الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الأنفال
مدنية، ست وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
[(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) 1 - 4]
النفل: الغنيمة، لأنها من فضل الله تعالى وعطائه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة الأنفال
مدنية، ست وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (لأنها من فضل الله تعالى) وهو علة التسمية، قال الإمام: "سُميت الغنائم أنفالاً؛
قال لبيد:
إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ
والنفل: ما ينفله الغازي، أي يعطاه زائدًا على سهمه من المغنم، وهو أن يقول الإمام تحريضًا على البلاء في الحرب: من قتل قتيلًا فله سلبه. أو قال لسرية: ما أصبتمُ فهو لكم، أو فلكم نصفه أو ربعه. ولا يخمس النفل، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه. وعند الشافعي رحمه الله -في أحد قوليه-: لا يلزم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل الغنائم لهم، وقال تعالى:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]، أي: زيادة على ما سأل".
قوله: (إن تقوى ربنا خيرُ نفل): تمامه:
…
وبإذن الله ريثي وعجل
أحمد الله فلا ند له
…
بيديه الخيري ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى
…
ناعم البال ومن شاء أضل
قوله: (على البلاء في الحرب)، المغرب:"بلاه وأبلاه: اختبره، ومنه: أبلى في الحرب؛ إذا أظهر بأسه حتى اختبره الناس".
قوله: (من قتل قتيلاً فله سلبه) الحديث: من رواية البخاري ومسلم وغيرهما: "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه"، الحديث.
ولقد وقع اختلاف بين المسلمين في غنائم بدر، وفي قسمتها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تُقسم، ولمن الحكم في قسمتها؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعاً؟ فقيل له: قل لهم: هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الحاكمُ فيها خاصة، يحكم فيها ما يشاء، ليس لأحد غيره فيها حُكم. وقيل: شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن يُنفله، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، فلما يسر الله لهم الفتح اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا، فقال الشبان: نحنُ المُقاتلون، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات: كنا ردءًا لكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولقد وقع اختلاف بين المسلمين) إلى آخره: مبني على التفسير الأول، وهو أن يُراد بالنفل: الغنيمة.
وقوله: (شرط لمن كان له بلاء): مبني على التفسير الثاني، وهو أن يراد بالنفل: ما ينفله الغازي، فعلى الأول: السؤال في {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ} للاستخبار، أي: كيف نُصرفها ومن الحاكم فيها؟ وعلى الثاني: للاستعطاء، على ما رُوي أنهم كانوا يقولون: يا رسولا لله، أعطنا كذا، وأعطنا كذا. قاله الإمام. فعلى هذا "عن" بمعنى "من"، وقيل:"عن" صلة، أي: يسألونك الأنفال، وهكذا قرأه ابن مسعود. ذكره محي السنة.
قوله: (فقال الشبان: نحن المقاتلون) الحديث: أخرجه أبو داود عن ابن عباس. وأما حديث سعد بن أبي وقاص: فرواه مسلم والترمذي وأبو داود مع اختلاف أيضاً.
قوله: (كنا ردءاً لكم) أي: معيناً، الجوهري:"أردأته بنفسي: إذا كنت له ردءاً، وهو العون".
وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: المغنم قليل والناس كثير: وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك. فنزلت.
وعن سعد بن أبى وقاص: قتل أخي عُمير يوم بدر، فقتلت به سعيد بن العاص، وأخذت سيفه فأعجبني، فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنّ الله قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال:"ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القبض"، فطرحته، وبى ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي، وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلًا حتى جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أنزلت سورة الأنفال، فقال: يا سعد، إنك سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي فاذهب فخذه".
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: نزلت فينا -يا معشر أصحاب بدر- حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله، وإصلاح ذات البين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تنحازون إليها)، الجوهري:"الحوز: الجمع، وكل من ضم إلى نفسه شيئاً فقد حازه حوزاً، وانحاز القوم: تركوا منزلهم"، إلى آخره.
قوله: (اطرحه في القبض): القبض - بالتحريك-: ما قُبض من الغنائم.
قوله: (وان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله، وإصلاح ذات البين): أي: في نزع النفل من أيدينا وجعله للرسول صلى الله عليه وسلم وقسمته على السواء.
وأما كونه تقوى الله فإن كل أحدٍ منا كان يظن أن حقه أوفى من حق صاحبه؛ لما كان يرى من جهاده، فيقع التشاجر التنازع، فلما نزع الله من بين أيدينا ارتفع الظن والاختلاف خشية من الله أن نتصرف في ماله بغير إذنه.
وقرأ ابن محيصن: يسألونك علنفال، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وإدغام نون عن في اللام: وقرأ ابن مسعود: يسألونك الأنفال، أي يسألك الشبان ما شرطت لهم من الأنفال.
فإن قلت: ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول)؟ قلت: معناه أنّ حكمها مختص بالله ورسوله، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته، ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوّضًا إلى رأى أحد، والمراد: أنّ الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله: أن يواسى المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات، فيقاسموهم على السوية،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما كونه طاعة رسوله صلى الله عيه وسلم: فإنه لما قُسم بيننا على السوية رضينا به.
وأما كونه إصلاح ذات البين: فإنا لم نر حينئذ أن لكل منا فضلاً على الآخر، وأن ما نفله الله تفضل منه لا أجر لسعينا، وفيه إشارة إلى أن ثواب الآخرة على الأعمال تفضل، كما عليه الأصحاب. هذا تفسير حسن للآية، فسره صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ما معنى الجمع بين كر الله ورسوله؟ ): ظاهره يقتضي أن السؤال وارد على الوجهين، وهو أن يُراد بالأنفال الغنائم، والسؤال عن القسمة من يقسمها: أرسول الله أم غيره؟ وأن يُراد بالأنفال ما يعطاه الغازي زائداً على سهمه، والسؤال للاستعطاء، لكن قوله بعد ذلك:"والمراد أن الذي اقتضته حكمة الله، وأمر به رسوله: أن يواسي المقاتلة المشروط لهم" إلى آخره، يخصصه بالوجه الثاني، وأن المراد بالجمع اختصاص الله تعالى بالأمر، واختصاص رسوله صلى الله عليه وسلم بالامتثال.
ولا يستأثروا بما شرط لهم، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي (فَاتَّقُوا اللَّهَ) في الاختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) وتآسوا وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم.
وعن عطاء: كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال: "اقسموا غنائمكم بالعدل"، فقالوا: قد أكلنا وأنفقنا، فقال:"ليردّ بعضكم على بعض".
فإن قلت: ما حقيقة قوله (ذاتَ بَيْنِكُمْ)؟ قلت: أحوال بينكم، يعنى: ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، كقوله (بِذاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 119] وهي مضمراتها. لما كانت الأحوال مُلابسة للبين قيل لها: ذات البين، كقولهم: اسقني ذا إنائك، يريدون: ما في الإناء من الشراب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى الوجه الأول: ذكر الله تعالى لشرف الرسول صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى:(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)[التوبة: 62] في وجه، يدل عليه قوله فيما سبق:"هي لرسول الله صلى الله عليه وسلمن وهو الحاكم فيها خاصة"، وفيه تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلمن وإيذانٌ بأن طاعته طاعة الله تعالى، وأنه خليفة الله في أرضه، وكما أنه لا ينطق عن الهوى كذلك لا يفعل بالهوى، صلات الله وسلامه عليه، والوجهان مبنيان على معنى السؤال، هل هو بمعنى استدعاء معرفة أو استجداء عطاء؟
الراغب: "السؤال: إما لاستدعاء معرفة أو ما يؤدي إليها، وإما لاستدعاء مال أو ما يؤدي إليه، فاستدعاء المعرفة: جوابه على اللسان، واليد خليفة له بالكتابة أو الإشارة، واستدعاء المال: جوابه على اليد، واللسان خليفة لها؛ إما بوعدٍ أو رد. والسؤال إذا كان للتعرف يعدى بنفسه وبالجار، نحو: سألته كذا، وعن كذا، وبكذا، وبـ"عن" أكثر، وإذا كان لاستدعاء المال يتعدى بنفسه وبـ"مِنْ"، كقوله تعالى:(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)[الأحزاب: 53]، وقال:(وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)[النساء: 32].
قوله: (أحوال بينكم): قال الزجاج: "معنى (ذَاتَ بَيْنِكُمْ): حقيقة وصلكم، أي:
وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها.
ومعنى قوله: (إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) إن كنتم كاملي الإيمان. واللام في قوله: (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) إشارة إليهم. أي: إنما الكاملو الإيمان من صفتهم كيت وكيت، والدليل عليه قوله:(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا). (وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ): فزعت، وعن أمّ الدرداء: الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعريرة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاتقوا الله وكونوا مجتمعين على ما أمر الله ورسوله، وكذا معنى:"اللهم أصلح ذات البين" أي: أصلح الحال التي لها يجتمع المسلمون".
قوله: ((إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ): إن كنتم كاملي الإيمان): وإنما دل على الكمال ليكون الخطاب مع من آمن إيماناً لا شك فيه، كما أومأ إليه بقوله:"ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها"، وفيه أن الإيمان له مراتب، يعني: إن كنتم من الذين لهم المرتبة العليا في الإيمان.
ثم اتجه لهم أن يسألوا: ما لنا خوطبنا بقوله: (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وهل يشك في كوننا كاملي الإيمان؟ فقيل:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ) الآيات، وهو المراد من قوله:"واللام في قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) إشارة إليهم".
قوله: (السعفة)، الجوهري:"السعفة-بالتحريك-: غُصن النخل، والجمع سعف".
قوله: (قشعريرة): هي من قولهم: اقشعر جلد الإنسان اقشعراراً، يُقال: أخذته قشعريرة. كأنه شكى بعضهم إليها فزعة يجدها عند استماع الذكر، فقالت: إن تلك الفزعة تشبه احتراق الورقة اليابسة، وعلامتها إحساس الارتعاد في الجلد، ثم أرشدته بإزالتها بالدعاء.
قال: بلى، قالت: فادع الله؛ فإنّ الدعاء يذهبه. يعنى: فزعت لذكره استعظاما له، وتهيبا من جلاله وعزَّة سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه، وهذا الذَّكر خلاف الذَّكر في قوله:(ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ)[الزمر: 23] لأن ذلك ذكر رحمته ورأفته وثوابه. وقيل: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله فينزع. وقرئ: "وجلت"، بالفتح، وهي لغة، نحو:"وبق" في "وبق"، وفي قراءة عبد الله:"فرقت".
(زادَتْهُمْ إيمناً): ازدادوا بها يقينا وطمأنينة نفس؛ لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه، وقد حمل على زيادة العمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قالت: فادع الله؛ فإن الدعاء يذهبه): يوهم توخي إزالة الخوف عن القلب بالكلية، والركون إلى الرجاء، لكن المراد أن المبتدئ إذا سمع الآيات القوارع والزواجر لم يطق فينزعج، وليس ذل من صريح الإيمان، بل صريح الإيمان أن يتدارك ذلك بآيات الرجاء ليحصل له الاطمئنان، كما أن الخوف يجذبه إلى القلق والاضطراب، فالرجاء يدعوه إلى السكون، فيطمئن السالك بين تينك الجذبتين، وهو المراد من قولها:"فإن الدعاء يذهبه".
قال شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره: لما رأى أبو بكر الصديق رضي الله عنه الباكي عند قراءة القرآن، قال: هكذا كنا حتى قست القلوب. أي: أدمنت سماع القرآن وألفت أنواره، فما استغربته حتى تتغير.
قوله: (فينزع): من نزعت الشيء من مكانه نزعاً: قلعته.
قوله: (ازدادوا به يقيناً وطمأنينة): قال الشيخ محيي الدين في "شرح صحيح مسلم": "الأظهر أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبهة، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، ولا تزال قلوبهم منشرحة، وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره". وهذا موافق لقول من قال: الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان،
وعن أبي هريرة: "الإيمان سبع وسبعون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".
وعن عمر بن عبد العزيز: "إن للإيمان سَننّا وفرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما أن قوله: "وقد حُمل على زيادة العمل" مُناسب لقول القائلين بأن الأعمال داخلة فيه، ودلالة الآيات على الأول أظهر، لأن قوله: 0 الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) جملة واردة على المدح، إما بتقدير "أعني" أو "هم".
وقلت: يمكن أن يُقال - والله أعلم-: نبه أولاً بقوله: (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) على بدء حال المريد في التصقيل، وثانياً بقوله:(زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً) على أخذه في السلوك والتجلي وعروجه في الأحوال، وثالثاً بقوله:(وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) على صعوده في الدرجات والمقامات.
ثم في تقديم المعمول: الإيذان بالتبري عن الحول والقوة، والتفويض الكامل، وقطع النظر عما سواه. وفي صيغة المضارع: التلويح إلى استيعاب مراتبه كلها.
قال الشيخ العارف أبو إسماعيل الأنصاري: "التوكل: كلة الأمر كله إلى مالكه والتعويل على وكالته، وهو من أصعب المنازل".
قوله: (الإيمان سبع وسبعون شعبة): وفي رواية لمسلم والبخاري: "بضع". النهاية: "البضع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في العدد - بالكسر، وقد يُفتح-: ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة، لأنه قطعة من العدد". و"الشعبة: الطائفة من كل شيء والقطعة منه".
وفي "الأساس": "ومن المجاز: أنا شعبة من دوحتك، وغصن من سرحتك".
وقلت: دلالة هذا الحديث على أن العمال داخلة في مسمى الإيمان ظاهرة.
قال الشيخ محيي الدين: "الإيمان قول وعمل، وهو مذهب مالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم من أرباب العلم الذين كانوا مصابيح الهدى وأئمة الدين، من أهل العراق والشام وغيرهم، وقول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن وعطاء وطاووس ومجاهد وابن المبارك".
وقال الشيخ: "المعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين: هو إتيانه بهذه الأمور: التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح، وذلك أنه إذا أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه لا يستحق اسم المؤمن، وكذا لو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف، وكذا إذا أقر ولم يعمل بالفرائض لا يسمى مؤمناً بالإطلاق، وإن كان في اللغة يسمى مؤمناً؛ لأنه غير مستحق لهذا الاسم في قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ".
وقلت: فعلى هذا (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) بدل من السابق، لأن في إقامة الصلاة إشارة إلى تعديل أركانها وتوفيه حدودها وآدابها، وذلك لا يتأتى إلا من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المؤمن المخلص، ثم في اقترانها بأداء الزكاة- وهما أما العبادات البدنية والمالية- دلالة على استجلاب سائرها.
وقال الشيخ أيضاً: "أنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة والنقصان كان شكاً وكفراً، وقال المحققون من المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقصن والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته ونقصانها، وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص".
وقال: "الإيمان في اللغة: هو التصديق، فإن عُني به ذلك فلا يزيد ولا ينقص؛ لأن التصديق لا يتجزأ، فلا يتصور كماله مرة ونقصانه أخرى، وفي لسان الشرع: هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان".
وقال الراغب في "الذريعة: "الإيمان: هو الإذعان على سبيلا لتصديق لله تعالى باليقين، قال تعالى:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ووجل القلب: هو الخشية للحق على سبيل التصديق له باليقين. هذا أصل الإيمان، ثم صار اسماً لشريعة محمد صلى الله عليه ولم كالإسلام، فعلى الثاني يصح إطلاقه على من يظهر ذلك، وإن لم يتخصص بالتصديق اليقيني، ولأن اشتقاق الإيمان لا يمنع منه، فإن معنى المؤمن: من صار ذا أمن، وبإظهار الشهادتين يأمن الإنسان من أن يهراق دمه ويباح ماله، على أنه صلى الله عليه وسلم حين سأل الجاري عن الله تعالى، فأشارت نحو السماء، وعن النبوة فأشارت إليه، قال:"أعتقها فإنها مؤمنة". وقال بعض المعتزلة: لا يصح إطلاقه على أحد ما لم يختبر في الأصول الخمسة".
وقال أيضاً: "اختلف في الإيمان: هل هو الاعتقاد المجرد أم الاعتقاد والعمل معاً؟ واختلافهم بسبب اختلاف نظرهم، فمن قال: هو اعتقاد مجرد فنظره إلى اشتقاق اللفظ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإلى أنه سبحانه وتعالى فصل بينهما في عامة التنزيل بالعطف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بينهما في خير جبريل حين سأله عن الإسلام والإيمان، ففسر الأول بالأعمال، والثاني بالاعتقاد، ومن قال: هو الاعتقاد والعمل؛ فلما ورد: "الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان".
ولأن الإيمان ليس بذي منزلة واحدة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون شعبة" الحديث، ومن تأمله وعرف حقيقته علم أن الإيمان الواجب هو اثنان وسبعون درجة، لا أقل ولا أكثر؛ لأنه صلوات الله عليه لا ينطق عن الهوى، إن هوى إلا وحي يوحى". إلى آخر كلامه.
وقلت: قد مر تأويل العطف في البقرة عند قوله تعالى: (وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ): "جعل النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين، ولذلك قال: "ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم".
(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ): ولا يفوّضون أمورهم إلى غير ربهم، لا يخشون ولا يرجون إلا إياه.
جمع بين أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة. (حَقًّا) صفة للمصدر المحذوف، أي: أولئك هم المؤمنون إيماناً حقّاً، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كقولك: هو عبد الله حقا، أي حقَّ ذلك حقا.
وعن الحسن: أنّ رجلاً سأله: أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا مؤمن. وإن كنت تسألني عن قوله:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) فو الله لا أدرى؛ أمنهم أنا أم لا؟ وعن الثوري: "من زعم أنه مؤمن بالله حقاً، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة، فقد آمن بنصف الآية". وهذا إلزام منه، يعنى: كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقا، فلا يقطع بأنه مؤمن حقاً، وبهذا تعلق من يستثنني في الإيمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وبهذا تعلق من يستثني): أي: بإلزام الثوري تمسك من يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وبيانه: أنه تعالى عقب اسم الإشارة بقوله: (هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً)، وبقوله:(لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الآية، بعد إجراء الوصاف الفاضلة على المؤمنين، فيلزم أن يكونا حقين ثابتين للمؤمنين، لاتصافهم بتلك الفضائل، وقد تقرر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام مؤذن بأن ما يرد عقيبه: المذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عُددت، لا سيما على الحصر، فكأنهما معللان معاً لتلك الصفات الجارية على الموصوف، فلا يفارقانه أبداً.
وقد تقرر - بل أجمع عليه - أن أحداً من المسلمين بعد العشرة المبشرة لا يقدر أن يقطع
وكان أبو حنيفة رضي الله عنه ممن لا يستثني فيه، وحكي عنه أنه قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ قال: إتباعاَ لإبراهيم عليه السلام في قوله: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي)[الشعراء: 82] فقال له: هلا اقتديت به في قوله: (أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى)[البقرة: 260].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بأنه من أهل الثواب، فمن قال: إني مؤمن حقاً لابد له من القول بأن له درجات عند ربه قطعاً، وألا فقد آمن ببعض دون البعض، لكنه لا يجوز القطع بالثاني، فلا يجوز القطع بالأول، فله أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لا: أنا مؤمن حقاً، وإليه الإشارة بقوله:"وهذا إلزام منه".
قال الإمام: مذهب عبد الله بن مسعود جواز الاستثناء، وأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وتبعه جمع عظيم من الصحابة والتابعين، وهو قول الشافعي، رضي الله عنهم. وأنكره أبو حنيفة رضي الله عنه؛ ذهاباً إلى أن الاستثناء شك، فلا يجتمع مع الإيمان الذي هو اليقين. والشافعي يحمل الاستثناء إما على التبرك، كقوله تعالى:(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)[الفتح: 27]، وإما على الإيمان المنتفع به عند الموت، فإذن لا خلاف في أصل المعنى.
قوله: (هلا اقتديت به في قوله: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى)[البقرة: 260]): يعني: لِمَ لم تقتد به في هذا الجواب حيث جزم به وقطعه ولم يتردد فيه، ولم يقل: بلى إن شاء الله؟
ويمكن أن يجاب: بأن الإيمان بأن الله تعالى قادر على إحياء الموتى مما الشك فيه موجب للكفر، وليس أيضاً من مقام التبرك، بخلافه في قوله عليه السلام:(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)[الشعراء: 82]، فإنه عليه السلام في مقام هضم النفس وتحري الوسيلة إلى إنجاح المطلوب. وإليه ينظر قول الحسن:"الإيمان إيمانان".
(دَرَجَاتٌ): شرف وكرامة وعلوٌّ منزلة (وَمَغْفِرَةٌ): وتجاوز لسيئاتهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): نعيم في الجنة، يعنى: لهم منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم، وهذا معنى الثواب.
[(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) 5]
[(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ)] فيه وجهان: أحدهما: أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذه الحال كحال إخراجك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هذه الحال كحال إخراجك): قال محيي السنة: "اختلفوا في تعلق الكاف؛ قيل: التقدير: امض لأمر الله - يعني: في الأنفال- وإن كرهوا، كما مضيت لأمر الله في الخروج من البيت لطلب العير وهم كارهون. وعن المبرد: الأنفال لله والرسول وإن كرهوا، كما أخرجك ربك بالحق وإن كرهوا".
قال السيد ابن الشجري في "الأمالي": القول بأن الكاف نعت لمصدر- كما في الوجه الثاني- ضعيف؛ لتباعد ما بينهما بعشر جمل، والوجه: الأول، وهو أن يكون خبر مبتدأ محذوف.
وقلت: بل الوجه الثاني أدق التئاماً من الأول، والتشبيه في أكثر تفصيلاً، لأنه حينئذ من تتمة الجملة السابقة داخل في حيز المقول مع مراعاة الالتفات، فالفاء في (فَاتَّقُوا اللَّهَ) رابطة للوصف بالحكم، جاعلة تتمة الآية من جملة حال المشبه ومرتبة عليه، فكأنه قيل: قُلِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأنفال استقر لله مع كراهتكم، وكان خيراً لكم؛ لما حصل لكم من تقوى الله وطاعة الرسول وإصلاح ذات البين، كما استقر إخراجي من المدينة إلى القتال مع كراهتكم إياه، وكان خيراً لكم؛ لما نلتم من الفتح والغنيمة. والأول مركب عقلي لقوله:"هذه الحال كحال إخراجك"، والثاني مركب وهمي، فلابد من تصور جزئيات الكلام، لئلا يختل أمر التمثيل، بخلاف الأول، فإنه يحصل من مجرد أخذ الزبدة والخلاصة، كما مر مراراً.
ثم استأنف مستطرداً بقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلى آخر الآيات، للحث على طاعة الله وطاعة رسوله وقلع الهوى الكامن في النفوس، والإيذان بأن المؤمن الكامل من يجعل هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، على ما روينا في "المصابيح" عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".
ثم في تقديم عجز القصة - وهي ذكر قسمة الأنفال والسؤال فيها- على صدرها؛ وهو الخروج من المدينة إلى بدر، إلى آخر هذه القصة الواردة في هذه السورة: استبعاد لكراهتهم هذه بعدما شاهدوا أمثال هذه الحالة، فكرهوها، ثم تبين لهم حقيقتها، واستحضار لمعنى التأديب في قوله:(لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)[الحجرات: 1]، ولما تبني لهم من وجه الحكمة في قوله:(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) الآية [الحجرات: 7].
كأن هذه السورة الكريمة من فاتحتها إلى خاتمتها جواب عن سؤال واحد، وإرشاد للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في تحري طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوخي رضاه، وامتنان عليهم بما
يعني: أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب. والثاني: أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدَّر في قوله: (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)[الأنفال: 1] أي: الأنفال استقرّت لله والرسول، وثبتت، مع كراهتهم، ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون.
و(مِنْ بَيْتِكَ) يريد بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مهاجره ومسكنه، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه (بِالْحَقِّ) أي: إخراجاً ملتبسا بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكرهُونَ) في موضع الحال، أي: أخرجك في حال كراهتهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من لهم من نعمة الصحبة، وإن شئت فجرب ذوقك في تكرار "إذ" في التفصيل الوارد في السورة وإيراد القص من غير ترتيب، ثم في كل من تلك الإيرادات الرمز إلى المقصود، ثم في إدراج تقسيم المسؤول عنه في أثناء ذلك، يعني قوله:(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)[الأنفال: 41]: بيان لكيفية تصرف من وُكل إليه أمر الغنائم، فتفكر في كل ذلك تَرَ العجائب، ويتحقق لك ما ذكرت هاهنا، وما أسلفت في قصة البقرة من تقديم آخر القصة على أولها، لتقف على شمة من أسرار كلام الله تعالى المجيد، والله يقول الحق وهوي هدي السبيل.
قوله: (في كراهة ما رأيت): قيل: هو من الرأي الذي في قول الله تعالى: (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)[النساء: 105]، لا من رؤية البصر، ولا من رؤية القلب المتعدي إلى مفعولين، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في فاتحة السورة:"من قتل قتيلاً فله سلبه"، وقول المصنف:"شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله".
وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة، معها أربعون راكباً، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو ابن هشام، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقى العير؛ لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم، فنادي أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة النَّجَاء النَّجَاء، على كل صعب وذلول، عيركم أموالكم، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً.
وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها: إني رأيت عجباً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وذلك أن عير قريش): جملة كالمبينة للأولى وإن دخلت الواو؛ لأن المشار غليه ما سبق، أي: الإخراج في حال الكراهية، لأن عير قريش، إلى آخره.
قوله: (النجاء النجاء)، الجوهري:"نجوت نجاءً، ممدودً؛ أي: أسرعت"، منصوب بفعل مُضمر، واللام فيهما للجنس.
قوله: (على كل صعب وذلول)، أي: أسرعوا وبادروا مجتمعين، ولا تقفوا لأن تختاروا للركوب ذلولاً دون صعب.
قوله: (عيركم أموالكم): "أموالكم" بدل "عيركم"، وهو مثل قولهم:"أهلك فقد أعريت"، قال الميداني:"أي: بادر أهلك وعجل الرجوع إليهم، فقد هاجت ريح عرية، أي: باردة، أعريت: دخلت في العرية". وقيل: التقدير: الزموا عيركم.
قوله: (وقد رأت أخت العباس): قال محيي السنة: هي عاتكة بنت عبد المطلب.
رأيت كأنّ ملكاً نزل من السماء، فأخذ صخرة من الجبل، ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة. فحدّث بها العباس، فقال أبو جهل: ما يرضى رجالهم أن يتنبّئوا حتى تتنبَّأ نساؤهم، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير في المثل السائر:"لا في العير ولا في النفير"، فقيل له: إنّ العير أخذت طريق الساحل ونجت، فارجع بالناس إلى مكة، فقال: لا والله، لا يكون ذلك أبداً، حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمور، ونقيم القينات والمعازف ببدر، فيتسامع جميع العرب بمخرجنا، وإن محمداً لم يصب العير، وإنا قد أعضضناه. فمضى بهم إلى بدر، وبدر: ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (حلق بها): التحليق بالشيء: الرمي به إلى فوق.
قوله: (لا في العير ولا في النفير): قال المفضل: أول من قال ذلك أبو سفيان بن حرب حين انصرف بنو زهرة إلى مكة: يا بني زهرة، لا في العير ولا في النفير! عني بالعير: عير قريش التي أقبلت مع أبي سفيان من الشام، وبالنفير: من خرج مع عتبة بن ربيعة لاستنقاذها من أيدي المؤمنين، وكان ببدر ما كان. قال الأصمعي: يضرب للرجل يحط أمره ويصغر قدره.
الجوهري: "النفير: القوم الذين يتقدمون في أمر"، و"العير بالكسر: الإبل التي تحمل الميرة".
قوله: (أعضضناه): أي: استخففنا به وشتمناه وقلنا له: عضضت بظر أمك، والبظر: لحمة في الفرج، وهي التي تختن، وهذا من شتائم العرب. النهاية:"وفي الحديث: "من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا"، أي: قولوا له: اعضض بأير أبيك، ولا تكنوا عن الأير بالهن، تنكيلاً له". وقول أبي جهل لعتبة يوم بدر: لو غيرك يقول هذا أعضضته، أي: شتمته.
فنزل جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إمّا العير، وإمّا قريشا، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال:"ما تقولون؟ إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أن النفير؟ " قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم ردّد عليهم فقال: "إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل"، فقالوا: يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدوّ، فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فامض، فو الله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال المقداد بن عمرو: يا رسول الله، امض لما أمرك الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقيل: من الأدب أن يُقال: يعني "أعضضناه"؛ أي: جعلناه عاض أنامله، أو قلنا له: أعضضت علينا أناملك من الغيظ، يعني: ما حصل مطلوبك، وما ظفرت إلا بعض أناملك من الغيظ، وتحقيق هذه الكناية: أوقعناه فيما يصير به نادماً يعض أنامله، فإنه إذا قصد العير ولم يجده ندم على المسير، كقوله تعالى:(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ)[الفرقان: 28]، أو غضب كقوله تعالى:(عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ)[آل عمران: 119].
قوله: (قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فقالوا: يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدو): وهذا هو المراد من إيراد هذه القصة؛ لأن القصة سيقت لبيان أن قوله: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) حال، كما علم من كلامه.
قوله: (فأحسنا): أي: أحسنا الكلام في اتباع مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (إلى عدن أبين)، النهاية:"عدن أبين: مدينة معروفة باليمن، أضيفت إلى "أبين" بوزن "أبيض"، وهو رجل عدن بها، أي: أقام".
قوله: (ثم قال المقداد بن عمرو): روينا في "صحيح البخاري" عن ابن مسعود قال: "أتى
فإنا معك حيثما أحببت، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:" أشيروا علىَّ أيها الناس"، وهو يريد الأنصار، لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة: إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّف أن لا تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة.
فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل"، قال: آمنَّا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض-يا رسول الله- لما أردت، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقداد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: يا رسول الله، إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن امض ونحن معك. فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ورواه أحمد بن حنبل عن طارق بن شهاب، وفي آخره:"ولن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون".
قوله: (بتخوف أن لا تكون الأنصار لا ترى عليهم): أي: لا تعتقد وجوب نصرته عليهم إلا على عدو يفجؤه بالمدينة، و"لا" في "أن لا تكون": زائدة.
قوله: (استعرضت): أي لو عبرت بنا البحر عرضاً. النهاية: "في الحديث: "فأتى جمرة الوادي فاستعرضها"، أي: أتاها من جانبها عرضاً".
بنا عدوّنا، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعلّ الله يريك ما تقرّبه عينك، فسر بنا على بركة الله. ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبسطه قول سعد، ثم قال:"سيروا على بركة الله وأبشروا، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم".
وروى: أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شيء، .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم): روينا عن مُسلم وأبي داود عن أنس قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا. قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا مصرع فلان"، ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا، قال: فما ماط أحد عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
الأساس: "خاض الماء خوضاً، وأخاضوا الماء إخاضة: إذا خاضوه بدوابهم".
النهاية: "في الحديث: "لا تضرب أكباد المطي إلا إلى ثلاثة مساجد"؛ أي: لا تركب ولا يسار عليها، يقال ضربت في الأرض؛ إذا سافرت فيها".
وأما "برك الغماد" بفتح الباء وكسرها، وضم الغين وكسرها: فهو اسم موضع باليمن، وقيل: هو موضع من وراء مكة بخمس ليال.
فناداه العباس وهو في وثاقه: لا يصلح، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لم"؟
قال: لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك.
وكانت الكراهة من بعضهم لقوله: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكِرهُونَ).
[(يُجدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) 6]
(يُجدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ) والحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلقى النفير، لإيثارهم عليه تلقى العير (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ): بعد إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ينصرون. وجدالهم: قولهم: ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب! وذلك لكراهتهم القتال.
ثم شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم، وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة، .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فناداه العباس وهو في وثاقه) الحديث: رواه أحمد بن حنبل والترمذي عن ابن عباس.
قوله: (لا يصلح): أي: لا يصلح هذا الرأي، وهو قول القائل:"عليك بالعير"؛ لأنه تعالى وعدك إحدى الطائفتين وأنجز ما وعده.
قوله: (وكانت الكراهة من بعضهم) عطف على قوله: "وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام" إلى آخر القصة، أو حال عاملة معنى الإشارة، وهو كالبيان لمضمون القصة، لأن القصة أذنت بحصول الكراهة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لتلقي النفير، والإعجاب لتلقي العير، ولم يعلم أن لهم كرهوا ذلك أو بقي منهم من لم يكره، يدل عليه قوله:"فاستشار أصحابه وقال: ما تقولون: "العير أحب غليكم أم النفير؟ " قالوا: بل العير، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقال: "وكانت الكراهة من بعضهم بدليل قوله: (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) ".
قوله: (ثم شبه حالهم): لفظة "ثم" توهم أنالمشبه غير ما سبق من قوله: (يُجَادِلُونَكَ فِي
بحال من يعتل إلى القتل، ويساق على الصغار إلى الموت المتيقن، وهو مشاهد لأسبابه، ناظر إليها، لا يشك فيها.
وقيل: كان خوفهم لقلة العدد، وأنهم كانوا رجالة، وروي: أنه ما كان فيهم إلا فارسان.
[(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) 7]
(وإذ) منصوب بإضمار: اذكر. و (أَنَّها لَكُمْ) بدل من (إحدى الطائفتين)، والطائفتان:
العير والنفير، و (غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ): العير،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ)، ولكن هو المشبه، لأن مثل هذا الجدال - أعني قولهم:"ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب"، بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله وعدني إحدى الطائفتين"، وقوله:"والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" - يدل على جبن عظيم وإفراط في الرعب والفرق، فصح تشبيهه بقوله:(كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ)، ثم عطفت هذه الجملة على ما سبق من حيث المعنى، يعني: أثبت الله لهم الجدال بسبب الكراهة بعدما أعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصرة، ثم شبه حالهم.
قوله: (من يعتل إلى القتل)، الجوهري:"عتلت الرجل أعتله: إذا جذبته جذباً عنيفاً".
قوله: (وقيل: كان خوفهم لقلة العدد، وأنهم كانوا رجالة): عطف على قوله: "لكراهتهم القتال"، أي: خافوا العدو إما جُبناً وخوراً وكانوا معذورين فيه لقلة العدد والعُدد، ولهذا قدر وجه التشبيه في الأول:"في فرط فزعهم ورعبهم".
قوله: (إلا فارسان): قيل: هما المقداد بن الأسود والزبير بن العوام. وفي "مسند الإمام أحمد بن حنبل" عن علي رضي الله عنه: "ما كان منا فارس يوم بدر إلا المقداد بن الأسود".
لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسًا، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدّتهم، والشوكة: الحدّة، مستعارة من واحدة الشوك. ويقال: شوك القنا؛ لشباها، ومنها قولهم: شائك السلاح، أي تتمنون أن تكون لكم العير، لأنها الطائفة التي لا حدّة لها ولا شدّة، ولا تريدون الطائفة الأخرى (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ): أن يثبته ويعليه (بِكَلِمتِهِ): بآيه المنزلة في محاربة ذات الشوكة، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر.
والدَّابر: الآخر، فاعل من: دبر: إذا أدبر، ومنه: دابرة الطائر. وقطع الدابر: عبارة عن الاستئصال، يعنى: أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور، وأن لا تلقوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لشباها)، الجوهري:"شباة كل شيء: حد طرفه، والجمع: الشبا والشبوات".
قوله: (ومنها قولهم: شائك السلاح): فعلى هذا "شائك" يكون أصلاً و"شاك" مقلوبة، وذكر في "الصافات" عند قوله:(صَالِي الْجَحِيمِ)[الصافات: 163] عكس ذلك، وحقق القول فيه هنالك.
قوله: (بآية المنزلة)، (وبما أمر الملائكة)، (وبما قضى من أسرهم): كلها تفسير لقوله: (بِكَلِمَاتِهِ)؛ لأنها جمع يحتمل المعدودات كلها، لأن الكلمة تطلق على المنزل، نحو قوله:(يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ)[الأعراف: 158]، وعلى "كُن" بمعنى الأمر الحقيقي، أو بمعنى "قضى" على المجاز، كقوله تعالى:(إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[آل عمران: 47، ومريم: 35].
قوله: (دابرة الطائر)، الجوهري:"دابرة الطائر: التي يضرب بها، وهي كالإصبع في باطن رجله".
قوله: (وسفساف الأمور)، النهاية:"السفساف: ضد المكارم والمعالي، وأصله ما يطير من غبار الدقيق إذا نُخل، والتراب إذا نثر"، والمصنف ذهب إلى الاقتباس مما رُوي في
ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم، والله عز وجل يريد معالي الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين، ونصرة الحق، وعلوّ الكلمة، والفوز في الدارين، وشتان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوّتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزّكم وأذلهم، وحصل لكم مالا تعارض أدناه العير وما فيها. وقرئ:"بكلمته"، على التوحيد.
[(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) 8]
فإن قلت: بم يتعلق قوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ؟ قلت: بمحذوف تقديره: ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك، ما فعله إلا لهما، وهو إثبات الإسلام وإظهاره، وإبطال الكفر ومحقه. فإن قلت: أليس هذا تكريراً؟ قلت: لا، لأنّ المعنيين متباينان،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحديث: "إن الله يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها"، ومن ثم ذكر في المقابل:"والله تعالى يريد معالي الأمور".
قوله: (يرزؤكم): أي: ينقصكم، والرزء: المصيبة.
قوله: (أليس هذا تكريراً؟ ): يعني: أليس قوله: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ) بعد قوله: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ)، مثل قولك: أردت أن أكرم زيداً لإكرامه؟
وتلخيص الجواب: أنه ليس نظيراً لذلك، بل هو نظير قولك: أردت أن تفعل الباطل، وأردت أن أفعل الحق، ففعلت ما أردته لكذا، لا لمقتضى إرادتك، ولهذا قال:"وجب أن يُقدر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص"، لأن المقام يقتضي نفي إرادة القوم وإثبات
وذلك أنّ الأوّل تمييز بين الإرادتين، وهذا بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك، إلا لهذا الغرض الذي هو سيد الأغراض. ويجب أن يقدّر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص، وينطبق عليه المعنى. وقيل: قد تعلق بـ" يقطع".
[(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) 9] فإن قلت: بم يتعلق (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ)؟ قلت: هو بدل من (إِذْ يَعِدُكُمُ)[الأنفال: 7]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إرادة الله لينطبق عليه المعنى، ولا يحصل ذلك غلا بتأخير المقدر، وكان أصل الكلام: تودون أن العير تكون لكم، ويريد الله ملاقاة النفير، ففعل الله تعالى ما أراده دون ما أردتم أنتم. فوضع (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ) موضع "ملاقاة النفير" للدلالة على حصول الفوز في الدارين، ثم وضع موضع "ففعل الله تعالى ما أراده دون ما أردتم" قوله:(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ)، مع إرادة المحذوف متأخراً للدلالة على تعظيم ذلك الفعل.
وإلى الأول الإشارة بقوله: "وما يرجع إلى عمارة الدين، ونُصرة الحق، وعلو الكلمة، والفوز في الدارين"، وإلى الثاني الإشارة بقوله:"وأنه ما نصرهم، ولا خذل أولئك، إلا لهذا الغرض الذي هو سيد الأغراض".
وفي وضع "تودون" موضع "تريدون"، لكونه مقابلاً لقوله:(وَيُرِيدُ اللَّهُ): إيذان ببطلان إرادتهم، وفي إيثار (غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ) على "العير": إيماء إلى جُبنهم وخورهم، وإنما ترك الفاء في جملة قوله:(يُحِقَّ الْحَقَّ) مع معلله كما في المثال، ليكون الاتصال استئنافاً.
قوله: (فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم، ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم): "من" بيان "ما فعل"، و"أنه" عطف على "غرضه"، أي: هذا بيان لأن ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض.
وقيل: بقوله: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ البَطلَ)، واستغاثتهم: أنهم لما علموا أنه لا بدَّ من القتال، طفقوا يدعون الله ويقولون: أي ربنا، انصرنا على عدوّك، يا غياث المستغيثين أغثنا.
وعن عمر رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاث مئة، فاستقبل القبلة ومدّ يديه يدعو: " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.
(أَنِّي مُمِدُّكُمْ) أصله: بأني ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه "استجاب" فنصب محله. وعن أبى عمرو أنه قرأ:" أَنِّي مُمِدُّكُمْ" بالكسر؛ على إرادة القول، أو على إجراء استجاب مجرى "قال" لأنّ الاستجابة من القول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: بقوله) أي: يتعلق (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) بقوله: (وَيُحِقُّ الْحَقّ)، وقيل: هذا أوجه من أن يكون بدلاً، لأن زمان الوعد غير زمان الاستغاثة، إلا على تأويل أن الوعد والاستغاثة وقعاً في زمان واسع، كما تقول: لقيته سنة كذا. وهذا أبلغ؛ لتكرير التذكير لمزيد الامتنان والتعبير لما وُجد منهم من الكراهة والخوف، كما سبق في قوله:(إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ) في "آل عمران"[الآية 44 - 45].
قوله: (اللهم أنجز لي ما وعدتني): عن مُسلم وأحمد والترمذي عن عمر رضي الله عنه قال: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاث مئة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل القبلة، ثم مد يده، فجعل يهتف بربه، يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني" الحديث.
فإن قلت: هل قاتلت الملائكة يوم بدر؟ قلت: اختلف فيه، فقيل: نزل جبريل في خمس مئة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر رضي الله عنه، وميكائيل في خمس مئة على الميسرة، وفيها علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه، في صور الرجال، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض، قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم، فقاتلت.
وقيل: قاتلت يوم بدر، ولم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين.
وعن أبى جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا؟ قال: من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا، لا أنتم. وروى: أنّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين، إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك قد خر مستلقيا وشقّ وجهه، فحدث الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"صدقت، ذاك من مدد السماء". وعن أبى داود المازني: تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر، فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي.
وقيل: لم يقاتلوا، وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإنّ جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة.
وقرئ (مُرْدِفِينَ) بكسر الدال وفتحها، من قولك: ردفه: إذا تبعه، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: (مُرْدِفِينَ) بكسر الدال وفتحها): بالفتح: نافع، وبالكسر: الباقون. قال الزجاج: "يُقال: ردفت الرجل: إذا ركبت خلفه، وأردفته: إذا أركبته خلفي. ويُقال: أردفت الرجل: إذا جئت بعده، فمعنى "مردفين": يأتون فرقة بعد فرقة".
قال الجوهري: "كل شيء تبع شيئاً فهو ردفه، وردفه - بالكسر-: أي: تبعه، وأردفه: لغة في ردفه، مثل: تبعه وأتبعه".
ومنه قوله تعالى: (رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)[النمل: 72] بمعنى: ردفكم. وأردفته إياه: إذا أتبعته، ويقال: أردفته، كقولك: أتبعته: إذا جئت بعده، فلا يخلو المكسور الدال من أن يكون بمعنى: متبعين أو متبعين، فإن كان بمعنى "متبعين": فلا يخلو من أن يكون بمعنى: متبعين بعضهم بعضاً، أو متبعين بعضهم لبعض، أو بمعنى: متبعين إياهم المؤمنين، أي يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: "الردف: التابع، وردف المرأة: عجيزتها، والترادف: التتابع، والرادف: المتأخر، والمردف: المتقدم الذي أردف غيره، قال أبو عبيدة في قوله تعالى: (بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ): جائين، فجعل "ردف" و"أردف" بمعنى واحد، وأنشد:
إذا الجوزاء أردفت الثريا
وقال غيره: معناه مردفين ملائكة أخرى، فعلى هذا يكونون ممدين من الملائكة، وقيل: عني بالمردفين: المتقدمين للعسكر يلقون في قلوب العدا الرعب. وقرئ: "مردفين"، أي: أردف كل إنسان ملكاً".
قوله: (كقولك: اتبعته): واعلم أن في كلام المصنف دقة، فإنه لما قسم المكسورة الدال على قسمين، أخذ في بيان أحد القسمين، وخلط القسم الآخر به، وكان الظاهر أن لا يأتي بالآخر إلا بعد الفراغ من الأول، ومن ثم عمد إلى إبطال سطر من الكتاب، فعاد الكلام
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هكذا: "فلا يخلو المكسور الدال من أن يكون بمعنى: متبعين بعضهم بعضاً أو متبعين بعضهم لبعض"، إلى آخره.
وأما وجه استقامة ما في الكتاب - كما جاء في النسخ كلها-: فهو أن للبلغاء في أسلوب اللف والنشر طرقاً شتى - خلاف الظاهر - يسلكونها؛ تارة بإعانة اللف على النشر، وأخرى عكس ذلك، وهاهنا لما أتى باللف على ظاهره حيث قال:"بمعنى: متبعين أو متبعين" عمد في النشر إلى خلاف الظاهر، ثقة بأن السامع يرتب النشر عليه بالإضمار والتقديم والتأخير، كما يقول:"فن كان بمعنى: متبعين" بالتخفيف "فلا يخلو من أن يكون بمعنى: متبعين بعضهم بعضاً"، أي: يتبعون بعض الملائكة بعضاً منهم، "أو متبعين إياهم المؤمنين، أو متبعين أنفسهم، أو متبعين غيرهم من الملائكة".
وأعجب بنشر فيه لف! وإنما ارتكب هذا الصعب ليريك أن "متبعين" و"مُتَّبعين" عند كل من الاختلاف متفقان على معنى واحد، فقوله:"متبعين بعضهم بعضاً، أو متبعين بعضهم لبعض" يشتركان في معنى قوله: "أردفته إياه: إذا أتبعته" إذا كان المفعولان منهم، وقوله:"أو مُتبعين إياهم المؤمنين، أو متبعين لهم يشيعونهم" يشتركان في معنى قوله: "أردفته: إذا اتبعته" إذا كان أحد المفعولين "المؤمنين". وكذلك الصورة الثالثة، وإنما الفرق أن الثالثة واردة في إتباع أنفسهم ملائكة آخرين، والثانية في إتباع أنفسهم المؤمنين.
أو متبعين لهم يشيعونهم ويقدمونهم بين أيديهم، وهم على ساقتهم، ليكونوا على أعينهم وحفظهم، أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين، أو متبعين غيرهم من الملائكة، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران:(بِثَلثَةِ ءالف مِنَ الْمَلكَةِ مُنْزَلِينَ). [آل عمران: 124]. (بِخَمْسَةِ ءالف مِنَ الْمَلكَةِ مُسَوِّمِينَ)[آل عمران: 125].
ومن قرأ: (مُرْدِفِينَ) بالفتح: فهو بمعنى: متبعين أو متبعين. وقرئ: (مردّفين)، بكسر الراء وضمها وتشديد الدال، وأصله: مرتدفين، أي: مترادفين أو متبعين، من: ارتدفه، فأدغمت تاء الافتعال
في الدال، فالتقى ساكنان، فحرّكت الراء بالكسر على الأصل، أو على إتباع الدال، وبالضم على إتباع الميم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقريب منه قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ)[الروم: 23]، قال المصنف:"التقدير" منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار، فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الأخريين، بإعانة اللف"، فعلى هذا يتطابق بين تفسيره القراءة المكسورة وبين تفسيره المفتوحة حيث قال: "ومن قرأ "مردفين" - بالفتح- فهو بمعنى: متبعين أو متبعين".
قوله: (ويعضد هذا الوجه): لأن هذا الوجه يدل على أن الملائكة كانوا أكثر من الألف، فيوافق ما في قوله:(أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَاتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)[آل عمران: 124 - 125]، وإنما استشهد بقوله:(بِخَمْسَةِ آلافٍ) وإن لم ينزلوا للنصر ليقرر أنهم نيفوا على الألف البتة، وأن الكلام في الزيادة،
قوله: ("مردفين" بكسر الراء وضمها وتشديد الدال)، قال الزجاج: "ويجوز في اللغة: مُرِدفين ومُرَدفين ومُرُدفين، يجوز في الراء مع تشديد الدال وكسرها: فتحها وضمها وكسرها.
وعن السدي: (بآلاف من الملائكة)؛ على الجمع، ليوافق ما في سورة آل عمران.
فإن قلت: فبم يعتذر لمن قرأ على التوحيد، ولم يفسر المردفين بإرداف الملائكة ملائكة آخرين، والمردفين بارتدافهم غيرهم؟ قلت: بأنّ المراد بالألف من قاتل منهم، أو الوجوه منهم الذين من سواهم أتباع لهم.
[(وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) 10]
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في وَما (جَعَلَهُ)؟ قلت: إلى قوله: (أَنِّي مُمِدُّكُمْ)[الأنفال: 9]، لأن المعنى: فاستجاب لكم بإمدادكم.
فإن قلت: ففيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى قوله: (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) لأنه مفعول القول المضمر، فهو في معنى القول، ويجوز أن يرجع إلى الإمداد الذي يدل عليه (ممدّكم).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال سيبويه: أصله: مرتدفين، فأدغمت التاء في الدال فصارت مردفين، لأنك طرحت حركة التاء على الراء. قال: وإن شئت لم تطرح حركة التاء، وكسر الراء لالتقاء الساكنين، والذين ضموا الراء جعلوها تابعة لضم الميم".
قوله: (لأن المعنى: فاستجاب لكم بإمدادكم): يعني: (أَنِّي مُمِدُّكُمْ) بفتح الهمزة: مفرد يجوز أن يرجع إليه الضمير، وأصله: بأني ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه (فَاسْتَجَابَ) فنصب محله، أي: ما جعل إمدادكم بالملائكة لأمر من الأمور، إلا للبشرى وللاطمئنان، لأن النصر ليس بالملائكة، فإن الناصر هو الله.
قوله: (ففيمن قرأ بالكسر؟ ): أي: فما تصنع في قراءة من قرأ بكسر الهمزة، فإنها ليست في تأويل المفرد، فأجاب:"اجعله مقولاً للقول" لأن التقدير: فاستجاب لكم وقال: إني ممدكم، كأنه قيل: ما جعل الله ذلك القول- أي: إني ممدكم - إلا بشرى.
(إِلَّا بُشْرى): إلا بشارة لكم بالنصر، كالسكينة لبنى إسرائيل، يعنى: أنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم وذلتكم، فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر، وتسكيناً منكم، وربطا على قلوبكم (وَمَا النَّصْر إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يريد: ولا تحسبوا النصر من الملائكة، فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة، أو:(وما النصر) بالملائكة وغيرهم من الأسباب (إلا من عند الله)، والمنصور من نصره الله.
[(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) 11]
"إِذْ يغشاكم" بدل ثان من (إِذْ يَعِدُكُمُ)[الأنفال: 7] أو منصوب بـ (النصر)، أو بما في (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [الأنفال: 10] من معنى الفعل، أو بـ (جعله الله)، أو بإضمار: اذكر. وقرئ: (يغشيكم) بالتخفيف والتشديد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو: (وَمَا النَّصْرُ) بالملائكة): عطف على لفظ: "لا تحسباو"، و (النَّصْرُ) على هذا مُطلق شائع في جنسه، ولذلك قدر "وغيرهم من الأسباب"، وعلى الأول مقيد بالملائكة المنزلين بقرائن المقام، والجملة داخلة تحت الحسبان، نزلهم لاعتمادهم على نصرة الملائكة منزلة من يزعم أن الملائكة هم الناصرون، فقصر الإفرادي، لأنه نفي زعم من زعم الفرق بين المؤثر المشاهد، وأن بعضه مستقل وبعضه سبب، فقصر الحكم على أن الكل أسباب لا فرق بينها، فقيل:(وَمَا النَّصْرُ) بالملائكة وغيرهم من الأسباب (إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ).
قوله: (وقرئ: (يُغَشِّيكُمْ)، بالتخفيف والتشديد):"يغشاكم": بالألف وفتح الياء، و"النعاس" بالرفع: قراءة أبي عمري وابن كثير. وبضم الياء وتخفيف الشين ونصب (النُّعَاسَ): قراءة نافع، وبتشديد الشين وضم الياء- من التغشية- ونصب (النُّعَاسَ): قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي.
ونصب (النعاس)، والضمير لله عز وجل. (وأَمَنَةً) مفعول له.
فإن قلت: أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلَّة واحداً؟ قلت: بلى، ولكن لما كان معنى "يغشاكم النعاس"، تنعسون، انتصب (أمنة) على أن النعاسِ والأمنة لهم. والمعنى: إذ تنعسون أمنة، بمعنى: أمنا، أي: لأمنكم، و (مِنْهُ) صفة لها، أي: أمنة حاصلة لكم من الله عز وجل.
فإن قلت: فعلى غير هذه القراءة؟ قلت: يجوز أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان، أي: ينعسكم إيماناً منه، أو على: يغشيكم النعاس فتنعسون أمناً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (و (آمِنَةً) مفعول له): فإن قلت: لم قصر هاهنا على هذا، وجعل في "آل عمران": تارة حالاً، وأخرى مفعولاً به، ومفعولاً له؟
قلت: لأن ذلك المقام اقتضى الاهتمام بشأن الأمن، ولذل قدمه وبسط الكلام في الأمن وإزالة الخوف، ألا ترى إلى سياق الآية وهو قوله:(فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا)[آل عمران: 153]، وسياقها وهو قوله:(يَغْشَى طَائِفَةً) إلى آخرها [آل عمران: 154]، حيث جعلها صفة لـ (نُعَاساً) وختم الكلام بقوله:(لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ)، كيف جعل الكلام كله في الأمن والخوف بخلافه هنا، لأنه في مقام تعداد النعم، فجيء بالقصة مختصرة للرمز.
قوله: (لما كان معنى "يغشام النعاس"): هذا الجواب على القراءة الأولى، وهي:"يغشاكم" بالألف و"النعاس" بالرفع.
قوله: (فعلى غير هذه القراءة؟ ) يعني: صح الجواب على قراءة "يغشاكم"، فما تأويله على
فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب على أنّ الأمنة للنعاس الذي هو فاعل "يغشاكم"؟ أي: يغشاكم النعاس لأمنه، على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازى، وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة، أو على أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم؟ وإنما غشيكم أمنة حاصلة من الله لولاها لم يغشكم، على طريقة التمثيل والتخييل؟ قلت: لا تبعد فصاحة القرآن عن احتماله، وله فيه نظائر، وقد ألم به من قال:
يهاب النّوم أن يغشى عيونًا
…
تهابك فهو نفّار شرود
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القراءة الثانية، يعني:"يغشيكم" بضم الياء وتخفيف الشين، والثالثة، أي:(يُغَشِّيكُمْ)؛ بالتشديد؟ أجاب: بأن الفاعل على القراءتين هو الله تعالى، أي: ينعسكم الله تعالى إيماناً منه، أو يغشيكم الله النعاس فتنعسون أمناً، على أن عامله مضمر، و (آمِنَةً) بمعنى: أمناً.
