان إلى جنبهم كثيبٌ أعفر، فضربه به موسى بعصاه، فصار قُملاً، فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزم جلودهم كأنه الجدري، فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى، فرفع عنهم، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، وعزة فرعون لا نصدقك أبداً! فأرسل الله عليهم بعد شهرٍ الضفادع، فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم، ولا يكشف أحدٌ شيئاً من ثوبٍ ولا طعامٍ ولا شرابس إلا وجد فيه الضفادع، وكان الرجل إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور.

فشكوا إلى موسى وقالوا: ارحمنا هذه المرة، فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح ولا نعود، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياههم دماً، فشكوا إلى فرعون فقال:

إنه سحركم فكان يجمع بين القبطي والاسرائيلى على إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلى ماءً، وما يلي القبطي دماً، ويستقيان من ماءٍ واحد فيخرج للقبطي الدم وللإسرائيلى الماء، حتى إن المرأة القبطية تقول لجارتها الإسرائيلية: اجعلي الماء في فيك، ثم مجيه في فىَّ، فيصير الماء في فيها دماً، وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك، فكان يمص الأشجار الرطبة، فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحاً أجاجاً.

وعن سعيد بن المسيب: سال عليهم النيل دماً. وقيل: سلط الله عليهم الرعاف وروي: أنّ موسى عليه السلام مكث فيهم بعدما غلب السحرة عشرين سنةً يريهم هذه الآيات، وروي أنه لما أراهم اليد والعصا ونقص النفوس والثمرات قال: يا رب، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كثيب أعفر)، الجوهري:"الأعفر: الرمل الأحمر".

ص: 535

إنّ عبدك هذا قد علا في الأرض فخذه بعقوبة تجعلها له ولقومه نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آية. فحينئذ بعث الله عليهم الطوفان، ثم الجراد، ثم ما بعده من النقم.

وقرأ الحسن: "والقمل"، بفتح القاف وسكون الميم، يريد القمل المعروف.

(آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) نصب على الحال، ومعنى (مفصلات): مبيناتٍ ظاهراتٍ لا يشكل على عاقلٍ أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وأنها عبرةٌ لهم ونقمةٌ على كفرهم. أو فُصِلَ بين بعضها وبعضٍ بزمانٍ تمتحن فيه أحوالهم، وينظر أيستقيمون على ما وعدوا من أنفسهم، أم ينكثون؟ إلزاماً للحجة عليهم.

[(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ* فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ* فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)].

(بِما عَهِدَ عِنْدَكَ): "ما": مصدرية، والمعنى: بعهده عندك، وهو النبوّة، والباء: إمّا أن تتعلق بقوله: (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) على وجهين: أحدهما أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا)، الجوهري:"أسعفت الرجل بحاجته: إذا قضيتها".

يريد: صيغة الأمر، وهو (ادع): للاستدعاء والتضرع، لإسعاف حاجتهم، ولهذا استعطفوه بقوله:(بما عهد عندك) أي: بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة.

وفي كلامه تضمينان: ضمن "أسعفنا" معنى "أوصلنا"، وضمن "نطلب" معنى "نتضرع".

ص: 536

بحقِّ ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوّة، أو ادع الله لنا متوسلاً إليه بعهده عندك. وإمّا أن يكون قسما مجاباً بـ (لنؤمنن)، أي: أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بحق ما عندك). معناه الاستعطاف: وهو طلب العطف والرحمة، إما من موسى عليه السلام، أو أن يطلب موسى لهم من الله متوسلاً إليه بعهده.

ويجوز أن يكون قسميةً صورةً ومعنىً. وإليه الإشارة بقوله: "وإما أن يكون قسماً".

قال في قوله: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ)[القصص: 17]: " (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ): يجوز أن يكون قسماً، أي: أقسم بإنعامك علي، وأن يكون استعطافاً، أي: رب اعصمني بحق ما أنعمت علي".

قالت الفقهاء: إذا قال: "عليك بالله لتفعلن"، أي: عزمت، إن أريد بمثل هذا الكلام الشفاعة، لا ينعقد يمين أحدهما، ولو أريد يمين نفسه انعقد يمينه، ويستحب للمخاطب إبرار يمينه.

قال القاضي: " (بما عهد): إما صلة (ادع) أو حال من الضمير فيه. أي: ادع الله متوسلاً إليه بما عهد عندك، أو متعلق بمحذوف، دل عليه التماسهم، مثل: أسعفنا إلى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك".

ص: 537

(إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ): إلى حدٍّ من الزمن هم بالغوه لا محالة، فمعذبون فيه، لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله، (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) جواب "لما"، يعني: فلما كشفناه عنهم فاجؤوا النكث وبادروا، لم يؤخروه، ولكن كما كشف عنهم نكثوا.

(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ): فأردنا الانتقام منهم، (فَأَغْرَقْناهُمْ)، و"اليم": البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إلى حد من الزمان هم بالغوه لا محالة): يعني: ضربنا لعذابهم مدةً معلومةً لابد لهم أن يبلغوه، وهو وقت الغرق والموت، فلما كشفنا عنهم الرجز بسبب الدعاء ليكونوا آمنين، إلى بلوغ تلك المدة المضروبة، فاجؤو النكث وبادروه، ولم يؤخروه.

قوله: (إلى حلوله) متعلق بـ"الإمهال".

قوله: (فاجؤوا النكث) قال المصنف: قيد وجود هذا بوجود ذاك، وكأنهما وجدا في جزءٍ واحد من الزمان، فيكون في الحقيقة جواب "لما" ذلك الفعل المقدر، وهو "فاجؤوا"، ويكون "لما" ظرفه، و"إذا" مفعولاً به.

قوله: (فأردنا الانتقام منهم): إنما قدر "أردنا" لأن "الإغراق" عين "الانتقام". ويجوز أن يكون من باب قوله تعالى: (فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)[البقرة: 54].

ص: 538

واشتقاقه من التيمم، لأن المستنفعين به يقصدونه، (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي: كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها وقلة فكرهم فيها.

[(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ)].

(الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ): هو بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه. و"الأرض": أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا كيف شاءوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية، (بارَكْنا فِيها) بالخصب وسعة الأرزاق، (كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى): قوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) إلى قوله: (ما كانُوا يَحْذَرُونَ)[القصص: 5 - 6]،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (واشتقاقه من التيمم، لأن المستنفعين به يقصدونه): يعني: من يبتغي النفع التام من البحر، يتجاوز عن الساحل إلى اللجة، لأن الغواصين إنما يغوصون على الدرر واللآلئ في اللجة، وما يؤم القاصدون لابتغاء فضل الله إلا فيها، ليحصلوا منها إلى البلاد الشاسعة.

قوله: ((كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى): قوله تعالى: (ونُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا)[القصص: 5])، مبتدأ وخبر. أراد به أن "الكلمة" هاهنا: العلم الأزلي الثابت في أم الكتاب، أي: مضت عليهم واستمرت ما كان مقدراً عليهم من إهلاك عدوهم، وتوريثهم ملكهم وديارهم. ولما كان قصص بني إسرائيل وفرعون لم تكن معلومةً عند رسول الله صلي الله عليه وسلم قبل الوحي، جيء بقوله:(فانتقمنا منهم)، و (أغرقناهم)، و"أورثنا"، و"دمرنا" على الحكاية. وخص هذه اللفظة - وهي (كلمت ربك) بالخطاب على الالتفات، لكونها

ص: 539

و (الحسنى): تأنيث الأحسن، صفة للكلمة، ومعنى "تمت على بني إسرائيل": مضت عليهم واستمرت؛ من قولك: تمَّ على الأمر إذا مضى عليه.

(بِما صَبَرُوا): بسبب صبرهم، وحسبك به حاثاً على الصبر، ودالاً على أنّ من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر، وانتظار النصر، ضمن الله له الفرج. وعن الحسن: عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله، وتلا الآية. ومعنى "خف": طاش جزعاً وقلة صبرٍ، ولم يرزن رزانة أولي الصبر.

وقرأ عاصمٌ -في رواية-: (وتمت كلمات ربك الحسنى)، ونظيره (مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [النجم: 18].

(ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ): ما كانوا يعملون ويسوّون من العمارات وبناء القصور، (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) من الجنات؛ (هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) [الأنعام: 141]، أو: وما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء، كصرح هامان وغيره، وقرئ:(يعرشون) بالكسر والضم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

معلومةً عنده صلى الله عليه وسلم، أي: تمت ما تعرفه من أجزاء كل شيء، بتقدير ربك وقضائه ومشيئته.

قوله: (مضت عليهم واستمرت)، الجوهري:"مر عليه وبه، أي: اجتاز. ومر يمر مراً ومروراً: ذهب. واستمر: مثله".

قوله: (وقرأ عاصم في رواية) أي: رواية شاذة.

قوله: (ونظيره ((من آيات ربه الكبرى)): يعني: في الجمع وإرادة التعدد في الكلمات والآيات.

قوله: (وقرئ: (يعرشون) بالضم والكسر): بالضم: ابن عامرٍ وأبو بكر، والباقون: بالكسر.

ص: 540

وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح، وبلغني أنه قرأ بعض الناس:"يغرسون"؛ من غرس الأشجار، وما أحسبه إلا تصحيفاً منه.

[(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ* إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)].

وهذا آخر ما اختصّ الله من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه - بعد إنقاذهم من ملكة فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر - من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان، وأنه كما وصفه: ظلومٌ كفار جهولٌ كنود، إلا من عصمه الله، (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]، وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رأي: من بني إسرائيل بالمدينة.

وروي: أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله تعالى فرعون وقومه، فصاموه شكراً لله تعالى .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من ملكة فرعون)، النهاية:"فلان حسن الملكة: إذا كان حسن الصنيع إلى مماليكه. وفي الحديث: "لا يدخل الجنة سيء الملكة".

قوله: (من عبادة البقر) متعلق بقوله: "أحدثوا".

قوله: (كنود): كند كنوداً: كفر النعمة، فهو كنود.

ص: 541

(فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ): فمرّوا عليهم، (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ): يُواظبون على عبادتها ويلازمونها. قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر، وذلك أوّل شأن العجل وقيل: كانوا قوماً من لخم. وقيل: كانوا من الكنعانيين الذين أُمر موسى عليه السلام بقتالهم، وقرئ:"وجوّزنا" بمعنى: أجزنا. يقال: أجاز المكان وجوزه وجاوزه؛ بمعنى: جازه، كقولك:

أعلاه وعلاه وعالاه. وقرئ: (يعكفون) بضم الكاف وكسرها.

(اجْعَلْ لَنا إِلهاً): صنماً نعكف عليه، (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ): أصنامٌ يعكفون عليها، «وما» كافةٌ للكاف، ولذلك وقعت الجملة بعدها. وعن علي رضي الله عنه: أنّ يهودياً قال له: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجفّ ماؤه، فقال: قُلتم: اجعل لنا إلهاً قبل أن تجفّ أقدامكم. (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) تعجبٌ من قولهم على أثر ما رأوا من الآية العظمى والمعجزة الكبرى، فوصفهم بالجهل المطلق وأكده، لأنه لا جهل أعظم مما رأى منهم ولا أشنع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (من لخم). اللخم: حي من اليمن، ومنهم كانت ملوك العرب في الجاهلية.

وقيل: لخم: قوم من مضر.

قوله: (وقرئ: (يعكفون) بضم الكاف وكسرها). بالكسر: حمزة والكسائي. والباقون بالضم.

قوله: ((إنكم قوم تجهلون): تعجب). يعني: في إطلاق الجهل، وإجرائه مجرى اللازم. وتصدير الجملة بـ (إن)، وتغليب الخطاب على الغيبة في (تجهلون)، وتعقيب هذه الجملة لقولهم:(اجْعَل لَّنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) بعد ما رأوا من إغراق فرعون، وإنجائهم منه،

ص: 542

(إِنَّ هؤُلاءِ) يعني: عبدة تلك التماثيل، (مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ): مدمّرٌ مكسر ما هم فيه، من قولهم إناءٌ متبر، إذا كان فضاضاً. ويقال لكسار الذهب: التبر، أي: يتبر الله ويهدم دينهم الذي هم عليه على يديّ، ويحطم أصنامهم هذه ويتركها رضاضاً. (وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي: ما عملوا شيئاً من عبادتها فيما سلف إلا وهو باطلٌ مضمحل لا ينتفعون به وإن كان في زعمهم تقرباً إلى الله، كما قال تعالى:(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)[الفرقان: 23].

وفي إيقاع (هؤُلاءِ) اسماً لـ (إن)، وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً لها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومجاوزتهم البحر: إشعار بالتعجب العظيم من جهلهم. أي: ما أجهلهم! كأنهم ما شاهدوا تلك الآيات، وما عرفوها، فإن العاقل العالم بحقائق الأمور، بعد ما رأي تلك الآيات العظام، لا يصدر منه مثل تلك الكلمة الحمقاء، فصدورها منهم موضع تعجب وتعجيب.

قوله: (وفي إيقاع (هؤلاء) اسماً لـ (إن) وتقديم خبر المبتدأ) إلى قوله: (وسم)، اعلم أن في تخصيص اسم الإشارة بالذكر، الدال على أن أولئك القوم محقوقون بالدمار، لأجل اتصافهم بالعكوف على عبادة الأصنام، ثم في توكيد مضمون الجملة بـ (إن) مزيد الدلالة على ذلك.

وإليه الإشارة بقوله: "وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار"، وليس "هم" ي تركيب المصنف للفصل، إذ لا موجب لأن يقال: إنهم متبرون دون غيرهم، بل هو مبتدأ، فيفيد تقوي الحكم. وفائدة تقديم الخبر الإيذان بأنهم لا يتجاوزون عن الدمار إلى ما يضاده من الفوز والنجاة، على القصر القلبي.

ص: 543

وسمٌ لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار، وأنه لا يعدوهم البتة، وأنه لهم ضربة لازب، ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا.

(أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً): أغير المستحقِّ للعبادة أطلب لكم معبوداً، وهو فَعَل بكم ما فعل دون غيره، من الاختصاص بالنعمة التي لم يعطها أحداً غيركم، لتختصوه بالعبادة ولا تشركوا به غيره

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما قوله: "وأنه لا يعدوهم البتة، وأنه لهم ضربة لازب" فمن الكناية، لأنهم إذا لم يتجاوزوا عن الدمار إلى النجاة، فيلزمهم الدمار ضربة لازب.

وموجب هذه المبالغات إيقاع الجملة تعليلاً لإثبات الجهل المؤكد للقوم، لاقتراحهم أن يجعل لهم إلهاً. وأبلغ من ذلك أن المذكور ليس جواباً له، بل مقدمة وتمهيد له. وإنما الجواب قوله:(أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إلَهًا وهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العَالَمِينَ) وكيت وكيت، إلى أن قال ربكم: اذكروا إذ: (أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ).

ومقتضى التقدير وجود العاطف ولا معطوف عليه، فيقدر ما يمكن تقديره، وقد جاء في "البقرة" معطوفاً على الإنعامات. وإنما أضمرنا "قال ربكم"، لأن قوله:(وإذْ أَنجَيْنَاكُم) لا يدخل تحت كلامه عليه الصلاة والسلام لأنه من كلام الله عز وجل.

قوله: (وسم لعبدة الأصنام) أي: علامة شنيعة لاصقة، كالكي على الدابة.

قوله: (من الاختصاص بالنعمة التي لم يعطها أحداً غيركم، لتختصوه بالعبادة): فيه نوعان من الاختصاص:

ص: 544

ومعنى الهمزة: الإنكار والتعجب من طلبتهم- مع كونهم مغمورين في نعمة الله- عبادة غير الله.

[(وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ)].

(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ): يبغونكم شدّة العذاب، من سام السلعة إذا طلبها. فإن قلت: ما محل (يسومونكم)؟ قلت: هو استئناف لا محلّ له، ويجوز أن يكون حالاً من المخاطبين أو من آل فرعون، و (ذلِكُمْ) إشارةٌ إلى الإنجاء أو إلى العذاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أحدهما: "وهو فعل بكم ما فعل دون غيره"، وهو مستفاد من تقديم الفاعل المعنوي على الفعل، وهو قوله:(وهو فضلكم).

وثانيهما: "لتختصوه بالعبادة"، فالاختصاص من تقديم المفعول في (أغير الله أبغيكم) وإنكاره بالهمزة. وأما العبادة فمن مفهوم قوله:(إلها)، أي: معبوداً. والجملة (وهو فضلكم) حال مقدرة لجهة الإشكال.

قوله: (من طلبتهم) من إضافة المصدر إلى الفاعل، والطلبة في الأصل: اسم. الجوهري: "الطلبة 0 بكسر اللام -: ما طلبته من شيء".

ص: 545

والبلاء: النعمة أو المحنة. وقرئ: (يقتلون) بالتخفيف.

[(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)].

وروي: أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل - وهو بمصر - إن أهلك الله عدوّهم، أتاهم بكتابٍ من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فسوك، فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك. وقيل: أوحى الله تعالى إليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيامٍ من ذى الحجة لذلك. وقيل: أمره الله أن يصوم ثلاثين يوماً، وأن يعمل فيها بما يقرّبه من الله ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها. ولقد أجمل ذكر الأربعين في "سورة البقرة"، وفصلها هاهنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..

قوله: (البلاء: النعمة أو المحنة) التنويع على التفسيرين لقوله: (ذلكم).

قوله: ("يقتلون" بالتخفيف) نافع.

قوله: (أن خلوف). وفي الحديث: "لخلوف فم الصائم أطيب من المسك" الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.

النهاية: "الخلوف - بالضم -: تغير ريح الفم. وأصلها في النبات: أن ينبت الشيء بعد الشيء، لأنها رائحة حدثت بعد الرائحة الأولى. يقال: خلف فمه يخلف خلفةً وخلوفاً".

ص: 546

(ومِيقاتُ رَبِّهِ): ما وقته له من الوقت وضربه له، و (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) نصبٌ على الحال أي: تمَّ بالغاً هذا العدد، و (هارُونَ) عطف بيانٍ لـ (أخيه). وقرئ بالضم على النداء، (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي): كن خليفتي فيهم، (وَأَصْلِحْ): وكن مصلحاً، أو: أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل، ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه.

[(وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)].

(لِمِيقاتِنا): لوقتنا الذي وقتنا له وحدّدناه، ومعنى اللام الاختصاص، فكأنه قيل: واختص مجيئه بميقاتنا، كما تقول: أتيته لعشر خلون من الشهر، (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) من غير واسطةٍ كما يكلم الملك، وتكليمه: أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام، كما خلقه مخطوطاً في اللوح.

وروي: أن موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((لميقاتنا): لوقتنا). قيل: لابد هاهنا من تقدير مضاف، أي: لآخر ميقاتنا، أو: لانقضاء ميقاتنا.

قوله: (وروي أن موسى كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة): قال القاضي: "وفيه تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس سماع كلام المحدثين".

قال في "الانتصاف": "صرح بخلق الكلام، ويرده اختصاص موسى عليه السلام

ص: 547

وعن ابن عباس رضي الله عنه: كلمه أربعين يوماً وأربعين ليلةً، وكتب له الألواح. وقيل إنما كلمه في أول الأربعين.

(أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ثاني مفعولي أرني محذوفٌ، أي: أرني نفسك أنظر إليك.

فإن قلت: الرؤية عين النظر، فكيف قيل:(أرني أنظر إليك)؟ قلت: معنى "أرني نفسك": اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي، فأنظر إليك وأراك.

فإن قلت: فكيف قال: (لَنْ تَرانِي)، ولم يقل: لن تنظر إليّ؛ لقوله: (أَنْظُرْ إِلَيْكَ)؟ قلت: لما قال: (أَرِنِي) بمعنى: اجعلني متمكناً من الرؤية التي هي الإدراك، علم أن الطلبة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه، فقيل:(لن تراني)، ولم يقل: لن تنظر إليّ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقوله: (بِرِسَالاتِي وبِكَلامِي)[الأعراف: 144]. وكل أحدٍ يساوي موسى عليه السلام فيما ذكره الزمخشري. بل كان أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم قد سمعوا الكلام من أفضل المخلوقات، فلابد من اعتقاد أنه سمع الكلام القديم القائم بذات الله تعالى بلا واسطة، كما أجزنا في العقول أن ترى ذات الله، وإن لم يكن جسماً، فكذلك يجوز سماع كلامه وإن لم يكن حرفاً".

قوله: (الرؤية عين النظر): أي: النظر مقدم على الرؤية، فإنه عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته، وقد يتخلف عنه، فكيف جعله مؤخراً عنه؟ ويروى:"الرؤية عين النظر".

ويؤيد الأول قوله في "الشعراء": "الاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية، لأن الاستماع جارٍ مجرى الإصغاء". وتقرير هذا السؤال: أن (أرني) تكفي في الطلب، لأنه تعالى

ص: 548

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إذا أراه نفسه لابد له أن ينظر إليه، فما فائدة إردافه؟ وأجاب بأن فائدته التأكيد والكشف التام، فإنه لما أردفه به أفاد طلب رفع المانع، وكشف الحجاب، والتمكين من الرؤية، بحيث لا يتخلف عنه النظر إليه، نحوه قولك: نظرت بعيني، وقبضت بيدي، فالنظر حينئذٍ مسبب. فلذلك أدخل المصنف الفاء في قوله:"فأنظر"، ثم سأل:"فكيف قال: (لن تراني) " وأتى بالفاء، أي: إذا كان النظر هو الغرض، وهو الذي طلب له الإراءة، كان من الواجب أن يقال: لن تنظر.

وأجاب: وإن كان الغرض النظر، لكن المطلوب، الذي عليه التعويل، طلب التجلي، وكشف الحجاب، إذ به يحصل الإدراك التام، ولولاه لا يجدي النظر شيئاً. ألا ترى كيف أتبع "وأراك":"فأنظر" في الجواب الأول؟ فكأنه قيل: "اجعلني متمكناً من رؤيتك، فانظر إليك وأراك".

وقلت: وهاهنا سؤال آخر، وهو أنه كيف قيل:(لن تراني)، ولم يقل: لن أريك نفسي، لقوله:(أرني)؟ والجواب: إنما عدل عن "لن أريك"، للتفادي عن الإيياس، وحسم الطمع. يعني: لن تراني ما دمت على حالة أنت فيها، فإذا ارتفع المانع أريك نفسي لتنظر إليه. وهذا معنى قول ابن عباس:"لن تراني في الدنيا". والجواب من الأسلوب الحكيم.

ص: 549

فإن قلت: كيف طلب موسى عليه السلام ذلك، وهو من أعلم الناس بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس، وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة، وما ليس بجسمٍ ولا عرضٍ فمحالٌ أن يكون في جهة، ومنعُ المجبرة إحالته في العقول غير لازم، لأنه ليس بأوّل مكابرتهم وارتكابهم، وكيف يكون طالبه وقد قال - حين أخذت الرجفة الذين قالوا: أرنا الله جهرة -: (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا)[الأعراف: 155] إلى قوله: (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ)[الأعراف: 155]، فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالاً؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإذن معنى قوله: (أرني أنظر إليك) أن المانع من الرؤية كوني غير متمكنٍ منها، لاحتجابك عني، فارفع الحجا بيني وبينك، لأنظر إليك وأراك، وذلك حين سمع الخطاب والكلام القديم بغير واسطة.

ومعنى قوله: (لن تراني) أن المانع ليس إلا من جانبك، وأني غير محجوب، بل متحجب بحجابٍ منك، وهو كونك فانياً في فانٍ، وأنا باقٍ، ووصفي باقٍ، فإذا جاوزت قنطرة الفناء، ووصلت إلى دار البقاء، فزت بمطلوبك.

قوله: (ومنع المجبرة إحالته في العقول غير لازم، لأنه ليس بأول مكابرتهم وارتكابهم) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه. وجوابه قد سبق بند منه في "الأنعام"، وموضع الإطناب فيه يطلب في الأصول.

قوله: (ودعاهم سفهاء): أي: سماهم سفهاء.

ص: 550

قلت: ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالاً، وتبرأ من فعلهم، وليلقمهم الحجر، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ، ونبههم على الحق، فلجوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا: لا بُدَّ، ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك، وهو قوله:(لَنْ تَرانِي)، ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال:(رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء): الروايات كلها مفتريات، وليس هذا بأول مكابرته، لأن القوم لم يحضروا هذه النوبة، وإنما طلب موسى عليه السلام الرؤية لنفسه، وفي النوبة الثانية كان القوم معه، وطلبوا الرؤية فأجابهم، كما سنقرر هذا عند قوله تعالى:(واخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً)[الأعراف: 155].

وقال صاحب "الفرائد": "إن قوله: (أرني أنظر إليك) كان وقت مجيئه للميقات، وتكليمه لله تعالى مطلق. وما ذكره من قوله: "ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء" مقيد، ولا دليل في هذه الآية على هذا القيد، فكان هذا حملاً للمطلق على المقيد من غير دليل، وهو باطل، لأنه خروج عن الأصل بغير ضرورة.

وأيضاً، لو كان مراده من سؤال الرؤية بيان الاستحالة من الله، ليكون نصاً منه لاستحالتها، لوجب أن يقال: لن أرى، أو: لم تجز رؤيتي، إذ كانت ممتنعة، ليتضح لهم أنه تعالى ليس بجائز الرؤية، ويحصل المقصود؛ لأن (لن ترانى) ليس إلا تأكيد النفي، ولم يلزم منه عدم الجواز.

ص: 551

فإن قلت: فهلا قال: "أرهم ينظروا إليك"؟ قلت: لأنّ الله سبحانه إنما كلم موسى عليه السلام وهم يسمعون، فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه، إرادةً مبنيةً على قياس فاسد، فلذلك قال موسى:(أرني أنظر إليك)، ولأنه إذا زُجِرَ عما طلب، وأُنكر عليه في نبوّته واختصاصه وزلفته عند الله تعالى، وقيل له: لن يكون ذلك، كان غيره أولى بالإنكار، ولأنّ الرسول إمام أمته، فكان ما يخاطب به أو ما يخاطب راجعاً إليهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأيضاً، قوله:"سماهم سفهاء وضلالاً" - يعني به قوله: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) - ممنوع، لم لا يجوز أن يراد بهم السفهاء الذين عبدوا العجل، لا هؤلاء مع أن القرآن مساعد لإرادة ما أردناه؟ ". تم كلامه.

وقلت: وليس هذا من المطلق، حتى يحتاج إلى دليل القيد، فإن الدليل قائم على انتفاء القيد، لأن المقام غير واحد.

وأما قوله: "لوجب أن يقال: لن أرى، أو: لم تجز رؤيتي" فللمصنف أن يقول: إنه من باب أسلوب الحكيم. وإليه الإشارة بقوله: "لأنه إذا زجر وأنكر على نبوته واختصاصه، كان غير أولى".

وقوله: "لم لا يجوز أن يراد بهم السفهاء الذين عبدوا العجل؟ " فهو بناء على حضور القوم في المرة الثانية.

قوله: (وأنكر عليه في نبوته). "في نبوته": حال من المجرور في: "عليه"، أي: أنكر عليه والحالة أنه ثابت في نبوته مستقر عليها.

ص: 552

وقوله: (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم، دليلٌ على أنه ترجمةٌ عن مقترحهم وحكايةٌ لقولهم، وجل صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه، مقابلاً بحاسة النظر، فكيف بمن هو أعرقُ في معرفة الله تعالى؛ من واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، والنظام، وأبي الهذيل والشيخين، وجميع المتكلمين؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وجل صاحب الجمل) الجمل - في الأصل المملى منه - بضم الجيم ولكن الميم مهملة لا ضبط عليها. ويمكن أن يوجه بأنه أراد الجمالين والملاحين، لأن الجمل حبال السفن، والواحد منها جملة، لكونها جملة من الطاقات والقوى. وفيه نظر، لأن الجمل بمعنى: الحبل، مشدد الميم، وليس جمعاً، ولا واحده جملة، وليس بمستبعدٍ أن يزعم أن "حملاً" كتاب صنفه بعض من المعتزلة من تلامذة هؤلاء المعدودين، واشتمل مضمونه على أصولهم. وفيه دلائلهم على نفي الرؤية. يعني: عظم قدر صاحب هذا الكتاب أن يجعل الله تعالي منظوراً إليه، بنصب الأدلة، وإقامة البراهين، فكيف بمن هو أعرف منه في معرفة الله تعالى.

وقد عثرت بعد ذلك على نقلٍ من جانب الإمام شمس الأئمة الكردري رحمه الله:

ص: 553

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صاحب الجمل: صاحب العقل؛ لأن العقل عندهم عبارة عن علوم هي جمل ضرورية، فقيل: هي اثنا عشر، وقيل: هي أربعة، هي: النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان، والكل أعظم من الجزء، والشيئان المساويان لشيء واحدٍ متساويان، والشيء الواحد في زمانٍ واحدٍ لا يكون في مكانين.

أراد بالشيخين أبا علي الجبائي، وابنه أبا هاشم.

قال في "الانتصاف": "وقد صح أن الرؤية لا تستلزم الجسمية، وأما قناعته في تفضيله عليه السلام برجحانه على المذكورين من المبتدعين، فهو غض عن منصبه العلي".

قال الإمام: "هذا كله باطل، لأن الذين طلبوا الرؤية إما أن يكونوا مؤمنين بموسى ونبوته وصدقه، وكان يكفيهم قول موسى: هذا السؤال غير جائز، وإن لم يكونوا فلن ينتفعوا بهذا الجواب. وأيضاً، لو كان السؤال طلباً للمحال لمنعهم عنه، كما منعهم عن سؤالهم: (اجْعَل لَّنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) بقوله: (إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ). وكيف وهذا عندهم أصعب، لأن طلب الرؤية مع استحالته جهل في ذات الله، بإثبات صفةٍ تقتضي نقصاً في ذاته، وطلب اتخاذ العجل جهل في غير الله، باستحقاقه العبادة له. وأيضاً، كان يجب عليه إقامة الدلائل القاطعة على نفي الرؤية. وكيف يظن أنه ترك ما كان واجباً عليه، وطلب ما كان محظوراً بقول بعض الجهال وأنه من أولي العزم".

ص: 554

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: وفي سؤاله عليه السلام إشعار ببطلان أن الطلب للقوم، وذلك أن قوله:(رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ)، أي: اجعلني متمكناً من رؤيتك، بأن تتجلى لي، فأنظر إليك وأراك، كما فسره، وما فيه من المبالغة، والتأكيد، والدعاء بقوله:"رب"، ليس من كلام من أكره على الشيء، وألزم به، ومن له طبع مستقيم، وذوق سليم، يعلم أن هذا الكلام لا يصدر إلا عمن له قوة عزم، ورسوخ قدمٍ في الطلب، ولو كان معذوراً لكان في الطلب ما ينبئ عنه.

وغاية ما يلزمنا أنه عليه السلام توهم أنه تعالى جائز الرؤية في الدنيا. وهذا لا يقدح في مرتبته، ولا يحط من منزلته، كما قال إبراهيم عليه السلام:(أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى ولَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)[البقرة: 260].

وروينا عن البخاري ومسلم، عن أبي هريرة:"نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى). ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف، لأجبت الداعي". على أن المشتاق الذي يتوق إلى محبوبه، المتيقن بحصول مطلوبه، يستعجل الوصول، ويتشبث بكل أمارة، وينتظر كل لمحة بارق.

فإنه عليه السلام لما وعد الميقات، وسمع الخطاب، لو لم يتحرك له أريحية الطلب، ويقنع بالسؤال والجواب، لما كان له عليه السلام اشتياق.

روى محيي السنة عن الحسن: "هاج به الشوق، فسأل الرؤية، وقال: إلهي، سمعت كلامك، فاشتقت إلى النظر إليك، ولأن أنظر إليك، ثم أموت أحب إلي من أن أعيش ولا أراك".

ص: 555

فإن قلت: ما معنى (لَنْ)؟ قلت: تأكيد النفي الذي تعطيه «لا» وذلك أن «لا» تنفى المستقبل، تقول: لا أفعل غداً، فإذا أكدت نفيها قلت: لن أفعل غداً. والمعنى: أنّ فعله ينافي حالي، كقوله:(لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ)[الحج: 73]، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن فعله ينافي حالي) يرده قوله: "فإذا أكدت نفيها، قلت: لن أفعل غداً" فيه إخبار عن عدم مباشرته الفعل على التأكيد، فهو كقولك: هو لا يفعل، لا تفعل، فكما أن هذا لا يدل على المنافاة، فكذا ذلك، بل يدل على أن حاله مستدعية له فينفيه على التأكيد، لأن ما يؤكد نفيه يمكن وقوعه.

ويشهد لذلك ما رواه مسلم عن جابر: أن رجلاً ممن هاجر إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم مرض، فجزع، فأخذ مشاقص، فقطع براجمه، فمات به، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه، وهيئته حسنة، ورآه مغطياً يديه، فقال له: ما صنع ربك بك؟ قال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه، فقال: ما لي أراك مغطياً يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله صلي الله عليه وسلم:"اللهم وليديه فاغفر".

ولو كان إصلاح ما أفسد مما هو منافٍ لحاله، وكان مفهوماً من هذا التركيب، لأمسك من هو أفصح الخلق عن الدعاء.

وأما قوله: (لن يخلقوا ذبابا)[الحج: 73] فالمنافاة تفهم من دليلٍ خارجي.

ص: 556

فقوله: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)[الأنعام: 103] نفيٌ للرؤية فيما يستقبل، و (لن تراني) تأكيد وبيان؛ لأنّ المنفي منافٍ لصفاته.

فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله: (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) بما قَبْلَه؟ قلتُ: اتصل به على معنى أنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه، ولكن عليك بنظرٍ آخر، وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم، كيف أفعل به وكيف أجعله دكاً بسبب طلبك الرؤية؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الإمام: " (لن تراني): يدل على أنه تعالى جائز الرؤية، إذ لو كان مستحيل الرؤية: لقال: "لا أرى"، ألا ترى أنه لو كان مع إنسانٍ حجر، وقال صاحبه: ناولني هذا لأكله، فإنه يقول: هذا لا يؤكل. ولو قال: لن تأكل، لم يصح. ولو كان معه مما يؤكل، فقال: هذا لا يؤكل، لم يصح. ولو قال: لن تأكل، علم أنه مما يؤكل، ولكنك لا تأكله".

وقال القاضي: "والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ، إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه، على ألا يراه أبداً، وألا يراه غيره أصلاً، فضلاً عن أن يدل على استحالتها. ودعوى الضرورة فيه مكابرة".

قوله: (وبيان، لأن المنفي منافٍ). اللام صلة "بيان" لا تعليل.

قوله: (اتصل به على معنى أن النظر إلى محال، فلا تطلبه): قال صاحب "الفرائد": إن الاستدراك بالمعنى الذي ذكره لا يناسب هذا المقام، ولو كان المراد به استحالة الرؤية، وجب أن يذكر شيئاً يدل على الاستحالة. ودك الجبل كما يصلح لما ذكر يصلح لغيره، والمشترك لا

ص: 557

لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره، كأنه عزّ وعلا حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله:(وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً)[مريم: 91].

(فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) كما كان مستقراً ثابتاً ذاهباً في جهاته، (فَسَوْفَ تَرانِي) تعليقٌ لوجود الرؤية بوجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حين يدكه دكا ويسويه بالأرض، وهذا كلامٌ مدمج بعضه في بعض، واردٌ على أسلوبٍ عجيبٍ ونمطٍ بديع؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يكون دليلاً. وهو تبع الإمام في قوله: "إنه تعالى علق الرؤية على أمرٍ جائز، والمعلق على الجائز جائز، فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة".

قلت: وأما قوله: "كأنه عز وعلا حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد"، فمن الإغراق والمبالغة التي تؤدي إلى أن طلب الرؤية أعظم من نسبة الولد إلى الله.

ولعمري، إنه كيف ذاق مع هذه الآية قوله:(تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وتَنشَقُّ الأَرْضُ وتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًا)[مريم: 90] من تكرير الأفعال، وإخراج كل على ما يناسبه.

وفي إبهام الضمير في (منه)، وإبداله لقوله:(أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ ولَدًا)[مريم: 91] من الفخامة والهيبة ما لا يخفى على البليغ، بخلاف هذا التعليق، فإنه كالتمهيد لإثبات الرؤية، كما يعطيه الذوق! وعليه كلام الأئمة. وأيضاً إن نسبة الولد إلى الله تعالى منسوب إلى أجهل الخلق وأضلهم، وطلب الرؤية منسوب إلى أفضل الخلق وأهداهم. فأين هذا من ذاك؟

قوله: (وهذا كلام مدمج بعضه في بعض)، الأساس:"دمج الشيء دموجاً، واندمج اندماجاً: إذا استحكم والتأم. ومن المجاز: أدمج كلامه: أتى به متراصف النظم".

وفي الاصطلاح: هو أن يضمن كلام سيق لوصفٍ وصفاً آخر.

ص: 558

ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك؟ ثم كيف بنى الوعيد بالرجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية؟ أعني قوله: (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال ابن نباتة:

فلابد لي من جهلةٍ في وصاله

فمن لي بخل أودع الحلم عنده

فإنه تعالى لما منع المشتاق الهائم عن مطلوبه، أشار إلى ما لا يقطع طمعه، ولا ييأس من متوخاه، بطريق يرمز إلى الموعد، يعني: إن الدنيا لا تصلح لما تطلبه، لأنها في شرف الزوال والهلاك؛ ألا ترى إلى أعظم الأشياء فيها رسوخاً، لم يثبت عند بعض التجلي، وإن الآخرة لهي الحيوان، فالموعد هناك.

فعلم من هذا التقرير أن الكلام إنما يكون مدمجاً، إذا أشير فيه إلى إثبات الرؤية، لا إلى نفيها، فإنه حينئذٍ يكون تذييلاً.

قوله: (ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر): التخلص اصطلاحاً: "هو الخروج في الكلام من معنى إلى معنى لا يناسبه، برابطة مناسبة لهما". وهذا المعنى أنسب لتأويلنا من تأويله، فإن الخروج من نفي الرؤية إلى إثباتها بواسطة الاستدراك، هو المعنى بالتخلص، لا من نفيها إلى نفيها.