قوله: (هل يجوز أن ينتصب؟ ): هذا السؤال أيضاً وارد على القراءة الأولى.
قوله: (على طريقة التمثيل والتخييل): أي: على أنه من الاستعارة المكنية، شبه النعاس بشخص طالب للأمن، ثم خيل أنه إنسان بعينه، حيث أثبت له على سبيل الاستعارة التخييلية الأمنة التي هي من لوازم المشبه به، وجعل نسبتها إليه قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، وفيه إغراق في الوصف، لأنه جعل النعاس الذي هو سبب للأمن بسبب غشيانه غياهم ملتمساً للأمن منهم.
قوله: (يهاب النوم) البيت: قيل: إنه للمصنف. "تهابك": صفة لـ "عيونا".
"نفار": مبالغة من: نفرت الدابة نفاراً، و"شرود": من: شرد البعير، أي: مستعصى
وقرئ: "أمنة" بسكون الميم، ونظير: أمن أمنة: حيي حياة، ونحو: أمن أمنة: رحم رحمة، والمعنى: أن ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم، فلما طمأن الله قلوبهم وأمنهم رقدوا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما:" النعاس في القتال أمنة من الله، وفي الصلاة: وسوسة من الشيطان".
(وَيُنَزِّلُ) قرئ بالتخفيف والتثقيل، وقرأ الشعبي:"ما ليطهركم به"، قال ابن جني:
"ما" موصولة وصلتها حرف الجر بما جره، فكأنه قال: ما للطهور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عليك، والضمير في "فهو" عبارة عن النوم. المعنى: يخاف النوم أن يدخل عين أعدائك، فهو لذلك نفار شرود.
قال في "الانتصاف": "وفيه بُعد؛ لأن هذه الاستعارة البعيدة للنوم قد تستحسن في الشعر لبنائه على المبالغة، وغلبة باطله على حقه، ولا يوجد مثلها في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
قلت: إن منع استعمال المجاز في كتاب الله المجيد يتمشى له هذا المنع، وإلا هذا منه غير مستحسن، لأن هذا الأسلوب في الدرجة القصوى من البلاغة، وكلام الله إنما كان معجزاً من حيث اللفظ والمعنى إذا استعمل فيه أمثال ذلك.
قوله: (حيي حياة): أصله: حيية، قلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وكتبت ألفه واواً للتفخيم.
قوله: (وقرأ الشعبي: "ما ليطهركم [به] "، قال ابن جني: "ما"موصولة)، فالتقدير: وينزل عليكم من السماء الذي لطهارتكم أو لتطهيركم. واللام التي في قراءة الجماعة هي اللام في قولك:
و (رِجْزَ الشَّيْطانِ): وسوسته إليهم، وتخويفه إياهم من العطش. وقيل: الجنابة، لأنها من تخييله. وقرئ:"رجس الشيطان".
وذلك أن إبليس تمثل لهم، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء، ونزل المؤمنون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم، فقال لهم: أنتم- يا أصحاب محمد- تزعمون أنكم على الحق، وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة، وقد عطشتم، ولو كنتم على حق ما غلبكم هؤلاء على الماء، وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش، فإذا قطع العطش أعناقكم
مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا، وساقوا بقيتكم إلى مكة، فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا، فأنزل الله عز وجل المطر، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي، واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الحياض على عدوة الوادي، وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدو، حتى ثبتت عليه الأقدام، وزالت وسوسة الشيطان، وطابت النفوس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زرتك لتكرمني، وأما اللام في القراءة الشاذة فمتعلقة بمحذوف، كقولك: دفعت إليه المال الذي له، أي: استقر وثبت له، وفيها ضمير لتعلقها بالمحذوف، ومعنى القراءتين يرجع إلى واحد، والمشهورة أفصح لتصريح التعليل فيها.
قوله: (وقرئ: "رجس الشيطان") قال ابن جني: "الرجس في القرآن: العذاب، كالرجز، ورجس الشيطان: وسوسته، الرجس في الأصل: كل ما تستقذره النفس، كالخنزير ونحوه".
قوله: (كثيب أعفر): أي: رمل أبيض تعلوه حمرة، "تسوخ" أي: تدخل فيه الأقدام وتغيب.
والضمير في (بِهِ) للماء، ويجوز أن يكون للربط، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجرأة ثبتت القدم في مواطن القتال.
[(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلْائكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءآمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) 12]
(إِذْ يُوحِي) يجوز أن يكون بدلا ثالثاً من (إِذْ يَعِدُكُمُ)[الأنفال: 7]، وأن ينتصب بـ "يثبت". (أَنِّي مَعَكُمْ) مفعول (يوحى)، وقرئ:" إني" بالكسر على إرادة القول، أو على إجراء (يوحى) مجرى: يقول، كقوله:"إِني مُمِدُّكُمْ"، والمعنى: أنى معينكم على التثبيت فثبتوهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجرأة): يؤذن بأن (عَلَى قُلُوبِكُمْ) صلة لـ"يربط"، وعُدي بـ "على" مزيداً للتمكن، ونحوه في إرادة الاستعلاء:(أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ)[البقرة: 5] لمزيد التمكن.
قال الواحدي: "الربط: معناه الشد، يقال لكل من صبر على أمر: ربط قلبه، و"على" صلة، والمعنى: وليربط قلوبكم بما أنزل من الماء، فتثبت ولا تضطرب بوسوسة الشيطان".
قوله: ((إِنْ يُوحَى) يجوز أن يكون بدلاً ثالثاً من (إِذْ يَعِدُكُمْ) وأن ينتصب بـ "يثبت")، وقد سبق أن البدل أولى للتكرير.
قوله: (كقوله: "إني ممدكم"): يعني: في قراءة من قرأ بكسر "إن" في قوله: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ)، والظاهر أنه استشهد به للوجهين، وإن ذكر في موضعه أنه مفعول القول المضمر.
وقوله: (سَأُلْقِي
…
فَاضْرِبُوا) يجوز أن يكون تفسيراً لقوله: (إِني مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا) ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة، ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم، واجتماعهما غاية النصرة. ويجوز أن يكون غير تفسير، وأن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم، وتصحّ عزائمهم ونياتهم في القتال، وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدّون بالملائكة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((سَأُلْقِي .... فَاضْرِبُوا): يجوز أن يكون تفسيرا) اعلم أن في فصل قوله: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) عما قبله وجهين:
أحدهما: أن يكون قوله: (سَأُلْقِي) مع ما ترتب عليه بالفاء تفسيراً لقوله: (إِنِّي مَعَكُمْ) مع ما ترتب عليه بالفاء، فقوله:(سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) تفسير لقوله: ((إِنِّي مَعَكُمْ)، وقوله:(فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) تفسير لقوله: (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا).
وثانيهما: أن لا يكون تفسيراً لذلك، وحينئذ يحتمل وجهين
أحدهما: أن يكون معنى قوله: (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا): أخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم، بنحو: أني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لنَنكَشِفَنَّ، وينحو: أبشروا فإن الله ناصركم، ويكون قوله:(سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) استئنافاً، كأنه لما قيل: فأوقعوا في قلوب المؤمنين ما تقوى به قلوبهم، وأهروا ما يتيقنون به أنهم قد أمدوا بالملائكة، فقالوا: فماذا يكون إذن؟ فأجيبوا بقوله: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)، وعند ذلك (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) يعني: مدوهم أنتم، وأنا أنجزكم وعدكم بإلقاء الرعب في قلوبهم وآمركم بالضربين.
وقيل: كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه، فيأتي، فيقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفنَّ، ويمشى بين الصفين، فيقول: أبشروا، فإن الله ناصركم؛ لأنكم تعبدونه، وهؤلاء لا يعبدونه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
فقوله: "كان الملك يتشبه بالرجل": كالاستشهاد للإخطار بالبال بما تقوى به القلوب، وقوله:"يمشي بين الصفين فيقول" بيان لقوله: "وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدون بالملائكة".
وثانيهما: أن يكون قوله: (سَأُلْقِي) إلى آخره، بعينه ملقناً، وهو المراد من قوله:"ويجوز أن يكون قوله: (سَأُلْقِي) إلى قوله: (كُلَّ بَنَانٍ) تلقينا للملائكة"، وهذا أيضاً يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مقولاً للقول على سبيل البيان، كقوله:(فَثَبِّتُوا).
وثانيهما: على الاستئناف على طريقة السؤال والجواب، كما صرح به قوله:"فالضاربون على هذا"، أي: على أن يكون (سَأُلْقِي) تلقيناً، وعلى الوجوه السابقة هم الملائكة، وفيه دلالة على أن الملائكة قاتلت.
فإن قلت: التقسيم مختل؛ لأن الوجه الأخير مشتمل على البيان، وهو تفسير، فكيف يكون قسيماً للوجه الأول؟ قلت: ليس كذل؛ لأنه قال أولاً: " (سَأُلْقِي .. فَاضْرِبُوا): يجوز أن يكون تفسيراً"، فالتقدير: أن المجموع: إما تفسيرٌ أو غير تفسير، والثاني: إما أن يكون معنى "التثبيت": الإخطار بالبال، أو إظهار ما يحصل به اليقين، أو التلقين، ثم التلقين: إما على البيان أو على الاستئناف.
قوله: (لننكشفن) أي: لننهزمن، من: كشفت الشيء فانكشف.
وقرئ: (الرعب) بالتثقيل، (فَوْقَ الْأَعْناقِ): أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح، لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها حزاً وتطييراً للرؤوس.
وقيل: أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق، يعنى: ضرب الهام. قال:
وَأضْرِبُ هَامَةَ الْبطَلِ الْمُشِيحِ
و:
غشّيته وهو في جأواء باسلة
…
عضبًا أصاب سواء الرّأس فانفلقا
والبنان: الأصابع، يريد الأطراف، والمعنى: فاضربوا المقاتل والشوى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ("الرعب" بالتثقيل): أي: بضم العين، ابن عامر والكسائي.
قوله: (واضرب هامة البطل المشيح): أوله:
وإجشامي على المكروه نفسي
إجشامي: تكليفي، والهام: وسط الرأس، والمشيح- بالحاء المهملة-: المُجد المسرع، ورجل مشيح: حذر، وأشاح الرجل: إذا جد في القتال.
قوله: (غشيته) البيت: الجأواء: العسكر العظيم الذي اسود من كثرة السلاح، والبسالة: الشجاعة، والعضب: السيف القاطع، والسواء: الوسط، يقول: رب فارس صفته كيت وكيت، أنا ضربته وهو في جيش تام السلاح، بسيف قاطع نال وسط رأسه، فشقه.
قوله: (والشوى): وهو اليدان والرجلان والرأس من الإنسان، وكل ما ليس مقتلاً، يُقال: رماه فاشواه: إذا لم يصب المقتل.
لأنّ الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً.
ويجوز أن يكون قوله: (سَأُلْقِي) إلى قوله: (كُلَّ بَنانٍ)، عقيب قوله:(فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءامَنُوا): تلقيناً للملائكة ما يثبتونهم به، كأنه قال: قولوا لهم قوله: (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ)، أو كأنهم قالوا: كيف نثبتهم؟ فقيل: قولوا لهم قوله: (سَأُلْقِي)، فالضاربون على هذا هم المؤمنون.
[(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ * ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) 13 - 14]
(ذلك) إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل، ومحله الرفع على الابتداء، و (بأنَّهُمْ) خبره، أي: ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم، والمشاقة: مشتقة من الشق، لأن كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه. وسئلت في المنام عن اشتقاق المعاداة، فقلت: لأن هذا في عدوة، وذاك في عدوة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: "البنان: الأصابع، سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يبن بها، يريد: أن يقيم، ويُقال: أبنَّ بالمكان يُبنُّ، ولذلك خُص في قوله تعالى: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) [القيامة: 4]، وقوله تعالى: (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، خص لأجل أنهم بها تقاتل وتدافع".
قوله: (فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً): وفائدته: الضرب المتواتر بلا تحاش.
قوله: (هذا في عدوة): العدوة- بضم العين وكسرها-: جانب الوادي وحافته، والجمع: عداء، مثل: برمة وبرام، وما يوافق قول المصنف في منامه قول ابن جني:" (وَلا تُشْطِطْ) [ص: 22]: أي: لا تُبعد، وهو من الشط، وهو الجانب، فمعناه: أخذ جانب الشيء وترك وسطه وأقربه، كما قيل: تجاوز، وهو من الجيزة، وهو جانب الوادي".
كما قيل: المخاصمة والمشاقة؛ لأن هذا في خصم- أي في جانب- وذاك في خصم، وهذا في شق، وذاك في شق.
والكاف في (ذلِكَ) لخطاب الرسول عليه السلام، أو لخطاب كل واحد، وفي (ذلِكُمْ) للكفرة، على طريقة الالتفات. ومحل (ذلِكُمْ) الرفع على: ذلكم العقاب، أو: العقاب ذلكم (فَذُوقُوهُ)، ويجوز أن يكون نصباً على: عليكم ذلكم فذوقوه، كقولك: زيداً فاضربه، (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) عطف على (ذلكم) في وجهيه، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (على طريقة الالتفات): التفت من (شَاقُّوا اللَّهَ) وهو غيبة، إلى (ذَلِكُمْ) وهو خطاب.
قوله: (ويجوز أن يكون نصباً على: عليكم): قال القاضي: " (ذَلِكُمْ) نصب بفعل دل عليه (فَذُوقُوهُ) أو غيره؛ مثل: باشروا، أو: عليكم، فتكون الفاء عاطفة"، وفيه أن الفاء على الأول شرطية. قلت: هو مثل قوله: خولان فانكح، أي: هؤلاء خولان، المعنى: ذلكم العذاب الذي تستحقونه، فإذا كان كذلك فذوقوه.
قوله: (في وجهيه): أي: في أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، أو عكسه، والمعنى: ذلكم الجزاء في الدنيا وكونكم في النار في الآخرة، فالعقاب بمعنى الجزاء. ووضع (لِلْكَافِرِينَ) موضع الضمير، واللام فيه للعهد.
والجملة على قراءة الحسن تذييل، واللام للجنس، والواو للاستئناف.
أو نصب على أن الواو بمعنى "مع"، والمعنى: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضع الظاهر موضع الضمير، وقرأ الحسن:"وإن للكافرين"، بالكسر.
[(يأُيّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ومأويه جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) 15 - 16]
(زَحْفاً) حال من (الَّذِينَ كَفَرُوا)، والزحف: الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف، أي يدب دبيباً، من: زحف الصبي: إذا دبّ على استه قليلا، سمي بالمصدر، والجمع: زحوف، والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم، وأنتم قليل، فلا تفرّوا، فضلاً أن تدانوهم في العدد أو تساووهم. أو حال من الفريقين، أإذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم، أو حال من المؤمنين، كأنهم أشعروا بما كان سيكون ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو نصب): عطف على قوله: "على ذلكم" من حيث المعنى، أي:(وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ) رفع عطف على (ذَلِكُمْ)، أو نصب على أن "الواو" بمعنى "مع".
قوله: (فوضع الظاهر موضع المضمر): أي: فوضع (لِلْكَافِرِينَ) موضع (ذَلِكُمْ)، وفائدته: الإشعار بأن صفة الكفر هي الموجبة لإذاقة العذاب في الدارين، وفائدة التذييل أن يُقال: أيها الكفار، إن العذاب في الدنيا من ضرب الأعناق وقطع الأطراف لكم خاصة فذوقوه، ثم الأمر في الآخرة أن تدخلوا في زمرة الجاحدين المخلدين في عذاب النار.
قوله: (الجيش الدهم): والدهم بفتح الدال، الجوهري:"العدد الكثير".
قوله: (بما كان سيكون): "كان" زائدة للتأكيد، كقول الفرزدق:
وجيران لنا كانوا كرام
منهم يوم حنين حين تولوا مدبرين، وهم زحف من الزحوف اثني عشر ألفاً، وتقدمة نهى لهم عن الفرار يومئذ، وفي قوله:(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) أمارة عليه.
(إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) هو الكرّ بعد الفرّ، يخيل عدوّه أنه منهزم، ثم يعطف عليه، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها، (أَوْ مُتَحَيِّزاً): أو منحازاً، (إِلى فِئَةٍ): إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها.
وعن ابن عمر رضي الله عنه: "خرجت سرية وأنا فيهم، ففرّوا، فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا، فدخلوا البيوت، فقلت: يا رسول الله، نحن الفرّارون؟ فقال: بل أنتم العكارون، وأنا فئتكم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وتقدمه نهي): عطف من حيث المعنى على قوله: "كأنهم أشعروا"، أي: كأنهم أشعروا وكأنه تقدمة نهي لهم، أي: قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية- على أن يكون (زَحْفاً) حالاً من المؤمنين - إشعار بما سيكون منهم وتقدمة نهي.
قوله: (وفي قوله: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ) الآية، أمارة عليه): أي: على أنه تقدمة نهي لهم عن الفرار، وذلك أن التحيز إلى فئة إنما يصح إذا كان للمسلمين فئة ينحازون إليها، ويوم بدر لم يكن لهم في الأرض فئة، وأما بعد ذلك فالمسلمون كثروا، يدل عليه قوله تعالى:(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ)[التوبة: 25].
قوله: (وعن ابن عمر: خرجت سرية) الحديث: أخرجه أحمد بن حنبل والترمذي وأبو داود مع اختلاف فيه.
قوله: (أنتم العكارون): أي: الكرارون إلى الحرب والعطافون نحوها، يُقال للرجل يولي عن الحرب ثم يكر راجعاً إليها: عكر واعتكر. قاله صاحب "النهاية".
وانهزم رجل من القادسية، فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه فقال:"يا أمير المؤمنين هلكت، فررت من الزحف، فقال عمر رضي الله عنه: أنا فئتك".
وعن ابن عباس رضي الله عنه: "إنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر". فإن قلت: بم انتصب (إِلَّا مُتَحَرِّفاً)؟ قلت: على الحال، و (إلا) لغو، أو على الاستثناء من المولين، أي: ومن يولهم إلا رجلا منهم متحرّفاً أو متحيزاً.
وقرأ الحسن: (دُبُرَهُ) بالسكون، ووزن "متحيز": متفيعل، لا: متفعل، لأنه من حاز يحوز، فبناء "متفعل" منه: متحوّز.
[(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) 17]
لما كسروا أهل مكة، وقتلوا وأسروا، أقبلوا على التفاخر، فكان القائل يقول: قتلت وأسرت، ولما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (رجل من القادسية)، المغرب:"هو موضع بينه وبين الكوفة خمسة عشر ميلاً".
قوله: (و (إلا) لغو) أي: لفظة (إلا) لغو من حيث اللفظ، أي: مزيدة، لأن العامل يعمل في الحال استقلالاً، لكنها معطية في المعنى فائدتها، والكلام في سياق النفي، المعنى: فلا تولوهم الأدبار في حال من الأحوال إلا متحرفاً.
قوله: (ولما طلعت قريش) إلى قوله: "خذ قبضة من تراب فارمهم بها" إلى آخره: يدل على أن هذه الرمية غير الرمية التي وُجدت يوم حنين، قال محي السنة:"قال أهل التفسير والمغازي: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً"، وساق القصة إلى قوله:"فلما التقى الجمعان تناول كفا من حصى عليها تراب، فرمى به في وجوه القوم، وقال: "شاهت الوجوه"، فلم يبق منهم مشرك مشرك إلا دخل في عينيه وفمه ومنخريه، فانهزموا".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: أما أئمة الحديث فلم يذكر أحد منهم أن هذه الرمية كانت يوم بدر، روينا في "صحيح مسلم" عن سلمة بن الأكوع قال:"غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنيناً، فلما واجهنا العدو"، وساق الحديث إلى قوله:"فولى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومررت منهزماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته الشهباء، فقال: لقد رأى ابن الكوع فزعاً، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه"، فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فهزمهم الله تعالى".
وذكر صاحب "المعتمد" حديث الرومي بعد قوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ): ورواه مسلم عن العباس، وفيه أنه في يوم حنين.
وفي "مسند أحمد بن حنبل" عن أبي عبد الرحمن الفهري: أن الرمية كانت يوم حنين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه: قال الراوي: "حدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه تراباً".
وللمفسرين أن يقولوا: إن هذه الرمية غير تلك الرمية، ثم إن لهم أن يبينوا صحة هذا النقل، وبهذا رمز محيي السنة:"وقال أهل التفسير والمغازي"، وفي إقحام "إذ" في هذه القرينة دون أختها - أي:(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) - دلالة على اختلاف وقوعهما بحسب الزمان.
وأما قضية النظم: فعلى ما سبق أن قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ) كالفاتحة التي يتخلص منها إلى تعداد أحوال المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكراهة بعضهم رأيه صلوات الله عليه في كثير من الأمر، كما سبق في قوله تعالى:(كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ)، فبدأ بقصة بدر، وذكر نُبذاً منها، وختمها بقوله:(ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ)، ثم عم الخطاب بقوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) الآية.
وروى محيي السنة عن بعضهم: أن حكم الآية عام في حق كل من ولى منهزماً.
ثم رتب النهي عن التولي على الوصف المناسب، وهو قوله:(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)، يعني: أتحسبون أن النصرة تحصل بفعلكم أو بفعل الغير، فلم تقتلوهم حين قتلتموهم يوم بدر، ولا هزمتموهم حين هزمتموهم يوم حنين، وإذا كان الناصر والمتولي هو الله عز وجل، فكيف تولون الأدبار؟ ! كأنه قيل: لا تولوهم الأدبار، لأن الله تعالى ناصركم ومعينكم.
"هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها، يكذبون رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني "، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال: خذ قبضة من تراب، فارمهم بها، فقال لما التقى الجمعان لعلى رضي الله عنه: أعطني قبضة من حصباء الوادي "، فرمى بها في وجوههم، وقال: "شاهت الوجوه"، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه، فانهزموا، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم فقيل لهم:(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ)، .......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والذي يؤيد أن تعداد القصص للاستذكار: إيرادها هكذا على غير ترتيب على منوال ما سبق في قصة البقرة، ألا ترى كيف عقبه بقوله:(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ) الآية [الأنفال: 19]، وأنه في شأن المشركين حين خرجوا من مكة لقتال المسلمين، وبقوله:(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)[الأنفال: 25]، وأنه في أمر علي وعمار رضي الله عنهما يوم صفين، وفي أمره وأمر طلحة والزبير يوم الجمل، وبقوله:(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ)[الأنفال: 30] وأنه في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجاته من مكر قريش قبل الهجرة، وعلى هذا إلى آخر السورة. هذا هو النظم المعجز الفائت للقوى والقدر!
ولهذا السر كان التحدي بالسورة وإن كانت قصيرة، دون الآيات وإن كانت ذوات عدد والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
قوله: (شاهت الوجوه)، النهاية:"شاهت، أي: قبحت، يُقال: شاه يشوه شوهاً، وشوه شوهاً، ورجل أشوه، وامرأة شوهاء، ويُقال للخطبة التي لا يصلي فيها على النبي صلى الله عليه وسلم: شوهاء".
والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم، فأنتم لم تقتلوهم (وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)، لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر، وقوّى قلوبكم، وأذهب عنها الفزع والجزع.
(وَما رَمَيْتَ) أنت يا محمد (إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى)، يعنى: أنّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها، لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر، ولكنها كانت رمية الله، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ صورتها وجدت منه، ونفاها عنه؛ لأنّ أثرها الذي لا يطيقها البشر فعل الله عزّ وعلا، فكأن الله هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول عليه الصلاة والسلام أصلا.
وقرئ: "ولكن الله قتلهم"، "ولكن الله رمى"، بتخفيف "لكن"، ورفع ما بعده. (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ): وليعطيهم، (بَلاءً حَسَناً): عطاءً جميلاً، قال زهير:
فَأبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه) إلى قوله: (فكان الله هو فاعل الرمية على الحقيقة): صريح في مذهب أهل السنة، قال الإمام رحمه الله:"أثبت كونه صلى الله عليه وسلم رامياً، ونفى كونه رامياً، فوجب حمله على أنه رماه كسباً، والله تعالى رماه خلقاً".
قوله: (لأن أثرها الذي لايطيقها البشر فعل الله): نظر إلى لفظ "الأثر"، فذكر وصفه في "الذي"، وإلى اكتسائه التأنيث بالإضافة، فأنث الراجع في "لا يطيقها".
قوله: (فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو): أوله:
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
والمعنى: وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل، وما فعله إلا لذلك (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) لدعائهم (عَلِيمٌ) بأحوالهم.
[(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكفِرِينَ) 18]
(ذلِكُمْ) إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع، أي: الغرض ذلكم، (وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ) معطوف على (ذلِكُمْ)، يعنى: أن الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين ........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول: جزى الله الممدوحين بالإحسان جزاء ما فعلا بكم، وأعطاهما خير العطاء الذي يُعطى لأحد، فـ"ما" موصولة، حُذف منها المضاف، وأقيمت مقامه.
قلت: الظاهر أن يفسر قوله: (بَلاءً حَسَناً) بالإبلاء في الحرب، النهاية:"في حديث سعد يوم بدر: "عسى أن يُعطى هذا من لا يبلى بلائي"، أي: لا يعمل مثل عملي في الحرب، كأنه يريد: أفعل فعلاً أختبر فيه، ويظهر به خيري وشري"، لما أنه في مقابل توهين كيد الكافرين كما قال، لأن الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين، المعنى: ما فعل الله القتل والرمي إلا ليعطي المؤمنين منه - أي: بسبب ذلك- قوة ونجدة، وإلا ليوهن أمر الكافرين ويبطل كيدهم.
ويمكن أن يوجه قول المصنف بحمل العطاء على ما ذكرنا، لأن العطاء الحسن في مقام الحرب النجدة والقوة، وأما توسيط (ذَلِكُمْ) بين الإعطاء والتوهين؛ فلبعدهما من العطاءين.
قوله: ((وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ) معطوف على (ذَلِكُمْ): أي: عطف خبر على خبر، ويجوز أن يكون عطف جملة، أي: الغرض ذلكم والغرض أن الله موهن. وعليه كلام أبي البقاء، لكنه قدر "الأمر" بدل "الغرض"، وهو أبعد من مذهب الاعتزال.
وقرئ: (موهن) بالتشديد، وقرئ على الإضافة، وعلى الأصل الذي هو التنوين والإعمال.
[(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) 19]
(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة، وقالوا: اللهمّ انصر أقرانا للضيف، وأوصلنا للرحم، وأفكنا للعاني، إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على حق فانصرنا. وروي: أنهم قالوا:
اللهمّ انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين. وروي: أنّ أبا جهل قال يوم بدر:
اللهمّ أينا كان أهجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم. أي: فأهلكه.
وقيل: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) خطاب للمؤمنين، (وَإِنْ تَنْتَهُوا) خطاب للكافرين، يعنى: وإن تنتهوا عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وأسلم، (وَإِنْ تَعُودُوا) لمحاربته (نَعُدْ) لنصرته عليكم.
(وَأَنَّ اللَّهَ) قرئ بالفتح؛ على: ولأنّ الله معين المؤمنين كان ذلك، .......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "موهن" بالتشديد): نافع وابن كثير وأبو عمرو، وبالإضافة: حفص.
قوله: ((إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم): وذلك أنه تعالى لما أجمل في قصة بدر، ووصى المؤمنين بالثبات في مقابلة الأعداء، عاد إلى التفصيل، وحكى خطابه لأهل مكة قبل اللقاء.
قوله: ((وَإِنَّ اللَّهَ) قرئ بالفتح): نافع وابن عامر وحفص، والباقون: بالكسر.
وقرئ بالكسر، وهذه أوجه. ويعضدها قراءة ابن مسعود:"والله مع المؤمنين"، وقرئ:"ولن يغنى عنكم"، بالياء للفصل.
[(يأيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) 20 - 23]
(وَلا تَوَلَّوْا) قرئ بطرح إحدى التاءين وإدغامها، والضمير في (عَنْهُ) لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّ المعنى: وأطيعوا رسول الله، كقوله:(الله ورسوله أحق أن يرضوه)[التوبة: 62]، ولأنّ طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد، (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) [النساء: 8]، فكأن رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما، ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهذه أوجه): أي: القراءة بكسر "إن" في قوله: (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) أوجه من القراءة بالفتح؛ لأن الجملة حينئذ تذييل، وكأنه قيل الغرض إعلاء أمر المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين، وكيت وكيت، وأن سنة الله وعادته عز وجل جارية في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، كقوله:(وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ)[الصافات: 173].
ويجوز على قراءة الفتح أيضاً هذا التقرير، كما قال أبو البقاء:" (ذَلِكُمْ) أي: الأمر ذلكم، والأمر أن الله موهن كيد الكافرين، والأمر أن الله مع المؤمنين"، ولكن الأول أحسن وأدل على إرادة التذييل، لأنه نص فيه.
قوله: (وإدغامها): أي: بتشديد التاء.
كقولك: الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان، ويجوز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة، أي: ولا تولَّوا عن هذا الأمر وامتثاله وأنتم تسمعونه، أو: ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تخالفوه، (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أي تصدقون، لأنكم مؤمنون لستم كالصمّ المكذبين من الكفرة، (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا) أي: ادّعوا السماع، (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) لأنهم ليسوا بمصدّقين، فكأنهم غير سامعين.
والمعنى: أنكم تصدّقون بالقرآن والنبوّة، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولا تتولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عطف على قوله: "ولا تتولوا عن هذا الأمر"، وكلاهما نشر لتقرير عود الضمير إما إلى الأمر بالطاعة أو إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن على غير ترتيب، ومعنى السماع في (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) على أن يعود الضمير إلى الأمر بالطاعة: على الحقيقة، وعلى العود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: مجاز عن التصديق.
واعلم أنه قد سبق أن هذه السورة الكريمة مشتملة على تشديد أمر طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحريض أصحابه رضوان الله عليهم على الانقياد لأمره والامتناع عن مخالفته، فلما ذكر في مفتتح السورة:(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)[الأنفال: 1]، وساق حديث قصة بدر، وأطال الكلام فيها، كر إلى ما بدأ به، وشدد فيه غاية التشديد، حيث جعل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة الله عز وجل، وعقب المر بالطاعة النهي عن المخالفة بقوله:(وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ)، ثم أكده بالتذييل التشبيهي، وهو (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا)، ثم تمم المعنى على المبالغة بضرب المثل (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ).
ويؤيد ما ذكرنا أن في الآية كراً إلى المعنى الأول.
فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن.
ثم قال: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ) أي: إنّ شر من يدب على وجه الأرض، أو إنّ شرّ البهائم الذين هم صمّ عن الحق لا يعقلونه، جعلهم من جنس البهائم، ثم جعلهم شرّها! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فإن توليتم عن طاعة الرسول): من قسمة الغنائم وغيرها.
قوله: (أو: إن شر البهائم): هذا محمول على العرف العام، وعلى الأول: على عرف اللغة.
قوله: (هم صم عن الحق لا يعقلونه): تفسير لقوله: (الصُّمُّ الْبُكْمُ)، قال أبو البقاء:"إنما جمع الصم، وهو خبر (شَرَّ)؛ لأن "شراً" هنا يُراد به الكثرة، فجمع الخبر على المعنى، ولو قال: "الأصم"، لكان الإفراد على اللفظ".
قوله: (جعلهم من جنس البهائم، ثم جعلهم شرها): آذن بهذا الجعل بأنه من باب التشبيه، وأن أصل التشبيه: الصم البكم كالبهائم، ثم: الصم البكم كشر البهائم، ثم: شر البهائم كالصم البكم، على التقديم والتأخير، نحو قول الشاعر:
وبدا الصباح كأن غرته
…
وجه الخليفة حين يمتدح
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ) في هؤلاء الصم البكم (خَيْراً) أي: انتفاعا باللطف، (لَأَسْمَعَهُمْ): للطف بهم، حتى يسمعوا سماع المصدقين، ثم قال:(وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا)، يعنى: ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف، فلذلك منعهم ألطافه، أو: ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي تعريف الخبر الدلالة على الحصر، وأن من لم يُطع الله ورسوله هو شر خلق الله تعالى، ولا دابة شر منه، وإن كان مطاعاً عند الناس.
قوله: (ثم قال: (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) يعني: ثم الكلام عند قوله: (لأَسْمَعَهُمْ)، وعُلم منه أن علمه تعالى بعدم الانتفاع سبب لعدم الإسماع.
ثم ابتدأ الكلام بناء على ما سبق، أي: لو قُدر أن الله تعالى يلطف بهم ويسمعهم على ذلك التقدير لكان عبثاً، لأن علم الله تعالى متعلق بأنه لا ينفعهم، فلذلك ما لطف بهم، وقوله:"أو: ولو لطف بهم لما نفع فيهمن أي: لو لطف بهم على ذلك التقدير وآمنوا لارتدوا"، ونفي العلم هاهنا لنفي المعلوم، كقوله:(أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ)[يونس: 18].
واعلم أن كلمة "لو" وضعت للدلالة على امتناع الشيء لامتناع غيره، فإذا دخلت على النفي يصير بمعنى الإثبات، ولو دخل على الإثبات صار بمعنى النفي، فيلزم من قوله تعالى:(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ) أنه تعالى ما أسمعهم لأنه ما علم فيهم خيراً، ومن الثاني أنهم ما تولوا لأنه تعالى ما أسمعهم، وعدم التولي خير من الخيرات، فالابتداء يقتضي نفي الخيرن والانتهاء إثباته، ولهذا قدر الإمام: "لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج سماع تفيهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
وتعليم، ولو أسمعهم بعد أن علم الله أن لا خير فيهم لم ينتفعوا بها وتولوا وهم معرضون"، وحاصل الكلامين أن "لو" الثانية مجاز لمجرد الاستلزام، لا لامتناع الشيء لامتناع غيره.
قال أبو البقاء: لو: في قوله تعالى: (لَوْ عَلِمَ) إلى آخره كـ"لو" في قول عمر رضي الله عنه: "نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه": تفيد المبالغة، وهو أنه لو لم يكن عنده خوف لما عصى الله، فكيف يعصي وعنده خوفه؟ ولو لم يرد المبالغة لكان معناه: أنه يعصي الله لأنه يخافه.
وقال صاحب "الانتصاف" على كلام المصنف: "إطلاق أن اللطف يحصل من الله للعبد ولا ينفعه: قبحي مردود، فاللطف عندنا: أن يخلق في قلبه قبولا لحق والإصغاء له، وهذه عقيدة أهل الحق، ولو بُحث معه على مذهبه لم يستقم قوله: "ولو علم الله فهيم خيراً للطف بهم، ولو لطف لتولوا"، فيلزم توليهم على تقدير علم الله الخير، فيجب أن يُجعل الإسماع الواقع جواباً لـ (لوْ) غير الإسماع الواقع شرطاً للثاني، أي: ولو علم الله فيهم خبراً لأسمعهم إسماعاً يحصل لهم به الهدى والقبول، ولو أسمعهم لا على ان يخلق لهم الهدى إسماعاً مجرداً لتولوا وهم معرضون".
وقيل: هم بنو عبد الدار بن قصي، لم يسلم منهم إلا رجلان: مصعب بن عمير، وسويد بن حرملة، كانوا يقولون: نحن صم بُكم عُمي عما جاء به محمد، لا نسمعه ولا نجيبه، فقتلوا جميعاً بأحد، وكانوا أصحاب اللواء.
وعن ابن جريج: هم المنافقون. وعن الحسن: أهل الكتاب.
[(يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) 24]
(إِذا دَعاكُمْ) وحد الضمير كما وحده فيما قبله، لأن استجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كاستجابته، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، والمراد بالاستجابة. الطاعة والامتثال، وبالدعوة: البعث والتحريض.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على باب أبىّ ابن كعب، فناداه وهو في الصلاة، فعجل في صلاته، ثم جاء، فقال:" ما منعك عن إجابتي"؟ .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وروى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على باب أبي بن كعب) الحديث: من رواية البخاري وأبي داود وابن ماجه والدارمي والنسائي عن أبي سعيد بن المعلي قال: كنت أصلي في المسجد، ودعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجبه، ثم أتيته وقلت: يا رسول الله، ني كنت أصلي، فقال:"ألم يقل الله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ)؟ ".
قال: كنت أصلي، قال:"ألم تخبر فيما أوحي إلىّ: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)؟ ! " قال: لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك.
وفيه قولان: أحدهما: إن هذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: أن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير، وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته. (لِما يُحْيِيكُمْ) من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة، كما أنّ الجهل موت. ولبعضهم:
لَا تُعْجِبَنَّ الْجَهُولَ حُلَّتُهُ
…
فَذَاكَ مَيْتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنُ
وقبل: لمجاهدة الكفار، لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم، كقوله:(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَيوةٌ)[البقرة: 179]، وقيل: للشهادة، لقوله:(بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ)[عمران: 169].
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) يعنى: أنه يميته، فتفوته الفرصة التي هو واجدها، وهي التمكن من إخلاص القلب، ومعالجة أدوائه وعلله، ورده سليماً كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله، (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة.
وقيل: معناه: إنّ الله قد يملك على العبد قلبه، فيفسخ عزائمه، ويغير نياته ومقاصده، ويبدله بالخوف أمناً وبالأمن خوفاً، وبالذكر نسياناً، وبالنسيان ذكراً، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله عز وجل، ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلى هذا الوجه: الدعاء والاستجابة جاريان على الحقيقة، كما كان في الوجه الأول الدعاء مجازاً عن البعث والتحريض، والاستجابة عن الطاعة والامتثال.
قوله: (لا تعجبن الجهول) البيت: من قول أبي الطيب:
لا يعجبن مضيما حسن بزته
…
وهل يروق دفيناً جودة الكفن
فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا، والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر، وبينه وبين الكفر إذا آمن، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر، وبينه وبين الكفر إذا آمن): روى هذه العبارة محيي السنة عن سعيد بن جبير وعطاء، وروى عن السدي قريباً منه: وقال الإمام: "إن الأحوال القلبية: إما العقائد وإما الإرادات والدواعي، فالعقائد: إما العلم وإما الجهل، أما العلم فهو من الله، وأما الجهل فكذلك، لأن الإنسان لا يختار الجهل لنفسه، وأما الدواعي والإرادات فحصولها إن لم يكن بفاعل لزم الحدوث لا عن محدث، ولا يجوز أن يكون محدثه العبد، وإلا لزم توقف ذلك القصد على قصد آخر، إلى ما لا نهاية له، فتعين أن يكون الفاعل الله".
وقلت: قضية النظم وسياق الآيات راجع إلى إثبات مسألة العلم وخلق الداعية، كما عليه مذهب أهل السنة والجماعة، وبيانه: أنه تعالى لما نص بقوله: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ) الآية [الأنفال: 23]، على أن الإسماع لا ينفع فيهم؛ تسجيلاً على أولئك الصم البكم؛ من على المؤمنين بما منحهم من الإيمان، ويسر لهم من الطاعات، كما قال صلى الله عليه وسلم:"كل مُيسر لما خلق له"، يعني: أنكم لستم مثل أولئك المطبوعين على قلوبهم، فإنهم إنما امتنعوا عن الطاعة لأنهم ما خلقوا إلا للكفر، فما تتيسر لهم الاستجابة، وأنتم لما منحتكم الإيمان ووفقتكم الطاعة فاستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما فيه حياتكم من مجاهدة الكفار وطلب الحياة الأبدية واغتنموا تلك الفرصة، واعلموا أن الله يحول بني المرء وقلبه؛ بأن يحول بينه وبين الإيمان، وبينه وبين الطاعة، ثم يجازيه في الآخرة بالنار.
وقيل: معناه: أنه يطلع على كل ما يخطره المرء بباله، لا يخفى عليه شيء من ضمائره، فكأنه بينه وبين قلبه.
وقرئ: "بين المر" بتشديد الراء، ووجهه: أنه قد حذف الهمزة، وألقى حركتها على الراء، كالخب، ثم نوى الوقف على لغة من يقول: مررت بعمرّ.
[(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) 25]
(فِتْنَةً): ذنباً؛ قيل: هو إقرار المنكر بين أظهرهم .......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تلخيصه: أوليتكم النعمة فاشكروها ولا تكفروها لئلا أزيلها عنكم.
ويؤيد هذا التأويل ما روينا عن الترمذي عن شهر بن حوشب قال: قلت لأم سلمة يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قالت: فقلت له: يا رسول الله، ما أكثر دعائك بهذا؟ ! قال:"يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ".
قلت: وتصديقه قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)[آل عمران: 8]، والله أعلم.
قوله: (أنه تعالى يطلع على كل ما يخطره المرء بباله): فكأنه يحول بينه وبين قلبه، قال القاضي:"هذا تمثيل لغاية قربه من العبد، كقوله تعالى: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق: 16]، وتنبيه على أنه تعالى مطلع على مكنونات القلوب مما عسى يغفل عنه صاحبها، فيكون حثاً على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها" في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله، (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيحاسبكم بما في قلوبكم من الإخلاص والرياء.
قوله: (هو إقرار المنكر): أي: تمكين الفعل المنكر بين المسلمين، من: أقره في مكانه فاستقر.
وقيل: افتراق الكلمة. وقيل (فِتْنَةً): عذاباً.
وقوله: (لا تُصِيبَنَّ) لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر، أو نهياً بعد أمر، أو صفة لـ (فتنة): فإذا كانت جواباً: فالمعنى: إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (افتراق الكلمة): وهي أمر الله بالإنفاق، وأن يكونوا يداً واحدة على غيرهم، من قوله تعالى:(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)[آل عمران: 103]، أي: تمسكوا بعهده ولا تنكثوا. وفي الحديث: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم".
قوله: (فإذا كانت جواباً فالمعنى: إن أصابتكم لا تصب الظالمين): قال صاحب "التقريب": هذا ليس بجواب للأمر، بل هو جواب لشرط مقدر؛ إذ لا يستقيم: إن تتقوا لا تُصب، وهو ما يقتضيه جواب الأمر. أراد أن ما في كلام الله المجيد ليس من باب جواب الأمر، إذ لو قُدر ذلك لرجع إلى أن يُقال: عن تتقوا لا تصب، فيفسد، بل هو من باب آخر، وهو أن يقدر الشرط بقرينة الجزاء واقتضاء المقام، كما قال: إن أصابتكم لا تصب الظالمين.
وقال ابن الحاجب: "الظاهر أنه نهي، والمعنى: واتقوا فتنة مقولاً فيها: لا تصيبن، والنهي في الظاهر للفتنة، والمعنى للمتعرضين لها، فكأنه قيل: لا تتعرضوا للفتنة التي يصيب المتعرضين بلاؤها، فعدل من التعرض الذي هو سبب، إلى الإصابة التي هو المسبب.
فعلى هذا يكون "الظالمون" مخصوصين بالإصابة، لأن المعنى: لا يتعرض متعرض للفتنة، فتصيبه خاصة، فعدل إلى ما ذكرنا، فصار لا تصيب الفتنة متعرضاً لها خاصة، ثم ذكر "المتعرض" بلفظ "الظالم"؛ تشنيعاً عليه للصفة التي يكون عليها عند التعرض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويجوز أن تكون (لا) نافية، ودخول النون فيها على وجه ليس بقوي، أي: اتقوا فتنة غير مصيبة للظالمين خاصة، ولكنها تعم الظالم وغيره. فعلى هذا تكون الإصابة عامة.
وقد ذكر الزمخشري هذا الوجه، وجعل الإصابة أيضاً فيه خاصة، وليس بجيد؛ إذ المعنى: وصفها بأنها لا تصيب الظالمين خاصة، وإذا لم تصبهم خاصة فكيف يصح وصفها بكونها خاصة؟ !
وقد قيل: إنه يجوز أن يكون جواباً للأمر، ويُقدر: واتقوا فتنة إن أصبتموها لا تصب الظالمين خاصة، ولكن تعم فتأخذ الظالم وغيره. وهو غير مستقيم؛ إذ جواب الأمر إنما يُقدر فعله من جنس الأمر المظهر لا من جنس الجواب، وأن يُقال: فإنكم إن تتقوا لا تُصب الظالمين، فيفسد المعنى؛ لأنه يصير الاتقاء سبباً لانتفاء الإصابة عن الظالم المرتكب، وهو بالعكس أشبه".
وقلت: قوله: "وقد ذكر الزمخشري هذا الوجه، وجعل الإصابة أيضاً فيه خاصة": منظور فيه؛ لأنه ليس في كلامه أن (لا تُصِيبَنَّ) صفة لـ (فِتْنَةٌ) و"لا" نافية، بل الظاهر في جعله صفة أن "لا" ناهية، ولذلك قدر "مقولا"، وشبهه بالبيت لأنه إنشائي مثله وقع صفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولعل المصنف إنما ترك هذا الوجه، لأن نون التأكيد قد تجتمع مع "لا" النافية في جواب الأمر، كما سييجيء، وأما إذا كان وصفاً فلا، ولئن سُلم فليس تقدير الوصف ما ذكره أخيراً، بل ما ذكره أولاً كما سنقرره.
وأما قوله: "إنما يقدر فعله من جنس المظهر لا من جنس الجواب" فجوابه: هذا إذا أجرى الكلام على ظاهره، وأما إذا جُعل الظاهر مهجوراً فيذهب إلى قوة المعنى فلا. ألا ترى إلى قوله في "شرح المفصل": وقد أجاز الكسائي مسألة: "لا تدن" وشبهه، وحجته أن يُقدر الإثبات نظراً إلى قوة المعنى، فجعل القرينة المعنوية حاكمة على اللفظية، كذا هاهنا. ويجوز أن يُحمل على مسألة "لا تدن"، وأن يُقال: واتقوا فتنة فإنكم إن لم تتقوها أصابتكم، فإن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة، بل تعمكم فاكتفى بالمسبب عن السبب.
وقال نور الدين الحكيم: تقرير كلام الزمخشري أنه مثل قول القائل: اتق غضب الله لا يحلل عليك، فإن من شأن غضبه إن حل لا يحل بالمجرم خاصة، واتق الزنبور لا ينزل، فإنه إن نزل لا ينزل بالجاني خاصة، بل يعم. وأقرب منه: اتق غضباً لا يحلل على المجرم خاصة، واتق الزنبور لا ينزل بالجاني خاصة.
والمنهج الذي سلكه المصنف أوضح، والبلاغة له أدعى، وذلك أنه حين ذهب إلى أن (لا تُصِيبَنَّ) جواب للأمر؛ جعل (لا) نافية، دل عليه قوله في الجواب عن السؤال الآتي:"لأن فهي معنى النهي".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولما أن الجواب مسبب عن الأمر، فإذا نُفيت الإصابة على الخصوص دل بالمفهوم على العموم، إذ لابد من إصابة العقاب لانتفاء ما ترتب النفي عليه من الاتقاء قال:"إن أصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة، لكنها تعمكم".
ولما جعل النهي قريناً للأمر مؤكداً لمعناه على طريقة الطرد والعكس - لقوله: "ثم قيل: لا تتعرضوا"، بعد قوله:"واحذروا ذنباً" - جعل الإصابة خاصة، لأنه لما سلط "لا" الناهية على "تتعرضوا"، بقي "لا تصيب" مثبتاًن والأسلوب من باب النكاية، كقوله تعالى:(فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ)[الأعراف: 2]، فالأمر في الظاهر للفتنة وفي الحقيقة للمخاطبين، يعني: أن الفتنة لو كانت مما ينهى لنهيناها عنكم، فانتهوا أنتم عنها بترك التعرض لها، وإليه الإشارة بقوله:"لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب من ظلم منكم خاصة".
فعلى هذا لا يفتقر إلى تقدير "مقولاً فيه"، كما فعله ابن الحاجب، وكذلك التقدير على أن يكون صفة، أي: واتقوا فتنة يقول من رآها: لا تتعرضوا للفتنة التي يصيب المتعرضين خاصة بلاؤها.
ويجوز أن تقدر - على الوصف - الاستعارة فيها على سبيل المكنية، فالمنهي حينئذ الفتنة لا المخاطبون، شبهت الفتنة بإنسان مطيع إذا ورد عليه أمر آمر مطاع أو نهي ناه قاهر، امتثل وانتهى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلى هذا قوله: (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) عبارة عن شدتها وهولها من غير نظر إلى مفردات التركيب، كأنه قيل: واتقوا فتنة هائلة طامة "لا تصيبنكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس"، كما قال، لأن المخاطبين أجلاء الصحابة، إذ القصد حينئذ الإغراق في الوصف، ولذلك عدل إلى الإنشاء، على طريقة قوله تعالى:(وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ)[الدخان: 30 - 31] على الاستفهام.
وإنما جاء الفرق بين الوجه الأول والثاني؛ لأن الفتنة على الأول إقرار المنكر، والمخاطبون كل الأمة، وقد أمر بعضهم برفعها بالإقلاع عنها، فقيل لهم: إن لم ترفعوا المنكر من بين أظهركم بنهي فاعله، لا تختص الفتنة بالفاعل، بل تسري إلى الغير أيضاً، لأنه كما يجب على راكبه الانتهاء عنه، يجب على الباقين رفعه، فإذن كلهم مستوون، ومن ثم أوجب أن يجعل "مِن" في (منكم) للتبعيض.
ويؤيد هذا التأويل ما روى محيي السنة عن ابن عباس رضي الله عنه: "أمر الله المؤمنين أن لا يُقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم"، ويعضده ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روينا عن الترمذي وأبي داود عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده، أوشك أن يعمهم الله بعقاب".
وروى الترمذي أيضاً عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم، فمل ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، وآكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون".
والفتنة على القول الثاني: افتراق الكلمة، هو ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل، والمخاطبون هم حينئذ خاصة، نهوا عن القربان منها، ولذلك كان "من" بياناً.
فإذا قيل لك: اتق فتنة شأنها كيت وكيت، أريد: أنك إذا تعرضت لها أصابتك ألبتة، وإن اتقيت عنها سلمت. وليس معناه: أن تعرضك لها سبب لإصابة الغير، ولا تعرض الغير سبب لإصابتها إياك، كما في الوجه الأول.
والواقع هذا؛ لما روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود عن الأحنف قال: خرجت وأنا أريد هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ قلت: أريد نصر ابن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أحنف، ارجع، فغني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قال: فقلت- أو: قيل-: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال:"إنه كان حريصاً على قتل صاحبه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن الإمام أحمد بن حنبل عن ابن صيفي وكان له صحبة: أن علياً رضي الله عنه لما قدم البصرة بعث إليه: ما يمنعك أن تتبعني؟ ! قال: أوصاني خليلي وابن عمك قال: "إنه ستكون فرقة واختلاف، فاكسر سيفك، واقعد في بيتك، حتى تأتيك يد خاطئة، أو ميتة قاضية، ففعلت ما أمرني، فإن استطعت أن لا تكون اليد الخاطئة فافعل".
والمقام يقتضي هذا القول؛ لأن قوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً) عطف على قوله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) أي: لمجاهدة أعداء الدين واتفاق الكلمة فيما بينكم، واتقوا المخالفة لتتمكنوا على المجاهدة. والمصنف راعي هذا الترتيب، وذلك أنه فسر الفتنة أولاً بإقرار المنكر بينهم وبافتراق الكلمة، ذكر القول الأول، واستشهد له بقوله:"يحكي أن علماء بني إسرائيل" إلى آخره، ثم ذكر القول الثاني وقرره بالوجهين، ثم عقبهما بذكر حديث الجمل وأصحاب بدر وما يتصل به.
فإن قلت: لم خص الوجه الأول بإقرار المنكر الذي يقتضي عموم الإصابة، والثاني بافتراق الكلمة التي تقتضي خصوص الإصابة؟ قلت: التنكير في الفتنة أولاً لنوع ما منها، وهو إقرار المنكر، وفي الثاني لنوع يوجب التفخيم والتهويل فيه، من افتراق الكلمة الموجب للهرج والمرج وثلم الدين، فتختص بمن باشرها، ولذلك أكد بالنهي الأمر بعد
ولكنها تعمكم، وهذا كما يحكى:"أن علماء بني إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيراً، فعمهم الله بالعذاب". وإذا كانت نهياً بعد أمر: فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب -أو أثر الذنب ووباله- من ظلم منكم خاصة، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنه قيل: واتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبنّ، ونظيره قوله:
حتى إذَا جَنَّ الظَّلَامُ وَاخْتَلَطْ
…
جَاؤُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إخراجه مخرج الكناية لشدة الاهتمام، على هذا تقدير الوصف و"لا" ناهية. وأما إذا جُعل صفة و"لا" نافية: فلا يون فيه مبالغة، فينخرط في الوجه الأول في إفادة العموم.
هذا ما يمكن أن يقال في هذا المقام الصعب، وهو من حيات وعقارب هذا الكتاب.
قوله: (تعذيراً): أي: وهو نصبٌ على الحال، أي: مقصرين. الجوهري: "التعذير: التقصير"، وقيل: تعذيراً: من عذر: إذا أزال العذر، كقرد البعير: إذا أزال القُراد.
قوله: (وكذلك إذا جعلته صفة): أي: كذلك إذا جعلته صفة تختص إصابة الفتنة بهم، وقيل: كذلك إذا جعلته صفة فهو نهي، والوجه هو الأول؛ لقوله:"ويعضد المعنى الأخير قراءة ابن مسعود: "لتصيبن"، على جواب القسم"، والنهي لا يفارقه.
قوله: (جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط): أنشده ابن جني في "المحتسب"، قبله:
ما زلت أسعى معهم وأختبط
…
حتى إذا جاء الظلام المختلط
جاؤوا بضيح هل رأيت الذئب قط
الضيح: هو اللبن المخلوط بالماء، وهو يضرب إلى الخضرة، أي: جاؤوا بضيح يشبه
أي: بمذق مقول فيه هذا القول، لأنه سمار فيه لون الورقة التي هي لون الذئب.