قوله: (ثم كيف بني الوعيد بالرجفة الكائنة؟ ): يعني: أراد أن يوعده بالرجفة التي هي

ص: 559

(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ): فلما ظهر له اقتداره وتصدى له أمره وإرادته (جَعَلَهُ دَكًّا) أي: مدكوكاً مصدر بمعنى: مفعول كضرب الأمير.

و"الدكُّ" و"الدقُّ" أخوان، كالشك والشق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مسببة عن طلب الرؤية، ومكافأة عنه، وهي قوله:(وخر موسى صعقا)، بنى هذا الوعيد على شريطة وجود الرؤية عند استقرار الجبل، حتى حرضه على النظر إلى ما يحصل منه وعيده.

تلخيصه: لن تراني، ولكن انظر إلى ما يحصل لك فيه مكافأتك في هذا الطلب. وفي هذا التحريض والتوكيد إشعار بأن الطلب لم يكن إلا لنفسه عليه السلام، ثم إنه تكلف في الجواب عن معنى الاستدراك أساليب وفنوناً من البديع: الإغراق في الوصف، والإدماج، والتخلص، وبناء الوعيد على الشريطة! والمعنى، على ما سبق من قول ابن عباسٍ رضي الله عنهما.

قوله: (فلما ظهر له اقتداره، وتصدى له أمره وإرادته) أي: مثل لظهور اقتداره وتعلق إرادته، بدك الجبل قوله:(تجلى ربه)، لا أن ثم تجلياً، كما قرره في قوله:(أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)[يس: 82] أن المراد: "ما قضاه وأراد كونه يدخل تحت الوجود، من غير توقف"، لا أن ثمة قول.

ص: 560

وقرئ: (دكاء)، والدكاءُ: اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة، أو أرضاً دكاء مستوية، ومنه قولهم: ناقةٌ دكاء متواضعة السنام، وعن الشعبي: قال لي الربيع بن خُثيم: ابسط يدك دكاء، أي: مدّها مستوية. وقرأ يحيى بن وثاب: "دُكاً" أي: قطعاً دُكاً؛ جمع دُكاء، (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) من هول ما رأى. وصعق: من باب: فعلته فَفَعِلَ. يقال: صعقته فصعق، وأصله من الصاعقة. ويقال لها الصاقعة؛ من صقعه: إذا ضربه على رأسه، ومعناه: خرّ مغشياً عليه غشيةً كالموت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال صاحب "الفرائد": هذا المعنى غير مفهوم من الآية، لأن "تجلى" مطاوع "جليته" أي: أظهرته. يقال: جليته فتجلى، أي: أظهرته فظهر، ولا يقدر: تجلى اقتداره، لأنه خلاف الأصل.

قال الإمام: "لا يجوز هذا التقدير، لأن المقصود من الكلام أن موسى لن يطيق رؤية الله، بدليل أن الجبل بعظمته، لما رأي الله اندك. ويجوز أن يخلق الله تعالى له حياةً وسمعاً وبصراً، كما جعله محلا لخطابه، بقوله:(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ)[سبأ: 10]، وكما جعل الشجرة محلا للكلام. وكل هذا لا يحيله من يؤمن بأن الله على كل شيء قدير.

قوله: (وقرئ: "دكاء"): حمزة والكسائي: بالمد والهمز من غير تنوين، والباقون: بالتنوين من غير همز.

ص: 561

وروي: أنّ الملائكة مرّت عليه وهو مغشيٌّ عليه، فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون: يا ابن النساء الحيض، أطمعت في رؤية رب العزة؟

(فَلَمَّا أَفاقَ) من صعقته، (قالَ سُبْحانَكَ): أنزهك مما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها، (تُبْتُ إِلَيْكَ) من طلب الرؤية (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بأنك لست بمرئيٍّ ولا مُدركٍ بشيءٍ من الحواس.

فإن قلت: فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته، فممّ تاب؟ قلت: من إجرائه تلك المقالة العظيمة - وإن كان لغرضٍ صحيحٍ- على لسانه، من غير إذنٍ فيه من الله تعالى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((سبحانك): أنزهك مما لا يجوز عليك من الرؤية) إلى قوله: (ولا مدركٍ بشيءٍ من الحواس): الزيادات التي ذكرها: تقييد من غير دليل.

قال الإمام: "الرؤية كانت جائزة، إلا أن موسى عليه السلام سألها بغير إذن، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، فكانت التوبة لهذا المعنى".

قال في "الانتصاف": "أما تسبيح موسى عليه السلام فلما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا، والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وأما التوبة في حق الأنبياء فلا يلزم أن تكون عن ذنب، لأن منزلتهم العلية تصان عن كل ما يحط عن مرتبة الكمال. وكان عليه أن يتوقف في سؤال الرؤية على الإذن، فترك الأولى. وقد ورد: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

ص: 562

فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية، وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكاً، وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك؛ مبالغةً في إعظام الأمر، وكيف سبح ربه ملتجئاً إليه، وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه، وقال:"أنا أول المؤمنين"، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة، كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً، ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة، فإنه من منصوبات أشياخهم، والقول ما قال بعض العدلية، فيهم:

لجماعة سموا هواهم سنّةً

وجماعة حمر لعمري موكفه

قد شبّهوه بخلقه وتخوّفوا

شنع الورى فتستّروا بالبلكفه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما دك الجبل فلأن الله أظهر له أثراً من الملكوت، ولا تستقر الدنيا لإظهار شيء من الملكوت. هذا هو المأثور عن السلف".

قوله: (من نفيان ذلك)، الجوهري:"نفي الريح: ما تنفي في أصول الشجر من التراب ونحوه. والنفيان مثله. ونفي المطر: ما ينفيه ويرشه، وكذلك ما تطاير من الرشاء على ظهر الماتح".

قوله: (من المتسمين بالإسلام) بتشديد التاء: من الاتسام، و"المتسمين" بتشديد الميم: من التسمي، مطاوع التسمية.

قوله: (بالبلكفة) نحو: البسلمة والحيعلة، أي: القائلين بأن الرؤية تحصل بلا كيف.

وفي بعض الحواشي: البلكفة: قول القائل: بل كفى في إمكان الرؤية تعليقها بشرطٍ ممكن، وهو استقرار الجبل من حيث هو هو.

ص: 563

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"الموكفة": من الإكاف: وهو البرذعة. أجاب بعض أهل السنة:

عجباً لقومٍ ظالمين تلقبوا

بالعدل ما فيهم لعمري معرفة

قد جاءهم من حيث لا يدرونه

تعطيل ذات الله مع نفي الصفة

وقال صاحب "الانتصاف":

وجماعةٍ كفروا برؤية ربهم

هذا ووعد الله ما لن يخلفه

وتلقبوا عدلية، قلنا: أجل

عدلوا بربهم فحسبهم سفه

وتلقبوا الناجين، كلا إنهم

إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه

ص: 564

وتفسير آخر: وهو أن يريد بقوله: (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ): عرّفني نفسك تعريفاً واضحاً جلياً، كأنها إراءةٌ في جلائها، بآيةٍ مثل آيات القيامة التي تضطر الخلق إلى معرفتك، (أَنْظُرْ إِلَيْكَ): أعرفك معرفة اضطرار، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تاب الله عليهم.

قوله: (وتفسير آخر): وقريب من هذا التفسير ما نقله الزجاج: "أرني أمراً عظيماً، لا يرى مثله في الدنيا مما لا يحتمله أحد. فأعلمه الله تعالى أنه لن يرى ذلك الأمر، وأن معنى (تجلى ربه للجبل): تجلى أمر ربه".

ثم قال الزجاج: "هذا خطأ لا يعرفه أهل اللغة ولا في الكلام دليل على ذلك، ولأنه قد أراه الله تعالى من الآيات ما لا غاية لنا بعده؛ أراه العصا ثعباناً، ويده بيضاء، وغيرهما مما يستغني به عن أن يطلب أمراً من الله عظيماً لكن لما سمع كلام الله، أحب أن يراه، فأعلم الله تعالى أنه لن يراه".

واعترض عليه أبو علي الفارسي في كتاب "الإصلاح"، فقال:"أما قوله: "لا يعرفه

ص: 565

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أهل اللغة"، ففاسد، وفشو هذا في اللغة، وكثرته واشتهاره أظهر وأوضح، وفي التنزيل ما لا يكاد ينحصر. منه قوله تعالى:(هَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ أَن تَاتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ)[الأنعام: 158] يدل عليه قوله: (أَوْ يَاتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)[النحل: 33]. وكذا: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا)[الحشر: 2]، (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ) [النحل: 26] يدل عليه قوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)[النحل: 1]. وقوله: (فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ)[هود: 63] يدل عليه قوله: (فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَاسِ اللَّهِ)[غافر: 29].

وما أرى هذا الذي قاله إلا تحاملاً، ودافعه في اللغة كدافع الضروريات.

وأما دفعه أن يسأل موسى أمراً عظيماً، فإن ذلك مما لا ينكر منه على ما آتاه الله من الآيات، لأنهم كانوا يقترحون عليه الآيات مع هذه الآيات التي أوتيها ويسألونه إياها. ألا ترى إلى قولهم:(لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً)[البقرة: 55] و (لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ)[البقرة: 63]. فإذا جاز ذلك فلا وجه لإنكار أن موسى عليه السلام سأل أمراً عظيماً، لاقتراح القوم، ويكون سؤاله جائزاً، ليؤتى ما يجوز إيتاؤه، ويعرفوا ما لا يجوز إيتاؤه، فيعلموا امتناعه".

وقلت - والله أعلم -:

أما الجواب عن الأول: فإن الزجاج لا ينكر حذف المضاف، وإنما ينكر أن المضاف هو أمر عظيم لا يرى مثله في الدنيا مما لا يحتمله أحد. فالحق أن المقام يأباه، وذلك أنه بين

ص: 566

كأني أنظر إليك، كما جاء في الحديث:«سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» ، بمعنى: ستعرفونه معرفة جليةً هي في الجلاء كإبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقام، وهو أنه:"لما سمع كلام الله، أحب أن يراه" كما نقلنا عن الحسن ومحيي السنة، وبينا أن ذلك هو اقتضاء المقام.

ولا شك أن مقام الأنبياء، ونزول تجليات الجمال، يأبي طلب الأمر العظيم الذي لا يحتمله أحد، ويؤدي إلى الوعيد العظيم والتهديد، لأن الآيات الوارد فيها الأمر من القوارع والزواجر.

وأما الجواب عن الثاني: فإن كلامه مبني على أن القوم كانوا معه في هذه المرة، وقد أبطلناه غير مرة.

قوله: (كما جاء في الحديث): اعلم أن المصنف أدمج تأويل الحديث في تأويل الآية، لئلا يتمسك به مخالفوه. والحديث من رواية البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي هريرة: أن الناس قالوا: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: "هل تمارون في الشمس، ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا. قال: "فإنكم ترونه كذلك".

وعن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود، عن جرير بن عبد الله، قال: كنا عند رسول الله صلي الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، وقال:"سترون ربكم عياناً، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته".

ص: 567

(قالَ لَنْ تَرانِي) أي: لن تُطيق معرفتي على هذه الطريقة، ولن تحتمل قوّتك تلك الآية المضطرة، (ولكن انظر إلى الجبل) فإني أورد عليه وأظهر له آيةً من تلك الآيات، فإن ثبت لتجليها واستقرّ مكانه ولم يتضعضع فسوف تثبت لها وتطبيقها، (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ): فلما ظهرت له آية من آيات قدرته وعظمته، (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) لعظم ما رأى، (فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) مما اقترحت وتجاسرت، (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) بعظمتك وجلالك، وأن شيئاً لا يقوم لبطشك وبأسك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وعن مسلم والترمذي، عن صهيب، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول الله تبارك وتعالى: "تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى".

قال صاحب "الجامع": "إنها الغاية القصوى في نعيم الآخرة، بلغنا الله منها ما نرجوه".

ومن رد هذه الروايات الصريحة الصحيحة، أو أولها بمدركته الركيكة، فقد غطى عين الشمس بعينه الضعيفة.

وسمعت بعض العارفين قدس سره: "نحن - معاشر السنة - هممنا مصروفة لنيل هذه البغية السنية. والمعتزلة على العكس، يجتهدون في الدفع، (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً) [الإسراء: 84].

قوله: (المضطرة): هي اسم فاعل، كقولهم:"المغتاب - فض الله فمه - يأكل لحم المغتاب، ويشرب دمه".

ص: 568

[(قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)].

(إنِي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ): اخترتك على أهل زمانك وآثرتك عليهم، (بِرِسالاتِي) وهي أسفار التوراة، (وَبِكَلامِي): وبتكليمى إياك، (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ): ما أعطيتك من شرف النبوة والحكمة، (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) على النعمة في ذلك فهي من أجل النعم. وقيل: خَرَّ موسى صعقاً يوم عرفة، وأُعطي التوراة يوم النحر.

فإن قلت: كيف قيل: (اصطفيتك على الناس) وكان هرون مصطفى مثله ونبياً؟ قلت: أجل، ولكنه كان تابعاً له وردءاً ووزيراً، والكليم: هو موسى عليه السلام، والأصيل في حمل الرسالة.

[(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَامُرْ قَوْمَكَ يَاخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ* سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ* وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وهي أسفار التوراة): أي: مجلداتها. الأساس: "حملوا أسفار التوراة، وله سفر من الكتاب، وسفر الكتاب: كتبه، والكرام السفرة: الكتبة".

قوله: (فهي من أجل النعم): الفاء للتسبب، لأن قوله تعالى:(وكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) من باب المبالغة، أي: كن بليغ الشكر، أي: معدوداً في عداد الشاكرين، بأن تكون لك مساهمة كاملة فيهم، لأن النعمة، وهي شرف النبوة والحكمة، من أجل النعم.

ص: 569

ذكروا في عدد الألواح وفي جوهرها وطولها: أنها كانت عشرة ألواحٍ، وقيل: سبعة، وقيل: لوحين، وأنها كانت من زمرّدٍ أخضر، جاء بها جبريل عليه السلام. وقيل: من زبرجدةٍ خضراء وياقوتةٍ حمراء. وقيل: أمر الله موسى بقطعها من صخرةٍ صماء لينها له، فقطعها بيده، وشقها بأصابعه. وعن الحسن: كانت من خشبٍ نزلت من السماء فيها التوراة، وأن طولها كان عشرة أذرع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (زمرد) بضمتين، والراء مضمومة مشددة، والدال معجمة: معرب، عن الجوهري.

قوله: (زبرجدةٍ خضراء، وياقوتةٍ حمراء): الواو ليس للجمع، بل بمعنى "أو"، لما روى محيي السنة:"قال الكلبي: كانت الألواح من زبرجدةٍ خضراء، وقال سعيد بن جبير: كانت من ياقوت أحمر".

قوله: (وسقفها بأصابعه) أي: جعلها سقائف. الجوهري: "السقائف: ألواح السفينة، كل لوحٍ منها سقيفة".

وفي بعض النسخ: "شقفها" بالشين المعجمة.

قوله: (عشرة أذرع) الذراع يذكر ويؤنث.

ص: 570

وقوله: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) في محل النصب مفعول "كتبنا"، و (مَوْعِظَةً وتفصيلاً) بدلٌ منه. والمعنى: كتبنا له كل شيءٍ كان بنو إسرائيل محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام.

وقيل أُنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير، يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى، ويوشع، وعزيرٌ، وعيسى عليهم السلام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((من كل شيءٍ) في محل النصب مفعول "كتبنا"، و (موعظة وتفصيلاً) بدل منه): قال الإمام: "لا شبهة في أن قوله: (من كل شيء) ليس على العموم، لأن المراد: كل شيء كانوا محتاجين إليه: من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح، وهو على ضربين: أحدهما: ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية، من الوعد والوعيد، وهو الضرب الثاني. ولما قرر ذلك، أتبعه شرح أقسام الأحكام، وتفصيل الحلال والحرام".

قلت: و (من) على هذا: ابتدائية، أو زائدة، ويمكن أن تحمل على التبعيض وتكون (موعظة) وحدها بدلاً منه، و"تفصيلاً" عطفاً على محل الجار والمجرور. فيختلف جهتا كل من قوله:(كل شيءٍ) و"تفصيلاً"، ويأخذ كل من (موعظة وتفصيلاً) حقه، ولا تضيع فائدة اتصال لـ (كل شيء) الثاني بـ"تفصيلاً".

والمعنى: كتبنا بعض كل شيء في التوراة: من نحو السور والآيات وغيرهما (موعظة)، وكتبنا فيها تفصيل كل شيء يحتاجون إليه من الحلال والحرام، ونحوه.

وفيه وجوه من الفوائد، منها: اختصاص الإجمال والتفصيل بالموعظة، للإيذان بأن الاهتمام بها أشد، والعناية بها أتم، ولعمري هو كذلك، ومن ثم أكثر مدح النبي صلي الله عليه وسلم بالبشير النذير.

ص: 571

وعن مقاتل: كتب في الألواح: إني أنا الله الرحمن الرحيم، لا تشركوا بي شيئاً، ولا تقطعوا السبيل، ولا تحلفوا باسمي كاذبين؛ فإنّ من حلف باسمي كاذباً فلا أزكيه، ولا تقتلوا ولا تزنوا، ولا تعقوا الوالدين.

(فَخُذْها) فقلنا له: "خذها"، عطفاً على "كتبنا"،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومنها: أن في جعل (من) تبعيضاً إشعاراً بأن الموعظة مما يجب أن يرجع إليه في كل أمر، ويكر به في كل سورة، بل في كل آية؛ ألا ترى أن أكثر الفواصل التنزيلية وارد على هذا النمط، نحو:(أفلا تتقون)، (أفلا تذكرون)، (أفلا تعقلون) ونحوها. وإلى سورة "الرحمن" كيف أعيد فيها ذكر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، بعد كل إشارة، وذلك ليستأنف السامع به أذكاراً واتعاظاً، ويجدد به تنبيهاً واستيقاظاً، وأن تقرع لهم العصا مرات، وتقعقع لهم الشنان تارات.

ولما اشتمل الكلام على هذه المطالب عقبها بقوله: (فخذها بقوة)، أي: بصدق نية، وعزيمةٍ ماضية.

قوله: (فلا أزكيه) أي: فأنا لا أزكيه. كقوله تعالى: (فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا)[الجن: 13]، أي: فهو لا يخاف بخساً.

قوله: (فقلنا له: خذها) يعني: "فخذها"، على إضمار القول، فيكون عطفاً على "كتبنا".

ص: 572

ويجوز أن يكون بدلاً من قوله: (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ)[الأعراف: 144]، والضمير في (خُذْها) للألواح، أو لـ (كل شيء)، لأنه في معنى الأشياء، أو الرسالات، أو للتوراة. ومعنى (بِقُوَّةٍ): بجدّ وعزيمةٍ فعل أولي العزم من الرسل، (يَاخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي: فيها ما هو حسنٌ وأحسن،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز أن يكون بدلاً من قوله: (فخذ ما أتيتك)). والعطف على "كتبنا" أجرى على سنن البلاغة، لما يلزم في البدل من التعاظل والتراكب وفك النظم، لأن قوله تعالى:(وكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ) مع ما عقب به من قوله: (فخذها بقوة) معطوف على قوله: (قَالَ يَا مُوسَى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ) مع ما عقب به وهو: (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) على سبيل البيان والتفصيل، فلو جعل بدلاً، لدخل بين المعطوف والمعطوف عليه أجنبي.

والذي يدل على التفصيل بسط ما أجمل. قال أولاً: (إني اصطفيتك) ففصله بقوله: (وكتبنا له) على التعظيم. وقال: (بلاسالاتي وبكلامي) ففصله بقوله: (من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيءٍ). وقال: (فخذ ما أتيتك) ففصله بقوله: (فخذها بقوةٍ وأمر قومك). وقال: (وكن من الشاكرين) ففصله بقوله: (سأوريكم دار الفاسقين).

ويؤيده قول الزجاج: "قال الله تعالى: فخذ ما أعطيتك. ثم أعلم أنه أعطاه من كل شيء يحتاج إلى أمر الدين، فقال:(وكتبنا له في الألواح).

قوله: (فعل أولي العزم): نصب مفعول مطلق، أي: خذها أخذاً مثل أخذ أولي العزم من الرسل، مجدين صابرين ثابتين، لأنه إذا أخذها بضعف، أداه ذلك إلى الفتور.

قوله: (أي: فيها ما هو حسن وأحسن): اعلم أن كلام الله المجيد، بحسب كونه كلامه، كله حسن.

ص: 573

كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر. فمرهم أن يحملوا على أنفسهم في الأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب، كقوله تعالى:(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)[الزمر: 55]. وقيل: يأخذوا بما هو واجبٌ أو ندب، لأنه أحسن من المباح. ويجوز أن يراد: يأخذوا بما أُمروا به، دون ما نهوا عنه، على قولك: الصيف أحرّ من الشتاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روى محيي السنة عن قطرب: " (بأحسنها) أي: بحسنها، وكلها حسن".

وقلت: لكن بحسب أحوال المكلف، تتفاوت إلى الحسن والأحسن، والوجوه مبنية على هذا.

قوله: (كالاقتصاص والعفو): هذا يقوي ما أوردناه على كلامه في "البقرة"، عند قوله:(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)[البقرة: 178]: "أن أهل التوراة كتب عليهم القصاص، وحرم العفو". ويخالف قوله بعدها في تفسير قوله تعالى: (ويَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)[الأعراف: 157]: "نحو بت القضاء بالقصاص، عمداً كان أو خطأ".

قوله: (أن يراد: أن يأخذوا بما أمروا به، دون ما نهوا عنه): يعني: أن التوراة مشتملة على الأمر والنهي، وعلى ما يجب فعله، وعلى ما ينبغي تركه. فقال:(بأحسنها)، أي: بأحسن ما فيها من الأمرين: من الفعل والترك، والمتروك لا يكون حسناً، وإنما هو على باب قولك:"الصيف أحر من الشتاء"، أي: الصيف أبلغ في بابه من الحرارة من الشتاء في بابه من البرودة. والمعنى: ما أمروا به أبلغ في بابه من الحسن مما نهوا عنه في بابه من القبح.

ص: 574

(سَأورِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) يريد دار فرعون وقومه وهي مصر، كيف أقفرت منهم ودمّروا لفسقهم، لتعتبروا، فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم. وقيل منازل عادٍ وثمود والقرون الذين أهلكهم الله لفسقهم في ممرّكم عليها في أسفاركم. وقيل: دار الفاسقين: نار جهنم. وقرأ الحسن: "سأوريكم"، وهي لغةٌ فاشيةٌ بالحجاز. يقال: أورني كذا، وأوريته. ووجهه أن تكون من: أوريت الزند، كأن المعنى: بينه لي وأنره لأستبينه، وقرئ:"سأورثكم"، وهي قراءةٌ حسنةٌ يصححها قوله:(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ)[الأعراف: 137].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الزجاج: "إنهم أمروا بالخير، ونهوا عن الشر، وعرفوا ما لهم وما عليهم، فقيل: (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) ".

قوله: (لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم): إشارة إلى أن قوله: (سأوريكم دار الفاسقين) توكيد لأمر بالأخذ بأحسن ما في التوراة، وبعث عليه.

وفي وضع الإراءة موضع الاعتبار إقامة للسبب مقام المسبب أيضاً مبالغة، كقوله تعالى:(قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ)[النمل: 69].

ص: 575

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم، فلا يفكرون فيها ولا يعتبرون بها، غفلة وانهماكاً فيما يشغلهم عنها من شهواتهم.

وعن الفضيل بن عياضٍ: ذكر لنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا عظمت أمّتي الدنيا نزع عنها هيبةُ الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي".

وقيل: سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون أن يبطل آية موسى، بأن جمع لها السحرة، فأبى الله إلا علو الحق وانتكاس الباطل. ويجوز: سأصرفهم عنها وعن الطعن فيها والاستهانة بها وتسميتها سحراً بإهلاكهم .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي وضع (دار الفاسقين) موضع "أرض مصر" الإشعار بالعلية، والتنبيه على أن تخترزوا، ولا تستنوا بسنتهم من الفسق، وإليه الإشارة بقوله:"فلا تفسقوا مثل فسقهم". وفيه التفات أيضاً، لأن أصل الكلام:(وامُرْ قَوْمَكَ يَاخُذُوا بِأَحْسَنِهَا)، سأريهم دار الفاسقين، ليجدوا، ولا يتهاونوا في امتثال الأمر.

وعلى قراءة: "سأورثكم" بالثاء المثلثة، يكون تغليباً، لأن المعنى: سأورثك وقومك أرض مصر، فالجملة استئنافية، على سبيل التعليل للأمر، وعلى المشهورة: الخطاب مخصوص بالقوم، لأن المعنى: ليعتبروا ولا يفسقوا.

قوله: (سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا): فعلى هذا: الكلام مع قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 576

وفيه إنذارٌ للمخاطبين من عاقبة الذين يصرفون عن الآيات لتكبرهم وكفرهم بها، لئلا يكونوا مثلهم، فيسلك بهم سبيلهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فيكون متصلاً بما سبق من قصتهم، وهي:(أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ونَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)[الأعراف: 100]، فيكون إيراد قصة موسى وفرعون للاعتبار كما قال:"وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون"، فقوله:(وإن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا) الآية عطف على قوله: (يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ).

وعلى الأول الآية عامة، وعطف (وإن يروا) على (سأصرف) للتعليل، على منوال قوله:(ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ عِلْمًا وقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ)[النمل: 15] على رأي صاحب "المفتاح"، ولذلك جاء بالفاء في "فلا يفكرون فيها"، أي: سأصرف عن آياتي الغافلين المشتغلين بالدنيا، فلذلك لا يتفكرون في الآيات، ولا يعتبرون بها، ويجوز على هذا، أن يكون متصلاً بقوله:(وامُرْ قَوْمَكَ يَاخُذُوا بِأَحْسَنِهَا)، أي: الأمر كذلك، وأما الإرادة فإني سأصرف عن الأخذ بآياتي أهل الطبع والشقاوة.

قال الإمام: "واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله قد يمنع عن الإيمان، ويصد عنه".

وفي "الوسيط": "سأصرفهم عن قبول آياتي، والتصديق بها، لعنادهم الحق".

ص: 577

(بِغَيْرِ الْحَقِّ) فيه وجهان: أن يكون حالاً، بمعنى: يتكبرون غير محقين، لأنّ التكبر بالحق لله وحده، وأن يكون صلةً لفعل التكبر، أي: يتكبرون بما ليس بحق وما هم عليه من دينهم، (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) من الآيات المنزلة عليهم (لا يُؤْمِنُوا بِها)، وقرأ مالك بن دينار:"وإن يروا" بضم الياء. وقرئ: (سبيل الرشد) و"الرشد" و"الرشاد"، كقولهم: السقم والسقم والسقام. وما أسفه من ركب المفازة، فإن رأى طريقاً مستقيماً أعرض عنه وتركه، وإن رأى معتسفاً مُردياً أخذ فيه وسلكه، ففاعل نحو ذلك في دينه أسفه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله: (لأن التكبر بالحق لله تعالى): المعنى مقتبس من قوله صلوات الله عليه: "قال الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري. فمن نازعني في واحدٍ منهما قذفته في النار". أخرجه أبو داود عن أبي هريرة، وقريب منه أخرجه مسلم عن أبي سعيد.

قال الزجاج: "معنى (يتكبرون): يرون أنهم أفضل الخلق، وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم، وهذه الصفة لا تكون إلا لله تعالى خاصة، لأن الله له القدرة والفضل على الكمال، وليس لأحدٍ أن يتكبر، لأن الناس في الحقوق سواء".

قوله: (وما هم عليه من دينهم) عطف تفسيري على قوله: "ما ليس بحق"، فعلى هذا:(يتكبرون) بمعنى: يتعززون، أي: يتعززون بالباطل، وبما يؤديهم إلى الذل والهوان، ولا يرفعون للحق رأساً. فقوله:(وإن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا) مع ما عطف عليه مناسب بهذا الوجه.

قوله: (وقرئ: (سبيل الرشد) و"الرشد": حمزة والكسائي: بفتحتين، والباقون: بضم الراء وإسكان الشين، و"الرشاد": شاذ

ص: 578

(ذلِكَ) في محل الرفع أو النصب؛ على معنى: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم، أو صرفهم الله ذلك الصرف بسببه، (وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به، أي: ولقائهم الآخرة ومشاهدتهم أحوالها، ومن إضافة المصدر إلى الظرف؛ بمعنى: ولقاء ما وعد الله في الآخرة.

[(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ* وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)].

(مِنْ بَعْدِهِ): من بعد فراقه إياهم إلى الطور.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله (من بعده): من بعد فراقه إياهم إلى الطور)، فيكون:(واتخذ قوم موسى) عطفاً على قوله: (وواعدنا موسى)[الأعراف: 142] عطف قصةٍ على قصة. وذلك أنه تعالى لما أخبر أن بني إسرائيل لما جاوزوا البحر، بعد إغراق فرعون، ورأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم، فطلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً، أي: يتخذ لهم أصناماً مثل تلك الأصنام، ليعكفوا على عبادتها، كما كانوا عاكفين، وأجابهم نبي الله ذلك الجواب العنيف، أخبر بعد ذلك عن حاله عليه السلام مع ربه عز وجل وفراقه إياهم إلى الطور، وعن حال قومه بعده، وانتهازهم تلك الفرصة، لتحقيق متمناهم.

ويؤيد هذا التأويل ما رواه المصنف عن ابن جريج في وصف تلك الأصنام: "كانت تماثيل بقر"، وذلك أول شأن العجل، فعلى هذا الوجه يكون (واتخذ) مما يتعدى إلى مفعولين، وأن المعنى:"واتخذوا"، أي: العجل الموصوف إلهاً، كما تمنوا.

ص: 579

فإن قلت: لم قيل: واتخذ قوم موسى عجلاً، والمتخذ هو السامري؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن ينسب الفعل إليهم، لأن رجلاً منهم باشره ووجد فيما بين ظهرانيهم، كما يقال: بنو تميمٍ قالوا كذا وفعلوا كذا، والقائل والفاعل واحد، ولأنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به، فكأنهم أجمعوا عليه.

والثاني: أن يراد: واتخذوه إلهاً وعبدوه. وقرئ: (مِنْ حُلِيِّهِمْ) بضم الحاء والتشديد، جمع حلي، كثدي وثديّ، "ومن حليهم" بالكسر للإتباع كدلي، و"من حليهم" على التوحيد. والحلي: اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة.

فإن قلت: لم قال: (من حليهم)، ولم يكن الحليّ لهم، إنما كانت عواري في أيديهم؟ قلت: الإضافة تكون بأدنى ملابسة، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي إفراد الضمير في (بعده) الدلالة على أن موسى عليه السلام فارق القوم إلى الطور وحده، ولم يصحب معه أولئك السبعين، الذين طلبوا الرؤية كما زعم.

قوله: (فيما بين ظهرانيهم)، الجوهري:"يقال: هو نازل بين ظهريهم وظهرانيهم، بفتح النون".

النهاية: "وفي الحديث: "فأقاموا بين ظهرانيهم وبين أظهرهم"، أي: أنهم أقاموا بينهم، على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم.

وزيدت فيه ألف ونون مفتوحة، تأكيداً، وقد مر في "البقرة" أبسط منه.

قوله: (وقرئ: (من حليهم) بالضم والكسر): حمزة والكسائي: بالكسر، والباقون: بالضم.

ص: 580

وكونها عواري في أيديهم كفى به ملابسةً على أنهم قد ملكوها بعد المهلكين، كما ملكوا غيرها من أملاكهم. ألا ترى إلى قوله عزّ وعلا:(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ)[الشعراء: 57 - 59].

(جَسَداً): بدناً ذا لحم ودم كسائر الأجساد. والخوار: صوت البقر، قال الحسن: إن السامري قبض قبضةً من ترابٍ من أثرِ فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر، فقذفه في العِجل، فكان عِجلاً له خُوار. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه:"جؤار" بالجيم والهمزة، من جأر: إذا صاح، وانتصاب (جَسَدًا) على البدل من (عِجْلاً).

(أَلَمْ يَرَوْا) حين اتخذوه إلهاً أنه لا يقدر على كلامٍ ولا على هداية سبيل، حتى لا يختاروه على من لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (على أنهم قد ملكوها): إعراض عن الجواب، ورد للسؤال، وأن الحلي كانت عواري في أيديهم، بل كانت ملكاً لهم، ملكوها كسائر ما ملكوا من فرعون وقومه.

قوله: ((جسداً): بدناً ذا لحم ودم)، الراغب:"الجسد كالجسم، لكنه أخص، قال الخليل: لا يقال: الجسد، لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضاً فإن الجسد يقال لما له لون، والجسم يقال لما لا يبين له لون، كالماء والهواء، وقال تعالى: (ومَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَاكُلُونَ الطَّعَامَ) [الأنبياء: 8] يشهد لما قال الخليل. وقال: (عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ) وقال: (وأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا) [ص: 34]، وباعتبار اللون قيل للزعفران: جساد، وثوب مجسد: مصبوغ بالجساد، والمجسد: الثوب الذي يلي الجسد".

قوله: (حتى لا يختاره على من لو كان البحر مداداً لكلماته): يريد: أن قوله: (لا يُكَلِّمُهُمْ ولا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) تعريض بالإله الحق، وبعلمه الشامل، وبهدايته الواضحة، ولو

ص: 581

وهو الذي هدى الخلق إلى سبل الحق ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة، وبما أنزل في كتبه.

ثم ابتدأ فقالك (اتَّخَذُوهُ) أي: أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المُنكر، (وَكَانُوا ظَالِمِينَ): واضعين كل شيءٍ في غير موضعه، فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم، ولا أول مناكيرهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جعله تعريضاً بالله تعالى وبكلامه مع موسى عليه السلام وبهدايته لقومه، لأن المقام يقتضيه، كان أحسن.

قوله: (ثم ابتدأ فقال: (اتخذوه)): عطف على مقدر، يعني: ذكر الله تعالى ظلم القوم، وإيثارهم ما لا يكلمهم ولا يهديهم، على من لو كان البحر مداداً لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، ومن هدى الخلق إلى سبيل الحق، ثم أراد أن يوصل به قوله:(وكانوا ظالمين) تذييلاً وتوكيداً لوضع الشيء في غير موضعه ابتداء، فقال:(اتخذوه)، وعلق به التذييل مزيداً للتبجيل. فقوله تعالى:(اتخذوه) كنايةً عن المذكور السابق، ولهذا قال:"أقدموا على ما أقدموا عليه".

وقوله: (فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم، ولا أول مناكيرهم) تقدير لمعنى التذييل.

ص: 582

(وَلَمَّا سُقِطَ في اَيّدِيِهِمْ): ولما اشتدَّ نَدمهم وحسرتهم على عبادة العجل، لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غماً، فتصير يده مسقوطاً فيها، لأن فاه قد وقع فيها. و (سُقط) مسندٌ إلى (في أيديهم) وهو من باب الكناية.

وقرأ أبو السميفع: "سقط في أيديهم"، على تسمية الفاعل، أي: وقع العض فيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((ولما سقط في أيديهم): ولما اشتد ندمهم): إنما قال: "اشتد" لأنه كناية عن "ندموا"، والكناية أبلغ. والأصل: سقط فوه في يده، لأن النادم يعض أنامله، ويقرع أسنانه عليها، ثم بني للمفعول، نحو مر بزيدٍ، وسير بعمرو.

وأما قراءة ابن السميفع: (سقط في أيديهم) على إضمار الفاعل، فوجهها أن يكون الفاعل أيضاً الفم، والذي شجعه على إضماره استمرار الاستعمال فيما لم يسم فاعله، واشتهاره في معنى الندم، وصيرورته مثلاً فيه. ومن ثم جسر الزجاج، حتى قال:"سقط الندم في أيديهم".

فإن قلت: قوله: "تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين" يؤذن بأنه من الاستعارة التمثيلية، فهل ينافي قوله:"وهو من باب الكناية"؟ قلت: لا، لأن الكناية الإيمائية عبارة عن أخذ الزبدة من مجموع الأشياء المتوهمة، فهي مسبوقة بالاستعارة التمثيلية، لأن الوجه في التمثيلية منتزع من عدة أمورٍ متوهمة، فإذا نزر إلى مفردات التركيب، قيل: استعارة، وهي مسبوقة بالتشبيه، وإذا نظر إلى زبدة المجموع من حيث هي هي، قيل: كناية إيمائية، وهي مسبوقة بالاستعارة.

ص: 583

وقال الزجاج: معناه: سقط الندم في أيديهم، أي: في قلوبهم وأنفسهم، كما يقال: حصل في يده مكروه، وإن كان محالاً أن يكون في اليد، تشبيهاً لما يحصل في القلب وفي النفس، بما يحصل في اليد ويُرى بالعين، (ورأوا أنهم قد ضلوا): وتبينوا ضلالهم تبيناً كأنهم أبصروه بعيونهم. وقرئ: "لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا" بالتاء، و"ربنا" بالنصب على النداء، وهذا كلامُ التائبين، كما قال آدم وحواء عليهما السلام:(وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا)[الأعراف: 23].

[(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَاسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرئ: "لئن لم ترحمنا ربنا"): حمزة والكسائي: بالتاء على الخطاب، ونصب الباء، والباقون: بالياء على الغيبة، ورفع الباء.

قوله: (وهذا كلام التائبين) لأن في ذكر الرب وتخصيص الرحمة والغفران الاستعطاف، وفي ذكر الخسران الهضم، ونحوه قول القائل:

إلهي، عبدك العاصي أتاكا

مقراً بالذنوب وقد دعاكا

ص: 584

الأَسِف: الشديدُ الغضب؛ (فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)[الزخرف: 55]، وقيل: هو الحزين، (خَلَفْتُمُوني): قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي.

وهذا الخطاب إما أن يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أو لوجوه بني إسرائيل، وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه، ويدل عليه قوله:(اخْلُفْنِي فيِ قَوْمِي)[الأعراف: 142]، والمعنى: بئس ما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله، أو حيثُ لم تكفوا من عَبَدَ غير الله.