ويعضد المعنى الأخير قراءة ابن مسعود: "لتصيبنّ"، على جواب القسم المحذوف. وعن الحسن: نزلت في علىّ وعمار وطلحة والزبير، وهو يوم الجمل خاصة، قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زماناً، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها. وعن السدي: نزلت في أهل بدر، فاقتتلوا يوم الجمل.
وروى: أن الزبير كان يساير النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، إذ أقبل علىّ رضي الله عنه، فضحك إليه الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كيف حبك لعلّى؟ " فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إني أحبه كحبي لوالدي أو أشدّ حبا، قال:"فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟ ! ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لونه لون الذئب، و"هل رأيت" جملة استفهامية وصف بها "الضيح" حملاً على معناها دون لفظها، لأن الصفة ضرب من الخبر، والاستفهام والخبر متدافعان.
قوله: (ويعضد المعنى الأخير): أي: إذا كان نهياً أو وصفاً، لأنهم يشتركان في تخصيص العذاب بالمتعرضين.
قوله: (عن الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير): كذا في "العالم".
قوله: (قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها): روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن مطرف، قلنا للزبير: يا أبا عبد الله، ما جاء بكم، ضيعتم الخليفة حتى قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه، فقال الزبير: إنا قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)، ولم نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت".
فإن قلت: كيف جاز أن يدخل النون المؤكدة في جواب الأمر؟ قلت: لأنّ فيه معنى النهى، إذا قلت: انزل عن الدابة لا تطرحك، فلذلك جاز: لا تطرحنك، (ولا تصيبنّ)، ولا (يحطمنكم). [النمل: 18].
فإن قلت: فما معنى "من" في قوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ)؟ قلت: التبعيض على الوجه الأوّل، والتبيين على الثاني، لأنّ المعنى: لا تُصيبنكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (كيف جاز أن تدخل النون المؤكدة): قال أبو البقاء: "يضعف ذلك؛ لأن جواب الأمر للشرط، وجواب الشرط متردد، فلا يليق به التوكيد. وأجاب بقوله: لأن فيه معنى النهي". وهو من قول الزجاج، قال:"هذا الكلام جزاء، فيه طرف من النهي، إذا قلت: انزل عن الدابة لا تطرحك، يكون جواباً للأمر بلف النهي، فإذا أتيت بالنون الثقيلة أو الخفيفة كان أوكد للكلام". يعني: لما عدل من الإخباري إلى الإنشائي لضرب من المبالغة بالتأول ناسب لذلك إضافة التأكيد. وهذا لا يقال إلا في أمر يتردد فيه القائل لفظاعته، كما في الفتنة والدابة الجموح.
قوله: (التبعيض على الوجه الأول): أي: على أن يكون جواباً للأمر، ومحله نصب على أنه بدل من (الَّذِينَ ظَلَمُوا)، وعلى أن يكون صفة أو نهياً:"مِن" بيانية، وهو المراد من قوله:"التبيين على الثاني"، وإلى هذا ذهب القاضي أيضاً.
قوله: (لأن المعنى): تعليل لكون "مِن" بيانية، أي: إذا كان المراد من التركيب: لا يصيبنكم العقاب خاصة على ظلمكم، كان (منكم) تفسيراً لـ (الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: لا يصيبن الظالم الذي هو أنتم.
[(واذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ ورَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) 26]
(واذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ) نصبه على انه مفعول به مذكور، لا ظرف،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
وفي قوله: "لا تصيبنكم" إشعار بالتعبير، أي: لا ينبغي أن تختصوا بالفتنة وأنتم أصحاب بدر وعظماء الصحابة ومن السابقين الأولين، تعلمون عظم شأن الفتنة، فأنتم أحرياء بأن لا تدنوها، فضلاً عن أن تورطوا فيها، لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس الذين لا يعلمون.
قال صاحب "التقريب": "وفي تخصيص "مِن" بالتبعيض في الأول، والتبيين في الثاني حرازة".
وقلت: إذا حقق النظر فيما أسلفناه من أن المخاطبين في الأول كل الأمة وراكب الفتنة بعضهم، فهم لا محالة أن "مِن" تبعيض، وأن المخاطبين في الثاني بعض الأمة الذين باشروا الفتنة خصوصاً، عُلم أن "مِن" بيان لا محيد عنه.
وفيه أيضاً: أن قوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا) مُظهر وضع موضع المضمر؛ تشنيعاً عليهم، كما قال ابن الحاجب.
قوله: (على أنه مفعول به مذكور): توكيد لقوله: "مفعول به"، لأنه إذا جُعل مفعولاً به، لـ "اذكر"، كان - لا محالة - مذكوراً.
أي: اذكروا وقت كونكم أقلة أذلة مستضعفين (فِي الْأَرْضِ): أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش، (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) لأن الناس كانوا جميعا لهم أعداء منافين مضادّين، (فَآواكُمْ) إلى المدينة، (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ): بمظاهرة الأنصار، وبإمداد الملائكة يوم بدر، (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبتِ): من الغنائم، (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ): إرادة أن تشكروا هذه النعم.
وعن قتادة: كان هذا الحي من العرب أذلّ الناس، وأشقاهم عيشا، وأعراهم جلداً، وأبينهم ضلالاً، يؤكلون ولا يأكلون، فمكن الله لهم في البلاد، ووسع لهم في الرزق والغنائم وجعلهم ملوكاً.
[(يأيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمنتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) 27]
معنى الخون: النقص، كما أن معنى الوفاء: التمام، ومنه: تخوّنه: إذا تنقصه، ثم استعمل في ضدّ الأمانة والوفاء، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأعراهم جلداً): كناية عن فقرهم، الجوهري:"عرى عن ثيابه يعرى عريا، فهو عار وعريان".
قوله: (يؤكلون ولا يأكلون)، الأساس: "مأكول حمير خير من آكلها، أي: رعيتها خير من واليها. وهو من ذوي الآكال، أي: من السادات الذين يأكلون المرباع، ولما قال الممزق:
فإن كنت مأكولاً فكن خير آكل
…
وإلا فأدركني ولما أمزق
قال له النعمان: لا آكلك ولا أوكلك غيري".
المرباع: الربع، كان الأمير في الجاهلية يأكل ربع الغنيمة، فخمستها الشريعة.
لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه، وقد استعير فقيل: خان الدلو الكرب، وخان المشتار السبب؛ لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له. ومنه قوله:(وَتَخُونُوا أَمنتِكُمْ)، والمعنى: لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به. وأَماناتِكُمْ فيما بينكم بأن لا تحفظوها، (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تبعة ذلك ووباله، وقيل وأنتم تعلمون أنكم تخونون، يعنى: أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو، وقيل: وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (خان الدلو الكرب): الكرب: حبل قصير يوصل بالرشاء ويلوى على العراقي سُمي كرباً لأنه يقرب من الدلو. الأساس: "خان الدلو الرشاء: إذا انقطع. قال ذو الرمة:
كأنها دلو بئر جد ماتحها
…
حتى إذا ما رآها خانها الكرب"
قوله: (وخان المشتار السبب): المشتار: الذي يجني العسل من الكوارة، والسبب: حبل يتوصل به إلى اجتناء العسل.
قولهم: (وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح): يريد أن: (تَعْلَمُونَ) -في (أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) - إما مفعوله مقدر منوي بقرينة السياق، وهو أنكم تخونون وأنتم تعلمون تبعة ذلك، أو غير منوي بمنزلة اللازم، وهو المراد من قوله:"وأنتم علماء"، فقوله:"تعلمون قُبح القبيح وحسن الحسن": مقدر من جهة الالتزام، لا أنه مفعول منوي، يعني: إذا كنتم علماء من أهل المعرفة فلم تباشرونه؟ !
وروي: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير، على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة مروان بن [عبد] المنذر، وكان مناصحاً لهم، لأنّ عياله وماله في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا له: ما ترى؟ هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه: إنه الذبح.
قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أنى قد خنت الله ورسوله، فنزلت، فشدّ نفسه على سارية من سواري المسجد، وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله علىّ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشياً عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك، فحل نفسك، فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه، فحله بيده، فقال: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي. فقال صلى الله عليه وسلم:" يجزيك الثلث أن تتصدّق به". وعن المغيرة: نزلت في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أرسل إلينا أبا لُبابة مروان بن [عبد] المنذر): وفي "جامع الأصول": "هو رفاعة ابن عبد المنذر، صحابي معروف"، وكذا في "الاستيعاب"، وفيه:"اختلف في الحال التي أوجبت فعل أبي لبابة هذا بنفسه، وأحسن ما قيل: إنه ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية"، وساق القصة إلى آخر ما في الكتاب، مع اختلاف في الألفاظ. وقال أبو عمر:"وقد قيل: إن الذنب هو الذي أشار به أبو لبابة إلى حلفائه: إنه الذبح إن نزلتم على حكم سعد، وأشار إلى حلقه، فنزلت الآية".
وقيل: (أَمانتِكُمْ): ما ائتمنكم الله عليه من فرائضه وحدوده.
فإن قلت: (وَتَخُونُوا) جزم هو أم نصب؟ قلت: يحتمل أن يكون جزما داخلا في حكم النهى، وأن يكون نصباً بإضمار "أن"، كقوله:(وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ)[البقرة: 42]، وقرأ مجاهد:"وتخونوا أمانتكم"، على التوحيد.
[(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) 28]
جعل الأموال والأولاد فتنة، لأنهم سبب الوقوع في الفتنة، وهي الإثم أو العذاب، أو محنة من الله تعالي ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده؟ (وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
فعليكم أن تنوطوا بطلبه، وبما تؤدى إليه هممكم، وتزهدوا في الدنيا، ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد، حتى تورّطوا أنفسكم من أجلهما، كقوله:(الْمالُ وَالْبَنُونَ) الآية [الكهف: 46].
وقيل: هي من جملة ما نزل في أبى لبابة، وما فرط منه لأجل ماله وولده.
[(يأيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) 29]
(فُرْقاناً): نصراً، لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله. ومنه قوله تعالى:(يَوْمَ الْفُرْقانِ)[الأنفال: 41]، أو بياناً وظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، .......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو محنة من الله): عطف على قوله: "سبب الوقوع"، كقوله:(الْمَالُ وَالْبَنُونَ)[الكهف: 46]، فقوله:(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ): أي: محنة من الله ليبلوكم، كقوله:(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[الكهف: 46]، وقوله:(وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) قوله: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً)[الكهف: 46].
من قولهم "بتّ أفعل كذا" حتى سطع الفرقان، أي: طلع الفجر، أو مخرجا من الشبهات وتوفيقاً وشرحاً للصدور، أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان، وفضلا ومزية في الدنيا والآخرة.
[(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمكِرِينَ) 30]
لما فتح الله عليه، ذكره مكر قريش به حين كان بمكة، ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم، وما أتاح الله له من حسن العاقبة، والمعنى: واذكر إذ يمكرون بك، وذلك أن قريشا -لما أسلمت الأنصار وبايعوه- فرقوا أن يتفاقم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو تفرقة بينكم): فإن قلت: ذكر لقوله: (فُرْقَاناً) وجوهاً، وهي أن يكون نصراً أو بياناً أو مخرجاً أو تفرقة، فأيها أحسن؟ قلت: الجمع بينها، لأن هذه الآية كالخاتمة لجميع ما سبقن بدليل عوده إلى بدء القصة، وهو قوله:(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا)[الأنفال: 30]، و"أو" في كلام المصنف للتخيير، كما في قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين.
قوله: (لما فتح الله عليه ذكره مكر قريش به): يعني: بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر قريش بتمامه ذكره بدو حالهم معه ليعتبر فيشكر. وفيه بيان لتوفيق النظم، وتنبيه على ما أشرنا في فاتحة السورة وعند تفسير (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال: 17].
قوله: (في دار الندوة)، الجوهري:"الندي: مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي والمنتدى، ومنه سميت دار الندوة التي بمكة، بناها قُصي، لأنهم كانوا يندون فيها، أي: يجتمعون للمشاورة".
والحديث مذكور في "مسند أحمد بن حنبل" عن ابن عباس، وليس فيه ذكر إبليس رأساً.
وقال: أنا شيخ من نجد، ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا منى رأيا ونصحاً.
فقال أبو البختري: رأيي أن تحبسوه في بيت، وتشدّوا وثاقه، وتسدوا بابه غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون. فقال إبليس: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه، ويخلصه من أيديكم.
فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع، واسترحتم. فقال إبليس: بئس الرأي، يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم.
فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً، وتعطوه سيفاً صارماً، فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. فقال الشيخ: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأياً. فتفرقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله.
فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن الله له في الهجرة، فأمر علياً رضي الله عنه، فنام في مضجعه، وقال له: اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه، فأبصروا علياً فبهتوا، وخيب الله سعيهم، واقتصوا أثره، فأبطل مكرهم.
(لِيُثْبِتُوكَ) ليسجنوك، أو يوثقوك، أو يثخنوك بالضرب والجرح، من قولهم: ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به، وفلان مثبت وجعاً.
وقرئ: " ليثبتوك"، بالتشديد. وقرأ النخعي:"ليبيتوك"، من البيات. وعن ابن عباس رضي الله عنهما:"ليقيدوك"، وهو دليل لمن فسره بالإيثاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو يثخنوك): من: أثخنته الجراحة، أي: أوهنته.
(وَيَمْكُرُونَ): ويخفون المكايد له، (وَيَمْكُرُ اللَّهُ): ويخفى الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة، (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمكِرِينَ) أي مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيراً، أو لأنه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل، ولا يصيب إلا بما هو مستوجب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو لأنه لا يُنزل إلا ما هو حق): عطف على قوله: "مكره أنفذ من مكر غيره"، فعلى الأول: التركيب من باب قوله تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً)[مريم: 76]، وقولهم:"الصيف أحر من الشتاء"، وذلك أنه فسر مكرهم بقوله:"ويخفون المكايد"، ومكر الله بقوله:"ويُخفي الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة"، ثم جمعهما بقوله:(خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وفسره بقوله:"إن مكره أبلغ تأثيراً"، ولا شك أن لا خير في مكرهم، ب بل هو شر بحت، لكن المراد بالـ"خير": أن مكر الله أبلغ تأثيراً في بابه من الخير، من مكرهم في بابه من الشر، فالخير على هذا بمعنى التفضيل. والتعريف في (الْمَاكِرِينَ) للعهد.
وأما الوجه الثاني فلا شركة فيه؛ لأنه من باب: "أعدلا بني مروان"، وذلك لأن ما يفعله الله لا يكون إلا حقاً وعدلاً، وتسميته بالمكر على سبيل الاستعارة بجامع الإخفاء والأخذ بغتة، فشبه صورة صنع الله ذلك معهم بصورة صنع المخادع المحتال، ثم سمي مكراً، فالتعريف للجنس، يؤيده قوله في "الأعراف":"ومكر الله استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ولاستدراجه".
[(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ ءايتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَسطِيرُ الْأَوَّلِينَ* وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ * وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) 31 - 34]
(لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) نفاجة منهم، وصلف تحت الراعدة، ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذهب القاضي إلى المشاكلة، قال:"وأمثال هذا لا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إيهام الذم، وإنما يحسن بالمزاوجة"، وهو وجه أيضاً.
الجوهري: "المكر: الاحتيال والخديعة، وقد مكر به يمكر فهو ماكر ومكار".
وقال الراغب: "المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة، وذلك ضربان: مكر محمود؛ وهو أن يُتحرى بذلك فعل جميل، وعلى ذلك قال: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، ومذموم؛ وهو أن يُتحرى به فعل قبيح، قال: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) [فاطر: 43]. وقال بعضهم: من مكر الله تعالى إمهال العبد وتمكينه من أعراض الدنيا، ولذلك قال علي رضي الله عنه: من وسع عليه دنياه، ولمي علم أنه مكر به، فهو مخدوع في عقله".
قوله: (نفاجة منهم)، الأساس:"نفجت الريح: جاءت بقوة، وريح نافجة، ومن المجاز: فلان نفاج، وسمعت من يقول: فيه نفاجة".
الجوهري: "رجل نفاج: إذا كان صاحب فخر وكبر، عن ابن السكيت".
قوله: (وصلف تحت الراعدة)، الأساس:"ومن المجاز: صلفت السحابة: قل مطرها. وفي المثل: رب صلف تحت الراعدة".
فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، وإلا فما منعهم، إن كانوا مستطيعين، أن يشاؤوا غلبة من تحدّاهم وقرعهم بالعجز، حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه؟ مع فرط أنفتهم، واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة، وأن يماتنهم واحد، فيتعللوا بامتناع المشيئة، ........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الميداني: "الصلف: قلة النزل والخير، والراعدة: السحابة ذات الرعد"، يُضرب في الرجل يتوعد، ثم لا يقوم به. وفي الحواشي: يضرب لمن يكثر الكلام ولا خير عنده.
قوله: (وإلا فما منعهم): أي: وإن لم يكن نفاجة فما منعهم عن أن يشاؤوا غلبة من تحداهم حتى يفوزوا بالقدح المعلى دون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقوله: "إن كانوا مستطيعين" شرط جزاؤه ما دل عليه "ما منعهم"، والجملة الشرطية معترضة، و"أن يشاؤوا" مفعول "منعهم"، و"قرعهم" عطف على "تحداهم"، و"حتى يفوزوا" غاية "أن يشاؤوا"، و"مع فرط أنفتهم" حال من مفعول "منعهم"، أي: فما منعهم مع أنفتهم ونخوتهم المفرطة، و"أن يماتنهم" عطف على "أن يغلبوا".
"فيتعللوا": قيل: هو جواب الاستفهام، والظاهر أنه عطف على "يماتنهم"، أي: استنكفوا أن يطلبوا بالمماتنة، فيتعللا فيها بامتناع المشيئة، لأنهم ما كانوا مستنكفين عن مجرد المماتنة، فكيف ودأبهم المفاخرة والمساجلة، ورثوها كابراً عن كابر؟ كما قال:"إن أتاهم أحد بمفخرة أتوه بمفاخر، وإن رماهم بمأثرة رموه بمآثر"، حتى نزل فيهم:(أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ *حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ)[التكاثر: 1 - 2].
قوله: (أن يماتنهم)، الأساس:"في رأيه متانة، وماتنه في الشعر: عارضه، وتماتناً، وتعال أماتنك أينا أمتن شعراً، وبينهما مماتنة: معارضة في كل أمر ومباراة".
ومع ما علم وظهر ظهور الشمس من حرصهم على أن يقهروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهالكهم على أن يغمروه!
وقيل: قائله النضر بن الحرث المقتول صبراً، حين سمع اقتصاص الله أحاديث القرون: لو شئت لقلت مثل هذا. وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وإسفنديار، فزعم أن هذا مثل ذاك، وأنه من جملة تلك الأساطير، وهو القائل:(إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) وهذا أسلوب من الجحود بليغ، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (على أن يغمروه)، الجوهري:"الغمر: الماء الكثير، وقد غمره الماء يغمره، أي: علاه، ومنه قيل للرجل: غمره القوم: إذا علوه شرفاً".
قوله: (المقتول صبراً)، الجوهري:"يقال: قُتل فلان صبراً، وحلف صبراً: إذا حُبس على القتل حتى يُقتل، أو على اليمين حتى يحلف". قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث صبراً، وكان يتأذى منه، قال المرزوقي:[قالت] قتيلة ابنته لما جاءت إلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنشدته أبياتاً منها:
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
…
لله أرام هناك تشقق
أمحمد ولأنت نجل نجيبة
…
من قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
…
من الفتى وهو المغيظ المحنق
فالنضر أقرب من أصبت وسيلة
…
وأحقهم إن كان عتق يعتق
فرق لها النبي صلى الله عليه وسلم وبكى، وقال:"لو جئتني من قبل لعفوت عنه"، ثم قال:"لا يُقتل قرشي بعد هذا صبراً".
قوله: (أسلوب من الجحود بليغ): وهو من أسلوب قوله تعالى: (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا)[البقرة: 23]، والكلام مع المرتابين، وهذا لا يُصار إليه إلا فيما ظهر خلافه ظهوراً
يعني: إن كان القرآن هو الحق، فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. ومراده: نفى كونه حقاً، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذاباً فكان تعليق العذاب بكونه حقا مع اعتقاد أنه ليس بحق، كتعليقه بالمحال في قولك: إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة.
وقوله: (هُوَ الْحَقَّ) تهكم بما يقول على سبيل التخصيص والتعيين: هذا هو الحق. وقرأ الأعمش: "هو الحق" بالرفع، على أن (هُوَ) مبتدأ غير فصل، و (هو) في القراءة الأولى فصل.
ويقال: أمطرت السماء؛ كقولك: أثجمت وأسبلت،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جلياً، فيفرض كما تفرض المحالات، وإليه الإشارة بقوله:"إن كان الباطل حقاً فأمطر علينا حجارة"، فهو من الكناية الإيمائية، ولهذا قال:"وإذا انتفى كونه حقاً لم يستوجب منكره عذاباً".
قوله: (على سبيل التخصيص والتعيين): أما التخصيص فمن تعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل، وأما التعيين فمن اسم الإشارة، كقوله:
هذا أبو الصقر فرداً في محاسنه
قوله: (أثجمت)، الجوهري:"أثجم المطر: إذا كثر ودام"، و"أسبل: إذا هطل"، و"هتن المطر
ومطرت؛ كقولك: هتنت وهتلت، وقد كثر الأمطار في معنى العذاب.
فإن قلت: ما فائدة قوله: (مِنَ السَّماءِ)، والأمطار لا يكون إلا منها؟ قلت: كأنه أريد أن يقال: فأمطر علينا السجيل، وهي الحجارة المسوّمة للعذاب، فوضع (حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) موضع السجيل، كما تقول: صب عليه مسرودة من حديد، تريد درعاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يهتن هتناً وهتوناً وتهتاناً: قطر، والتهتان: مطر ساعة يفتر ثم يعود"، وكذلك التهتال.
قوله: (موضع السجيل): أي: وُضع هذا اللفظ موضع ذلك اللفظ؛ زيادة للبيان وتصويراً للمسمى، كما يعبر عن الشيء بمعناه، فتقول في الكناية عن الإنسان: حي مستوى القامة عريض الأظفار. وأصل الكلام: فأمطر علينا السجيل، وهي الحجارة المسومة للعذاب المنزلة من السماء، فوضع قوله:(حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ) موضعه. قال في قوله تعالى: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ)[القمر: 13]: "أراد السفينة، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها، وتؤدي مؤداها، بحيث لا يفصل بينها وبينها"، فلا يكون هذا استعارة كما ظُن، فضلاً عن أن يكون تجريداً لها، ولكن لفظة (فَأَمْطِرْ) مستعارة لـ "أنزل"، سواء قلت: حجارة من السماء أو سجيلاً، لأنها لا تستعمل حقيقة إلا في الغيث.
قوله: (صب عليه مسرودة): سرد الدرع نسجها، وهو أن يداخل الحلق بعضها في بعض، والمسرودة: الدرع المثقوبة، وكذا لا فرق بين قولك:"مسرودة من حديد"، وبين قولك:"درعاً"، إلا ما سبق.
(بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي: بنوع آخر من جنس العذاب الأليم، يعنى أن أمطار السجيل بعض العذاب الأليم، فعذبنا به أو بنوع آخر من أنواعه.
وعن معاوية: أنه قال لرجل من سََبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق: إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً، ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فأهدنا له.
اللام لتأكيد النفي، والدلالة على أنّ تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة، لأن عادة الله وقضية حكمته أن لا يعذب قوما عذاب استئصال ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال صاحب "التخمير": "اعلم أن الموصوف في مثل قوله: "وعليهما مسرودتان قضاهما داود"، وفي قوله تعالى: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ) [الصافات: 48] مطروح، والجمع بينه وبين هذه الصفة قبيح؛ إذ لو قلت: عليهما درعان مسرودتان قضاهما داود، كان مستقبحاً، لأنه من المعلوم أن "مسرودتين قضاهما داود" لا يكونان إلا درعين، وأن "قاصرات الطرف عين" لم يكن إلا حوراً".
قوله: (أي: بنوع آخر من جنس العذاب الأليم): يعني: عطف (أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) على (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ) عطف الجنس على النوع، فخص بالعطف الجنس، فتناول بعضاً آخر عن ما سبق، أي: ائتنا بعذاب أليم سواه، فهذا من باب عطف العام الذي خُص بالعطف.
ما دام نبيهم بين أظهرهم، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم، والدليل على هذا الإشعار قوله:(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) وإنما يصح هذا بعد إثبات التعذيب، كأنه قال: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وهو معذبهم إذا فارقتهم، وما لهم أن لا يعذبهم.
(وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) في موضع الحال، ومعناه: نفى الاستغفار عنهم، أي: ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم، كقوله:(وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)[هود: 117]، ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون، ولا يتوقع ذلك منهم.
وقيل: معناه: وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرّهم ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومعناه: نفي الاستغفار عنهم): يعني: ليست هذه القرينة كالقرينة الأولى إلا في انتفاء العذاب لوجود الاستغفار، كانتفائه لوجود الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، لاقترانها بها؛ إذ المعنى: استحقاق العذاب يدل على عدم الاستغفار، إذ لو استغفروه ما استحقوه، وهو نوع من الكناية. ونظيره:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[هود: 117]، يعني: إهلاكهم دليل على إفسادهم، إذ لو أصلحوا ما أهلكهم، لأن الله ليس بظلام للعبيد.
انظر إلى مرتبة الاستغفار وعظم موقعه، كيف قُرن حصوله مع وجود سيد البشر في استدفاع البلاء؟
روينا عن أبي داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب".
قوله: (وقيل: معناه): هذا الوجه أبلغ من الأول؛ لما دل على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال أولئك الكفرة.
(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ): وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم؟ يعنى:
لاحظّ لهم في ذلك، وهم معذبون لا محالة، وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدّون عن المسجد الحرام، كما صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية؟ ! وإخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ، وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم، فنصدّ من نشاء، وندخل من نشاء.
(وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ): وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمره وأربابه، (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) من المسلمين، ليس كل مسلم أيضاً ممن يصلح لأن يلي أمره، إنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام؟ ! (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة، أو أراد بالأكثر: الجميع، كما يراد بالقلة: العدم.
[(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) 35]
المكاء: فعال، بوزن الثغاء والرغاء، من: مكا يمكو: إذا صفر، ومنه المكاء، كأنه سمي بذلك لكثرة مكائه، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (وإخراجُهم): مبتدأ، والخبر "من الصد"، قيل: هو عطف على "كما صدوا" من حيث المعنى، والظاهر أنه جملة مستطردة، يعني: أنهم كانوا يصدون صداً حقيقياً وغير حقيقي، لأن إخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة حين هاجر ملحق بالصد.
قوله: (ليس كل مسلم ممن يصلح): يعني: في تخصيص ذكر "المتقين"، والعدول إلى "المؤمنين": إشارة إلى الإيغال والمبالغة.
قوله: (ومنه المُكاء)، الجوهري:"المُكاء - بالمد والتشديد- طائر، والجمع: المكاكي، وبالتخفيف: الصفير".
وأصله الصفة، نحو: الوضاء والفراء، وقرئ:"مكا" بالقصر، ونظيرهما: البكى والبكاء.
والتصدية: التصفيق؛ تفعلة من الصدى، أو من: صدَّ يصدّ، بمعنى: صاح (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)[الزخرف: 57]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والقراء): أي: المتنسكون. الأساس: "قارئ وقراء: ناسك، أي: عابد". الجوهري: "وقد تقرأ: تنسك، والجمع القراؤون".
قوله: (البُكى والبُكاء)، الجوهري:"إذا مددت أردت الصوت مع البكاء، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها".
قوله: (تفعلة من الصدى)، الراغب:"الصدى: صوت يرجع من كل مكان صقيل، والتصدية: كل صوت يجري مجرى الصدى في أن لا غناء فيه. وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) أي غناء ما يوردونه غناء الصدى ومكاء الطير".
قوله: (أو من: صد يصد)، الجوهري: صد يصد- بالضم والكسر - ضج، فالتصدية على هذا من إبدال أحد حرفي التضعيف، كقولهم: تقضي البازي، ووجه ربط هذه الآية هو أنه تعالى لما علل التعذيب بقوله:(يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)[الأنفال: 34]، عطف
وقرأ الأعمش: "وما كان صلاتهم"، بالنصب على تقديم خبر (كان) على اسمه. فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قوله:
وَمَا كُنْتُ أخْشَى أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ
…
أدَاهِمَ سُوداً أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا
والمعنى: أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة؛ .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) على (وَهُمْ يَصُدُّونَ) لأنه نوع من الصد، وقوله:(إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ) معترضة، وقوله:(وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) يجوز أن يتعلق بالمعترضة وبما قبلها.
قوله: (على تقديم خبر (كان) على اسمه): فيلزم أن يكون الخبر معرفة والاسم نكرة، ذهب صاحب "المفتاح" إلى أنه من باب القلب، وقال ابن جني:"إن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، فإنك لو قلت: خرجت فإذا أسد بالباب، أو: إذا الأسد بالباب، لم تجد الفرق بينهما، لأنك لا تريد بالصورتين أسداً معيناً، فكأنه تعالى قال: ما كان صلاتهم عند البيت إلا المُكاء والتصدية، أي: هذا الجنس نم الفعل، ولم يجر هذا مجرى: كان قائم أخاك، وكان جالس أباك، لأنه ليس في "قائم" و"جالس" معنى الجنسية التي تلاقي معيناً نكرتها ومعرفتها على ما قدمناه".
قوله: (وما كنت أخشى): "أخشى"، أي: أعلم، و"أداهم": جمع أدهم، وهو القيد، و"المحدرجة" بالحاء المهملة: السياط المفتولة من الجلود، "يُقال: حدرجه، أي: فتله وأحكمه". كذا ذكره الجوهري.
قوله: (وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة): وهو من أسلوب قولهم في التهكم:
الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ في صلاته يخلطون عليه.
(فَذُوقُوا) عذاب القتل والأسر يوم بدر، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة.
[(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ* لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) 36 - 37]
قيل: نزلت في المطعمين يوم بدر، كان يطعم كل واحد منهم كلّ يوم عشر جزائر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحية بينهم ضرب وجيع
قوله: (وهم مشبكون بين أصابعهم): الأصمعي: قلت لمنتجع بن نبهان: ما يكون؟ فشبك بين أصابعه، ثم وضعها على فمه ونفخ.
قوله: (عشر جزائر)، النهاية:"الجزور: البعير ذكراً كان أو أنثى، إلا أن اللفظ مؤنثة، تقول: هذه الجزور، وإن أردت ذكراً. والجمع: جزر وجزائر".
وقيل: قالوا لكل من كان له تجارة في العير: أعينوا بهذا المال على حرب محمد، لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصيب منا ببدر، وقيل: نزلت في أبى سفيان، وقد استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية، والأوقية: اثنان وأربعون مثقالا.
(لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي كان غرضهم في الإنفاق الصدّ عن أتباع محمد، وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك، (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة، فكأنّ ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة، (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) آخر الأمر، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (الأحابيش)، الأساس:"هم فرق مختلفة من قبائل شتى حلفاء لقريش، تحالفوا عند جبل يسمى: حبيشاً، ويقال: عندي أحبوش منهم، أي: جماعة".
قوله: (وإن لم يكن عندهم كذلك): يعني: قيل: (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، وإن لم يكونوا يعتقدون أن الذي يحاولونه صد عن سبيل الله، بل اعتقدوا أنه صد عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وفائدته التنبيه على غباوتهم وجهلهم، يعني: صدهم عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم هو صد عن سبيل الله، وأنهم غافلون عنه، واللام في (ليَصُدُّوا) لام الصيرورة.
قوله: (فكأن ذاتها): يعني: الظاهر أن يُقال: ثم تكون عاقبة إنفاقها حسرة، فأنث الفعل ليعود الراجع إلى الأموال، فتصير نفس الأموال حسرة، مبالغة.
قوله: (وتنقلب حسرة): أي: الأموال أو النفقة، وتحقيق المعنى أن قوله:(فَسَيُنفِقُونَهَا) جواب عما تتضمنه الموصولة مع صلتها من معنى الشرط، كما في قوله تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ)[البروج: 10].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و(يُنفِقُونَ) إما حال أو بدل من (كَفَرُوا) أو عطف بيان، وفي تضمن الجزاء من معنى الإعلام والإخبار: التوبيخ على الإنفاق والإنكار عليه، كما في قوله:(وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ)[النحل: 53]، وفي تكرير الإنفاق في الشرط والجزاء: الدلالة على كمال سوء الإنفاق، كما في قوله تعالى:(إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ)[آل عمران: 192]، وقوله: من أدر الصمان فقد أدرك المرعى.
وتلخيص المعنى: أن الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله، والصد عن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسيعلمون عن قريب سوء مغبة تلك الإنفاق وانقلابها إلى حسرة ما أبعدها من الحسرات، ثم المآل إلى القتل والأسر في الدنيا، والخزي والنكال في العقبى ما أفصحها من آية!
قال القاضي: "الأول: إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال وهو إنفاق بدر، والثاني: إخبار عن إنفاقهم فيما يستقبل وهو إنفاق أحد، ويحتمل أن يراد بالإنفاقين واحد، على أن مساق الإنفاق الأول لبيان غرض الإنفاق، ومساق الثاني لبيان عاقبته". وقال الإمام في معنى قوله تعالى: (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً): "سيقع هذا الإنفاق وتكون عاقبته الخسران والحسرة، لأنه يُذهب المال، ولا يحصل المقصود، بل يصيرون مغلوبين في آخر الأمر".
وإن كانت الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالاً قبل ذلك، فيرجعون طلقاء، (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة: 21]، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا): والكافرون منهم (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) لأنّ منهم من أسلم وحسن إسلامه.
(لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ) الفريق الخبيث من الكفار (مِنَ) الفريق (الطَّيِّبِ) من المؤمنين، فيجعل الفريق (الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) عبارة عن الجمع والضم، حتى يتراكبوا، كقوله:(كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً)[الجن: 19]، يعنى: لفرط ازدحامهم (أُولئِكَ) إشارة إلى الفريق الخبيث.
وقيل: ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون، كأبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في نصرته، (فَيَرْكُمَهُ) فيجعله (في جهنم): في جملة ما يعذّبون به، كقوله:(فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ) الآية [التوبة: 35]، واللام على هذا متعلقة بقوله:(ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)، وعلى الأوّل بـ (يحشرون)، و (أولئك) إشارة إلى (والذين كفروا).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (سجالاً)، النهاية:"هو من قول أبي سفيان: "والحرب بيننا سجال"، أي: مرة لنا ومرة علينا".
قوله: (فيرجعون طلقاء)، النهاية:"واحده: طليقن فعيل بمعنى: مفعول، وهو الأسير إذا أطلق سبيله"، والطلقاء: هم الذين خُلي عنهم يوم فتح مكة.
قوله: (واللام على هذا متعلقة بقوله: (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)، وعلى الأول بـ (يُحْشَرُونَ)): وذلك أن الخبيث والطيب على الأول وصف الأشخاص، فالمناسب أن يكون المعلل ما يُعلم من قوله:(إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)، والمشار إليه بقوله:
وقرئ: (ليميز) على التخفيف.
[(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) 38]
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من أبى سفيان وأصحابه، أي: قل لأجلهم هذا القول، وهو (إِنْ يَنْتَهُوا)، ولو كان بمعنى: خاطبهم به، لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود، ونحوه:
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءامَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ)[الأحقاب: 11]، خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه، أي إن ينتهوا عمَّاهم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله؛ بالدخول في الإسلام (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) لهم من العداوة، (وَإِنْ يَعُودُوا) لقتاله، (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(أُوْلَئِكَ): الفريق الخبيث، ولذلك قال:"ليميز الله الفريق الخبيث"، والفريق الخبيث: هم الخاسرون. وعلى الثاني: المراد من الخبيث والطيب: المال، فالمناسب أن يكون المعلل قوله:(ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)، لأن الضمير فيه للأموال، وليس إذن المشار إليه القريب سوى قوله:(َالَّذِينَ كَفَرُوا)، والظاهر أن يكون تعليلاً لـ (يُحْشَرُونَ) فيدخل فيه أيضاً معنى الحسرة، وذلك أنه تعالى لما بين أن إنفاقهم في الصد، أثمر لهم الحسرة والمغلوبية في الدنيا، ضم إليهما حُكم ما يلحقهم في الآخرة، فعطف جملة قوله:(وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) على جملة قوله: (يُغْلَبُونَ) يعني: في العاقبة يغلبون جميعاً، ثم بعضهم يسلمون وبعضهم يموتون على الكفر، أي: بعض الذين أنفقوا ليصدوا عن سبيل الله، ويحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب مطلقاً.
ومعنى (أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ): أولئك هم المخصوصون بالخسران الكامل، حيث خسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
قوله: (وقرئ: (ليميز) على التخفيف): كلهم إلا حمزة والكسائي.
منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر، أو: فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم فدمّروا، فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا.
وقيل: معناه: أنّ الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف لهم من الكفر والمعاصي، وخرجوا منها، كما تنسلّ الشعرة من العجين، ومنه قوله عليه والسلام:"الإسلام يجب ما قبله"، وقالوا: الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعة قط، وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله تعالى، وتبقى عليه حقوق الآدميين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: معناه: أن الكفار إذا انتهوا): عطف على قوله: " (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) من أبي سفيان وأصحابه"، والقول الأول تهديد لكفار قريش المرادين بقوله:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ) وهو نفقتهم يوم أحد، والموصولة مع صلتها مُظهر وُضع موضع المضمر، وهو على وجهين:
أحدهما: أن يحمل التعريف في الأولين على العهد، وهو المراد من قوله:"الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر"، أو على الجنس ليدخلوا فيه دخولاً أولياً، وهو الذي أراده بقوله:"أو الذين تحزبوا على أنبيائهم".
والقول الثاني- أي: قوله: "وقيل: معناه الكفار"- ترغيب في الدخول في الإيمان وحث عليه، وهي عامة. ومعناه ما قاله الإمام: إذا انتهوا عن الكفر لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، وإن عادوا إلى الكفر فقد رجع التسلط والقهر.
وقلت: على هذا لا يحسن التقابل بين قوله: (إِنْ يَنتَهُوا) وبين قوله: (وَإِنْ يَعُودُوا) حسنه في الوجه الأول؛ لأن التقابل الظاهر: إن ينتهوا عن الكفر يكون كذا، وإن لم ينتهوا - أي: داموا عليه - يكون كذا، لأن العود الرجوع إلى ما كان.
قوله: (الإسلام يجب ما قبله): روينا عن مسلم عن عمرو بن العاص: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم
وبه احتجّ أبو حنيفة رضي الله عنه في أنّ المرتدَّ إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردّة وقبلها، وفسر (وَإِنْ يَعُودُوا) بالارتداد.
وقرئ: "يُغْفَرْ لَهُمْ"، على أن الضمير لله عز وجل.
[(وَقتِلُوهُم حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) 39 - 40]
(وَقتِلوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ): إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط، (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ): ويضمحل عنهم كل دين باطل، ويبقى فيهم دين الإسلام وحده، (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر وأسلموا (فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يثيبهم على توبتهم وإسلامهم.
وقرئ: "تعملون" بالتاء، فيكون المعنى: فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله، والدعوة إلى دينه، والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقلت: ابسُط يمينك لأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، فقال:"ما لك يا عمرو؟ ! " قلت: أردت أن أشترط، قال:"تشترط ماذا؟ " قال: قلتُ: أن يُغفر لي، قال:"أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله"، الحديث.
قوله: "يجب" أي: يقطع. الجوهري: "المجبوب: المقطوع".
قوله: (وقُرئ: تعملون) بالتاء الفوقانية في الشذوذ، والمعنى على هذه القراءة: قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، فإن انتهوا عن الشرك، فإن الله يجازيكم بما تعملون من الجهاد في سبيله، فإن لم ينتهوا وتولوا فلا تتوانوا في الجهاد، لأن الله ناصركم ومعينكم.
وعلى المشهورة: فإن انتهوا فإن الله يثيبهم على توبتهم وإسلامهم، وإن لم ينتهوا فإن الله ينصر أعداءهم عليهم، وهم أولياء الدين، حتى يقهروهم.
(بَصِيرٌ) يجازيكم عليه أحسن الجزاء.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا) ولم ينتهوا، (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلكُمْ) أي: ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته.
[(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى والْيَتَامَى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) 41]
(أَنَّما غَنِمْتُمْ): "ما" موصولة، (ومِنْ شَيْءٍ) بيانه، قيل: من شيء حتى الخيط والمخيط، (فَأَنَّ لِلَّهِ) مبتدأ خبره محذوف، تقديره: فحق-، أو: فواجب- أن الله خمسه، وروى الجعفي عن أبى عمرو:"فإن الله" بالكسر، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واعلم أن هذه خاتمة شريفة في أمر الجهاد، ولذلك كانت تخلصاً إلى ذكر ما بُدئت السورة به من حديث الغنائم وقسمتها.
قوله: (ما: موصولة، و (مِنْ شَيْءٍ) بيانه): قال أبو البقاء: "ما" بمعنى "الذي"، والعائد محذوف، و (مِنْ شَيْءٍ) حال من المحذوف، أي: ما غنمتموه قليلاً وكثيراً".
قوله ((فَإِنَّ لِلَّهِ) مبتدأ، خبره محذوف): قال أبو البقاء: "الفاء دخلت في خبر "ما" بمعنى: الذي، لما فيها من معنى المجازاة، و"أن" وما عملت فيه في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف، أي: فالحكم أن لله خمسه، وقيل: ويجوز أن تكون "ما" مصدرية، والمصدر بمعنى المفعول، أي: واعلموا أن غنيمتكم، أي: مغنومكم".
قوله: ("فإن لله" بالكسر): في "فإن"، قال أبو البقاء:"فعلى هذا تكون "إنَّ" وما عملت فيه مبتدأ وخبراً، في موضع خبر المبتدأ".
ويقويه قراءة النخعي: "فلله خمسه". والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب، كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه، لا سبيل إلى الإخلال به والتفريط فيه، من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات، كقولك: ثابت، واجب، حق لازم، وما أشبه ذلك، كان أقوى لإيجابه من النص على واحد. وقرئ: "خمسه بالسكون.
فإن قلت: كيف قسمة الخمس؟ قلت: عند أبي حنيفة رضي الله عنه: أنها كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي قرباء من بني هاشم وبني المطلب، دون بني عبد شمس وبني نوفل، استحقوه حينئذ بالنصرة والمظاهرة، لما روى عن عثمان وجبير بن مطعم: أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
"هؤلاء إخوتك بنو هاشم، لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة! "، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إذا حُذف الخبر واحتمل غير واحد) إلى قوله: (كان أقوى لإيجابه من النص على واحد): قال صاحب "التقريب": هذا مُعارض بلزوم الإجمال. والجواب: إن أريد بالإجمال ما يحتمل الواجب والندب والإباحة فالمقام يأبى إلا الوجوب، وإن أريد به ما ذكره من قوله:"واجبن حق، لازم، ثابت"، فالتعميم يوجب التفخيم والتهويل من شدتها.
قوله: (لما رُوي عن عثمان رضي الله عنه وجبير) الحديث: أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه مع اختلاف فيه.
قوله: (وإنما نحن وهُم بمنزلة واحدة): وذلك أن هاشماً والمطلب وعبد شمس ونوفلاً
فقال عليه السلام: "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد"، وشبك بين أصابعه. وثلاثة أسهم: لليتامى والمساكين وابن السبيل.
وأمّا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسهمه ساقط بموته، وكذلك سهم ذوى القربى، وإنما يعطون لفقرهم، فهم أسوة سائر الفقراء، ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل.
وأمّا عند الشافعي رحمه الله: فيقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين، كعدّة الغزاة من السلاح ونحو ذلك، وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم، يقسم بينهم الذكر مثل حظ الأنثيين، والباقي للفرق الثلاث.
وعند مالك ابن أنس رحمه الله: الأمر فيه مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين هؤلاء، وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم. فإن قلت: ما معنى ذكر الله عز وجل وعطف الرسول وغيره عليه؟ قلت: يحتمل أن يكون معنى (لله
…
وللرسول):
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
أولادُ عبد مناف، ونسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء تنتهي إلى عبد مناف؛ هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، صلوات الله وسلامه عليه، وأما عثمان رضي الله عنه: فهو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأما جُبير: فهو ابن مطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف.
قوله: (من الكُراع): أي: الخيل. الأساس: "ومن المجاز: احبس في سبيل الله الكراع، أي: الخيل".
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة: 62]، وأن يراد بذكره: إيجاب سهم سادس يصرف إلى وجه من وجوه القرب، وأن يراد بقوله:(فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ): أن من حق الخمس أن يكون متقرّبا به إليه لا غير. ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة؛ تفضيلاً لها على غيرها، كقوله تعالى (وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة: 98].
فعلى الاحتمال الأول: مذهب الإمامين، وعلى الثاني: ما قال أبو العالية: أنه يقسم على ستة أسهم: سهم لله تعالى ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إن من حق الخمس أن يكون متقرباً به إليه لا غير): الفرق بين هذا الوجه والثاني: أن على الثاني الأصل إيجاب التسوية بين هؤلاء المذكورين وبين حق الله، وعلى هذا لا تجب المساواة؛ لأن الخمس ثابت لله، وهؤلاء اختصوا بالذكر لمزيد الشرف، فالمصالح هي التي أوجب لهم ذلك، فيقسم عليهم وعلى غيرهم بالاجتهاد.
قال الزجاج: "مذهب مالك في هذا الخُمس أنه إنما ذكر هؤلاء لأنه من أهم من هو يدفع إليهم، فيجيز أن يُقسم بينهم، ويجيز أن يعطي بعضاً دون بعض، ويُجيز أن يخرجهم من القسم إن كان أمر غيرهم أهم من أمرهم. وحجته أن ذكر هؤلاء إنما وقع للخصوص، كقوله تعالى: (وَمَلائِكَتُهُ
…
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) [البقرة: 98]، فذكرهما لخصوصهما، ومنه قوله تعالى:(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)[البقرة: 215]، فللرجل أن ينفق في البر على هذه الأصناف كيف شاء".
قال في "الانتصاف": "الأمر فيه موكول عند مالك إلى رأي الإمام يصرفه في مصالح المسلمين، والآية مطابقة له، والمراد منها بيان أن الخمس مصروف في وجوه القربات لله تعالىن وتخصيص ما ذُكر تنبيه على فضله".
يُصرف إلى رتاج الكعبة، وعنه:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الخمس، فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه قبضة، فيجعلها للكعبة وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة". وقيل: إن سهم الله تعالى لبيت المال، وعلى الثالث: مذهب مالك بن أنس.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنه كان على ستة: لله وللرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض، فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة، وكذلك روى عن عمر ومن بعده من الخلفاء.
وروى: أنّ أبا بكر رضي الله عنه منع بني هاشم الخمس، وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم، ويزوّج أيمكم، ويخدم من لا خادم له منكم، فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنىّ، لا يعطى من الصدقة شيئا، ولا يتيم موسر ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إلى رتاج الكعبة)، الجوهري:"الرتج - بالتحريك - الباب العظيم، وكذلك الرتاج، ومنه: رتاج الكعبة". النهاية: "جعل ماله في رتاج الكعبة، أي: لها، فكُني عنها بالباب، لأن منه يُدخل إليها"، وقيل: يُصرف إلى مصالح الكعبة من السدنة وغيرهم.
قوله: (فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل): يريد: أن "ذا القربى" في الآية، وإن كان مطلقاً ظاهراً، لكنه مقيد بقيد الفقر والاحتياج، لأنه مقترن بما يشترط فيه ذلك، لأن ابن السبيل إنما يُعطى لانقطاعه عن ماله، و"اليتامى" و"المساكين" على هذا عطف.
قوله: (ولا يتيم موسر): عطفٌ على الضمير المرفوع في قوله: "لا يُعطى من الصدقة شيئاً"، وإنما عُطف من غير تأكيد للفصل.
وعن زيد بن علي رضي الله عنه كذلك، قال:" ليس لنا أن نبنى منه قصوراً، ولا أن نركب منه البراذين".
وقيل: الخمس كله للقرابة، وعن على رضي الله عنه أنه قيل له: إنّ الله تعالى قال: (وَالْيَتمى وَالْمَسكِينِ)؟ فقال: أيتامنا ومساكيننا.
وعن الحسن في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لولي الأمر من بعده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال محيي السنة: "الكتاب ثم السنة يدلان على ثبوته للأغنياء منهم، والخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه، ولا يُفضل فقير على غني، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطى العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله، والشافعي ألحقه بالميراث الذي يُستحق باسم القرابة، فيعطى الرجل سهمين، والأنثى سهماً واحداً".
وقلت: وأما دلالة الكتاب: فلأنه تعالى عطف "ذا القربى" على الرسول صلى الله عليه وسلم مُطلقاً من غير تقييد بالفقر، وأما "ابن السبيل واليتامى والمساكين" فمخصوص بالدليل، ولا يبعد أن يُجعل الاستحقاق بحسب مفهوم الألفاظ الخمسة.
وفي التنزيل من الأعلى إلى الأدنى: التنبيه على الاستحقاق بحسب الأولوية، وعلى أن المقصود من ذكر الله تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذهب إليه الإمامان الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما، وأن العلة في الاستحقاق كونه ذا القربى، لا الاحتياج والفقر.
قوله: (البراذين): البرذون من الدابة: خلاف الجواد، الأساس: "وبرذن الجواد: صار برذوناً، قال القلاخ:
لله در جياد أنت سائسها
…
برذنتها وبها التحجيل والغرر
وعن الكلبي: أنّ الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام؛ للنصف من شوال، على رأس عشرين شهراً من الهجرة.
فإن قلت: بم تعلق قوله: (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ)؟ قلت: بمحذوف يدل عليه (وَاعْلَمُوا)، المعنى: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم، واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم: المجرّد، ولكنه العلم المضمن بالعمل، والطاعة لأمر الله؛ لأنّ العلم المجرّد يستوي فيه المؤمن والكافر.
(وَما أَنْزَلْنا) معطوف على (بِاللَّهِ) أي: إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل (عَلى عَبْدِنا)، وقرئ "عبدنا" كقوله:"وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ"[المائدة: 60] بضمتين.
(يَوْمَ الْفُرْقانِ): يوم بدر، و (الْجَمْعانِ): الفريقان من المسلمين والكافرين، والمراد: ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ، (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ): يقدر على أن ينصر القليل على الكثير، والذليل على العزيز، كما فعل بكم ذلك اليوم ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بم تعلق قوله: (إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ)؟ ) يعني: ما جزاؤه.
ولما كان في هذا الشرط - المُذيل به الكلام السابق - التأكيد؛ لما فيه من التكرير، وضُم معه قيد الإيمان: كان المراد من العلم العمل، وهو قطع الطمع بالكلية عن الخمس، والاقتناع بالأخماس الباقية.
قوله: (وقرئ: "عُبدنا") بالضم، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قوله: (من الآيات والملائكة والفتح): يعني: لم يذكر مفعول "ما أنزل" ليشمل جميع ما يُناسب أن ينزل في ذلك المقام، ثم "الآيات" في قول المصنف أيضاً مطلقة، فيجوز أن يُراد بها ما ذهب إليه محيي السنة، قال:"وما أنزلنا على عبدنا؛ يعني قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ)، ويجوز أن يُراد بها الآيات الدالة على القدرة الباهرة، ويكون عطف "الملائكة
[(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) 42]
(إِذْ) بدل من (يوم الفرقان)، والعدوة: شط الوادي، بالكسر والضم والفتح، وقرئ بهنّ وبـ" العدية"، على قلب الواو ياء، لأنّ بينها وبين الكسرة حاجزاً غير حصين كما في الصبية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والفتح" من باب عطف (وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) على (وَمَلائِكَتِهِ) [البقرة: 98]، والذي يُشعر بالثاني قوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وقراءة من قرأ: "عبدنا"، بالجمع.
وفي إبدال (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) من (يَوْمَ الْفُرْقَانِ) معنى التتميم، وأن المراد بالآيات القدرة، وفيه تصوير تلك الحالة الدالة على ضعف أحد الفريقين وقوة الآخر، وغلبة الضعيف على القوي بما أنزل الله من أسباب الفتح والنصرة، ولو قيل يوم بدر، لم يفد هذا المعنى، والذي يدل على التصوير إبدال قوله:(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا)[الأنفال: 42] ثم إبدال (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ)[الأنفال: 44].
قوله: (وقرئ بهن): ابن كثير وأبو عمرو: بالكسر، والباقون: بالضم، والفتح: شاذ، وكذلك "العدية" بالياء.
قوله: (غير حصين): يعني: بين الواو وبين الكسر وقع الدال، وهو ساكن، مانع غير قوي، نحو الباء الساكنة في "الصبية"، لأنها حاجزة غير حصين بين الكسرة والواو.
و (الدنيا) و (القصوى): تأنيث "الأدنى" والأقصى". فإن قلت: كلتاهما "فعلى" من بنات الواو، فلم جاءت إحداهما بالياء، والثانية بالواو؟ قلت: القياس هو قلب الواو ياء كـ "العليا"، وأما (القصوى) فكـ "القود" في مجيئه على الأصل، وقد جاء "القصيا"، إلا أنّ استعمال "القصوى "أكثر، كما كثر استعمال "استصوب" مع مجيء "استصاب"، و"أغيلت" مع "أغالت"، والعدوة الدنيا: مما يلي المدينة، والقصوى: مما يلي مكة.
(وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) يعنى الركب الأربعين الذين كانوا يقودون العير أسفل منكم بالساحل. و (أسفل) نصب على الظرف، معناه: مكانا أسفل من مكانكم، وهو مرفوع المحل، لأنه خبر المبتدأ ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (القياس هو قلب الواو ياء كـ"العُليا"). فإن قلت: لا شك في وقوع (الدُّنْيَا) و (الْقُصْوَى) في الآية صفتين، لـ "العُدْوة"، فكيف الجمعُ بين هذا القول وبين ما في "المُفصَّل":"وفُعْلى: تُقلب واوها ياء [في الاسم] دون الصفة، فالاسم نحو: الدنيا والعليا والقضيا، وقد شذ: القصوى وحُزوى، والصفة قولك - إذا بنيت "فُعلى" من غزوت غُزوى"، صفة من (أفعلُ -فُعلى) لا يكاد يستعمل اسماً.
قلت: ذكر ابن جني: وإنما ذكر هذه- يعني: "الدنيا" و"القُضيا" - في موضع الأسماء، وأنَّ أصلها الصفة، فإن معنى "الدنيا" الدانية القريبة، و"القضيا" القاصية البعيدة، و"العُليا" بمعنى العالية، لأنها الآن قد ذُهبت بها مذهب السماء بتركهم إجراءها وصفاً في أكثر الأمر، واستعمالهم إياها استعمال الأسماء.
قوله: (كـ"القود"): يعني: القياس أن تُقلب واوها ألفاً كأشباهه، فتركوه على ما كان، كذلك "القصوى".
فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين، وأن العير كانت أسفل منهم؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته، وتكامل عدّته، وتمهد أسباب الغلبة له،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما فائدة هذا التوقيت؟ ): أي: التعيين، يعني: حق الإخبار عن الشيء ألا يكون عند المخاطب، وكل هذه الأمور المذكورة كانت معلومة معينة، فما الفائدة في الذكر؟
وخلاصة الجواب: أن بعض الأخبار المُراد منه لازم الفائدة، وتخصيصه باقتضاء المقام، والمقام هاهنا بيان قدرة الله وتصوير صنعه العجيب الشأن، وهو نصرة الضعيف القليل مع فقدان الأسباب على القوى الكثير مع تهيؤ الأسباب، ولا يحصل هذا غلا بأن يحكي صورة الواقعة ما هي، لينتقل إلى لازمها.
فإن قلت: فأي فرق بين هذا اللازم وبين ما وقع في كلام صاحب "المفتاح": "وفائدة الخبر لما كانت هي الحكم أو لازم الحكم، وهو أنك تعلم الحكم أيضاً"؟ قلتُ: هذا على مقتضى الظاهر، فإن كلا من الأخبار أيا كان لا ينفك عن الفائدة ولازمها، كما قال:"والأولى بدون هذه تمتنع"، لكن رُبما جُعل ذلك ذريعة إلى التحسر والحرمان كقولها: (إِنِّي وَضَعْتُهَا
وضعف شأن المسلمين، والتياث أمرهم، وأنّ غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله، ودليلاً على أنّ ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوّته وباهر قدرته،
وذلك أنّ العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي خبار تسوخ فيها الأرجل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أُنْثَى) [آل عمران: 36]، أو الامتنان كقوله:(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا)، أو إلى التهديد كقول للجاني: أنت الذي فعلت كذا، أو إظهار التحزن نحو قوله:
أنت الذي كلفتني دُلج السرى
…
وجون القطا بالجلهتين جثوم
قوله: (والتياث أمرهم)، الجوهري:"الالتياث: الاختلاط والالتفاف، يُقال: التاثت الخطوب، والتاث برأس القلم شعرة".
قوله: (وهي خبار)، الجوهري:"هي الأرض الرخوة ذات الجحرة"، فقوله:"تسوخ فيها الرجل ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة" تفسير للخبار.
ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة، وكانت العير وراء ظهور العدوّ مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم. ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم، ليبعثهم الذب عن الحريم، والغيرة على الحرم على بذل جهيداهم في القتال، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم، ولا يخلوا مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدّتهم.
وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر؛ ليقضى أمراً كان مفعولا؛ من إعزاز دينه وإعلاء كلمته، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وتشحذ في المقاتلة)، الجوهري:"شحذت السكين أشحذه شحذاً، أي: حددته، والمشحذ: المسن"، وهو من الاستعارة المكنية أو التبعية.
قوله: (على بذل جهيداهم)، الأساس:"بلغ جهده ومجهوده، أي: طاقته، ولا بلُغن جُهَيداي".
قوله: (منتهى نجدتهم)، الأساس:"نجد الرجل، ورجل نجد ونجيد، أي: شجاع".
قوله: (وفيه تصوير ما دبر الله): قيل: هو عطف على "فيه الإخبار عن الحال"، فيكون الجواب من وجهين. وقلت: بل هي واو الحال، أي: في التوقيت والإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وضعف شأن المسلمين. وفي الإخبار على هذا النهج: إدماج تصوير ما
حتى خرجوا ليأخذوا الغير راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساق، وكان ما كان.
(وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أنتم وأهل مكة، وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال، لخالف بعضكم بعضاً، فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي في ما وفقه الله وسبب له.
(لِيَقْضِيَ) متعلق بمحذوف، أي ليقضى أمراً كان واجباً أن يفعل، وهو نصر أوليائه، وقهر أعدائه، دبر ذلك، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دبره الله تعالى، أي: صوروا في أنفسكم تلك الحالات العجيبة الدال على القدرة الباهرة من فاتحتها إلى خاتمتها، لتعرفوا حسن تدبير الله فيها، في إعلاء كلمته، ونصرة أوليائه، وقهر أعدائه، إلى غير ذلك، وإليه الإشارة بقوله:"وكان ما كان"، وإنما قُلنا: إن الواو للحال دون الإخبار؛ لأن المراد التنبيه والتصوير كما سبق.
قوله: (وشخص بقريش)، الجوهري:"شخص من بلد إلى بلد شخوصاً، أي: ذهب، وأشخصه غيره".
قوله: (أي: ليقضي أمراً كان واجباً أن يُفعل، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه): هذا إن كان بسبب الوعد - كقوله تعالى: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الروم: 47]- فلا نزاع، وإن كان سببه الاستحقاق أو رعاية الأصلح فلا، قال في "مريم" في قوله تعالى:(وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً)[مريم: 21]: "أي: مقدراً مسطوراً في اللوح، لابد من جريه عليك، أو كان
وقوله: (لِيَهْلِكَ) بدل منه، واستعير "الهلاك" و"الحياة" للكفر والإسلام، أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة، لا عن مخالجة شبهة، حتى لا تبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به، وذلك أن ما كان من وقعة بدر من الآيات الغرّ المحجلة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها.
وقرئ: " ليهلك" بفتح اللام، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمراً حقيقاً بأن يكون ويُقضى"، إلى قوله: "وما كان سبباً في قوة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح، فهو جدير بالتكوين".
قوله: ((لِيَهْلِكَ) بدل منه): قال أبو البقاء: " (لِيَهْلِكَ): يجوز أن يكون بدلا ًمن (لِيَقْضِيَ) بإعادة الحرف، وأن يكون متعلقاً بـ "يقضي"، أو بـ (مَفْعُولاً) ".
وقلت: البدل أولى؛ لأن المراد بالحياة الإيمان، وبالهلاك الكفر، وبالبينة إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدامغة، أي: فعلنا ذلك لتظهر حجة من أسلم، ويدحض باطل من كفر، ولا ارتياب في أن هذه المعاني في هذا التركيب أوضح منها في قوله تعالى:(لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً).
قوله: ("لِيَهلَكَ"، بفتح اللام): قال ابن جني في "الأحقاف": "أما "يَهلَكُ" بفتح الياء واللام جميعاً فشاذة مرغوب عنها، لأن ماضيه "هلك" مفتوح العين، ولا يأتي: فعل يفعل، إلا إذا كان حرف الحلق في العين أو اللام، فهو من اللغة المتداخلة".
و (حيي) بإظهار التضعيف.
(لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ): يعلم كيف يدبر أموركم ويسوى مصالحكم، أو:(لسميع عليم) بكفر من كفر وعقابه، وبإيمان من آمن وثوابه.
[(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) 43]
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ) نصبه بإضمار: اذكر، أو: هو بدل ثان من (يوم الفرقان)[الأنفال: 41]، أو متعلق بقوله:(لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 42]، أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك، (فِي مَنامِكَ): في رؤياك، وذلك أن الله عز وجل أراه إياهم في رؤياه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه، فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (و"حيي") أي: وقُرئ: "حيي" بإظهار التضعيف؛ نافع والبزي وأبو بكر، قال أبو البقاء: " (حَيَ) يُقرأ بتشديد الياء، وهو الأصل، لأن الحرفين متماثلان متحركان، مثل: شد ومد، ويُقرأ بالإظهار؛ وفيه وجهان:
أحدهما: أن الماضي حُمل على المستقبل، وهو يحيا، فكما لم يدغم في المستقبل، لم يدغم في الماضي، وليس كذلك: شد ومد، فإنه يدغم فيهما جميعاً.
والثاني: أن حركة الحرفين مختلفة، فالأولى مكسورة، والثانية مفتوحة، واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين، ولذلك أجازوا في الاختيار: لححت عينه، وضبب البلد: إذا كثُر ضبه".
الجوهري: "لححت عينه: إذا لصقت بالرمص، وهو أحد ما جاء على الأصل".
وعن الحسن: (في منامك): في عينك، لأنها مكان النوم، كما قيل للقطيفة؛ المنامة، لأنه ينام فيها. وهذا تفسير فيه تعسف، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن، وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهذا تفسير فيه تعسف، وما أحسب الرواية صحيحة): ورواه محيي السنة عن الحسن أيضاً.
وقال الزجاج: "رُوي عن الحسن: أن معناها: فيعينك التي تنام بها، وكثير من النحويين يذهبون إليه، يعني: (إِذْ يُرِيكَهُمْ) في موضع (مَنَامِكَ)، أي: في عينك، ثم حُذف الموضع، وأقيم المنام مقامه، وهذا حسن، ولكن قد جاء في التفسير: أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم في النوم قليلاً، وقص الرؤيا على أصحابه. وهذا المذهب أسوغ في العربية، لأنه قد جاء (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً)، فدل بهذا على أن هذه الرؤية رؤية الالتقاء، وأن تلك رؤية النوم".
قلت: أراد الزجاج أن هذا الوجه حسن من حيث التأويل، لكن النظم يأباه؛ لأن الآية الثانية داعية إلى المخالفة بين الرؤيتين، فيُقال: إن المخالفة حاصلة، وهي أن الإراءة في الأول
(لَفَشِلْتُمْ): لجبنتم وهبتم الإقدام (ولَتَنَازَعْتُمْ) في الرأي، وتفرقت فيما تصنعون كلمتكم، وترجحتم بين الثبات والفرار (وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ) أي: عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف، (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع.
[(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) 44]
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) الضميران مفعولان، يعنى: وإذ يبصركم إياهم، (وقَلِيلًا) نصب على الحال، وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم، ويجدّوا ويثبتوا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
خُصت بالرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني عمتن كأنه صلوات الله عليه أُريَ في اليقظة أنهم قليلون ليشجع أصحابه، فأخبرهم بما رأى لئلا يجبنوا، كما قال:(وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ)، ثم لما التقوا حقق الله تلك الإراءة في أعين أصحابه رضوان الله عليهم أيضاً، حيث قال:(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) فتجاوبت الإراءتان. والله أعلم.
وفائدة العدول عن العين إلى مكانها: الإشعار بحصول الأمن الوافر، وإنزال السكينة التامة، وعدم المبالاة بهم، وهو كقوله تعالى:(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً)[آل عمران: 154]، قال:"أنزل الله الأمن على المؤمنين، وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم، حتى نعسوا وغلبهم النوم".
قوله: (وترجحتم بين الثبات والفرار)، الأساس:"رجحت الشيء: وزنته بيدي، ونظرت ما ثقله".
قال ابن مسعود رضي الله عنه: " لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة، فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا له: كم كنتم؟ قال. ألفاً، (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور.
فإن قلت: الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت: قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء، ثم كثرهم فيها بعده؛ ليجترئوا عليهم، قلة مبالاة بهم، ثم تفجأهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا، وتفل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، وذلك قوله:(يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَايَ الْعَيْنِ)[آل عمران: 13]، ولئلا يستعدوا لهم، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أوّلا وكثرتهم آخراً.
فإن قلت: بأي طريق يبصرون الكثير قليلا؟ قلت: بأن يستر الله بعضه بساتر، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين. قيل لبعضهم: إن الأحول يرى الواحد اثنين، وكان بين يديه ديك واحد فقال: فمالي لا أرى هذين الديكين أربعة؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أكلة جزور): يُضرب في القلة والأمر الذي لا يُعبأ به. الجوهري: "قولهم: هم أكلة رأس، أي: قليل يشبعهم رأس واحد، وهو جمع آكل".
قوله: (أو يُحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير): قال في "الانتصاف": "فيه دليل بين على أن الله هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة، ويكون غير موقوف على سبب من مقابلة أو ارتفاع حُجب وغيرها، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلاً، لما أمكن أن يستتر عنهم البعض ويدركوا البعض، فيجوز خلق الإدراك مع انتفاء هذه الأسباب، وأن لا يخلقه مع اجتماعها، وهو رد على من أنكر رؤية الله تعالى". انتهى كلامه.
[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) 46]
(إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً): إذا حاربتم جماعة من الكفار، وترك أن يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار. واللقاء: اسم للقتال غالب، (فَاثْبُتُوا) لقتالهم ولا تفرّوا، (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً) في مواطن الحرب مستظهرين بذكره، مستنصرين به،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
فإن قلت: "لكن" تقتضي أن يكون ما قبلها مخالف لما بعدها، وقوله:(وَلَوْ أَرَاكَهُمْ .. لَفَشِلْتُمْ)[الأنفال: 43] معناه: ما أراكهم كثيراً وما فشلتم، فأين مقتضى ذلك؟
قلت: هو استدراك من كلام مقدر، أي: ما فشلتم فسلمتم فلا تحسبوا أن تلك السلامة الموجبة للنصرة كانت منكم، لكن الله سلمكم ونصركم، كقوله:(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[الأنفال: 17]؛ إن افتخرتم بقتلهم فإنكم ما قتلتموهم، ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت.
وفي وضع اسم الله تعالى موضع المضمر إشعارٌ بأن الأمر عظيم الشأن، فلا يصدرن ذلك إلا عن باهر السلطان، وفيها رد للمعتزلة؛ لأنه نفي أن يكون سبب المسبب سبباً.
ويجوز أن تُحمل "لو" على معنى: أي: إن فُرض إراءتكم كثيراً لفشلتم ووقعتم في العطب، ولكن لم يحصل المفروض، أي: الإراءة، فلم يحصل العطب، فوضع المسبب موضع السبب.
قوله: (ترك أن يصفها): أي: ترك وصف قوله: (فِئَةً)، أي: أطلقها ولم يقيدها بالكفار؛ لقرينة قوله: (إِذَا لَقِيتُمْ)، لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار، واللقاء أيضاً مبهم، ولكن أغلب استعماله في القتال، وعلى هذا (فَاثْبُتُوا).
داعين له على عدوكم: اللهم اخذلهم، اللهم اقطع دابرهم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ): لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة.
وفيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هما، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك، ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفيه إشعار بأن [على] العبد): أي: أُدمج في الآية معنى وجوب ذكر الله في جميع المواطن، سيما في المواطن المهلكة، لأنه تعالى جعل الأمر بالذكر مسبباً عن لقاء العدو في الحرب، ولا مقام أشغل للقلب منه، وأدمج فيه أيضاً إيجاب التكلف لجمع النفس لأجل ذكر الله والتوكل عليه وتفويض الأمر إليه، وإن كانت أفكاره متوزعة، لأنه تعالى قرن الأمر بالذكر بقوله:(فَاثْبُتُوا)، ليُقبل إليه بشراشره فارغ البال واثقاً بأن لطفه لا ينفك عنه في شيء من الأحوال.
قوله: (أشغل ما يكون قلباً): فيه غرابة؛ لأن "ما" مصدرية، والوقت مقدر، فيكون إسناد "أشغل" إلى الوقت من باب:"نهاره صائم"، ويلزم منه إثبات القلب للوقت. والأحسن أن يكون "أشغل ما يكون" استعارة مكنية؛ شبه أوقاته بالإنسان على التصوير، ثم أثبت له الشغل على التخييلية، ثم فرع عليه القلب على الترشيح. وقيل:"أشغل" حال من الضمير في "يفتر"، و"ما" بمعنى: شيء، ويكون صفته، و"قلباً" تمييز. والمعنى: يجب على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه في حال يكون أشغل قلباً من أفراد الناس إذا فصل الناس واحداً واحداً.
وإن كانت متوزعة عن غيره، وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج؛ من البلاغة والبيان، ولطائف المعاني وبليغات المواعظ والنصائح، دليلا على أنهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقم الأمر.
(وَلا تَنازَعُوا) قرئ بتشديد التاء، (فَتَفْشَلُوا) منصوب بإضمار "أن"، أو مجزوم لدخوله في حكم النهى، وتدل على التقديرين قراءة من قرأ "وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" بالتاء والنصب، وقراءة من قرأ: "ويذهب ريحكم بالياء والجزم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (متوزعة)، الجوهري:"وزع المال والخراج توزيعاً: قسمه، وبها أوزاع من الناس: ضروب متفرقون". الأساس: "ومن المجاز: توزعته الأفكار، وهو متوزع القلب".
قوله: (وناهيك بما في خُطب): "ما" فاعل أو مبتدأ، والباء زائدة، و"ناهيك" خبرٌ مقدم، أي: ما في خطب أمير المؤمنين من البلاغة كافيك في الدلالة على ما ذكرنا، يعني: أنه في قوة دلالته ينهاك عن تطلب غيره.
قوله: (في أيام صفين وفي مشاهده): عطف العام على الخاص، نحو:(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)[الحجر: 87]، وحينئذ يلزم المصنف تعميم ما خصص في قوله:(إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً): "إذا حاربتم جماعة الكفار"، بأن يقال: جماعة الكفار والبغاة: ويمكن أن يقال: إنه غلب الكفار على البغاة تغليظاً.
قوله: ("وتذهب ريحكم" بالتاء والنصب): الأئمة السبعة بالاتفاق، وبالتاء الفوقانية والجزم: شاذة.
والريح: الدولة؛ شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها، فقيل: هبت رياح فلان: إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. ومنه قوله:
أتُنْظِرَانِ قَلِيلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ
…
أمْ تَعْدُوَانِ فَإنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والريح: الدولة): يعني: استعار للدولة الريح بعدما شُبهت الدولة في نفوذ أمرها وتمشيته بالريح، ثم أدخل المشبه في جنس المشبه به ادعاء، وأطلق اسم المشبه به على المشبه المتروك، فقيل: هبت رياح فلان: إذا دالت له الدولة. قال:
إذا هبت رياحك فاغتنمها
…
فإن لكل خافقة سكون
فلا تغفل عن الإحسان فيها
…
فما تدري السكون متى يكون
قوله: (أتنظران قليلا)، البيت: قبله:
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي
…
إلا عبيد وآم بين أذواد
الذود من الإبل: ما بين ثلاثة إلى عشرة.
"أتنظُران": من: انتظرته، "ريث": قدر، "أم تعدوان": تفتكان، "للعادي": للفاتك؛ يخاطب صاحبيه حين اطلع على الحي: أتنظران قليلاً قدر ما يغفلون، فتسرقان أو تقتلان من غير انتظار الغفلة، وذلك أن سُليكاً مع صاحبين له أتوا جوف مراد من اليمن، فإذا نعم كثيرة،
وقيل: لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله، وفي الحديث:"نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور".
[(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) 47]
حذرهم بالنهى عن التنازع واختلاف الرأي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فخافوا أن يغيروا، فقال سُليك: كونا قريباً حتى آتى الرعاء، فأعلم لكما أن الحي قريب أم بعيد، فإن كان قريباً رجعت إليكما، وإن كان بعيداً قلت لكما قولاً، فأغيرا، فانطلق حتى استعلم أن الحي بعيد، فقال للرعاء: ألا أغنيكم؟ قالوا: بلى، فغنى بأعلى صوته: يا صاحبي ألا لا حي .. البيتين. فأتيا، فذهبوا بالإبل، ولم يدركوا.
قوله: (وقيل: لم يكن قط نصر إلا بريح): فعلى هذا يكون ذهاب الريح حقيقة، ويجوز أن يكون كناية. قال محيي السنة:"والريح هنا: كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد، قال قتادة وابن زيد: هو ريح النصر، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى تضرب وجوه العدو، ومنه الحديث: "نصرت بالصبا وأهلك عاد بالدبور"، وعن النعمان بن مقرن قال: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس، وتهب الرياح، وينزل النصر".
روى البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس"، الحديث.
نحو ما وقع لهم بأحد لمخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فشلهم وذهاب ريحهم. (كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ): هم أهل مكة حين نفروا الحماية العير، فأتاهم رسول أبي سفيان، وهم بالجحفة: أن ارجعوا، فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل، وقال: حتى نقدم بدراً نشرب بها الخمور، وتعزف علينا القيان، ونطعم بها من حضرنا من العرب. فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم، فوافوها، فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم، وأن يكونوا من أهل التقوى والكآبة والحزن من خشية الله، مخلصين أعمالهم لله.
[(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) 48].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (نحو ما وقع لهم بأُحد): منصوب على أنه مفعول به لـ "حذرهم"، وفيه أن قوله:(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا) الآية [الأنفال: 46]، وإن وقعت في أثناء قصة بدر، لكنها معترضة، والأمر عام في جميع المواطن، لأن حرب أد وقعت بعد حرب بدر بزمان.
وهذا يقوى أن هذه السورة نازلة في بيان تعداد أحوال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حالاً فحالاً، من غير ترتيب، ليكثر الحالات، وأن حمل قوله:(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ)[الأنفال: 17] على قصة بدر، وقوله:(وَمَا رَمَيْتَ)[الأنفال: 17] على قصة حنين، صحيح.
قوله: (وتعزف علينا)، النهاية:"العزف: اللعب بالمعازف، وهي الدفوف وغيرها مما يُضرب، وقيل: إن كل لعب عزف".
قوله: (وأن يكونوا من أهل التقوى): أي: نهى المسلمين أن يكونوا بطرين، وأمرهم أن يكونوا متقين، وهو من باب:
علفتها تبناً وماء بارداً
(وَ) اذكر (إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن إتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم، فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم، أي: بطل كيده حين نزلت جنود الله، وكذا عن الحسن رحمه الله: كان ذلك على سبيل الوسوسة، ولم يتمثل لهم.
وقيل: لما اجتمعت قريش على السير ذكرت الذي بينها وبين بني كنانة من الحرب، فكان ذلك يثنيهم، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم؛ الشاعر الكناني، وكان من أشرافهم في جند من الشياطين معه راية، وقال: لا غالب لكم اليوم، وإنى مجيركم من بني كنانة، فلما رأى الملائكة تنزل، نكص، وقيل: كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما نكص قال له الحارث: إلى أين؟ أتخذ لنا في هذه الحال؟ فقال: إني أرى مالا ترون، ودفع في صدر الحارث وانطلق، وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة، فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (نكص الشيطان)، الجوهري:"النكوص: الإحجام عن الشيء، يُقال: نكص على عقبيه ينكص وينكص، أي: رجع".
قوله: (وقيل: ولما اجتمعت قريش): عطف من حيث المعنى على قوله: "وسوس إليه"، فالقول في قوله تعالى:(وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ) مجاز عن الوسوسة، والنكوص استعارة تمثيلية ما تقول: أراك أيها المفتي، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، ولذلك قال في تفسير (نَكَصَ):"بطل كيده، يدل عليه قول الحسن: كان ذلك على سبيل الوسوسة، ولم يتمثل لهم"، وعلى الثاني: الكل مجراة على الحقيقة.
وفي الحديث: "وما رئي إبليس يوما أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة؛ لما يرى من نزول الرحمة، إلا ما رئي يوم بدر".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (وفي الحديث "ما رُئي إبليس يوماً أصغر ولا أدحر") الحديث: من "الجامع" عن مالك في "الموطأ" عن طلحة بن عبيد الله بن كريز: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما رُئي الشيطان في يوم هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة؛ وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما رئي يوم بدر، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة".
النهاية: "الدحر: الدفع بعنف على سبيل الإهانة والإذلال، وأفعل التفضيل فيه كأشهر وأجن، من: شُهر وجُن"، "يزع الملائكة": أي: يرتبهم ويسويهم ويصفهم للحرب، فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار.
قوله: "في يوم عرفة": في رواية "الموطأ": متعلق بـ"أفعل"، فهو يعمل في المستتر والظرف ونحوهما، لأن فيه رائحة الفعل. وأما رواية الكتاب:"ولا أغيظ من يوم عرفة": فقال صاحب "النهاية": "نُزل وصف الشيطان بأنه أدحر منزلة وصف اليوم به، لوقوع ذلك فيه، كأن اليوم نفسه هو الأدحر".
قلت: فعلى هذا "أصغر" صفة "يوماً"، و"من يوم عرفة": متعلق بهن وهو مطابق لرواية "الموطأ"، لأن الأصل: ما رُئي إبليس في يوم من الأيام هو أصغر من نفسه إلا ما رُئي في يوم عرفة"، ثم علق الظرف بـ "أفعل من" على التوسع، كما في قولهم: زيد نهاره صائم"، أي: هو في نهاره صائم، وما قيل: إن "أصغر" مفعول ثان لـ"رُئي"، أو حال من "إبليس": فمُتعسف.
فإن قلت: هلا قيل: لا غالباً لكم، كما يقال: لا ضاربا زيداً عندنا؟ قلت: لو كان (لَكُمُ) مفعولا لـ (غالب)، بمعنى: لا غالباً إياكم، لكان الأمر كما قلت: لكنه خبر تقديره: لا غالب كائن لكم.
[(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) 49]
(إِذْ يَقُولُ الْمُنفِقُونَ) بالمدينة (والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يجوز أن يكون من صفة (المنافقين)، وأن يراد: الذين هم على حرف؛ ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام. وعن الحسن: هم المشركون، ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لو كان (لَّكُمْ) مفعولاً لـ (غَالِبَ)) إلى آخره: قال أبو البقاء: " (غَالِبَ) هاهنا: مبنية، و (لَّكُمْ) في موضع رفع خبر (لا)، و (اَلْيَوْمَ) منصوباً بـ (غَالِبَ)، ولا (مِنْ النَّاسِ) حالاً منا لضمير في ((غَالِبَ)؛ لأن اسم "لا" إذا عمل فيما بعده لا يجوز بناؤه"، لأنه مشابه للمضاف، فكان منصوباً.
قوله: ((وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يجوز أن يكون من صفة "المنافقين")، ويجوز أن تكون الواو في (وَالَّذِينَ) من التي تتوسط بين الصفة والموصوف؛ لتأكيد لصوق الصفة، لأن هذه الصفة في المنافقين لاصقة لا تنفك، قال الله تعالى:(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ)، أو تكون من التي تدخل بين المُفسِّر والمُفسَّر، نحو: أعجبني زيدٌ وكرمه، قال القاضي:"والعطف لتغاير الوصفين".
قوله: (ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام): قال في قوله تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)[الحج: 11]: "أي: على طرف من الدين، لا في وسطه وقلبه".
(غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) يعنون: أنّ المسلمين اغتروا، بدينهم وأنهم يتقوّون به وينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاث مئة وبضعة عشر، إلى زهاء ألف، ثم قال جوابا لهم (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوى.
[(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الملكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبرَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ* ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) 50 - 51]
(وَلَوْ تَرى): ولو عاينت وشاهدت، لأن "لو" تردّ المضارع إلى معنى الماضي، كما تردّ "إن"
الماضي إلى معنى الاستقبال، (وإِذْ) نصب على الظرف، وقرئ:(يتوفى). بالياء والتاء،
و(الملكة) رفعها بالفعل، و (يَضْرِبُونَ) حال منهم.
ويجوز أن يكون في (يَتَوَفَّى) ضمير الله عز وجل، و (الملكة) مرفوعة بالابتداء، (ويَضْرِبُونَ) خبر. وعن مجاهد:(وأدبارهم): أستاههم، ولكن الله كريم يكنى، وإنما خصوهما بالضرب؛ لأنّ الخزي والنكال في ضربهما أشدّه.
وبلغني عن أهل الصين: أن عقوبة الزاني عندهم أن يصبرَّ، ثم يعطى الرجل القوي البطش شيئاً عمل من حديد، كهيئة الطبق، فيه رزانة، وله مقبض، فيضربه على دبره ضربة واحدة بقوّته فيجمد في مكانه. وقيل: يضربون ما أقبل منهم وما أدبر.
(وَذُوقُوا) معطوف على (يَضْرِبُونَ) على إرادة القول، أي: ويقولون: ذوقوا (عَذابَ الْحَرِيقِ)، أي: مقدمة عذاب النار، أو: وذوقوا عذاب الآخرة، بشارة لهم به، وقيل: كانت معهم مقامع من حديد، كلما ضربوا بها التهبت النار، أو: ويقال لهم يوم القيامة: ذوقوا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ (يَتَوَفَى) بالياء والتاء): ابن عامر: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء.
قوله: (و (الْمَلائِكَةِ) مرفوعة بالابتداء، و (يَضْرِبُونَ) خبر): فالجملة على هذا استئنافية.
قوله: (أو: ويُقال لهم يوم القيامة: ذوقوا): يعني: قوله تعالى: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)
وجواب" لَوْ" محذوف: أي: لرأيت أمراً فظيعاً منكراً (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) يحتمل أن يكون من كلام الله ومن كلام الملائكة، (وذلِكَ) رفع بالابتداء، و (بِما قَدَّمَتْ) خبره، (وَأَنَّ اللَّهَ) عطف عليه، أي: ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم، وبأن الله (لَيْسَ بِظَلّم لِلْعَبِيدِ) لأن تعذيب الكفار من العدل، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
إما أنه محمول على إصابة العذاب في الدنيا وأنه متصل بعذاب النار، بأن يُسلط بعد السكرات عذاب القبر، وينتهي ذلك إلى دخول النار، أو يضربون وجوههم ويبشرونهم بعذاب القيامة ليجتمع لهم العذاب في الدنيا والخوف من النكال في الآخرة، أو يقع الضرب في الدنيا والقول في الآخرة.
وعن بعضهم أنه قال: الذوق: وجود الطعم بالفم، وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر، فإنه يقال له: الأكل، وقد يعبر به عن الاختيار، وعن مطلق الإدراك.
قوله: (لأن تعذيب الكفار من العدل): كأنه قيل: ذلك العذاب بسبب كفركم، وبسبب أن الله عادل، إذ لابد من جزاء المسيء، كما لابد من ثواب المحسن، فوضع موضعه (لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)، بناء على مذهبه.
قلت: والذي يقتضيه النظم هو: أن قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) كالتقرير لمعنى قوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)، وفائدته: الدلالة على أن التعذيب إنما بلغ غايته لاستِئهالهم ذلك بسبب عظيم جرمهم، وأنه في قوم مخصوصين، وذلك أن قوله:(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا) في المشركين الذين ناصبوا الحرب يوم بدر، لأن المنافقين لما طعنوا في المسلمين بقولهم:(غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ) بمعنى: أن المسلمين اغتروا بدينهم، وأنهم يتقوون به وينصرون من أجله، فخرجوا وهم قليل مستضعفون على الكثير القوي، أجاب الله تعالى بقوله:(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي: ومن يتوكل على الله فهو يقويه وينصره، لأنه عزيز قوي يُقوي اولياءه، حكيم ينصرهم ويخذل أعداءهم.
كإثابة المؤمنين، وقيل: ظلام، للتكثير لأجل العبيد، أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاماً بليغ الظلم متفاقمه.
[(كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا ْبآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ * ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِايتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) 52 - 54]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم حقق ذلك بقوله: (وَلَوْ تَرَى)، والخطاب مع هذا القائل، أي: لو رأيت، أيها القائل، إذ يتوفى الملائكة المشركين الذين تعدهم كثيرين قويين، يضربون منهم فوق الأعناق وكل بنان قائلين: ذوقوا عذاب الخزي في الدنيا وعذاب الحريق في الآخرة، وأن ذلك العذاب بسبب مناصبتكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله ليس بلام للعبيد، لرأيت قوة أوليائه ونصرهم على أعدائه.
مثاله: إذا نكل المنتصر من عدوه ويعذبه بأنواع البلاء ويقول: هذا بسبب ما ارتكبت من الظلم وأني فيما أفعله بك من النكال العظيم ما تجاوزت حد الإنصاف؛ لأنك تستحقه. وهذا لا يفيد أنه إن ترك التعذيب كان ظالما، كذا [ما] نحن بصدده.
ودل على تعظيم الذنب اسم الإشارة، وهو عين ما قاله بعد ذلك:"أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاماً".
قوله: (وقيل: ظلام، للتكثير لأجل العبيد): يعني: أن ظلاماً بناء مبالغة يدل على أنه تعالى ليس بظلام للعبيد، أي: بكثير الظلم، ويُفهم من دليل الخطاب جواز إثبات الظلم القليل.
الكاف في محل الرفع، أي: دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون. ودأبهم: عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه، : أي داوموا عليه وواظبوا، و (كَفَرُوا) تفسير لدأب آل فرعون. (وذلِكَ) إشارة إلى ما حل بهم. يعنى: ذلك العذاب -أو: الانتقام- بسبب أن الله لم ينبغ له، ولم يصحّ في حكمته، أن يغير نعمته عند قوم (حَتَّى يُغَيِّرُوا) ما بهم من الحال.
فإن قلت: فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة، حتى غير الله نعمته عليهم، ولم تكن لهم حال مرضية، فيغيروها إلى حال مسخوطة؟ قلت: كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم كفرة عبدة أصنام، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجاب عنه بوجهين:
أحدهما: أن نفي الظلم الكثير عند وجود العقاب العظيم من العادل: عبارة عن حصول الذنب العظيم من المعذب. مثاله: أنا إذا نظرنا إلى من يُعذب شخصاً بأنواع العقاب، ويبالغ في التشديد، وقطعنا النظر عن الموجب، حكمنا بأن المعذب ظالم كثير الظلم، أما لو علمنا أنه عادل لا يضع الشيء إلا في موضعه قطعنا بأن المعذب مستوجب لذلك، لأنه متمرد متجاوز في الذنب حده.
وثانيهما: أن قوله: "ظلام" مقترن بقوله: (لِلْعَبِيدِ)، وهو جمع محلي بلام الاستغراق، فإذا وُزع نفي الظلم عن كل فرد فرد من أفراد هذا العام، فصح أن يُقال:(لَيْسَ بِظَلاَّمٍ)، كما قال في سورة (ق):"هو ظالم لعبده، وظلام لعبيده"، يعني: المناسب أن يُقال: ظالم لعبده وظلام لعبيده، إذ لو عكس وقال: ظلامٌ لعبده وظالم لعبيده، لم يتطابق، اللهم إلا أن يعتبر كثرة ذنبه أو عظمه.
قوله: (وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم كفرة عبدة أصنام) إلى آخره: قيل: إنهم
فلما بعث إليهم بالآيات البينات، فكذبوه، وعادوه، وتحزبوا عليه، ساعين في إراقة دمه، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت، فغيرَّ الله ما أنعم به عليهم من الإمهال، وعاجلهم بالعذاب.
(وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) لما يقول مكذبو الرسل (عَلِيمٌ) بما يفعلون.
(كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ) تكرير للتأكيد، وفي قوله:(بِايتِ رَبِّهِمْ) زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق، وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب، (وَكُلٌّ كانُوا ظلِمِينَ): وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي.
[(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ عهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ* فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) 55 - 57]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
لما كانوا متمكنين من الإيمان، ثم تركوا ذلك ولم يؤمنوا، كأن ذلك كان حاصلاً لهم فغيروه، كقوله تعالى:(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)[البقرة: 16 و 175].
وقلت: تحريره: أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسها نعمة دونها كل نعم، فلما نسي المشركون هذه النعمة الأسنى وتلك الآيات العظمى، وكانوا متمكنين من قبولها والاهتداء بهديها، فلما امتنعوا منه واضطروه إلى المهاجرة، ثم استأصل شأفتهم يوم بدر، قيل ذلك لهم. وعلى هذا أمر فرعون مع موسى عليه السلام، ويؤيده قوله هاهنا:(كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ).
قوله: ((كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ) تكرير للتوكيد، وفي قوله:(بِآيَاتِ اللَّهِ) زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق): قال القاضي: "يعني: كرر (كَدَابِ آلِ فِرْعَوْنَ) للتأكيد، ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله: (بِآيَاتِ اللَّهِ)، وبيان ما أخذ به آل فرعون".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
…
وقلت: وازن المصنف بين الآيتين، وقابل بين كل من القرينتين، فقوله:" (بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق": معناه: أن قوله (كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) في الآية السابقة مبهم لم يفهم منه أن تلك النعمة المكفورة من أي نوع من أنواع النعم؟ أهي نعمة الآيات المنصوبة أو الآيات المنزلة؟ وأن الكُفران من أي قبيل كان؟ أهو من قبيل الإعراض عن الآيات المنصوبة، أو هو من قبيل التكذيب بالآيات النازلة؟
فعُلم من هذه الآية: أن تلك النعمة هي نعمة الآيات المنزلة، وأن ذلك الكفران تكذيبها وجحود الحق، وقوله:(فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) مشتمل لجميع أنواع التعذيب، وقوله:(وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) نص على تعيين العذاب.
قال صاحب "الفرائد": هذا ليس بتكرير؛ لأن معنى الأول: حالُ هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر والتكذيب، فأخذهم بالعذاب، ومعنى الثاني: حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم، وتغيير الله حالهم بسبب ذلك التغيير، وهو أنه أغرقهم، بدليل ما تقدم عليه، وهو قوله تعالى:(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً) الآية. ولخص المعنى القاضي وقال: "الأول: تشبيه الكفر والأخذ، والثاني: تشبيه التغيير في النعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم".
وقلت: النظم يأبى هذا القول؛ لأن وجه التشبيه في التشبيه الأول هو قوله: (كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ)، فشبه حال كفار قريش بحال فرعون ومن قبله، والوجه للتشبيه: الكفر المرتب عليه العقاب، فكذلك ينبغي أن يكون الوجه في التشبيه الثاني هو قوله:(كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ)، لأنه مثله.
(الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي: أصروا على الكفر ولجوا فيه، فلا يتوقع منهم إيمان، وهم بنو قريظة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
بيانه: أن قوله: (كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) جملة مبتدأة بعد ذكر المشبه والمشبه به، صالحة لأن تكون بياناً لوجه التشبيه، فوجب حملها عليه، كقوله تعالى:(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ)[آل عمران: 59]، قوله:(خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم، ولا فرق بينه وبين قوله:(كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) في هذا المعنى.
وأما قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) كالتعليل لحلول النكال للكفران، لما تقرر مراراً: أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام مؤذن بأن ما بعده جدير بمن قبله لأجل اكتسابه موجبه.
وقد اعترض بين التشبيهين، وهو غير مختص بقوم فرعون وقريش، بلهو متناولٌ لجميع من يغير نعمة الله من الأمم السالفة واللاحقة، من الكفران وتكذيب الآيات. فاختصاصه بالوجه الثاني دون الأول، وإيقاعه وجهاً للتشبيه، مع وجوده صريحاً كما بينا: بعيد عمن ذاق معرفة الفصاحتين، ووقف على ترتيب النظم بين الآيتين.
قوله: (فلا يتوقع منهم الإيمان): يعني: دل قوله: (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) - لما فيه من بناء (لا يُؤْمِنُونَ) على "هم" المفيد لتقوي الحكم - على عدم توقع الإيمان منهم، وذلك لترتب هذه الجملة على قوله:(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) حيث أوقع (الَّذِينَ كَفَرُوا) - وهو معرفة - خبراً لـ (إنَّ)، وجعل اسمه (شَرَّ الدَّوَابِّ).
قال القاضي: "والفاء للعطف والتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف".
عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه، فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح، وقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالوا معهم يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم.
(الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) بدل من (الذين كفروا)، أي: الذين عاهدتهم من الذين كفروا، جعلهم شر الدواب؛ لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين الناكثون للعهود.
(وَهُمْ لا يَتَّقُونَ): لا يخافون عاقبة الغدر، ولا يبالون ما فيه من العار والنار.
(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ): فإما تصادفنهم وتظفرنّ بهم (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ): ففرق عن محاربتك ومناصبتك؛ بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم، من وراءهم من الكفرة، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد، اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لا يمالئوا): لا يساعدوا. النهاية: "الممالأة: المساعدة والمعاونة".
قوله: (لأن شر الناس الكفار): يعني: أبدل (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ) من (الَّذِينَ كَفَرُوا)، وهم الذين أصروا على الكفر، ولجوا فيه، بعد أن جعلهم شر الدواب؛ ليدل على أن شر الناس الكفار إلى آخره، لما عرفت في إبدال (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة: 7]، من (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة: 6]، معنى البدل.
ثم في عطف (يَنقُضُونَ) وهو مضارع، على (عَاهَدْتَ) وهو ماضٍ: الدلالة على استمرار النقض، ولذلك قال:"فنكثوا، ثم عاهدهم فنكثوا".
قوله: ((فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ): فإما تصادفنهم وتظفرن بهم)، الأساس:"طلبناه فثقفناه في مكان كذا، أي: أدركناه". الجوهري: "ثقفة ثقفاً، أي: صادفته".
وقرأ ابن مسعود: "فشرذ"، بالذال المعجمة، بمعنى: ففرق، وكأنه مقلوب "شذر"، من قولهم:"ذهبوا شذر مذر، ومنه: الشذر: المتلقط من المعدن؛ لتفرّقه. وقرأ أبو حيوة: من "خلفهم"، ومعناه: فافعل التشريد من ورائهم، لأنه إذا شرد الذين وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء، وأوقعه فيه؛ لأنًّ الوراء جهة المشردين، فإذا جعل الوراء ظرفاً للتشريد فقد دلّ على تشريد من فيه، فلم يبق فرق بين القراءتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت: والظاهر أن الفاء في قوله: (فَشَرِّدْ بِهِمْ) فاء فصيحة تقتضي محذوفاً هو سبب التشريد، كما قدر "فإما تُصادفنهم وتظفرن بهم فشَرِّد بهم"، فالتشريد مسبب عن الظفر بهم لا الإدراك فقط. ولا يبعد أن تُجعل الفاء في قوله:(الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) منها، ويجوز أن يكون قوله:"وتظفرن بهم" عطفاً تفسيرياً على "تُصادفن"، كما في قوله:"فإما تثقفوني فاقتلوني"، فيكون قوله:(فَشَرِّدْ بِهِمْ) جزاء للشرط فقط.
قوله: (ذهبوا شذر مذر)، الجوهري:"تفرقوا شذر مذر: إذا ذهبوا في كل وجه"، قال ابن جني:"قرأ الأعمش: "شرذ" بالذال المعجمة، ولم يمر بنا في اللغة تركيب (ش ر ذ)، والأوجه أن تكون الذال بدلاً من الدال، والجامع بينهما أنهما مجهوران ومتقاربان". وقال أبو البقاء: "نحو: خراديل وخراذيل، وقيل: هو مقلوب من "شذر" بمعنى: فرق، وكل ذلك تعسف بعيد".
قوله: (فافعل التشريد من ورائهم): يعني: أُجري المتعدي مجرى اللازم، ثم عُدي تعديته، كقوله:
. يجرح في عراقيبها نصلي
(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ): لعلّ المشردين من ورائهم يتعظون.
[(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) 58]
(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) معاهدين (خِيانَةً) ونكثا بأمارات تلوح لك (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ): فاطرح إليهم العهد (عَلى سَواءٍ): على طريق مستو قصد -وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد، وتخبرهم إخباراً مكشوفاً بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم- ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد، فيكون ذلك خيانة منك، (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) فلا يكن منك إخفاء نكث العهد والخداع.
وقيل: على استواء في العلم بنقض العهد، وقيل: على استواء في العداوة، والجار والمجرور في موضع الحال، كأنه قيل: فانبذ إليهم ثابتاً على طريق قصد سوي، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
وفي إيقاع التشريد في المكان وإرادة التشريد فيمن يشغل المكان كناية، كقول الشنفري:
تبيت بمنجاة من اللوم بيتها
فإذن صح قوله: "فلم يبق فرق بين القراءتين"، اللهم إلا في المبالغة.
قال محيي السنة في معنى المشهورة: "فرق بهم جمع كل ناقض، أي: افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك وحاربوك فعلاً من القتل والتنكيل، ليخافك من خلفهم من أهل مكة".
قوله: (فانبذ إليهم ثابتاً): هذا على أن يكون (سَوَاءٍ) صفة موصوف محذوف، كما قال:
أو حاصلين على استواء في العلم أو العداوة، على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معاً.
[(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) 59]
(سَبَقُوا): فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ): إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم، وقرئ:"أنهم" بالفتح؛ بمعنى: لأنهم، كل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل، إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف، والمفتوحة تعليل صريح وقرى:"يعجزون"، بالتشديد، وقرأ ابن محيصن:"يعجزون" بكسر النون. وقرأ الأعمش: "ولا تحسب الذين كفروا" بكسر الباء وبفتحها؛ على حذف النون الخفيفة. وقرأ حمزة: (ولا يحسبن) بالياء؛ على أن الفعل لـ (الَّذِينَ كَفَرُوا)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"على طريق مُستوٍ"، فالجار والمجرور حال من فاعل (فَانْبِذْ). وقوله:"أو حاصلين" على أن يكون حالاً من المجرور في (إِلَيْهِمْ) أو المرفوع في (فَانْبِذْ) كما في الوجهين، أي: على استواء في العلم أو على استواء في العداوة.
قوله: (ولا يجدون طالبهم عاجزاً)، الراغب:"أعجزت فلاناً وعجزته وعاجزته: جعلته عاجزاً. قال عز وجل: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ) [الحج: 51]، وقرئ: "معجزين"، فـ (مُعَاجِزِينَ) معناه: ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا؛ لأنهم حسبوا أن لا حشر ولا نشر، فيكون ثواب وعقاب، و"معجزين" ينسبون من تبع النبي صلى الله عليه وسلم إلى العجز، نحو: جهلته وفسقته".
قوله: (وقرئ: "أنهم" بالفتح): ابن عامر، والباقون: بكسرها.
قوله: (وقرأ حمزة: (وَلا يَحْسَبَنَّ) بالياء، على أن الفعل لـ (الَّذِينَ كَفَرُوا)، وقوله:(واستدل)، كأنه أشار إلى ضعف هذا الوجه؛ إذ لا حاجة إلى تقدير "إن" المخففة، قال أبو
وقيل فيه: أصله: أن سبقوا، فحذفت "أن"، كقوله:(وَمِنْ ءاياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ)[الروم: 24]، واستدل عليه بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه:"أنهم سبقوا"، وقيل: وقع الفعل على "أنهم لا يعجزون"؛ على أن "لا" صلة، و (سبقوا) في محل الحال، بمعنى: سابقين، أي: مفلتين هاربين، وقيل: معناه: ولا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا، فحذف الضمير لكونه مفهوما، وقيل: ولا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا. وهذه الأقاويل كلها متمحلة، وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البقاء: "في الفاعل وجهان: أحدهما: هو مضمر، أي: لا يحسبن من خلفهم، أو: يحسبن أحد، والمفعول الثاني (سَبَقُوا). وثانيهما: أن الفاعل (الَّذِينَ كَفَرُوا) ن والمفعول الأول محذوف، أي: أنفسهم، وقيل: التقدير: أن سبقوا، و"أن" مصدرية، حُكي عن الفراء، وهو بعيد؛ لأن المصدرية موصولة، وحذف الموصول ضعيف في القياس شاذ في الاستعمال".
قوله: (وقع الفعل على "أنهم لا يُعجزون"، على أن (لا) صلة): قال الزجاج: "ويجوز أن تكون (لا) لغواً، أي: ولا يحسبن الذين كفروا أنهم يعجزون، وأن يكون بدلاً من (سبقوا)، وهو ضعيف؛ لأن "لا" لا تكون لغواً في موضع يجوز أن تقع فيه غير لغو".
قوله: (قبيل المؤمنين)، الجوهري:"القبيل: الجماعة تكون من ثلاثة فصاعداً من قوم شتى، والجمع: قُبل".
قوله: (وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة): يقال: زعمه ليس بنير، وإن حمزة ما تفرد بها، وفي "التيسير": قرأ حفص وابن عامر وحمزة: (وَلا يَحْسَبَنَّ) بالياء، والباقون بالتاء"، ووجهها مستقيم على وجوه كما صححه أبو البقاء، ولأنها متواترة، وما تواتر فهو نير. على أنه أجاز حذف المفعول الأول من باب "حسب" في غير موضع من هذا الكتاب؛
وعن الزهري: أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين.
[(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) 60]
(مِنْ قُوَّةٍ): من كل ما يتقوّى به في الحرب من عددها.
وعن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثا. ومات عقبة عن سبعين قوساً في سبيل الله. وعن عكرمة: هي الحصون.
والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط؛ كفصيل وفصال، وقرأ الحسن:"ومن ربط الخيل"، بضم الباء وسكونها، جمع رباط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منها: قال في قوله: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً)[آل عمران: 169]: "هو في الأصل مبتدأ، فحذف كما حذف المبتدأ"، إلى غير ذلك كما سيجيء.
قوله: (من فل المشركين)، النهاية:"الفَلُّ: القوم المنهزمون، من الفل: الكسر، وهو مصدر سُمي به، ويقع على الواحد والاثنين والجمع".
قوله: (ومن عقبة بن عامر) الحديث: رواه مسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه والدارمي، وليس فيه:"مات عقبة عن سبعين قوساً".
قوله: (والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله): قيل: فإذن يلزم من إضافته إلى الخيل إضافة الشيء إلى نفسه، يُقال: الرباط: اسم عام يطلق على معان؛ منها ما ذكره، ومنها
ويجوز أن يكون قوله: (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) تخصيصاً للخيل من بين ما يتقوى به، كقوله:(وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ)[البقرة: 98]، وعن ابن سيرين: أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون؟ فقال: يشترى به الخيل، فترابط في سبيل الله ويغزى عليها، فقيل له: إنما أوصى في الحصون؟ فقال: ألم تسمع قول الشاعر:
أنّ الحصون الخيل لا مدر القرى
(تُرْهِبُونَ) قرئ بالتخفيف والتشديد، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انتظار الصلاة بعد الصلاة. في "النهاية": "الرباط في الأصل: الإقامة على جهاد العدو بالحرب، وارتباط الخيل: إعدادها، وقيل: الرباط: مصدر رابطت، أي لازمت. وقيل: الرباط: اسم لما يُربط به الشيء، أي: يُشد"، فأضيف إلى الخيل للبيان، كقولك: خاتم حديد، فعلى هذا اللام في قول المصنف:"الرباط" للعهد، أي: الرباط المذكور في الآية، قال في "الانتصاف":"المطابق للرمي أن يكون "الرباط" على بابه مصدراً".
قوله: (إن الحصون الخيل لا مدر القرى): أوله:
ولقد علمت على توقي الردى
يعني: علمت أن الحصون التي يتوقى بها: الخيل، لا قصور القرى والمدائن التي يلجأ إليها.
قوله: (تُرهبون): بالتخفيف: الجماعة، وبالتشديد: شاذة. الراغب: "الرهبة والرهب مخافة مع تحزن واضطراب، قال عز وجل:(لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ)[الحشر: 13]، (وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ)، والترهب: التعبد، وهو استعمال الرهبة،
وقرأ ابن عباس ومجاهد: "تخزون"، والضمير في (بِهِ) راجع إلى (ما استطعتم)، (عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ): هم أهل مكة، (وَءاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ): هم اليهود وقيل: المنافقون وعن السدي هم أهل فارس.
وقيل: كفرة الجن، وجاء في الحديث:"إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس، ولا داراً فيها فرس عتيق"، وروى:"أنّ صهيل الخيل يرهب الجن".
[(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) 61]
جنح له، وإليه: إذا مال، والسلم: تؤنث تأنيث نقيضها، وهي الحرب، قال:
السِّلْمُ تَاخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ
…
وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ
وقرئ بفتح السين وكسرها
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[التوبة: 29]، وعن مجاهد: بقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)[التوبة: 5]، والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله؛ من حرب أو سلم، وليس بحتم: أن يقاتلوا أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والرهبانية: غلو في تحمل الرهبة من فرط الرهبة، والرهبان يكون واحداً وجمعاً، وقالوا: رهبوت خير من رحموت".،
قوله: (قال: السلم تأخذ) البيت: مضى شرحه في البقرة.
قوله: (إلى الهدنة): هادنة: صالحه، والاسم: الهدنة.
وقرأ الأشهب العقيلي. "فاجنح" بضم النون. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ): ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم، فإنّ الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم. قال مجاهد: يريد قريظة.
[(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) 62 - 63]
(فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) فإن محسبك الله: قال جرير:
إنِّي وَجَدْتُ مِنَ الْمَكارِمِ حَسْبَكُمْ
…
أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة؛ لأنّ العرب لما فيهم من الحمية، والعصبية، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا، لا يكاد يأتلف فيهم قلبان، ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (إني وجدت من المكارم) البيت، بعده:
إذا تُذوكرت المكارم مرة
…
في مجلس أنتم به فتقنعوا
"حسبكم": أي: محسبكم، و"الحر" من كل شيء: أعتقه، ويروي:"خز الثياب"، والخز:"اسم دابة، سمي الثوب المتخذ من وبرها خزاً". في "المغرب". وفي "النهاية": الخز: ثياب تنسج من إبريسم وصوف، وقيل الخز: الثياب المعمول من الإبريسم، وهذا هو المعروف الآن".
يهجوهم بأنهم لئام أراذل هممهم مقصورة على المآكل والملابس.
"تقنعوا": أي: غطوا وجوهكم من الحياء، "أن تلبسوا" فاعل:"حسبكم"، وقيل: وقوع "حسبُك" صفة للنكرة في قولهم: عندي رجل حسبك رجلاً، دليل على أنه في معنى اسم الفاعل.