فإن قلت: أين ما تقتضيه "بئس" من الفاعل والمخصوص بالذم؟ قلت: الفاعل مضمرٌ يفسره "ما خلفتموني"، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: بئس خلافةٌ خلفتمونيها من بعد خلافتكم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (الأسف: الشديد الغضب) إلى قوله: (هو الحزين)، الراغب:"الأسف: الحزن والغضب معاً، وقد يقال لكل منهما على الإنفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام، فمتى كان على من دونه، انتشر، فصار غضباً، ومتى كان على من فوقه، انقبض، فصار حزناً، ولذلك لما سئل ابن عباسٍ عن الحزن والغضب، فقال: مخرجهما واحد، واللفظ مختلف".

قوله: (الفاعل مضمر يفسره "ما خلفتموني")، قيل: إنما خص بالمضمر، لأن "ما خلفتموني" إما أن يكون فاعل "بئس" أو المخصوص بالذم، أو المفسر للفاعل المستكن في "بئس"، لا يجوز أن يكون فاعل "بئس"، لأن "ما خلفتموني" مفصل، وفاعل "بئس" يجب أن يكون مبهماً، ولا يجوز أن يكون المخصوص بالذم، لأنه يبقي "بئس" بلا فاعل، لأنه إنما يضمر فاعل "بئس" بشرط أن يعقبه المفسر، فبقي أن يكون مفسراً لفاعل "بئس" المضمر.

ص: 585

فإن قلت: أي: معنى لقوله: (مِنْ بَعْدِي) بعد قوله: (خَلَفْتُمُونِي)؟ قلت: معناه: من بعد ما رأيتم مني؛ من توحيد الله، ونفي الشركاء عنه، وإخلاص العبادة له. أو: من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد، وأكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر، حين قالوا:(اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ)[الأعراف: 128]. ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده ولا يخالفوه، ونحوه:(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ)[مريم: 59] أي: من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أي معنى لقوله: (من بعدي)، بعد قوله:(خلفتموني))، يريد أن الخليفة هو الذي يخلف المنوب فيما كان قائماً فيه بعد تخلفه، فلفظ (بعدي) كالتكرير.

وخلاصة الجواب أنه من باب قوله تعالى: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ)[النحل: 26]، ومعلوم أن السقف لا يكون إلا من فوق، وفائدة ذكره تصوير حالة الخرور في الذهن وما يتصل منه إلى المخرور عليه، تهويلاً وتخويفاً، وكذلك قال:(من بعدي) تصويراً لمعنى نيابة المستخلف، ومزاولة سيرته، وسلوك هديه. ولذلك قال:"ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف من بعده".

ولما كان جل هدي الأنبياء وسمتهم، الدعوة إلى التوحيد، والأمر بالعبادة بالإخلاص، والنهي عن الشرك والرذائل، قال مرة:"ما رأيتم مني من توحيد الله وإخلاص العبادة له"، وأخرى:"من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد، والنهي عن عبادة البقر".

ولما كان ديدن أصحاب الأنبياء محافظة الصلوات، والاعتزال عن ملاذ الدنيا وشهواتها، استشهد بقوله:(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ واتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)[مريم: 59]. فقوله:

ص: 586

يقال: عجل عن الأمر: إذا تركه غير تام، ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره، ويضمن معنى "سبق" فيتعدى تعديته، فيقال: عجلت الأمر، والمعنى: أعجلتم عن أمر ربكم، وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم، فحدَّثتم أنفسكم بموتي، فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"من بعد ما رأيتم مني" بناءً على أن الخطاب مع عبدة العجل، وقوله:"ومن بعد ما كنت أحمل" بناءً على أن الخطاب مع وجوه بني إسرائيل.

قوله: (تم عليه)، الأساس:"تم على أمر: مضى عليه".

ونحوه: عجل عنه، في معنى: شرع فيه، ولم يتم.

"وأعجلته عن استلال سيفه: كلفته أن يعجله".

قوله: (وأعجله عنه غيره): عطف على قوله: "عجل عن الأمر: إذا تركه غير تام".

قوله: (وما وصاكم به) عطف على سبيل البيان على قوله: "عهده". ويؤيده رواية: "ما وصيتم به".

وقوله: "وهو انتظار موسى حافظين لعهده" من كلام المصنف؛ تفسير للأمر، اعتراض بين "أعجلتم" ومتعلقه، وهو:"فبنيتم". ويجوز أن يكون "وما وصاكم به" عطفاً على "أمر ربكم" على أن يكون من كلام موسى عليه السلام، وقوله:"وهو انتظار موسى حافظين لعهده" من كلام المصنف؛ معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، فـ"الأمر" في (أعجلتم أمر ربكم): واحد الأمور والشؤون.

ص: 587

وروي أنّ السامري قال لهم- حين أخرج لهم العجل وقال: (هذا إلهكم وإله موسى)[طه: 88]-: إن موسى لن يرجع، وإنه قد مات.

وروي: أنهم عدّوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين، ثم أحدثوا ما أحدثوا.

(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ): وطرحها لما لحقه من فرط الدهش وشدّة الضجر عند استماعه حديث العجل، غضباً لله وحمية لدينه، وكان في نفسه حديداً شديد الغضب، وكان هارون ألين منه جانباً ولذلك كان أحبَّ إلى بني إسرائيل من موسى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الإمام: (أعجلتم أمر ربكم) أي: ميعاد ربكم، فلم تصبروا له. وعن الحسن: وعد ربكم الذي وعده من الأربعين. وقال عطاء: أعجلتم سخط ربكم؟ .

وهو المراد من قوله: "وهو انتظار موسى حافظين لعهده".

ويجوز أن يراد به: واحد الأوامر، أي: سبقتم ما أمر الله تعالى من انتظاري المدة المضروبة، يعني قول الله تعالى: انتظروا موسى أربعين يوماً حافظين لما وصاكم به، فقوله:"حافظين"، حال من فاعل المصدر المضاف إلى المفعول، وقيل: هو حال من فاعل "أعجلتم"، وليس بشيء.

قوله: (وروي أنهم عدوا عشرين يوماً): روى الإمام عن الحسن: "وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين".

وقلت: هذا الميعاد غير ميعاد الله تعالى لموسى عليه السلام في قوله تعالى: (ووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ)[الأعراف: 142]، لقرب ميعاد موسى قبل مضية إلى الطور، لقوله تعالى:(فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)[الأعراف: 142]. وميعاد القوم عند مضية لقوله تعلى: (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ).

ص: 588

وروي: أن التوراة كانت سبعة أسباعٍ، فلما ألقى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها وبقي منها سبعٌ واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء، وفيما بقي الهدى والرحمة.

(وَأَخَذَ بِرَاسِ أَخِيهِ) أي: بشعر رأسه (يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) بذؤابته، وذلك لشدّة ما ورد عليه من الأمر الذي استفزه وذهب بفطنته، وظنا بأخيه أنه فرط في الكف.

(ابْنَ أُمَّ) قرئ بالفتح تشبيها بـ"خمسة عشر"، وبالكسر على طرح ياء الإضافة، "وابن أمي"، بالياء، "وابن إمِّ" بكسر الهمزة والميم. وقيل: كان أخاه لأبيه وأمّه، فإن صح فإنما أضافه إلى الأم، إشارة إلى أنهما من بطنٍ واحد. وذلك أدعى إلى العطف والرقة، وأعظم للحق الواجب، ولأنها كانت مؤمنة فاعتدَّ بنسبها، ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد، فذكره بحقها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها، وبقي منها سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء، وفيما بقي الهدى والرحمة)، وروى محيي السنة:"فرفع ما كان فيه من أخبار الغيب، وبقي ما فيه من المواعظ والأحكام".

هذه الرواية منافية لما رواه قبل هذا: "أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير، يقرأ الجزء منه في سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى، ويوشع، وعزير، وعيسى".

ورواه محيي السنة عن الربيع بن أنس. وما ذلك إلا من قلة ضبط الرواة، وعدم إتقان الناقلين، جزى الله المحدثين خيراً.

قوله: (ابن أم) قرئ بالفتح)، ابن عامر وأبو بكرٍ والكسائي: بكسر الميم، والباقون: بفتحها.

ص: 589

(إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي) يعني: أنه لم يأل جهداً في كفهم بالوعظ والإنذار، وبما بلغته طاقته من بذل القوة في مضادّتهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلا أن يقتلوه (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ): فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة بي والإساءة إليّ، وقرئ:"فلا يشمت بي الأعداء"، على نهي الأعداء عن الشماتة، والمراد أن لا يحل به ما يشمتون به لأجله، (وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ): ولا تجعلني في موجدتك عليّ وعقوبتك لي قريناً لهم وصاحباً. أو: ولا تعتقد أني واحد من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الزجاج: "من قرأ بالفتح، فلأن كثرة الاستعمال دعا إلى الخفة، وأن النداء مظنة الحذف، فجعلوا "ابن أم" شيئاً واحداً. ومن العرب من يقول: يا ابن أمي، بإثبات الياء".

قوله: (فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الاستهانة)، الراغب:"الشماتة: الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك، يقال: شمت به، فهو شامت، والتشميت: الدعاء للعاطس، كأنه إزالة الشماتة عنه بالدعاء له، فهو كالتمريض في إزالة المرض".

قوله: (في موجدتك)، الأساس:"وجد عليه موجدة: غضب عليه".

قوله: (أو: ولا تعتقد أني واحد من الظالمين) من باب الكناية، والفرق بين الوجهين هو أن في الوجه الأول قيد مطلق قوله:(ولا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ) بحالة الغضب، وإرادة الانتقام.

وفي الوجه الثاني أبقاه على إطلاقه، ولكن جعل "الجعل" بمعنى الاعتقاد من باب قوله تعالى:(وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا)[الزخرف: 19].

ص: 590

لما اعتذر إليه أخوه وذكر له شماتة الأعداء (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي)؛ ليرضي أخاه، ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه، فلا تتم لهم شماتتهم، واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه، ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (واستغفر لنفسه .... ولأخيه إن عسى فرط في حسن الخلافة)، في التركيب إشكال، وهو أن "عسى" تقتضي أن يؤتى لها إما باسمٍ وخبر، وشرط الخبر أن يكون "أن" مع الفعل المضارع. وربما يستعمل بغير "أن" تشبيهاً لها بـ"كاد"، نحو قوله:

عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب

وقد يجئ خبرها اسماً منصوباً، للرجوع إلى أصله المتروك، نحو قولها:"عسى الغوير أبؤساً". وإما بـ"إن" والفعل خاصة، فيستغنى بذلك عن اسمٍ قبلها، نحو:"عسى أن يخرج زيد"، وهي في هذا التركيب غير واقعة على إحدى هذه الصور. فما وجهه؟ فيقال: لا شك أن أفعال المقاربة، وأفعال القلوب، والأفعال الناقصة، تشترك في معنى كونها من دواخل المبتدأ والخبر.

ص: 591

وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته، ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال صاحب "اللباب": "ويتصل بهذه الأفعال "كان" وأخواتها، لأنها لا تتم بالمرفوع كلاماً". تم كلامه.

وكما جاز مجيء "كان" و"ظننت" زائدتين، في نحو قول الشاعر:

وجيرانٍ لنا كانوا كرامٍ

وقولهم: زيد ظني مقيم، كذا هذا، على أن الأخفش أجاز زيادة "كاد" مستدلا بقوله تعالى:(إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا)[طه: 15].

فعلى هذا لا يبعد أن تكون "عسى" في تركيب "الكشاف" زائدة.

المعنى: واستغفر موسى لأخيه أن فرط في حسن الخلافة، ثم أقحم "عسى" لإعطاء تأكيد معنى "إن" الشرطية، وهو الخلو عن الجزم بوقوع الشرط.

قيل: فيه ضمير عائد إلى التفريط، وخبره محذوف، أي: عسى التفريط أن يكون حاصلاً.

قال ابن الحاجب في "شرح المفصل" في "التنازع": "إن خبر "عسى" قد يحذف".

قوله: (ولا تزال - أي: الرحمة - منتظمةً لهما في الدنيا والآخرة): هذا الدوام إنما يعطيه جعل الرحمة كالدار التي يدخلها أهلها وساكنوها، وتقييده بالجملة الاسمية، وهو قوله:

ص: 592

[(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)].

(غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ) الغضب: ما أمروا به من قتل أنفسهم، والذلة: خروجهم من ديارهم، لأنّ ذل الغربة مثلٌ مضروب. وقيل: هو ما نال أبناءهم- وهم بنو قريظة والنضير- من غضب الله تعالى بالقتل والجلاء، ومن الذلة بضرب الجزية.

(الْمُفْتَرِينَ): المتكذبين على الله، ولا فرية أعظم من قول السامري: هذا إلهكم وإله موسى [طه: 88] ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(وأنت أرحم الراحمين)، وهذا من أسلوب قوله:(وأصلح لي في ذريتي)[الأحقاف: 15].

قوله: (الغضب: ما أمروا به من قتل أنفسهم): قال محيي السنة: "هو قول أبي العالية".

وقلت: وهو مأخوذ من قوله تعالى: (فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)[البقرة: 54] وذلك أنه تعالى لما بين أن القوم ندموا على عبادة العجل بقوله: (ولَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ورَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا)، والندم توبة، ولذلك عقبوه بقوله:(لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا ويَغْفِرْ لَنَا)، وذكر غضب موسى على أخيه عليهما السلام ثم استغفاره بقوله:(رَبِّ اغْفِرْ لِي ولأَخِي) - اتجه لسائلٍ أن يقول: يا رب إلى ماذا مصير ندم القوم وتوبتهم واستغفار نبي الله؟ وهل قبل الله توبتهم؟ فأجاب: (إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ)، أي: نعم، قبل توبة موسى وأخيه، وغفر له ولأخيه خاصة، وكان من تمام توبة القوم أن أمرهم الله تعالى بقتل أنفسهم، فوضع (الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ) موضع "القوم" إشعاراً بالعلية، والله أعلم.

ص: 593

ويجوز أن يتعلق (في الحياة الدنيا) بـ"الذلة" وحدها، ويراد: سينالهم غضبٌ في الآخرة، وذلةٌ في الحياة الدنيا، (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) [البقرة: 61].

[(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)].

(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) من الكفر والمعاصي كلها، (ثُمَّ تابُوا): ثم رجعوا، (مِنْ بَعْدِها) إلى الله واعتذروا إليه (وَآمَنُوا) وأخلصوا الإيمان، (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها): من بعد تلك العظائم، (لَغَفُورٌ): لستورٌ عليهم محاءٌ لما كان منهم، (رَحِيمٌ): منعم عليهم بالجنة، وهذا حكمٌ عامٌ يدخل تحته متخذو العجل ومن عداهم.

عظم جنايتهم أولاً ثم أردفها تعظيم رحمته،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ويجوز أن يتعلق (في الحياة الدنيا) بـ"الذلة" وحدها): عطف من حيث المعنى على قوله: "الغضب: ما أمروا به من قتل أنفسهم"، لأنه - على الأول - متعلق بالغضب والذلة معاً.

قوله: (عظم جنايتهم أولاً): يعني جمع (السيئات) وعرفها باللام الاستغراقي، ثم أعادها بعد ذكر التوبة في قوله:(من بعدها)، وعطف "آمنوا" على (تابوا)، تعظيما للذنب، وعقب ذلك بوصف الربوية، ثم أعاد لفظ (بعدها) لشدة العناية، وأردفها بقوله:(لغفور رحيم) ليفيد تلك الفائدة التي ذكرها.

ومثله في المعنى، وتكرير "بعد" للطول، قوله تعالى:(ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأَصْلَحُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النحل: 119].

ص: 594

ليعلم أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجل، ولكن لا بدّ من حفظ الشريطة، وهي وجوب التوبة والإنابة، وما وراءه طمعٌ فارغٌ وأشعبيةٌ باردة، لا يلتفت إليها حازم.

[(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)].

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا وألق الألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء، ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ليعلم أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوة وكرمة أعظم وأجل)، أخذ هذا المعنى من أبي نواس:

يا رب، إن عظمت ذنوبي كثرةً

فلقد علمت بأن عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن

فبمن يلوذ ويستجير المجرم!

قوله: (وما رواءه طمع فارغ) تعريض بأهل السنة، وهم لا يمتنعون في هذه الآية من حفظ تلك الشريطة، لأن التوبة فيها مقترنة بالإيمان، مصحوبة به، والآية بجملتها تذييل لحديث عبدة العجل، وإنما الكلام في توبة المؤمن الموحد المرتكب للمعاصي.

قوله: (هذا مثل) أي: ليس بحقيقة، وهو استعارة مكنية مقارنة بالتخييلية.

شبه الغضب بإنسانٍ يغري موسى عليه السلام ويقول له: افعل كذا وكذا، ثم يترك كلامه، ويترك الإغراء.

ص: 595

كل ذي طبع سليم وذوقٍ صحيح إلا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة:"ولما سكن عن موسى الغضب"، لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهزة، وطرفاً من تلك الروعة؟ ! وقرئ:"ولما سُكِّتَ". و"أُسْكِتَ"، أي: أسكته الله، أو أخوه باعتذاره إليه وتنصله، والمعنى: ولما طفئ غضبه. (أَخَذَ الْأَلْواحَ) التي ألقاها، (وَفِي نُسْخَتِها): وفيما نسخ منها، أي: كتب، والنسخة: فعلة بمعنى: مفعول، كالخطبة (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) دخلت اللام لتقدم المفعول، لأن تأخر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً، ونحوه (لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف: 43] وتقول: لك ضربت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وجعلها صاحب "المفتاح" استعارةً تبعية، لأنه استعار لتفاوت الغضب عن اشتداده إلى السكون، إمساك اللسان عن الكلام.

والظاهر الأول.

قوله: (لا تجد النفس): حال من المجرور في "فما لقراءة معاوية"، كقولك: ما لك لا تضرب؟ !

قوله: (الروعة)، الأساس:"رعته، وروعته، وارتعت منه، وأصابته روعة الفراق. ومن المجاز: فرس رائع: يروع الرائي بجماله. وكلام رائع: رائق".

قوله: (وتنصله) وهو من: تنصل فلان من ذنبه: تبرأ.

قوله: (والنسخة: فعلة)، نون "فعلة" لأنه تابع لموزونها.

ص: 596

[(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِين* وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَامُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)].

(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) أي: من قومه، فحذف الجار وأوصل الفعل، كقوله:

ومنّا الّذى اختير الرّجال سماحةً

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال ابن الحاجب: "هذه الأمثلة وضعت لموزونها أعلاماً، على الإيجاز، نحو: أسامة، على قول"، إلى قوله:"وإن كان موزونها مذكوراً معها، كقولك: وزن قائمة: فاعلة، منهم من يجعل له حكم نفسه، فلا يصرفه، ومنهم من يجعل له حكم الموزون فيصرفه". كذا في هذا المقام، لأن "النسخة" مصروفة.

قوله: (منا الذي اختير الرجال سماحةً): وأنشد الزجاج تمامه:

وجوداً إذا هب الرياح الزعازع

ص: 597

قيل اختار من اثني عشر سبطاً، من كل سبطٍ ستةً، حتى تتاموا اثنين وسبعين، فقال: ليتخلف منكم رجلان، فتشاحوا، فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والبيت للفرزدق.

والزعازع: الرياح الشديدة، والأصل: اختير من الرجال، يصف قومه بالسماحة والجود، في فصل الشتاء، الذي فيه تنقطع الميرة عن أهل البوادي، وتعز الأقوات، ويعدم المرعى، فمن كان يجوز في ذلك الوقت، ففي غيره من الأوقات أجود.

وهو من أبيات "الكتاب".

وقيل: هذا البيت إذا روي: "ومنا" بالواو، يكون ظاهر التقطيع، وإن روي بغيرها يكون أخرم. فنقول: ومن نل / فعولن، لذي اختيرر / مفاعيلن. وكذا نقول: من نل / فعلن، لذي اختيرر / مفاعيلن. والباقي ظاهر.

قوله: (حتى تتاموا)، النهاية:"وفي الحديث: "تتامت إليه قريش"، أي: جاءته متوافرة متتابعة". الأساس: "اجتمعوا، فتتاموا عشرة".

ص: 598

وروي: أنه لم يصب إلا ستين شيخاً، فأوحى الله تعالى إليه أن تختار من الشبان عشرة، فاختارهم فأصبحوا شيوخاً. وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين، قد ذهب عنهم الجهل والصبا، فأمرهم موسى أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى طور سينا، لميفات ربه، وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه وقال للقوم: ادنوا، فدنوا، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سُجداً، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل.

ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه، فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم، فقالوا:(يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)[البقرة: 55]، فقال:(رب أرني أنظر إليك)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ثم انكشف الغمام، فأقبلوا إليه، فطلبوا الرؤية) إلى قوله: (فقال: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ))، هذا التأويل مبني على أن هذه القصة هي القصة الأولى، وهي على خلاف نظم الآيات، وأقوال المفسرين.

أما نظم الآيات فظاهر. قال الإمام: "إنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام، وطلب الرؤية، ثم أتبعها بذكر قصة العجل وما يتصل بها. وظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرةً القصة المتقدمة. ولا يليق بالفصاحة أن يذكر بعض القصة، ثم ينتقل إلى أخرى، ثم يرجع إلى القصة الأولى، فإنه يوجب نوعاً من الاضطراب. والأولى صون كلام الله المجيد عنه.

وأيضاً، إنه تعالى ذكر في القصة الأولى أنه خر موسى صعقاً، وجعل الجبل دكاً. وذكر في شأن القوم أخذتهم الرجفة دون موسى. وكيف يقال: إن أخذته الرجفة، وهو الذي قال:(لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي).

السفهاء؟ ولم يقل لو كانت الرجفة إنما حصلت بسبب طلب رؤيتهم، لقال: أتهلكنا بما يقوله "بما فعل"، والفعل هو عبادة العجل".

ص: 599

يريد: أن يسمعوا الردّ والإنكار من جهته، فأجيب (لن تراني)، ورجف بهم الجبل فصعقوا. ولما كانت الرجعة (قالَ) موسى:(رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ)، وهذا تمنٍّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأي: من تبعة طلب الرؤية، .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: وقال في "البقرة": (وإذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ)[البقرة: 55 - 56]، ولم يذكر فيه صعقة موسى عليه السلام ولا طلب الرؤية منه.

وأما أقوال المفسرين، فقد روى محيي السنة عن السدي أنه قال:"أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً، فلما أتوا ذلك المكان قالوا: (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) [البقرة: 55]، فأخذتهم الصاعقة".

وذكر في القصة الأولى: "أن الله تعالى أنزل ظلمة في سبعة فراسخ: فطرد عنه الشيطان، وهوام الأرض، وكشطت له السماء، فرأى الملائكة قياماً في الهواء، ورأى العرش بارزاً، وكلمه الله، وناجاه، فاستحلى كلام الله، واشتاق إلى رؤيته، فقال: (رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ) ".

وكذا ذكر الواحدي، وابن الأثير في "التاريخ الكامل". ونعوذ بالله من إبطال الحق، وكيد الشيطان، وندعوه تعالى أن يتجاوز عن المصنف بالغفران.

قوله: ((لو شئت أهلكتهم من قبل وإيي)، وهذا تمن منه للإهلاك)، وطريقة إفادته

ص: 600

كما يقول النادم على الأمر إذا رأي: سوء المغبة: لو شاء الله لأهلكني قبل هذا.

(أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) يعني: أتهلكنا جميعاً؟ يعني: نفسه وإياهم، لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء، وهم طلبوها سفهاً وجهلاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التمني أن "لو" لامتناع الشيء لامتناع غيره، فناسبت معنى التمني، لأنها لطلب غير الواقع واقعاً، وضم معها حصول ما يوجب الندم من تبعة طلب الرؤية، كما قال، فالمعنى: ليت مشيئتك تعلقت بإهلاكنا قبل.

وقلت: إنما ذهب إلى هذا المعنى ليوافق ما أسس عليه مذهبه، وهو خلاف الظاهر، لأن "لو" للامتناع، وإنما يتولد معنى التمني إذا اقتضاه المقام، وهاهنا المقام يقتضي ألا يهلكهم حينئذ، لقوله:(أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ)؟

قال محيي السنة: "لما رأوا الهيبة، أخذتهم الرعدة، فرحمهم موسى، وخاف عليهم الموت، واشتد عليه فقدهم، وكانوا له وزراء مطيعين، وذلك قوله:(رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ).

وقال القاضي: "عنى بقوله: (شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم): أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك، بحمل فرعون عليهم، أو إغراقهم في البحر، فترحمت عليهم بالإنقاذ منها، فإن ترحمت عليهم مرة أخرى، لم يبعد من عميم إحسانك".

قوله: (سوء المغبة)، الجوهري:"غب كل شيء: عاقبته. وقد غبت الأمور، أي: صارت إلى أواخرها".

قوله: (يعني: أتهلكنا جميعاً؟ يعني: نفسه وإياهم): يريد أنه استبعد هلاك نفسه لإهلاك القوم، يدل عليه قوله:"لأنه إنما طلب الرؤية زجراً للسفهاء، وهم طلبوها سفهاً".

ص: 601

(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أي: محنتك وابتلاؤك حين كلمتني وسمعوا كلامك، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالاً فاسداً، حتى افتتنوا وضلوا (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ): تُضلّ بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك، وتهدي العالمين بك الثابتين بالقول الثابت. وجعل ذلك إضلالاً من الله وهدىً منه، لأن محنته لما كانت سبباً لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم؛ على الاتساع في الكلام، (أَنْتَ وَلِيُّنا): مولانا القائم بأمورنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال محيي السنة: " (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) يعن: عبدة العجل، ظن موسى أنهم عوقبوا باتخاذ بني إسرائيل العجل".

والظاهر أن الفاء في قوله: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) فصيحة، إذ التقدير: واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا، فحضروا الميقات، وقالوا: أرنا الله جهرة، فأخذتهم الرجفة، فلما أخذتهم الرجفة قال:"رب .... ".

يدل عليه ما في "البقرة": (وإذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ)[البقرة: 55].

قوله: ((إن هي إلا فتنتك) أي: محنتك [وابتلاؤك] حين كلتني وسمعوا كلامك، فاستدلوا بالكلام على الرؤية): قال محيي السنة: " (إن هي إلا فتنتك)، أي: التي وقع فيها السفهاء".

وقال القاضي: "أوجدت في العجل خواراً، فزاغوا به".

ص: 602

(وَاكْتُبْ لَنا): وأثبت لنا واقسم (فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً): عافيةً وحياةً طيبةً وتوفيقاً في الطاعة (وَفِي الْآخِرَةِ) الجنة، (هُدْنا إِلَيْكَ): تبنا إليك. وهاد إليه يهود: إذا رجع وتاب، والهود: جمع هائد، وهو التائب. ولبعضهم:

يا راكب الذّنب هدهد

واسجد كأنّك هدهد

وقرأ أبو وجرة السعدي: "هدنا إليك" بكسر الهاء، من هاده يهيده: إذا حرّكه وأماله. ويحتمل أمرين: أن يكون مبنياً للفاعل والمفعول بمعنى: حركنا إليك أنفسنا وأملناها، أو حرّكنا إليك وأملنا؛ على تقدير: فعلنا، كقولك: عدت يا مريض بكسر العين، فعلت؛ من العيادة. ويجوز:"عدت" بالإشمام، و"عدت" بإخلاص الضمة فيمن قال: عود المريض، وقول القول. ويجوز على هذه اللغة أن يكون (هُدْنا) بالضم: فعلنا؛ من هاده يهيده.

(عَذابِي) من حاله وصفته أني (أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) أي: من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه، ولم يكن في العفو عنه مساغٌ لكونه مفسدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: ثم قوله: (أَنتَ ولِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وارْحَمْنَا وأَنتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ) شروع فيما جاء به وقومه من الاعتذار، على ما سبق قوله عن السدي، "إنه أمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل".

قوله: (ويحتمل أمرين)، أي: القراءة بكسر الهاء.

قوله: ((عذابي) من حاله وصفته أني (أصيب به من أشاء)) إلى آخره، يشير إلى أن هذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وهذا - أعني قوله: (عذابي أصيب به من أشاء

ص: 603

وأمّا "رَحْمَتِي" فمن حالها وصفتها أنها واسعةٌ تبلغ كل شيء، ما من مسلمٍ ولا كافرٍ ولا مطيعٍ ولا عاصٍ إلا وهو متقلبٌ في نعمتي.

وقرأ الحسن: "من أساء" من الإساءة، فسأكتب هذه الرحمة كتبةً خاصةً منكم - يا بني إسرائيل - للذين يكونون في آخر الزمان من أمّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ورحمتي وسعت كل شيءٍ) - كالتمهيد للجواب، والجواب:(فسأكتبها).

طلب موسى عليه السلام الغفران والرحمة والحسنة في الدارين، لنفسه ولأمته خاصة، بقوله:(واكتب لنا)، وتعليله بقوله:(إنا هدنا إليك). وأجابه تعالى: بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة، فإن عذابي من شأنه أنه تابع لمشيئتي، فإن أمتك، لو تعرضوا لما اقتضى الحكمة تعذيب من باشره، لا ينفعهم دعاؤك لهم، وإن رحمتي من شأنها أن تعم الخلق: صالحهم وطالحهم، مؤمنهم وكافرهم، فتخصيصك لأمتك بقوله:(واكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً)[الأعراف: 156] تحجر للواسع.

قوله: (فسأكتب هذه الرحمة كتبةً خاصة منكم يا بني إسرائيل)، "من" في "منكم": للذين يكونون.

وشاهد الاختصاص ترتب (فسأكتبها) على الأوصاف المتواليات، ومنها قوله:(الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ) الآية. ولا شك أن الموصوف بها لم يوجد إلا في زمن نبي الرحمة صلوات الله عليه ممن آمن منهم.

وأما تطبيق هذا الكلام على دعاء موسى عليه السلام فإن قوله: (فسأكتبها) كالقول بالموجب، لأنه عليه السلام جعل العلة الوصف بكونهم تائبين راجعين من الذنوب إليه، بقوله:(إنا هدنا إليك). ولما لم يكن الوصف كافياً قرره وضم معه الوصف بالتقوى،

ص: 604

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبأداء الزكاة، والإيمان بجميع الكتب المنزلة، وسائر الآيات، ومتابعة النبي الأمي، حبيبه صلوات الله عليه.

يعني: الذي يوجب اختصاص الحسنتين معاً هذه الصفات المتعددة، لا التوبة المجردة، وجعل قوله:(عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) تمهيداً وتوطئة للجواب.

يعني: أن الحسنة الدنيوية عامة، فلا تختص بأمتك، فإن المؤمن والكافر، والبر والفاجر، يعيشون برحمته، وأما الحسنة الأخروية فمختصة بالمتقين، كما أن عذابي مصيب لمن لم يكن متقياً. ثم رتب على هذا التقرير بالفاء قوله:(فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) إلى آخره.

وهو على منوال قوله تعالى جواباً عن قول إبراهيم عليه السلام: (ومن ذريتي)، أي: اجعل من ذريتي للناس إماماً (قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[البقرة: 124].

ويؤيد هذا التقرير ما روى محيي السنة عن الحسن وقتادة: "وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر، وهي يوم القيامة للمتقين خاصة".

وأما قضية النظم فهو أنه تعالى لما أورد في هذه السورة قصص الأنبياء، وأحوال القرون الماضية، ومن جملتها قصة موسى عليه السلام، وأراد أن يتخلص منها إلى مدح سيد المرسلين، وقائد الغر المحجلين، حكى من موسى هذا الدعاء، ليورد عليه الجواب على

ص: 605

الذين هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكفرون بشيءٍ منها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأسلوب الحكيم، ويجعله تخلصاً إلى ذكر أمته صلي الله عليه وسلم ثم يتخلص من ذكرهم إلى مدحه صلوات الله عليه.

ولهذا قال صاحب "المثل السائر": "هذا من التخلصات الفائقة التي تسكر العقول، وتحير الأوهام".

وقلت: ما أحسن تعقيبه بقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا)!

يعني: اسمعوا، أيها اليهود خاصة، هذا الدعاء والإجابة، واعلموا أن نبيكم وكتابكم شاهدان بأن اختصاص الحسنتين إنما يكون بالتقوى، وبمتابعة النبي الأمي المكتوب اسمه في التوراة والإنجيل، وهو تبكيت لليهود، وتنبيه لسائر الناس على افتراء اليهود أنه مبعوث إلى العرب خاصة. وذلك أن بعض اليهود كانوا يقولن: إنه مبعوث إلى العرب خاصة.

قال الزجاج: "هذا أبلغ الاحتجاج عليهم، لأنه إخبار بما في كتبهم. فمن لم يكتب، ولم يقرأ، ولم يسمع، فإيتاؤه بما في كتبهم من آياته العظام".

قوله: (هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون، لا يكفرون بشيءٍ منها) دل على الاختصاص:

ص: 606

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ) الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به، وهو القرآن، (النَّبِيَّ): صاحب المعجزات، (الَّذِي يَجِدُونَهُ): يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بني إسرائيل، (مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ)، (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ): ما حُرِّم عليهم من الأشياء الطيبة، كالشحوم وغيرها، أو ما طاب في الشريعة والحكم، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التقديم، وعلى الاستغراق: جميع الآيات، وإضافتها إلى الله، وكون الكلام تعريضاً ببعض أمة موسى، وهم الذين أومى إليهم بقوله:(عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ) والله أعلم.

قوله: ((النبي): صاحب المعجزات)، إشارة إلى أنه تعالى جمع بين ذكر الرسول والنبي في الوصف، ولابد من المخالفة بين مفهوميهما، وذكر في سورة "مريم" أن "الرسول: هو الذي معه كتاب من الأنبياء، والنبي: الذي ينبئ عن الله، وإن لم يكن معه كتاب"، وإلى الأول الإشارة بقوله: (الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به"، وإلى الثاني بقوله:" (النبي): صاحب المعجزات"، لأنه لابد لكل من ادعى النبوة من معجزة، ليثبت دعواه بها.

قال الزجاج في قصة "شعيب": "وقد أخطأ القائل بقوله: لم يكن لشعيبٍ آية. ولو ادعى مدعٍ النبوة بغير آية، لم يقبل منه".

قال القاضي: "إنما سماه رسولاً بالإضافة إلى الله، ونبياً بالإضافة إلى العباد".

قوله: (أو ما طاب في الشريعة والحكم) عطف على قوله: "ما حرم عليهم من الأشياء"، والطيبات: إما بحسب ملاءمة الطبع من الأشياء المستلذة. وهي ما حرم الله عليهم، من

ص: 607

مما ذُكر اسم الله عليه من الذبائح، وما خلى كسبه من السحت، (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ): ما يستخبث من نحو الدم والميتة ولحم الخنزير، وما أُهِلّ لغير الله به، أو ما خبث في الحكم، كالربا والرشوة وغيرهما من المكاسب الخبيئة.

الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أي: يحبسه من الحراك لثقله، وهو مثلٌ لثقل تكليفهم وصعوبته، نحو: اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم، وكذلك الأغلال، مثلٌ لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة، نحو: بت القضاء بالقصاص عمداً كان أو خطأً من غير شرع الدية، وقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم، وتحريم السبت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لحوم الإبل، والشحوم، وغيرها. وإما بحسب الشرع والحكم، وهو إما في المأكول أو في غيره.

وإلى الأول أشار بقوله: "مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح"، وإلى الثاني بقوله:"وما خلا كسبه من السحت".

وأما "الخبائث" فهو: إما بحسب استخباث العقل، كالدم والميتة، وإما بحسب الحكم، كالربا والرشوة.

والطيبات - على التفسير الثاني - هو أحرى، لاقتضاء المقام، لأن قوله:(ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) عطف على قوله: (يَامُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ). والجملة بيان لكونه صلوات الله عليه نبياً مكتوباً في التوراة والإنجيل، لأن النبي هو الواضع للحكم والشريعة.

قوله: (من الحراك)، الجوهري:"ما به حراك، أي: حركة".

قوله: (الأغلال: مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة): قال الزجاج: "الأغلال: تمثيل. ألا ترى أنك تقول: "قد جعلت هذا طوقاً في عنقك، وليس هناك طوق.

ص: 608

وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم، وربما ثقب الرجل ترقوته، وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة. وقرئ:(آصارهم) على الجمع.

(وعزروه): ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدو، وقرئ بالتخفيف، وأصل العزر: المنع، ومنه:"التعزير": الضرب دون الحد، لأنه منعٌ من معاودة القبيح، ألا ترى إلى تسميته الحد، والحد هو المنع. و (النور): القرآن.

فإن قلت: ما معنى قوله: (أُنزل معه)، وإنما أُنزل مع جبريل؟ قلت: معناه أنزل مع نبوته، لأن استنباءه كان مصحوباً بالقرآن مشفوعاً به. ويجوز أن يعلق بـ (اتبعوا).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وإنما تأويله: إني قد وليتك هذا، وألزمتك القيام به، فجعلت لزومه لك كالطوق في عنقك".

قوله: ("آصارهم" على الجمع) هذه قراءة ابن عامر.

قوله: (الضرب دون الحد)، أي: الضرب الذي هو دون الحد، وسمي تعزيراً لكونه مانعاً من المعاودة، كما سميت العقوبة المعينة على ارتكاب المناهي الشرعية "حداً"، لكونه مانعاً أيضاً.

قوله: (معناه: أنزل مع نبوته). علق (معه) تارةً بـ (أنزل)، وأخرى بـ (اتبعوا)، فعلى الأول هو حال من الضمير في (أنزل)، والمضاف مقدر. المعنى: اتبعوا النور الذي أنزل

ص: 609

أي: واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته وبما أمر به ونهى عنه، أو: واتبعوا القرآن كما اتبعه، مصاحبين له في اتباعه.

فإن قلت: كيف انطبق هذا الجواب على قول موسى عليه السلام ودعائه؟ قلت: لما دعا لنفسه ولبني إسرائيل، أجيب بما هو منطوٍ على توبيخ بني إسرائيل على استجازتهم الرؤية على الله تعالى وعلى كُفرهم بآيات الله العظام التي أجراها على يد موسى، وعُرِّض بذلك في قوله:(وَالَّذِينَ هُم بِآَياتِنا يؤمنون)، وأريد أن يكون استماع أوصاف أعقابهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به، كعبد الله بن سلامٍ وغيره من أهل الكتابين لُطفاً لهم وترغيباً في إخلاص الإيمان والعمل الصالح، وفي أن يُحشروا معهم، ولا يفرق بينهم وبين أعقابهم عن رحمة الله التي وسعت كل شيء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصحوباً معه نبوته. يعني: أن حكم ثبوت نبوته نزل من السماء، وهو مشفوع بهذا النور، وإنما سمي القرآن نوراً لأنه بإعجازه ظاهر في نفسه، مظهر لغيره، كاشف للحقائق، مجل لظلمات الباطل.