ثم ائتلفت قلوبهم على إتباع
رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتحدوا، وأنشؤوا يرمون عن قوس واحدة، وذلك لما نظم الله من ألفتهم، وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتوادّ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب، فهو يقلبها كما شاء، ويصنع فيها ما أراد.
وقيل: هم الأوس والخزرج، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم، ودق جماجمهم، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن، ويديم التحاسد والتنافس، وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها، وتكرهه وتنفر عنه، فأنساهم الله تعالى ذلك كله حتى اتفقوا على الطاعة، وتصافوا، وصاروا أنصاراً، وعادوا أعواناً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته.
[(يأيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) 64]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وبينهما التجاور)، الأساس:"وهم جيرتي، وتجاوروا".
قوله: (وعادة كل طائفتين: مبتدأ، والخبر "أن تنجب"، و"كانتا بهذه المثابة" صفة "طائفتين".
قوله: (وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته): ويمكن أن يستنبط هذا المعنى من قوله: (عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فإن العزيز دل على بليغ قدرته، ومن عزته: أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وجعل بعثته من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة، حيث ألف به قلوبهم، وأذل صعبهم؛ بأن أوقع بنهم الرحمة والتواضع، ورفع الأنفة الكبر، ولا يقدر على ذلك إلا من يكون قاهراً على الأشياء كلها، مالكاً للقلوب الأبية المجبولة على الحمية الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن
(وَمَنِ اتَّبَعَكَ) الواو بمعنى "مع" وما بعده: منصوب، تقول: حسبك وزيداً درهم، ولا تجرّ؛ لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكني ممتنع، قال:
فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ عَضْبٌ مُهَنَّدُ
والمعنى: كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً، أو يكون في محل الرفع: أي: كفاك الله وكفاك المؤمنون.
وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وعن ابن عباس رضي الله عنه نزلت في إسلام عمر، وعن سعيد بن جبير: أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، ثم أسلم عمر رضي الله عنه، فنزلت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفها كيف يشاء". رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو، وأحمد بن حنبل عن أم سلمة.
ومن حكمته: أن دبر أمورهم هذا التدبير العجيب، وأحدث فيهم من التواد والتحاب، ونظم ألفتهم وجمع كلمتهم، لأن الفاصلة كالتعليل للتأليف، ولابد من مناسبة لتخصيص الصفتين.
قوله: (فحسبك والضحاك عضب مهند): أوله:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا
وانشقاق العصا: عبارة عن التفرق، ونصب "الضحاك" بقوله:"فحسبك"، لأنه في معنى: يكفيك، يقول: إذا كان يوم الحرب ووقع الخلاف بينكم فحسبكم مع الضحاك سيف هندي.
[(يأيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ* ألن خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) 65 - 66]
التحريض: المبالغة في الحث على الأمر، من الحرض، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه، حتى يشفى على الموت، أو أن تسميه حرضاً، وتقول له: ما أراك إلا حرضاً في هذا الأمر وممرضاً فيه؛ ليهيجه ويحرّك منه. ويقال: حركه وحرضه وحرشه وحربه؛ بمعنى.
وقرئ: " حرص" بالصاد غير المعجمة، حكاها الأخفش؛ من الحرص. وهذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده، ثم قال:(بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي: بسبب أنَّ الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم، فيقل ثباتهم ويعدمون- لجهلهم بالله- نصرته، ويستحقون خذلانه، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو أن تسميه حرضاً): عطف على قوله: "المبالغة في الحث"، يريد: أن "حرضاً" له معنيان. الأساس: "نُهِكَ فلان مرضاً حتى أصبح حرضاً، أي: أشفى على الهلاك، وحرضه على الأمر، وفيه تحريض"، فإذا حُمل على المعنى الأول فمعناه: يا أيها النبي حث المؤمنين على القتال، أي: بالغ في الأمر بالقتال، وإذا حُمل على الثاني فمعناه: سمهم حرضاً، كما يُقال: فسقته، أي: سميته فاسقاً، وهذا من باب التهييج والإلهاب، ولهذا قال:"ليهيجه ويُحرك منه".
قوله: (ويستحقون خذلانه)، وقوله:"ومعه ما يستوجب به النصر": بناء على مذهبه، فإن عندهم الوجوب عقلي، وفعل العبد مؤثر، وعندنا: الوجوب بسبب الوعد؛ تفضلاً منه تعالى، لقوله:(وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الروم: 47].
خلاف من يقاتل على بصيرة، ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله.
وعن ابن جريج: كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد منهم للعشرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة رضي الله عنه في ثلاثين راكباً، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب. قيل: ثم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه، وذلك بعد مدّة طويلة، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين.
وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء، ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء): فإن قلت: كيف يستقيم هذا مع قوله: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً)، فإن التحويل من القلة إلى الكثرة يزيد القوة لا الضعف؟
قلتُ: لما كان موجب القوة اعتمادهم على الله وتوكلهم عليه، لا على الكثرة، ما في بدر وغيره، أوجب أن يُقاوم واحد منهم عشرة، ولهذا يعلل الأمر بما يقابل قوله:(بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)، وإليه الإشارة بقوله:"خلاف من يقاتل على بصيرة، ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله"، ثم لما كثروا واعتمدوا عليها بعض الاعتماد، كما في حُنين، خفف الله عنهم بعض ذلك. وقال الإمام:"الكفار إنما يعولون على قوتهم وشوكتهم، والمسلمون يستعينون بالدعاء والتضرع، ومن كان كذلك كان النصر والظفر به أليق".
فإن قلت: فما معنى عطف قوله: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) على قوله: (خَفَّفَ اللَّهُ)؟ قلت: معناه: الآن خفف الله عنكم لما هر متعلق علمه تعالى، أي: كثرتكم التي هي موجب ضعفكم بعد ظهور قلتكم وقوتكم.
روى السلمي عن النصرابادي: هذا التخفيف كان للأمة دون الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن لا
وقرئ: (ضعفاً) بالفتح والضم؛ كالمكث والمكث، والفقر والفقر. و"ضعفا: ً؛ جمع ضعيف، وقرئ الفعل المسند إلى "المئة" بالتاء والياء في الموضعين.
والمراد بالضعف: الضعف في البدن، وقيل: في البصيرة والاستقامة في الدين، وكانوا متفاوتين في ذلك.
فإن قلت: لم كرّر المعنى الواحد- وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها- مرّتين، قبل التخفيف وبعده؟ قلت: للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت، لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المئتين، والمئة الألف، وكذلك بين مقاومة المئة المئتين والألف الألفين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يثقله حمل أمانة النبوة كيف يُخاطب بتخفيف اللقاء للأضداد؟ وكيف يُخاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقول:"بك أصول وبك أحول"، ومن كان به كيف يخفف عنه أو يُقل عليه؟
قوله: (وقرئ: (ضَعْفاً) بالفتح والضم): بالفتح: عاصم وحمزة، والباقون: بضمها.
قوله: (وقرئ الفعل المسند إلى المئة): أي: قوله: (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ)، بالياء التحتانية: الثانية: أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، والثالثة: عاصم وحمزة والكسائي. والباقون: بالتاء بلا خلاف.
قوله: (لأن الحال قد تتفاوت): يعني: حالة المقاومة تتفاوت، ترى الواحد لا يقاوم العشرة، والعشرة المئة، فإذا بلغ العدد إلى مئة مع ألف من العدو لا يكون الحكم كذلك،
[(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) 67 - 68]
وقرئ: "للنبيَّ"، على التعريف، و"أسارى"، و"يثخن"بالتشديد، ومعنى الإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه، من قولهم: أثخنته الجراحات: إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة، وأثخنه المرض: إذا أثقله؛ من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة، يعنى: حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل في أهله، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر، ثم الأسر بعد ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فربما يُقاومونهم على هذه الزيادة، ومن ثم قيل: الجيش العرمرم أربعة آلاف، فلا يُغلب من أجل القلة وكثرة العدو، ورُوي في الحديث:"خير الجيوش أربعة آلاف"، لكن حال المسلمين بخلاف ذلك، كما أشار إليه بقوله:"للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة".
قوله: (قرئ: "للنبي"
…
، و"أسارى"، و"يُثخن" بالتشديد): وهو في الشواذ. قال الزجاج: "قرئ: أسرى وأسارى، فمن قرأ: أسرى، فهو جمع أسير؛ وفعلى فعيل: جمع لكل من أصيب في بدنه وفي عقله، يقال: مريض ومرضى، وأحمق وحمقى، ومن قرأ: أسارى فهو جمع الجمع، يقال: أسير وأسرى وأسارى"، والفتح هو الأصل.
قوله: (ثم الأسر بعد ذلك): تفسير لمعنى الغاية في قوله تعالى: (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) يعني: لا يجوز الأسر إلا بعد إذلال الكفرة بالقتل، وإعزاز أهل الإسلام بالغلبة والقهر.
ومعنى (ما كانَ): ما صح له وما استقام، وكان هذا يوم بدر، فلما كثر المسلمون نزل (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد: 4].
وروى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه، وعقيل بن أبى طالب، فاستشار أبا بكر فيهم فقال: قومك وأهلك، استبقهم، لعلّ الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك، وقال عمر: كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر، وإن الله أغناك عن الفداء: مكن علياً من عقيل، وحمزة من العباس، ومكني من فلان لنسيب له، فلنضرب أعناقهم.
فقال عليه السلام: " إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة، وإنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم؛ قال: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم: 36]، ومثلك يا عمر مثل نوح؛ قال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح: 26]، ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أتي بسبعين أسيراً فيهم العباس) الحديث: مخرج في "مسند أحمد بن حنبل" عن ابن مسعود إلى قوله: "إلا بفداء أو ضرب عنق" مع اختلاف فيه. ومن قوله: "فإذا هو وأبو بكر يبكيان" إلى قوله: "لشجرة قريبة منه": رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس.
قال القاضي: "الآية دليل على أن الأنبياء مجتهدون، وأنه قد يكون خطأ، ولكن لا يقرون عليه".
وروي أنه قال لهم: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدّتهم، فقالوا: بل نأخذ الفداء، فاستشهدوا بأحد".
وكان فداء الأسارى عشرين أوقية، وفداء العباس أربعين أوقية. وعن محمد بن سيرين: كان فداؤهم مئة أوقية، والأوقية: أربعون درهما وستة دنانير.
وروى: أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان، فقال: يا رسول الله أخبرني، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال: أبكى على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه.
وروى أنه قال: لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمرو سعد بن معاذ"، لقوله: كان الإثخان في القتل أحب إلىّ.
(عَرَضَ الدُّنْيا): حطامها، سمى بذلك لأنه حدث قليل اللبث، يريد الفداء
(وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) يعنى: ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل، وقرئ:"يريدون" بالياء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((عَرَضَ الدُّنْيَا): حُطامها)، الراغب:"العرض: ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون العرض لما لا ثبات له إلا بالجوهر، كاللون والطعم، وقيل: "الدنيا عرض حاضر"، تنبيهاً على أن لا ثبات لها".
وقرأ بعضهم "والله يريد الآخرة" بجرّ "الآخرة" على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على حاله، كقوله:
وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِالَّليْلِ نَارَاً
ومعناه: والله يريد عرض الآخرة؛ على التقابل، يعنى ثوابها (وَاللَّهُ عَزِيزٌ) يغلب أولياءه على أعدائه، ويتمكنون منهم قتلا وأسراً، ويطلق لهم الفداء، ولكنه (حَكِيمٌ) يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزوا، وهم يعجلون.
(لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ) لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح، وهو أنه لا يعاقب أحد بخطأ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ونار توقد بالليل ناراً): أوله:
أكل امرئ تحسين امرأ
يقول: أكل امرئ تظنين أنه رجل ذو سماحة وشجاعة، وكل نار تُرى بالليل تظنين أنها نار قرى. قال ابن جني:"هو بيت الكتاب"، وتقديره:"وكل نار"، فناب ذكره في أول الكلام عن إعادتها في آخره، كأنه قال: وكل نار، هرباً من العطف على عاملين، وهما (كل) و (تحسين) ".
وعلى هذا قراءة الجر في "الآخرة" بتقدير "عرض"، وإنما جاز للمشاكلة، لأن العرض - بالتحريك - متاع الدنيا وحطامها، والدار الآخرة هي الحيوان، وثوابه دائم لا ينقطع.
لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم، وأنّ فداءهم يتقوّى به على الجهاد في سبيل الله، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام، وأهيب لمن وراءهم، وأفل لشوكتهم.
وقيل: كتابه: أنه سيحل لهم الفدية التي أخذوها. وقيل: إن أهل بدر مغفور لهم. وقيل: إنه لا يعذب قوماً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهى، ولم يتقدم نهى عن ذلك.
[(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) 69]
(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) روي أنهم أمسكوا عن الغنائم، ولم يمدّوا أيديهم إليها، فنزلت. وقيل: هو إباحة للفداء، لأنه من جملة الغنائم (وَاتَّقُوا اللَّهَ) فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه.
فإن قلت: ما معنى الفاء؟ قلت: التسبيب والسبب محذوف، معناه: قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم، (وحللاً): نصب على الحال من المغنوم، أو صفة للمصدر، أي أكلاً حلالاً، وقوله:(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) معناه: أنكم إذا اتقيتموه بعد ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه، غفر لكم ورحمكم، وتاب عليكم.
[(يأيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 70]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أن أهل بدر): بفتح "أن"، أي: كتابه أن أهل بدر مغفور لهم، وهو من قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه في حديث حاطب:"إنه قد شهد بدراً، وما يُدريك لعل الله اطلع على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم، قد غفرت لكم" الحديث، أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما كما سبق.
(فِي أَيْدِيكُمْ): في ملكتكم، كأن أيديكم قابضة عليهم. وقرئ:(من الأسرى)، (فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً): خلوص إيمان، وصحة نية، (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه، أو يثيبكم في الآخرة. وفي قراءة الأعمش:(يثبكم خيراً).
وعن العباس أنه قال: كنت مسلماً، لكنهم استكرهوني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا"، وكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر، وخرج بالذهب لذلك.
وروى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس: "افد ابني أخيك؛ عقيل بن أبى طالب، ونوفل بن الحارث "، فقال: يا محمد، تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت. فقال له:" فأين الذهب الذي دفعته إلى أمّ الفضل وقت خروجك من مكة، وقلت لها: لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بى حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل؟ " فقال العباس: وما يدريك؟ قال "أخبرني به ربى"، قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله، وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتاباً في أمرك، فأمّا إذ أخبرتني بذلك فلا ريب. قال العباس: فأبدلني الله خيراً من ذلك، لي الآن عشرون عبداً، إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً، وأعطاني زمزم، ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعن العباس أنه قال): الحديث بتمامه مذكور في "مُسند أحمد بن حنبل" عن ابن عباس مع تغيير، لكن ليس فيه حديث "عشرون عبداً".
قوله: (ليضربُ): أي: ليضرب الأرض، ويسافر فيها، ويتجر في عشرين ألفاً.
وروي: أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفاً، فتوضأ لصلاة الظهر، وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير مما أخذ منى، وأرجو المغفرة.
وقرأ الحسن وشيبة: "مما أخذ منكم"، على البناء للفاعل.
[(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 71]
(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ): نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم (فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) كما رأيتم يوم بدر، فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة. وقيل: المراد بالخيانة: منع ما ضمنوا من الفداء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ)): يُقال: مكنه من الشيء وأمكنه منه: أقدره عليه. الأساس: "مكنته من الشيء وأمكنته منه، فتمكن منه واستمكن، ويقول المصارع لصاحبه: مكني من ظهرك".
وفي إيقاع قوله تعالى: (فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) جزاء للشرط: معنى قولهم: إن تكرمني الآن فقد أكرمتك أمس، وهو متضمن للتوبيخ والإخبار بالوعيد، ومن ثم قال:"فسيمكن منهم"، وهذه الآية قرينة للسابقة، والمعنى: قل للأسارى إن أردتم الإخلاص في الإيمان، وصحت نياتكم لله فيه، فالله تعالى لا يضيع حقكم في الدنيا والآخرة، وإن أردتم الأخرى - وهي دأبكم وعادتكم - فالله تعالى قادر على أن يمكن منكم. فوضع الخيانة موضع عدم الإخلاص في الإيمان، ليؤذن بأن الإيمان هو الأمانة التي استودع الله في بني آدم (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ) إلى قوله:(وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ)[الأحزاب: 72]، ولذلك قال:"ونقض ما أُخذ على كل عاقل من ميثاقه" يعني: في قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)[الأعراف: 172].
[(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) 72]
الذين هاجروا: أي: فارقوا أوطانهم وقومهم حبا لله ورسوله: هم المهاجرون. والذين آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم: هم الأنصار.
(بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي: يتولى بعضهم بعضاً في الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون ذوى القرابات، حتى نسخ ذلك بقوله:(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)[الأحزاب: 6].
وقرئ: (من ولايتهم) بالفتح والكسر، أي من توليهم في الميراث. ووجه الكسر أن تولى بعضهم بعضا شبه بالعمل والصناعة، كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملا، (فَعَلَيْكُمُ النَّصْر): ُ فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين (إِلَّا عَلى قَوْمٍ) منهم (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ): عهد فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدؤون بالقتال، إذ الميثاق مانع من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: (مِنْ وَلايَتِهِمْ) بالفتح): مصدر، "وبالكسر": حمزة وحده، الجوهري:"الولاية بالكسر: السلطان، وبالفتح: النصرة، ويُقال: هم على ولاية، أي: مجتمعون في النصرة، وقال سيبويه: الولاية بالفتح: المصدر، وبالكسر: السلطان، والولاية مثل الإمارة والنقابة".
قوله: (أن تولي بعضهم بعضاً شبه بالعمل): قيل: الظاهر أنه أراد أن المصدر في الصنائع وما يزاول فيه ويعالج: يجيء على"فعالة" بالكسر، مثل: الكتابة والتجارة والصناعة، فشبه تولي بعضهم بعضاً بالعمل والصناعة، ثم استعير.
وقال الزجاج: وكل ما كان من جنس الصناعة فمكسور، مثل: الخياطة.
[(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) 73]
[(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله تعالى في المسلمين: (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الأنفال: 72]، ومعناه: نهى المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم، وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم، وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضا.
ثم قال: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً، حتى في التوارث، تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار، ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة، لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك، كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً.
وقرئ "كثير" بالثاء.
[(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) 74 - 75].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: إن لا تفعلوا ما أمرتكم به): يريد أن الضمير في (تَفْعَلُوهُ) بمنزلة اسم الإشارة الذي يُشار به إلى جميع ما ذُكر، والمذكور: قيل: ما دل على الأمر والنهي، لأن معنى (أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) الأمر بتواصل المسلمين، وقوله:(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) نهيٌ عن تواصل الكافرين، ومن ثم قال:"ومعناه نهيُ المسمين"، ولذلك صح أن يجمعهما قوله:(إِلاَّ تَفْعَلُوهُ) أي: إن لم تمتثلوا ما أمرتم به، ولم تنتهوا عما نُهيتم عنه.
قوله: (بدا واحدة): عبارة عن الاتفاق والتعاضد. النهاية: "في الحديث: "اجعل الفُساق يداً يداً": أي: فرق بينهم، ومنه قولهم: تفرقوا أيادي سبأ، أي: تفرقوا في البلاد أشتاتاً".
(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه، بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والانسلاخ من المال لأجل الدين، وليس بتكرار لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم، والشهادة لهم مع الموعد الكريم، والأولى للأمر بالتواصل.
(وَالَّذِينَ ءامَنُوا مِنْ بَعْدُ) يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله:(وَالَّذِينَ جآءُو مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ)[الحشر: 10]، ألحقهم بهم، وجعلهم منهم، تفضلا منه وترغيباً
(وَأُولُوا الْأَرْحامِ): أولو القرابات أو أولى بالتوارث، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة (فِي كِتاب اللَّهِ) تعالى: في حكمه وقسمته. وقيل في اللوح. وقيل في القرآن، وهو آية المواريث، وقد استدل به أصحاب أبى حنيفة على توريث ذوى الأرحام.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة الأنفال وبراءة، فأنا شفيع له يوم القيامة، وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطى عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة، وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وليس بتكرار): يعني: قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا) إلى قوله: (وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا) إنما جيء به أولاً وعُقب بقوله: (أُوْلَئِكَ)، ليؤذن بأنهم السابقون في الدين الفائزون بالقدح المعلى فيه، فلا يُشق غبارهم، فهم لذلك أجرياء بأن يكونوا إخواناً، وأن لا يؤثر بعضهم نفسه بالمزايا الدنيوية على أخيه، وأعيد ثانياً ليعلق به ما لهم عند الله من المراتب السنية، والفوز بالرضوان والمقامات العلية، فجمع خير الدارين بتينك الخلتين.
وأنت إذا تأملت هذه الخاتمة، حققت النظر في الفاتحة، عند قوله:(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)[الأنفال: 1]، عرفت إيجاب رعاية النظم في المبدأ والوسط والمنتهى. والله أعلم بالصواب.
* * *
تمت السورة
سورةُ التوبة
مدنية، وهي مئة وثلاثون -وقيل: تسع وعشرون- آية
بسم الله الرحمن الرحيم
لها عدة أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكلة، المدمدمة، سورة العذاب؛ لأنّ فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق، أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها، وتثيرها، وتحفرها وتفضحهم، وتنكلهم، وتشرد بهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم.
وعن حذيفة: "إنكم تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سُورةُ العذاب، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..
سورة التوبة
مدنية، وهي مئة وثلاثون أو تسع وعشرون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه)، النهاية:"وفي الحديث: "أن رجلاً كان ينال من الصحابة"، يعني: الوقيعة فيهم"، يعني: ما ذُكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيها أحد من فرق الناس؛ كالمشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين، إلا بُولغ في شأنهم أقصى الغاية، لا ترى أبلغ منها.
أما المشركون والمنافقون وأحوالهم فلا حاجة إلى البيان. وأما المؤمنون الخُلص فورود قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ)، إلى قوله:(أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[التوبة: 24]، وهو من أشد ما يُخاطب به المخالف، فكيف الموافق؟ ولهذا قال الحسن: عقوبة آجلة وعاجلة، وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها.
وأما أهل الكتاب فإن قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)[التوبة: 29] إلى منتهى قوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ)[التوبة: 34 - 35] جامع لخزي الدنيا والصغار والذلة وخزي الآخرة على أبلغ ما يكون.
ويقرب مما رُوي عن حذيفة: ما روى البخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال: "قلت لابن عباس: سورة التوبة، قال: بل هي الفاضحة، ما زالت تقول: (وَمِنْهُمْ)، (وَمِنْهُمْ)، حتى ظنوا أن لا يبقى أحدٌ إلا ذُكر فيها".
وأما تسميتها بالتوبة: فلقوله تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ)[التوبة: 117]، إلى قوله:(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا)[التوبة: 118]، فغُلبت على العذاب، فسميت بالتوبة.
وأما ما رواه المصنف عن حذيفة، فمعناه: أنه غلب الأغلب الأقوى على الأقل الأضعف، غير لازم، فغن سورة البقرة سميت: بقرة، على أن حديث البقرة نزر قليل بالنسبة إلى غيره.
فإن قلت: هلا صدرت بآية التسمية، كما في سائر السور؟ قلت: سأل عن ذلك ابن عباس عثمان رضي الله عنهما، فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية قال: "اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا "، وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فلذلك قرنت بينهما، وكانتا تدعيان القرينتين، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (سأل عن ذلك ابن عباس عثمان رضي الله عنهما، الحديث: اعلم أن جوابه غير مطابق للسؤال؛ سأل عن بيان عدم تصدير السورة بالبسملة، وأجاب عن موقع السورة مع أختها، ويمكن أن يُقال: إن السؤال كان عن شيئين، فاختصر في السؤال على أحدهما، وفي الجواب على الآخر، يدل عليه ما روى أحمد بن حنبل في "مسنده"، والترمذي وأبو داود في "سننهما"، عن ابن عباس قال: قلت لعُثمان رضي الله عنه: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المثين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)؟ ووضعتموها في السبع الطوال؟ قال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب، يقول:"ضعوا هذه الآيات في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا"، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يُبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، ووضعتها في السبع الطوال.
قلت: في الحديث دليل ظاهر على بيان ترتيب الآي والسور.
وعن أبي بن كعب: "إنما توهموا ذلك، لأنّ في الأنفال: ذكر العهود، وفي براءة: نبذ العهود".
وسئل ابن عيينة فقال: اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة، قال تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء: 94]، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعن أُبي بن كعب إنما توهموا [ذلك]؛ لأن في الأنفال: ذكر العهود، وفي براءة: نبذ العهود): الأول إشارة إلى قوله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)[الأنفال: 61]، والثاني: ما ذكر في آية السيف.
قوله: (قال الله تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً)[النساء: 94]: روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عباس: "لقي ناس من المسلمين رجلاً في غنيمة له، فقال: السلام عليكم، فأخذوه، فقتلوه، وأخذوا تلك الغنيمات، فنزلت: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) [النساء: 94]، وقرأ ابن عباس: (السَّلامَ) ".
ووجه الاستدلال أن الكفار لما نبذوا العهد وأظهروا المحاربة، فالمناسب أن لا يُكتب إليهم في صدر الكتاب البسملة، لأنها أمارة أمان وسلامة؛ لما اشتملت على الاسم الجامع والوصف بما ينبئ عن جلائل النعم ودقائقها، وهو المراد من قوله" "اسم الله سلام وأمان"، كما أن المحارب حين طلب الأمان بالتسليم كان الواجب أن لا يقال له: لست مؤمناً؛ لأن السلام طلب سلامة وأمان.
قال المصنف في قوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً)[النور: 61]: "إن التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه".
قيل: فإنّ النبي عليه السلام قد كتب إلى أهل الحرب: "بسم الله الرحمن الرحيم"؟ قال: إنما ذلك ابتداء، يدعُوهُم ولم ينبذُ إليهم، ألا تراه يقول" "سَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى"، فمن دعي إلى الله فأجاب، ودعي إلى الجزية فأجاب: فقد اتبع الهدى، وأمّا النبذ: فإنما هو البراءة واللعنة، وأهل الحرب لا يسلم عليهم، ولا يقال: لا تفرق ولا تخف، ومترس ولا بأس: هذا أمان كله.
وقيل: سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة، كلتاهما نزلت في القتال، تعدّان السابعة من الطول، وهي سبع، وما بعدها المئون، وهذا قول ظاهر، لأنهما معاً مئتان وست، فهما بمنزلة إحدى الطول. وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال؛ بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة. وقال بعضهم: هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال: هما سُورتان، وتركت (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لقول من قال: هما سورة واحدة.
[(بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكفِرِينَ) 1 - 2]
(بَراءَةٌ) خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه براءة، (ومِنَ) لابتداء الغاية، مُتعلق بمحذوف وليس بصلة، كما في قولك: برئت من الدين، والمعنى: هذه براءة واصلة من الله ورسوله (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ)، كما يقول: كتاب من فلان إلى فلان.
ويجوز أن يكون (بَراءَةٌ) مبتدأ لتخصيصها بصفتها، والخبر:(إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ)، كما تقول: رجل من بني تميم في الدار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم: يعني: اعترضوا على ابن عيينة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (متعلق بمحذوف وليس بصلة): أي: ظرف مستقر، وليس لغواً، كما في قولهم: برئت من الدين، فإنه صلة.
وقرئ: "براءة" بالنصب؛ على: اسمعوا براءة. وقرأ أهل نجران: "من الله" بكسر النون، والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته. والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وأنه منبوذ إليهم.
فإن قلت: لم علقت البراءة بالله ورسوله، والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت: قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلاً، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما نجدّد من ذلك، فقيل لهم: اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ("من الله"، بكسر النون): قال ابن جني: "حكاها سيبويه، وهو أولى القياس، تكسرها لالتقاء الساكنين، غير أنه كثر استعمال "مِنْ" مع "لام" المعرفة، فهربوا من توالي الكسرتين إلى الفتح، وإذا كانوا قد قالوا: "قُم الليل" و"قل الحق"، ففتحوا، ولم يلق هناك كسرتان، فالفتح في (مِنْ اللَّهِ) لتوالي الكسرتين أولى".
قوله: (لم عُلقت البراءة بالله ورسوله، والمعاهدة بالمسلمين؟ ): يعني: كان المناسب أن تُنسب المعاهدة والبراءة كلاهما: إما إلى المؤمنين معاً، أو إلى ذاته عز وجل معاً، كما قال صاحب "التقريب"، وإنما علق البراءة بالله والرسول مع أن المعاهدة من المسلمين، وحق البراءة أن تُنسب إلى المعاهد؛ لأن الله تعالى أذن في المعاهدة، فكأنه عاهد وبرئ.
أجاب المصنف بأن ذلك إعلام بحسب الوقوع وترتيب الوجود، أذن الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أولاً بالمعاهدة، فعاهدوا، ثم لما نقض المشركون العهد جدد الله إعلاماً آخر، وقال لهم: اعلموا أن الله ورسوله برئ منهم، فتبرؤوا أنتم أيضاً.
ويمكن أن يُقال: إن المعاهدة لم تكن إلا بإذن الله تعالى وإباحته، فلما نبذ المشركون العهد نسب الله تعالى البراءة إلى نفسه، وضم معه ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً عليهم وتهديداً شديداً فينطبق عليه قول المصنف أولاً:"أذن الله"، وثانياً:"أوجب الله النبذ".
رُوي: أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب، فنكثوا إلا ناساً منهم، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة، فنبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤوا، وألا يتعرّض لهم، وهي الأشهر الحرم في قوله:(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ)[التوبة: 5]، وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها، وكان نزولها سنة تسع من الهجرة، وفتح مكة سنة ثمان، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، فأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على موسم سنة تسع، ثم أتبعه علياً رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم، فقيل له: لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال: "لا يؤدى عنى إلا رجل منى"، فلما دنا علىّ سمع أبو بكر رضي الله عنه الرغاء، فوقف، وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قال صاحب "الانتصاف": "فيه سر، وذلك أنه لا يُسند العهد إلى الله تعالى في مقام يوهم شائبة النقض إجلالاً وتعظيماً لكبريائه، ألا ترى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا: "وإذا نزلت بحصن، فطلبوا النزول على حكم الله تعالى فأنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أصادفت حكم الله تعالى أم لا؟ وإن طلبوا ذمة الله فأنزلهم على ذمتك، فلأن تخفر ذمتك خير من أن تخفر ذمة الله"، فتوقير عهد الله واجب، وقد تحقق من المشركين النكث، وتبرأ الله ورسوله منه، فأحرى بأن لا ينسب العهد المنبوذ إلى الله تعالى".
قوله: (العضباء): وهي مشقوقة الأذن، وقيل: العضباء لقب لناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن مشقوقة الأذن.
قوله: (لا يؤدي عني إلا رجل مني): روى أحمد بن حنبل عن أبي جُنادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "علي مني وأنا منه، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي".
وروي: أنّ أبا بكر رضي الله عنه لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك، فأرسل علياً، فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أشيء نزل من السماء؟ قال:"نعم، فسر وأنت على الموسم، وعلىّ ينادى بالآي"، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم، وقام على يوم النحر عند جمرة العقبة، فقال: يا أيها الناس، إني رسول رسول الله إليكم. فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، وعن مجاهد: ثلاث عشرة.
ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده: فقالوا عند ذلك: يا على، أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد؛ إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف.
وقيل: إنما أمر أن لا يبلغ عنه إلا رجل منه؛ لأنّ العرب عادتها في نقض عهودها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها، فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا: هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود، فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضي الله عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروى الترمذي عن أنس قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع أبي بكر رضي الله عنه، ثم دعاه، فقال:"لا ينبغي لحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي"، فدعا علياً رضي الله عنه وأعطاه إياه.
قوله: (أمُرت بأربع): أي: أن أنادي بأربع. فإن قلت: ما فائدة النداء بقوله: "ولا يدخلن الجنة إلا كل نفس مؤمنة"؟ قلت: الإعلام بأن المشرك لا يقبل منه بعد هذا غير الإيمان، كقوله تعالى:(فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إلى قوله: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)[التوبة: 5]، وهو من باب: لا رأينك هاهنا، يعني: أمرت بأن أنادي بأن يتصفوا بما يستعدون به أن يكونوا أهلاً للجنة، إذ لا يقبل منهم سوى هذا.
فإن قلت: الأشهر الأربعة ما هي؟ قلت: عن الزهري: أنّ براءة نزلت في شوال، فهي أربعة أشهر: شوّال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة، والمحرّم، وصفر، وشهر ربيع الأوّل، وعشر من شهر ربيع الآخر، وكانت حرماً؛ لأنهم أُومنوا فيها وحرّم قتلهم وقتالهم، أو على التغليب؛ لأنّ ذا الحجة والمحرّم منها.
وقيل: لعشر من ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول؛ لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية من ذي الحجة.
فإن قلت: ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم، وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ قلت: قالوا: نسخ وجوب الصيانة، وأبيح قتال المشركين فيها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (أو على التغليب): عطف على "لأنهم أومنوا"، أي: أطلق على عشرين من ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر اسم الأشهر الحرم، لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو أطلق هذا الاسم على التغليب، يعني: غُلب ذو الحجة والمحرم، لأنهما من الأشهر الحرم بالاتفاق، على صفر وربيع الأول وبعض ربيع الآخر، لأنها ليست من الأشهر الحرم، فسموا بالأشهر الحرم.
قوله: (وقيل: لعشر من ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول): وهذا أقرب الأقوال، لأن نداء علي بالآيات كان يوم النحر عند جمرة العقبة، كما سبق.
قوله: (للنسيء الذي كان فيهم): رُوي أنهم كانوا ينسئون الحج كل عامين من شهر إلى شهر آخر، ويجعلون الشهر الذي أنسؤوا فيه ملغي، فتكون تلك السنة ثلاثة عشر شهراً،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويتركون العام الثاني على ما كان عليه الأول، فلا يزالون كذلك إلى خمس وعشرين سنة، ثم يستدير حينئذ الشهر الذي بُديء منه، وكانت السنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع التي وصل ذو الحجة إلى موضعه، فقال صلى الله عليه وسلم في خطبته:"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً"، يعني: أن الله تعالى أدحض أمر النسيء، فإن حساب السنة قد استقام ورجع إلى الأصل الموضوع يوم خلق السماوات والأرض. قوله:"السنة اثنا عشر شهرا"تأكيد في إبطال أمر النسيء.
وروى محيي السنة في "شرح السنة": "أن العرب كانت في الجاهلية قد بدلت أشهر الحج، وذلك أنهم كانوا يعتقدون تعظيم هذه الأشهر الحرم، ويتحرجون فيها عن القتال، فاستحل بعضهم القتال فيها من أجل أن عامة معايشهم كانت من الصيد والغارة، وكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر على التوالي، وكانوا إذا استحلوا شهراً منها، حرموا مكانه شهراً آخر، وهو النسيء الذي ذكر الله تعالى في كتابه: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [التوبة: 37]، ومعنى النسيء: تأخير تحريم رجب إلى شعبان، والمحرم إلى صفر، مأخوذ من: نسأت الشيء: إذا أخرته، وكان ذلك في كنانة، وإذا أخروا تحرمي المحرم إلى صفر، ومكثوا ذلك زماناً، ثم احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر إلى الربيع، فعلوا هكذا شهراً بعد شهر، حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام، وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله".
وقد سبق في سورة البقرة عند قوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[البقرة: 197] رواية عن بعضهم على غير هذه الطريقة.
(غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ): لا تفوتونه وإن أمهلكم، وهو مخزيكم، أي: مذلكم في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالعذاب.
[(وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) 3]
(وَأَذانٌ) ارتفاعه كارتفاع (براءة) على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها، ولا وجه لقول من قال: إنه معطوف على (براءة)، كما لا يقال:"عمرو" معطوف على "زيد"، في قولك: زيد قائم، وعمرو قاعد، والأذان: بمعنى الإيذان، وهو الإعلام، كما أنّ الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء.
فإن قلت: أي فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت: تلك إخبار بثبوت البراءة، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كما لا يُقال: "عمرو" معطوف على "زيد" في قولك: زيد قائم وعمرو قاعد): ولقاتل أن يقول: لِمَ لا يجوز أن يُعطف على (بَرَاءَةٌ)، على أن يكون من عطف الخبر على الخبر، كأنه قيل: هذه السورة براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم خاصة، وأذان من الله ورسوله إلى الناس عامة. نعم، الأحسن الأوجه أن يكون عطف جملة على جملة، لئلا تتخلل بين الخبرين جمل كثيرة أجنبية، ولئلا يفوت التطابق بين المبتدأ والخبر تأنيساً وتذكيراً.
قوله: (تلك إخبار بثبوت البراءة): يعني: قوله: (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) يعني: هذه براءة ثابتة من الله ورسوله (إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ) إخبار من الله تعالى لمن خاطبهم بقوله: (عَاهَدتُّمْ)، بثبوت هذا الحكم في علم الله تعالى، وقوله: (وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
فإن قلت: لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين، وعلق الأذان بالناس؟ قلت: لأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم، وأمّا الأذان فعام لجميع الناس؛ من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث.
(يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) يوم عرفة، وقيل: يوم النحر؛ لأنّ فيه تمام الحج ومعظم أفعاله؛ من الطواف، والنحر، والحلق، والرمي. وعن على رضي الله عنه: أن رجلا أخذ بلجام دابته، فقال: ما الحج الأكبر؟ قال: يومك هذا، خل عن دابتي!
وعن ابن عمر رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع، فقال:"هذا يوم الحج الأكبر".
ووصف الحج بالأكبر؛ لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر، أو جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر؛ لأنه معظم واجباته؛ لأنه إذا فات فات الحج، وكذلك إن أريد به يوم النحر؛ لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج فهو الحج الأكبر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
…
النَّاسِ) إخبارٌ منه تعالى لأولئك المخاطبين واجب التبليغ إلى كافة الناس في ذلك اليوم المخصوص، بما ثبت في حكم الله تعالى من تلك لبراءة.
فقوله: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) إجمال لتفصيل ما أخبر أولاً من قوله: (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ)، إلى قوله:(فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ)، المشتمل على التهديد والوعيد، بقوله:(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ)[التوبة 1 - 2]، ومن ثم رتب عليه قوله:(فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فالكلام مُدمج بعضه في بعض، الثاني مقرر للأول متضمن لمعنى زائد عليه.
قوله: (أو جُعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر): عطف معنوي على قوله: "لأن العمرة"، كأنه قال: إنما سُمي مجموع الأركان بالحج الأكبر، لأن العمرة حج أصغر، أو سُمي بعض
وعن الحسن: سُمى يوم الحج الأكبر؛ لاجتماع المسلمين والمشركين فيه، وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم على قلب كل مؤمن وكافر. حذفت الباء التي هي صلة "الأذان" تخفيفاً، وقرئ "إن الله" بالكسر؛ لأنّ "الأذان" في معنى "القول".
(وَرَسُولِهِ) عطف على المنوي في (بَرِيءٌ)، أو على محل "إن" المكسورة واسمها، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أركان الحج - وهو الوقوف بعرفة- بالحج الأكبر، لأنه مُعظم أركان الحج، وبقية الأركان دونه أو أصغر منه؛ تسمية لمعظم الشيء باسم كله.
قوله: (حُذفت الباء التي هي صلة "الأذان" تخفيفاً): قال أبو البقاء: " (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) بفتح الهمزة، وفيه وجهان: أحدهما: هو خبر الأذان، أي: الإعلام من الله براءته من المشركين، والثاني: هو صفة، أي: وأذان كائن بالبراءة، وقيل: التقدير: وإعلام من الله بالبراءة، فالباء متعلقة بنفس المصدر".
قوله: (أو على محل "عن" المكسورة): أي: (وَرَسُولُهُ) عطف على محل "إنَّ" المكسورة واسمها، على تقدير عدمها، وذلك لأن المكسورة لما لم تُغير المعنى جاز أن تقدم كالعدم، فتعطف على محل ما عملت فيه. هذا معنى قولهم: يُعطف على محلها مع اسمها.
هذا على ما قرئ في الشاذة بكسر "إن" ظاهر، وأما على المشهورة بفتح "أن"؛ فلأنها في تأويل المكسورة، قال أبو البقاء:"هذا عند المحققين غير جائز، لأن المفتوحة لها موضع غير الابتداء، بخلاف المكسورة".
قال ابن الحاجب: " (وَرَسُولُهُ) بالرفع معطوف على "إن" باعتبار المحل، وإن كانت مفتوحة لأنها في حكم المكسورة، وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون، فإنهم إذا قالوا: يُعطف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على اسم "إن" المكسورة دون غيرها، توهموا أنه لا يجوز العطف على المفتوحة، والمفتوحة تنقسم إلى قسمين: قسم يجوز العطف على اسمها بالرفع، وقسم لا يجوز.
فالذي يجوز: هو أن تكون في حكم المكسورة، كقولك: علمت أن زيداً قائم وعمرو، لأنه في معنى: إن زيداً قائم وعمرو، فكما جاز العطف ثم جاز هاهنا، ألا ترى أن "عَلِمَ" لا يدخل إلا على المبتدأ والخبر، يدل على ذلك وجوب الكسر في قولك: علمت إن زيداً لقائم، وإنما انتصب بعدها توفيراً لما يقتضيه "علمتُ" من معنى المفعولية، وإذا تحقق أنها في حكم المكسورة جاز العطف على موضعها.
وإن كانت المفتوحة على غير هذه الصفة لم يجز العطف على اسمها بالرفع، مثل قولك: أعجبني أن زيداً قائم وعمراً، فلا يجوز غلا النصب، لأنها ليست مكسورة ولا في حكمها"،
وقال في غير هذا الموضع: "إنما لم يعطف على المفتوحة لفظاً ومعنى؛ لأنها واسمها وخبرها بتأويل خبر واحد، فلو قدرت أنها في حكم العدم لأخلت بموضوعها، بخلاف "إن" المكسورة، لأنها لا تُغير المعنى، فجاز تقدير عدمها لكونها للتأكيد المحض، كما جاز تقدير عدم الباء المؤكدة في قوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا"
وقرئ بالنصب؛ عطفًا على اسم "أن"، أو لأن الواو بمعني "مع"، أي: برئ معه منهم، وبالجر على الجوار، وقيل: على القسم؛ كقوله: (لَعَمْرُكَ)[الحجر: 72].
ويحكى أن أعرابيًا سمع رجلا يقرؤها، فقال: إن كان الله بريئًا من رسوله فأنا منه برئ، فلبيه الرجل إلى عمر، فحكى الأعرابي قراءته، فعندها أمر عمر رضي الله عنه بتعليم العربية.
(فَإن تُبْتُمْ) من الكفر والغدر (فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وإن تَوَلَّيْتُمْ) عن التوبة، أو ثبتم على التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء، فأعلموا أنكم غير سابقين الله، ولا فائتين أخذه وعقابه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وبالجر على الجوار): يعني: هو منصوب معطوف على اسم "أنَّ"، لكن مجرور لجوار قوله:(الْمُشْرِكِينَ)، نحو قولهم: جُحر ضب خرب. وهذا ليس بشيء؛ لأنه قد عُلم من قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ)[المائدة: 6] ومن مواضع في "كتابه" أن فائدة العطف على الجوار اكتساب المعطوف بعض معناه من المعطوف عليه، ولا يجوز ذلك هاهنا، وقال أبو البقاء:"ولا يكون عطفا ًعلى (الْمُشْرِكِينَ)؛ لأنه يؤدي إلى الكفر".
قوله: (كقوله: (لَعَمْرُكَ): قال ابن قتيبة: لعمرك ولعمر الله: هو العمر، يقال: أطال الله عمرك وعمرك، وهو قسم بالبقاء، يريد المصنف أنه تعالى أقسم به صلى الله عليه وسلم هاهنا، كما أقسم به في قوله تعالى:(لَعَمْرُكَ)، ويجوز من الله أن يقسم بأشياء غيره، كما لا يجوز منا أن نقسم بغير الله.
قوله: (فلببه)، الجوهري:"لبيت الرجل تلبيباً: إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره، ثم جررته في الخصومة".
[(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) 4]
فإن قلت: مم استثنى قوله: (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ)؟ قلت: وجهه أن يكون مستثنى من قوله: (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ)[التوبة: 2]، لأن الكلام خطاب للمسلمين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (وجهه أن يكون مستثنى من قوله: (فَسِيحُوا)): يوهم أن هاهنا وجهاً آخر، قال أبو البقاء:" (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ) في موضع نصب على الاستثناء من (الْمُشْرِكِينَ)، ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر (فَأَتِمُّوا) ".
واختار الأول صاحب "الكواشي" والقاضي، كأن التقدير: براءة من الله ورسوله إلى المشركين الناكثين للعهد والذين لم ينقضوا العهد، سواء كانت مدة عهدهم أقل من أربعة أشهر أو أكثر أو غير محدودة، ثم استثنى من الجمع الذين ضُرب لهم أجل محدود فوق أربعة أشهر، ولم ينقضوا العهد، فأمروا أن يتموا عهدهم. وقوله:(فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) جزاء شرط محذوف.
وروى محيي السنة عن جماعة من المفسرين ما يقرب من هذا الوجه.
واختار الزجاج والمصنف الوجه الثاني، لأن (إلاَّ) إذا جُعل استدراكاً كان قوله:(الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ) مبتدأ، وهو متضمن لمعنى الشرط، فلذلك جيء في الخبر بالفاء، ورجح المصنف هذا الوجه بأن قوله:(عَاهَدتُّمْ) وقوله: (فَأَتِمُّوا) خطاب للمسلمين، وقوله:(فَسِيحُوا) أيضاً خطاب لهم على إضمار القول، فالمناسب أن يكون مستثنى منه، ليتطابقا،
ومعناه: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم سيحوا، إلا الذين عاهدتم منهم، ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم والاستثناء بمعنى الاستدراك، وكأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفي كالغادر.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) يعنى: أنّ قضية التقوى أن لا يسوّى بين القبيلين، فاتقوا الله في ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بخلافه إذا جُعل مستثنى من (الْمُشْرِكِينَ)، اللهم إلا أن يُذهب إلى التأويل المذكور، وفيه تعسف كما قررناه، ولهذا قال:"وجهه أن يكون مستثنى من قوله: (فَسِيحُوا) ".
وأيضاً على هذا يحسن عطف قوله: (وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ) الآية، على جملة (بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ)؛ ليؤذن بالتبري الكلي من المشركين، وأن هؤلاء المعاهدين قد استدرك منهم ضرورة، وغلا فالحق أن لا يستدرك أحد منهم، ولا يحسن هذا على المتصل.
قال في "الانتصاف": "ويجوز أن يكون (فَسِيحُوا) خطاباً من الله، ولا يُضمر قبله: "قولوا"، ويكون الاستثناء من قوله: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ)، أي: براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين، إلا الباقين على العهد، ويكون فيه خروج عن خطاب المسلمين في (عَاهَدْتُمْ) إلى خطاب المشركين في (فَسِيحُوا)، والتفات بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ)، وقياسه: غير معجزي وأني مخزي الكافرين. وفيه افتنان وتفخيم للشأن، ثم يعود إلى الخطاب للمؤمنين في قوله: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً) ".
قوله: (أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلين): يريد أن قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
(لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً): لم يقتلوا منكم أحداً، ولم يضروكم قط (وَلَمْ يُظاهِرُوا): ولم يعاونوا (عَلَيْكُمْ) عدوّا، كما عدت بنو بكر على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهرتهم قريش بالسلاح، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُتَّقِينَ) وارد على سبيل التعليل، لأن التقوى وصف مرتب على الحكمين، أعني قوله:"فقولوا لهم: سيحوا"، وقوله:(فَأَتِمُّوا)، ومضمونها عدم التسوية بين الغادر والوافي.
قوله: (كما عدت بنو بكر على خُزاعة): مُتعلق بقوله: "أن لا يُسوى بين القبيلين، فاتقوا الله في ذلك"، أي: فاتقوا الله في عدم التسوية، كما اتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يسو بين بني بكر وبني خزاعة، وقال:"لا نُصرت إن لم أنصركم".
روي محيي السنة: "دخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، ودخل بنو بكر في عهد قريش، ثم عدت بنو بكر على خزاعة، فنالت منها، وأعانتهم قريش بالسلاح".
قوله: (عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الجوهري:"العيبة: ما تُجعل فيه الثياب، والجمع: عيب وعياب"، النهاية:"في الحديث: "الأنصار كرشي وعيبتي": أي: خاصتي وموضع سري، والعربُ تكنى عن الصدور بالعياب؛ لأنها مستودع السرائر، كما أن العياب مستودع الثياب". في "الفائق": "استعار الكرش والعيبة لموضع السر والأمانة، لأن المجتر يجمع علفه في رشه، والرجل يحمل ثيابه في عيبته".
حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنشده:
لَاهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا
…
حِلْفَ أَبِينَا وَأبِيكَ الأَتْلَدَا
إن قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا
…
وَنَقَضُوا ذِمَامَكَ الْمُؤَكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْحَطِيمِ هُجَّدَا
…
وَقَتَلُونَا رُكَّعاً وَسُجَّدَا
فقال عليه الصلاة والسلام: "لا نصرت إن لم أنصركم".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (لاهم إني ناشد محمداً) الأبيات: "لا هم": أصله: اللهم، والميمان عوضان عن حرف النداء عند البصريين، وجوز سيبويه أن يكون "لاه" أصله اسم "الله"، ثم أدخلت عليه اللام، فجرى مجرى العلم كالعباس، وأصله: يا لاه، فأبدل الميم من حرف النداء، فصار: لاهم.
"ناشد": من قولهم في الاستعطاف: نشدتك بالله، أي: سألتك بالله، وطلبت إليك بحقه، ومعنى: إني سائل محمداً، أي: سائل ربي النصرة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
"الحلفُ" بالكسر: العهد بين القوم، والأحلاف: الذين يحالفون القوم على النصرة والوفاء. "الأتلد": أفعل التفضيل؛ من التالد: القديم.
"حلف أبينا": منصوب بمضمر، أي: اذكر وراع الذمام القديم الذي جرى بين آبائنا، وكان بين عبد المطلب وخُزاعة حلف قديم.
و"الحطيم": الذي فيه الميزاب، وهي الحجر، وسُمي به لأنهم كانوا في الجاهلية يحلفون فيهن فيحطم الكاذب.
قيل: فغضب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج إلى مكة، ونصر الله رسوله، وشفى الله صدور خزاعة من بني بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، كما قال تعالى:(وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ)[التوبة: 15].
وقرئ: (لم ينقضوكم) بالضاد معجمة، أي: لم ينقضوا عهدكم.
ومعنى (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ): فأدّوه إليهم تامّاً كاملًا. قال ابن عباس: بقي لحىّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتمّ إليهم عهدهم.
[(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 5]
انسلخ الشهر: كقولهم انجرد الشهر، وسنة جرداء. (والْأَشْهُرُ الْحُرُمُ): التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا. (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) يعنى: الذين نقضوكم وظاهروا عليكم، (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) من حلّ أو حرم، (وَخُذُوهُمْ) وأسروهم. والأخيذ: الأسير (وَاحْصُرُوهُمْ): وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: حصرهم: أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام.
(كُلَّ مَرْصَدٍ): كلّ ممرّ ومجتاز ترصدونهم به، وانتصابه على الظرف، كقوله (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف: 16]،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (انجرد الشهر)، النهاية:"في الحديث: "لأجردنك كما يجرد الضب"، أي: لأسلخنك كما يُسلخ الضب، لأنه إذا شُوي جُرد من جلده". الأساس: "ومن المجاز: وجردهم الجارود والجارودة، أي: العام والسنة. وسنة جرداء: كاملة منجردة عن انلقصان، وما رأيته منذ أجردان وجريدان، أي: نهاران.
قوله: (وانتصابه على الظرف، كقوله: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ)[الأعراف: 16]): أي: على صراطك، وهو من الشواذ.
(فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ): فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر، أو: فكفوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم كقوله:
خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِى الْمَنَارَ بِهِ
وعن ابن عباس رضي الله عنه: دعوهم وإتيان المسجد الحرام (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.
[(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) 6]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..
الانتصاف: "ويحتمل أن يكون "المرصد" مصدراً؛ لأن اسم الزمان والمكان والمصدر من فعله واحد، واقعدوا: في معنى: ارصدوا، ويقرب الظرفية قوله: (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، فيطابق الظرفية في المكانين".
قوله: (فأطلقوا عنهم بعد الأسر): هذا على أن يكون (وَاحْصُرُوهُمْ) مفسراً بالقيد والمنع من التصرف.
قوله: (أو: فكفوا عنهم ولا تتعرضوا لهم): هذا على أن يكون معنى (وَاحْصُرُوهُمْ): أن يُحال بينهم وبين المسجد الحرام، وعلى التقديرين فمعنى:(فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) كناية، إما عن افطلاق أو عدم التعرض.
قوله: (خل السبيل لمن يبني المنار به): تمامه:
وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر
برزة: اسم أم عمر بن لجأ التيمي، قال الجوهري:"البيت لجرير"، يهجو يقول: دع
(أَحَدٌ) مرتفع بفعل الشرط مضمرًا يفسره الظاهر، تقديرُه: وإن استجارك أحد استجارك، ولا يرتفع بالابتداء؛ لأنّ "إن" من عوامل الفعل لا تدخل على غيره.
والمعنى: وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر، لا عهد بينك وبينه ولا ميثاق، فاستأمنك؛ ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن، ويتبين ما بعثت له فأمّنه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ) ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر، (ثُمَّ أَبْلِغْهُ) بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم. ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة، وهذا الحكم ثابت في كل وقت.
وعن الحسن: هي محكمة إلى يوم القيامة، وعن سعيد بن جُبير: جاء رجل من المشركين إلى علىّ رضي الله عنه فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل؟ ! قال: لا، لأنّ الله تعالى يقول:(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سبيل الرشاد لمن يطلبه ويتعاناه، وابرز منه على الطريق الغي والضلال إذا اضطرك قضاء الله وقدره، فإن من يضله الله فلا هادي له، ولا ينفع الحذر عما قضى وقدر.