وعلى الثاني يكون ظرفاً لـ (اتبعوا)، فيكون كل واحد من النور والنبي مستقلاً بالإتباع. وقد أشير به إلى متابعة الكتاب والسنة. ومن ثم قال:"مع إتباع النبي، والعمل بسنته".

ويجوز أن يكون (معه) حالاً من فاعل: (اتبعوا)، أي: اتبعوا القرآن مصاحبين للرسول صلي الله عليه وسلم في متابعته.

قوله: (كيف انطبق هذا الجواب - يعني: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ) إلى آخره - على قول موسى؟ )، يريد:(واكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ إنَّا هُدْنَا إلَيْكَ). بدليل قوله في الجواب: "لما دعا لنفسه ولبني إسرائيل"، يعني: كيف دعا نبي الله لنفسه ولبني إسرائيل بالخير، وأجيب بما فيه التهديد والتوبيخ؟ فما وجه المطابقة؟ .

ص: 610

[(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)].

(إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) قيل: بعث كل رسول إلى قومه خاصة وبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى كافة الإنس وكافة الجن. و (جميعاً): نصبٌ على الحال من (إليكم).

فإن قلت: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ما محله؟ قلت: الأحسن أن يكون منتصباً بإضمار "أعني"، وهو الذي يسمى النصب على المدح، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وخلاصة الجواب: أنه من الأسلوب الحكيم، وأن التهديد والتوبيخ توطئة للجواب. والجواب قوله:(فسأكتبها)، وهو كالقول بالموجب، كما سبق.

وفائدة الجواب بعد التوبيخ إرادة اللطف في حقهم، والانزجار عن ارتكاب المعاصي، والترغيب في إخلاص الإيمان، والعمل الصالح، كأعقابهم الذين اتبعوا النبي الأمي، ليندرجوا في زمرتهم، حتى لا يفرق بينهم وبينهم عن رحمة الله.

فالجواب منطوٍ على الترهيب والترغيب، والتخلية بعد التحلية.

فقوله: "وأريد أن يكون" عطف على قوله: "أجيب"، وكلاهما جواب "لما".

وقوله: "وعرض" متعلق بـ"منطوٍ على توبيخ بني إسرائيل" يعني: قوله: (والذين هم بآياتنا يؤمنون) قرينة لإرادة التوبيخ، بقوله:(عذابي أصيب به من أشاء) للذين كفروا بآيات الله، واستجازوا الرؤية، على سبيل التعريض.

قوله: (الأحسن أن يكنو منتصباً بإضمار "أعني"): فإن قلت: القول إنما كان أحسن، لأنه لم يلزم منه الفصل بين الصفة والموصوف، كما قيل. قلت: لا أبالي به، إذا ساعدت عليه

ص: 611

ويجوز أن يكون جراً على الوصف، وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله:(إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)، وقوله:(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) بدلٌ من الصلة التي هي (لهُ مُلْكُ السَّمَاوَات وَالأَرْضِ)، وكذلك (يُحيِ وَيُمِيتُ)، وفي (لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) بيانٌ للجملة قبلها، لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة، وفي (يُحيِ وَيُمِيتُ) بيانٌ لاختصاصه بالإلهية،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفخامة، وإنما الفخامة مع الأول، لاستقلاله جملةً مؤذنة بأن المذكور علم فيه، أي: اذكر من لا يخفى شأنه عند الموافق والمخالف، بخلاف الوصف، وإن كانت أوصاف الله جاريةً على المدح.

قوله: ((لا إله إلا هو): بدل من الصلة): اعلم أن في قوله: " (لا إله إلا هو) بيان للجملة قبلها"، بعد قوله:" (لا إله إلا هو) بدل من الصلة"، وكذا قوله:" (يحي ويميت) بيان لاختصاصه" بعد قوله: "وكذلك: (يحي ويميت) " أي: بدل، إيذاناً بأن البدل بيان، وأن قوله:(له ملك السموات والأرض) مشتمل على معنييهما إجمالاً. وذلك أن مالك السموات والأرض هو الإله على الحقيقة، (ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [لقمان: 25].

ومن كان إلهاً على الحقيقة، كان محيياً ومميتاً، لأن غير الإله الحقيقي لا يقدر عليهما، (قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ) [البقرة: 258].

فالوجه أن يقال: إن مالك السموات والأرض، فيه دلالة على أنه ينبغي أن يكون [متصرفاً فيهما] تصرفاً تاماً، وألا يكون متصرفاً فيهما غيره، لقوله تعالى:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)[الأنبياء: 22].

وإلى الأول الإشارة بقوله: (يحي ويميت). وإلى الثاني بقوله: (لا إله إلا هو).

ص: 612

لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره، (وَكَلِماتِهِ): وما أنزل عليه وعلى من تقدّمه من الرسل من كتبه ووحيه- وقرئ: "وكلمته" على الإفراد، وهي القرآن-، أو أراد جنس ما كلم به. وعن مجاهد: أراد عيسى بن مريم.

وقيل: هي الكلمة التي تكوَّنَ منها عيسى وجميع خلقه، وهي قوله:"كُنْ"، وإنما قيل: إن عيسى كلمة الله، فخُص بهذا الاسم، لأنه لم يكن لكونه سببٌ غير الكلمة، ولم يكن من نُطفةٍ تمنى، (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ): إرادة أن تهتدوا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وعن مجاهد: أراد عيسى ابن مريم): روينا عن البخاري عن عبادة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة، على ما كان من العمل".

وقلت: إن القول بأن عيسى كلمة الله على ما هو عليه، مختص بالمسلم لا غير.

قال القاضي: "أريد بالكلمة عيسى تعريضاً باليهود، وتنبيهاً على أن من لم يؤمن به لم يعتبر إيمانه.

قوله: (إرادة أن تهتدوا): قال القاضي: "جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين، تنبيهاً على أن من صدقه، ولم يتابعه بالتزام شرعه، فهو يعد في خطط الضلالة".

ص: 613

فإن قلت: هلا قيل: "فآمنوا بالله وبي"، بعد قوله:(إني رسول الله إليكم)؟ قلت: عدل عن المضمر إلى الاسم الظاهر لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه، ولما في طريقة الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم أنّ الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، كائناً من كان، أنا أو غيري، إظهاراً للنصفة وتفادياً من العصبية لنفسه.

[(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وليعلم أن الذي وجب الإيمان به وإتباعه هو هذا الشخص المستقل): هذا يجوز أن يكون فائدة ثالثة مستقلة للعدول، فيكون من باب التجريد، يعني أنه صلي الله عليه وسلم خاطبهم بقوله:(إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا)، فلما أراد أن يدعوهم إلى متابعته، جرد عن نفسه الزكية (النبي الأمي)، الموصوف بما يجب على كل أحدٍ متابعته، كأنه قال: لا أدعي أني ذلك الموصوف، فانظروا من هو، فاتبعوه كائناً من كان، ، أنا أو غيري.

والخطاب على سبيل الاستدراج.

ومعنى الاستقلال يفيده التجريد، كقولهم:"مررت بالرجل الكريم، والنسمة المباركة".

قوله: (كائناً من كان): حال من المشار إليه، وهو "الشخص المستقل"، والعامل معنى اسم الإشارة، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في "المستقل".

قال الخطيب بن زكريا: الحال قد يكون فيها معنى الشرط، كما أن الشرط فيه معنى

ص: 614

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحال، فالأول: لأفعلنه كائناً من كان، أي: إن كان هذا وإن كان هذا، والثاني: كقول عمرو ابن معدي كرب:

ليس الجمال بمئزر

فاعلم وإن رديت بردا

أي: ليس جمالك بمئزرٍ مردى معه برداً.

قال بعض الأدباء: كيف يكون ذو الحال مشخصاً محدداً والحال غير محددٍ؟ قلت: ليس ذو الحال بمحدد، إذ المراد بقوله:"هذا الشخص المستقل" هذا هو الموصوف الذي ميز بتلك الصفات التي أجريت عليه، وجعلته كالمشخص المعين، ونظيره قول الحامد:(إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فإنه بعد إجراء تلك الصفات على اسم الذات كأنه اعتمد أنه عز وجل كالمشاهد الحاضر يخاطبه بقوله:(إياك)، على أنه من الجائز أن يقال: اضرب زيداً كائناً من كان، قلنا: ليس ذو الحال بمحددٍ، مع أن المراد به رسول الله صلي الله عليه وسلم ليستقيم الذهاب إلى التجريد. وأنشد أبو علي:

أفاءت بنو مروان ظلماً دماءنا

وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل

قال ابن جني: "وهو تعالى أعرف المعارف، وقد سماه الشاعر: حكماً عدلاً، فأخرج اللفظ مخرج التنكير، فقد ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف".

وأنشد المصنف - مستشهداً لقراءة من قرأ: "فكانت وردة كالدهان"[الرحمن: 37] بالرفع - قول القائل:

فلئن بقيت لأرحلن بغزوة

تحوي الغنائم أو يموت كريم

ص: 615

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ): هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل، لما ذكر الذين تزلزلوا منهم في الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين: عبادة العجل واستجازة رؤية الله تعالى، ذكر أنّ منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم، وبالحق يعدلون بينهم في الحكم لا يجورون، أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به من أعقابهم. وقيل: إنّ بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبطٌ منهم مما صنعوا واعتذروا، وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم، ففتح الله لهم نفقاً في الأرض، فساروا فيه سنةً ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين، وهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا.

وذُكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل ذهب به ليلة الإسراء نحوهم، فكلمهم فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمد النبي الأمي، فآمنوا به وقالوا: يا رسول الله، إن موسى أوصانا: من أدرك منكم أحمد، فليقرأ عليه مني السلام،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لما ذكر الذين تزلزلوا منهم في الدين) إلى آخره: يريد أن قوله: (وقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا) معطوف على ما سبق من قصص بني إسرائيل عطف نوع قصةٍ على مثله.

وقوله تعالى: (ومِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ) مستطرد لبيان أن بعضهم ثبتوا على الحق، كما سبق في "آل عمران"، في قوله تعالى:(ولَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ)[أل عمران: 110].

ص: 616

فردّ محمد على موسى عليهما السلام السلامَ، ثم أقرأهم عشر سورٍ من القرآن نزلت بمكة، ولم تكن نزلت فريضةٌ غير الصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون، فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت.

وعن مسروقٍ: قرئ: بين يدي عبد الله فقال رجل: إني منهم، فقال عبد الله- يعني: لمن كان في مجلسه من المؤمنين- وهل يزيد صلحاؤكم عليهم شيئاً؟ من يهدي بالحق وبه يعدل؟

وقيل: لو كانوا في طرف من الدنيا متمسكين بشريعة ولم يبلغهم نسخها كانوا معذورين. وهذا من باب الفرض والتقدير،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فقال رجل: إني منهم) أي: ممن عمل عملهم، لا: أنا من نسلهم.

قوله: (من يهدي بالحق، وبه يعدل؟ )، الجملة استفهامية. قال أولاً:"هل يقدر صلحاؤكم أن يزيدوا على عملهم شيئاً؟ "، ثم استأنف على الإنكار، قائلاً: من الذي على صفتهم منكم؟ من يهدي بالحق كما هدوا؟ ومن يعدل كما عدلوا؟

قوله: (وقيل: لو كانوا في طرفٍ من الدنيا): يعني: يمكن أن تحمل الآية على أنه لو قدر وفرض أن يكون من قوم موسى أمة هذه صفتهم، لجاز، وكانوا على الحق، لأنهم معذورون. فقوله:"وقيل: لو كانوا" عطف على قوله: "وقيل: إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم".

والحاصل أنه حمل قوله: (ومن قوم موسى) أنه على وجوه:

أحدها: أنهم وجدوا في زمن موسى عليه السلام.

وثانيها: أنهم حدثوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 617

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وثالثها: حصلوا في زمن من الأزمنة.

ورابعها: ما وجدوا، ولكن فرض لو كانوا في طرف من الدنيا، إلى آخره.

وأقرب الوجوه - والعلم عند الله - الثاني، وذلك أنه تعالى لما أجاب عن دعاء موسى عليه السلام بقوله:(فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) إلى قوله: (يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ)[الأعراف: 156 - 157]، وقد سبق أن قوله:(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا) تبكيت لليهود، وتنبيه لسائر الناس على افتراء اليهود بأنه مبعوث إلى العرب خاصة، وقوله:(فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ)[الأعراف: 158] إظهار للنصفة، عقبه بقوله:(ومِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ): يعني أن بعض هؤلاء الذين حكينا منهم ما حكينا آمنوا، وأنصفوا من أنفسهم، ويهدون الناس بكلمة الحق، من أنه الرسول الموعود، النبي الأمي، الذي نجده في التوراة. ويعدلون في الحكم، ولا يجورون، ولكن أكثرهم ما أنصفوا، ولبسوا الحق بالباطل، وكتموه، وجاروا في الأحكام، فيكون ذكر هذه الفرقة تعظيماً بالأكثر.

وهاهنا تم الكلام في جواب موسى عليه السلام عن دعائه وما يتصل به، ثم عاد إلى قصة القوم، فيكون قوله:(وقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا)[الأعراف: 160] عطفاً على قوله: (وجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ البَحْرَ)[الأعراف: 138]، وقوله:(ووَاعَدْنَا مُوسَى)[الأعراف: 142]، وقوله:(واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى)[الأعراف: 148].

ص: 618

وإلا فقد طار الخبر بشريعة محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى كل أفق، وتغلغل في كل نفق، ولم يبق الله أهل مدرٍ ولا وبر، ولا سهلٍ ولا جبل، ولا برٍّ ولا بحر، في مشارق الأرض ومغاربها، إلا وقد ألقاه إليهم، وملأ به مسامعهم، وألزمهم به الحجة، وهو سائلهم عنه يوم القيامة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويعضده ما ورد في "البقرة" من قوله: (وإذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البَحْرَ)[البقرة: 50]، (وإذْ واعَدْنَا مُوسَى) [البقرة: 51]، وقوله:(وإذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ [يا قوم] إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ)، وقوله:(وإذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ)[البقرة: 60] إجمال لقوله: (وقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا)[الأعراف: 160].

وأنت إذا أمعنت النظر، وجدت ما في هذه السورة كالتفصيل لما هنالك، وعثرت أيضاً على أن مقام (لن تراني) [الأعراف: 143] غير مقام: (أرنا الله جهرةً)[النساء: 153].

وقد ذكرنا في سورة "هود" قانوناً لوجه الموازنة بين القصص المذكورة في التنزيل، فلينظر هناك، والله أعلم.

قوله: (تغلغل)، الجوهري:"تغلغل الماء في الشجر: إذا تخللها".

قوله: (ولا بر ولا بحر): البر: البوادي، والبحر: القرى والمدن.

النهاية: "العرب تسمي المدن والقرى: البحار".

ص: 619

[(وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)].

(وَقَطَّعْناهُمُ): وصيرناهم قطعاً، أي: فرقاً، وميزنا بعضهم من بعضٍ لقلة الألفة بينهم. وقرئ:"وقطعناهم" بالتخفيف، (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) كقولك اثنتي عشرة قبيلةً. والأسباط: أولادُ الولد، جمع سبط، وكانوا اثنتي عشرة قبيلةً من اثني عشر ولداً من ولد يعقوب عليه السلام.

فإن قلت: مميز ما عدا العشرة مفرد، فما وجه مجيئه مجموعاً؟ وهلا قيل: اثني عشر سبطاً؟ قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأنّ المراد: وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلةً، وكل قبيلةٍ أسباطٌ لا سبط، فوضع (أَسْبَاطاً) موضع "قبيلة"، ونظيره: .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لم يكن تحقيقاً، لأن المراد)، اللام في قوله:"لأن المراد" يجوز أن يكون صلة "تحقيقاً"، وأن يكون تعليلاً لقوله:"ولو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً".

قوله: (وكل قبيلةٍ أسباط لا سبط): توضيح ذلك ما ذكره في "الحجرات": "القبيلة تجمع العمائر، والعمائر تجمع البطون، والبطن تجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، كنانة: قبيلة، قريش: عمارة، وقصى: بطن، وهاشم: فخذ، والعباس: فصيلة".

فلو قيل: اثنا عشر سبطاً، لأوهم أن المجموعة قبيلة واحدة، والمراد اثنتا عشرة قبيلة. فوضع "أسباطاً" موضع قبيلة.

ذهب الجوهري والزجاج وأبو البقاء إلى أن (أسباطاً): بدل من (اثنتى عشرة)، وليس

ص: 620

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تفسيراً لها، لأن التفسير لا يكون إلا واحداً منكوراً، كقولك: اثني عشر درهماً، ولا يجوز: دراهم.

وقلت: نص المصنف في قوله تعالى: (ثالث مائةٍ سنين)[الكهف: 25] في قراءة حمزة والكسائي على الإضافة، أنه "وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، كقوله تعالى: (بالأخسرين أعمالاً) [الكهف: 103] "

وقال ابن الحاجب في "شرح المفصل": "ذهب الزجاج على أن (سنين) في هذه القراءة: بدل لا تمييز، لما يلزم على التمييز أن يكونوا قد لبثوا تسع مئة سنة، قال: "ووجهه أنه فهم من لغة العرب أن مميز المئة واحد من مئة، فإذا قلت: مئة رجل، فمميزها رجل، وهو واحد من المئة. وإذا قلت: مئة سنين، فيكون "سنين" واحداً من المئة، وهي ثلاث مئة، وأقل السنين ثلاثة، فيجب أن يكون لبثهم تسع مئة سنة. وهذا يطرد في (اثنتى عشرة أسباطاً) فيلزم على التمييز أن يكونوا ستة وثلاثين سبطاً".

ثم قال ابن الحاجب: "ما ذكره الزجاج غير لازم، لأن ذلك إنما يلزم إذا كان المميز مفرداً، وأما إذا كان جمعاً، فيكون القصد فيه كالقصد في وقوع التمييز جمعاً، في نحو: ثلاثة أثواب، على أنه قد تقرر أن الأصل في جميع المميزات الجمع، وإنما عدل إلى المفرد لغرض، فإذا استعمل على الأصل في جميع المميزات، لا على الوجه الذي ألزمه الزجاج".

ص: 621

بين رماحي مالك ونهشل

و(أُمَماً) بدلٌ من (اثنتي عشرة) بمعنى: وقطعناهم أمماً، لأنّ كل أسباطٍ كانت أمةً عظيمةً وجماعةً كثيفة العدد، وكل واحدةٍ كانت تؤمُّ خلاف ما تؤمّه الأخرى، لا تكاد تأتلف. وقرئ:"اثنتي عشرة" بكسر الشين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بين رماحي مالكٍ ونهشل): أوله:

تبقلت في أول التبقل

تبقلت الماشية: إذا رعت النبات أول ما نبت. ومالك: هو ابن ضبيعة. ونهشل: هو ابن دارم، من أمراء العرب.

يصف رمكةً مرتاضة، اعتادت ممارسة الحرب.

إنما ثنى الرماح، وهي جمع، لأن كل فرد من هذه التثنية يراد به جماعة من الرماح، كما يراد بكل فردٍ من أفراد هذا الجمع - وهو (أسباطاً) - قبيلة.

ص: 622

(فَانْبَجَسَتْ): فانفجرت، والمعنى واحدٌ، وهو الانفتاح بسعة وكثرة: قال العجاج:

وكيف غربي دالج تبجّسا

فإن قلت: فهلا قيل: فضرب فانبجست؟ قلت: لعدم الإلباس، وليجعل الانبجاس مسبباً عن الإيحاء بضرب الحجر، للدلالة على أنّ الموحى إليه لم يتوقف عن اتباع الأمر، وأنه من انتفاء الشك عنه بحيث لا حاجة إلى الإفصاح به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكيف غربي دالجٍ تبجسا) أوله:

وانحلبت عيناه من فرط الأسى

الو كيف: القطر. يقال: وكف البيت وكفاً ووكيفاً، أي: قطر، وهو صفة مصدرٍ محذوف، أي: انحلبت انحلاباً مثل انحلاب وكيف.

الدالج: الذي يحمل الراوية. وقيل: الذي يأخذ الدلو ويمضي بها من رأس البئر إلى الحوض، حتى يفرغها فيه.

شبه عينيه بدلوٍ هذه صفته، من شدة البكاء والحزن.

قوله: (وليجعل الانبجاس مسبباً عن الإيحاء بضرب الحجر): والحاصل أن الفاء في (فانبجست) فصيحة. مضى الكلام فيه في "البقرة".

ص: 623

وقوله: (كُلُّ أُناسٍ): نظير قوله: (اثنتي عشرة أسباطاً)، يريد كل أمّةٍ من تلك الأمم الثنتي عشرة. و"الأناس": اسم جمعٍ غير تكسير، نحو: رخالٍ، وثناءٍ، وتؤامٍ، وأخواتٍ لها. ويجوز أن يقال: إن الأصل الكسرة والتكسير، والضمة بدل من الكسرة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يريد أن الانبجاس في الحقيقة مسبب عن "فضرب" الذي هو امتثال الأمر، فجعل مسبباً عن قوله:(فقلنا اضرب) الذي هو الإيحاء بضرب الحجر، ليدل على سرعة امتثال المأمور، وأن اتباعه الأمر بحيث لا حاجة أن يقال:"فضرب".

فالضمير في "أنه من انتفاء الشك" للضرب، أي: الضرب استقر وثبت من جهة انتفاء الشك، بحيث لا حاجة إلى ذكره.

قوله: ((كل إناسٍ) نظير قوله: (اثنتى عشرة أسباطاً)): يعني: جمع ليبين أن المراد كل فرقةٍ وجماعة، كما جمع "أسباطاً"، إذ لو قيل: كل أناس، لم يكن تحقيقاً للمراد.

قوله: (والأناس: اسم جمعٍ): يعني: ليس "أناس" جمع "إنس" على التكسير، بل اسم جمع، كالقوم.

قوله: (نحو: رخالٍ، وثناءٍ، وتؤامٍ، وأخواتٍ لها): وهي: رذال، ونذال، وبساط، وظهار، وبراء، ورباب، وظؤار، وعراق، وفرار، وعرام.

وقد نظمها المصنف، فقال:

ما سمعنا كلماً غير ثمانٍ

هي جمع، وهي في الوزن فعال

فرباب وفرار وتؤام

وعرام وعراق ورخال

وظؤار جمع ظئر، وبساط

جمع بسط، هكذا فيما يقال

ص: 624

كما أبدلت في نحو: سكارى وغيارى، من الفتحة. (وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ): وجعلناه ظليلاً عليهم في التيه، و (كُلُوا) على إرادة القول، (وَما ظَلَمُونا): وما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم، ولكن كانوا يضرون أنفسهم. ويرجع وبال ظلمهم إليهم.

[(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ* فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرخل: الأنثى من ولد الضأن، والجمع: رخال، بكسر الراء وضمها. وثناء: جمع ثني. وتؤام: جمع تؤأم، على فوعل. ورذال كل شيء: رديئه، واحده: رذل. ونذال: جمع نذل، وهو الخسيس. وبساط: جمع بسط - بكسر الباء - وهي: الناقة تخلى مع ولدها لا يمنع منها. والظهار، بالضم: ما جعل من عسيب السهام. والبراء: جمع البرأة، بالضم، وهي: قترة الصائد. والرباب: جمع ربي، على فعلى، بالضم: وهي الشاة التي وضعت حديثاً، وفي "الصحاح":"ربي" مقصور مشدد مضموم الراء. وظؤار: جمع ظئر. والعراق: جمع عرق، بفتح العين: العظم الذي أخذ عنه اللحم. والعرام: بمعناه. وفرار: جمع فرير: ولد البقر الوحشية. وقيل: واحد، مثل: طويل وطوال.

قوله: (غيارى)، الجوهري:"جمع غيران. يقال: غيران، وغيور".

ص: 625

(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ): واذكر إذ قيل لهم، والقرية: بيت المقدس.

فإن قلت: كيف اختلفت العبارة هاهنا وفي سوره البقرة؟ قلت: لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض. ولا تناقض بين قوله: (اسكنوا هذه القرية وكلوا منها) وبين قوله: (فكلوا)[البقرة: 58] لأنهم إذا سكنوا القرية فتسببت سكناهم للأكل منها، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، وسواءٌ قدّموا "الحِطَّة" على دخول الباب أو أخروها، فهم جامعون في الإيجاد بينهم، وترك ذكر "الرغد" لا يناقض إثباته، وقوله:(نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) موعدٌ بشيئين: بالغفران وبالزيادة، وطرح الواو لا يُخلّ بذلك، لأنه استئنافٌ مرتبٌ على تقدير قول القائل:وماذا بعد الغفران؟ فقيل له: (سنزيد المحسنين)، وكذلك زيادة (مِنْهُمْ) زيادةُ بيان، و"أرسلنا"، و"أنزلنا"، و (يَظْلِمُونَ) و (يَفْسُقُونَ) من وادٍ واحدٍ.

وقرئ: "يغفر لكم خطيئاتكم"، "وتغفر لكم خطاياكم"، و"خطيئاتكم"، و"خطيئتكم"، على البناء للمفعول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل)، يعني: إذا تفرع المسبب على السبب، فقد اجتمعا في الوجود، فيصح الإخبار بالفاء تارة، وبالواو أخرى، لكن الواو دل على جودة ذهن السامع، وأنه ممن يستغني في استفادة الترتب بمجرد الإشارة، أو تكون تلك الآية كالتقييد لهذه، لأن الاجتماع أعم من السببية والمسببية.

قوله: (خطاياكم) أي: وقرئ: "خطاياكم"؛ أبو عمرو، و"خطيئاتكم": نافع، و"خطيئتكم" - برفع التاء -: ابن عامر.

ص: 626

[(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَاتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَاتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ* وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ* فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ* فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)].

(وَسَلْهُمْ): وسل اليهود، وقرئ:(واسألهم)، وهذا السؤال معناه التقرير والتقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم حدود الله، والإعلام بأنّ هذا من علومهم التي لا تعلم إلا بكتابٍ أو وحي، فإذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابهم، علم أنه من جهة الوحي. ونظيره همزة الاستفهام التي يراد بها التقرير في قولك:"أعدوتم في السبت؟ ".

والقربة: أيلة. وقيل: مدين. وقيل: طبرية. والعرب تسمى المدينة قرية.

وعن أبي عمرو بن العلاء: ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وسلهم)، ابن كثير والكسائي.

قوله: (ونظيره همزة الاستفهام التي يراد بها التقرير): أي: ونظير السؤال في قوله: (وسئلهم) للتقرير والتقريع، قولك ابتداءً:"أعدوتم في السبت؟ " كما أن معنى الهمزة هاهنا للتقرير والتقريع، كذلك السؤال.

قال الزجاج: "السؤال على ضربين: أن تسأل عما لا تعلم لتعلم، وأن تسأل على وجه التقرير، فتقول: أنت فعلت كذا؟ لما فعله، وهو يعلم أنك تعلمه، وإنما تسأله لتقرره وتوبخه، أمر الله تعالى نبيه أن يسأل أهل الكتاب عن أهل هذه القرية، وقد أخبره الله تعالى بقصتها، ليقررهم بقديم كفرهم، وأن يعلمهم بما لا يعلم إلا بكتابٍ أو وحي".

ص: 627

يعني: رجلين من أهل المدن، (كَانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ): قريبةً منه راكبة لشاطئه، (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ): إذ يتجاوزون حدّ الله فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت، وقد نهوا عنه. وقرئ:"يَعدّون" بمعنى: يعتدون، أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين، ويُعدّون من الإعداد، وكانوا يُعِدُّون آلات الصيد يوم السبت، وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة. و"السبت": مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالعبادة؛ فمعناه: يعدون في تعظيم هذا اليوم، كذلك قوله:(يَوْمَ سَبْتِهِمْ) معناه: يوم تعظيمهم أمر السبت، ويدل عليه قوله:(وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ)، وقراءة عمر بن عبد العزيز:"يوم إسباتهم". وقرئ: "لا يسبتون" بضم الباء. وقرأ على: "لا يسبتون" بضم الياء، من أسبتوا. وعن الحسن:"لا يسبتون" على البناء للمفعول، أي: لا يدار عليهم السبت، ولا يؤمرون بأن يسبتوا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: وعلى هذا قوله: (وسئلهم) عطف على (واذكر) المقدر عند قوله: (وإذ قيل)[الأعراف: 161]، وإنما عدل إلى السؤال لأنه أبلغ في التحدي والتوبيخ، كما قال.

قوله: (ويدل عليه قوله: (ويوم لا يسبتون)) [أي: (لا يسبتون)] مشعر بأن قوله: (في السبت) محمول على مصدر سبتت اليهود، لا على الاسم، لأنه نفي لما أثبت أولاً. وهذا مشتق من المصدر، فيجب أن يحمل ما يقابله عليه، ليتطابقا.

قوله: (ولا يؤمرون بأن يسبتوا) عطف على سبيل البيان، على قوله:"لا يدار عليهم السبت"، وذلك بأن يكون يوماً آخر من أيام الأسبوع. وهو من باب قوله:

على لا حبٍ لا يهتدى بمناره

ص: 628

فإن قلت: (إذ يعدون)، و (إذ تأتيهم)، ما محلهما من الإعراب؟ قلت: أمّا الأوّل فمجرور؛ بدلٌ من (القرية)، والمراد بالقرية أهلها، كأنه قيل: واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت، وهو من بدل الاشتمال.

ويجوز أن يكون منصوباً بـ (كانت) أو بـ (حاضرة).

وأمّا الثاني: فمنصوبٌ بـ (يعدون)، ويجوز أن يكون بدلاً بعد بدل.

والحيتان: السمك، وأكثر ما تستعمل العرب الحوت في معنى السمكة. (شُرَّعاً): ظاهرة على وجه الماء. وعن الحسن: تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض. يقال: شرع علينا فلان إذا دنا منا وأشرف علينا. وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي: مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم وَإِذْ قالَتْ معطوف على إذ يعدون، وحكمه حكمه في الإعراب أُمَّةٌ مِنْهُمْ جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم، حتى أيسوا من قبولهم، لآخرين كانوا لا يقلعون عن وعظهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي: مخترمهم ومطهر الأرض منهم، (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) لتماديهم في الشر، وإنما قالوا ذلك، لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الراغب: "أصل السبت: قطع العمل. ومنه: سبت السير، أي: قطعه، وسبت شعره: قطعه. وسمي يوم السبت لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السموات والأرض يوم الأحد، فخلقها في ستة أيام، فقطع عمله يوم السبت. وسبت فلان: صار في السبت".

قوله: (معطوف على (إذ يعدون)) لا يجوز أن يكون معطوفاً على (إذ تأتيهم)؛ لأنه إما بدل أو ظرف، فيلزم أن يدخل هؤلاء في حكم أهل العدوان، وليس كذلك.

ص: 629

(قالُوا مَعْذِرَةٌ إِلى رَبِّكُمْ) أي: موعظتنا إبلاء عذر إلى الله، ولئلا نسب في النهى عن المنكر إلى بعض التفريط، (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ): ولطمعنا في أن يتقوا بعض الاتقاء. وقرئ: (مَعْذِرَةً) بالنصب، أي: وعظناهم معذرةً إلى ربكم، أو اعتذرنا معذرةً.

(فَلَمَّا نَسُوا) يعني: أهل القرية، فلما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه، (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا) الظالمين الراكبين للمنكر.

فإن قلت: الأمة الذين قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ) من أي: الفريقين هم؟ أمن فريق الناجين أم المعذبين؟ قلت: من فريق الناجين، لأنهم من فريق الناهين، وما قالوا ما قالوا إلا سائلين عن علة الوعظ والغرض فيه، حيث لم يروا فيه غرضاً صحيحاً لعلمهم بحال القوم، وإذا علم الناهي حال المنهي، وأن النهي لا يؤثر فيه، سقط عنه النهي، وربما وجب الترك لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على المآصر والجلادين المرتبين للتعذيب؛ لتعظهم وتكفهم عما هم فيه، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (إبلاء عذرٍ): أي: إظهاره. الأساس: "يقال: أبليته عذراً: إذا بينته له بياناً لا لوم عليك بعده. وحقيقته: جعلته بالياً لعذر، أي: خابراً له، عالماً بكنهه. ومنه: أبلى في الحرب بلاءً حسناً: إذا أظهر بأسه، حتى بلاه الناس وخبروه".

قوله: (وقرئ: (معذرةً) بالنصب): حفص، والباقون: بالرفع.

قوله: (على المآصر)، الجوهري:"أصره يأصر أضراً: حبسه. والموضع: مَأصِر ومَأصَر، والجمع: مآصِر".

الأساس: "هو مفعل من الأصر، أو فاعل من المصر: بمعنى الحاجز: ولعن الله المآصر والمواصر". والمكاسون: الذين يحفظون الطرق.

ص: 630

كان ذلك عبثاً منك، ولم يكن إلا سبباً للتلهي بك! وأما الآخرون فإنما لم يعرضوا عنهم إمّا لأن يأسهم لم يستحكم كما استحكم يأس الأولين، ولم يخبروهم كما خبروهم، أو لفرط حرصهم وجدّهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام في قوله:(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ)[الكهف: 6]، وقيل: الأمةُ: هم الموعوظون، لما وعظوا قالوا للواعظين: لم تعظون منا قوماً تزعمون أنّ الله مهلكهم أو معذبهم؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يا ليت شعري ما فعل بهؤلاء الذين قالوا: (لم تعظون قوماً)؟ قال عكرمة: فقلت جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا:(لم تعظون قوماً الله مهلكهم)؟ فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا. وعن الحسن: نجت فرقتان وهلكت فرقة، وهم الذين أخذوا الحيتان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: الأمة: هم الموعوظون) قيل: هو معطوف على قوله: "من فريق الناجين"، والظاهر: أنه عطف على قوله: "جماعة من أهل القرية، من صلحائهم".

والسؤال والجواب مستدرك؛ لما علم من تقريره السابق أن القوم افترقوا فرقاً: فرقةً وعظوا، والثانية القائلة:(لم تعظون) هم الصلحاء منهم. وكان حقه أن يقول: الفرقة التي قالت: (لم تعظون) هل نجت أم لا؟ كما التبس على ابن عباس.

ولعل التكرير في السؤال والجواب لتعليق الزيادات عليه.

قوله: (لم تعظون منا قوماً؟ ): "من": تجريدية، مثل: رأيت منك أسداً.

قوله: (ما فعل بهؤلاء الذين قالوا): روى محيي السنة: أن ابن عباس قال: نسمع الله يقول: (أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا)، فلا أدري ما فعلت الفرقة

ص: 631

وروي: أنّ اليهود أُمروا باليوم الذين أُمرنا به وهو يوم الجمعة، فتركوه واختاروا يوم السبت، فابتلوا به وحرّم عليهم فيه الصيد، وأمروا بتعظيمه، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شُرعًا بيضاً سماناً كأنها المخاض، لا يرى الماء من كثرتها، ويوم لا يستبون لا تأتيهم، فكانوا كذلك بُرهةً من الدهر، ثم جاءهم إبليس فقال لهم: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضًا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها، وتأخذونها يوم الأحد، وأخذ رجلٌ منهم حوتاً، وربط في ذنبه خيطاً إلى خشبةٍ في الساحل، ثم شواه يوم الأحد، فوجد جاره ريح السمك، فتطلع في تنوره، فقال له: إني أرى الله سيعذبك، فلما لم يره عُذبَ أخذ في السبت القابل حوتين، فلما رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم، صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا، وكانوا نحوا من سبعين ألفاً، فصار أهل القرية أثلاثاً: ثُلُثٌ نهوا وكانوا نحواً من اثني عشر ألفاً، وثلثٌ قالوا: لم تعظون قوماً؟ وثلثٌ هم أصحاب الخطيئة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الساكتة؟ قال عكرمة: "جعلني الله فداك، ألا تراهم كيف أنكروا، وكرهوا ما هم عليه، وقالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ)، وإن لم يقل الله: أنجيتهم، لم يقل: أهلكتهم. فأعجبه قولي، وأمر لي ببردين، وقال: نجت الساكتة".

قوله: (المخاض)، الجوهري:"هي بفتح الميم: النوق الحوامل، ولا واحد لها من لفظها".

قوله: (فلما لم يره عذب)، أي: لم ير نفسه يعذبه الله، الرؤية بمعنى العلم، نحو قوله تعالى:(أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)[العلق: 7].

ص: 632

فلما لم ينتهوا قال المسلمون: إنا لا نُساكنكم، فقسموا القرية بجدار: للمسلمين باب، وللمعتدين باب، ولعنهم داود عليه السلام، فأصبح الناهون ذات يومٍ في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس شأناً، فعلوا الجدار فنظروا، فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الإنس، والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود، فجعل القرد يأتي نسيبه فيشم ثيابه ويبكي، فيقول: ألم ننهك؟ فيقول برأسه: بلى، وقيل: صار الشباب قردة، والشيوخ خنازير.

وعن الحسن: أكلوا - والله - أوخم أكلةٍ أكلها أهلها، أثقلها خزياً في الدنيا، وأطولها عذاباً في الآخرة، هاه! وايم الله، ما حوتٌ أخذه قومٌ فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم. ولكن الله جعل موعدا، (والساعة أدهى وأمرّ) [القمر: 46].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أوخم أكلةٍ)، الأساس:"أوخمه الطعام، فوخم، واتخم، وأصابته التخمة".

الرواية: "أكلة"، بفتح الهمزة، ويجوز ضمها. فالفتح: المصدر، والضم: الاسم. والضمير في "أكلها" يجوز أن يكون مفعولاً به، وأن يكون مفعولاً مطلقاً للتأكيد.

قوله: (أكلها أهلها): صفة "أكلة". وفي الكلام معنى التعجب، أي: أكلوا - والله - أكلةً ما أوخمها من جهة الأكل! وما أثقلها من جهة الخزي! وما أطولها من جهة العذاب!

قوله: (ولكن الله جعل موعداً)، أي: إن لم يعذب قاتل النفس في الدنيا، على أن قتل النفس أعظم من تلك الأكلة، لكن الله يعذبه في الآخرة (والسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ)، هذه في الدنيا، وأما في الآخرة فالأمر أشد وأفظع. والداهية: الأمر المنكر، الذي لا يهتدي لدوائه.