قوله: (وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه): هذا يوجب تفسير قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) بالناقضين كما قال، وتقدير غير المعاهدين عند قوله:(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)؛ لأن قوله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) عطف على قوله: (فَإِنْ تَابُوا)، فالفاء تفصيلية، المعنى: اقتلوا المشركين الناقضين وغير الناقضين، أما حكم الناقضين: فإنهم إن تابوا وأقاموا الصلاة فخلوا سبيلهم، وغير المعاهدين: إن جاءك أحد منهم فاستأمنك لسماع ما تدعو إليه فأمنه، فالآية من باب قوله تعالى:(لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ)[النساء: 95] في أحد وجهيه.
وعن السدّي والضحاك: هي منسوخة بقوله تعالى (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)[التوبة: 5].
(ذلِكَ) أي: ذلك الأمر، يعنى الأمر بالإجارة في قوله (فَأَجِرْهُ) بسبب بِأَنَّهُمْ (قوم) جهلة (لا يَعْلَمُونَ) ما الإسلام؟ وما حقيقة ما تدعو إليه؟ فلا بُدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق.
[(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَابى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) 7 - 8]
(كَيْفَ) استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد، لأن يكون للمشركين عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أضداد وغرة صدورهم، يعنى: مُحال أن يثبت لهؤلاء عهد، فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم، ولا تفكروا في قتلهم.
ثم استدرك ذلك بقوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ)، أي: ولكن الذين عاهدتم منهم (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة، فتربصوا أمرهم، ولا تقاتلوهم، (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) على العهد، (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) على مثله، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) يعنى: أن التربص بهم من أعمال المتقين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (وغرة صدورهم)، الجوهري:"الوغرة: شدة توقد الحر، ومنه قيل: في صدره عليَّ وغر، بالتسكين، أي: ضغن وعداوة وتوقد من الغيظ، والمصدر بالتحريك، تقول: وغر صدره على يوغر وغراً".
قوله: (ولا تفكروا في قتلهم): الرواية بتخفيف الكاف المكسورة، الجوهري:"أفكر في الشيء وفكر فيه وتفكر، بمعنى".
(كَيْفَ) تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل لكونه معلوماً كما قال:
وَخَبَّرْتُمَانِى أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى
…
فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَة وَقَليبُ
يُريد: فكيف مات؟ أي: كيف يكون لهم عهد، وَحالهم أنهم (وإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) بعد
ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد، ولم يبقوا عليكم (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا) لا يراعوا حلفاً. وقيل: قرابة، وأنشد لحسان:
لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيْش
…
كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ
وقيل (إِلًّا) إلها. وقرئ: "إيلا"؛ بمعناه، وقيل: جبرئيل، وجبرئل، من ذلك.
وقيل: منه اشتق "الآل" بمعنى القرابة، كما اشتقت "الرحم" من" الرحمن، والوجه أن اشتقاق "الإلّ" بمعنى "الحلف"، -لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه- من "الإل"، وهو الجؤار، وله أليل: أي: أنين يرفع به صوته،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وخبرتُماني) البيت: قبله:
لعمركما إن البعيد الذي مضى
…
وإن الذي يأتي غداً لقريب
قائلهما كعب الغنوي يرثي أخاه.
"الهضبة": الجبل المنبسط علىوجه الأرض، والجمع: هضب وهضاب. و"القليب": البئر؛ لقلب التراب منها.
قوله: (لعمرك إن إلك) البيت: "السقب": الذكر من ولد الناقة، "الرأل": ولد النعام.
قوله: (من الإل، وهو الجؤار): خبر "إن"، وقوله:"بمعنى الحلف": حال من "الإل"، والتعليل معترض بين الاسم والخبر، يعني: الوجه الصحيح أن يُقال: إن أصل "الإل" في
ودعت ألليها: إذا ولولت، ثم قيل لكل عهد وميثاق: إلّ، وسميت به القرابة؛ لأن القرابة عقدت بين الرجلين مالا يعقده الميثاق.
(يُرْضُونَكُمْ) كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد. وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
اللغة: الجؤار، وهو رفع الصوت، واشتق منه الحلف؛ لما فيه من رفع الصوت، ثم كثر استعماله في الحلف، حتى اشتهر في كل حلف، وإن لم يكن فيه رفع الصوت، ثم استعمل في كل عقد موثق، سواء كان فيه الحلف أم لم يكن، ولما وُجد هذا المعنى في القرابة أكثر كانت تسميتها به أولى، وإليه الإشارة بقوله:"لأن القرابة عقدت بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق".
وإنما كان هذا الوجه أوجه من كونه مشتقاً من "الإل" الذي هو بمعنى: الإله؛ لأن المأخوذ منه إذا كان عربياً كان أولى من كونه سريانياً، قال الزجاج:"وقيل: الإل: اسم من أسماء الله تعالى، وهذا ليس بالوجه؛ لأن أسماء الله معروفة معلومة في الكتاب والسنة، ولم يسمع يا إل".
قوله: (ودعت ألليها): عطف على قوله: "وله أليل"، أي: يُقال كذا ويقال كذا.
الجوهري: "يجوز أن يُريد الألل، ثم ثنى، كأنه يريد صوتاً بعد صوت، وأن يريد حكاية أصوات النساء بالنبطية إذا صرخن".
قوله: (وإباء القلوب: مخالفة ما فيها من الأضغان، لما يجرونه): "إباء القلوب" مُبتدأ، و"مخالفة ما فيها" الخبر، و"لما يجرونه على ألسنتهم" متعلق بالمخالفة، والجملة تفسير لقوله:(وَتَابَى قُلُوبُهُمْ)، يعني: تأبى قلوبهم مخالفة الباطن الظاهر؛ أما الباطن فما في القلوب من الحقد، وأما الظاهر فهو إجراء كلمة الرضا على ألسنتهم.
(وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ): متمرّدون خلعاء، لا مروءة تزعهم، ولا شمائل مرضية تردعهم، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة، من التفادي عن الكذب والنكث، والتعفف عما يثلم العرض ويجرّ أحدوثة السوء.
[(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ * لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) 9 - 10]
(اشْتَرَوْا) استبدلوا (بِآياتِ اللَّهِ): بالقرآن والإسلام (ثَمَناً قَلِيلًا)، وهو إتباع الأهواء والشهوات، (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ): فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو البقاء: " (يُرْضُونَكُمْ) حال من فاعل (لا يَرْقُبُوا) عند قوم، وليس بشيء"، وقال القاضي:" (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) استئناف لبيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد، المؤدية إلى عدم مراقبتهم عند الظفر، ولا يجوز جعله حالاً من فاعل (لا يَرْقُبُوا)، فإنهم بعد ظهورهم لا يرضون المؤمنين، ولأن المراد إثبات إرضائهم المؤمنين بوعد الإيمان والطاعة والوفاء بالعهد في الحال، واستبطان الكفر والمعاداة، بحيث إن ظفروا لم يبقوا عليهم، والحالية تنافيه". وكذا عن أبي البقاء.
قوله: ((وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) متمردون خلعاء): والكافر إذا وُصف بالفسق دل على نهاية ما هو فيه من الكفر، ودل بمفهومه أن بعضهم ليسوا كذلك، وهو المراد من قوله:"كما يوجد ذلك في بعض الكفرة من التفادي عن الكذب" يُقال: تفادي الرجل عن كذا: إذا تحاماه. و"مِن" مُتعلقُ بـ "تردعهم".
قوله: (أو صرفوا غيرهم): يعني: قوله تعالى: (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ): إما لازم من الصدود، أي: العدول، أو متعد من: صده إذا صرفه. الجوهري: "صد يصد صدوداً: أعرض، وصده عن الأمر صداً: منعه وصرفه عنه، وأصده: لغة".
وقيل: هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. (هُمُ الْمُعْتَدُونَ): المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة.
[(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) 11]
(فَإِنْ تابُوا) عن الكفر ونقض العهد (فَإِخْوانُكُمْ): فهم إخوانكم، على حذف المبتدأ، كقوله:(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ)[الأحزاب: 5]، (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ): ونبينها، وهذا اعتراض، كأنه قيل: وإن من تأمّل تفصيلها فهو العالم؛ بعثاً وتحريضاً على تأمّل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (وقيل: هم الأعراب): عطف على محذوف، يدل عليه قوله:"وهو اتباع الأهواء والشهوات"، لأن الثمن القليل - على الأول- مجاز عن استبدال متابعة الشهوات بالإيمان، والمشتري جميع الكفار أو المنافقون، وعلى الثاني: الثمن القليل ما أطعمهم أبو سفيان، والمشتري الأعراب.
ثم المناسب على الأول أن يكون "صدوا" بمعنى: عدلوا، وعلى الثاني بمعنى: صرفوا، والتفسير الأول أقرب إلى النظم، لأن قوله:(اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً) جملة مستأنفة كالتعليل لقوله: (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ)[التوبة: 8]، وفيه: أن من فسق وتمرد كان سببه مجرد اتباع الشهوات والركون إلى الدنيا ولذاتها.
قوله: ((وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ): وتبينها، وهذا اعتراض): أي: تأكيد لمضمون ما سبق من أول السورة، وعام في الإيراد، ومن ثم قال:"وإن من تأمل تفصيلها".
وقوله: (يَعْلَمُونَ) مطلق، نحو: فلان يعطي ويمنع، ولهذا قال:"فهو العالِم". وفي كلامه -وهو"إن من تأمل تفصيلها فهو العالم" - إشعار أن (يَعْلَمُونَ) وُضع موضع "يتفكرون"
[(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) 12]
(وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ): وثلبوه وعابوه، (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ): فقاتلوهم، فوضع (أئمة الكفر) موضع ضميرهم؛ إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّداً وطغيانًا وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين الله، ويقولون: ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر، وذوو الرياسة والتقدّم فيه، لا يشق كافر غبارهم.
وقالوا: إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعنًا ظاهراً جاز قتله، لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده، وخرج من الذمّة.
(إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) جمع يمين، وقرئ:"لا إيمان لهم"، أي: لا إسلام لهم، أو: لا يعطون الأمان بعد الردّة والنكث، ولا سبيل إليه.
فإن قلت: كيف أثبت لهم الأيمان في قوله: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ)، ثم نفاها عنهم؟ قلت: أراد: أيمانهم التي أظهروها، ثم قال: لا أيمان لهم على الحقيقة، وأيمانهم ليست بأيمان، وبه استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه على أن يمين الكافر لا تكون يمينًا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
…
و"يتأملون" وضعاً للمسبب موضع السبب بعثاً وتحريضاً، لأن العلم مطلوب لذاته، فالسامع إذا سمع ذلك اجتهد في التأمل والتدبر، لينخرط في سلك العالمين.
قوله: (إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله): كذا عن الزجاج ومحيي السنة.
وعند الشافعي رحمه الله: يمينهم يمين، وقال: معناه أنهم لا يوفون بها، بدليل أنه وصفها بالنكث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (وعند الشافعي): قال الإمام: "وعند الشافعي أن يمينهم يمين، ومعنى الآية: أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان، والدليل على أن أيمانهم أيمان أنه تعالى وصفها بالنكث".
وقلت: مثله قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة: 102]، قال صاحب "المفتاح":"وصف أهل الكتاب في صدره بالعلم على سبيل التوكيد القسمي، وآخره نفاه عنهم حيث لم يعملوا بعلمهم".
ويُمكن أن يُقال: إن في وضع المظهر - وهو قوله: (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) - إشعاراً بأن أيمانهم تلك لم تكن إلا خديعة بالمؤمنين واستهزاء، ولم تكن من الأيمان الحقيقية في شيء، ولكن لما أجري عليها حكم الأيمان الحقيقية بأن قبلت، ورفع عنهم بسببها التعرض بالقتل والنهب، وأمنوا من سائر التبعات، سميت أيماناً، ووصفت بالنكث، نحوه مر في قوله تعالى:(يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا)[البقرة: 9]، قال المصنف:"كانت صورة صنعهم مع الله - حيث أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر - صورة صُنع المخادع، وصورة صنع الله -حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد أخبث الكفرة - صورة صنع الخادع".
فظهر أن اعتداد الأيمان منهم وإن لم يكن حقيقة، إنما هو لأجل فوائد دينية ومصالح منوطة بها، لا أنها أيمان حقيقة، فلما أظهروا النكث ارتفع الاعتداد بها ورجعت إلى ما كانت، فقيل:(إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ)، وهكذا مبني الأيمان، فإنها لقطع الخصومات والمطالبات في الحال، لا أنها مسقطة للحق، وتحصل بها براءة الذمة في المآل.
(لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) متعلق بقوله: (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ)، أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم: أن تكون المقاتلة سببًا في انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه، وفضله، وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد.
فإن قلت: كيف لفظ (أئمة)؟ قلت: همزة بعدها همزة بين بين، أي: بين مخرج الهمزة والياء، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روينا عن مُسلم وأبي داود والترمذي عن وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها، ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي:"ألك بينة؟ " قال: لا، قال:"فلك يمينه"، قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس بتورع عن شيء، فقال:"ليس لك منه إلا ذلك". فانطلق ليحلف
…
الحديث.
وأما حديث القسامة، وقوله صلى الله عليه وسلم:"فتبرئم اليهود بخمسين، فقالوا: كيف نأخذ بأيمان قوم كفار": فمشهور، أخرجه الشيخان وغيرهما.
وقيل: ومن فائدة الخلاف أنه لو أسلم بعد انعقاد اليمين وحنث فيه: لا كفارة فيه ند أبي حنيفة، وعند الشافعي عليه الكفارة.
قوله: (همزة بعدها همزة بين بيْن): قال أبو البقاء: "لا يجوز أن تُجعل بينَ بين، كما جُعلت همزة "أإذا"، لأن الكسرة هاهنا منقولة، وهناك أصلية، ولو خففت الهمزة الثانية هاهنا على القياس لكانت ألفاً؛ لانفتاح ما قبلها، ولكن تُرك ذلك لتتحرك بحركة الميم في الأصل"، وفيه نظر.
وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن تكون. ومن صرح بها فهو لاحن محرف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (قراءة مشهورة وإن لم تكن مقبولة): في "التيسير": "قرأ الكوفيون وابن عامر: (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ)، بهمزتين حيث وقع، وأدخل هشام بينهما ألفاً، والباقون بهمزة وياء مختلسة الكسرة من غير مد".
وفي "الكواشي": أصل "أئمة": أءممة؛ أفعلة، جمع إمام، كعماد وأعمدة، نُقلت كسرة الميم الأولى إلى الهمزة، ثم أدغمت في الثانية، فصارت: أئمة، ثم قلبت الهمزة ياء فصارت: أيمة، وزعم بعضهم أن النحاة لا يجيزون اجتماع همزتين للثقل، وفي زعمه نظر؛ لصحة نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل لتواتره، فيجب لذلك أن تُجعل لغة للعرب استعملت على الأصل، وهو أقيس وإن ثقل!
وزعم أيضاً أن التصريح بالياء ليس بقراءة، ولا يجوز أن يكون قراءة، ومن صرح بها فهو لاحن محرف! وفي زعمه نظر؛ لأن أكثر القراء يقرؤون بهمزة بعدها ياء مكسورة.
وقلت: وفي النظر نظر، لأن قوله:"فليس بقراءة" معناه: أن أحداً من القراء السبعة لم يقرأ بها، وهو كذلك، كما نقلناه عن صاحب "التيسير"، ولكن النظر من وجه آخر، وهو أنه ذكر في "المفصل":"إذا اجتمعت همزتان في كلمة فالوجه قلب الثانية إلى حرف لين، كقولهم: آدم وأيمة".
وقال ابن الحاجب في "شرحه": "يجب عند النحويين أن تُقلب الثانية حرف لين، وقلبها حرف لين على حسب حركتها إن أمكن ذلكن كقولك: أيمة، بياء محضة".
[(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) 13]
(أَلا تُقاتِلُونَ) دخلت الهمزة على "لا تُقاتِلُونَ"؛ تقريراً بانتفاء المقاتلة، ومعناه: الحض عليها على سبيل المبالغة، (نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) التي حلفوها في المعاهدة، (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة، حتى أذن الله تعالى له في الهجرة، فخرج بنفسه، (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي: وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولًا بالكتاب المنير، وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة؛ لعجزهم عنها، إلى القتال، فهم البادءون بالقتال، والبادئ أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله؟ ، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟ !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال أبو شامة في شرح قوله: "وفي النحو أبدلا": أي: رأى أهل النحو إبدال الهمزة ياء في "أيمة"، نص عليه أبو علي في "الحجة"، ووجهه: النظر إلى أصل الهمزة، وهو السكون، وذلك يقتضي الإبدال مطلقاً، وتعينت الياء للكسرة، ولم يوافق أبو القاسم الزمخشري أهل النحو، واختار مذهب القراء في "الكشاف". وأما في "المفصل" فهو حكاية قول النحويين.
قوله: (تقريراً بانتفاء المقاتلة): قيل: "تقريراً" من الإقرار لا من القرار، أي: يجعلهم مقرين باتنفاء القتال: وقلت: العكس أولى؛ لأن حرف الاستفهام دخل على نفي المقاتلة، والكلام
وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها، ويقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد، وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب: حقيق بأن لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرط فيها.
(أَتَخْشَوْنَهُمْ) تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) فتقاتلوا أعداءه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعنى: أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالى بمن سواه، كقوله تعالى:(وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ)[الأحزاب: 39]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
مع الذين قعدوا عن المقاتلة، فمعنى قوله:(أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً): أنتم بعد مستقرون على ما كنتم عليه من عدم المقاتلة! يوبخهم على التمريض عن القتال، ويحرضهم عليه على المبالغة، والاستفهام إذا كان للتقرير قرر الفعل الذي دخل عليه، فظنوا أن تقريراً لا يُعدى بالباء، فقالوا: هو بمعنى الاعتراف، وقد جاء تعديته بها، قال الجوهري:"القرار في المكان: الاستقرار فيه، وقررت بالمكان"، وعليه قوله بعد هذا:" (أَتَخْشَوْنَهُمْ) تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها".
قوله: (وبخهم بترك مقاتلهم وحضهم عليها، ثم وصفهم بما يوجب الحض): يعني: وَلَّدَ ذلك التوبيخ معنى الحض على المقاتلة، فرتب ذلك الحكم على الوصف المناسب، وهو نكث العهد وإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والبدء بالقتال.
قوله: (أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه): وذلك أن المؤمن إذا اعتقد أن لا ضار ولا نافع إلا الله، وأن أحداً لا يقدر أن يضره أو ينفعه إلا بإذنه ومشيئته، فلا يخاف إلا ربه.
روينا في "مُسند أحمد بن حنبل" وفي "سنن الترمذي" عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فإن العباد لو اجتمعوا على أن
[(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 14 - 15]
لما وبخهم الله على ترك القتال، جرّد لهم الأمر به فقال (قاتِلُوهُمْ)، ووعدهم -ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم- أنه يعذبهم بأيديهم قتلًا، ويخزيهم أسراً، ويوليهم النصر والغلبة عليهم، (وَيَشْفِ صُدُورَ) طائفة من المؤمنين، وهم خزاعة، قال ابن عباس رضي الله عنه: هم بطون من اليمن وسبأ، قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديداً، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه، فقال:"أبشروا فإن الفرج قريب"، (وَيُذْهِبْ غَيْظَ) قلوبكم لما لقيتم منهم من المكروه، وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها، فكان ذلك دليلا على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحة نبوّته
(وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) ابتداء كلام، وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره، وكان ذلك أيضًا، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم. وقرئ:"ويتوب" بالنصب بإضمار "أن" ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى، (وَاللَّهُ عَلِيمٌ): يعلم ما سيكون، كما يعلم ما قد كان (حَكِيمٌ): لا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك".
قوله: (جرد لهم الأمر به): يعني: لما أمرهم بالقتال في ضمن الاستفهام التوبيخي في قوله: (أَلا تُقَاتِلُونَ) صرح الأمر به في قولهم: (قَاتِلُوهُمْ) تقريراً أو تأكيداً.
قوله: (وقرئ: "ويتوب"، بالنصب؛ بإضمار "أن"، ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى): قال ابن جني: "هي قراءة الأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى وعمرو بن عبيد، ورويت عن أبي عمرو، فالتوبة داخلة في جواب الشرط معنى، لأن التقدير: إن يُقاتلوكم
[(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) 16]
(أَمْ) منقطعة، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، حتى نتبين الخلص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله، ولم يتخذوا وليجة -أي: بطانة- من الذين يصادّون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، (وَلَمَّا) معناها التوقع، وقد دلت على أن تبين ذلك، وإيضاحه متوقع كائن، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
تكن هذه الأشياء، أي: يُعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين، ويُذهب غيظ قلوبهم، ويتوب الله على من يشاء. وفيه ضرب من التعسف، لأن هذه الحال موجودة من الله تعالى، قاتلوهم أو لم يقاتلوهم، فلا وجه لتعليقها بقتالهم، إلا أن يُقال: هو كقولك: إن تزرني أحسن إليك وأعطي زيداً درهماً، فتنصبه على إضمار "أن"، أي: إن تزرني أجمع بين الإحسان إليك والإعطاء لزيد. والوجه قراءة الجماعة على الاستئناف". تم كلامه.
ويمكن أن توجه قراءة النصب بوجه آخر، وهو أن يُقال: لا شك أن مقاتلتهم سبب لتوهين أمرهم وفل شوكتهم، فتقل بذلك نخوتهم وحميتهم، ويكون ذلك سبباً لاستكانتهم وخضوعهم، فيتدبروا ويتأملوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه على الحق المبين، وأنهم على الباطل والزيغ، فيرجعوا عن كفرهم إلى الإسلام، كما شُوهد من أبي سفيان وعمرو بن العاص وخالد ابن الوليد وعكرمة وغيرهم، عليه قوله تعالى:(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)[النصر: 1 - 3]، هذا هو المراد من كلام المصنف:"ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى".
قوله: (وليجة - أي: بطانة - من الذين يصادون رسول الله صلى الله لعيه وسلم): عن بعضهم: الوليجة: ما
وقوله (وَلَمْ يَتَّخِذُوا) معطوف على (جاهدوا)، داخل في حيز الصلة، كأنه قيل: ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله. والوليجة: فعيلة؛ من: ولج، كالدخيلة؛ من دخل، والمراد بنفي العلم نفى المعلوم، كقول القائل. ما علم الله منى ما قيل في، يريد: ما وجد ذلك منى.
[(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) 17]
(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ): ما صح لهم وما استقام "أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ"، يعنى: المسجد الحرام، لقوله:(وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)[التوبة: 19] وأما القراءة بالجمع: ففيها وجهان: أحدهما: أن يراد المسجد الحرام، وإنما قيل:(مساجد) لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد. والثاني: أن يراد جنس المساجد، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته، وهو آكد؛ لأنّ طريقته طريقة الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتخذه الإنسان معتمداً عليه، وليس من أهله، من قولهم: فلان وليجة في القوم: إذا لحق بهم وليس منهم، إنساناً كان أو غيره.
قوله: (وأما القراءة بالجمع): أي: (مَسَاجِدَ اللَّهِ)، كلهم إلا ابن كثير وأبا عمرو.
قوله: (كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفي لقراءته القرآن): فإن قلت: أليس هذا مخالفاً لما سبق في آخر البقرة: أن "الكتاب" أكثر من "الكتب"؟ قلت: بلى، لأن الكلام هاهنا في كتاب واحد- وهو القرآن- لا الجنس، كما أن ظاهر الآية في مسجد واحد،
(وشاهِدِينَ) حال من الواو في (يَعْمُرُوا)، والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة متعبدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته، ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم، وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون: لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطاً سجدوا لها. وقيل: هو قولهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
وقيل: قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر، فعيروهم بالشرك، فطفق علىّ ابن أبى طالب يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول، فقال العباس: تذكرون مساوئنا، وتكتمون محاسننا! فقال: أولكم محاسن؟ قالوا: نعم، ونحن أفضل منكم أجراً، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فنزلت.
(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة، وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن، وإلى ذلك أشار في قوله شاهِدِينَ حيث جعله حالا عنهم، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
وهو المسجد الحرام، فإذا قيل: أن يعمروا مسجد الله، لم يكن من الكناية في شيء، فلا يدل على المبالغة، بخلافه لو قيل: مساجد الله.
وأما في آخر البقرة فكان المقتضى الجمع ليناسب (وَمَلائِكَتِهِ)(وَرُسُلِهِ)[البقرة: 285]، فعدل إلى الإفراد للمبالغة أيضاً.
قوله: (أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة): مذهبه، والآية لا دلالة لها عليه، قال في "الانتصاف":"أصاب في حديث الكفر، وأخطأ في الكبيرة، فهو على قاعدته"، أي: مُعتَقَدِه.
[(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) 18]
(إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ) -وقرئ بالتوحيد-، أي: إنما تستقيم عمارة هؤلاء، وتكون معتدا بها، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها، وقمها، وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر -ومن الذكر درس العلم، بل هو أجله وأعظمه-، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلًا عن فضول الحديث.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي، يأتون المساجد، فيقعدون فيها حلقاً، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم، فليس لله بهم حاجة"، وفي الحديث:"الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش"، وقال عليه السلام:"قال الله تعالى: إن بيوتي في أرضى المساجد، وإنّ زوّاري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته، ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره"، وعنه عليه السلام "من ألف المسجد ألفه الله"، وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان"، وعن أنس رضي الله عنه:"من أسرج في مسجد سراجًا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
…
قلت: وكذلك ما أصاب في الكفر الطارئ، لأنه سبق في البقرة عند قوله تعالى:(وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)[البقرة: 25] بيانه.
قوله: (ما استرم منها)، الجوهري:"استرم الحائط: إذا حان له أن يرم، وذلك إذا بَعُدَ عهده بالتطيين".
و"قمها": كنسها، والمقمة: المكنسة، وقممت البيت: كنسته، والقمامة: الكناسة، والجمع: قمام.
فإن قلت: هلا ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه السلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين، كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه السلام.
وقيل: دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
فإن قلت: كيف قيل (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ)، والمؤمن يخشى المحاذير، ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت: هي الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه أمران: أحدهما حق الله،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..
قوله: (لما عُلم وشهر أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، إلى قوله: (انطوى تحت ذكر الإيمان بالله الإيمان بالرسول): وخلاصة الجواب: أن في الكلام دلالة على ذكره، وليس فيه بيان الفائدة في طي ذكره، ويمكن أن يُقال: إن الكلام لما وقع في عدم استقامة الجمع بين عمارة بيت الله والإشراك بالله، وفي استقامة العمارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه يدعو الناس إلى توحيده وعبادته، لم يذكره، ولكن ذكر لفظاً جامعاً يجمعه صلى الله عليه وسلم وغيره، كأنه قيل ما ينبغي لهم أن يعمروا مساجد الله، والحال أنهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، وإنما يستقيم ممن يؤمن بالله ويأمر الناس بالإيمان بالله بالعبادة كائناً من كان. والمراد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو آكد، لأن طريقه الكناية.
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم داخلاً في لفظة "مَنْ"، لم يحسن أن يُقال:"ورسوله"، ونحوه قوله تعالى:(إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) إلى قوله: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ)[الأعراف: 158]، كائناً من كان، فإذن الكلام ليس في إثبات نبوته والإيمان به، بل فيه نفسه وعمارته المسجد الحرام واستحقاقه لها.
والآخر حق نفسه أن يخاف الله، فيؤثر حق الله على حق نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفى تلك الخشية عنهم.
(فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء، وحسم لأطماعهم في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها، وافتخروا بها، وأملوا عاقبتها، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى، اهتداؤهم دائر بين "عسى" و"لعل"، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى؟ !
وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله.
[(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) 19]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ..
قوله: (أن يخاف الله) أي: وأن يخاف الله إذا اعترضه أمران، والجملة معطوفة على قوله:"وأن لا يختار- على تقدير: وهي أن لا يختار - على رضا الله رضا غيره"، لأنه تفسير للتقوى في أبواب الدين.
قوله: (بأن الذين آمنوا): الباء متعلق بقوله: "تبعيد"، و"اهتداؤهم" خبر "أن".
قوله: (اهتداؤهم دائر بين "عسى" و"لعل")، إلى قوله:(ورفض الاعترار بالله): مؤذن بأن "عسى" على ظاهره، وقد تقرر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام مؤذن بالتعظيم، وأن من قبله جدير بما بعده؛ لما عدد له من الخصال الفاضلة، ثم في مزيد التعميم في قوله: (مِنْ
السقاية والعمارة: مصدران؛ من سقى وعمر، كالصيانة والوقاية، ولا بُد من مضاف محذوف، تقديره:(أَجَعَلْتُمْ) أهل سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)، وتصدقه قراءة ابن الزبير وأبى وجزة السعدي -وكان من القراء-:"سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام"، والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
الْمُهْتَدِينَ): الدلالة على الكناية والمبالغة في التعظيم، على أن الآية في الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما سبق، وكل ذلك لا يليق بما قال.
والقول ما قاله محيي السنة: "و"عسى" من الله واجب، أي: أولئك هم المهتدون المتمسكون بطاعته التي تؤدي إلى جنته".
يؤيده ما روينا عن الترمذي وابن ماجه والدارمي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) "، ولهذا استدل محيي السنة بهذا الحديث على الوجوب، فعلى هذا ليس الحق مع المصنف وصاحب "الانتصاف"، فإنه قال:"أكثرهم قالوا: إن "عسى" من الله واجب، ظناً أن استعمالها غير مصروف للمخاطبين. والحق مع الزمخشري، أي: حال هؤلاء المؤمنين حال من يطمع في الاهتداء، وإلا فالعاقبة عند الله معلومة".
قوله: (وكان من القراء): قيل: كان أبو وجزة مشهوراً بالشعر، فلذلك قال: كان من القراء.
وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة، وأن يسوى بينهم. وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر.
وروى: "أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود: أنتم أفضل". وقيل: إن عليا قال للعباس: يا عمّ، ألا تهاجرون؟ ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! فقال: ألست في أفضل من الهجرة؟ أسقى حاجّ بيت الله، وأعمر المسجد الحرام! فلما نزلت قال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا، فقال عليه السلام:"أقيموا على سقايتكم، فإن لكم فيها خيراً".
[(الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) 20 - 22]
هم أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ من أهل السقاية والعمارة عندكم، (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) لا أنتم، والمختصون بالفوز دونكم. قرئ:(يُبَشِّرُهُمْ) بالتخفيف والتثقيل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وجعل تسويتهم ظلماً): عطف من حيث المعنى على قوله: "إنكار أن يشبه"، أي: أنكر أن يشبه، وجعل تسويتهم ظلماً، حيث وضع المظهر موضع المضمر في قوله:(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
قوله: (وقيل: إن علياً قال للعباس رضي الله عنهما: يا عم، ألا تهاجرون! ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره: يؤذن أن العباس كان مسلماً، والآية نزلت وهو مسلم، وقوله قبل هذا:"نحن أفضل منكم أجراً، إنا لنعمر المسجد الحرام ونسقي الحجيج" يشعر بأنه لم يكن مسلماً.
قوله: (قرئ: (يُبَشِّرُهُمْ) بالتخفيف): أي: بفتح الياء، مِنَ: بشر؛ حمزة. والباقون: بالتثقيل.
وتنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرّف، وعن ابن عباس رضي الله عنه: هي في المهاجرين خاصة.
[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) 23 - 24]
وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتمّ إيمانه إلا بأن يهاجر ويُصارم أقاربه الكفرة، ويقطع موالاتهم، فقالوا: يا رسول الله: إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين، قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وهلكت أموالنا، وخرجت ديارنا، وبقينا ضائعين، فنزلت، فهاجروا، فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه، فلا يلتفت إليه، ولا ينزله، ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك.
وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدّوا ولحقوا بمكة، فنهى الله تعالى عن موالاتهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يطعم أحدكم طعم الإيمان، حتى يحبّ في الله، ويبغض في الله؛ حتى يحب في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه".
وقرئ: "عشيرتكم: ، و"عشيراتكم"، وقرأ الحسن: "وعشائركم".
(فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) وعيد، عن ابن عباس: هو فتح مكة، وعن الحسن: هم عقوبة عاجلة أو آجلة. وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (حتى يحب في الله، ويبغض في الله): عن أبي داود عن أبي ذر: "أفضل الأعمال الحب في الله والبُغض في الله".
كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرّد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شيء منها لمصلحته، فلا يدرى أي طرفيه أطول؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (ما يستحب له دينه): "ما" في "ما يستحب" مفعول "يجد"، وفاعل "يستحب" ضمير "أورع" مستتر فيه، و"دينه" مفعوله، و"يتجرد" يجوز أن يكون معطوفاً على "يجد" أو على "يستحب".
قوله: (أم يزوي الله عنه): الجوهري: "زوي فلان المال عن وارثه زياً"، ومنه قوله:
فيا لَقُصيٍّ ما زوى الله عنكم
أي: ما نحي الله وقبضه.
قوله: (لمصلحته): أي: للابتلاء، كقوله تعالى:(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ)[البقرة: 155]، إلى قوله:(وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة: 157].
قوله: (أي طرفيه أطول؟ ): قيل: لا تُدرى نسبته من قبل أبيه أطول - أي: أفضل - أم نسبته من قبل أمه، يُضرب عند التحير، هذا قول الأصمعي، وقال غيره: المراد به الذكر واللسان، وقيل: وسط الإنسان: سُرته، أي: طرفه الأسفل أطول أم أعلاه.
ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالى، كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره!
[(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ* ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 25 - 27]
مواطن الحرب: مقاماتها ومواقفها، قال:
وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلَاىَ طُحْتَ كَمَا هَوَي
…
بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (كأنما وقع الذباب في أنفه): قيل: هو عبارة عن الدهش والتحير، كما ترى بعض المجانين، والظاهر أنه كناية عن قلة الالتفات وعدم المبالاة.
قوله: (وكم موطن لولاي) البيت: الجوهري: "الوطن: مكان الإنسان ومحله، والموطن: المشهد من مشاهد الحرب، قال طرفة:
على موطن يخشى الفتى عنده الردى"
وامتناعه من الصرف؛ لأنه جمع وعلى صيغة لم يأت عليها واحد، والمواطن الكثيرة: وقعات بدر، وقريظة، والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة.
فإن قلت: كيف عطف الزمان والمكان -وهو يَوْمَ "حُنَيْنٍ"- على "المواطن"؟ قلت: معناه: وموطن يوم حنين، أو: في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين، ويجوز أن يراد بالموطن الوقت، كمقتل الحسين، على أنّ الواجب أن يكون "يوم حنين" منصوباً بفعل مضمر لا بهذا الظاهر، وموجب ذلك أنّ قوله:(إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل من "يوم حنين"،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"طحت": أي: هلكت، هوى من جبل عالٍ يهوى هوياً: سقط، "بأجرامه": بثقله، و"قلة النيق": رأس الجبل، والجمع: نياق. يقول: رُب موطنٍ لولاي هلكت فيه كما يهلك الذي يسقط من رأس الجبل.
قوله: (كيف عُطف الزمان والمكان - وهو "يوم حنين" - على "المواطن"؟ ): قيل: يعني: أن الفعل كما يقتضي ظرف المكان يقتضي ظرف الزمان، فلا يجوز أن يُجعل أحدهما تابعاً للآخر، كما لا يُعطف المفعول به على المفعول فيه، ولا الفاعل على المفعول، ولا المصدر على شيء من ذلك، ولا بالعكس.
قال صاحب "الانتصاف": "لا مانع من عطف ظرف الزمان على المكان، كعطف أحد المفعولين على الآخر، تقول: ضرب زيدٌ عمراً يوم الجمعة وفي المسجد، كما تقول: ضربت زيداً وعمراً، مع أنه لابد من تغاير الفعلين الواقعين بالمفعولين، فإنك إذا قلت: اضرب زيداً اليوم وعمراً غداً، لم يشك في أن الضربين متغايران بتغاير الظرفين، والفعلُ واحدٌ في الصياغة، فيجوز في الآية أن يكون كل واحد من الظرفين على حاله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
واستدلال الزمخشري على وجوب إضمار فعل؛ بأن (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل، وكثرتهم لم تكن ثابتة في جميع المواطن: غير لازم، تقول: اضرب زيداً حين يقوم وحين يقعد، فالناصب للظرفين واحد، وهما متغيران، وإنما يمتنع أن ينصب الفعل الواحد ظرفي زمان مختلفين عند عدم العطف".
وعليه قول القاضي: "ولا يمتنع إبدال قوله: (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) منه، وأن يُعطف على موضع (فِي مَوَاطِنَ)، فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف، حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جميع المواطن".
وقال صاحب "التقريب" - تقريباً لقول المصنف -: الواجب أن يُنصب "يوم حنين" بـ "نصر" مضمراً؛ لئلا يعطف زمان على مكان، بل يكون عطف جملة، لا بهذا الظاهر، عن جُعل (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدلاً من "يوم حنين"، لا منتصباً بـ "اذكر"؛ إذ التقدير على البدلية نصركم في مواطن كثيرة زمان أعجبتكم كثرتكم. ولا يصح؛ لأن الإعجاب والكثرة لم يكونا في جميع تلك المواطن، وقد يقال: يمكن أن ينتصب بهذا الظاهر مطلقاً لا مقيداً بالظرف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
وغاية الجواب: أنه إذا تقدم فعل مقيد بحال على ظرف، نحو: صليت قائماً في المسجد، فالمعنى: أن الصلاة المقيدة بالقيام وقعت في المسجد، والحال في المعنى ظرف، فيعتبر في الثاني ذلك الظرف، كما يُعتبر في الحال. وللبحث فيه مجال.
وقلت: تمام التقرير أن المصنف سأل: كيف يعطف ظرف الزمان على ظرف المكان، ومراعاة المناسبة واجبة عند علماء البيان دون النحويين! على أن الأصوليين ذكروا أن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات، كالحال والشرط وغيرهما.
هذا هو المراد من كلام المصنف وصاحب "التقريب": لا يعطف زمان على مكان، وأن لابد من تقدير عامل آخر؛ إما "عند يوم حنين"، لأن (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل من "يوم حنين"، وإما "عند (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) "، لأنه لو لم يقدر لزم أن يكون (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) قيد النصر المذكور، فيلزم الإعجاب في جميع تلك المواطن، والواقع بخلافه.
وأما تنزيل جواب المصنف على هذا التقرير: فهو أن المناسب أن يُقدر في الظرف الأول ما يناسب الثاني، أو في الثاني ما يناسب الأول، على أن الواجب أن يضرب عن هذا صفحاً، لأن هذا ليس من باب عطف المفرد على المفرد، حتى تراعى فيه المناسبة المعتبرة، أو جواز مثل: ضرب زيدٌ عمراً يوم الجمعة وفي المسجد، كما ذكره صاحب "الانتصاف"، بل هو من عطف الجملة على الجملة؛ إما على تقدير ناصب من جنس المذكور، أو تقدير "اذكر" من غير إبدال، لئلا يلزم المحذور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
وبيانه: أن "نصر" مطلق، وتقييده بحسب كل واحد من الظرفين، فإن الأحوال والظروف كلها تقييدات للفعل المطلق، فإذا قُيد احد بقيد لزم تقييد الفعل به، لأن القيد بيان المراد من المطلق، فيسري منه إلى الآخر. لعل هذا هو المعنى من قول صاحب "التقريب": إذا تقدم فعل مقيد بحال على ظرف، نحو: صليت قائماً في المسجد، فيعتبر في الثاني ذلك القيد. هذا البحث قريب من قولهم المتعقب: الجمع للحمل.
وقيل: عُطف قوله: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) على (مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ)، على منوال: (وَمَلائِكَتُهُ
…
وَجِبْرِيل) [البقرة: 98]، كأنه قيل: نصركم الله في أوقات كثيرة، وهي أوقات وقعة بدر وقريظة والنضير وفتح مكة وغيرها، وفي وقت أعجبتكم، فلا يلزم المحذور. فيُقال: المقام لا يساعد عليه، لأن الكلام غير وارد لبيان أفضلية بعض الوقعات على بعض، ولأنه لم يذكر (مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ) توطئة لذكر "يوم حنين"، كما ذكر (وَمَلائِكَتُهُ) توطئة لذكرهما، إذ ليس حنين بأفضل من يوم بدر، وهو فتح الفتوح وسيد الوقعات، وبه نال السابقون الأولون القدح المعلى، وفازوا بالدرجات الأسنى، ولأن المقصود من إفراد الذكر بعد الاشتراك الإيذان بأن هذا الفرد قد خرج من ذلك الجنس بسبب اكتسابه الفضائل والمزايا، وكأنه جنس آخر لتغايره في الوصف.
نعم، يمكن أن يُقال: إن الكلام وارد للامتنان على الصحابة بنصرته إياهم في المواطن الكثيرة، وكانت النصرة في هذا اليوم المخصوص أجل امتناناً، كما شُوهد منهم ما يُنافي النصرة
فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح؛ لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيراً في جميعها، فبقى أن يكون ناصبُه فعلًا خاصاً به، إلا إذا نصبت "إذ" بإضمار" اذكر.
و"حنين": واد بين مكة والطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين -وهم اثنا عشر ألفاً الذين حضروا فتح مكة، منضمًا إليهم ألفان من الطلقاء-،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الإعجاب بالكثرة، ولولا فضل الله وكرامته لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، لتمت الدائرة عليهم، والنصرة للأعداء.
ألا ترى كيف أقيم المهر مقام المضمر في قوله: (ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، ليؤذن بأن وصف الرسالة والإيمان أهلا الانتصار بعد الفرار، والعفو عن الاغترار، ومن ثم عدل إلى اليوم من المواطن، لأنهم إنما يستعملونه فيما يستكرهونه من الوقعات، نحو: يوم ذي قار ويوم بُعاث، وقالوا: أيام العرب، وقال تعالى:(أَيَّامِ اللَّهِ)[الجاثية: 14]، وينصره قوله تعالى:(وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ).
قوله: (إلا إذا نصبت): استثناء من قوله: "الواجب أن يكون" إلى آخره؛ أي: الواجب أن يكون "يوم حنين" منصوباً بفعل مضمر، لأن قوله:(إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل منه، إلا إذا نصبت (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بإضمار "اذكر"، فإنه على هذا لا يكون بدلاً منه، فإذن لا يجب "يوم حنين" أن ينتصب بفعل مضمر، بل يكون منصوباً بهذا الظاهر، ولا يلزم الإعجاب والكثرة في جميع المواطن، ويجوز أن يكون مستثنى من قوله:"فينبغي أن يكون ناصبه فعلاً خاصاً"، والمعنى عائد إلى الأول.
قوله: (منضماً إليهم): قيل: هو حال من "الذين"، لا من فاعل "حضروا"، لأنه يلزم منه أن يزيدوا على اثني عشر ألفاً.
وبين هوازن وثقيف -وهم أربعة آلاف فيمن ضامّهم من إمداد سائر العرب، فكان الجمّ الغفير-، فلما التقوا قال رجل من المسلمين:"لن نغلب اليوم من قلة"، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: قائلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: أبو بكر، وذلك قوله:(إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) - فاقتتلوا قتالًا شديداً، وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة، وزلّ عنهم أن الله هو الناصر، لا كثرة الجنود، فانهزموا، حتى بلغ فلهم مكة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
وقلت: الصحيح أنه حال منه، وقوله:"الذين" مع صلته: بدل من "اثنا عشر ألفاً" والمعنى: وهم الذين حضروا مكة، وكانوا عشرة آلاف، وانضم إليهم ألفان من الطلقاء، فصاروا اثني عشر ألفاً.
قال ابن الجوزي في كتاب "الوفا": "حُنين: وادٍ بينه وبين مكة ثلاث ليال، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة حشدت هوازن وثقيف، فجاؤوا بأموالهم وأهليهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في اثني عشر ألفاً"، القصة إلى آخرها.
قوله: (لن نُغلب اليوم من قلة): هو مثل قوله تعالى: (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً)[الفرقان: 73]، قال:(لَمْ يَخِرُّوا) ليس نفياً للخرور، وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى". كذا "لن نُغلب" ليس نفياً للمغلوبية، وإنما هو إثبات له ونفي للقلة، يعني: متى غُلبنا كان سببه غير القلة، هذا - من حيث الظاهر - ليس كلمة إعجاب، لكنها كناية عنها، فكأنه قال: ما أكثر عددنا، مثله قول الشاعر:
. غلتْ نابٌ كليبٌ بواؤها
وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وهو ثابت في مركزه لا يتحلحل، ليس معه إلا عمه العباس آخذ بلجام دابته، وأبو سفيان بن الحرث ابن عمه، وناهيك بهذه الواحدة شهادة صدق على تناهى شجاعته ورباطة جأشه صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا من آيات النبوّة، وقال: يا رب ائتني بما وعدتني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لا يتحلحل): أي: لا يزول، الأساس: وتحلحل عن المكان: تحرك".
قوله: (ليس معه غلا عمه العباس آخذاً بلجام دابته، وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه): عن البخاري ومسلم والترمذي عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم مدبرين يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحُسر إلى هذا الحي من هوازن، وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل، كأنها رجلٌ من جراد، فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول:"أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، اللهم أنزل نصرك"، ثم صفهم، قال البراء: كنا - والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم للعباس، وكان صيتا:"صيح بالناس"، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً، ثم نادى: يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب البقرة، فكرّوا عنقاً واحداً، وهم يقولون:
لبيك لبيك، ونزلت الملائكة، عليهم البياض، على خيول بلق، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين، فقال:"هذا حين حمى الوطيس"، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم به، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
وقوله: "رجلٌ من جراد"، النهاية:"الرجل- بالكسر-: الجرادُ الكثير".
قوله: (فخذاً فخذاً)، النهاية:"وهم أقرب العشيرة إليه، وأول العشيرة: الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ".
قوله: (يا أصحاب الشجرة): وهي الشجرة التي هي في قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)[الفتح: 18].
قوله: (يا أصحاب البقرة): قيل: أريد المذكورون في قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ)[البقرة: 285]، وقيل: الذين نزل عليهم سورة البقرة.
قوله: (فكروا عنقاً): قال المصنف: أي: جماعة، من قوله:(فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ)[الشعراء: 4]، أي: رؤساؤهم أو الجماعات.
قوله: (هذا حين حمى الوطيس)، النهاية:"الوطيس: التنور"، وهو كناية عن شدة الأمر واضطرام الحرب، ويُقال: أول من قاله النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد البأس يومئذ، ولم يُسمع قبله، وهو من أحسن الاستعارات.
قوله: (ثم أخذ كفاً من تراب، فرماهم به): عن مُسلم: عن سلمة بن الأكوع قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة، ثم أخذ كفاً من
ثم قال: "انهزموا ورب الكعبة" فانهزموا، ، قال العباس: لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته.
(بِما رَحُبَتْ): "ما" مصدرية، والباء بمعنى "مع"، أي: مع رحبها، وحقيقته: ملتبسة برحبها، على أنّ الجارّ والمجرور في موضع الحال، كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، أي ملتبسا بها لم أحلها، تعنى: مع ثياب السفر، والمعنى: لا تجدون موضعًا تستصلحونه لهربكم إليه ونجاتكم لفرط الرعب، فكأنها ضاقت عليكم، (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ): ثم انهزمتم.
(سَكِينَتَهُ): رحمته التي سكنوا بها وآمنوا، (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الذين انهزموا، وقيل: هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب، (وَأَنْزَلَ جُنُوداً) يعنى: الملائكة، وكانوا ثمانية آلاف، وقيل: خمسة آلاف، وقيل: ستة عشر ألفا، (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر، وسبى النساء والذراري.
(ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ) أي: يسلم بعد ذلك ناس منهم.
وروى: أنّ ناسا منهم جاءوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس، وأبرّ الناس، وقد سبى أهلونا وأولادنا، وأخذت أموالنا -قيل: سبى يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم مالا يحصى-، فقال: إنّ عندي ما ترون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا: إما ذراريكم ونساءكم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال:"شاهت الوجوه"، فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله.
قوله: (ملتبساً بها لم أحلها): بيان لهيئة عند الدخول، وتصوير لتلك الحالة، كذلك، قوله:(بِمَا رَحُبَتْ)، أي: برحبها، بيان لهيئة الأرض، وهي مع سعتها ضاقت بهم.
وإما أموالكم"، قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئًا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن هؤلاء جاءوا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئًا، فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يردّه فشأنه، ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا، حتى نصيب شيئا، فنعطيه مكانه"، قالوا: رضينا وسلمنا، فقال: "إني لا أدرى، لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا"، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا.
[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 28]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً): الأساس: "فلان لا حسب له ولا نسب، وهو ما يحسبه ويعده من مفاخر آبائه". روينا عن البخاري وأبي داود والنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اختاروا من أموالكم أو من نسائكم"، فقالوا: بل نختار نساءنا. وفي "النهاية": "قال لهم: "اختاروا إحدى الطائفتين؛ إما الأموال وإما السبي"، فقالوا: أما إذا خيرتنا بين الأموال والحسب.، فإنا نختار الحسب، فاختاروا أبناءهم ونساءهم: أرادوا أن فكاك الأسرى وإيثاره على استرجاع المال حسب وفعال حسن، فهو بالاختيار أجدر".
النجس: مصدر، يقال: نجس نجساً، وقذر قذراً، ومعناه: ذو ونجس؛ لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم، أو: جعلوا كأنهم النجاسة بعينها؛ مبالغة في وصفهم بها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وعن الحسن: من صافح مشركًا توضأ، وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين.
وقرئ: نجس، بكسر النون وسكون الجيم، على تقدير حذف الموصوف، كأنه قيل، إنما المشركون جنس نجس، أو: ضرب نجس، وأكثر ما جاء تابعًا لـ"رجس"، وهو تخفيف "نجس"، نحو: كبد، في كبد.
(فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ): فلا يحجوا ولا يعتمروا، كما كانوا يفعلون في الجاهلية (بَعْدَ عامِهِمْ هذا): بعد حج عامهم هذا، وهو عام تسع من الهجرة، حين أمّر أبو بكر رضي الله عنه على الموسم، وهو مذهب أبى حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم، ويدل عليه قول علىّ رضي الله عنه حين نادى بـ (براءة):"ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك"، ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندهم.
وعند الشافعي: يمنعون من المسجد الحرام خاصة. وعند مالك: يمنعون منه ومن غيره من المساجد. وعن عطاء: أن المراد بـ (المَسْجِدِ الحَرَامِ): الحرم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأكثر ما جاء تابعاً لـ "رجس"): أي: أكثر ما جاء "نجس" بكسر النون. الجوهري: "قال الفراء: إذا قالوه مع "الرجس" أتبعوه إياه، قالوا: رجس نجس، بالكسر".
قوله: (ذهب أبي حنيفة): أي: يحمل قوله: (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) على: أن لا يحجوا بعد حج عامهم هذا، فلا يدل حينئذ على أنهم يمنعون من دخول المسجد الحرام، قال القاضي:"إنما نهى عن الاقتراب للمبالغة أو المنع عن دخول الحرم".
وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله، ونهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهى المسلمين عن تمكينهم منه. وقيل المراد أن يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه، ويعزلوا عن ذلك.
(وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) أي: فقرًا بسبب منع المشركين من الحج، وما كان لكم في قدومهم عليكم من الإرفاق والمكاسب، (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ): من عطائه أو من تفضله بوجه آخر، فأرسل السماء عليهم مدرارا، فأغزر بها خيرهم، وأكثر ميرهم، وأسلم أهل تبالة وجرش، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه): وهو على منوال: لا أرينك هاهنا. وأجراه القاضي على ظاهره، وقال:"فيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع". وقال صاحب "الانتصاف": "وقد يستدلون بها على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، لا سيما المناهي، وهو بعيد؛ لأن الظاهر من المشركين أنهم لا ينزجرون بهذا النهي، والمراد خطاب المؤمنين، لأن الآية مصدرة بخطابهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وآخرهم خطابهم: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)، وهو من باب: لا أرينك هاهنا". هذا كلام متين.
قوله: (أهل تبالة)، النهاية:"تبالة - بفتح التاء وتخفيف الباء-: بلدة صغيرة من بلاد اليمن معروفة، وفي المثل: أهون من تبالة على الحجاج". و"جُرش": بضم الجيم وفتح الراء: مخلافٌ من مخاليف اليمن، وبفتحهما: بلد في الشام، والمخلاف في اليمن: كالرستاق
فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به، فكان ذلك أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته.
وعن ابن عباس: ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف، وقال: من أين تأكلون؟ فأمرهم الله بقتال أهل الكتاب، وأغناهم بالجزية، وقيل: بفتح البلاد والغنائم.
وقرئ: عائلة، بمعنى المصدر كالعافية، أو: حالا عائلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في العراق. وقال الميداني: "تبالة: بلدة صغيرة من بلاد اليمن، قيل: إن أول عمل وليه الحجاج عمل تبالة، فلما قرب منها، قال للدليل: أين هي؟ قال: سترها عنك هذه الأكمة، فقال: أهون بعمل بلدة تسترها عني أكمة، ورجع عن مكانه، فقالت العرب: أهون من تبالة على الحجاج.
قوله: (أعود عليهم)، الجوهري:"العائدة: العطف والمنفعة، يقال: هذا الشيء أعود عليك من كذا، أي: أنفع".
قوله: (أغناهم بالجزية، وقيل: بفتح البلاد): يشهد للأول قوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) الآية، لأنها واردة لبيان قوله:(فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ).
قوله: (وقرئ: "عائلة"): قال ابن جني: "هذه من المصادر التي جاءت على "فاعلة"، كالعافية والعاقبة، ومنه قوله تعالى: (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً) [الغاشية: 11]، أي: لغواً، ومنه قولهم: مررت به خاصة، أي: خصوصاً. وأما قوله تعالى: (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) [المائدة: 13]: فيجوز فيه أن يكون مصدراً، أي: خيانة، وأن يكون على تقدير: نية خائنة، أو: عقيدة خائنة، وكذا هاهنا، يُقدر: إن خفتم حالاً عائلة، والمصدر أحسن".