ص: 633

(بَئِيسٍ): شديد، يقال: بؤس يبؤس بأساً، إذا اشتدّ، فهو بئيس. وقرئ:"بئسٍ"، بوزن حَذِر. و (بئسٍ) على تخفيف العين ونقل حركتها إلى الفاء، كما يقال: كبدٌ في كبدٍ، و (بيسٍ) على قلب الهمزة ياءً، كذيبٍ في ذئب، و"بيئسٍ" على: فيعل، بكسر الهمزة وفتحها. و"بيسٍ" بوزن ريس، على قلب همزة "بيئسٍ" ياءً، وإدغام الياء فيها، و"بيسٍ" على تخفيف "بيس"، كهينٍ في: هين، و"بائس" على فاعلٍ.

(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ): فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه، كقوله:(وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ)[الأعراف: 77]، (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً) عبارةً عن مسخهم قردة، كقوله:(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82]،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (و"بئسٍ" على تخفيف العين): ابن عامر، وعلى قلب الهمزة ياء: نافع، وعلى "فعيل": أبو بكر.

قوله: (كقوله: (وعتوا عن أمر ربهم)) يعني: لم ينتهوا عما نهوا عنه، وذلك بأن أتوا بالفعل المنهي عنه تكبراً وعدم مبالاة به، كما أمروا بالإتيان بالفعل المأمور به، فتكبروا عنه، وتركوه. وفيه أن النهي عن الشيء أمر بضده.

قوله: ((كونوا قردةً): عبارةً عن مسخهم) أي: لم يكن ثمة قول.

قال الزجاج: "جائز أن يكون ثمة قول مسموع، وأن يكون مثل قوله تعالى: (كن فيكون)، والأول أبلغ في النازلة بهم".

ص: 634

والمعنى: أنّ الله تعالى عذبهم أوّلاً بعذابٍ شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم. وقيل:(فلما عتوا)، تكرير لقوله:(فَلَمَّا نَسُوا)، والعذاب البئيس: هو المسخ.

[(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمعنى: أن الله تعالى عذبهم أولاً بعذابٍ شديد، فعتوا بعد ذلك): يريد أن الفاء في قوله تعالى: (فلما عتوا) فصيحة، أي: فلما نسوا عما ذكروا به عذبناهم، ليتنبهوا ويتعظوا، فما نجع فيهم الوعظ، فعتوا بعد ذلك، فمسخناهم. فإذاً العذاب غير المسخ، والنسيان غير العتو. نحوه قوله تعالى:(ومَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَاسَاءِ والضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ) إلى قوله: (فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وهُمْ لا يَشْعُرُونَ)[الأعراف: 94 - 95].

أو هي تكرير، فيراد بقوله تعالى:(عتوا عن ما نهوا) قوله: (نسوا ما ذكروا به)، ومعناه: فلما تركوا ما ذكرهم به الصالحون من أمر بهم، مسخناهم، لأنهم كانوا مأمورين بألا يشتغلوا فيه بغير العبادة، فلما اشتغلوا بالصيد عتوا عن أمر ربهم. ويراد بقوله تعالى:(كونوا قردةً خاسئين) قوله: (وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس) وهو المسخ، كما سبق.

قال القاضي: "يجوز أن تكون الآية الثانية تقريراً وتفصيلاً للأولى".

ص: 635

(تَأَذَّنَ رَبُّكَ): عزم ربك، وهو تفعل؛ من الإيذان وهو الإعلام، لأنّ العازم على الأمر يحدّث نفسه به ويؤذنها بفعله، وأجري مجرى فعل القسم، كعلم الله، وشهد الله. ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله:(لَيَبْعَثَنَّ) والمعنى: وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ليبعثنَّ على اليهود) إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ)، فكانوا يؤدّون الجزية إلى المجوس، إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم، فلا تزال مضروبةً عليهم إلى آخر الدهر. ومعنى (ليبعثنّ عليهم): ليسلطنّ عليهم، كقوله:(بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد)[الإسراء: 5].

[(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ* فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَاخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَاتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَاخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لأن العازم على الأمر يحدث نفسه): تعليل لقوله: " (تأذن ربك): عزم ربك". يعني: إنما عبر عن العزم بالإذن، لأن العازم على الأمر يشاور نفسه في الفعل والترك، ثم يجزم على الفعل، ويطلب من النفس الإذن بالفعل. فكنى عن العزم بالإذن، ليعلم أن العزم لم يكن إلا بعد إتقان ومشورة. ولما كان العازم جازماً على الشيء قاطعاً، كان معنى "عزم": جزم وقضى، فصار كفعل القسم في التأكيد، فأجيب بما يجاب به القسم.

قال الزجاج: "قيل: (تأذن): تألى. وقيل: (تأذن): أعلم. والعرب تقول: تعلم أنه كذا وكذا، في معنى: أعلم".

ص: 636

(وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً): وفرقناهم فيها، فلا يكاد يخلو بلدٌ من فرقةٍ منهم، (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ): الذين آمنوا منهم بالمدينة، أو الذين وراء الصين، (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ): ومنهم ناسٌ دون ذلك الوصف منحطون عنه، وهم الكفرة والفسقة.

فإن قلت: ما محل (دون ذلك)؟ قلت: الرفع، وهو صفةٌ لموصوفٍ محذوف، معناه: ومنهم ناسٌ منحطون عن الصلاح، ونحوه:(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ)[الصافات: 164]، بمعنى: وما منا أحدٌ إلا له مقام، (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ): بالنعم والنقم، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ): فينيبون.

(فَخَلَفَ) مِن بعد المذكورين (خَلْفٌ) وهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وَرِثُوا الْكِتابَ): التوراة، بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤونها، ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم، ولا يعملون بها، (يَاخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) أي: حطام هذا الشيء الأدنى، يريد: الدنيا وما يتمتع به منها. وفي قوله: (هذَا الْأَدْنى) تخسيسٌ وتحقير. والأدنى: إما من الدنوّ بمعنى: القرب، لأنه عاجلٌ قريبٌ، وإما من دُنوّ الحال وسقوطها وقلتها، والمراد: ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلم للتسهيل على العامة، (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا): لا يؤاخذنا الله بما أخذنا، وفاعلُ (سَيُغْفَرُ) الجار والمجرور، وهو (لَنا)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((منهم الصالحون): الذين آمنوا منهم بالمدينة): والظاهر خلافه، لما يقتضيه النظم، لقوله:(فخلف من بعدهم خلف) كما سيجيء بيانه.

قوله: ((خلف))، النهاية:"الخلف - بالتحريك والسكون -: من يجيء بعد من مضى، إلا أنه بالتحريك في الخير، وبالتسكين في الشر، يقال: خلف صدق، وخلف سوء، ومعناهما جميعاً: القرن من الناس".

ص: 637

ويجوز أن يكون "الأخذ" الذي هو مصدر (يأخذون)، (وَإِنْ يَاتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَاخُذُوهُ) الواو للحال، أي: يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم، غير تائبين. وغفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة، والمصر لا غفران له، (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ) يعني قوله في التوراة: من ارتكب ذنباً عظيماً فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة، (وَدَرَسُوا ما فِيهِ): في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب، والذي عليه المجبرة هو مذهب اليهود بعينه كما ترى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((وإن يأتهم .... ): الواو للحال) أي: من الضمير في "يقولون"، والقول: بمعنى الاعتقاد والظن. ولذلك قال: "يرجون المغفرة وهم مصرون".

النهاية: "لما رأي رسول الله صلي الله عليه وسلم الأخبية في المسجد قال: "البر تقولون بهن"؟ أي: أتظنون وترون أنهن أردن البر؟ ".

قال الزجاج: "إنهم كانوا يذنبون بأخذ الرشا، ويقولون: سيغفر لنا، من غير أن يتوبوا، لأن قوله تعالى: (وإن يَاتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَاخُذُوهُ) دليل على إصرارهم على الذنب".

قوله: (والذي عليه المجبرة هو مذهب اليهود بعينه) سقطة منه، لأن أهل السنة لا يتمنون المغفرة مع الإصرار، وهم أحزم من ذلك؛ ألا ترى إلى ما رواه الترمذي عن شداد، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم:"الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله".

ص: 638

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

"دان نفسه": حاسبها في الدنيا قبل أن تحاسب يوم القيامة.

فكيف والسين في (سيغفر) تدل على القطع في وقوع الخبر عن المستقبل؟ وأهل السنة لا يقطعون في شيءٍ من أمورهم، لا في الغفران إن تابوا، ولا في الثواب إن عملوا، وأنتم توجبون على الله الغفران إذا حصلت التوبة، وتقطعون بحصول الثواب على العمل؟ فمذهبكم في هذه الصورة مثل مذهبهم.

وأيضاً: قوله: "معنى أخذ الميثاق: هو أن في التوراة: من ارتكب ذنباً عظيماً، فإنه لا يغفر إلا بالتوبة". وقوله: "وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبةٍ خروج عن ميثاق الكتاب"، وما أدري: أهو منقول من نص التوراة أو مستنبط من معنى الآية؟ أما الآية فدالة على التوبيخ على أخذ الرشا، وتغيير أوضاع الشريعة، ونسبة خلافها إلى الله تعالى، كما فعلوا بصفة النبي صلوات الله عليه، وبآية الرجم، وتسويف النفس بالأباطيل و "يا ليت" على المغفرة مع عدم التوبة.

ثم إن هذا النقل، إن لم يصح، فهو تقول على الله تعالى بما ليس بحق، وهو عين فعل اليهود، وإن صح، فلم لا يجوز أن يراد به الشرك، لقوله تعالى:(إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13]، وقوله:(إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ)[النساء: 48] أو يكون منسوخاً بالنصوص القاطعة من الآيات والسنة بالنسبة إلينا، وثانياً بالنسبة إليكم، فيكون مذهبكم عين مذهبهم؟ عفا الله عنه.

وأما قضية النظم: فهي أنه تعالى لما حكي عن بني إسرائيل أنهم كانوا قبل مبعث النبي صلي الله عليه وسلم أمماً: منهم الصالحون، ومنهم الكفرة والفسقة، ذكر أنهم، بعد مبعثه صلوات الله عليه أيضاً، داموا على ما كانوا: فرقة منهم ما تمسكوا بمقتضي التوراة، مع أنهم كانوا يقرؤونها، ويدرسون

ص: 639

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما فيها، ويقفون على ما أمر الله، وما نهاه، من الحلال والحرام، ولا يعملون بها، وكانوا (يَاخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى)، ويحرفون الكلم عن مواضعه، (ويَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ومَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ) [آل عمران: 78]، ويتمنون بالأباطيل، وإليه الإشارة بقوله:(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ورِثُوا الكِتَابَ).

وطائفة أخرى منهم تمسكوا بها، وعملوا بمقتضاها، وآمنوا بنبي الرحمة، وأقاموا الصلاة، وإليه الإشارة بقوله تعالى:(والَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وأَقَامُوا الصَّلاةَ)[الأعراف: 170].

وينصره ما نقله محيي السنة عن مجاهد: "هم المؤمنون من أهل الكتاب، مثل: عبد الله بن سلام وأصحابه، تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى، فلم يحرفوه، ولم يكتموه، ولم يتخذوه مأكلة".

فظهر من هذا أن تخصيص قوله: (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) بما قاله المصنف تحكم.

فعلى هذا الواجب أن يكون قوله تعالى: (والذين يمسكون) الآية جملةً مبتدأة، معطوفة على قوله:(فخلف من بعدهم خلف) من حيث المعنى، والجملة من المعطوف والمعطوف عليه مستطرد لذكر قوله:(وقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ ومِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ)، لأن قوله تعالى:(وإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) عطف على قوله: (وإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُ)، و (وإذ قالت أمة)، (وإذ قيل لهم)، و (إذ استسقاه).

فانظر إلى هذا النظم السري، وتعجب ممن يريد تفكيكه!

ص: 640

وعن مالك بن دينارٍ رحمه الله، يأتي على الناس زمانٌ إن قصروا عما أُمروا به، قالوا: سيغفر لنا، لأنا لم نشرك بالله شيئاً، كل أمرهم إلى الطمع، خيارهم فيهم المداهنة، فهؤلاء من هذه الأمّة أشباه الذين ذكرهم الله، وتلا الآية.

(وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ) من ذلك العرض الخسيس، (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الرشا ومحارم الله.

وقرئ: "ورّثوا الكتاب"، و"ألا تقولوا"، بالتاء، و"ادّارسوا"، بمعنى: تدارسوا. و (أفلا تعقلون)، بالياء والتاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأما إذا كان عطفاً على قوله: (للذين) كما هو عليه الوجه الثاني، يكون المراد، منهم الذين آمنوا مطلقاً، على ما روى محيي السنة عن عطاء:"هم أمة محمد صلوات الله عليه".

والأول هو القول.

قوله: ((أفلا تعقلون) بالياء والتاء): بالياء التحتانية: نافع وابن عامر وحفص. وبالتاء الفوقانية: الباقون.

ص: 641

فإن قلت: ما موقع قوله: (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)؟ قلت: هو عطف بيان لـ (ميثاق الكتاب). ومعنى (ميثاق الكتاب): الميثاق المذكور في الكتاب، وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبةٍ خروجٌ عن ميثاق الكتاب، وافتراءٌ على الله، وتقوّلٌ عليه ما ليس بحق. وإن فسر (ميثاق الكتاب) بما تقدم ذكره كان (أَنْ لا يَقُولُوا) مفعولاً له. ومعناه: لئلا يقولوا، ويجوز أن تكون (أَن) مفسرة، و (لا يَقُولُوا) نهياً، كأنه قيل: ألم يقل لهم: لا تقولوا على الله إلا الحق؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هو عطف بيانٍ لـ (ميثاق الكتاب): أجاب عن السؤال بوجهين:

أحدهما: أن (أن) في (أن لا يقولوا) ناصبة للفعل، وهو إما تفسير (ميثاق الكتاب) والإضافة، بمعنى: في أي الميثاق المذكور في الكتاب، وهو (أن لا يقولوا على الله إلا الحق). وفي جملة ذلك ألا يقولوا: إن الله يغفر الذنوب العظام بغير توبة.

وإما مفعول به، و (ميثاق الكتاب) مبهم لا يعلم ما هو. فاخترع أن بيانه وتفسيره: من ارتكب ذنباً عظيماً، فإنه لا يغفر إلا بالتوبة. أي: أما تقرر وأخذ ميثاقكم أن من ارتكب ذنباً عظيماً لا يغفر له إلا بالتوبة، لئلا يقولوا على الله إلا الحق؟

وثانيهما: أن (أن) مفسرة، لأن في قوله تعالى:(أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الكِتَابِ) معنى القول، أي: ألم يقل لكم: لا تقولوا على الله إلا الحق؟ وهو ذلك القول بزعمه واختراعه.

وقلت: الحق أن الإنكار والتوبيخ واردان على ترك استحفاظهم كلام الله، والتمادي في التحريف والتغيير، وعليه أخذ الله ميثاقهم كقوله تعالى:(إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَّانِيُّونَ والأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ)[المائدة: 44]، قال المصنف:"بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التغيير والتبديل"،

ص: 642

فإن قلت: علام عطف قوله: (وَدَرَسُوا ما فِيهِ)؟ قلت: على (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ)، لأنه تقرير، فكأنه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه.

[(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)].

(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ) فيه وجهان، أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، وخبره:(إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يعني: ألم يؤخذ عليهم الميثاق، باستحفاظ كتاب الله من غير التغيير والتبديل؟ فكيف غيروا وبدلوا وأخذوا عليه الرشا، فكفروا ونقضوا ميثاق الله، ثم قالوا: استغفر لنا؟

فإن قلت: فعلى هذا: المنكر هو التغيير والتبديل، والمنكر هو القول، لما مر أن قوله:" (أن لا يقولوا على الله إلا الحق) عطف بيان لـ (ميثاق الكتاب) ".

قلت: إنهم إذا غيروا وبدلوا، لابد أن يقولوا: هو من عند الله، ليأخذوا عليه الرشا.

قال المصنف في قوله تعالى: (وإنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ ومَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ ويَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ)[آل عمران: 78]: "قال ابن عباس: هم اليهود من الذين قدموا على كعب بن الأشرف، غيروا التوراة، وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول الله صلي الله عليه وسلم، ثم أخذت قريظة ما كتبوه، فخلطوه بالكتاب الذي عندهم". والله أعلم.

قوله: (لأنه تقرير) أي: يجب أن يكون (ودرسوا) عطفاً على (ألم يؤخذ)، وإن اختلفا خبراً وطلباً، لأن الاستفهام وارد على التقرير، فهو بمنزلة الإخبار عن الثابت، فيصح العطف لعدم المنافاة. ولهذا قال:"أخذ عليهم الميثاق، ودرسوا".

ص: 643

والمعنى: إنا لا نضيع أجرهم، لأنّ (المصلحين) في معنى "الذين يمسكون بالكتاب"، كقوله:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)[الكهف: 30]. والثاني: أن يكون مجروراً عطفاً على "الذين يتقون"، ويكون قوله:(إِنَّا لا نُضِيعُ) اعتراضاً.

وقرئ: (يمسكون) بالتشديد. وتنصره قراءة أُبيّ: "والذين مسكوا بالكتاب".

فإن قلت: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة، فكيف أفردت؟ قلت: إظهاراً لمزية الصلاة لكونها عماد الدين، وفارقة بين الكفر والإيمان.

وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه: "والذين استمسكوا بالكتاب".

[(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)].

(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ): قلعناه ورفعناه، كقوله:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (والمعنى: إنا لا نضيع أجرهم): يعني: لابد في الخبر إذا كان جملةً من عائد إلى المبتدأ، فقوله:(أجر المصلحين)، وإن لم يكن فيه الضمير، لكنه هو نفس المبتدأ، فهو من إقامة المظهر موضع المضمر، للعلية.

قوله: (وقرئ: (يمسكون) بالتشديد): الجماعة إلا أبا بكر.

ص: 644

(ورفعنا فوقهم الطور)[النساء: 154]. ومنه: نتق السقاء؛ إذا نفضه ليقتلع الزبدة منه. و"الظلة": كل ما أظلك من سقيفةٍ أو سحاب. وقرئ بالطاء، من أهل عليه؛ إذا أشرف، (وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ): وعلموا أنه ساقط عليهم، وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها، فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخاً في فرسخ، وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم، فلما نظروا إلى الجبل خرّ كل رجلٍ منهم ساجداً على حاجبه الأيسر، وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقاً من سقوطه، فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر، ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة، ولما نشر موسى الألواح وفيها كتاب الله، لم يبق جبل ولا شجرٌ ولا حجرٌ إلا اهتز، فلذلك لا ترى يهودياً تقرأ عليه التوراة إلا اهتز وأنغض لها رأسه، (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) على إرادة القول، أي: وقلنا خذوا ما آتيناكم، أو قائلين: خذوا ما آتيناكم من الكتاب، (بِقُوَّةٍ) وعزمٍ على احتمال مشاقه وتكاليفه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ومنه: نتق الشقاء): ابن السكيت: "السقاء: يكون للبن والماء، والوطب: للبن خاصة، والنحي: للسمن، والقربة: للماء".

قوله: (ولما نشر موسى عليه السلام الألواح) إلى آخر القصة، مستطرد لذكر نتق الجبل، وسجود القوم على حاجبهم، كما كان قوله:(فخلف من بعدهم خلف) الآيتين، مستطرداً من المعطوف والمعطوف عليه، على ما سبق.

ص: 645

(وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من الأوامر والنواهي ولا تنسوه، أو: واذكروا ما فيه من التعريض للثواب العظيم فارغبوا فيه. ويجوز أن يراد: خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوّةٍ إن كنتم تطيقونه، كقوله:(إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فانفذوا)[الرحمن: 33]. (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) من الدلالة على القدرة الباهرة والإنذار، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ما أنتم عليه. وقرأ ابن مسعود:"وتذكروا" وقرئ: "واذّكروا"، بمعنى. وتذكروا.

[(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ* وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)].

(مِنْ ظُهُورِهِمْ) بدل من (بني آدم) بدل البعض من الكل، ومعنى "أخذ ذرّياتهم من ظهورهم": إخراجهم من أصلابهم نسلاً وإشهادهم على أنفسهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو: اذكروا ما فيه من التعريض)، الجوهري:"عرضت فلاناً لكذا فتعرض هو له".

قوله: (ويجوز أن يراد: خذوا ما آتيناكم من الآية)، فعلى هذا، المراد من نتق الجبل: إظهار العجز لا غير، كما في الآية المستشهد بها، كما تقول لمن يدعي الصرعة والقوة بعدما غلبته: خذه مني، يعني: إن كنتم تطلبون آية قاهرة، وتقترحونها، خذوا ما آتيناكم إن كنتم تطيقون.

ص: 646

قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) من باب التمثيل والتخييل، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم، وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم: ألست بربكم؟ وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا، شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك.

وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السلام، وفي كلام العرب. ونظيره قوله تعالى:(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[النحل: 40]، (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت: 11] وقوله:

إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ: الْحَقِ

قَالَتْ لَهُ رِيحُ الصَّبَا: قَرْقَارِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وشهدت بها عقولهم) عطف على قوله: "نصب لهم الأدلة"، وكذا "جعلها مميزة"، أي: جمع بين نصب الأدلة وبين جعل القوة مميزة، وبين شهادتها، لتكون الاستعارة تمثيليةً مركبة من عدة أمور متوهمة.

هذا هو المراد من قوله: "من باب التمثيل والتخييل"، لا ما ظن أنها من الاستعارة التخييلية، لأن المشبه به في التخييلية أمر واحد محقق يطلق على المخترع المتوهم، كالأنباب في قولك: أنياب المنية نشبت بفلان.

قوله: (إذا قالت الأنساع مضى شرحه في "البقرة".

قوله: (قالت له ريح الصبا: قرقار)، بعده:

واختلط المعروف بالإنكار

ص: 647

ومعلومٌ أنه لا قول ثم، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى.

(أَوْ تَقُولُوا) مفعولٌ له، أي: فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول، كراهة (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) لم ننبه عليه، (أَوْ) كراهة أن (تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاقتدينا بهم، لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء، كما لا عذر لآبائهم في الشرك، وأدلة التوحيد منصوبة لهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الضمير المجرور في "له" للسحاب، أي: قالت للسحاب الريح: قرقر بالرعد. فهو أمر من القرقرة، وهو في الرباعي كـ"نزال" في الثلاثي.

"واختلط المعروف"، يعني: المطر بلغ كل مكان مما يعرف وينكر، أي: عم الأراضي كلها.

شبه الريح بالآمر، والسحاب بالمأمور، والقرقار بالمأمور به، وتخيل الحالات على سبيل التمثيل.

في "الانتصاف": "إطلاق لفظ "التخييل" على كلام الله مردود".

وقلت: إذا كان القرآن وارداً على أساليب كلام العرب وافتنانهم، فلا بعد في الذهاب إليه.

قوله: (لأن نصب الأدلة على التوحيد) علة لما فهم من المعلل مع عليته، أي: فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة والتقليد، "لأن نصب الأدلة .. " إلى آخره.

ص: 648

فإن قلت: بنو آدم وذرّياتهم من هم؟ قلت: عنى بـ"بني آدم": أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله، حيث قالوا: عزير ابن الله. وبـ"ذرّياتهم": الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخلافهم المقتدين بآبائهم، والدليل على أنها في المشركين وأولادهم: قوله: (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ)، والدليل على أنها في اليهود: الآيات التي عُطفت عليها هي، والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها، وذلك قوله:(وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ)[الأعراف: 163]، (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ) [الأعراف: 164]، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) [الأعراف: 167]، (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ) [الأعراف: 171]. (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا)[الأعراف: 175].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويجوز أن يكون تعليلاً للثاني، كأنه قيل: فعلنا نصب الأدلة كراهة أن تقولوا: (إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ)، لأنه "قائم معهم" لا يفارقهم، "فلا عذر لهم في الإعراض عنه، والإقبال على التقليد". فلما كان هذا التنبيه لا يفارق أحداً من المكلفين، قال:"لا عذر لآبائهم في الشرك".

قوله: (الآيات التي عطفت عليها هي) أي: عطفت: (وإذ نتقنا الجبل)، (وإذ تأذن) [الأعراف: 167]، (وإذ قيل لهم اسكنوا) [الأعراف: 161].

قوله: (والتي عطفت عليها) أي: على قوله: (وإذ أخذ)، وهي قوله:(واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا)[الأعراف: 175] وسائر الآيات التي تتعلق بـ"بلعم".

قوله: (وهي على نمطها وأسلوبها): أي: (وإذ أخذ ربك): على نمط الآيات المتقدمة والمتأخرة.

ص: 649

(أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) أي: كانوا السبب في شركنا؛ لتأسيسهم الشرك، وتقدّمهم فيه، وتركه سنةً لنا.

(وَكَذلِكَ): ومثل ذلك التفصيل البليغ، (نُفَصِّلُ الْآياتِ) لهم، (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ): وإرادة أن يرجعوا عن شركهم نفصلها.

وقرئ: "ذريتهم" على التوحيد، و"أن يقولوا" بالياء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون عاماً كالتذييل للميثاق الخاص، فيدخل فيه اليهود دخولاً أولياً، فلا تكون الواو عاطفة؟ ولأن ألفاظها لا تقبل التخصيص إلا بالتعسف، كما أول الشرك.

وبيان التذييل أن قوله: (وإذْ نَتَقْنَا الجَبَلَ)[الأعراف: 171] في معنى: أخذ الميثاق، بدليل قوله تعالى في "البقرة":(وإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ورَفَعْنَا فَوْْقَكُمُ الطُّورَ)[البقرة: 63، 93]، وقول المصنف:" (وإذا أخذنا ميثاقكم): بالعمل بما في التوراة (ورفعنا فوقكم الطور) حتى قبلتم، وأعطيتم الميثاق". أتي بالميثاق الخاص، من حيث الصورة، ثم عقبه بالعام من حيث المعنى، دلالةً على شدة شكيمتهم، وفرط عتوهم في أن الإلزام السمعي والعقلي - على رأيه - لا يجدي فيهم.

قال القاضي: "المقصود من إيراد هذا الكلام إلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام، بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية، ومنعهم عن التقليد، وحملهم على النظر والاستدلال، كما قال: (وكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ ولَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، أي: عن التقليد، واتباع الباطل".

ص: 650

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: ويؤيده ما روينا عن مالك، وأحمد بن حنبل، والترمذي، وأبي داود، و"شرح السنة"، عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية، قال: سئل عنها رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: "إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون". فقال: رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:"إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار".

قال الإمام: "أطبقت المعتزلة على أنه لا يجوز تفسير الآية بالحديث، لأن قوله: (من ظهورهم) بدل من قوله: (بنى أدم)، فالمعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم، فلم يذكر أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً، ولأنه لو كان المراد أنه أخرج من ظهر آدم شيئاً، لما قال: (من ظهورهم) بل يجب أن يقول: من ظهره، وذريته".

وأجاب الإمام: "أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذرية من ظهور بني آدم. وأما أنه أخرج كل تلك الذرية من صلب آدم، فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته، ولا على نفيه، إلا أن الخبر قد دل، فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن، وإخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر، ولا منافاة بينهما، فوجب المصير إليهما معاً، صوناً للآية والخبر عن الاختلاف".

ص: 651

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي: وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن المراد من الآية توليد بعضهم من بعض، على مر الزمان، ولو أريد استخراج الذرية من صلب آدم دفعةً واحدة، لكان من حق القول أن يقول: وإذ أخذ ربك من ظهر آدم ذريته.

فإن قيل: بيان الآية في الحديث خلاف ما ذهبوا إليه، فلهم أن يقولوا: إنما تركوا ظاهر الآية بالحديث، سيما في مثل هذه القضية التي هي إخبار عن الغيب، إذا كان الحديث المبين للآية حديثاً صحيحاً، يجب به العلم. وهذا الحديث، وإن كان حديثاً حسناً، فإنه من جملة الآحاد، فلا يترك ظاهر الكتاب بمثل هذا الحديث.

مما يمكننا من التوفيق بين الآية والحديث هو أن نقول: إنما اقتصر في الحديث على ذكر آدم، دون الذرية، لأنه هو الأصل، فاكتفى بذكر الأصل عن الفرع.

فإن قيل: فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:"لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة" إلى تمام الحديث وهو حديث صحيح، فلم ذهبتم في حديث عمر رضي الله عنه إلى التأويل الذي ذكرتموه؟

فالجواب: أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه لا تعلق له بالآية، ولم يذكر فيه حديث الميثاق والإشهاد، وإنما ذكر فيه أن الله تعالى مثل لآدم ذريته، وعرضهم عليه. وهذا غير ذلك.

ص: 652

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقد ذهب أهل التأويل إلى أن المراد بالإشهاد ما ركبه الله فيهم من العقول، وآتاهم من البصائر، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم، وقال لهم:(ألست ربكم) فكأنهم قالوا: (بلى). فذهبوا في معناه إلى أنه تمثيل وتصوير للمعنى.

وهذا الذي ذهبوا إليه في تأويل حديث عمر رضي الله عنه تأويل حسن مستقيم، لولا مخالفته حديث ابن عباس، وهو ما رواه عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:"أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني: عرفة - فأخرج من صلبه كل ذريةٍ ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال: (ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ".

وهذا الحديث مخرج في كتاب أبي عبد الرحمن النسائي. فهذا الحديث لا يحتمل من التأويل ما يحتمله حديث عمر رضي الله عنه، لظهور المراد منه.

ولا أراهم يقابلون هذه الحجة إلا بقولهم: إن حديث ابن عباس من جملة الآحاد فلا يلزمنا إن تركنا أن نترك به ظاهر الكتاب!

وقال: إنما جدوا في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر هذا الحديث لمكان قوله سبحانه: (أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ). فقالوا: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار، حيث كوشفوا بحقيقة الأمر، وشاهدوه عين اليقين، فلهم يوم القيامة أن يقولوا: شهدنا يومئذ، فلما زال عنا علم الضرورة، ووكلنا إلى آرائنا، كان منا من أصاب، ومنا من أخطأ. وإن كان عن استدلال، ولكنهم عصموا عنده من الخطأ، فلهم أيضاً أن يقولوا:

ص: 653

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة، وحرمناهما من بعد، ولو أمددنا بهما أبداً، لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول.

فقد تبين أن الميثاق: ما ركب الله فيهم من العقول، وآتاهم من البصائر، لأنها هي الحجة الباقية، المانعة لهم عن قولهم:(إنا كنا عن هذا غافلين)؛ لأن الله تعالى جعل هذا الإقرار حجة عليهم في الإشراك، كما جعل بعث الرسول حجةً عليهم في الإيمان، بما أخبروا عنه من الغيوب.

ولهم في ذلك كلام كثير اكتفينا عنه بهذا المقدار، والغرض منه توقيف الطالبين على مواضع الإشكال.

والتوفيق بين الآية وحديث عمر رضي الله عنه على ما ذكرناه - متيسر، والتوفيق بينهما وبين حديث ابن عباس - على الوجه الذي لا تعارضه حجة أخرى من الكتاب - مشكل جداً، إلا أن يعلل الحديث بما عللوه". انتهى كلامه.

وقال القاضي في "شرح المصابيح": "والتوفيق بين الآية والحديث أن يقال: إن المراد من (بنى آدم) في الآية: آدم وأولاده، فكأنه صار اسماً للنوع، كالإنسان والبشر، والمراد من الإخراج: توليد بعضهم من بعض، على مر الزمان، واقتصر في الحديث على ذكر آدم اكتفاءً بذكر الأصل عن ذكر الفرع.

ص: 654

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت، وما توفيقي إلا بالله: نبين أولاً أن الأحاديث الثلاثة كلها معتمدة متوافقة متعاضدة، ثم نشرع في المقصود:

أما الحديث الأول: فقد سبق أنه اتفق على روايته الإمامان: مالك، وأحمد، والشيخان: أبو داود، والترمذي، ورواه محيي السنة في "شرح السنة" و"المصابيح"، وفيه:"فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذريةً فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون" إلى آخر الحديث.

هذا السياق لا يدع لذي لب ريباً في أن المراد بالاستخراج: استخراج الذراري كلها إلى انقراض العالم، وإلا فأي معنى لقوله: ففيم العمل؟ ، وقوله صلوات الله عليه:"إن الله تعالى خلق العبد للجنة"، وقوله:"خلق العبد للنار"؟

وروى محيي السنة في "معالم التنزيل"، عن مقاتل وغيره: وفي آخره: "ثم أعادهم جميعاً في صلبه، فأهل القبور محبوسون، حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال، وأرحام النساء".

فإذن لا معنى لقولهم: اقتصر في الحديث على ذكر آدم دون الذرية، لأنه هو الأصل، فاكتفى بذكر الأصل عن الفرع.

وأما الحديث الثاني: فتمامه على ما أورده صاحب "جامع الأصول" عن الترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم، مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمةٍ هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً

ص: 655

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب، من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء ذريتك" إلى آخر الحديث.

وأما الحديث الثالث: فقد أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" عن ابن عباس أيضاً، كما ذكر من غير زيادة ولا نقصان.

فإذا تقرر هذا فالواجب على المفسر المحقق ألا يفسر كلام الله المجيد برأيه، إذا وجد من جانب السلف الصالح نقلاً معتمداً، فكيف بالنص القاطع من جناب حضرة الرسالة صلوات الله على صاحبها؟ فإن الصحابي رضي الله عنه إنما سأله صلي الله عليه وسلم عما أشكل عليه من معنى الآية: أن الإشهاد هل هو حقيقة أم لا؟ والإخراج والمقاولة بقوله: (ألست بربكم قالوا بلى): أهما على المتعارف أم على الاستعارة؟ فلما أجابه صلوات الله عليه بما عرف منه ما أراده، سكت، لأنه كان بليغاً، ولو أشكل عليه من جهة أخرى لكان الواجب بيان تلك الجهة.

وكذا فهم الفاروق رضوان الله عليه.

وأما قولهم: لو كان المراد أنه أخرج من ظهر آدم، لما قال:(من ظهورهم)، بل يجب أن يقول: من ظهره وذريته، فجوابه: أن المراد آدم وذريته، لكن غلب إخراج الذراري من أصلاب أولاده نسلاً بعد نسل حينئذٍ على ذراري نفسه، لأن الكلام في الاحتجاج على

ص: 656

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأولاد بشهادة قوله: (وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)، ونحوه، لكن في إرادة الامتنان، قوله تعالى:(ولَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ)[الأعراف: 11] والمراد آدم، بقرينة قوله:(اسجدوا لأدم)[الأعراف: 11].

ويعضده ما رواه الواحدي عن الكسائي أنه قال: "لم يذكر ظهر آدم، وإنما أخرجوا جميعاً من ظهره، لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض، على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء، واستغنى عن ذكر ظهر آدم، لما علم أنهم كلهم بنوه، وأخرجوا من ظهره".

وقال الإمام المحقق قطب الدين الشيرازي رحمه الله: "ظواهر ألفاظ الآية، من قوله: (مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) دافعة لظاهر حديث عمر رضي الله عنه، لكن لما كان المعلوم المقرر في بداية العقول أن بني آدم من ظهر آدم، فيكون كل ما أخرج من ظهور بني آدم في "لا يزال" على يوم القيامة هم الذر، قد أخرجهم الله تعالى في الأزل عن صلب آدم، وأخذ منه الميثاق الأول، ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج في "لا يزال" من أصلاب بني آدم هو الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم، وأخذ منه الميثاق الأول، وهو المقالي الأزلي، كما أخذ منهم في "لا يزال" بالتدريج، حين أخرجوا الميثاق الثاني، وهو الحالي "اللا يزالي".

ص: 657

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والحاصل: أن الله تعالى لما كان له ميثاقان مع بني آدم، أحدهما: يهتدي إليه العقل من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي، وثانيهما: المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل، بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد، كالأنبياء عليهم السلام، أراد النبي صلي الله عليه وسلم أن يعلم الأمة ويخبرهم أن من وراء الميثاق الذي تهتدون إليه بعقولكم ميثاقاً آخر أزلياً، فقال ما قال من مسح ظهر آدم في الأزل، وإخراج الذرية والميثاق الآخر".

وقلت: هذا كلام عالي الدرجة لا مزيد عليه، وهو قريب من الأسلوب الحكيم، على منوال قوله تعالى:(يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خيرٍ فاللوالدين)[البقرة: 215]، سألوا عن بيان ما ينفقون، وأجيبوا ببيان المصرف، وضمن بيان ما ينفقون. كذا هاهنا: سأل الصحابي عن بيان الميثاق الحالي، فأجيب عن المقالي، وضمن فيه الحالي على ألطف وجه. والله أعلم.

قلت: من أبي هذا التقرير قرب أن يعدل إلى مذهب أهل العدل، وأما الترديد الذي نقله الشيخ التوربشتي رحمه الله وهو أن "قالوا: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار" إلى قوله: "وإن كان عن استدلال" إلى آخره، فخلاصته أنه يلزم ألا يكونوا محجوجين يوم القيامة. فجوابه: أنهم إذا قالوا: شهدنا يومئذ، فلما زال علم الضرورة، ووكلنا إلى آرائنا، كان كذا، كذبوا؛ فإنكم ما وكلتم إلى آرائكم، بل أرسلنا رسلنا تترى لتوقظكم عن سنة الغفلة.

ص: 658

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال المصنف في قوله تعالى: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[النساء: 165]: "الرسل منبهون عن الغفلة، وباعثون على النظر".

وقال محيي السنة: "فإن قيل: كيف تلزم الحجة واحداً لا يذكر ذلك الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته، وصدق رسله فيما أخبروا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد، ولزمته الحجة، وبنسيانهم، وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق".

وأما الجواب عن قولهم: "فلهم أن يقولوا: أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة، وحرمناهما من بعد"، فهو أن يقال: إن هذا مشترك الإلزام، لأنه إذا قيل لهم: ألم نمنحكم العقول والبصائر؟ فلهم أن يقولوا: فإذا حرمنا اللطف والتوفيق، فأي منفعةٍ لنا في العقل والبصيرة؟ ولنختم الكلام بما ورد عن أرباب الكشف، وأصحاب العرفان.