ومعنى قوله: (إِنْ شاءَ): إن أوجبت الحكمة إغناءكم، وكان مصلحة لكم في دينكم.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) بأحوالكم (حَكِيمٌ) لا يعطى ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب.
[(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) 29]
(مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بيان لـ (الَّذِينَ) مع ما في حيزه، نفى عنهم الإيمان بالله؛ لأنّ اليهود مثنية، والنصارى مثلثة، وإيمانهم باليوم الآخر؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (نفى عنهم الإيمان [بالله]؛ لأن اليهود مثنية والنصارى مثلثة): إنما علل قوله: "نفي عنهم الإيمان" بهذا، لأن قوله:(وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ)[التوبة: 30] جملة مفسرة لقوله: (لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)؛ على طريقة: أعجبني زيد وكرمه، ولأن الأمر بمقاتلة أهل الكتاب وارد على سبيل الاستطراد لذكر المشركين، لجامع الاشتراك.
ومن ثم لما فرغ من كلامهم عاد إلى نوع آخر من قبائح المشركين، وهو القول بالنسيء، وجعل قوله:(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ)[التوبة: 36] توطئة لذكره، والجامع بينه وبين ما قبله- وهو قوله:(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)[التوبة: 28]- أن كل واحدٍ منهما حديث في الحرمة؛ تعظيم المكان والزمان، والمنع من هتك المشركين بتينك الحرمتين، وتوبيخهم بذلك.
قوله: (وإيمانهم): نصبٌ؛ عطفاً على "الإيمان بالله"، وكذا "تحريم ما حرم الله"، وكذا "أن يدينوا". وقوله:"وأن يعتقدوا دين الإسلام": عطف تفسيري لقوله: "أن يدينوا".
لأنهم فيه على خلاف ما يجب، وتحريم ما حرم الله ورسوله؛ لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة، وعن أبى روق: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، وأن يدينوا دين الحق، وأن يعتقدوا دين الإسلام الذي هو الحق، وما سواه الباطل. وقيل: دين الله، يقال: فلان يدين بكذا: إذا اتخذه دينه ومعتقده.
سميت جزية؛ لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه؛ أي: يقضوه، أو: لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل، (عَنْ يَدٍ) إما أن يراد: يد المعطى أو الآخذ: فمعناه على إرادة يد المعطى: حتى يعطوها عن يد:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أن يجزوه): متعلق بقوله: "على أهل الذمة"، أي: طائفة من التي وجبت على أهل الذمة أن يقضوه، فالجزية من الجزء والتجزئة، وعلى الوجه الآتي من الجزاء، يُقال: جزيته بما صنع جزاء وجازيته.
قوله: (إما أن يُراد: يد المعطي أو الآخذ) على آخره: خلاصته: أن (عَنْ يَدٍ): إما أن يُحمل على يد المعطي، فهو على وجهين: إما أن يعطوها عن يد قاهرة مستولية، أو عن إنعام من المسلمين عليهم.
قال صاحب "التقريب": وفي الوجوه نظر، لأن الكلام في "أعطى عن يده"، ولا يفيده كون: أعطى يده أو بيده؛ بمعنى: انقاد، إذ لو ورد:"أعطى عن يده" بمعناه، كان كافياً، وأيضاً هذه المضمرات الثلاث لا دلالة عليها، اللهم إلا قرينة الجزية، وأيضاً على تقدير جعل اليد للآخذ كان حقه:"إلى يد"، فإما أن يكون على إقامة بعض الحروف مقام بعض، أو على أن التقدير: عن جهة يد قاهرة أو عن جهة إنعام، نحو: كساه عن العُري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت: وفي كلامه تعقيد، وخلاصته: أن المضمرات لا دلالة عليها في الآية، فيُقال: لا شك أن "أعطي" لا يُعدى بـ"عن" إلا على جهة التضمين، نحو قوله:
ينهون عن أكل وعن شرب
أي: يتناهون في السمن بسبب الأكل والشرب، وأن "اليد" تستعمل بإعانة القرائن: تارة في معنى الانقياد، كما قال عثمان رضي الله عنه:"هذي يدي لعمار"، أي: أنا مستسلم له منقاد، فليحكم علي. وتنزيل الآية على هذا: حتى يصدر إعطاؤهم الجزية عن انقياد وطاعة منهم. وأما استشهاده بقوله: أعطي بيده وأعطى يده - وهما كنايتان عن الانقياد، وما نحن بصدده من قبيل المجاز - فلمجرد المعنى، ولبيان العلاقة المعتبرة في المجاز، والتنبيه على الاستعمال.
وتارة في معنى الحلول والأداء، كما ورد في حديث أبي سعيد الخدري في الربا:"يداً بيد"، فتنزيلها عليه: حتى يعطوها إياكم صادرة عن يد إلى يد، أي: نقداً.
وأخرى في معنى النعمة، أي: بسبب إنعام منكم عليهم، أو: يعطوها صادرة عن يد، أي: نعمة حاصلة لهم، هي إبقاء أرواحهم وأخذ شيء قليل منهم بدلها، وإطلاق اليد على النعمة باب واسع.
أي: عن يد مؤاتية غير ممتنعة، لأنّ من أبى وامتنع لم يعط يده،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأخرى بمعنى القدرة والغلبة، ومما ورد في حديث يأجوج ومأجوج:"وقد أخرجت عباداً لي لا يدان لحد بقتالهم"، فالتقدير: يعطوها إياكم بسبب قدرة لكم عليهم، كما يأخذ القاهر المستولي من المستولى منه.
وأمثال هذه المعاني لا تخفى على من له اليد الطولي في المعاني والبيان.
على أن الزجاج قد ذكر الوجوه فقال: " (عَنْ يَدٍ) أي: عن ذل عن اعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم، وقيل: عن يد قهر، فهو كما تقول: اليد في هذا لفلان، أي: الأمر النافذ له، وقيل: عن نعام عليهم بذلك، لأن قبول الجزية منهم وترك أنفسهم عليهم نعمة عظيمة".
وأما صاحب "الانتصاف" فقد أنصف وقبل الوجوه بأسرها، وقال في قوله:"حتى يعطوها عن يد إلى يد [نقداً] غير نسيئة": "هو كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الذهب بالذهب - إلى قوله - يداً بيد) "، وفي قوله:"عن يد قاهرة مستولية، أو المراد باليد هاهنا الإنعام": "هذا الوجه أملأ بالفائدة".
قوله: (عن يد مؤاتية): أي موافقة، الجوهري:"تقول: آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة: إذا وافقته وطاوعته".
بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا: أعطى بيده: إذا انقاد وأصحب، ألا ترى إلى قولهم: نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع ربقة الطاعة عن عنقه، أو: حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة، لا مبعوثا على يد أحد، ولكن عن يد المعطى إلى يد الآخذ.
وأما على إرادة يد الآخذ: فمعناه: حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية، أو: عن إنعام عليهم، لأن قبول الجزية منهم، وترك أرواحهم لهم: نعمة عظيمة عليهم.
(وَهُمْ صاغِرُونَ) أي: تؤخذ منهم على الصغار والذل، وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم، والمتسلم جالس، وأن يتلتل تلتلة، ويؤخذ بتلبيبه، ويقال له: أدّ الجزية، وإن كان يؤدّيها ويزخ في قفاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إذا انقاد وأصحب)، الأساس:"أصحب له الرجل والدابة: إذا انقاد له، ومعناه: دخل في صحبته بعد أن كان نافراً عنه، أو صار ذا صاحب".
قوله: (عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة لا مبعوثاً): "غير نسيئة" و"لا مبعوثاً" صفتان لـ "نقد"؛ الأولى: صفة مؤكدة، والثانية: مميزة، وذلك أن "عن عَنْ يَدٍ إلى يد" صريحة أن يأخذ المستحق حقه من يد الغريم إلى يده، ثم صار كناية عن المنجز مطلقاً، سواء أعطاه من يده إلى يد، أو بعثه إلى يد غيره، فهاهنا لو اقتصر على قوله:"نقداً غير نسيئة" لاحتمل المعنى الآخر، فقال:"لا مبعوثاً على يد غيره"؛ ليشملهما معاً، ومقام التحقير والهوان يقتضيه، فوجب حمله عليهما، ونظيره قوله تعالى:(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ)[الأعراف: 149] فإنه كناية عن الندم، ولا يمتنع من إرادة عض اليد معه أيضاً، لأن الكناية لا تنافي إرادة حقيقته.
قوله: (يتلتل تلتلة)، الأساس:"تلتله: أزعجه. ولقوا منه التلاتل".
قوله: (ويُزخ في قفاه)، الجوهري:"زخه: دفعه في وهدة، وفي الحديث: (ومن يتبعه القرآن يزخ في قفاه حتى يقذف به في نار جهنم) "، أخرجه الدارمي.
وتسقط بالإسلام عند أبى حنيفة رضي الله عنه، ولا يسقط به خراج الأرض.
واختلف فيمن تضرب عليه، فعند أبى حنيفة: تُضرب على كل كافر؛ من ذمي ومجوسي وصابئ وحربي، إلا على مشركي العرب وحدهم، روى الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية، إلا من كان من العرب، وقال لأهل مكة:"هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم بها العرب، وأدّت إليكم الجزية العجم"، وعند الشافعي لحمه الله: لا تؤخذ من مشركي العجم.
والمأخوذ عند أبى حنيفة رضي الله عنه في أوّل كل سنة: من الفقير الذي له كسب: اثنا عشر درهما، ومن المتوسط في الغنى: ضعفها، ومن المكثر: ضعف الضعف؛ ثمانية وأربعون، ولا تؤخذ من فقير لا كسب له، وعند الشافعي: يؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينار، فقيراً كان أو غنيًا، كان له كسب أو لم يكن.
[(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) 30]
(عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) مبتدأ وخبر، كقوله:(المسيح ابن الله)، وعزير: اسم أعجمى، كعازر وعيزار وعزرائيل، ولعجمته وتعريفه: امتنع صرفه، ومن نوّن فقد جعله عربياً. وأما قول من قال: سقوط التنوين لالتقاء الساكنين -كقراءة من قرأ: "أحد الله"[الإخلاص: 1 - 2]، أو لأنّ "الابن" وقع وصفًا، والخبر محذوف، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (ومن نون فقد جعله عربياً): وهو عاصم والكسائي.
قوله: (وأما قول من قال: سقوط التنوين لالتقاء الساكنين
…
فتمحُّل): قال الزجاج: "قرئت (عُزَيْرٌ) بالتنوين وبغير تنوين، والوجه إثبات التنوين، لأن (ابْنُ) خبر، وإنما يُحذف التنوين في الصفة، نحو: جاءني زيد بن عمرو؛ لالتقاء الساكنين، فإن النعت والمنعوت
وهو معبودنا -فتمحل عنه مندوحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كالشيء الواحد، وإذا كان خبراً فالتنوين، وقد يجوز حذف التنوين لالتقاء الساكنين على ضعف، نحو:"قل هو الله أحد* الله الصمد"[الإخلاص: 1 - 2]، وفيه وجه آخر، وهو أن يكون الخبر محذوفا، أي: عزير ابن الله معبودنا".
قوله: (فتمحُّل): الجوهري: "تمحل: احتال، فهو متمحل".
قوله: (عند مندوحة): "مندوحة" مبتدأ، و"عنه" خبره، والجملة صفة "تمحل".
بيان التمحل ما نقله الإمام عن الشيخ عبد القاهر: أنه طعن في هذا الوجه في كتاب "دلائل الإعجاز"، وقال:"الاسم إذا وُصف بصفة، ثم أخبر عنه، فمن كذبه انصرف التكذيب إلى الخبر، وصار ذلك الوصف مسلماً، فلو كان المقصود بالإنكار قولهم: "عزير ابن الله معبودنا"، لتوجه الإنكار إلى كونه معبوداً لهم، وحصل تسليم كونه ابناً لله، وذلك كفر".
ثم قال الإمام: "وهذا الطعن ضعيف، أما قوله: "إن من أخبر عن ذات موصوفة بأمر من الأمور، وأنكره منكر توجه الإنكار إلى الخبر": فهذا مسلم، وأما قوله:"ويكون ذلك تسليماً للوصف"، فهذا ممنوع، لأنه لا يلزم من كونه مكذباً لذلك الخبر كونه مصدقاً لذلك الوصف، إلا أن يُقال: تخصيص ذلك الخبر يدل على أن ما سواه لايكذبه، وهذا بناء على دليل الخطاب، وهو ضعيف".
وقلت: هذا الكلام يحتمل أمراً آخر، وهو أن يُقال: إن المراد من إجراء تلك الصفة
وهو قول ناس من اليهود ممن كان بالمدينة، وما هو بقول كلهم، عن ابن عباس: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الضيف، فقالوا ذلك. وقيل: قاله فنحاص. وسبب هذا القول: أنّ اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام، فرفع الله عنهم التوراة، ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض، فأتاه جبريل، فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم فحفظه التوراة، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه، لا يخرم حرفا، فقالوا: ما جمع الله التوراة في صدره، وهو غلام، إلا أنه ابنه.
والدليل على أن هذا القول كان فيهم: أن الآية تليت عليهم، فما أنكروا ولا كذبوا، مع تهالكهم على التكذيب.
فإن قلت: كل قول يقال بالفم، فما معنى قوله" (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ)؟ قلت: فيه وجهان:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
على الموصوف بناء الخبر عليه، فحينئذ يرجع التكذيب على جعل الوصف علة للخبر، فبطل ذلك التمحل.
قوله: (وما هو بقول كلهم): اعتذار عن نسبة هذه الهيئة إلى اليهود، وهم يتبرؤون عنه. قال الإمام:"القائل بهذا المذهب بعض اليهود، إلا أنه نسب ذلك إلى الجميع بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد"، ثم قال:"ولعل هذا المذهب كان فاشياً فيهم، ثم انقطع، فحكى الله تعالى عنهم، ولا عبرة بإنكار اليهود لذلك، فإن حكاية الله عنهم أصدق".
قوله: (فيه وجهان): فإن قلت: فهلا يعتبر التأكيد، نحو: رأيته بعيني، وقلته بفمي، وأخذته بيدي؟ قلت: يأباه المقام؛ لأن المقصود الإخبار عن ذلك القول الشنيع الذي يخرج من أفواههم، من غير تحاش ولا مبالاة، كقوله تعالى: (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
أحدهما: أن يراد أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ يفوهون به، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان، وذلك أن القول الدال على معنى: لفظه مقول بالفم، ومعناه مؤثر في القلب، ومالا معنى له: مقول بالفم لا غير.
والثاني: أن يراد بالقول: المذهب، كقولهم: قول أبى حنيفة، يريدون مذهبه وما يقول به، كأنه قيل: ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم، لأنه لا حجة معه، ولا شبهة، حتى يؤثر في القلوب، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له، لم تبق شبهة في انتفاء الولد.
"يُضاهِؤُنَ" لا بدّ فيه من حذف مضاف تقديره: يضاهي قولهم قولهم، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه، فانقلب مرفوعًا.
والمعنى: أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، يعنى: أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث. أو: يضاهي قول المشركين: "الملائكة بنات الله". وقيل: الضمير للنصارى، أي: يضاهي قولهم: "المسيح ابن الله"، قول اليهود:"عزير ابن الله"، لأنهم أقدم منهم.
وقرئ (يضاهؤن) بالهمز من قولهم: امرأة ضهيأ؛ على فعيل، وهي التي ضاهأت الرجال في أنها لا تحيض، وهمزتها مزيدة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) [النور: 15]، ولا يقال ذلك الأسلوب إلا في أمر يعظم مثاله، ويعز الوصول إليه، ليؤذن على نيله وحصوله.
قوله: (وقرئ: (يُضَاهِئُونَ) بالهمزة، من قولهم: امرأة ضهيأ، على: فعيل) إلى قوله: (وهمزتها مزيدة): قيل: الصواب أن يُقال: أو همزتها مزيدة، وإلا ففي كلامه تناقض؛
كما في "غرقئ".
(قاتَلَهُمُ اللَّهُ) أي: هم أحقاء بأن يقال لهم هذا؛ تعجباً من شناعة قولهم، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء: قاتلهم الله، ما أعجب فعلهم! (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحق؟
[(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) 31]
اتخاذهم أربابًا: أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي، وتحليل ما حرم الله، وتحريم ما حلله، كما يُطاع الأرباب في أوامرهم، ونحوه تسمية أتباع الشيطان فيما يوسوس به: عباده، (بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ) [سبأ: 41]، (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) [مريم: 44].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن "ضهيأ" همزتها أصلية، ويجوز أن تكون الواو بمعنى "أو"، وقيل: جاء بقوله: "فعيل" لمجرد الوزن لا لبيان الأصل.
وقال الزجاج: "و"ضهيأ": فعلأ، الهمزة زائدة، ما زيدت في "شمأل" و"غرقئ"، ولا نعلم زيادة الهمزة غير أول إلا في هذه الأشياء، ويجوز أن تكون "فعيل"، وإن كانت بنية ليس لها في الكلام نظير، فإنا قد نعرف كثيراً مما لا يأتي له نظير، من ذلك قولهم: كنهبل، وهو الشجر العظام، وتقديره: فنعلل، وكذلك: قرنفل، وتقديره: فنعلل، ويجوز أن يكون (يُضَاهِئُونَ) من هذا بالهمز، وتكون همزة "ضهيأ" أصلاً".
قوله: (كما في غرقئ): قال الفراء: همزته زائدة، لأنه من الغرق، وهو قشر البيض الذي تحت القيض، والقيض: ما يعلق من قشور البيض الأعلى.
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال:"أليسوا يحرّمون ما أحلّ الله، فتحرّمونه، ويحلون ما حرّمه الله، فتحلونه؟ " قلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم".
وعن فضيل: ما أبالى أطعت مخلوقًا في معصية الخالق، أو صليت لغير القبلة.
وأمّا المسيح: فحين جعلوه ابنا لله، فقد أهلوه للعبادة، ألا ترى إلى قوله:(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ)[الزخرف: 81]، (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أمرتهم بذلك أدلة العقل، والنصوص في الإنجيل، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (وعن عدي بن حاتم) الحديث: من رواية الترمذي قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: اطرح عنك هذا الوهن"، وسمعته صلوات الله عليه يقول:(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ)، قال:"إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكن كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا ًحرموه".
النهاية: "في حديث عمران بن حصين: "أن فلاناً دخل عليه، وفي عضده حلقة من صفر، فقال: ما هذا؟ قال: هذا من الواهنة، قال: أما إنها اتزيدك إلا وهناً"؛ الواهنة: عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها، فيرقى منها، وربما علق عليها جنس من الخرز، يقال لها: خرز الواهنة، وإنما نهاه عنها، لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، فكان في معنى التمائم المنهي عنها".
قوله: (ألا ترى إلى قوله: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)[الزخرف: 81]: يعني: معنى الألوهية مقتض للعبودية، ومن جُعل ابناً للإله الحق فقد استحق أن يعبد لما وُجد فيه ذلك المعنى، فإن قُدر كذا فأنا أول من قام بما وجب عليه.
والمسيح عليه السلام: (إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ)[المائدة: 72]، (سُبْحانَهُ): تنزيه له عن الإشراك به، واستبعاد له.
ويجوز أن يكون الضمير في (وَما أُمِرُوا) للمتخذين أرباباً، أي: وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا ليعبدوا الله ويوحدوه، فكيف يصح أن يكونوا أربابًا، وهم مأمورون مستعبدون مثلهم.
[(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَابَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) 32 - 33]
مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق -يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة- ليطفئه بنفخه، ويطمسه.
(لِيُظْهِرَهُ): ليظهر الرسول عليه السلام (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ): على أهل الأديان كلهم، أو ليظهر دين الحق على كل دين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
…
قوله: (ويجوز أن يكون الضمير في (وَمَا أُمِرُوا)): عطف من حيث المعنى على قوله: "أمرتهم بذل"، والضمير فيه للمتخذين، بكسر الخاء، وعلى هذا: للمتخذين، بفتحها.
إنما خص المصنف ما يختص بالنصارى بالذكر، والظاهر العموم في اليهود والنصارى، لدلالة السياق عليه، أو لأن النصارى أو غلُ في إثبات هذا المعنى.
قوله: (مثل حالهم) إلى آخره: وهو استعارة مصرحة تمثيلية، والمستعار جملة الكلام، لأن حالهم في محاولة إبطال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب هو المشبه، وهو مطوي، والمشبه به حال من يريد أني نفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، المعنى بقوله:(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ)، وهو الطرف المذكور.
فإن قلت: كيف جاز: "أبى الله إلا كذا"،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (وَيَأبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) ترشيح للاستعارة، لأن إتمام النور زيادة في استنارته وفشو ضوئه، فهو تفريع على الأصل، أي: المشبه به، وقوله:(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) تجريد للاستعارة، وتفريعٌ على الأصل، ورُوعي في كل من الممثل والممثل به معنى الإفراط والتفريط، حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله تعالى، وما شأن نور يُضاف إلى الله تعالى، وكيف السبيل إلى إطفائه، لا سيما بالفم! ومن ثم قال:"في نور عظيم منبث في الآفاق"، وتمم كلاً من الترشيح والتجريد بقوله:(وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، وأوهم التناسب بين الكفر والإطفاء، لأن الكفر التغطية والستر، وبين الشرك ودين الحق، لأن دين الحق التوحيد.
ويجوز أن يُجعل (نُورَ اللَّهِ) استعارة تحقيقية، والقرينة الإضافة، والمراد بالنور رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى:(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً *وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً)[الأحزاب: 45 - 46]، شبهه صلوات الله عليه - لما جلى الله تعالى به ظلمات الشرك، وهدى به الضالين- بالنور وبالسراج المنير الذي يحرق ظلمات الليل البهيم، فيهتدى به، ثم أطلق اسم النور أو السراج على المشبه المتروك، ثم رشح الاستعارة بـ (يُطْفِئُوا)، لأنه صفة ملائمة للمشبه به، وهو السراج، ولذلك قال:(بِأَفْواهِهِمْ)، وأما قوله:(وَيَابَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) وقوله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ)، فكما سبق في الاستعارة الأولى، والله أعلم.
قوله: (كيف جاز: أبي الله إلا كذا)، أي: كيف جاز أن يكون الاستثناء المفرغ في الكلام الموجب؟ قال الزجاج: "زعم بعض النحويين أن في "يأبى" طرفاً من الجحد، والجحد والتحقيق ليسا بذوي أطراف، وأداة الجحد "لا" و"ما" و"لم" و"لن" و"ليس"، ولا يكون الإيجاب جحداً، ولو جاز هذا لجاز: كرهت إلا أخاك، ولا دليل هاهنا على المكروه ما هو؟ لكن معناه: يأبى الله كل شيء إلا إتمام نوره".
ولا يقال: كرهت -أو: أبغضت- إلا زيداً؟ قلت: قد أجرى "أبى" مجرى "لم يرد"، ألا ترى كيف قوبل (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا) بقوله:(وَيَابَى اللَّهُ) وكيف أوقع موقع "ولا يريد الله": (إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ).
[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَاكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) 34 - 35]
معنى أكل الأموال على وجهين: إما أن يستعار الأكل للأخذ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأجاب المصنف عنه: بأن الدليل الدال على إرادة الجحد إيقاع قوله: (وَيَابَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) مقابلاً لقوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ)، يعني: هم يريدون الإطفاء، والله تعالى لا يريد إلا الإتمام.
وكأن صاحب "الانتصاف" رد هذا التأويل بقوله: "لا يقال: إن الإباء بمعنى نفي الإرادة، فكما صح الإيجاب بعد نفي الإرادة، فينبغي أن يصح بعد ما هو في معناه، لأنا نقول: لوجود حرف النفي أثر في تصحيح مجيء الإيجاب".
وقلت: لعله نسي قول المصنف في قوله تعالى: (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ) بالرفع: "هذا من ميلهم مع المعنى، والإعراض عن اللف جانباً، لأن المعنى: فلم يطيعوه إلا قليل منهم".
قوله: (أن يُستعار الأكل للأخذ): وذلك بأن تشبه حالة أخذهم أموال الناس من غير تمييز بين الحق اولابطل، وتفرقة بين الحلال والحرام، للتهالك على الدنيا والحرص على جمع
ألا ترى إلى قولهم: أخذ الطعام وتناوله. وإمّا على أن الأموال يؤكل بها، فهي سبب الأكل. ومنه قوله:
يأكلن كل ليلة إكافا
يريد: علفا يشتري بثمن إكاف.
ومعني أكلهم بالباطل: أنهم كانوا يأخذون الرشا في الحكام والتخفيف والمسامحة في الشرائع.
(والَّذِينَ يَكْنِزُونَ) يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم: أخذ البراطيل، وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الخير.
ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى؛ تغليظًا ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي منكم طيب ماله؛ سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
حُطامها، بحالة منهمك جائع لا يميز بين طعام وطعام في التناول. ولا طائل تحت هذه الاستعارة، واستشهاده بقولهم:"أخذ الطعام وتناوله" أسمج، والوجه هو الثاني، وما قال القاضي:"سُمي أخذُ المال أكلاً لأنه الغرض الأعظم منه".
قوله: (أخذ البراطيل)، الأساس:"البرطيل: هو الحجر المستطيل، ومنه: ألقمه البرطيل، وهو الرشوة، وبرطل فلان: أرشى، ومنه قولهم: إن البراطيل تنصر الأباطيل".
قوله: (ويجوز أن يُراد المسلمون الكانزون): يريد أن التعريف في (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) للعهد، والمعهود: إما الأحبار والرهبان، وإما المسلمون؛ لجري ذكر الفريقين، والأولى حمله على العموم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال صاحب "المرشد": (عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) هو وقف حسن إذا جعلت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) في موضع رفع بالابتداء، وخبره:(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وإليه ذهب أبو حاتم، وإن ذهب به إلى النصب؛ بالعطف على قوله:(كَثِيراً)، أي: إن كثيراً منهم ليأكلون والذين يكنزون يأكلون أيضاً، فالوقف على قوله:(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، ولكن ليس بحسن، لأن قوله:(يَوْمَ يُحْمَى) ينتصب بالظرف، والعامل فيه ما قبله.
وقلت: لا يخفى على من له مسكة أن الثاني بعيد عن مقتضى البلاغة، والأول هو الوجه، ليكون كالتذييل للكلام السابق - ويؤيده إجراؤه على العموم، لأن قوله:(فَبَشِّرْهُمْ) أمر لكل من تتأتى منه البشارة بالعذاب بأن يبشر؛ على التهكمية، فالتعريف في (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) إذن للجنس، فيدخل في هذا العموم الأحبار والرهبان دخولاً أولياً-، وليُعلم أن قصدهم في أخذ الرشا كان كنز المال والضن بها.
وأما قضية النظم: فإنه تعالى لما أخبر المؤمنين أن أخذ الرشا لإبطال الحق دأب الأحبار والرهبان، لئلا يتصفوا به، بين أيضاً أن قصدهم فيه جمع الأموال والمنع من حقوق الله،
وقيل: نسخت الزكاة آية الكنز، وقيل: هي ثابتة، وإنما عنى بترك الإنفاق في سبيل الله منع الزكاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أدّى زكاته فليس بكنز،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيعلموا أن الجمع من الحلال مع منع الحقوق منه داخل في ذلك الحكم ومستوجب للبشارة بالعذاب الأليم.
وفيه أن القصد في الجمع لا ينبغي أن يكون إلا للإنفاق في سبيل الله، ولا يصلح إلا لذلك، روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"هلك المكثرون، إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وقليل ما هم يا أبا هريرة"، وفي جعلهم في الآخرة "الأقلين"، وفي الدنيا "قليلاً: لطيفة.
وينصر دلالتها على العموم: ما روينا عن البخاري عن زيد بن وهب، عن أبي ذر قال:"اختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية، فقال: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ)، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه كلام في ذلك"، الحديث.
وما روينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما ردت أعيدت عليه، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله؛ إما على الجنة، وإما إلى النار"، الحديث.
قوله: (ما أدى زكاته فليس بكنز) الحديث عن البخاري ومالك وابن ماجه عن ابن عمر: "قال له أعرابي: أخبرني عن قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) الآية، فقال ابن
وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز، وإن كان ظاهراً"، وعن عمر رضي الله عنه: أنّ رجلاً سأله عن أرض له باعها، فقال: أحرز مالك الذي أخذت، احفر له تحت فراش امرأتك. قال: أليس بكنز؟ قال: ما أدّى زكاته فليس بكنز، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز، وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم يؤدّ زكاته فهو الذي ذكر الله، وإن كان على ظهر الأرض.
فإن قلت: فما تصنع بما روى سالم بن الجعد: أنها لما نزلت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تباً للذهب، تبا للفضة"، قالها ثلاثاً، فقالوا له: أيّ مال نتخذ؟ قال" "لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وزوجة تُعين أحدكم على دينه"، وبقوله عليه الصلاة والسلام: "من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها"، وتوفى رجل فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كية"، وتوفى آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال "كيتان"؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها ويلٌ له، هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت جعلها الله طهرة الأموال".
قوله: (احفر له تحت فراش امرأتك): كناية عن المبالغة في الحفظ واختيار حرز حريز.
قوله: (بما روى سالم بن [أبي] الجعد)، الحديث: من رواية أحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجه عن ثوبان قال: لما نزلت الآية قال بعض أصحابه: فلو علمنا أي المال خير اتخذنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أفضله لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه".
قوله: (وتوفي رجل فوُجد)، الحديث في "مسند أحمد بن حنبل" عن أبي أمامة: أن رجلاً من أهل الصفة توفي وترك ديناراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كية"، قال: ثم توفي آخر، فترك دينارين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كيتان". وقلت: أمر أهل الصفة كان على التجريد وترك الادخار، فلما وُجد خلافه رُتب عليه الوعيد، لأن ذلك ظلم منهم.
قلت: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأمّا بعد فرض الزكاة، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه، ويؤدّى عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه، ولقد كان كثير من الصحابة، كعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا، والاقتناء مباح موسع لا يذمّ صاحبه، ولكل شيء حدّ، وما روى عن علىّ رضي الله عنه:
"أربعة آلاف فما دونها نفقة، فما زاد فهو كنز" كلام في الأفضل.
فإن قلت: لم قيل: (ولا ينفقونها)، وقد ذكر شيئان؟ قلت: ذهاباً بالضمير إلى المعنى دون اللفظ؛ لأن كل واحد منهما جملة وافية، وعدة كثيرة ودنانير ودراهم، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (لم قيل: (وَلا يُنفِقُونَهَا)، وقد ذُكر شيئان؟ ) الراغب: أعيد الضمير إلى الفضة دون الذهب؛ لأن حبس الفضة عن الناس أعظم ضرراً؛ إذ الحاجة إليها أمس، ومنعها للمضرة أجلب، وعلى ذلك أيضاً قوله تعالى:(وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا)[الجمعة: 11]، أعيد الضمير إلى التجارة دون اللهو لما كانت سبب انفضاض الذين نزلت الآية فيهم.
وقال الإمام: "إنما خُلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات، فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته، ثم جمع الأموال الزائدة عليه، فهو لا ينتفع بها، لكونها زائدة على قدر حاجته، ومنعها من الغير ليدفع بها حاجته، كأنه منع من ظهور حكمة الله، ومن وصول إحسانه إلى عبيده".
فهو كقوله: (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)[الحجرات: 9]، وقيل: ذهب به إلى الكنوز، وقيل: إلى الأموال، وقيل: معناه ولا ينفقونها والذهب، كما أن معنى قوله:
فَإنِّى وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
وقيار كذلك.
فإن قلت: لم خصا بالذكر من بين سائر الأموال؟ قلت: لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلاً على ما سواهما.
فإن قلت: ما معنى قوله (يُحْمى عَلَيْها)؟ وهلا قيل: "تحمى"، من قولك: حمى الميسم وأحميته، ولا تقول: أحميت على الحديد؟ قلت: معناه: أن النار تحمى عليها، أي: توقد ذات حمى وحرّ شديد، من قوله:(نارٌ حامِيَةٌ)[القارعة: 11] ولو قيل: "يوم تحمى"، لم يعط هذا المعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (قانون التمول)، الجوهري:"القوانين: الأصول الواحد قانون، وليس بعربي".،
قوله: (معناه: أن النار تُحمى عليها): قال الواحدي: "يُقال: أحميت الحديدة ف النار إحماء حتى حميت حمياً: إذا أوقدت عليها النار"، وهو كقوله تعالى:(فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ)[القصص: 38].
قوله: (ولو قيل: "يوم تُحمى"، لم يعط هذا المعنى): لأنك إذا قلت: يوم تحمى الكنوز في نار جهنم، أفاد أنها حميت، وهي كائنة في النار، كما يحمى الميسم فيها، فلا تُعلم شدة وقود النار فيها. وأما لو قيل:"تحمى عليها"، وأسند "تحمى" إلى النار، أفاد أن النار بنفسها تحمى، فتكو كما قال:"توقد ذات حمى وحر شديد"، ثم إذا قيل:"على الكنوز" دل على الاستعلاء،
فإن قلت: فإذا كان الإحماء للنار، فلم ذكر الفعل؟ قلت: لأنه مسند إلى الجار والمجرور، أصله: يوم تحمى النار عليها، فلما حذفت "النار" قيل: يحمى عليها، لانتقال الإسناد عن "النار" إلى (عليها)، كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير، فإن لم تذكر "القصة" قلت: رفع إلى الأمير.
وعن ابن عامر أنه قرأ: "تحمى"، بالتاء، وقرأ أبو حيوة: "فيكوى بالياء.
فإن قلت: لم خصت هذه الأعضاء؟ قلت: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم -حيث لم ينفقوها في سبيل الله- إلا الأغراضَ الدنيوية؛ من وجاهة عند الناس وتقدّم، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم، يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها، وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب، يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك: هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم، لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذهب أهل الدثور بالأجور".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فكان أبلغ. ولهذا أكد الواحدي في قوله: : أحميد الحديدة في النار إحماء حتى حميت حميا: إذا أوقدت عليها النار".
قوله: (ومن أكل طيبات يتضلعون منها): أي: يأكلون حتى تمتلئ أضلاعهم منها، وهو عطف على قوله "من وجاهة عند الناس".
قوله: (ذهب أهل الدثور بالأجور)، الحديث: من رواية البخاري ومسلم وأبي داود عن أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العظيم والنعيم المقيم، فقال صلى الله عليه وسلم:"وما ذاك؟ " قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نُعتق
…
الحديث."الدثور": المال الكثير.
وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوا بأركانهم، وولوه ظهورهم.
وقيل: معناه: يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم.
(هَذَا مَا كَنَزْتُمْ) على إرادة القول، وقوله:(لِأَنْفُسِكُمْ) أي: كنزتموه لننتفع به نفوسكم، وتلتذ وتحصل لها الأغراض التي حامت حولها، وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم، وتتعذب، وهو توبيخ لهم، (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)، وقرئ:"تكنزون"، بضم النون، أي: وبال المال الذي كنتم تكنزونه، أو وبال كونكم كانزين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ازوروا عنه)، الجوهري: "الازورار عن الشيء: العدول عنه، وقد ازور عنه ازوراراً.
قوله: (وتولوا بأركانهم): أي بالجباه والجنوب، لأنها أركان من يستقبل الشيء، كقوله تعالى:(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ)[الذاريات: 39]، وراعى الجناس بين "تولوا" و"ولوا".
قوله: (وقيل: معناه: يكوون على الجهات الأربع)، يعني: ليس هاهنا اختصاص، بل فيه إشارة إلى الجهات الأربع للاستيعاب.
قوله: (أي: كنزتموه لتنتفع به نفوسكم) إلى قوله: (وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم): إشارة إلى أن اللام في (لأَنْفُسِكُمْ) مثلها في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً)[القصص: 8]، وفيه تتميم لمعنى التوبيخ وتربية عليه.
قوله: (أي: وبال المال): هذا على أن تكون (مَا) موصولة.
قوله: (أو: وبال كونكم): على أن تكون مصدرية.
[(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) 36]
(فِي كِتابِ اللَّهِ): فيما أثبته وأوجبه من حكمه، ورآه حكمة وصوابا، وقيل: في اللوح، (أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ): ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، وواحد فرد، وهو رجب. ومنه قوله عليه السلام في خطبته في حجة الوداع:"ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، والسنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
والمعنى: رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في اللوح): هذا أقرب من الأول وأتم فائدة؛ لذكر (شَهْراً)، لأنه تعالى أخبر أن عدد شهور السنة عند الله اثنا عشر شهراً، وكان يكفي أن يُقال: اثنا عشر، أي: عدة الشهور اثنا عشر، فعلى هذا (عِنْدَ اللَّهِ) خبرُ (إنَّ)، و (اثْنَا عَشَرَ شَهْراً) مُبتدأ على تأويل هذا اللفظ، و (فِي كِتَابِ اللَّهِ) خبره.
ويجوز أن يكون (فِي كِتَابِ اللَّهِ) صفة (اثْنَا عَشَرَ شَهْراً)، ويكون خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة، أي: ليس حكم عدة شهور السنة عندكم، وإنما حكمها عند الله، فكأنه قيل: كيف حكمها عنده؟ فأجيب: حكمها اثنا عشر شهراً مثبت في اللوح المحفوظ.
قال أبو البقاء: " (عِدَّةَ) مصدر مثل "العدد"، و (عِنْدَ) معمول له، و (فِي كِتَابِ اللَّهِ) صفة لـ (اثْنَا عَشَرَ)، وليس بمعمول لـ (عِدَّةَ)، لأن المصدر إذا أُخبر عنه لا يعمل فيما بعد الخبر".
قوله: (ورجب مُضر الذي بين جمادي وشعبان)، الحديث: من رواية البخاري ومسلم عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الزمان قد استدرا كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض،
وعاد الحج في ذي الحجة، وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية، وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة، وكانت حجة أبى بكر قبلها في ذي القعدة.
(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) يعنى: أنّ تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم، دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم، ويحرمون القتال فيها، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حُرم؛ ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، ورجب مُضر الذي بني جمادي وشعبان".
النهاية: "أضاف رجباً إلى مُضر؛ لأنهم كانوا يُعظمونه بخلاف غيرهم، فكأنهم اختصوا به، وقوله: "بين جُمادي وشعبان" تأكيدٌ للبيان وإيضاح؛ لأنهم كانوا ينسئونه ويؤخرونه من شهر إلى شهر، فيتحول عن موضعه المختص به، فبين لهم أن الشهر المختص الذي هو بين جمادي وشعبان، لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء".
الحديث مخرج في "الصحيحين" وفي "سنن أبي داود" عن أبي بكرة.
هذه الآية متصلة بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ)[التوبة: 28]، وما بينهما مستطرد لذكر آية السيف، وإباحة القتال مع أهل سائر الأديان المختلفة لمخالفتهم دين الحق.
قوله: (لم يهجه): لم يثوره، الأساس:"هاج به الدم والمرة، وهاج الشر بين القوم، وهيجه فلان".
وسموا رجبا: الأصم ومنصل الأسنة، حتى أحدثت النسيء فغيروا.
(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ): في الحرم، (أَنْفُسَكُمْ) أي: لا تجعلوا حرامها حلالًا، وعن عطاء: بالله، ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا أن يقاتلوا، وما نسخت. وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرم (بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ) وقيل: معناه: لا تأثموا فيهن، بيانًا لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحج بقوله:(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) الآية [البقرة: 197]، وإن كان ذلك محرمًا في سائر الشهور. (كَافَّةً) حال من الفاعل أو المفعول، (مَعَ الْمُتَّقِينَ) ناصر لهم، حثهم على التقوى بضمان النصر لأهلها.
[(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) 37]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (سموا رجباً: الأصم): قيل: لأنه لا يُسمع فيه صوت مستغيث، ولا حركة قتال، ولا قعقعة سلاح.
قوله: (ومنصل الأسنة)، الجوهري:"نصلت السهم: نزعت نصله، كقولهم: قردت البعير: إذا نزعت منه القُراد، وكذلك إذا ركبت عليه النصل، وهو من الأضداد، وأنصلت الرمح: إذا نزعت نصله، وكان يقال لرجل في الجاهلية: منصل الأسنة ومنصل الأل، لأنهم كانوا ينزعون الأسنة ولا يغزون، ولا يغير بعضهم على بعض". "الأل" بالتفح: جمة ألة، وهي الحرية.
قوله: (وقيل: معناه: لا تأثموا فيهن): معطوف على قوله: "لا تجعلوا حرامها حلالاً"، فالظلم على الأول بمعنى الكفر والشرك، وعلى الثاني بمعنى الإثم، سُمي الإثم ظلماً ليؤذن أن افثم في هذه الأشهر بمنزلة الظلم على النفس، وإليه الإشارة بقوله:"بياناً لعظم حرمتهن"، وعليه قوله تعالى:(فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[البقرة: 197].
(النَّسِيءُ): تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون، شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهراً آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من شق شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله:(لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ) أي: ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور، فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر، ليتسع لهم الوقت. ولذلك قال عز وعلا:(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً)، يعنى: من غير زيادة زادوها.
والضمير في: (يُحِلُّونَهُ)(وَيُحَرِّمُونَهُ) للنسيء، أي إذا أحلوا شهراً من الأشهر الحرم عامًا، رجعوا فحرموه في العام القابل. يُروى أنه حدث ذلك في كنانة؛ لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في الجاهلية، وكان يقوم على جمل في الموسم، فيقول بأعلى صوته: إنّ آلهتكم قد أحلت لكم المحرم، فأحلوه، ثم يقوم في القابل، فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم، فحرموه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (من شق شهور)، الأساس:"قعد في شق من الدار، أي: في ناحية منها، وخُذ من شق الثياب: من عرضها".
قوله: (أحد الواجبين): قيل: أحدهما: تخصيص الأشهر، والآخر: حرمة القتال: وقيل: أحدهما: العدد وهو أربعة أشهر، والآخر: تخصيصها بالأشهر المذكورة.
قوله (والضمير في (يُحِلُّونَهُ)(يُحَرِّمُونَهُ)، للنسيء): قال الواحدي: "أي: يحلون التأخير عاماً، وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم، ويحرمون التأخير عاماً، وهو العام الذي يدعون المحرم على تحريمه".
جعل النسيء زيادة في الكفر، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً، (فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة: 125]، كما أن المؤمن إذا أحدث الطاعة ازداد إيماناً، (فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة: 124].
وقرئ (يُضِلُّ) على البناء للمفعول، و (يُضِلُّ) بفتح الياء والضاد، و"يُضَلُّ" على أن الفعل لله عز وجل. وقرأ الزهري:"ليوطئوا" بالتشديد.
والنسيء: مصدر نسأه: إذا أخره. يقال: نسأه نسأ ونساء ونسيئاً، كقولك: سه مساً ومساساً مسيساً، وقرئ بهنّ جميعا. وقرئ:(النسى)، بوزن: الندى، و"النسى" بوزن: النهى، وهما تخفيف النسيء والنسء.
فإن قلت: ما معنى قوله: (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ)؟ قلت: معناه: فيحلوا -بمواطأة العدّة وحدها من غير تخصيص- ما حرّم الله من القتال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الإمام: "هذا إنما يصح لو حملنا (النَّسِيءُ) على المفعول، وهو مُشكل، لأنه يقتضي أن يكون الشهر المؤخر كفراً، اللهم إلا أن يقال: إن المراد: العمل الذي به يصير الشهر نسيئاً زيادة في الكفر، والمعنى: يحلون ذلك الإنساء عاماً، ويحرمونه عاماً".
قوله: (وقرئ: (يُضَلُ) على البناء للمفعول): حفص وحمزة والكسائي، والباقون: بفتح الياء وكسر الضاد. وأما بفتح الياء والضاد، وضم الياء وكسر الضاد: فشاذ.
قوله: (وقرئ: "النسي" بوزن الندي)، ورش:"إنما النسيُّ" بتشديد الياء بغير همز، والباقون: بالهمز وإسكان الياء مع المد.
أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها.
(زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ): خذلهم الله، فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة، (وَاللَّهُ لا يَهْدِي) أي: لا يلطف بهم، بل يخذلهم.
وقرئ: "زين لهم سوء أعمالهم"، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل.
[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) 38 - 41]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو من ترك الاختصاص الأشهر): "الأشهر": منصوب بنزع الخافض، ويُروى:"للأشهر"، و"الاختصاص": مفعول "ترك"، "أو من ترك" عطف على "من القتال".
أي: يلزمهم بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص تحليل ما حرم الله من القتال، أو تحليل ما حرم الله من ترك الاختصاص للأشهر بعينها، وهما الواجبان المذكوران في قوله:"وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين"ز
وتحريره: أنه تعالى أمرهم بشيء، ونهاهم عن شيء؛ أمرهم أن يعظموا الأشهر الحرم بعينها، وحرم عليهم القتال فيها، كما سبق في قوله: "وكانت العرب قد تمسكت به وراثة
(اثَّاقَلْتُمْ): تثاقلتم، وبه قرأ الأعمش، أي: تباطأتم وتقاعستم، وضمن معنى الميل والإخلاد فعدى بـ (إِلَى)، والمعنى: ملتم إلى الدنيا وشهواتها، وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه، ونحوه:(أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ)[الأعراف: 176]، وقيل: ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم.
وقرئ: "اثَّاقَلْتُمْ؟ " على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منهما- أي: من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فكانوا يعظمون الأشهر الحرم، ويحرمون القتال فيها"، وإن استحفظوا الحرمة بمواطأة العدة، فقد أحلوا ما حرم الله من القتال فيها، أو هتكوا بسبب ترك الاختصاص بالأشهر بعينها حرمتها وتعظيمها، حيث أوقعوا القتال فيها. ولو حُمل "أو" في قوله: "أو من ترك الاختصاص" على معنى الواو، كقوله تعالى:(عُذْراً أَوْ نُذْراً)[المرسلات: 6]، كان أوجه لما لزمهم الأمران معاً.
ويمكن أن يُقال: إن معنى الآية: أنه تعالى أخبر عنهم أنهم إنما أحلوا النسيء عاماً وحرموه عاماً ليواطئوا العدة، فيتسلقوا بذلك على تحليل ما حرمه الله تعالى.
قوله: (اثَّاقَلْتُمْ): تثاقلتم): قال الزجاج: "إن التاء أدغمت في التاء، فصارت ثاء ساكنة، فابتدئت بألف الوصل".
قوله: (وتقاعستم): تقاعس عن الأمر: تأخر ولم يقدم عليه.
قوله: (ملتم إلى الإقامة بأرضكم): هذا تصريح، والوجه الأول كناية، لقوله:"ملتم إلى الدنيا وشهواتها"، واستشهاده بقوله:(أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)[الأعراف: 176]، وهو الوجه لمطابقة قوله:(أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
فإن قلت: فما العامل في (إذا)، وحرف الاستفهام مانعة أن يعمل فيه؟ قلت: ما دلّ عليه قوله: (اثَّاقَلْتُمْ)، أو ما في (مالَكُمْ) من معنى الفعل، كأنه قيل: ما تصنعون إذا قيل لكم؟ كما تعمله في الحال إذا قلت: مالك قائماً؟
وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر، بعد رجوعهم من الطائف، استنفروا في وقت عسرة وقيظ وقحط مع بعد الشقة وكثرة العدو، فشق عليهم. وقيل: ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها، إلا في غزوة تبوك؛ ليستعدّ الناس تمام العدة.
(مِنَ الْآخِرَةِ) أي: بدل الآخرة، كقوله:(لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً)[الزخرف: 60]، (فِي الْآخِرَةِ): في جنب الآخرة.
(إِلَّا تَنْفِرُوا) سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم، ويستبدل بهم قومًا آخرين خيراً منهم وأطوع، وأنه غنى عنهم في نصرة دينه، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
…
قوله: (وحرف الاستفهام مانعة): أي: منع أن يعمل (اثَّاقَلْتُمْ) في الظرف؟ وأجاب: أن العامل معنى (اثَّاقَلْتُمْ)، وهو: ملتم، مثاله:(أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)[الرعد: 5]، أي: أنعاد إذا كنا تراباً؟
قوله: (الشقة): وهي السفر البعيد.
قوله: (ورى عنها): هو من: وريث الخبر تورية: إذا سترته وأظهرت غيره.
قوله: (وأنه يهلكهم): عطف على قوله: "عذاب أليم" على سبيل التفسير، ليصح عطف "ويستبدل" عليه، وكذلك قوله:"وأنه غني عنهم"، يعني: دل جواب الشرط- وهو (يُعَذِّبْكُمْ) - وما عُطف عليه، على الإخبار بأنهم إن لا ينفروا يستحقوا سخطاً عظيماً من الله تعالى، بأن يجمع لهم عذاب الدارين، وانه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين، وأن ذلك لا يضر الله شيئاً، لأنه غني عنهم في نُصرة دينه.
وقيل: الضمير للرسول، أي: ولا تضروه، لأنّ الله تعالي وعده أن يعصمه من الناس، وأن ينصره، ووعد الله كائن لا محالة، وقيل يريد بقوله (قَوْماً غَيْرَكُمْ) أهل اليمن، وقيل: أبناء فارس، والظاهر مستغن عن للتخصيص.
فإن قلت: كيف يكون قوله: (فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) جواباً للشرط؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد، ولا أقل من الواحد، فدلّ بقوله:(فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) على أنه ينصره في المستقبل، كما نصره في ذلك الوقت. والثاني:
أنه أوجب له النصرة، وجعله منصوراً في ذلك الوقت، فلن يخذل من بعده.
وأسند الإخراج إلى الكفار، كما أسند إليهم في قوله:(مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ)[محمد: 13]، لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج، فكأنهم أخرجوه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم: أي: لا تضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صاحب "الانتصاف": "يؤيد هذا الوجه قوله: 0 إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)". وقلت: المعنى: إلا تنفروا مع من يستنفركم بقوله: "انفروا في سبيل الله"، لاتضروه شيئاً، والله ناصره، والله على كل شيء قدير، ألا ترون كيف نصره الله تعالى حين لم يكن معه إلا رجل واحد؟ !
قوله: (فيه وجهان)، الانتصاف:"الفرق بين الوجهين عسر، وغايته: أنه في الأول وعده بنصرة مستقبلة أكد الله تحقيقه بوجود نُصرة من قبل، وفي الثاني إخبار باستمرار نصر ماض، والأمر فيهما مُتقارب".
(ثانِيَ اثْنَيْنِ): أحد اثنين، كقوله (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة: 73]، وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، يروى: أنّ جبريل صلوات الله عليه لما أمره بالخروج، قال: من يخرج معي؟ قال أبو بكر"، وانتصابه على الحال: وقرئ "ثاني اثنين"، بالسكون.
و(إِذْ هُما) بدل من (إذ أخرجه)، والغار: ثقب في أعلى "ثور"، وهو جبل في يمني مكة على مسيرة ساعة، مكثا فيه ثلاثًا، (إِذْ يَقُولُ) بدل ثان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: قوله: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) من باب قولك: إن تُكرمني الآن فقد أكرمتك أمس. فقوله: "فسينصره من نصره": إخبار على سبيل التوبيخ، والمقصود أن الله ناصره الآن كما كان ناصره فيما مضى، فهو مستغن عنكم، ولا يضره خذلانكم.
وقوله: "أوجب له النصرة" إخبار بأن الله تعالى حكم بأنه منصور، فالنصرة على الأول واقعة تحقيقاً، وهي أمارة للنصرة المستقبلة، وعلى الثاني: النصرة محتوم عليها مقدرة، وما قدره الله تعالى واجب الوقوع.
قوله: (وانتصابه على الحال): قال الزجاج: "المعنى: فقد نصره الله تعالى أحد اثنين، أي: منفرداً إلا من أبي بكر رضي الله عنه"، وقال أبو البقاء:"فهو حال من الهاء، أي: احد اثنين".
قوله: (وقرئ: "ثاني اثنين" بالسكون)، قيل: هو على حذف الحركة، قال أبو البقاء:"حقها التحريك، وهو من أحسن الضرورة في الشعر، وقال قوم: ليس بضرورة، وذلك أجازوه في القرآن".
قوله: (و (إِذْ هُمَا) بدل من (إِذْ أَخْرَجَهُ): قال أبو البقاء " (إِذْ هُمَا) ظرف لـ (نصُرَهُ)، لأنه بدل من (إذْ) الأولى، ومن قال: العامل في البدل غير العامل في المُبدل
قيل: طلع المشركون فوق الغار، فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله، فقال عليه الصلاة والسلام:"ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، وقيل: لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم أعم أبصارهم"، فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يفطنون، قد أخذ الله بأبصارهم عنه.
وقالوا: من أنكر صحبة أبى بكر رضي الله عنه فقد كفر؛ لإنكاره كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة.
(سَكِينَتَهُ): ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن عندها، وعلم أنهم لا يصلون إليه، و"الجنود" الملائكة يوم بدر والأحزاب وحنين، و (كلمة الذين كفروا): دعوتهم إلى الكفر، (وَكَلِمَةُ اللَّهِ): دعوته إلى الإسلام، وقرئ:"كلمة الله" بالنصب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قدر لها فعلاً آخر، أي: نصره إذ هما: (إِذْ يَقُولُ)[بدل أيضاً]، وقيل:(إِذْ هُمَا) ظرف لـ (ثَانِيَ) ".
قوله: (وقالوا: من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه فقد كفر): عن الترمذي عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه: "أنت صاحبي في الحوض، وصاحبي في الغار".
قوله: (وقرئ: "وكلمة الله" بالنصب": قال القاضي: "قرأها يعقوب، عطفاً على (كَلِمَةَ الَّذِينَ) ".
والرفع أوجه، و (هِيَ) فصل أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلوّ، وأنها المختصة به دون سائر الكلم.
(خِفافاً وَثِقالًا): خفافا في النفور لنشاطكم له، وثقالا عنه لمشقته عليكم، .....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والرفع أوجه): لأنه يدل على الثبوت والدوام، وأن الجعل لم يتطرق على كلمة الله، وأنها في نفسها عالية، وفيه إشارة إلى قدم كلمات الله. قال أبو البقاء:"النصب ضعيف؛ لأن فيه دلالة على أن كلمة الله كانت سُفلى، فصارت عُليا، وليس كذلك، وأن التوكيد بالضمير المرفوع للمنصوب بعيد، إذ القياس يأباها".