روى الشيخ العارف أبو عبد الرحمن السلمي في "الحقائق" عن بنان أنه قال: "انتخبهم للولاية، واستخلصهم للكرامة، وجعل لهم فتوحاً في غوامض غيوب الملكوت، أوجدهم لديه في كون الأزل، ثم دعاهم فأجابوا سراعاً، وعرفهم نفسه حين لم يكونوا في صورة الإنسية، ثم أخرجهم بمشيئته خلقاً، وأودعهم في صلب آدم، فقال: (وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الأعراف: 172]، فأخبر أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم، إذ كانوا واجدين للحق في غير وجودهم لأنفسهم، وكان الحق بالحق في ذلك موجوداً".

ص: 659

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأنشد السلمي لبعضهم:

لو يسمعون كما سمعت كلامها

خروا لعزة ركعاً وسجودا

وقال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي، قدس سره:

"ورد في الحديث أن الله مسح ظهر آدم، وأخرج ذريته منه، كهيئة الذر، استخرج الذر من مسام شعر آدم، فخرج الذر كخروج العرق، وكان ذلك ببطن النعمان: وادٍ بجنب عرفة، بين مكة والطائف".

وقلت: والغرض من هذا الإطناب الإرشاد إلى التفادي عن القول في الأحاديث الصادرة عن منبع الرسالة عن الثقات، بأنها متروكة العمل، لعلة كونها من الآحاد، لأن ذلك يؤدي إلى سد باب كثيرٍ من الفتوحات الغيبية، ويحرم قائله من عظيم منح الإلهية.

روى الإمام أبو بكر البيهقي رحمه الله في "المدخل" عن الشافعي رضي الله عنه: الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحدٍ عن واحدٍ عن النبي صلي الله عليه وسلم، ويجعلونه سنة، حمد من تبعها، وعيب من خالفها. وقال الشافعي: من فارق هذا المذهب كان عندنا مفارقاً لسبيل أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وأهل العلم بعدهم، وكان من أهل الجهالة. وقال الشافعي: فمهما قلت من قولٍ أو أصلت من أصلٍ فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 660

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو قولي. قال: وجعل يردده. وروى الدارمي عن الشعبي قال: ما حدثك هؤلاء عن النبي صلي الله عليه وسلم فخذ به، وما قاله برأيه فألقه في الحش.

روينا عن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، عن المقدام، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرموه". وفي رواية: "وإن ما حرم رسول الله صلي الله عليه وسلم كما حرم الله" الحديث.

وفي "جامع الأصول" عن رزينٍ العبدري، عن أبي رافع، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:"لا أعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري أنا أمرته، أو نهيت عنه، وهو متكئ على أريكته، فيقول: ما ندري ما هذا؟ عندنا كتاب الله، وليس هذا فيه" الحديث.

وقد روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن نحوه، وروايتهم أقصر.

ص: 661

[(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ* وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)].

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ): على اليهود (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها): هو عالمٌ من علماء بني إسرائيل، وقيل: من الكنعانيين، اسمه بلعم بن باعوراء؛ أوتي علم بعض كتب الله، (فَانْسَلَخَ مِنْها): من الآيات، بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ): فلحقه الشيطان وأدركه وصار قريناً له،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقلت: والذي أقضي منه العجب أن الشيخ شهاب الدين التوربشتي كيف نقل كلامهم هذا، وقرره، ولم يرد عليه، مع رسوخ علمه، وعلو مرتبته! والله أعلم.

قوله: (هو عالم من علماء بني إسرائيل): روى محي السنة عن مجاهد: هو بلعام بن باعر. وعن ابن عباس: هو بلعام بن باعوراء، كان من بني إسرائيل. وروي عن ابن طلحة رضي الله عنه أنه كان من الكنعانيين.

قوله: ((فانسلخ منها)

بأن كفر بها، ونبذها وراء ظهره): هذه مبالغة، لأن السلخ حقيقةً: كشط الجلد عن المسلوخ، وإزالته عنه بالكلية.

قال الإمام: "انسلخ، أي: خرج. يقال لكل من فارق الشيء بالكلية: انسلخ منه".

قوله: ((فأتبعه الشيطان): فلحقه)، الجوهري:"أتبعت القوم - على "أفعلت" -: إذا كانوا قد سبقوك، فلحقتهم. وأتبعت أيضاً غيري. يقال: أتبعته الشيء فتبعه".

ص: 662

أو: فأتبعه خطواته. وقرئ: "فاتبعه"؛ بمعنى: فتبعه، (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ): فصار من الضالين الكافرين. روي: أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه، فأبى وقال: كيف أدعو على من معه الملائكة، فألحوا عليه ولم يزالوا به حتى فعل، (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها): لعظمناه ورفعناه إلى منازل الأبرار من العلماء بتلك الآيات، (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ): مال إلى الدنيا ورغب فيها. وقيل: مال إلى السفالة ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (روي: أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى): عن محيي السنة، عن ابن عباس، والسدي، وغيرهما، "أن موسى، لما قصد حرب الجبارين، ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام، أتى قوم بلعام [إلى بلعم]، وكان عنده اسم الله الأعظم، فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه قد جاء ليخرجنا من ديارنا، ويقتلنا، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج وادع الله أن يردهم عنا. فقال: ويلكم، نبي الله، ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم، وإني إن فعلت هذا ذهبت ديناي وآخرتي؟ ! فراجعوه، وألحوا عليه، فلم يزالوا يتضرعون إليه، حتى فتنوه".

قوله: ((ولكنه أخلد إلى الأرض): مال إلى الدنيا، ورغب فيها)، النهاية:"أخلد إليها، أي: ركن إليها، ولزمها". وقال الزجاج: "يقال: أخلد فلان إلى كذا وكذا، وخلد - والأول أكثر - أي: سكن إلى لذات الأرض".

قوله: (وقيل: مال إلى السفالة) الرواية بفتح السين.

ص: 663

فإن قلت: كيف علق رفعه بمشيئة الله تعالى ولم يعلق بفعله الذي يستحق به الرفع؟ قلت: المعنى: ولو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها؛ وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعةٌ للزومه الآيات فذكرت المشيئة. والمراد: ما هي تابعةٌ له ومسببةٌ عنه، كأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها. ألا ترى إلى قوله: (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ)، فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون (وَلَوْ شِئْنا) في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: ولو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: "السفالة، بضم السين: نقيض العلو، وبالفتح: النذالة".

الأساس: "ومن المجاز: سفلت منزلته عند الأمير. وقد سفل في النسب والعلم".

قوله: (مال إلى الدنيا ورغب فيها) مقابل لقوله: "رفعناه إلى منازل الأبرار"، لأن الدنيا ليست بمنازلهم، لقوله:"فاعبروها، ولا تعمروها".

وأما قوله: (مال إلى السفالة) فبالنظر إلى لفظ "رفعنا".

قوله: (ألا ترى إلى قوله تعالى: (ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ)، فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون (ولو شئنا) في معنى ما هو فعله)، قال القاضي: "إنما علق رفعه بمشيئة الله، ثم استدرك عنه بفعل العبد، تنبيهاً على أن المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه، وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة، وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول السبب، من حيث إن المشيئة تعلقت به.

ص: 664

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكان من حقه أن يقول: ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه (ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ)، مبالغةً وتنبيهاً على أن ما حمله عليه هو هواه، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة".

هذا تمام كلام القاضي. وتلخيصه: أن قوله تعالى: (ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) مجرى على ظاهره، وقوله:(ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ) محمول على التأويل، على عكس ما فعله المصنف.

ثم الواجب علينا أن نبين وجه الرجحان من غير التعصب، فنقول، والله أعلم بمراده من كلامه: إنه تعالى لما قال: (الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا) بمعنى: نحن فعلنا إيتاء الآيات، فعقبها هو بفعل الانسلاخ، توهماً منه أنه مستقل في إيجاد الفعل، فقيل دفعاً لذلك التوهم: لو شئنا أن نرفعه بالآيات إلى المراتب العلية لفعلنا، فلا يحصل منه الانسلاخ إذاً، لكن تعلقت مشيئتنا بانحطاطه إلى الأرض، فحصل منه الانسلاخ، فوضع موضعه (أخلد إلى الأرض) ليطابق الرفع. وإنما جاء قول المصنف:"ولكنه أخلد إلى الأرض، فحططناه"، على عكس هذا التقدير: لأنه جعل مشيئة الله تابعةً لفعل العبد، فعدم التوفيق، فأخطأ في التلفيق.

وأما قوله: "ولو كان الكلام على ظاهره، لوجب أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنا لم نشأ"، فجوابه: أنك لما جعلت المشيئة ابتداءً تابعةً للزوم هذا الإنسان الآيات، لزمك هذا، فاجعل لزومه الآيات تابعاً للمشيئة، كما فعلنا، لتنظر كيف يجيء الكلام على سننه!

ص: 665

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ): فصفته التي هي مثلٌ في الخسة والضعة كصفة الكلب في أخس أحواله وأذلها، وهي حال دوام اللهث به واتصاله، سواء حُمِلَ عليه - أي: شُدّ عليه وهيج فطرد - أو ترك غير متعرّضٍ له بالحمل عليه. وذلك أنّ سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا هيج منه وحرّك، وإلا لم يلهث، والكلب يتصل لهثه في الحالتين جميعاً، وكان حق الكلام أن يقال:(ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض)، فحططناه ووضعنا منزلته، فوضع قوله:(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) موضع "فحططناه أبلغ حط" لأنّ تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وكان حق الكلام) إلى قوله: (فحططناه أبلغ حط): اعلم أن التشبيه عدول عن أصل المعنى، وروم للمبالغة، فإنك إذا أردت المبالغة في قولك:"زيد شجاع"، قلت:"زيد كالأسد"؛ لأنك في التشبيه تقصد محاولة إبراز المشبه في صورة المشبه به، ليثبت في النفس خياله، فيكون أدخل في الروعة وآكد في الدلالة من أصل المعنى.

وهاهنا الأصل - كما قال - "حططناه أبلغ حط"، فوضع التمثيل مقامه، ليخيل إلى السامع خيالاً في غاية الضعة والخسة. واللهث: إدلاع اللسان من التنفس الشديد.

فإن قلت: نسبة التمثيل إلى أصل المعنى من أي قبيل هو؟ قلت: من قبيل الكناية، وأخذ الزبدة والخلاصة من المجموع من غير اعتبار مفرداته، كما سيجيء في قوله تعالى:(والأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)[الزمر: 67].

ص: 666

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الكلب منقطع الفؤاد، يلهث إن حمل عليه أو لم يجمل عليه. وقيل: معناه: إن وعظته فهو ضالّ، وإن لم تعظه فهو ضالّ، كالكلب إن طردته فسعى لهث، وإن تركته على حاله لهث.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: معناه: إن وعظته فهو ضال) عطف على قوله: "فصفته التي هي مثل في الخسة". والتمثيل الأول: مركب عقلي، لأنه اعتبر من المجموع الضعة والخسة: شبه بلعام من حيث إنه مال من المرتبة العالية، ومنازل الأبرار من العلماء، إلى أسفل السافلين، والميل إلى الدنيا وحطامها، بالكلب في الحالتين معاً. والوجه: هو الزبدة والخلاصة من الضعة والخسة. وإليه أشار بقوله: "لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك" أي: حططناه أبلغ حط.

وعلى الثاني: مركب وهمي، لأنه توهم في الوجه متعدداً، وهو عدم تغيير حال الضعة في حالتي الإغراء والترك. وهو المراد من قوله:"إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال".

وعلى الثالث - وهو قوله: "وقيل: لما دعا بلعم على موسى" إلى آخره -: التشبيه مفرد حسي. وقوله: (إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث) جملة استئنافية مبنية لحال تشبيه بلعام بالكلب. ولهذا قال: "وجعل يلهث كما يلهث الكلب".

والدليل على أن هذا التشبيه مفرد، والأول والثاني مركبان: سؤاله بقوله: "ما محل الجملة الشرطية؟ " بعد تمام التشبيهين. وجوابه: "النصب على الحال"، ليدخل حينئذٍ في حيز التشبيهين، لإرادة التركيب فيهما.

ص: 667

فإن قلت: ما محل الجملة الشرطية؟ قلت: النصب على الحال، كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة لاهثاً في الحالتين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (النصب على الحال، كأنه قيل: كمثل الكلب ذليلاً دائم الذلة): قال صاحب "الضوء": "الشرطية لا تكاد تقع بتمامها موقع الحال، ولو أريد ذلك لجعلت خبراً عن ضمير ما أريد الحال عنه، نحو: "جاءني زيد وهو إن يسأل يعط". فالحال إذن جملة اسمية، والسر فيه أن الشرطية، لتصدرها بما يقتضي الصدرية، لا تكاد ترتبط بما قبلها، إلا أن يكون هناك فضل قوة. نعم، إنما يجوز إذا أخرجت عن حقيقة الشرط، ثم هي لم تخل من إن عطف عليها ما يناقضها أو لم يعطف. والأول: حذف الواو فيه مستمر، نحو: آتيك إن تأتني أو لم تأتني؛ لأن النقيضين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط، بل يتحولان إلى معنى التسوية، كالاستفهامين المتناقضين في قوله تعالى: (وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ) [البقرة: 6]. وأما الثاني: فلابد فيه من الواو، نحو: آتيك وإن لم تأتني، ولو ترك الواو لالتبس بالشرط حقيقة".

قلت: وإنما ترك الواو في التنزيل، لأنه من باب: آتيك إن تأتني أو لم تأني، لأن المراد: إن حمل عليه أو لم يحمل عليه.

وأما قوله قبل هذا: "سواء حمل عليه - أي: شد عليه وهيج فطرد - أو ترك غير متعرض له" فهو كما قاله صاحب "الضوء": "إن النقيضين في هذا المقام لا يبقيان على معنى الشرط، بل يتحولان إلى معنى التسوية".

ص: 668

وقيل: لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانه فوقع على صدره، وجعل يلهث كما يلهث الكلب.

(ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) من اليهود بعد ما قرؤوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة،

وذكر القرآن المعجز وما فيه، وبشروا الناس باقتراب مبعثه، وكانوا يستفتحون به، "فَاقْصُصِ" قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم، (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيحذرون مثل عاقبته، إذ ساروا نحو سيرته، وزاغوا شبه زيغه، ويعلمون أنك علمته من جهة الوحي، فيزدادوا إيقاناً بك وتزداد الحجة لزوماً لهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)) يعني: إنما أتى بقوله: (ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ) عقيب تمثيل بلعام لينبه اليهود الذين كذبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد ما أوتوا من الآيات، وهو التوراة، وفيها نعت الرسول صلي الله عليه وسلم وذكر القرآن، وبشروا الناس بمبعثه، واستفتحوا بنصرته، ثم انسلخوا منها، ومالوا إلى الدنيا، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، وحرفوا اسمه، وكفروا به، على أن حالهم مثل حال بلعام، حذو القذة بالقذة.

وإليه الإشارة بقوله: "فاقصص قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم (لعلهم يتفكرون) "، قلت: من تفكر في هذا المثل، وسائر الأمثال المضروبة في التنزيل، في حق المشركين والأصنام؛ من بيت العنكبوت، والذباب، تحقق له أن حال علماء السوء أسوأ وأقبح من ذلك، فما أنعاه من مثلٍ عليهم، وما هم فيه من التهالك في الدنيا؛ مالها

ص: 669

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وجاهها، والركون إلى لذاتها وشهواتها، ومن متابعة النفس الأمارة وإرخاء زمامها في مرامها!

وكتب شيخنا شيخ الإسلام شهاب الدين أبو حفص السهروردي، إلى الإمام العلامة فخر الدين الرازي تغمدهما الله برضوانه: "من تعين في الزمان لنشر العلم، عظمت نعمة الله لديه، ينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب الديانات، أن يمدوه بالدعاء الصالح، ليصفي الله تعالى مورد علمه بحقائق التقوى، ومصدره من شوائب الهوى، إذ قطره من الهوى تكدر بحراً من العلم، ونوازع الهوى المركون في النفوس المستصحبة إياه، من محتدها، من العالم السفلي، إذا شابت العلم حطته من أوجه. وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى، أمدته كلمات الله التي ينفد البحر دون نفادها، ويبقي العلم على كمال قوته، وهذه رتبة الراسخين في العلم، لا المترسمين به، وهم وراث الأنبياء: كر عملهم على علمهم، وكر علمهم على عملهم، وتناوب العلم والعمل فيهم، حتى صفت أعمالهم، ولطفت، فصارت مسامراتٍ سرية، ومحاوراتٍ روحية، وتشكلت الأعمال بالعلوم، لمكان لطافتها، وتشكلت العلوم بالأعمال، لقوة فعلها، وسراتها إلى الاستعدادات.

وفي إتباع الهوى إخلاد إلى الأرض، قال الله تعالى:(ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ واتَّبَعَ هَوَاهُ)، فتطهير نور الفكرة عن رذائل التخيلات، والارتهان بالموهومات، التي اشتركت العقول الصغار المداهنة للنفوس القاصرة، وهو من شأن البالغين من الرجال، فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى، فتسرح في ميادين القدس، والنزاهة؛ النزاهة من محبة حطام الدنيا، والفرار؛ الفرار من استحلاء نظر الخلق وعقائدهم، فتلك مصارع الأدوان. فطالب الرفيق الأعلى مكلم محدث، والتعريفات الإلهية واردة عليه، لمكان علمه بصورة.

ص: 670

[(ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ)].

(ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ) أي: مثل القوم، أو ساء أصحاب مثل القوم. وقرأ الجحدري:"ساء مثل القوم". (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) إما أن يكون معطوفاً على (كذبوا)، فيدخل في حيز الصلة بمعنى: الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم، وإما أن يكون كلاماً منقطعاً عن الصلة، بمعنى: وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب، وتقديم المفعول به للاختصاص، كأنه قيل: وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّها إلى غيرها.

[(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)].

(فَهُوَ الْمُهْتَدِي) حملٌ على اللفظ، و (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) حملٌ على المعنى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الابتلاء، واستئصال شأفة الابتلاء بصدق الالتجاء، وكثرة ولوجه في حريم القرب الإلهي، وانغماسة مع الأنفاس في بحار عين اليقين، وغسله كشف دلائل البرهان بنور العيان، والبرهان للأفكار، والعيان للأبرار" إلى آخره، والله أعلم.

قوله: (أي: مثل القوم، أو ساء أصحاب مثل القوم) يريد: أنه لابد أن يكون المخصوص بالذم مطابقاً للفاعل، والفاعل هاهنا مضمر مميز بـ (مثلا)، و (القوم) لا يطابقه، فيقدر المضاف إما قبل (القوم) وإما قبل (مثلاً) ليطابقه.

قوله: (وإما أن يكون كلاماً منقطعاً عن الصلة) وعلى هذا الكلام تذييل وتأكيد لمضمون الجملة.

قوله: ((فهو المهتدي) حمل على اللفظ، و (فأولئك هم الخاسرون) حمل على المعنى):

ص: 671

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال القاضي: "في هذا تنبيه على أن المهتدين كواحد، لاتحاد طريقهم، بخلاف الضالين. والاقتصار في الإخبار عمن هداه الله بـ (المهتدى) تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم، ونفع عظيم، لو لم يحصل له غيره لكفاه، وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة".

وقال: "الآية تصريح بأن الهدى والضلالة من الله، وأن هداية الله تختص ببعضٍ دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء".

وقلت: الآية تذييل للتمثيلين وتأكيد، لأن المشيئة هي السبب في فعل العبد من الاهتداء والضلال، وأن لزوم "بلعام" الآيات تابع لمشيئة الله، وأن الكلام فيه مجرى على ظاهره.

والآية التالية المصدرة بالقسمية تذييل لقصة الفرقة الضالة بعد عد قبائحهم، وتسجيل بأنهم لا يؤمنون، تسلية لرسول الله صلي الله عليه وسلم ليعرض عنهم، ويقبل إلى من يجدي به الإنذار وينجع فيه الوعظ. يدل عليه قوله تعالى:(وذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ)[الأعراف: 180]، وقوله:(ومِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ)[الأعراف: 181]، أي: دع هؤلاء الذين يحرفون كلام الله، ويميلون بأسمائه الحسنى إلى التأويل الزائغ، واشتغل بأمتك الذين يتمسكون بكتاب الله، ولا يلحدون في أسمائه الحسنى، ولا يتبعون ما تشابه منها. يدل عليه ما رواه المصنف:"هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها".

ويدل على أن هذا الكلام تذييل لقصة اليهود: قوله: "والمراد: وصف حال اليهود في عظم ما أقدموا عليه، وأنهم من جملة الكثيرين الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم".

ص: 672

[(وَلَقَدْ ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)].

(كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) هُم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لُطف لهم، وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحق، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار، ولا يسمعون ما يتلى عليهم من آيات الله سماع تدبر، كأنهم عدموا فهم القلوب، وإبصار العيون، واستماع الآذان، وجعلهم - لإغراقهم في الكفر، وشدّة شكائمهم فيه، وأنه لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار - مخلوقين للنار، دلالةً على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار ومنه كتاب عمر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد:"بلغني أن أهل الشام اتخذوا لك دلوكاً عجن بخمر وإني لأظنكم آل المغيرة ذره النار". ويقال لمن كان عريقاً في بعض الأمور: ما خلق فلانٌ إلا لكذا. والمراد وصف حال اليهود في عظم ما أقدموا عليه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع علمهم أنه النبي الموعود، وأنهم من جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم، كأنهم خلقوا للنار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (كتاب عمر رضي الله عنه، النهاية:"الدلوك، بالفتح: اسم لما يتدلك به من الغسولات، كالعدس والأشنان والأشياء المطيبة".

قوله: (عريقاً في بعض الأمور)، الأساس:"فلان معرق في الكرم أو اللؤم، وهو عريق فيه".

قوله: (وأنهم من جملة [الكثير] الذين) عطف على قوله: "وصف" أو "عظم ما أقدموا"، ومحل قوله:"كأنهم خلقوا للنار": إما نصب حال من الضمير في خبر "أن" بمعنى: مشبهين. وإما رفع خبرٍ بعد خبر، وفي كلامه أنهم ما خلقوا للنار حقيقة، وأن المراد من قوله تعالى:

ص: 673

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(ولَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ) الإغراق في وصفهم به. وهو مخالف للظاهر والأحاديث الواردة في الباب؛ منها ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده"، عن عبد الرحمن بن قتادة، قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره، فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي". قال قائل: فعلى ماذا نعمل؟ قال: "على موافقة القدر".

ومنها ما روينا عن مالك وأحمد والترمذي وأبي داود، عن عمر رضي الله عنه: الحديث السابق، عند قوله تعالى:(ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)[الأعراف: 172].

وغير موافق للنص القاطع، والنظم الفائق، فإن قوله تعالى:(ولقد ذرأنا لجهنم) كالتفريع على تذييل قصة الفرقة الضالة، المشبهة بـ"بلعام".

وموقع قوله تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا) مع ما قبله: موقع قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ)[البقرة: 7] مع ما قبله، وفصل ما نحن بصدده عليه أنه مصدر بالجملة القسمية، أن المذكورات هاهنا مستقلة في كونها جملاً صراحاً، واسمية مكررة الجار والمجرور، والاستئناف

ص: 674

(أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) في عدم الفقه والنظر للاعتبار والاستماع للتدبر، (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبر، (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ): الكاملون في الغفلة، وقيل: الأنعام تبصر منافعها ومضارّها، فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار.

[(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)].

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التي هي أحسن الأسماء، لأنها ندل على معانٍ حسنةٍ من تمجيدٍ وتقديسٍ وغير ذلك، (فَادْعُوهُ بِها): فسموه بتلك الأسماء، (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هاهنا بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث، كأنه تعالى لما أقسم بقوله:(ولَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ والإنسِ)، قيل: فما يكون لهم حينئذ؟ فقيل: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا)، وكيت وكيت.

وأما فائدة القسمية: فللتنبيه على قلع شبهة من عسى أن يتصدى لتأويل الآية، ويحرف النص القاطع، ويقول:"ومعنى (ولقد ذرأنا لجهنم): وجعلهم لإغراقهم في الكفر، وشدة شكمائمهم، وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار، مخلوقين للنار".

ومما يؤاخيه ما روى المصنف: "أن أعرابياً، لما سمع قوله تعالى: (وفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ ومَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ والأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ) [22 - 23]، قال: من الذي أغضب الجليل، حتى حلف؟ كأنهم لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤوه إلى اليمن".

قال الإمام: "هذه الآية حجة لصحة مذهبنا في مسألة خلق الأعمال، وإرادة

ص: 675

واتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب فيها فيسمونه بغير الأسماء الحسنى، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه، كما سمعنا البدو يقولون بجهلهم: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا نخىّ! أو أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى، نحو أن يقولوا: يا الله، ولا يقولوا: يا رحمن، وقد قال الله تعالى:(قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)[الإسراء: 110]. ويجوز أن يراد: ولله الأوصاف الحسنى، وهي الوصف بالعدل والخير والإحسان وانتفاء شبه الخلق فصفوه بها، وذروا الذين يلحدون في أوصافه، فيصفونه بمشيئة القبائح وخلق الفحشاء والمنكر، وبما يدخل في التشبيه، كالرؤية ونحوها، وقيل: إلحادهم في أسمائه: تسميتهم الأصنام آلهةً، واشتقاقهم "اللات" من "الله"، و"العزى" من "العزيز".

[(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكائنات، لأنه تعالى صرح بأنه خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم، ولا مزيد على بيان الله عز وجل".

قوله: (يا نخي! ) بالنون والخاء المعجمة، أي: يا متكبر. الأساس: "وقد ينخى فلان، وهو منخو مزهو. وانتخى من كذا: استنكف منه، والعرب تنتخي من الدنايا، ورجل ذو نخوة".

قوله: (ويجوز أن يراد: ولله الأوصاف الحسنى)، معطوف على قوله:"التي هي أحسن الأسماء" لأنها تدل على معانٍ حسنة. ويتغير بحسب التفسيرين معنى قوله تعالى: (يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ): فعلى الأول: الإلحاد في التسمية أن يقال: أبو المكارم ونحوه، أو أن يخص بالله دون الرحمن. وعلى الثاني: الإلحاد في الوصف، وهو ما ذكره من المعاني التي دلت على مذهبه تحكماً.

ص: 676

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو أيضاً ميل، لأن المراد بأسمائه الحسنى ما ورد عن الشارع، وأذن فيه في الكتاب والسنة.

أما الكتاب فإن التعريف في "الأسماء" للعهد، ولابد من المعهود، ولأنه أمر بالدعاء بها بقوله تعالى:(فادعوه بها) فلابد من وجود المأمور به، ونهى عن الدعاء بغيرها في قوله:(وذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ)، وأوعد على الإلحاد فيها بقوله:(سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وأكده بالسين.

وأما الحديث فما رويناه عن البخاري، ومسلم، والترمذي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن لله تسعةً وتسعين اسماً، من حفظها دخل الجنة"، وفي رواية:"أحصاها"، وفي أخرى:"إن لله تسعةً وتسعين اسماً، مئةً إلا واحداً".

قوله: "مئةً إلا واحداً" تأكيد وفذلكة، لئلا يزاد على ما ورد، كقوله تعالى:(تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)[البقرة: 196].

قال محيي السنة: "الإلحاد في أسمائه: تسميته بما لم ينطق به كتاب ولا سنة. وجملته أن أسماء الله على التوقيف".

ص: 677

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في كتاب "مفاتيح الحجج ومصابيح النهج": "أسماء الله تعالى تؤخذ توقيفاً، ويراعى فيه الكتاب والسنة والإجماع. فكل اسم ورد به في هذه الأصول وجب إطلاقه في وصفه تعالى، وما لم يرد فيها لا يجوز إطلاقه في وصفه تعالى وإن صح معناه".

وقال الزجاج: "لا ينبغي لأحدٍ أن يدعوه بما لم يصف به نفسه، فيقول: يا الله، يا رحمن، يا جواد، ولا يقول: يا سخي، لأنه لم يصف به نفسه، ويقول: يا رحيم، لا: يا رفيق، ويقول: يا قوي، لا: يا جلد".

وقال الإمام: "قال أصحابنا: ليس كل ما صح معناه جاز إطلاقه عليه سبحانه وتعالى، فإنه الخالق للأشياء كلها، ولا يجوز أن يقال: يا خالق الذئب والقردة. وورد: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا) [البقرة: 31]، (وعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ) [النساء: 113]، (وعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) [الكهف: 65]، ولا يجوز: يا معلم، ولا يجوز عندي: يا محب، وقد ورد: (يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ) [المائدة: 54] ". تم كلامه.

وأما الصفات فكذلك، فكل ما ثبت بالكتاب والسنة من الصفات والأفعال، كجواز الرؤية، وخلق أفعال العباد، دون ما تشتهيه النفس، ويميل إليه الوهم، هو الذي يجب أن يتبع.

ص: 678

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الإمام: "ومن الإلحاد قول المعتزلة: لو فعل كذا لكان سفيهاً، مستحقاً للذم".

والمقام لا يقتضي إلا ذلك، لما تقرر أن الآية تذييل لقصة اليهود، وأنهم كانوا يغيرون أوضاع التوراة، ويحرفون الكلم عن مواضعه، يعني: تمسك بما جاءك، في أسماء الله وصفاته وأفعاله، من الله، وذر الذين يغيرون ما جاءهم من الله تعالى. فإذا لا مدخل للقياس والوهم فيه.

تنبيه: ذكر الفاضل برهان الدين النسفي في "شرح أسماء الله الحسنى": "أن مذهب الأشعري ومن تابعه: أن أسماء الله تعالى توقيفية. والمعتزلة والكرامية: أنها قياسية، لأنه إذا تقرر في العقل أن معنى اللفظ ثابت في حقه تعالى فقد صح الإطلاق. واختيار الغزالي وبعض الأصحاب: أن الأسماء موقوفه على الإجازة، وأما الصفات فلا.

واعلم أن الألفاظ الدالة على الصفات ثلاثة أقسام:

الأول: ما يدل على صفات واجبة، منها ما يصح إطلاقه مفرداً لا مضافاً، نحو: الموجود، والأزلي، والقديم، ونحوها. ومنها ما يصح إطلاقه مفرداً ومضافاً، نحو: الملك، والمولى، والرب، والخالق، يجوز: يا خالق السموات. دون: يا خالق القردة والخنازير. ومنها ما يصح مضافاً غير مفرد، نحو: يا منشئ الرفات، ويا مقيل العثرات.

ص: 679

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والثاني: ما يدل على صفاتٍ ممتنعة، نحو: الوجه، واليد، والنزول، والمجئ، ولا يصح إطلاقه البتة، وإن ورد به السمع كان التأويل من اللوازم.

والثالث: ما لا يدل على صفاتٍ واجبةٍ ولا ممتنعة، بل يدل على معانٍ ثابتة، نحو: المكر والخداع وأمثالهما. فلا يصح إطلاقه، إلا إذا ورد التوقيف. ولا يقال: يا مكار، يا خداع، البتة، وإن كان مذكوراً، كقوله:(ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ)[آل عمران: 54].

فإن قلت: أليس أن العجم يسمون الله باسمٍ غير وارد، والأمة قد اتفقوا على صحته؟ فنقول: الأصل فيه ألا يصح، وأما اتفاقهم على الصحة، فإنه يدل على كونه وارداً، وأما الوصف فإنه لا يتوقف على التوقيف، فإن مدلول اللفظ لما كان ثابتاً في حق الله تعالى كان وصفه به حقاً، فوجب أن يصح، غير أنه إذا كان موهماً لما لا يليق بحضرته، فاللازم هو الاحتراز عنه".

وقال أيضاً: "المتكلمون قالوا: اللفظ إما أن يدل على نفس الحقيقة من حيث هي هي، كالأرض، والسماء، والحجر، والمدر، فهو الاسم، أو يدل على أنها موصوفة بصفةٍ معينة، نحو: العالم والقادر والخالق والرازق، وهو الصفة".

وقلت: هذه القسمة التي ذكرها، والفرق الذي نقله، كله على خلاف رأي الأصحاب.

والحق أن الاعتماد في كل ذلك على التوقيف، فكل ما أذن به الشارع أن يدعى به الله عز اسمه - سواء كان مشتقاً أو غير مشتق - فهو اسم، وكل ما نسب إليه تعالى من غير ذلك الوجه - سواء كان مؤولاً أو غير مؤول - فهو وصف، كقوله تعالى: (ولِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى

ص: 680

لما قال: (وَلَقَدْ ذَرَأنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً)[الأعراف: 179]، فأخبر أنّ كثيراً من الثقلين عاملون بأعمال أهل النار، أتبعه قوله:(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فَادْعُوهُ بِهَا وذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ). وقوله صلي الله عليه وسلم: "إن الله تسعةً وتسعين اسماً، مئةً إلا واحداً". وقول الآئمة: يقال: يا رحيم، لا: يا رفيق، ويقال: يا قوي، لا: يا جليد. ولا يقال: يا معلم، يا محب.

مثاله حديث سلمان رضي الله عنه، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم:"الله حيي كريم، يستحيي إذا رفع إليه العبد يده أن يرده صفراً، حتى يضع فيهما خيراً"، أخرجه أبو داود والترمذي.

فالاسم كريم، والوصف حيي، فيقال: يا كريم، لا: يا حيي.

وقوله: "يرده" و"يضع" مما نسب إليه، فيجوز اعتبار لفظهما فحسب، فلا يقال: يا راد، يا واضع، فقس على ذلك، لا على العقل. وقل:"لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك".

قوله: (لما قال: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً)

أتبعه قوله: (ومِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ)): ولخص القاضي هاهنا كلام الإمام، حيث قال: "ذكر الله تعالى (ومِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ)، بعد ما بين أنه خلق للنار طائفةً ضالين ملحدين عن الحق، للدلالة على أنه خلق أيضاً للجنة هادين بالحق، عادلين في الأمر. واستدل به على صحة الإجماع، لأن المراد منه أن

ص: 681

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في كل قرنٍ طائفةً بهذه الصفة، إذ لو اختص بعهد الرسول صلي الله عليه وسلم أو غيره، لم يكن لذكره فائدة. فإنه معلوم".

وقلت: قد ظهر من كلام المصنف والإمامين، أن قوله تعالى:(وممن خلقنا) عطف على جملة قوله: (ولقد ذرأنا)[الأعراف: 179]. وقوله: (يهدون بالحق وبه يعدلون)، إذا أخذ بجملته وزبدته، كان كالمقابل لقوله:(لهم قلوبٌ لا يفقهون بها) إلى قوله: (هم الغافلون)[الأعراف: 179]، وكلتا الآيتين كالنشر لقوله:(مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِي ومَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ) وهو كالتذييل لحديث بلعام، الذي أوتي آيات الله، والأسماء العظام، فانسلخ منها، ومال إلى الأرض.

ولما كانت الآيات تابعةً لتلك المعاني صح أن يكون: (ولِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى)[الأعراف: 180] اعتراضاً. وأما تعلقه بقوله: (أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ)[الأعراف: 179] فإنه كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله، وعن أسمائه الحسنى.

وأرباب الذوق والمشاهدة يجدون ذلك من أرواحهم، لأن القلب، إذا غفل عن ذكر الله، وأقبل على الدنيا وشهواتها، وقع في نار الحرص، ولا يزال يترقى من ظلمةٍ إلى ظلمة، حتى ينتهي إلى دركات الحرمان. وبخلافه إذا انفتح على القلب باب ذكر الله تعالى.

ص: 682

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول إذا قرأها: «هذه لكم، وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) [الأعراف: 159] "، وعنه صلى الله عليه وسلم: "إنّ من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى عليه السلام» وعن الكلبي: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب. وقيل: هم العلماء والدعاة إلى الدين.

[(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ* وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ* أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَوَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)].

الاستدراج: استفعالٌ من الدرجة؛ بمعنى: الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة. قال الأعشى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها) يعني: قوله تعالى: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) حاصل لكم، ونازل في شأنكم، فهي مختصة بكم، وقد أعطي القوم الذين سبقكم، يعني: بني إسرائيل، مثل هذه الآية، وهي قوله تعالى:(ومِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) الآية [الأعراف: 159]، يريد: لا تحملوا هذه الآية على بني إسرائيل، فإن لهم آية أخرى، واردةً في شأنهم.

قوله: (إن من أمتي قوماً على الحق) الحديث من رواية البخاري ومسلم، عن معاوية قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لا يزال من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك".

ص: 683

فلو كنت في جبّ ثمانين قامةً

ورقيت أسباب السّماء بسلّم

ليستدر جنك القول حتّى تهرّه

وتعلم أنّى عنكم غير مفحم

ومنه: درج الصبي: إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب: طواه شيئاً بعد شيء، ودرج القوم: مات بعضهم في أثر بعض.

ومعنى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ): سنستدنيهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم، (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) ما يراد بهم، وذلك أن يواتر الله نعمه عليهم مع انهماكهم في الغيّ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (فلو كنت في جب) البيتين، الجب: البئر. وأسباب السماء: أبوابها. تهره: تكرهه. أفحمت فلاناً: إذا لم يطق جوابك.

يقول: لو كنت مثلاً تحت الأرض، أو صعدت في السماء، ما تخلصت مني، ومن هجائي إياك، فإني أستصعدك من تحت الأرض، وأستنزلك من السماء، بقولٍ تكرهه، لتعلم أني غير مفحم من جوابك.

يقول: لو كنت مثلاً تحت الأرض، أو صعدت في السماء، ما تخلصت مني، ومن هجائي إياك، فإني أستصعدك من تحت الأرض، وأستنزلك من السماء، بقولٍ تكرهه، لتعلم أني غير مفحم من جوابك.

والواو في: "ورقيت" بمعنى "أو"؛ لأنه على وزان قوله تعالى: (فَإنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ)[الأنعام: 35].

قوله: (أن يواتر الله نعمه) أي: يتابع، من الوتيرة، وهي: الطريقة.

ص: 684

فكلما جدّد عليهم نعمة ازدادوا بطراً وجدّدوا معصية، فيتدرّجون في المعاصي بسبب ترادف النعم، ظانين أنّ مواترة النعم أثرةٌ من الله وتقريب، وإنما هي خذلانٌ منه وتبعيد، فهو استدراج الله تعالى، نعوذ بالله منه.

(وَأُمْلِي لَهُمْ) عطفٌ على (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ)، وهو داخل في حكم السين، (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) سماه "كيداً" لأنه شبيهٌ بالكيد، من حيث إنه في الظاهر إحسان، وفي الحقيقة خذلان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجوهري: "المواترة: المتابعة، ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة، وإلا فهي مداركة".

قوله: (فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم)، يمكن أن يحمل على الاستصعاد، باعتبار نظروهم وزعمهم أن مواترة النعم أثرة من الله، وهو الظاهر، وأن يحمل على الاستنزال، باعتبار الحقيقة؛ فإن الجبلة الإنسانية في أصل الفطرة سليمة، متهيئة لقبول الحق، لقضية "كل مولود يولد على الفطرة"، فهو في يفاع التمكن على الهدى والدين، فإذا أخلد إلى الأرض، واتبع الشهوات، ارتكب المعاصي، فنزل درجةً درجة، إلى أن يصير إلى أسفل السافلين، ومنزل أولئك (كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان: 44].

وإليه يلمح قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) [التين: 4، 5].

قوله: (أثرة من الله) من قولهم: استأثر فلان بالشيء: اختص به. والاسم: الأثرة، بالتحريك.

ص: 685

(ما بِصاحِبِهِمْ): بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، (مِنْ جِنَّةٍ) من جنون، وكانوا يقولون: شاعرٌ مجنون. وعن قتادة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم علا الصفا، فدعاهم فخذاً فخذاً، يحذرهم بأس الله، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يهوّت إلى الصباح.

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) نظر استدلال، (فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيما تدلان عليه من عظم الملك؟ والملكوت: الملك العظيم، (وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس لا يحصرها العدد ولا يحيط بها الوصف؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أن النبي صلي الله عليه وسلم علا الصفا) الحديث من رواية البخاري، ومسلم، وأحمد بن حنبل والترمذي، عن ابن عباس:"لما نزلت: (وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، صعد النبي صلي الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي"، لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجاء أبو لهب وقريش. فقال: "أرايتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي، تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ " قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال:"فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت:(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وتَبَّ)[المسد: 1] ".

قوله: (يهوت)، النهاية:"يهوت، أي: ينادي عشيرته، يقال: هوت بهم وهيت: إذا ناداهم، والأصل فيه حكاية الصوت. وقيل: هو أن يقول: ياه ياه. وهو نداء الراعي لصاحبه من بعد".

قوله: (مما يقع عليه اسم الشيء) يعني: قوله تعالى: (من شيء) بيان "ما" في "ما خلق الله"، يعني: إن فيما خلق الله تعالى أشياء ما علق عليها أسماءً ويقع عليها اسم الشيء.

ص: 686

(وَأَنْ عَسى)"أن" مخففةٌ من الثقيلة، والأصل: وأنه عسى، على أن الضمير ضمير الشأن، والمعنى: أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث: عسى (أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) ولعلهم يموتون عما قريب، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم، قبل مغافصة الأجل وحلول العقاب. ويجوز أن يراد باقتراب الأجل: اقتراب الساعة، ويكون من «كان» التي فيها ضمير الشأن.

فإن قلت: بم يتعلق قوله؛ : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)؟ قلت: بقوله: (عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ)، كأنه قيل: لعلّ أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((وأن عسى): "أن" مخففة من الثقيلة): قال أبو البقاء: "ويجوز أن تكون مصدرية. وعلى الوجهين هو عطف على (ملكوت)، و (أن يكون): فاعل (عسى)، واسم (يكون) مضمر فيها، وهو ضمير الشأن، و (قد اقترب) خبر "كان"، والهاء في (بعده) ضمير القرآن".

وقوله: "ويكون من "كان" التي فيها ضمير الشأن": ابتداء كلامٍ لا يختص بقوله: "ويجوز أن يراد".

قوله: (مغافصة الأجل)، الأساس:"غافصه الأمر: فاجأه على غرةٍ منه. ووقاك الله غوافص الدهر، أي: حوادثه".

قوله: (كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن)، يدل على أن قوله تعالى:(عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) متصل بقوله: (مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إنْ

ص: 687

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ)، وأن اتصال:(فبأي حديث) بقوله: (عسى أن يكون) اتصال المسبب بالسبب، لكن على تقدير معطوفات، فإنه قدر للفاء مدخولا آخر، وعطف (فبأي حديث) بالواو عليه.

المعنى: أو لم يتفكروا أن الشأن والحديث أن يكون قد اقترب أجلهم، فيسارعوا إلى التفكر في القرآن، والإيمان به. وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق؟ وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا.

والذي يدل على أن الكلام في القرآن، وأنه متعلق بالأول، الضمير في قوله تعالى:(بعده)، وأن أصل الكلام في الرسول صلي الله عليه وسلم ونفي الجنون عنه، بما يورده من الوحي، لأن وزان الآية وزان قوله تعالى:(وما صاحبكم بمجنون)، إلى قوله:(إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ)[التكوير: 22 - 27]، والآيات المشابهة لها.

وإنما خلط المصنف الكلام بعضه مع بعض، لأن قوله تعالى:(أَوَ لَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ) جاء مقرراً لقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ).

المعنى: أو لم يتجردوا للتفكر في ملكوت السموات والأرض، وما خلق الله من شيء، ليعلموا أن الله عز وجل لم يخلقهم سدى، وإنما خلقهم ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وليحصلوا ما به ينالون الزلفى عند الله، ويتخلصوا من عقاب السرمد. ولا يستتب ذلك إلا بإنزال كتاب، وإرسال رسول. فها هو قد أنزل إليكم هذا الكلام المجيد، وأرسل هذا الرسول الكريم، فيتفكروا في أحواله، ليعلموا أنه ليس بمجنون، ولينظروا في أحوال أنفسهم،

ص: 688

وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقِّ؟ ، وبأي: حديثٍ أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا؟

[(مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليتحقق الأمر. فما هذا التواني والانتظار؟ فانتظروا الفرصة، إذ ليس بعد ذلك حديث مثله، فآمنوا به قبل مغافصة الأجل، وحلول العقاب.

فلما كان قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ) تقريراً لقوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ) متصلاً به، وكان حديثاً في شأن التنزيل والرسول، عطف قوله:(وأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) عليه.

روى محيي السنة عن قتادة: أن النبي صلي الله عليه وسلم قام على الصفا ليلاً، فجعل يدعو قريشاً فخذاً فخذاً:"يا بني فلان، يا بني فلان"، يحذرهم بأس الله ووقائعه. فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون. فأنزل الله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)، ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم، فقال:(أَوَ لَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ومَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ) ليستدلوا به على وحدانيته، (وأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) أي: بعد القرآن. أي: بأي كتابٍ غير ما جاء به محمد يصدقون، وليس بعده نبي ولا كتاب؟ ! ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال تعالى:(مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ)[الأعراف: 186].

قوله: (وبأي حديثٍ أحق منه)، أحق منه: تأويل (بعده). المغرب: "قوله: وإن كان

ص: 689

قرئ: (وَيَذَرُهُمْ) بالياء والنون، والرفع على الاستئناف، و"يذرهم" بالياء والجزم؛ عطفاً على محل (فَلا هادِيَ لَهُ)، كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم.

[(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَاتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)].

(يَسْئَلُونَكَ) قيل: إن قوماً من اليهود قالوا: يا محمد، أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً، فإنا نعلم متى هي! وكان ذلك امتحاناً منهم، مع علمهم أن الله تعالى قد استأثر بعلمها. وقيل: السائلون قريش. و (السَّاعَةِ) من الأسماء الغالبة، كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة، لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، أو على العكس لطولها، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليس بالذي "لا بعد له"، يعني: ليس بنهاية في الجودة والرداءة، فكأن محمدًا - رحمة الله عليه - أخذ من قولهم: هذا مما ليس بعده غاية في الجودة والرداءة".

قوله: (وقرئ: (ويذرهم) بالياء والنون): بالياء: أبو عمروٍ وعاصم. وبالنون: نافع وابن كثير وابن عامر، وحمزة والكسائي: بالياء وجزم الراء.

قوله: (أو على العكس): أي: سميت القيامة بالساعة، بناءً على عكس ما هي عليه من الطول، تمليحًا، كما سميت المهمه مفازةً، والأسود كافورًا.

ص: 690

أو لأنها عند الله على طولها كساعةٍ من الساعات عند الخلق.

(أَيَّانَ) بمعنى: متى. وقيل: اشتقاقه من "أي"؛ فعلان منه، لأن معناه: أي: وقتٍ وأي فعل، من: أويت إليه، لأن البعض آوٍ إلى الكل متساندٌ إليه، قاله ابن جني، وأبى أن يكون من «أيان» ؛ لأنه زمان، «وأين» مكان. وقرأ السلمى:"إيان" بكسر الهمزة، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (أو لأنها عند الله) عطف على قوله: "لوقوعها بغتة"، يعني: سميت القيامة عرفًا بكذا، وعند الله بكذا.

والساعة عرفًا: عبارة عن أدني الزمان. قال في قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ)[الروم: 55]: "الساعة: القيامة، سميت بذلك لأنها تقع بغتة، كما تقول: "في ساعة"، لمن تستعجله، وجرت علمًا لها، كالنجم للثريا".

قوله: (قاله ابن جني): ذكر ابن جني في "المحتسب": "أما "أيان" بفتح الهمزة: ففعلان، وبكسرها: فعلان، والنون فيهما زائدة، حملاً على الأكثر في زيادة النون، في نحو ذلك. ولم تجعل "فعالاً" من لفظ "أين"، لما يمنع منه كون "أيان": ظرف زمان، و"أين": ظرف مكان. و"أي" هذه من لفظ "أويت" ومعناه: أما اللفظ فإن باب "طويت" و"شويت" أضعاف باب و"أي" هذه من لفظ "أويت" ومعناه: أما اللفظ فإن باب "طويت" و"شويت" أضعاف باب "حييت" و"عييت"، وأما المعنى فإن البعض أو إلى الكل، ومتساند إليه، فأصلها على هذا: "أوى"، ثم قلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، فصارت "أي"، كقولك: طويت الكتاب طيًا، وشويت اللحم شيًا".

قال أبو البقاء: " (أيان): اسم مبني، لتضمنه معنى حرف الاستفهام، بمعنى "متى"، وهو خبر لـ (مرساها)، والجملة في موضع جر بدلاً من الساعة، أي: يسألونك عن زمان حلول الساعة".

ص: 691

(مُرْساها): إرساؤها، أو وقت إرسائها، أي: إثباتها وإقرارها، وكل شيءٍ ثقيل رسوّه ثباته واستقراره. ومنه: رسا الجبل وأرسى السفينة. والمرسى: الأنجر الذي تُرسى به، ولا أثقل من الساعة، بدليل قوله:(ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)، والمعنى: متى يرسيها الله، (إِنَّما عِلْمُها) أي: علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به، لم يخبر به أحداً من ملكٍ مُقرّبٍ ولا نبيّ مرسل، يكاد يخفيها من نفسه، ليكون ذلك أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية، كما أخفى الأجل الخاص، وهو وقت الموت، لذلك (لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) أي: لا تزال خفية، لا يظهر أمرها ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده إذا جاء بها في وقتها بغتة، لا يجليها بالخبر عنها قبل مجيئها أحدٌ من خلقه، .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا أثقل من الساعة): يعني: إنما استعير (مرساها) لإثبات (الساعة) وإقرارها، والرسو إنما يستعمل في الأجسام الثقيلة: كالجبل، وأنجر السفينة، لأن "الساعة" أيضًا ثقيلة في المعنى، ولا أثقل منها. قال الله تعالى:(ويَذَرُونَ ورَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً)[الإنسان: 27]. ولهذا قال بعدها: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ والأَرْضِ) فجعل السموات والأرض ظرفًا لها، تشبيهاً للمعاني بالأجسام. ووجه التشبيه: أن كل شيءٍ لا يطاق ولا يقام له فهو ثقيل، كما صرح به.

قوله: ((لا يجليها لوقتها إلا هو))، "اعلم أن قوله:(لوقتها) حال من فاعل (يجليها)، واللام فيه - أي: في (لوقتها) - مثلها في قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) وهي للتأقيت. قاله القاضي.

ص: 692

لاستمرار الخفاء بها على غيره إلى وقت وقوعها، (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي: كل من أهلها من الملائكة والثقلين أهمه شأن الساعة، وبودّه أن يتجلى له علمها، وشق عليه خفاؤها، وثقل عليه، أو ثقلت فيها لأن أهلها يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها، أو لأن كل شيءٍ لا يطيقها ولا يقوم لها فهي ثقيلةٌ فيها، (إِلَّا بَغْتَةً): إلا فجأةً على غفلةٍ منكم.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الساعة تهيج بالناس، والرجل يصلح حوضه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقوّم سلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه» .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: ((ثقلت في السماوات والأرض) أي: كل من أهلها): اعلم أن نسبة الثقل إلى السماوات والأرض - كما سبق - معنوي، فإما أن يقدر الأهل أو لا، والأول: الثقل: إما بحسب الاهتمام بشأن معرفتها، وأنها خفية لا تعلم، فيشق عليهم، أو بحسب الخوف من شدائدها، والتقدير: ثقل هم معرفتها، أو خوف إرسائها على أهل السماوات والأرض. و (في) هاهنا كما هي في قوله تعالى:(ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)[طه: 71]، ولذلك قال:"شق عليه".

والثاني: معنى الثقل: هو أن نفس السماوات والأرض لا تطيقها، فإن السماوات تنشق عند نزولها، والأرض ترجف، والجبال تنهد.

قوله: (وبوده أن يتجلى له): يقال: بودي أن أفعل كذا، أي: أتمنى، والباء زائدة، مثلها في:"بحسبك أن تفعل كذا"، وهو مبتدأ وخبر. والجملة معطوفة على خبر "كل" وهو "أهمه".

قوله: (إن الساعة تهيج بالناس): روينا عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد

ص: 693

(كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها): كأنك عالمٌ بها، وحقيقته: كأنك بليغٌ في السؤال عنها، لأن من بالغ في المسألة عن الشيء والتنقير عنه، استحكم علمه فيه ورصن، وهذا التركيب معناه المبالغة، ومنه: إحفاء الشارب، واحتفاء البقل: استئصاله، وأحفى في المسألة، إذا ألحف، وحفي بفلانٍ وتحفى به: بالغ في البرّ به. وعن مجاهد: استحفيت عنها السؤال حتى علمت. وقرأ ابن مسعود: "كأنك حفيّ بها"، أي: عالمٌ بها بليغٌ في العلم بها. وقيل: (عَنْها) متعلقٌ بـ (يسئلونك)، أي: يسألونك عنها كأنك حفيٌّ- أي: عالم- بها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي منه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه، فلا يطعمها" أخرجه البخاري ومسلم.

قوله: ((كأنك حفى عنها): كأنك عالم بها): اعلم أن (عنها) في قوله تعالى: (يسألونك كأنك حفى عنها) إما أن يتعلق بقوله: (حفى) أو (يسألونك). فإذا علق بـ (حفى) يكون كنايةً عن علمٍ رصين، لأن معنى (حفى عنها): بليغ في السؤال عن الساعة. وفيه تضمين معنى السؤال، ودلت المبالغة في المسالة عن الشيء على حصول ذلك الشيء على سبيل الاستحكام.

قال الزجاج: "كأنك أكثرت المسألة عنها".

المعنى: يظن اليهود أنك مبالغ في السؤال عن الساعة، حتى منحك الله علمها، فيسألون: أيان ذلك؟

ص: 694

وقيل: إن قريشاً قالوا له: إن بيننا وبينك قرابة، فقل لنا متى الساعة؟ فقيل: يسألونك عنها كأنك حفيٌّ تتحفى بهم، فتختصهم بتعليم وقتها لأجل القرابة، وتزوي علمها عن غيرهم، ولو أُخبرت بوقتها لمصلحةٍ عرفها الله في إخبارك به، لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص، كسائر ما أوحي إليك.

وقيل: كأنك حفيٌّ بالسؤال عنها تحبه وتؤثره، يعنى أنك تكره السؤال عنها، لأنها من علم الغيب الذي استأثر الله به، ولم يؤته أحداً من خلقه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا معنى قول مجاهد: "استخفيت عنها السؤال، حتى علمت"، لأن "حتى" للتدرج. وقراءة ابن مسعود:"كأنك حفي بها" لأنه ضمنه معنى العلم الذي هو بمعنى الإحاطة، كقوله:(وأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)[الطلاق: 12]، وعداه بالباء.

وأما إذا علق (عنها) بـ (يسألونك)، فمتعلق (حفى) إذا الباء المقدرة.

ثم لا تخلو (حفى) إما أن تضمن معنى العلم مع الباء المقدرة، كقراءة ابن مسعود، وهو المراد بقوله:" (يسألونك كأنك حفى عنها): أي عالم بها"، وإما أن تجعل من قولهم: حفي بفلان، وتحفى به: بالغ في البر به، ثم مدخول الباء إما ضمير السائل فهو المراد من قوله:" (كأنك حفى عنها): تتحفى بهم، فتختصهم بتعليم وقتها"، أو ضمير السؤال، وهو المراد من قوله:"كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه وتختاره".

قال الزجاج: "كأنك فرح بسؤالهم، يقال: تحفيت بفلان في المسألة: إذا سألت سؤالاً أظهرت فيه المحبة والبر به".

قال أبو البقاء: " (حفي عنها) فيه وجهان: أحدهما تقديره: (يسألونك كأنك حفي عنها)،

ص: 695

فإن قلت: لم كرر (يسئلونك) و (إنما علمها عند الله)؟ قلت: للتأكيد، ولما جاء به من زيادة قوله:(كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها)، وعلى هذا تكرير العلماء الحذاق في كتبهم، لا يخلون المكرر من فائدةٍ زائدة، منهم محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنه العالم بها، وأنه المختص بالعلم بها.

[(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)].

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي) هو إظهارٌ للعبودية، والانتفاء عما يختص بالربوبية من علم الغيب، أي: أنا عبدٌ ضعيفٌ لا أملك لنفسي اجتلاب نفعٍ ولا دفع ضررٍ كما المماليك والعبيد، (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ربي ومالكي من النفع لي والدفع عني، (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ) لكانت حالي على خلاف ما هي عليه، ومن استكثار الخير، واستغزار المنافع،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أي: معني بطلبها، فقدم وأخر. والثاني: أن "عن" بمعنى الباء، أي: حفي بها، و (كأنك) حال من المفعول. (حفي) بمعنى "محفو)، و"فعيل" بمعنى: فاعل".

قوله: (لا يخلون المكرر من فائدةٍ): قال في "الانتصاف": "وفي التكرير نكتة لا توجد إلا في القرآن، فإنه إذا بني الكلام على مقصد، واعترض في أثنائه عارض، وأريد الرجوع لتتمة المقصد الأول، وقد بعد، طري لتتصل النهاية بالبداية، فإنه تعالى ابتدأ بقوله: (يسألونك عن الساعة)، وطال الكلام، إلى قوله: (بغتة)، وأراد إنكار سؤالهم بوجه آخر، هو قوله: (كأنك حفي) وتعلقه قوي بالسؤال، فطري، وغالب التطرية بإجمال، ولهذا قال: (يسألونك) ولم يذكر "الساعة"، اكتفاءً بما تقدم، وأعاد: (إنما علمها عند الله) مجملاً".

ص: 696

واجتناب السوء والمضارّ، حتى لا يمسني شيء منها، ولم أكن غالباً مرة ومغلوباً أخرى في الحروب، ورابحاً وخاسراً في التجارات، ومصيباً مخطئاً في التدابير، (إِنْ أَنَا إِلَّا) عبدٌ أُرسلت نذيراً وبشيراً، وما من شأني أني أعلم الغيب، (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يجوز أن يتعلق بـ"النذير" و"البشير" جميعاً، لأن النذارة والبشارة إنما تنفعان فيهم، أو يتعلق بـ"البشير" وحده ويكون المتعلق بـ"النذير" محذوفاً، أي: إلا نذيرٌ للكافرين، وبشيرٌ لقومٍ يؤمنون.

[(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)].

(مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) وهي نفس آدم عليه السلام، (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) وهي حواء، خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه، أو من جنسها كقوله:(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً)[النحل: 72]، (لِيَسْكُنَ إِلَيْها): ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر؛ لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آنس، وإذا كانت بعضاً منه كان السكون والمحبة أبلغ، .........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولم أكن غالبًا مرةً، ومغلوبا أخرى في الحروب): قلت: ومن ثم سأل هرقل أبا سفيان، على ما روينا عن البخاري ومسلم: هل قاتلتموه؟ قال: قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً: يصيب منا، ونصيب منه. قال: كذلك الرسل، تبتلى، ثم تكون لها العاقبة.

ص: 697

كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه لكونه بضعةً منه، وقال:(لِيَسْكُنَ) فذكر بعد ما أنث في قوله: (واحدةٍ)، (منها زوجها)، ذهاباً إلى معنى "النفس" ليبين أن المراد بها آدم، ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، فكان التذكير أحسن طباقاً للمعنى.

والتغسي: كنايةٌ عن الجماع، وكذلك الغشيان والإتيان، (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً) خف عليها، ولم تلق منه ما يلقى بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى، ولم تستثقله كما يستثقلنه، وقد تسمع بعضهن تقول في ولدها: ما كان أخفه على كبدي حين حملته!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (بضعة منه)، الجوهري:"البضعة: القطعة من اللحم، هذه بالفتح، وأخواتها بالكسر، مثل: القطعة والفلذة".

قوله: (فكان التذكير أحسن طباقًا): قيل: لو أنث الضمير في (ليسكن) لتوهم أن فاعله ضمير الزوج، والضمير المجرور للنفس، وأدى إلى أن الأنثى هي التي تسكن إلى الذكر، والشأن خلافه، وقلت: وفيه نظر.

وإنما عطف المصنف "ويتغشاها" على "ويسكن" ليؤذن بالبيان والتفسير. والسكون على هذا الوجه غير السكون على الأول، لأنه كالمقدمة للجماع، وما به يتوصل الرجل إلى ما يريده من المرأة.

فالفاء في (فلما تغشاها) للتعقيب، كقوله تعالى:(فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)[البقرة: 54]، فذكر الضمير مراعاةً للفظ والمعنى.

ص: 698

(فَمَرَّتْ بِهِ) فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداجٍ ولا إزلاق.

وقيل: (حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً) يعني: النطفة، (فَمَرَّتْ بِهِ) فقامت به وقعدت. وقرأ ابن عباسٍ رضي الله عنه:"فاستمرت به"، .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفائدة هذا الوجه: بيان المقصود الأول من الازدواج للتوالد والتناسل، حيث أوقع الغشيان ومقدمته، أي: السكون، علة للجعل.

ومن عنده أدنى مسكةٍ يعلم أن الجماع غير مطلوب بالذات، وإنما هو ذريعة إلى تكثير نوع الإنسان، فظهر من هذا أن عطف (فلما تغشاها) على (ليسكن) مانع عن أن يحمل "السكون" على الأنثى.

قوله: (إلى وقت ميلاده)، وهو من إضافة العام إلى الخاص، نحو: كل الدراهم، لأن الميلاد هو "اسم الوقت الذي ولد فيه، والمولد: الموضع الذي ولد فيه". قاله الجوهري.

وأما في "الأساس" فهما سيان، قال:"مولده وميلاده: وقت كذا".

قوله: (من غير إخداجٍ)، الأساس:"ناقة خادج: ألقت ولدها قبل الوقت، وإن تم خلقه. ومخدج: جاءت به ناقص الخلق، وإن كان لوقته".

قوله: (ولا إزلاق)، الأساس:"ومن المجاز: أزلقت الرمكة: أسقطت، وهي مزلاق، وولدها زليق".

قوله: ((فمرت به): فقامت به وقعدت): قال الزجاج: " (فمرت به)، معناه: استمرت به، قعدت وقامت، فلم يثقلها".

ومن ثم عقبه المصنف بقراءة ابن عباس: "واستمرت به".

ص: 699

وقرأ يحيى بن يعمر: "فمرت به" بالتخفيف، وقرأ غيره، "فمارت به"؛ من المرية، كقوله:(أَفَتُمارُونَهُ)[النجم: 12]، و"أفتمرونه". ومعناه: فوقع في نفسها ظن الحمل، وارتابت به. (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ): حان وقت ثقل حملها، كقولك: أقربت. وقرئ: "أثقلت"، على البناء المفعول: أي: أثقلها الحمل، (دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما): دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يُدعى ويلتجأ إليه، فقالا:(لَئِنْ آتَيْتَنا): لئن وهبت لنا، ........

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال ابن جني: "معنى "استمرت به": مرت مكلفةً نفسها ذلك، لأن "استفعل" إنما يأتي في أكثر الأمر للطلب".

قوله: (وقرأ غيره: "فمارت به"): قال ابن جني: "وهي قراءة عبد الله بن عمرو. وهو من: مار يمور: إذا ذهب وجاء. والمعنى واحد. ومنه سمي الطريق مورًا، للذهاب والمجيء عليه".

وقال: "أصل قراءة يحيي بن يعمر: (فمرت به) مثقلاً، كقراءة الجماعة، فحذف تخفيفًا لثقل التضعيف، ومنه قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن) [الأحزاب: 33] إذا أخذ من القرار. ومنه: "ظلت"، و"مست"، في: ظللت، ومسست".

وهذا الذي ذكره ابن جني أوفق للمشهورة مما ذكره المصنف.

قوله: (ربهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعى ويلتجأ إليه): يريد أنهم إذا حزبهم أمر خطير دعوا الله. وأما تخصيص الرب بالدعاء فللاستعطاف، ولهذا قال:"ومالك أمرهما".

ص: 700

(صالِحاً): ولداً سوياً قد صلح بدنه وبريء. وقيل: ولداً ذكراً، لأن الذكورة من الصلاح والجودة. والضمير في (آتَيْتَنا) و (لَنَكُونَنَّ) لهما ولكل من يتناسل من ذرّيتهما.

(فَلَمَّا آتاهُما) ما طلباه من الولد الصالح السويّ، (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) أي: جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك (فِيما آتاهُما) أي: آتى أولادهما، وقد دلّ على ذلك بقوله:(فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) حيث جمع الضمير، وآدم وحواء بريئان من الشرك، ومعنى "إشراكهم فيما آتاهم الله": تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس، وما أشبه ذلك، مكان: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرحيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال المصنف في قوله تعالى: (بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ)[الناس: 1، 2]: "كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ووالي أمرهم".

قوله: ((جعلا له شركاء) أي: جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف): روى محيي السنة هذا القول عن الحسن وعكرمة، وقال:"فحذف الأولاد، وأقامهما مقامهم، كما أضاف فعل الآباء إلى الأبناء، فقال: (ثم اتخذتم العجل) [البقرة: 51، 92] (وإذ قتلتم نفسًا) [البقرة: 72] ".

وقال الزجاج: "والذي عليه التفسير أن إبليس جاء إلى حواء، فقال: أتدرين ما في بطنك؟ فقالت: لا أدري! قال: فلعله بهيمة! ثم قال: إن دعوت الله أن يجعله إنسانًا، أتسمينه باسمي؟ فسمته عبد الحارث، وهو الحارث".

ص: 701

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وروى نحوه محيي السنة عن ابن زيد، وروى أيضًا عن عكرمة أنه قال:"خاطب كل واحدٍ من الخلق بقوله: (خلقكم)، أي: خلق كل واحدٍ من أبيه، وجعل من جنسه زوجه".

قال محيي السنة: "وهذا قول حسن، لولا قول السلف، مثل عبد الله بن عباس، ومجاهد، وسعيد بن المسيب، وجماعةٍ من المفسرين: إنه في آدم وحواء".

وقلت: ما أقول: إن قول السلف أحسن الأقوال، لأنه لا قول غيره، ولا معول إلا عليه، لأنه مقتبس من مشكاة النبوة، وحضرة الرسالة صلوات الله وسلامه عليه على ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لما حملت حواء، طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث، فسمته، فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره".

قال محيي السنة: "لم يكن هذا إشراكاً في العبادة، ولا أن الحارث ربهما، فإن آدم عليه السلام كان نبياً معصوماً من الشرك، ولكن قصد إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد، وسلامة أمه، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك، كما أن اسم الرب يطلق على

ص: 702

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من لا يراد أنه معبود. فعلى هذا قوله تعالى: (فتعالى الله عما يشركون) ابتداء كلام، وأراد به إشراك أهل مكة، ولئن أراد به ما سبق، فمستقيم من حيث كان الأولى بهما ألا يفعلا ما أتيا به من الإشراك في الاسم".

وقلت: يدفع هذا قوله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئًا)، فإنه في الأصنام قطعاً، بل القول: إنه ابتداء كلام، وتمام تقريره أن يقال: إن قوله تعالى: (خلقكم من نفسٍ واحدةٍ) كلام وارد على النفس الواحدة وزوجها، مضمن للامتنان عليهما، وطلب الشكر، والتفادي عن الكفران، ولإلزامهما على أنفسهما الشكر، على سبيل المبالغة، على ما دل عليه قوله تعالى:(من الشاكرين) أي: من زمرتهم. وقوله تعالى: (فلما أتاهما صالحاً جعلا له شركاء) الجملة الشرطية مرتبطة بما قبلها بالفاء، وجملة الكلام مفرغ في قالب واحد، على سنن قوله تعالى:(وتجعلون رزقكم) - أي: شكر رزقكم - (أنكم تكذبون)[الواقعة: 82]. فلو أجري (جعلا له) على غير ما أجري عليه الأول، لاختل النظام، وفات المقصود من الإيراد.

وأما الهرب من إثبات ذلك الشرك لآدم وحواء فبعيد من البليغ المحيط بأساليب البلاغة، فإن باب التشديد والتغليظ غير مسدود، وإنما لزم الفساد أن لو حمل على الشرك الحقيقي.

وأما جمع الضمير في (عما يشركون) فإن الفاء السببية التي تستحق أن تسمى بالفاء الفصيحة في قوله تعالى: (فتعالى الله عما يشركون) تقتضي أن يجري الكلام على مشركي مكة، لأنها مع متعلقها المحذوف كالتخلص من قصة آدم وحواء، إلى توبيخ المشركين،

ص: 703

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على ما أشار إليه محيي السنة بقوله: "ابتداء كلام، وأراد به إشراك أهل مكة". يعني إذا كان الأمر على ما ذكر، وهو مثل هذه التسمية التي لها محامل كثيرة في التبري عن الشرك، مأخوذاً على أبي البشر، ومسمى بالشرك، فما بال فعل هؤلاء المشركين، من تسمية الحجر والخشب بالآلهة، والعكوف على عبادتها، وتصريح اسم الشركاء عليها؟ (فتعالى الله عما يشركون).

ثم ابتدئ مبيناً موبخاً: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون) إلى آخر الآيات الواردة في الأصنام.

هذا، وإن هذه السورة الكريمة: من مفتتحها إلى مختتمها، مفرغة في قالبٍ واحد، على نمطٍ عجيب، وأسلوبٍ غريب، لأنه تعالى افتتحها بقوله:(الّمص * كِتَابٌ أُنزِلَ إلَيْكَ فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ)[الأعراف: 1 - 2] نهاه صلوات الله وسلامه عليه عن ضيق الصدر، والتحرج عما كان يلقى من المشركين من أنواع الأذى، لئلا يتوانى في التبليغ والإنذار، ثم قص عليه قصص الأنبياء الماضية، والقرون السالفة، وما كان مغبة تكذيبهم، وعاقبة صبر الأنبياء، تشجيعاً له، وتثبيتاً لقلبه:(وكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ).

ثم ختم قصص الأنبياء بذكر موسى عليه السلام وأطنب في أحوال أمته، إلى أن انتهت إلى قصة بلعام وأحواله، وكانت قصته شبيهة بقصة اليهود الذين أدركوا زمن الرسول صلي الله عليه وسلم وآذوه، وأورد قوله:(سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ)[الأعراف: 177] على ما سبق. فكر راجعاً إلى ما بدئت به السورة، من: تكذيب القوم، وإعراضهم

ص: 704

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن آيات الله، وما كان يتحرج منه صدره صلوات الله عليه من قوله تعالى:(والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)، وقوله:(يسألونك عن الساعة) أي: يسألونك أيان مرساها؟ مقترحين، فلا تبال بهم، وأجب عن سؤالهم وأنت منشرح الصدر:(إنما علمها عند ربي) إلى آخر نيفٍ وعشر آيات، على طريقة الأسلوب الحكيم.

وتحريره: أني ما بعثت لأن أكشف لكم عن أيان الساعة، لأنه من الأمور الإلهية، لا إطلاع لي عليه، (لا يجليها لوقتها إلا هو)، (إن أنا إلا نذير وبشير)، وإنما بعثت لأكشف لكم عن الاستعداد لها، والعمل بما ينفعكم، ومما هو أهم الأشياء، وأدعى إليه أن أكشف لكم عن قبح ما أنتم فيه من الشرك بالله، وأوقفكم (إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13]. ألا ترون إلى أبيكم حين سمى بعض بنيه بما يتوهم منه أنه أدنى الشرك، كيف نعى عليه، وسجل بقبحه؟ فكيف بما تفعلون أنتم؟ وهلم جراً إلى آخر الآيات.

ومن هذا الأسلوب ما رويناه عن البخاري ومسلم عن أنس: أن رجلاً سأل النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ ، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:"ما أعددت لها؟ " فكأن الرجل استكان، ثم قال: ما أعددت لها كثير صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله. قال:"أنت مع من أحببت"، وفي رواية: قال أنس: "ما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: "أنت مع من أحببت". قال أنس: فأنا أحب النبي صلي الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل أعمالهم.

ص: 705

ووجهٌ آخر، وهو أن يكون الخطاب لقريشٍ الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاستكانة: الذل والخضوع.

وقلت - والعلم عند الله -: انظر إلى هذا العلاج الصائب لمرضى القلوب، فإن الطبيب الحاذق قد يحتاج في علاجه إلى تدبير دفع الأخلاط الرديئة، لإزالة المرض، وقد يحتاج إلى تدبير حفظ الصحة فقط.

والمشركون لما سألوا عن وقت الساعة، ولم يكن أهم شيءٍ إلا قلع الشرك، فقيل:(هو الذي خلقكم) إلى آخر الآيات، أدرج في الجواب الحكيم معرفة المسؤول عنه، وأنها مما استأثر الله تعالى بها. ولم يحتج في جواب الصحابي إلى هذا القدر، فلم يذكر. يعني: أنك بصدد أن يجب عليك ألا يخطر ببالك هذا، لأنك ممن يؤمن أن علم ذلك مختص بالله تعالى. وأما إزالة الشرك فإنك قد فرغت منها، بقي عليك ما يخلصك من أهوال يوم القيامة من العمل، "فما أعددت لها؟ " فأجاب هو أيضًا بالكلمة الحكيمة الجامعة: لكني أحب الله ورسوله.

فانظر إلى هذه الرموز التي تحير العقول!

قوله: (ووجه آخر، وهو أن يكون الخطاب لقريشٍ): روى محيي السنة عن ابن كيسان: "هم الكفار، سموا أولادهم: عبد العزى، وعبد اللات، وعبد مناة".

وقال صاحب "الانتصاف": "وأقرب من هذين التفسيرين أن يراد جنسا الذكر والأنثى، من غير قصدٍ إلى معينٍ معلوم. أي: خلقكم جنساً، وجعل أزواجكم منكم، لتسكنوا إليهن. فلما تغشى الجنس جنسه الآخر، جرى من هذين الجنسين كذا وكذا.

ص: 706

وهم آل قصي، ....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ويجوز إضافة الكلام إلى الجنس، تقول:"قتل بنو تميم فلاناً"، ومثله قوله تعالى:(ويَقُولُ الإنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ)[مريم: 66]، (قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [عبس: 17]، (إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر: 2].

وعلى التفسير الأول أضاف الشرك إلى أولاد آدم وحواء، وهو واقع من بعضهم، وعلى الثاني أضافه إلى قصي وعقبه، وأراد بعضهم، ويسلم بهذا من حذف المضاف اللازم للأول، ومن استبعاد إرادة قصي بهذا. والظاهر من قوله:(ليسكن إليها) أن المراد الجنس". تم كلامه.

قلت: إن لزم من التفسيرين ما ذكر من المحذوف، لزم من تفسيره أيضًا إجراء جميع ألفاظ الآية على الأوجه البعيدة. والتأويل ما نص عليه من أوحي إليه التنزيل، كما سبق بيانه. والله أعلم.

قوله: (وهم آل قصي) أي: الذين كانوا في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم آل قصي، أي: أولاده، يدل عليه قوله:"ويراد هو الذي خلقكم من نفس قصي"، والأقرب ما ذكره في الأنعام:"قال أبو جهلٍ: إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ " لأنه دل على أن قصياً من قريش.

قال محمد بن هشام صاحب "السير": النضر بن كنانة قريش، فمن كان من ولده فهو

ص: 707

ألا ترى إلى قوله في قصة أم معبد:

فَيَا لَقُصَيّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ

بِهِ مِنْ فَخَارٍ لَا يُبَارَى وَسُؤدَدِ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قرشي، وإلا فلا، وقيل: من كان من ولد فهر بن مالك بن النضر فهو قرشي، وسمي قريش لتجمعها من تفرقها، كذا في "جامع الأصول". وفي "الجامع" أيضاً: قيل: أول من سمي قريشاً قصي، وفيه بعد، والأكثر الأول، وقال محمد بن هشام: كان قصي أول من بني كعب ابن لؤي أصاب ملكاً أطاع به قومه، وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة واللواء، فحاز شرف مكة كله.

قوله: (في قصة أم معبد): هذه القصة مذكورة في "شرح السنة"، و"الاستيعاب" لابن عبد البر، وكتاب "الوفا" لابن الجوزي. ونحن نورد رواية "شرح السنة".

قال: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم حين أخرج من مكة، خرج مهاجراً إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه وعامر وعبد الله بن أريقط، فنزلوا خيمة أم معبد، فرأى رسول الله صلي الله عليه وسلم شاةً خلفها الجهد عن الغنم، فدعا بها رسول الله صلي الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها، وسمى الله،

ص: 708

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ودعا لها، فتفاجت عليه، ودرت، فدعا بإناء، فحلب فيه ثجاً، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم حلب فيها ثانياً، ثم غادره عندها وارتحلوا. فجاء زوجها، فذكرت القصة.

قال أبو معبد: هو، والله، صاحب قريشٍ الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر!

فأصبح صوت بمكة عالياً، يسمعون الصوت، ولا يدرون من صاحبه، وهو يقول:

جزى الله رب الناس خير جزائه

رفيقين قالا خيمتي أم معبد

هما نزلاها بالهدى واهتدت به

فقد فاز من أمسى رفيق محمد

فيا لقصي ما زوى الله عنكم

به من فعالٍ لا يجازى وسؤدد

ليهن بني كعبٍ مقام فتاتهم

ومقعدها للمؤمنين بمرصد

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها

فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

دعاها بشاةٍ حائل فتحلبت

عليه صريحاً ضرة الشاة مزبد

فغادرها رهناً لديها لحالبٍ

يرددها في مصدرٍ ثم مورد

ص: 709

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: والصوت صوت مسلم الجن، أقبل من أسفل مكة، حتى خرج بأعلاها".

وزاد ابن عبد البر: "فلما سمع ذلك حسان بن ثابت، أجاب:

لقد خاب قوم غاب عنهم نبيهم

وقدس من يسري إليهم ويغتدي

ترحل عن قومٍ فضلت عقولهم

وحل على قومٍ بنورٍ مجدد

هداهم به بعد الضلالة ربهم

وأرشدهم، من يتبع الحق يرشد

وهل يستوي ضلال قومٍ تسفهوا

عما يتهم، هادٍ به كل مهتد

لقد نزلت منه على أهل يثربٍ

ركاب هدىً حلت عليهم بأسعد

نبي يرى ما لا يرى الناس حوله

ويتلو كتاب الله في كل مشهد

وإن قال في يومٍ مقالة غائبٍ

فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد

ليهن أبا بكر سعادة جده

بصحبته، من يسعد الله يسعد

ليهن بني كعبٍ مقام فتاتهم

ومسعدها للمؤمنين بمرصد"

ص: 710

ويراد هو الذي خلقكم من نفس قصيّ، وجعل من جنسها زوجها عربية قرشيةً ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السويّ جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد منافٍ، وعبد العزى، وعبد قُصيٍّ، وعبد الدار، وجعل الضمير في (يُشْرِكُونَ) لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك، وهذا تفسير حسنٌ لا إشكال فيه.

وقرئ: (شركاً)، أي: ذوي شرك، وهم الشركاء، أو أحدثا لله إشراكاً في الولد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال المصنف في "الفائق": "معنى البيت: تعالوا يا قصى، لنتعجب منكم فيما أغفلتموه من حظكم، وأضعتموه من عزكم، بعصيانكم رسول الله صلي الله عليه وسلم، وإلجائكم إياه إلى الخروج من بين أظهركم".

"ما": مبتدأ بمعنى الذي، والخبر:"من فخار"، و"لا يجازى": صفته، ويروى:"لا يبارى"، زوى فلان المال عن وارثه. والضمير في "به" لرسول الله صلي الله عليه وسلم، والباء للسببية. "لا يبارى"، من: باريت الرجل: إذا فعلت مثل فعله.

المعنى: تعالوا، يا لقصي، لتتعجب منكم من فوت أمرٍ عظيم، وفخارٍ لا يدرك، بسبب رحلة الرسول صلي الله عليه وسلم من عندكم.

قوله: (عبد قصي، وعبد الدار) أضاف قصي ولديه إلى صنميه: مناف والعزى، وواحداً إلى نفسه، وآخر إلى داره، وهي دار الندوة.

قوله: (وقرئ: "شركاً") بكسر الشين وسكون الراء: نافع وأبو بكر.

ص: 711

[(أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ* وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ)].

أُجريت الأصنام مجرى أولي العلم في قوله: (وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، بناءً على اعتقادهم فيها وتسميتهم إياها آلهة. والمعنى: أيشركون ما لا يقدر على خلق شيءٍ كما يخلق الله، وهم يخلقون؟ لأن الله عز وجل خالقهم، أو: لا يقدر على اختلاق شيء، لأنه جماد، وهم يُخلقون؛ لأن عبدتهم يختلقونهم، فهم أعجز من عبدتهم، (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ): لعبدتهم، (نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث، بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم ويحامون عليهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال الزجاج: " (شركاً) مصدر: شركت الرجل أشركه شركاً، أي: جعلا له ذا شرك". قوله: (أو لا يقدر على اختلاق شيء)، الجوهري:"خلق الإفك، واختلقه، وتخلقه: إذا افتراه، يقال: هذه قصيدة مخلوقة، أي: منحولة إلى غير قائلها".

وإنما قدر: "لا يقدر على خلق شيء" لتطابق قرينتها: (ولا يستطيعون لهم نصراً)، وهذا أبلغ مما لو قيل: ما لا يخلق شيئاً ولا ينصرهم.

قوله: (ويحامون عليهم)، الجوهري:"حاميت على ضيفي: إذا احتفلت له".

قال الشاعر:

حاموا على أضيافهم فشووا لهم

ص: 712

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ): وإن تدعوا هذه الأصنام (إِلَى الْهُدى) أي: إلى ما هو هدىً ورشاد، وإلى أن يهدوكم. والمعنى: وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير والهدى، (لا يتبعوكم) إلى مرادكم وطلبتكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله، ويدلُّ عليه قوله:(فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)[الأعراف: 194].

(سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ) أم صمتم عن دعائهم، في أنه لا فلاح معهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وإلى أن يهدوكم) عطف تفسيري على قوله: "إلى ما هو هدى".

وفي رواية: "أو إلى أن يهدوكم" يعني: يجوز أن يحمل الهدى على الرشاد، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، وأن يحمل على مجرد الدلالة. والظاهر الأول، يدل عليه قوله:"وإن تطلبوا منهم الهدى كما تطلبون من الله الخير والهدى، (لا يتبعوكم) إلى مرادكم".

قوله: (يدل عليه قوله: (فادعوهم) أي: على أن معنى (لا يتبعوكم): لا يجيبوكم كما يجيبكم الله، ويمكن أن يراد: والدليل على أن الضمير في (وإن تدعوهم إلى الهدى) للأصنام، والخطاب للمشركين، وأن المعنى: لا يجيبوكم كما يجيبكم الله، وفيه إشارة إلى ترجيح هذا القول على قول من قال: إن الضمير للمشركين، والخطاب مع المسلمين.

ذكر الواحدي ومحيي السنة ما ينبئ عن هذا. وتقرير الاستدلال أن قوله: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم)، المراد منهم: الأصنام، بالاتفاق، وهو وارد على التعليل السابق، بدليل كلمة (إن)، وقوله:(فادعوهم فليستجيبوا لكم) مرتب عليه ترتب الحكم على الوصف المناسب، وفيه معنى الدعاء والاستجابة، ولو أريد به غير ما فسر لاختل النظم.

ص: 713

فإن قلت: هلا قيل: أم صمتم؟ ولم وضعت الجملة الاسمية موضع الفعلية؟ قلت: لأنهم كانوا إذا حزبهم أمرٌ دعوا الله دون أصنامهم، كقوله:(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ)[الروم: 33]، فكانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعوتهم، فقيل: إن دعوتموهم لم تفترق الحال بين إحداثكم دعاءهم، وبين ما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم.

[(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ)].

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي: تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دون الله (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) وقوله: (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) استهزاءٌ بهم، أي: قصارى أمرهم أن يكونوا أحياءً عقلاء، فإن ثبت ذلك فهم عبادٌ أمثالكم لا تفاضل بينكم، ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالهم فقال:(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقوله: (لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر): تلخيصه: أن قوله: (أدعوتموهم): جملة فعلية تدل على التجدد، وقوله:(أنتم صامتون) اسمية تدل على الثبوت والاستمرار، فعطفت لإرادة التجدد في الأولى، والثبات في الثانية؛ لأن كونهم صامتين عن دعوة الأصنام، إذا نابهم بلاء أو محنة، ثابت مستمر، ما شهد منهم قط أنهم: إذا ألم بهم نازلة دعوا الأصنام، بل (دعوا الله مخلصين له الدين).

وفي معنى الآيتين التقابل، لأن التقدير: إن تطلبوا منهم الخير والهدى لا يتبعوكم إلى مرادكم، وإن تطلبوا منهم أن يدفعوا عنكم الشر، لا يجيبوكم البتة، ولذلك أنتم صامتون عن دعائهم، فأدمج في الكلام بطريق المفهوم اضطرارهم إلى الله، والتجاءهم إليه، تتميماً لذم آلهتهم.

ص: 714

وقيل: (عبادٌ أمثالكم): مملوكون أمثالكم. وقرأ سعيد بن جبير: "إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم" بتخفيف "إن"، ونصب "عباداً أمثالكم"، والمعنى: ما الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم، على إعمال «إن» النافية عمل «ما» الحجازية، (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) واستعينوا بهم في عداوتي، (ثُمَّ كِيدُونِ) جميعاً أنتم وشركاؤكم، (فَلا تُنْظِرُونِ) فإني لا أُبالي بكم، ولا يقول هذا إلا واثقٌ بعصمة الله، وكانوا قد خوّفوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك، كما قال قوم هودٍ له:(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ)[هود: 54] فقال لهم: (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)[هود: 55].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقرأ سعيد بن جبير: "إن الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم").

قال أبو البقاء: " (إن) النافية لا تعمل عند سيبويه، وخالفه المبرد".

قال ابن جني: " (إن) هذه بمنزلة "ما"، أي: ما الذين تدعون من دون الله عباداً أمثالكم، فأعمل "إن" إعمال "ما" الحجازية، وفيه ضعف، لأن "إن" هذه لم تختص بنفي الحاضر اختصاص "ما" به، فتجري مجرى "ليس" في العمل، المعنى: إن هؤلاء الذين تدعون من دون الله إنما هي حجارة، فهم أقل منكم، لأنكم عقلاء، وهي جماد، فكيف تعبدون ما هو دونكم؟

فإن قلت: كيف تصنع بقراءة الجماعة: (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم)، إذ التقدير: أنهم مخلوقون كما أنتم أيها العباد مخلوقون؟ فكيف أثبت في هذه ما نفاه في تلك؟ ".

ص: 715

[(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ* وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ)].

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ) أي: ناصري عليكم الله، (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ): الذي أوحى إليَّ كتابه، وأعزني برسالته، (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ): ومن عادته أن ينصر الصالحين من عباده وأنبيائه ولا يخذلهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قلت: يجوز أن يكون الإخبار في قراءة الجماعة بمعنى الإنكار، كما سبق في قوله تعالى حكايةً عن فرعون:(آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)[الأعراف: 123]، فيحسن حينئذ ترتب قوله:(فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ)، أي: ليسوا أمثالكم، فجربوهم بالدعاء ليستجيبوا لكم إن كانوا أمثالكم. ويكون الاستفهام في قوله تعالى:(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا) للإنكار وتقرير عدم المساواة.

قوله: (وأعزني برسالته) هو عطف تفسيري على قوله: "أوحى إلى كتابه"، يعني قوله تعالى:(نزل الكتاب) وضع موضع: أرسلني رسولاً، لأن النبي: صاحب المعجزة، والرسول: الذي جمع بين المعجزة والكتاب.

وقلت: يمكن أن يكشف عنه بأبسط من هذا، وأن يقال: إنما خص وصف اسم الذات في هذا المقام بإنزال الكتاب، وجعلت الآية تعليلاً لقوله تعالى:(قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ) للدلالة على تفخيم أمر المنزل، وأنه الفارق بين الحق والباطل، وأنه القامع لضلالات الكفر، والمجلي لظلمات الشرك، والمفحم لألسن أرباب البيان، المعجز الباقي في كل أوان، وهو النور المبين، والحبل المتين، وبه أصلح الله شؤون رسوله،

ص: 716

[(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)].

(يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ): يشبهون الناظرين إليك، لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه، (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ): وهم لا يدركون المرئيّ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صلوات الله عليه، حيث كمل به خلقه، وأقام به أوده، وأفسد به أباطيل المعطلة، وأفحم ملفقات المعارضة.

ومن ثم جيء بقوله تعالى: (وهو يتولى الصالحين) كالتذييل والتقرير لما سبق، والتعريض بمن فقد الصلاح بالخذلان والمحق.

المعنى: إن وليي الله الذي نزل الكتاب المشهور، الذي تعرفون حقيقته، ومثل ذلك يتولى الصالحين، ويخذل الظالمين.

وقوله: (والذين تدعون من دونه) الآيتين كالمقابل لها.

وإلى التذييل أشار المصنف بقوله: "ومن عادته أن ينصر الصالحين".

قوله: ((ينظرون إليك): يشبهون الناظرين): قال الإمام: "إن حملنا هذه الصفات على الأصنام، قلنا: المراد من كونها ناظراً: كونها مقابلةً بوجوهها وجوه القوم، وإن حملناها على المشركين، فالمعنى: أنهم وإن كانوا ينظرون، إلا أنهم لشدة إعراضهم عن الحق، لم ينتفعوا بذلك النظر والرؤية، فصاروا كأنهم عمي".

ص: 717

[(خُذِ الْعَفْوَ وَأمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ)].

(الْعَفْوَ): ضد الجهد: أي: خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم، وما أتى منهم، وتسهل من غير كلفة، ولا تداقهم، ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم، حتى لا ينفروا، كقوله صلى الله عليه وسلم:«يسروا ولا تعسروا» قال:

خذي العفو مني تستديمي مودّتي

ولا تنطقى في سورتي حين أغضب

وقيل: خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم، وذلك قبل نزول آية الزكاة، فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعاً أو كرهاً.

و"العرف": المعروف والجميل من الأفعال، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ): ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عنهم، وأغض على ما يسوؤك منهم.

وقيل: لما نزلت الآية "سأل جبريل: ما هذا؟ فقال: لا أدري حتى أسأل، ثم رجع فقال: يا محمد، إن ربك أمرك أن تصل من قطعك، ......

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (ولا تداقهم)، أي: لا تناقشهم. الأساس: "داقني في الحساب، مداقة".

قوله: (أن تصل من قطعك). الحديث رواه أحمد بن حنبل في "مسنده"، عن عقبة بن عامر.

واعلم أن التوفيق بين الآية والحديث إنما يستتب إذا أخذ الزبدة والخلاصة من المجموع. والزبدة في الآية: تحري حسن المعاشرة مع الناس، وتوخي بذل المجهود في الإحسان إليهم، والمداراة معهم، والإغضاء عن مساوئهم، وعلى هذا معنى الحديث، ولكنه

ص: 718

وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك". وعن جعفر الصادق: أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.

[(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أغرب منه، وأصعب متناولاً، وكذلك ينبغي أن يكون، لأن القرآن مادته عامة، والحديث القدسي مادته خاصة، (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ) [البقرة: 60].

قوله: (أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق): هو من حديث مالك، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:"بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". أخرجه الإمام مالك في "الموطأط.

أما بيان أن هذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق، فلأن الخلق - بضم اللام وسكونها -: الطبع والسجية. وحقيقته: أن الإنسان له صورة باطنة، وهي نفسه، ولها صفات حسنة، وصفات قبيحة، وعليهما يترتب الثواب والعقاب في الآخرة. والأنبياء بعثوا لتغيير الصفات القبيحة إلى الحسنة، ليتخلص الناس من العقاب، ويخلصوا إلى الثواب. ولا شك أن نبينا صلوات الله عليه خاتمهم، بعث لإتمام ما دعوا الناس إليه، و"كان خلقه القرآن"، كما روي عن عائشة رضي الله عنها، فدعا الناس بخلقه إلى صراط مستقيم. فالمدعو إما: مؤمن موافق، أو مخالف؛ فالمخالف إما معاند أو غير معاند، وطريق الدعوة مع الفرقة الأولى بأداء العبادات، وتزكية النفس من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، وإليه الإشارة بقوله تعالى:(وامُرْ بِالْعُرْفِ)[الأعراف: 199]. ومع الثانية بالمداراة والمساهلة وإرخاء العنان، وهو المراد بقوله تعالى:(خُذِ العَفْوَ)[الأعراف: 199].

وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ) الآية [آل عمران: 64].

ص: 719

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ): وإما ينخسنك منه نخس، بأن يحملك بوسوسته على خلاف ما أمرت به، (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) ولا تطعه.

النزغ والنسغ: الغرز والنخس، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. وجعل النزغ نازغاً، كما قيل جدّ جدّه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وروينا عن مسلم عن أبي موسى، قال: كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض الأمور قال: "بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا".

ومع الثالثة بالمتاركة والإعراض. وإليه أومأ بقوله تعالى: (وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ)[الأعراف: 199]. وقال تعالى: (وقِيلِهِ يَا رَبِّ إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)[الزخرف: 88 - 89].

وعلى هذا القسم ينطبق الكلام مع السابق، لأنه كلام في المعاندين من المشركين، فوضع موضع ضميرهم (الجاهلين) تسجيلاً عليهم بعدم الارعواء، وإقناطاً كلياً منهم، لأن جهلهم جهل مركب، ألا ترى كيف أعاد الضمير في قوله:(وإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ * وإذَا لَمْ تَاتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا)[الأعراف: 202 - 203]. كل ذلك بيان للعناد والتمرد.

قوله: (كأنه ينخس الناس حين يغريهم). قال القاضي: "شبه وسوسته للناس، إغراءً لهم على المعاصي، وإزعاجاً، بغرز السائق ما يسوقه".

قال الزجاج: "النزغ: أدنى حركة من الآدمي، وأدني وسوسة من الشيطان".

ص: 720

وروي: أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف - يا رب - والغضب؟ » فنزل: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ). ويجوز أن يراد بنزغ الشيطان: اعتراء الغضب، كقول أبي بكر رضي الله عنه:"إنّ لي شيطاناً يعتريني".

[(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ* وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (لما نزلت)، أي: قوله تعالى: (خُذِ العَفْوَ وامُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ)[الأعراف: 199]، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:"كيف، يا رب، والغضب؟ ! "، أي: كيف أصنع مع الظالم، والغضب حامل على الانتقام؟ فقيل: إن الغضب من نزغ الشيطان (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ).

روينا عن أبي داود، عن عطية، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إن الغضب من الشيطان" الحديث.

قوله: (ويجوز أن يراد بنزغ الشيطان: اعتراء الغضب)، فالتقدير:(خُذِ العَفْوَ وامُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ)، وإن اعتراك منه فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم.

روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود، عن سليمان بن صرد، قال: استب رجلان

ص: 721

(طيفٌ مِنَ الشَّيْطانِ): لمةٌ منه، مصدرٌ من قولهم: طاف به الخيال يطيف طيفاً، قال:

أنَّى ألَمَّ بِكَ الْخَيَالُ بَطِيفُ

أو هو تخفيف "طيف" فيعل، من: طاف يطيف، كلينٍ. أو مِن: طاف يطوف، كهين. وقرئ:(طائف)، وهو يحتمل الأمرين أيضاً. وهذا تأكيدٌ وتقريرٌ لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان، وأنّ المتقين هذه عادتهم:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما أحدهما يسب صاحبه مغضباً، قد احمر وجهه، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:"إني لأعلم كلمة، لو قالها، لذهب عنه الذي يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لذهب عنه" الحديث.

قوله: (أني ألم بك الخيال يطيف): تمامه:

ومطافه لك ذكرة وشغوف

البيت لكعب بن زهير.

ألم: نزل، والإلمام: الزيارة. والذكرة: ضد النسيان. والشغوف: امتلاء القلب من الحب.

قوله: (وقرئ: (طائف))، نافع وابن عامر وعاصم وحمزة، وهو أيضاً يحتمل أن يكون واوياً ويائياً.

قوله: (وأن المتقين هذه عادتهم) عطف تفسيري على قوله: "تأكيد"، أي: قوله تعالى:

ص: 722

إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته، (تَذَكَّرُوا) ما أمر الله به ونهى عنه، فأبصروا السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم، ولم يتبعوه أنفسهم. وأما "إخوان الشياطين" الذين ليسوا بمتقين، فإن الشياطين (يمدونهم في الغي)، أي: يكونون مدداً لهم فيه ويعضدونهم. وقرئ: (يمُدّونهم) من الإمداد، و"يمادّونهم"، بمعنى: يعاونونهم، (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ): ثم لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصروا ولا يرجعوا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) تذييل للكلام السابق، وتوكيد لمعناه، ومن ثم صرح بذكر العادة.

ثم الخطاب في قوله تعالى: (وإما ينزغنك) إما أن يكون مختصاً برسول الله صلي الله عليه وسلم هو الظاهر، إذ التقدير:(خُذِ العَفْوَ وامُرْ بِالْعُرْفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ)، وإن اعتراك غضب فاستعذ بالله. فالمناسب أن يراد بـ"المتقين" المرسلون من أولي العزم، كما قال تعالى:(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)[الاحقاف: 35]، أو يكون عاماً على طريقة:"بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام"، أو خاصاً يراد به العام، كنحو:(ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)[الطلاق: 1]، فالمتقون حينئذ: الصالحون من عباد الله.

قوله: (إذا أصابهم أدنى نزغٍ): الجملة من الشرط والجزاء بيان للجملة قبلها، وهي:"أن المتقين هذه عادتهم".

قوله: (وقرئ "يمدونهم" من الإمداد) نافع، يقال: مد الدواة وأمدها: زادها ما يصلحها. ومده الشيطان في الغي، وأمده: إذا أوصله بالوساوس حتى يتلاحق غيه.

ص: 723

قوله: (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ) كقوله:

قَوْمٌ إذَا الْخَيْلُ جَالُوا فِى كَوَاثِبِهَا

في أنّ الخبر جار على غير ما هو له.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (قوم إذا الخيل حالوا في كواثبها): تمامه:

فوارس الخيل لا ميل ولا قزم

الخيل: الفرسان. حالوا - بالحاء المهملة -: وثبوا. يقال: حال في ظهر الفرس: وثب عليه وركب، والكاثبة من الفرس: ما تقدم من قربوس السرج. والميل: جمع أميل، وهو: الذي لا يثبت على هر الدابة. والقزم: اللئام.

يقول: هم فوارس الخيل، لا مائلون عن وجوه الأعداء، ولا لئام ضعاف صغار، أو لا بخلاء، ليجمع لهم صفة الشجاعة والسخاوة.

قالوا: إن الاحتجاج بهذا البيت لا يصح، لأن "الخيل" ليس بمبتدأ، لأن "إذا" لا تدخل على المبتدأ المتضمن معنى الشرط.

وتقديره: إذا حال الخيل حالوا في كواثبها، فكان ارتفاع "الخيل" بالفاعلية.

وقوله: "حالوا في كواثبها" مفسر للقول السابق، والتفسير في حكم الساقط، وإنما نظير الآية: هند زيد تضربه.

ص: 724

ويجوز أن يراد بـ"الإخوان": الشياطين، ويرجع الضمير المتعلق به إلى الجاهلين، فيكون الخبر جارياً على ما هو له. والأوّل أوجه، لأن "إخوانهم" في مقابلة (الذين اتقوا).

فإن قلت: لم جمع الضمير في "إخوانهم". والشيطان مفردٌ؟ قلت: المراد به الجنس، كقوله:(أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ)[البقرة: 257].

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأجيب: لم لا يجوز أن "إذا" قد انسلخ عنه معنى الاستقبال، وصار للوقت المجرد، على نحو: إذا يقوم زيد إذا يقوم عمرو. بل المعنى عليه؟

قوله: (فيكون الخبر جارياً على ما هو له): فعلى الأول التقدير: وإخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين، الشياطين يمدونهم. الضمير المسند إليه الفعل ليس للمبتدأ، بل لمتعلقه. كما أن الضمير في "حالوا" لصاحب الخيل.

وعلى الثاني التقدير: وإخوان الجاهلين الذين هم الشياطين، يمدون الجاهلين.

قوله: (والأول أوجه، لأن "إخوانهم" في مقابلة (الذين اتقوا)): يعني: في الكلام مقابلة، فيجب مراعاتها. فإن قوله تعالى:(وإمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) أمر للنبي صلي الله عليه وسلم بالاستعاذة من نزغ الشيطان. وقوله: (إن الذين اتقوا) إلى آخر الآيتين، كالتعليل للآمر بالاستعاذة، يعني: دأب من هو على صفتك من التقوى الاستعاذة عند نزغ الشيطان، ودأب من يخالفك بخلافه.

روى الواحدي عن الضحاك: "المشركون لا يقصرون عن الضلالة، ولا يبصرونها، بخلاف ما قال في المؤمنين: (تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ) ".

ص: 725

[(وَإِذا لَمْ تَأتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)].

اجتبى الشيء، بمعنى جباه لنفسه: أي: جمعه، كقولك: اجتمعه، أو جُبي إليه فاجتباه: أي: أخذه، كقولك: جليت إليه العروس فاجتلاها، ومعنى (لَوْلا اجْتَبَيْتَها):

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأيضاً، الكلام في الأصل جار على المشركين المعاندين، كما سبق، وأن قوله:(إن الذين اتقوا) وقوله: (وإخوانهم يمدونهم) بعد ذكر العفو، والأمر بالعرف، والإعراض، ونزغ الشيطان، والاستعاذة، كالتخلص منه إلى ذكر ما ابتدئ له الحديث.

وفيه: أنه يجب عليك، أيها الداعي البشير النذير، إذا لحقك منهم أذى أن تعفو عنهم، وإن اعتراك غضب يحملك على الانتقام فذاك نزغة من الشيطان ونخسة، فإن الشيطان ليس له عليك سلطان، سوى هذه النسخة التي إذا استعذت بالله بطلت، لأنك من المخلصين من عباده، لكن هؤلاء المشركين هم الذين اتبعوا الشياطين، فلا يفارقونهم، كالأخ لشقيقه. والشياطين أيضاً لا يقصرون في غيهم، يمدونهم غياً بعد غي.

ومن ذلك أنك إذا أعرضت عنهم، وتركتهم، ولم تأتهم بآية، قالوا لك:(لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا)[الأعراف: 203] ولا غي بعد اقتراح الآيات مع الاستهزاء، قل: إن آيتي هذا الكتاب المعجز الظاهر لمن له بصيرة، يميز بين الحق والباطل، ويفرق بين الافتراء والصدق المحض، وهدى ورحمةً لمن آمن بأنه من عند الله، وليس بافتراء.

وفيه تعريض بهؤلاء الكفرة أن لا بصائر لهم ولا هداية، وأنهم من أهل غضب الله والآيسين من رحمته، حيث لم يرفعوا به رأساً، كقوله تعالى:(يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِينَ)[البقرة: 26].

قوله: (أوجبي إليه فاجتباه)، الراغب: "جببت الماء في الحوض: جمعته. والحوض

ص: 726

هلا اجتمعتها، افتعالاً من عند نفسك؛ لأنهم كانوا يقولون:(ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً)[سبأ: 43]، أو: هلا أخذتها منزّلةً عليك مقترحة؟ (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) ولست بمفتعل للآيات، أو لست بمقترحٍ لها. (هذا بَصائِرُ): هذا القرآن بصائر (مِنْ رَبِّكُمْ) أي: حجج بينةٌ يعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى، أو هو بمنزلة بصائر القلوب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الجامع له: جابية، وجمعها: جوابٍ. ومنه: جبيت الخراج، ومنه قوله تعالى:(يُجْبَى إلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ)[القصص: 57]. والاجتباء: الجمع على سبيل الاصطفاء. واجتباء الله العبد: تخصيصه إياه بفيضٍ إلهي، يتحصل منه أنواع من النعم، بلا سعي من العبد، وذلك للأنبياء وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء".

قوله: (اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك): "افتعالاً": حال من الفاعل في "اجتمعتها"، وهذا مبني على قوله:"اجتبي الشيء، بمعنى: جباه لنفسه"، وقوله:"هلا أخذتها منزلة" مبني على قوله: "أو جبي إليه فاجتباه". و"منزلة": حال من المفعول. ومعنى قوله: "هلا أخذتها منزلةً عليك مقترحة": هلا طلبت من الله وأنت مقترح، ليكون اقتراحك سبباً لأن يأخذها وهي مقترحة؟

فعلى هذا هو تهكم من الكفار، كقوله تعالى حكايةً عنهم:(يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ)[الحجر: 6].

قوله: (أو هو بمنزلة بصائر القلوب): يريد: أن "البصائر" هاهنا إما من إطلاق المسبب على السبب؛ فإن المراد: هذا حجج وبرهان من ربكم، تفتح بها أعين عمي، وقلوب صفر عن البصيرة. ولما كانت الحجج سبباً لإدراك القلب، قيل:(هذا بصائر)، أو أنها استعارة، استعير لإرشاد القرآن الخلق إلى درك الحقائق البصائر.

ص: 727

[(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)].

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) ظاهره وجوب الاستماع والإنصات وقت قراءة القرآن في صلاةٍ وغير صلاة. وقيل: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، ثم صار سنةً في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلسٍ يقرأ فيه القرآن.

وقيل معناه: وإذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له.

وقيل: معنى (فاستمعوا له): فاعملوا بما فيه ولا تجاوزوه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (وقيل: معنى (فاستمعوا له): فاعملوا بما فيه، ولا تجاوزوه): قال الزجاج: "لأن معنى قول القائل: سمع الله دعاءك: أجاب الله دعاءك".

الأساس: "ومن المجاز: "سمع الله لمن حمده": أجاب وقبل، والأمير سمع كلام فلان".

وقلت: هذا أوفق لتأليف النظم سابقًا ولاحقاً، وأجمع للمعاني والأقوال. فإنه تعالى لما ذكر تعريضًا بأن المشركين إنما استهزؤوا بالقرآن، ونبذوه وراءهم ظهرياً، لأنهم فقدوا البصائر، وعدموا الهداية والرحمة، وأن حالهم على خلاف المؤمنين، أمر المؤمنين بمزيد ما كانوا عليه من مجرد الاستماع، وهو العمل بما فيه، والتمسك به، وألا يجاوزوه، ترتباً للحكم على تلك الأوصاف.

ولذلك قيل: (وإذا قرئ القراءن): وضع للمظهر موضع المضمر، لمزيد الدلالة على العلية. يعني: إذا ظهر، أيها المؤمنون، أنكم لستم مثل هؤلاء المعاندين، فعليكم بهذا الكتاب الجامع لصفات الكمال، الهادي إلى الطريق المستقيم، الموصل إلى مقام الرحمة والزلفى، (فاستمعوا له)، وبالغوا في الأخذ منه، والعمل بما فيه، ليحصل المطلوب، و (لعلكم ترحمون).

ص: 728

[(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ)].

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) هو عامٌّ في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك، (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً): متضرعاً وخائفاً، (وَدُونَ الْجَهْرِ): ومتكلماً كلاماً دون الجهر، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر، (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) لفضل هذين الوقتين، أو أراد الدوام. ومعنى (بالغدوّ): بأوقات الغدوّ، وهي الغدوات. وقرئ:"والإيصال"، من آصل: إذا دخل في الأصيل، كأقصر وأعتم،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فيدخل فيه وجوب الإنصات في الصلاة، بالطريق الأولى، لأنها مقام المناجاة، والاستماع من المتكلم. وعلى هذا الإنصات عند تلاوة الرسول صلي الله عليه وسلم، وفيه أن رفع الجناح في غير الصلاة من باب السهولة وضعف القوة.

قوله: (وقرئ: "والإيصال"): قال ابن جني: "قرأها أبو مجلز، وهو مصدر: آصلنا، فنحن مؤصلون، أي: دخلنا في وقت الأصيل".

قوله: (كأقصر)، الجوهري:"أقصرنا، أي: دخلنا في قصر العشي. كما تقول: أمسينا، من المساء. وقصر الظلام: اختلاطه. ويقال: أتيته قصراً، أي: عشياً".

قوله: (وأعتم): قال الخليل: "العتم من الليل: بعد غيبويه الشفق".

ص: 729

وهو مطابقٌ للغدوّ (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) من الذين يغفلون عن ذكر الله ويلهون عنه.

[(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِه ِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)].

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) هم الملائكة صلوات الله عليهم، ومعنى (عِنْدَ): دنوّ الزلفة، والقرب من رحمة الله تعالى وفضله، لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته، (وَلَهُ يَسْجُدُونَ): ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره، وهو تعريضٌ بمن سواهم من المكلفين.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من «قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً، وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة» .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مطابق للغدو) لأن الأصل أن يقال: بالغدوات، جمع "غدوة"، ليطابق "الآصال" في الجمع. وأما على هذه القراءة فهما مفردان.

قوله: (وهو تعريض بمن سواهم من المكلفين): يعني: دل تقديم متعلق (يسجدون) عليه، على أن غيرهم لا يختصونه بالسجود، بل يشركون معه غيره.

وقلت: يمكن أن يقال: إن التقديم لمراعاة الفواصل، وإن الآية بتمامها تعريض، لأن وزان قوله تعالى:(إنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) الآية، مع قوله:(واذكر ربك في نفسك) الآية، وزان قوله:(فَإنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ وهُمْ لا يَسْأَمُونَ)[فصلت: 38]، مع قوله:(واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون)[فصلت: 37] في ترتب الثاني على الأول، والمخالفة بالفاء والاستئناف لا تمنع العلية.

ص: 730

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

المعنى: ايتوا بالعبادة على سبيل التضرع والاستكانة، واستشعار الخوف سراً، والخفض من الصوت جهراً، لأن المطلوب المواطأة بين السر والعلانية، في التواضع والمداومة، فإن لم تأتوا بالعبادة على هذا الوجه، فاعلموا أنا مغنون عنكم، لأن لنا عباداً مكرمين مقربين، دأبهم وعادتهم التواضع وعدم الاستكبار في جميع أحوالهم.

وبهذا ظهر أن القول بالمداومة في الغدو والآصال هو الوجه. ويدل عليه قوله تعالى: (ولا تكن من الغافلين)، والتعريض بالأفعال المضارعة، أي:(يستكبرون)، و (يسبحونه)، (وله يسجدون) لأنها تدل على أن عدم الاستكبار، والتسبيح، والسجدة، دأبهم وعادتهم، كقوله تعالى:(يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ وهُمْ لا يَسْأَمُونَ)[فصلت: 38].

وفي الآية الدلالة على أن الأصل في الذكر اللساني مراعاة سلوك القصد والاعتدال، ونظيره وله تعالى:(ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ولا تُخَافِتْ بِهَا وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)[الإسراء: 110].

وأما قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً)[الأعراف: 55] فمختص بالدعاء، واستنزال الإجابة، هذا إذا جعل الخطاب في قوله:(واذكر ربك) عاماً، نحو قوله صلوات الله عليه:"بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة". وأما إذا جعل مختصاً برسول الله صلي الله عليه وسلم، تأديباً له، وتأسياً لأمته، وإظهاراً لبيان مكانته ومنزلته، فيكون في الآيات إشعار بمراتب الذكر، وبيان درجات الذاكرين، بحسب تفاوت منازلهم ومقاماتهم، قوله تعالى:(واذكر ربك في نفسك تضرعا) إشارة إلى أعلى المراتب، وهو حصة الواصلين المشاهدين، وقوله:(ودون الجهر من القول) هي المرتبة الوسطى، وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة، وقوله:(ولا تكن من الغافلين) إيماء إلى مرتبة النازلين من السالكين.

ص: 731

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

فالأمر في قوله تعالى: (واذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفَةً) للوجوب، وفي (ودون الجهر من القول) للترخص تأسياً، والنهي بقوله:(ولا تكن من الغافلين) للترفع عن هذا المقام، على سبيل التهييج والإلهاب. يعني: ولا تكن من الجاهرين بالصوت، لأن منزلتك فوق هذا المقام، لأنك من الواصلين إلى عين الحقيقة، الماثلين في مقام الشهود، المنخرطين في زمرة المقربين الذين جاهدوا في قمع خواطر النفس، وإماطة لوث الهوى.

وفي ذكر الخوف الإشعار باستشعار هيبة الجلال، قال:

أشتاقه فإذا بدا

أطرقت من إجلاله

لا خيفة بل هيبةً

وصيانةً لجماله

ومن هذا المقام نهى صلوات الله عليه أصحابه، على ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود، عن أبي موسى، قال: كنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:"يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم، ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً بصيراً، وهو معكم، والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته". كقوله: (وهو معكم)[الحديد: 4] و (أقرب).

فعلى هذا: حال المبتدئ والسالك منوطة برأي الشيخ المرشد، فإنه قد يأمره برفع الصوت في الذكر، لقلع الخواطر، وحديث النفس، لرسوخها فيه في بدء الأمر.

ص: 732

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.

فقوله تعالى: (ولا تكن من الغافلين) إشارة إلى هذا المقام.

ووجدت في بعض كلمات شيخنا شيخ الإسلام أبي حفص السهروردي، قدس سره بلا شك أنه قال:"بنية العبد ووجوده يحكي مدينةً جامعة، وأعضاؤه وجوارحه بمثابة سكان المدينة وقطان البلد. والعبد، في وقت إقباله على الذكر، كمؤذن صعد منارةً على باب المدينة، ويقصد إسماع أهل المدينة بالأذان، فهكذا الذاكر المحقق، يقصد إيقاظ قلبه، وإنباه أجزائه وأبعاضه، يذكر بلسانه، ويعي الذكر بقلبه ومتفرقات جوارحه، فتكون مناداة الذكر باللسان، وصداه في قبة القالب، يستحضر بالذكر سكان مدينة النفس، ويستجمع شوارد عساكر الفهم والحس، يقول ببعضه، ويستمع بكله، إلى أن تنتقل الكلمة من اللسان إلى القلب، فيتنور بها، ويظفر بجدوى الأحوال، ثم ينعكس نور القلب على القالب، فيتزين بمحاسن الأعمال".

وقال أيضاً في "العوارف": "لا يزال العبد يردد هذه الكلمة على لسانه، مع مواطأة القلب، حتى تصير الكلمة متأصلةً في القلب، مزيلةً لحديث النفس، ينوب معناها في القلب عن كل حديث النفس. فإذا استولت الكلمة، وسهلت على اللسان، يتشربها القلب، ويصير الذكر حينئذٍ ذكر الذات، وهذا الذكر هو المشاهدة والمكاشفة والمعاينة. وهذا هو المقصد الأقصى من الخلوة. وقد يحصل هذا لا بذكر الكلمة بل بتلاوة القرآن، إذا أكثر من التلاوة، واجتهد في مواطأة القلب مع اللسان، حتى تجري التلاوة على اللسان، وتقوم مقام حديث النفس، فيدخل على العبد سهولة في التلاوة والصلاة". والله أعلم.

تمت السورة

ص: 733