قوله: (خفافاً في النفور لنشاطكم)، الراغب: "الخفيف: بإزاء الثقيل، ويُقال ذلك باعتبار
أو خفافا لقلة عيالكم وأذيالكم، وثقالا لكثرتها، أو: خفافا من السلاح وثقالا منه، أو ركبانا ومشاة، أو: شبابا وشيوخا، أو مهازيل وسمانا، أو: صحاحا ومراضا.
وعن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أعلىّ أن أنفر؟ قال: "نعم"، حتى نزل قوله:(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ)[الفتح: 17] وعن ابن عباس: نسخت بقوله: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى)[التوبة: 91]، وعن صفوان بن عمرو: كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو. فقلت: يا عمّ، لقد أعذر الله إليك، فرفع حاجبيه وقال: يا بن أخي، استنفرنا الله خفافا وثقالا، إلا أنه من يحبه الله يبتله. وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو، وقد ذهبت إحدى عينيه، فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفرنا الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع.
(وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المضايفة بالوزن، وقياس أحد الشيئين إلى الآخر، نحو: درهم خفيف ودرهم ثقيل. وباعتبار مضايفة الزمان، نحو: فرس خفيف وفرس ثقيل: إذا عدا أحدهما أكثر في زمان واحد، ويُقال: خفيف؛ فيما يستحليه الناس، وثقيل؛ فيما يستوخمه، فيكون الخفيف مدحاً، والثقيل ذماً، وفي عكسه يُقال: خفيف؛ فيمن فيه طيش، وثقيل؛ فيما فيه وقار".
قوله: (لقد أعذر الله إليك)، النهاية:"أعذر الله إليك: معناه: عذرك الله، وجعلك موضع العُذر، وأسقط عنك الجهاد، ورخص لك في تركه".
قوله: (إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بأحدهما، على حسب الحال): هذا التخيير يعطيه عطف "جاهدوا" على (انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً)، لأنه كالتفسير له.
[(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) 42]
العرض: ما عرض لك من منافع الدنيا، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، أى لو كان ما دعوا إليه غنما قريبا سهل المنال (وَسَفَراً قاصِداً) وسطا مقاربا (الشُّقَّةُ) المسافة الشاطة الشاقة، وقرأ عيسى بن عمر:"بعدت عليهم الشقة"، بكسر العين والشين، ومنه قوله:
يَقُولُونَ: لَا تَبْعُدْ، وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ
…
وَلَا بُعْدَ إلّا مَا تُوَارِى الصَّفَائِحُ
(بِاللَّهِ) متعلق بـ (سيحلفون)، أو هو من جملة كلامهم، .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يقولون: لا تَبعِد) البيت: بعِد وبعُد: لغتان، إلا أن "بعد" - بكسر العين - أخص ببعُد الموت. و"لا تبعُد": يُستعمل في المصائب، وليس فيها طلب ولا سؤال، وإنما هو تنبيه على شدة الحاجة إلى المفقود، وتناهي الجزع على المفجع به، وغلبة التحسر عليه، وقال الآخر:
لا يبعد الله إخواناً لنا ذهبوا
…
أفناهم حدثان الدهر والأبد
قوله: ((بِاللَّهِ) متعلق) إلى آخره: فيه لف ونشر من غير ترتيب، فإن قوله:"أي: سيحلفون؛ يقولون بالله" مبني على الوجه الثاني، وهو أن يكون (بِاللَّهِ) من جملة كلامهم، وقوله:"أو سيحلفون بالله يقولون" على الوجه الأول، وهو أن (بِاللَّهِ) متعلق بـ (وَسَيَحْلِفُونَ).
والقول مراد في الوجهين، أى سيحلفون -يعنى: المتخلفين- عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين؛ يقولون: بالله لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، أو: سيحلفون بالله يقولون: لو استطعنا.
وقوله: (لَخَرَجْنا) سدّ مسدّ جوابي القسم و (لو) جميعا، والإخبار بما سوف يكون بعد القفول؛ من حلفهم واعتذارهم، وقد كان: من جملة المعجزات، ومعنى "الاستطاعة": استطاعة العدّة، أو استطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا.
وقرئ: لو "استطعنا"، بضم الواو؛ تشبيها لها بواو الجمع في قوله (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) (البقرة: 94).
(يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) إما أن يكون بدلا من (سيحلفون)، أو حالا بمعنى: مهلكين، والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، وما يحلفون عليه من التخلف، ويحتمل أن يكون حالا من قوله:(لَخَرَجْنا) أي لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا، وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك الشقة، وجاء به على لفظ الغائب، لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل: سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديدا، يقال: حلف بالله ليفعلنّ ولأفعلنّ، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكاية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (سد مسد جوابي القسم و (لو) جميعاً): نحوه: لئن أكرمتني لأكرمتك.
قوله: (وجاء به على لفظ الغائب، لأنه مخبر عنهم)، يعني:(يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ) حال من ضمير الجماعة في (لَخَرَجْنَا)، وإن اختلفا حكاية وغيبة، لأنه على سبيل الإخبار عنهم، لأنه قال:" (بِاللَّهِ) متعلق بـ (وَسَيَحْلِفُونَ)، أو هو من جملة كلامهم، والقول مراد في الوجهين"، وإذا كان هذا مقولاً لقولهم احتمل الوجهين، فلو حُكي لفظهم لقيل: وإن أهلكنا أنفسنا، ولكن جيء بمعناه، فقيل:(يُهْلِكُونَ)، كما يقال: حلف بالله لأفعلن وليفعلن، فالغيبة في الآية على حكم الإخبار، والتكلم في المثال على حكم الحكاية.
[(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) 43)]
(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) كناية عن الجناية، لأنّ العفو رادف لها، ومعناه: أخطأت وبئس ما فعلت، و (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بيان لما كني عنه بالعفو، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) كناية عن الجناية): وهو كذلك، ونحوه ما يُعزى إلى الشافعي رضي الله عنه في قوله:"أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله": "إن العفو مؤذن بسبق الذنب". لكن قوله: "أخطأت وبئس ما فعلت" خطأ فاحش، وبئس ما فعل، ولا أعلم كيف ذهب إلى هذا القول الشنيع، وإنه العلم في استخراج لطائف المعاني، وذهب عنه أن في أمثال هذه الإشارات- وهي تقديم العفو على الذنب- إشعاراً بتعظيم المخاطب وتوقيره وتوقير حرمتهن قال علي بن الجهم يخاطب المتوكل، وقد أمر بنفيه:
عفا الله عنك ألا حرمة
…
تجود بفضلك أن أبعدا
ألم تر عبداً عدا طوره
…
ومولى عفاه ورُشداً هدى
وعن سفيان بن عيينة: "انظروا إلى هذا اللُّطف، بدأ بالعفو قبل أن يعيره بالذنب"، وأمثال هذا الذنب مما يُتمنى حصوله، ألا ترى على قول بعض الصحابة عند نزول قوله تعالى:(إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا)[آل عمران: 122]: "ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به، وأخبرنا الله بأنه ولينا".
ومعناه: مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك، واعتلوا لك بعللهم، وهلا استأنيت بالإذن، (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ) من صدق في عذره ممن كذب فيه. وقيل: شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه من الأسارى، فعاتبه الله.
[(لا يَسْتَئذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) 44]
(لا يَسْتَاذِنُكَ) ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال السجاوندي: (عَفَا اللَّهُ): تعليم تعظيمه صلوات الله عليه، ولولا تصدير العفو في العتاب لما قام بصولة الخطاب، وربما يستعمل فيما لم يسبق به ذنب، ولا يتصورن كما تقول لمن تعظمه: عفا الله عنك ما صنعت في أمري؟ ورضي الله عنك ما جوابك عن كلامي؟
ومنه ما روى المصنف عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له، حين سُئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجون"، الحديث مذكور في سورة يوسف، وهو لا يشعر إلا بالتعظيم.
قال الإمام: "يحمل قوله: (لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) على ترك الأولى والأكمل، ولا سيما هذه الواقعة من جنس ما يتعلق بالاجتهاد"، وغايته: أنه صلوات الله عليه ما أصاب فيهن فدخل تحت قوله: "من اجتهد وأخط فله أجر".
قوله: (وهلا استأنيت بالإذن)، النهاية:"استأنيت، أي: انتظرت وتربصت. ويقال: آنيت وأنيتُ وتأنيت واستأنيت".
قوله: ((لا يَسْتَاذِنُكَ) ليس من عادة المؤمنين): نفي العادة مستفاد من نفي فعل المستقبل المراد به الاستمرار، على نحو: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم.
وكان الخلص من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أبدا، ولنجاهدنّ أبدا معه بأموالنا وأنفسنا. ومعنى أَنْ (يُجهِدُوا): في أن يجاهدوا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((أَنْ يُجَاهِدُوا): في أن يجاهدوا): قال الزجاج: "موضع (أَن) نصب، المعنى: لا يستأذنك هؤلاء في أن يجاهدوا، فحذف الجار وأوصل"، والمعنى: ليس من شأن المؤمنين أن يستأذنوك في أمر الجهاد، لأن عادتهم أن يكونوا مترصدين مرابطين باذلين أرواحهم في سبيل الله.
روينا عن مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة - أو: فزعاً- طار على متنه، يبتغي القتل أو الموت مظانه". ومثله قول الحماسي:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
…
في النائبات على ما قال برهانا
وعلى هذا معنى قوله: "كراهة أن يجاهدوا": يعني: لا يستأذنوك لأجل كراهة المجاهدة، فإن من يستأذن إنما يستأذن لأنه يكره المجاهدة، فالنفي داخل على الفعل المعلل، ثم أكد الله المعنى بقوله:(إِنَّمَا يَسْتَاذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[التوبة: 45].
أو كراهة أن يجاهدوا، و (َاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب.
[(إِنَّما يَسْتَاذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ) 45 - 48]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال صاحب "الانتصاف": "لا ينبغي لأحد أن يستأذن أخاه في فعل معروف، ولا للمضيف أن يستأذن ضيفه في تقديم الطعام إليه، وذلك أمارة على التكلف، ووصف الله الخليل عليه السلام بقوله: (فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ) [الذاريات: 26]، أي: ذهب خفية، فأتى بعجل سمين من أجود ما عنده، فهذا ما يجب أن يُتأدب به، وأشد من هذا التثاقل عن الخروج بعد الطلب".
قوله: ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) شهادة لهم بالانتقام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب): وأما الشهادة بالانتظام: فمن وضع المظهر موضع المضمر، وإرادة الجنس بالمتقين، فيدخلون فيه دخولاً أولياً.
وأما العدة: فإن مقتضى العلم بعد ذكر أعمال العباد خيراً أو شراً، إما الوعد بالثواب أو الوعيد بالعقاب.
(إِنَّما يَسْتَأئذِنُكَ) يعنى المنافقين، وكانوا تسعة وثلاثين رجلا ي (َتَرَدَّدُونَ) عبارة عن التحير، لأن التردّد ديدن المتحير، كما أنّ الثبات والاستقرار ديدن المستبصر، وقرئ:"عدّه"، بمعنى: عدّته، فعل بـ"العدّة" ما فعل بالعدة من قال:
وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِى وَعَدُوا
من حذف تاء التأنيث، وتعويض المضاف إليه منها، وقرئ:"عدّة"، بكسر العين بغير إضافة، و"عدّه" بإضافة.
فإن قلت: كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت: لما كان قوله (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) معطياً معنى نفى خروجهم واستعدادهم للغزو، قيل:(وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ)، ........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عده، بمعنى: عُدته)، قال ابن جني:"سُمع محمد بن عبد الملك يقرأ بها، وطريقه: أن يُراد: ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته، أي: تأهبوا له، إلا أنه حذف تاء التأنيث، وجعل هاء الضمير كالعوض منها".
قوله: (وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا): أوله:
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا
"الخليط": كالنديم والمنادم، و"الانجراد": المُضي في الأمر.
كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إلىّ زيد، ولكن أساء إلىّ (فَثَبَّطَهُمْ): فكسلهم وخذلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث.
(وَقِيلَ اقْعُدُوا) جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود، وقيل: هو قول الشيطان بالوسوسة، وقيل: هو قولهم لأنفسهم، وقيل: هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود.
فإن قلت: كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو، وهي قبيحة، وتعالى الله عن إلهام القبيح؟ قلت: خروجهم كان مفسدة؛ لقوله: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا)، فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم): جعل فعل العبد أصلاً في الاعتبار، وذلك أن "لكن" تقتضي مغايرة ما قبلها لما بعدها، وفي التنزيل: أحد المتغايرين من جانب العبد، والآخر من جانب الرب، والمصنف اعتبر المتغايرين من جانب العبد.
وأما تقريره على رأينا: لو أراد الله خروجهم لعلهم مريدين للخروج، فيستعدون عدته، ولكن أراد تثبيطهم. وهذا التقدير أولى، لأنه قوله:(وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)، إنما أُردف ليؤكد هذا المعنى، ويُوجب تأويل المستدرك، وإنما أسند عدم إرادة الخروج إليهم، الكراهة إلى الله تعالى، لأن المقام التوبيخي يقتضي النعي عليهم، ونحن إن قلنا بخلق الأفعال فلا نقول بنفي الاستطاعة الكسب، والذي يدل على التوبيخ قوله:(وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)، أي: اقعدوا مع المرضى والزمنى والنساء، وجيء بلفظ ما لم يسم فاعله؛ طرداً لهم وبُعداً عن مظان الزلفى.
فإن قلت: فلم خطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإذن لهم فيما هو مصلحة؟ قلت: لأنّ إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة، ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم، ولا يتجوّز في قبولها، فمن ثم أتاه العتاب، ويجوز أن يكون في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن لهم مع تثبيط الله إياهم مصلحة أخرى، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة، وذلك أنهم إذا ثبطهم الله فلم ينبعثوا، وكان قعودهم بغير إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قامت عليهم الحجة ولم تبق لهم معذرة. ولقد تدارك الله ذلك حيث هتك أستارهم، وكشف أسرارهم، وشهد عليهم بالنفاق، وأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.
فإن قلت: ما معنى قوله (مَعَ الْقاعِدِينَ)؟ قلت: هو ذمّ لهم، وتعجيز، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمني الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخالفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) [التوبة: 87 - 93].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما بيان التمثيل في (وَقِيلَ اقْعُدُوا): فإنه تعالى جعل خلق داعية القعود فيهم بمنزلة الأمر والقول الطالب للفعل، ونحوه قوله تعالى:(فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا)[البقرة: 243]، أي: أماتهم، وقوله:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82]، وهو المراد من قوله:"جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود".
قوله: (فلم خطيء): جاء بالفاء منكراً، أي: إذا جاز إسناد كراهة الخروج إلى الله تعالى، فلم لا يجوز الإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أجاب: أنه صلى الله عليه وسلم ما أذن لهم بالقعود لتلك الحكمة، وهي أن خروجهم كان مفسدة، ولذلك أُنكر عليه، ومن ثم فسر (لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) بقوله:"هلا استأنيت بالإذن حتى يتبين لك من صدق في عُذره ممن كذب فيه".
(إِلَّا خَبالًا) ليس من الاستثناء المنقطع في شيء، كما يقولون، لأن الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيراً إلا خبالا، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعم العام الذي هو "الشيء"، فكان استثناء متصلا، لأنّ الخبال بعض أعمّ العام، كأن قيل: ما زادوكم شيئاً إلا خبالا، والخبال: الفساد والشرّ.
(وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين، يقال: وضع البعير وضعاً: إذا أسرع وأوضعته أنا. والمعنى: ولأوضعوا ركائبهم بينكم، والمراد الإسراع بالنمائم، لأنّ الراكب أسرع من الماشي.
وقرأ ابن الزبير رضي الله عنه: (ولأرقصوا)، من رقصت الناقة رقصاً: إذا أسرعت، وأرقصتها، قال:
وَالرَّاقِصَات إلَى مِنْى فَالغَبْغَبِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولأوضعوا ركائبهم بينكم، والمراد: الإسراع بالنمائم): يعني: أنه من الاستعارة التبعية، شبه سرعة إفسادهم لذات البين بالنمائم بسرعة سير الركائب، ثم استعير لها الإيضاع، وهو للبعير، وأصل الاستعارة: ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم، ثم حذف النمائم، وأقيم المضاف إليه مقامها، ما قال:"ولأوضعوا ركائبهم"، لدلالة سياق الكلام على أن المراد النميمة، ثم حذف الركائب.
قوله: (والراقصات إلى منى فالغبغب): أوله:
يا عام لو قدرت عليك رماحُنا
وقرئ: "ولأوفضوا".
فإن قلت: كيف خطّ في المصحف: "ولا أوضعوا"، بزيادة ألف؟ قلت: كانت الفتحة تكتب ألفاً قبل الخط العربي، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً، وفتحتها ألفاً أخرى، ونحوه:(أو لا أذبحنه)[النمل: 21].
(يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ): يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم، ويفسدوا نياتكم في مغزاكم، (وَفِيكُمْ سَمَّعُونَ لَهُمْ) أي: نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم، أو فيكم قوم يسمعون للمنافقين ويطيعونهم.
(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) أي: العنت ونصب الغوائل والسعي في تشتيت شملك، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"الغبغب": المنحر بمنى، وهو جُبيل.
قوله: (ولأوفضوا): الوفض: العجلة، وأوفض واستوفض: استعجل.
قوله: (كانت الفتحة تكتب ألفاً) إلى آخره: كلام الزجاج.
قوله: (في مغزاكم): أي: مقصدكم، الأساس:"أغزى الأمير الجيش، ومن المجاز: غزوت بقولي كذا، أي: قصدته، وما أغزو إلا السداد فيما أقول".
قوله: (العنت): هو الوقوع في أمر شاق.
قوله: (الغوائل)، النهاية:"الغائلة": صفة لخصلة مهلة"، وجمعها: غوائل.
وتفريق أصحابك عنك، كما فعل عبد الله بن أبىّ يوم أحد حين انصرف بمن معه، وعن ابن جريج: وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة، وهم اثنا عشر رجلا ليفتكوا به.
(مِنْ قَبْلُ) من قبل غزوة تبوك، و (قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ): ودبروا لك الحيل والمكايد، ودوّروا الآراء في إبطال أمرك. وقرئ:"وقلبوا" بالتخفيف، (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ) وهو تأييدك ونصرك، (وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ): وغلب دينه، وعلا شرعه.
[(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) 49].
(ائْذَنْ لِي) في القعود، (وَلا تَفْتِنِّي): ولا توقعني في الفتنة - وهي الإثم-؛ بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. وقيل: ولا تلقني في الهلكة، فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي، وقيل: قال الجدّ بن قيس: قد علمت الأنصار أنى مستهتر بالنساء، فلا تفتني ببنات الأصفر، يعنى نساء الروم، ولكنى أعينك بمال فاتركني، وقرئ:"ولا تفتني"، من أفتنه.
(أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي: إنّ الفتنة هي التي سقطوا فيها، وهي فتنة التخلف، وفي مصحف أبىّ:"سقط"، لأنّ "من" موحد اللفظ مجموع المعنى (لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) يعنى: أنها تحيط بهم يوم القيامة، أو هي محيطة بهم الآن، لأنّ أسباب الإحاطة معهم، فكأنهم في وسطها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (مستهتر بالنساء)، الجوهري:"مستهتر بالشراب، أي: مولع به، ولا يبالي ما قيل فيه".
قوله: (أي: إن الفتنة هي التي سقطوا فيها): التخصيص يفيده معنى تقديم الظرف على عامله، والتحقيق من تصدير الجملة بأداة التنبيه، فنها تدل على تحقق ما بعدها.
[(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) 50].
(إِنْ تُصِبْكَ) في بعض الغزوات (حَسَنَة): ٌ ظفر وغنيمة (تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ): نكبة وشدّة في بعضها، نحو ما جرى في يوم أحد، يفرحوا بحالهم في الانحراف عنك، و (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا) أي: أمرنا الذي نحن متسمون به، من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم، (مِنْ قَبْلُ): من قبل ما وقع، وتولوا عن مقام التحدّث بذلك والاجتماع له، إلى أهاليهم، (وَهُمْ فَرِحُونَ): مسرورون، وقيل: تولوا: أعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) 51].
قرأ ابن مسعود: "قل هل يصيبنا"، وقرأ طلحة:"هل يصيبنا"، بتشديد الياء، ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي: أمرنا الذي نحن متسمون به): يعني: المراد بالأمر: الشأن، أي: شأننا وعادتنا الحزم والتيقظ في الأمور، وقد أخذنا شأننا، نحوه قوله تعالى:(وَخُذُوا حِذْرَكُمْ)[النساء: 102].
قوله: (وقرأ طلحة: "قل هل يصيبنا" بتشديد الياء): قال ابن جني: "ظاهر أمر عين "أصاب يصيب" أنها واو، ولذل قالوا في جمع "مصيبة": "مصاوب" بالواو، وهي القوية الفاشية، فأما "مصائب" - بالهمز- فغلط من العرب، كهمزهم: رثأت زوجي وحلأت السويق.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأنا أرى أن تكون "مصائب" جمع "مُصاب"، لأن الألف - وإن كان بدلاً من العين هنا - تشبه بألف "رسالة"، التي يُقال في تكسيرها:"رسائل"، وذلك أن الألف لا تكون أصلاً في الأسماء المتمكنة، ولا في الأفعال، وإنما تكون زائدة أو بدلاً، وليست كذلك الواو والياء، لأنهما قد تكونان أصلين في القبيلين جميعاً، كما قد تكونان بدلين وزائدتين، فألف "مصاب" و"مصابة" أشبه بالزائدة من ياء "مصيبة" وواو "مصوبة"، فافهم ذلك، فإن أحداً لم يذكره.
وبعدُ، فقد مر بنا تركيب (ص ي ب) في هذا المعنى، فإنهم قالوا: أصاب السهم الهدف يصيبه، كباعه يبيعه، ومنه قول الكميت:
أسهمي الصائبات والصيب
ومن هذا الأصل قراءة طلحة: "يصيبنا" بالياء؛ "يُفعلنا" منه، فـ"يصيب" على هذا كـ "يسير" و"يبيع".
وقد يجوز أيضاً أن يكون "يصيبنا" من لفظ (ص وب)، إلا أنه بناه على: فيعل يُفيعل، وأصله: يصوبنا، فاجتمعت الواو والياء، وسُبقت الياء بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت، فصارت: يصيبنا".
ووجهه أن يكون "يفيعل" لا: "يفعل" لأنه من بنات الواو، كقولهم: الصواب، وصاب السهم يصوب، ومصاوب؛ في جمع "مصيبة"، فحق "يفعل" منه "يصوّب"، ألا ترى إلى قولهم: صوّب رأيه؟ إلا أن يكون من لغة من يقول: صاب السهم يصيب، ومن قوله:
أسهمي الصائبات والصيب
واللام في قوله: (إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا) مفيدة معنى الاختصاص، كأنه قيل: لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله به، بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة، ألا ترى إلى قوله:(هُوَ مَوْلانا) أي: الذي يتولانا ونتولاه، (ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم) [محمد: 11] (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ): وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله، فليفعلوا ما هو حقهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والوجه أن "فَعَلَ" في الكلام أكثر من "فيعل"، والمصنف اختار الأول.
قوله: (ألا ترى إلى قوله: (هُوَ مَوْلانَا)؟ ): يعني: (هُوَ مَوْلانَا) يبين أن معنى اللام في (كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) الاختصاص، وتخصيص قولنا:(لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) بالنصرة والشهادة دون الخذلان والشقاوة الأبدية، كما هو مصير حالكم؛ لأنا مؤمنون وأن (اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) [محمد: 11].
قوله: (وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله سبحانه وتعالى: يعني: قدم صلة (فَلْيَتَوَكَّلْ) عليه ليُفيد التخصيص، ووضع المؤمنين على إرادة الجنس موضع ضمير المتكلم؛ ليؤذن بأن شأن المؤمن اختصاص التوكل بالله، وجيء بالفاء الجزائية ليشعر بالترتب، أي: إذا كان لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله تعالى به من النصرة أو الشهادة، وأنه يتولى أمرنا، فلنفعل ما هو حقنا من اختصاصه بالتوكل، وإليه الإشارة بقوله:"فليفعلوا ما هو حقهم"، كأنه قوبل قول المنافقين:(قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا)، "أي: أخذنا أمرنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم" بهذه الفاصلة، والمعنى: دأب المؤمنين أن لا يتوكلوا على حزمهم وتيقظ أنفسهم كما هو دأب المنافقين ذلك، بل أن يتوكلوا على الله وحده، ويفوضوا أمورهم إليه.
[(قلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) 52]
(إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ): إلا إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسني العواقب، وهما النصرة والشهادة، (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) إحدى السوأتين من العواقب، إمّا (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) وهو قارعة من السماء، كما نزلت على عاد وثمود، (أَوْ) بعذاب (بِأَيْدِينا) وهو القتل على الكفر، (فَتَرَبَّصُوا) بنا ما ذكرنا من عواقبنا، (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) ما هو عاقبتكم، فلا بدّ أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه.
[(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) 53]
(أَنْفِقُوا) يعنى: في سبيل الله ووجوه البر، (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) نصب على الحال، أي: طائعين أو مكرهين، فإن قلت: كيف أمرهم بالإنفاق، ثم قال:(لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)؟ قلت: هو أمر في معنى الخبر، كقوله (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم: 75] ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إحدى السوأتين): قيل: القياس: السوأيين، فإن السوأى نقيض الحسنى، فالمناسب في مقابلة الحسنيين: هو السوأيين، نحو: حبليين، في تثنية: حبلى.
قوله: (ما ذكرنا من عواقبنا): أي: النصرة والشهادة، و"ما هو عاقبتكم"، أي: القارعة أو القتل.
قوله: (وهو أمر في معنى الخبر) كأنه قيل: "لن يُتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً"، ففعل بالأمر ما فعل بالاستهام في قوله:(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)[البقرة: 6]، أي مستو عليهم إنذارك أو عدم إنذارك.
قوله: ((فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً)[مريم: 75]: قال: "أي: مد له الرحمن مداً وأمهله،
ونحوه قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ)[التوبة: 80]، وقوله الشاعر:
أسِيئِى بِنَا أوْ أحْسِنِى لَا مَلُومَةً
أي: لن يغفر الله لهم، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت.
فإن قلت: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: إذا دلّ الكلام عليه، كما جاز عكسه في قولك: رحم الله زيداً وغفر له. فإن قلت: لم فعل ذلك؟ قلت: لنكتة فيه، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على لفظ الأمر؛ إيذاناً بوجوب ذلك، وأنه مفعول لا محالة".
قوله: (أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة): تمامه:
لدينا ولا مقلية إن تقلت
تقل: أي: تُبغض. قال الزجاج: "معنى الآية معنى الشرط والجزاء، أي: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين لن يتقبل منكم، ومعنى البيت: أنه أعلمها أنها إن أساءت أو إن أحسنت فهو على عهدها".
وهي أنّ كثيرا كأنه يقول لعزة: امتحنى لطف محلك عندي وقوّة محبتي لك، وعاملينى بالإساءة والإحسان، وانظري: هل تتفاوت حالي معك، مسيئة كنت أو محسنة؟ وفي معناه قول القائل:
أخُوكَ الَّذِي إنْ قُمْتَ بِالسَّيْفِ عَامِدا
…
لِتَضْرِبَهُ لَمْ يَسْتَفِثَّكَ فِي الْوَدِّ
وكذلك المعنى: أنفقوا وانظروا: هل يتقبل منكم؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم وانظر: هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه؟
فإن قلت: ما الغرض في نفى التقبل؟ أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم، وردّه عليهم ما يبذلون منه؟ أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ذاهباً هباء لا ثواب له؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعاً.
وقوله: (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً): معناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله، أو ملزمين، وسمى الإلزام إكراها، لأنهم منافقون، فكان إلزامهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه، أو: طائعين من غير إكراه من رؤسائكم، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهي أن كثيراً كأنه يقول): وخلاصته: أن النكتة هي توخي إظهار نفي أن تتفاوت الحال في أمر ثابت يزاول المخاطب خلافه.
قوله: (أخوك الذي) البيت: يقول: أخوك هو الذي إن أسأت إليه أحسن إليك، حتى لو قمت تضربه بالسيف لا يغشك في المودة.
قوله: (يحتمل الأمرين جميعاً): قال القاضي: "نفيُ التقبل يحتمل أمرين: أن لا يؤخذ منهم، وأن لا يثابوا عليه"، يعني: يؤخذ منهم ولكن يصير هباء منثوراً.
قوله: (معناه: طائعين من غير إلزام): يريد أن قوله: (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) يحتمل أن يكونا من جهة الله أو من جهة الرؤساء؛ فعلى الأول: معنى (طَوْعاً) طائعين من غير إلزام
لأنّ رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق؛ لما يرون من المصلحة فيه، أو مكرهين من جهتهم. وروى: أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مالي أعينك به فاتركني.
(إِنَّكُمْ) تعليل لردّ إنفاقهم، والمراد "بالفسق": التمرّد والعتو.
[(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَاتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ) 54].
(أَنَّهُمْ) فاعل "منع"، وهم، و (أن تقبل): مفعولاه. وقرئ: (أن تقبل) ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الله، ومعنى (كَرْهاً) مُلزمين، وإنما سُمي الإلزام كُرهاً لأنهم ليسوا كالمؤمنين في أن ينفقوا عن طوع ورغبة ونشاط قلب، بل هم كالمكرهين فيه. وعلى الثاني: معنى (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) على حقيقتهما، ولهذا قال:"أو طائعين من غير إكراه"، وقال:"أو مُكرهين من جهتهم".
قوله: ((أنَّهُمْ) فاعل "منع"، و"هم" و (أَنْ تُقْبَلَ): مفعولاه)، الأساس:"منعه الشيء ومنعه [منه] وعنه"، والزجاج أخذ بالثاني حيث قال:"موضع (أن) الأولى نصب، والثانية رفع، أي: ما منعهم من قبول نفقاتهم إلا كفرهم، والنفقات في معنى الإنفاق".
وقال أبو البقاء: " (أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ) في موضع نصب بدلاً من المفعول في (مَنَعَهُمْ)، ويجوز أن يكون فاعل "منع": الله، و (أَنَّهُمْ كَفَرُوا) مفعول له"، وفيه بحث.
ومعنى قول الزجاج والمصنف واحد، وهو أنهم قصدوا في الإنفاق أن يكون مقبولاً، وما منعهم شيء من الأشياء عما قصدوه إلا الكفر.
قوله: (قرئ: (أَنْ تُقْبَلَ): بالياء: حمزة والكسائي، والباقون: بالتاء الفوقانية.
بالتاء والياء على البناء للمفعول، و (نفقاتهم)، و"نفقتهم"، على الجمع والتوحيد، وقرأ السلمي:"أن يقبل منهم نفقاتهم"، على أن الفعل لله عز وجل (كُسالى) بالضم والفتح، جمع كسلان، نحو: سكارى وغيارى، في جمع سكران وغيران، وكسلهم لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثوابا، ولا يخشون بتركها عقابا فهي ثقيلة عليهم كقوله تعالى (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة: 45].
وقرأت في بعض الأخبار: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول: كسلت"، كأنه ذهب إلى هذه الآية، فإنّ الكسل من صفات المنافقين، فما ينبغي أن يسنده المؤمن إلى نفسه.
فإن قلت: الكراهية خلاف الطواعية، وقد جعلهم الله تعالى طائعين في قوله:(طَوْعاً)، ثم وصفهم بأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون! قلت: المراد بطوعهم: أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رؤسائهم، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار، لا عن رغبة واختيار.
[(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) 55].
الإعجاب بالشيء: أن يسرّ به سرور راض به متعجب من حسنه، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقد جعلهم الله طائعين في قوله: (طَوْعاً)): وجه السؤال: أنه تعالى أثبت لهم طوعاً، ثم نفاه عنهم على سبيل المبالغة في قوله:(وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ)، والجواب: أن المراد بالطوع البذل من غير إلزام، كأنه قيل: أنفقوا غير ملزمين أو مُلزمين.
قوله: (الإعجاب بالشيء أن يُسر به سرور راضٍ به)، الراغب: "التعجب: حالة تعرض
والمعنى: فلا تستحسن ولا تفتنن بما أوتوا من زينة الدنيا، كقوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الي ما متعنا به) [طه: 131]، فإن الله إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب، بأن عرّضه للتغنم والسبي، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير، وهم كارهون له على رغم أنوفهم، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للإنسان عند الجهل بسبب الشيء، ولهذا قالوا: العجب: ما لا يُعرف سببه، ومن ثم لا يصح على الله التعجب؛ إذ هو علام الغيوب، ويقال للشيء الذي يتعجب منه: عجب، ويقال لما لم يعهد مثله: عجب، قال تعالى:(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا)[يونس: 2]، ويُستعار تارة للمونق، فيقال: أعجبني كذا، أي: راقني، قال تعالى:(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ)[التوبة: 85]، ويقال لمن تروقه نفسه: فلانٌ معجب بنفسه".
قوله: (عرضه للتغنم والسبي): أي: جعل أموالهم عرضة لغنيمتكم، وأولادهم عرضة لسبيكم.
قوله: (والمجاشم)، الأساس: "جشمت الأمر وتجشمته: تكلفته على مشقة. وألقى عليه جشمه، أي: كلفته وثقله، ويرى بضم الجيم
…
قال المرقش:
الم تر أن المرء يجذم كفه
…
ويجشم من أجل الصديق المجاشما"
فإن قلت: إن صح تعليق التعذيب بإرادة الله تعالى، فما بال زهوق أنفسهم و (َهُمْ كافرون)؟ قلت: المراد الاستدراج بالنعم، كقوله تعالى:(إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً)[آل عمران: 178]، كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون، ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة.
[(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) 56 - 57].
(لَمِنْكُمْ): لمن جملة المسلمين، (يَفْرَقُونَ): يخافون القتل وما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإسلام تقية.
(مَلْجَأً): مكاناً يلتجئون إليه متحصنين به من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة، (أَوْ مَغاراتٍ): أو غيرانا، وقرئ بضم الميم، من أغار الرجل وغار إذا دخل الغور. وقيل: هو تعدية: غار الشيء وأغرته أنا، يعنى: أمكنة يغيرون فيها أنفسهم. ويجوز أن يكون من: أغار الثعلب: إذا أسرع، بمعنى مهارب ومفارّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إن صح): أي: إن صح تعليق التعذيب بإرادة الله، فكيف يصح إرادة موتهم على الكفر؟ السؤال مبني على مذهبه أن كفر الكافر لا يجوز أن يكون مسبباً عن إرادة الله. وحاصل الجواب: أن المراد بتعليق الكفر بإرادة الله: إبلاء الله إياهم ما به يشتغلون عن النظر في العاقبة استدراجاً، فيؤديهم ذلك إلى الكفر. وهذا لا يُجديه شيئاً؛ لأن سبب السبب سبب في الحقيقة.
قوله: (أو قلعة): سُميت الحصون بالقلعة - وهي السحابة العظيمة - لارتفاعها وانقطاعها عن الجبال: نحوه في "الأساس".
(أَوْ مُدَّخَلًا): أو نفقا يندسون فيه وينحجرون، وهو "مفتعل" من الدخول، وقرئ:"مدخلا"؛ من: دخل، و"مدخلا" من أدخل: مكانا يدخلون فيه أنفسهم، وقرأ أبى بن كعب:"متدخلا" وقرئ: "لو ألوا إليه": لالتجوؤا إليه، (يَجْمَحُونَ): يسرعون إسراعا لا يردّهم شيء، من الفرس الجموح، وهو الذي إذا حمل لم يردّه اللجام، وقرأ أنس:"يجمزون"، فسئل فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدّون: واحد".
[(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) 58]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يندسون)، الأساس:"كل شيء أخفيته تحت شيء، فقد دسسته".
قوله: (لو ألوا إليه: لالتجؤوا): الموئل: الملجأ، وقد وأل إليه يئل.
قوله: (وقرأ أنس: يجمزون): قال ابن جني: "قال الأعمش: سمعت أنساً يقرأ: (لولوا إليه وهم يجمزون)، قيل: إنما هي (يَجْمَحُونَ)، فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد.
ظاهر هذا أن السلف كانوا يقرؤون الحرف مكان نظيره، من غير أن تتقدم القراءة بذلك، وهو موضع يجد الطاعن به مجالاً، ويقول: ليست هذه الحروف كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم،
(يَلْمِزُكَ): يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك، قيل: هم المؤلفة قلوبهم، وقيل: هو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذ لو كانت عنه صلى الله عليه وسلم لما ساغ إبدال لفظ، إذ لم يثبت التخيير عنه في ذلك، ولما أنكر عليه أيضاً "يجمزون"، إلا أن حُسن الظن بأنس يدعو إلى اعتقاد تقدم القراءة بهذه الأحرف الثلاثة، أي: يجمحون ويجمزون ويشتدون، وقال صلى الله عليه وسلم:"أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف". فعلى هذا: معنى قول أنس: أنها كلها مروية.
قوله: (هو ذو الخويصرة)، وفي نسخة:"هو ابن ذي الخويصرة": اسمه حرقوص.
روينا عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو يقسم قسماً، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويلك! من يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أعدل"، فقال عمر رضي الله عنه: ائذن لي فيه أضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال صلوات الله عليه وسلامه "ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ "، وقيل: هو أبو الجواظ، من المنافقين، قال: ألا ترون إلى صاحبكم، إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم، وهو يزعم أنه يعدل! ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا أبالك، أما كان موسى راعياً؟ أما كان داود راعياً؟ ! "، فلما ذهب قال عليه الصلاة والسلام "احذروا هذا وأصحابه، فإنهم منافقون".
وقرئ: "يلمزك" بالضم، و"يلمزك"، و"يلامزك"؛ التثقيل والبناء على "المفاعلة" مبالغة في اللمز.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يُوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه فلا يُوجد فيه شيء، وهو القدح، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة"- وفي رواية:"إحدى يديه مثل البضعة تدردر"- "يخرجون على حين فرقة من الناس".
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علياً رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل، فالتمس فوجد، فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعت، فنزلت فيهم:(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ).
قوله: (هو أبو الجواظ)، النهاية:"الجواظ: الجموع المنوع، وقيل: كثير اللحم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين".
ثم وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم، لا للدين وما فيه صلاح أهله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم، فضج المنافقون منه، (وإذا) للمفاجأة، أي: وإن لم يعطوا منها فاجؤوا السخط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثم وصفهم بأن رضاهم): يريد أنه تعالى لما ذكر أن بعضاً من المنافقين عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات، بين بعد ذلك بقوله:(فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ): أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسمها للدين وصلاح أهله، لا للأغراض النفسانية، وهؤلاء لما كانت أغراضهم نفسانية، ورضاهم وسخطهم لمجرد الإعطاء والمنع، منعهم إياها، فطعنوا فيه وعابوه.
وينطبق على هذا قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) الآية [التوبة: 60]، فإنه تعالى صدر الجملة بأداة الحصر المستدعية لإثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، يعني: أن الذي ينبغي أن تُقسم الصدقات عليه هو الموصوف بإحدى الصفات المذكورة دون غيره، لأن سبب الاستحقاق صلاح الدين وصلاح أهله، لا الفساد، وأن المنافقين لا يستحقونها، لأنه ليس منهم سوى الفساد، ويؤيد هذا الترتيب قول المصنف:"دل بكون هذه الأوصاف مصارف الصدقات، على أنهم ليسوا منهم، حسماً لأطماعهم في جواب قوله: "كيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين".
قوله: (و (إذَا) للمفاجأة): قال أبو البقاء: " (إذَا) هاهنا ظرف مكان، وجُعلت في جواب الشرط كالفاء، لما فيها من المفاجأة، ما بعدها ابتداء وخبر، والعامل فيها (يَسْخَطُونَ) ".
[(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ) 59].
جواب "لو" محذوف، تقديره: لو أنهم رضوا لكان خيراً لهم، والمعنى: ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة، وطابت به نفوسهم وإن قلّ نصيبهم وقالوا: كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا الله غنيمة أخرى، فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما آتانا اليوم، (إِنَّا إِلَى اللَّهِ) في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون.
[(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 60].
(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة، وأنها مختصة بها، لا تتجاوزها إلى غيرها، كأنه قيل: إنما هي لهم لا لغيرهم. ونحوه قولك: إنما الخلافة لقريش، تريد: لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم، فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها، وأن تصرف إلى بعضها، وعليه مذهب أبى حنيفة رحمه الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فيحتمل أن تُصرف إلى الأصناف - ويُروى: إلى الأوصاف- كلها، وأن تُصرف إلى بعضها): الفاء سببية، أي: يلزم من معنى التركيب هذان الاحتمالان، وذلك أن (إِنَّمَا) وُضعت لقصر ما يليها في الجزء الأخير من الكلام، وهاهنا المذكور أولاً جنس الصدقات، لأن الجمع المحلى يفيد العموم، وأجزاء الأصناف الثمانية تدل على أن جميع الصدقات لا تتجاوز المذكورين إلى غيرهم البتة.
وأما وجوب صرف بعضها إلى الأصناف كلها فليس فيها ذلك، ولذلك احتمل الأمرين، وينصره ما قال الإمام: "الآية لا دلالة فيها على قول الشافعي رضي الله عنه في أنه لابد من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صرفها إلى الأصناف، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الوصاف، فأما أن صدقة زيد بعينها يوجب توزيعها على الأصناف كلها فلا؛ كما أن قوله تعالى:(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) الآية [الأنفال: 41]، توجب تقسيم الخمس على الطوائف من غير توزيع بالاتفاق، يعني: لم يقل أحد أن كل شيء يغنم بعينه يجب تفريق ذلك الشيء على الطوائف كلها، وأيضاً أن الحكم الثابت في مجموع لا يوجب ثبوته في كل جزء من أجزاء".
وقال صاحب "الانتصاف": "القول بوجوب صرفها إلى جميعهم أخذاً من لام التمليك وواو التشريك لا تساعد عليه الآية، لأنها مصدرة بـ (إنَّمَا) الدالة على أن غيرهم لايستحق فيها نصيباً".
وقال صاحب "الإنصاف": الآية إن لم تدل من جهة (إنَّمَا)، فقد دلت من جهة اللام والواو، وإنما تفيد حصر الأول في الثاني، ولا تمنع من حصر الثاني في الأول لدليل خارج. قال محيي السنة في "معالم التنزيل": "واختلف الفقهاء في كيفية قسم الصدقات:
فذهب جماعة إلى أنه لا يجوز صرف كلها إلى بعضهم مع وجود سائر الأصناف، وهو قول عكرمة، وبه قال الشافعي رضي الله عنهما، وقال: يجب أن تُقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الأصناف قسمة على السواء، ثم حصة كل صنف لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وُجد.
وذهب جماعة إلى أنه لو صُرف الكل إلى صنفٍ واحدٍ من هذه الأصناف، أو إلى شخص
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واحد منهم جاز، وإنما سمي الله تعالى هذه الأصناف الثمانية إعلاماً منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف، لا إيجاباً لقسمتها بينهم جميعاً، وهو قول عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي.
وقال أحمد: يجوز أن يضعها في صنف واحد، وتفريقها أولى.
وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم، ويُقدم الأولى فالأولى، فإن رأى الحاجة في الفقراء في عام أكثر قدمهم، وإن رآه في عام في صنف آخر حولها إليهم. وكل من دفع إليه صدقته لا يزيد على قدر الاستحقاق".
وقال القاضي: "قول الأئمة الثلاثة جواز الصرف إلى صنف واحد، واختاره بعض أصحابنا، وبه كان يفتي شيخي ووالدي، على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم، لا إيجاب قسمتها عليهم".
وقلت: ويمكن أن يُقال: إن قول مالك أوفق لتأليف النظم، على ما سبق أن الصرف معلل بمصالح الدين وإصلاح أهله، وأن البعض أولى من البعض، ولإفادة التغيير في عبارة الآية أيضاً، كما أشار إليه المصنف بقوله:"إنما عدل عن اللام إلى "في" في الأربعة الأخيرة؛ ليؤذن بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره"، وذلك لمكان الكناية.
ويُعلم من أقوال الأئمة على ظاهر الآية: أن القاسم إذا كان الإمام يجب الصرف إلى الكل، وإذا كان المالك فلا، وأن الصرف إلى الأصناف والتسوية في القسم وعدمها منوطة بالمصالح.
وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين أنهم قالوا: في أي صنف منها وضعتها أجزأك، وعن سعيد بن جبير: لو نظرت إلي أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين، فجبرتهم بها كان أحب إلى.
وعند الشافعي رحمه الله: لا بد من صرفها إلي الأصناف، وعن عكرمة: أنها تفرّق في الأصناف الثمانية، وعن الزهري: أنه كتب لعمر ابن عبد العزيز تفريق الصدقات على الأصناف الثمانية.
(وَالْعامِلِينَ عَلَيْها): السعاة الذين يقبضونها، (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ): أشراف من العرب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم على أن يسلموا، فيرضخ لهم شيئاً منها، حين كان في المسلمين قلة، و (الرقاب): المكاتبون، يعانون منها، وقيل: الأسارى، وقيل: تبتاع الرقاب فتعتق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما استدلال الإمام بقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ)[الأنفال: 41]: فمؤيد بما رويناه في "صحيح البخاري" عن أنس: "لما كان يوم هوازن" فانهزم المشركون، فأصاب يومئذ غنائم كثيرة، فقسم في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار شيئاً"، الحديث. والله أعلم.
قوله: (فيرضخ لهم): الرضخ: العطاء القليل.
قوله: (و (الرِّقَابِ): المكاتبون): قال محيي السنة: "هذا قول أكثر الفقهاء، وبه قال سعيد بن جبير والنخعي والزهري والليث بن سعد والشافعي رضي الله عنهم. وقال جماعة: تُشترى بسهم الرقاب عبيد فيعتقون، وهو قول الحسن، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق".
(وَالْغارِمِينَ): الذين ركبتهم الديون، ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب، وقيل: الذين تحملوا الحمالات، فتداينوا فيها، وغرموا، (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ): فقراء الغزاة والحجيج المنقطع بهم، (وَابْنِ السَّبِيلِ): المسافر المنقطع عن ماله، فهو فقير حيث هو، غنىّ حيث ماله.
(فَرِيضَةً) في معنى المصدر المؤكد، لأنّ قوله:(إنما الصدقات للفقراء): معناه: فرض الله الصدقات لهم، وقرئ:"فريضة" بالرفع؛ على: تلك فريضة.
فإن قلت: لم عدل عن اللام إلى "في" في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأنّ "في" للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات، ويجعلوا مظنة لها ومصباً، ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الحمالات)، النهاية:"الحمالة- بالفتح-: ما يتحمله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة، مثل أن تقع حرب بين فريقين تسفك فيه الدماء، يدخل بينهم رجل يتحمل ديات القتلى ليصلح ذات البين، والتحمل أن يتحملها عنهم على نفسه".
قوله: (المنقطع بهم): أي: عطبت دابته أو نفد زاده، فانقطع به السفر دون وطنه، فهو منقطع به، ويُقال: حاج بمنقطع - بالكسر-، والباء للتعدية؛ لأن الانقطاع لازم، فإذا حذف الجار قيل: المنقطع، كما قال بعيد هذا:"الفقير أو المنقطع".
قوله: (فهو فقير): مبتدأ وخبر، و"حيثُ" ظرف الفقير مضاف إلى ما بعده، أي: حيث هو حاصل فيه، وكذلك قوله:"هو غني حيث ماله"، أي: حيث ماله حاصل فيه.
وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، وفي فك الغارمين من الغرم؛ من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال.
وتكرير (في) في قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فيه فضل ترجيح لهذين على (الرقاب والغارمين).
فإن قلت: فكيف وقعت هذه الآية في تضاعف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ قلت: دل بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم، على أنهم ليسوا منهم، حسما لأطماعهم، وإشعاراً باستيجابهم الحرمان، .........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (لما في فك الرقاب من الكتابة) إلى آخره: "مِن": في قوله: "من الكتابة": صلة "فك"، وفي "مِنَ التخليص": بيان "ما" في "لِمَا" و"في فك الغارمين" عطف على "في فك الرقاب". المعنى: ذلا لرسوخ في الاستحقاق مستقر لجل ما في فك الرقاب والغارمين من الإنقاذ والتخليص. و"لجمع الغازي" عطف على "لما في فك الرقاب".
قال صاحب "الانتصاف": "إنما عدل من اللام إلى "في" في الأربعة الأخيرة؛ لأن الأربعة الأول ملاك لما عسى أن يُدفع إليهم، والأربعة الأخيرة لا يملكون ما يُدفع إليهم، إنما يُصرف إليهم في مصالح تتعلق بهم، لأن التعدية بـ "في" مقدرة بالصرف، فمال الرقاب يملكه السادة، والمكاتبون لا يحصل في أيديهم شيء، والغارمون يُصرف نصيبهم لأرباب الديون، وكذلك في سبيل الله، وابن السبيل مُندرج في سبيل الله، وأفرد بالذكر تنبيهاً على خصوصيته، وهو مرد عن الحرفين جميعاً، أي: اللام و"في"، وعطفه على اللام ممكن، و"في" أقرب".
وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها، ولمز قاسمها، صلوات الله عليه وسلامه!
[(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) 61]
الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، سمى بالجارحة التي هي آلة السماع، كأنّ جملته أذنٌ سامعة، ونظيره قولهم للربيئة: عين، وإيذاؤهم له: هو قولهم فيه (هُوَ أُذُنٌ).
(وأذن خير): كقولك: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح. كأنه قيل: نعم، هو أذن سامعة، ولكن نعم الأذن. ويجوز أن يريد: هو أذن في الخير والحق .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فما لهم وما لها! ): قيل: هما جملتان، أي: فما لهم ولها، وما لها ولهم؟ .
قوله: (وما سلطهم على التكلم فيها): أي: أي شيء جسرهم على أن يتكلموا فيها؟
قوله: (و (أُذُنُ خَيْرٍ): قولك: رجل صدق): أي: أنه من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة، فهو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أذُن، والجملة جواب عن قولهم:(هُوَ أُذُنٌ)، وقوله:(يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) تفسير وبيان لقوله: (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ).
قوله: (ويجوز أن يُريد: هو أذن في الخير) عطف على قوله: "كقول: رجل صدق"، قال القاضي:"قوله: (هُوَ أُذُنٌ): أي: يسمع كل ما يُقال له، سُمي بالجارحة للمبالغة، كأنه من فرط استماعه صار أذنا"، أو اشتق له فعل من: أذن أذناً: إذا استمع، كأنف، وأنشد الجوهري لقعنب:
صُم إذا سمعوا خيراً ذُكرت به
…
وإن ذُكرت بشر عندهم أذنوا
وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك، ودلّ عليه قراءة حمزة:(وَرَحْمَةٌ) بالجرّ عطفاً عليه، أي: هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله.
ثم فسر كونه أذن خير؛ بأنه يصدق بالله، لما قام عنده من الأدلة ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، وهو رحمة لمن آمن منكم - أي: أظهر الإيمان - أيها المنافقون؛ حيث يسمع منكم، ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يكشف أسراركم، ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: "الأذن: الجارحة، ويُستعار لمن كثر استماعه وقبوله ما يسمع، قال الله تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ)، أي: استماعه لما يعود بخيركم. وأذن: استمع، نحو قوله: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق: 2]، ويُستعمل ذلك في العلم المتوصل إليه بالسماع، نحو قوله: (فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة: 279]، والإذن والأذان لما يُسمع، ويعبر بذلك عن العلم، إذ هو مبدأ كثير من العلم، والإذن في الشيء: إعلام بإجازته والرخصة فيه".
قوله: (ودل عليه قراءة حمزة: "ورحمة" بالجر): لأنه حينئذ معطوف على (خَيْرٍ)، ولا يحسن أن تكون (رحمة) صفة (أُذُنٌ) على نحو: رجل صدق وحاتم الجود، حُسنه إذا قيل: أذن في الخير وأذن في الرحمة، لا يسمع غيرهما ولا يقبله.
مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم، فهو أذن كما قلتم، إلا أنه أذن خير لكم، لا أذن سوء، فسلم لهم قولهم فيه، لا أنه فسر بما هو مدح له وثناء عليه، وإن كانوا قصدوا به المذمّة والتقصير بفطنته وشهامته، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرّة. وقيل: إنّ جماعة منهم ذمّوه صلوات الله عليه وسلامه وبلغه ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في الإبقاء عليكم)، الجوهري:"أبقيت على فُلان: إذا أرعيت عليه ورحمته".
قوله: (فسلم لهم قولهم فيه، إلا أنه فُسر بما هو مدح له وثناء عليه): يعني أنه من باب القول بالموجب، قال صاحب "الانتصاف":"ولا شيء أبلغ في الرد من هذا الأسلوب، لأن فيه إطماعاً في الموافقة، وكذا على إجابتهم بالإبطال، هو كالقول بالموجب في استعمال الفقهاء". وقلت: مثاله قولهم: الخيل يسابق عليها، فتجب الزكاة فيها كالإبل، فيُقال: مسلم في زكاة التجارة، أي: نحن نقول بموجبه في مال التجارة، والخلاف في زكاة العين.
قوله: (بفطنته): صلة "التقصير"، وقوله:"وأنه من أهل سلامة القلوب": عطف على "المذمة"، المعنى: أنهم قصدوا بقولهم: (هُوَ أُذُنٌ) قلة فطنته وشهامته، وقصدوا به أنه صلى الله عليه وسلم سليم القلب غر غير مُجرب الأمور.
قوله: (وشهامته): شهم الرجل - بالضم- شهامة فهو شهم، النهاية:"كان شهماً، أي: نافذاً في الأمور ماضياً، والشهم: الذكي الفؤاد".
قوله: (وقيل: إن جماعة منهم ذموه) عطف على قوله: "الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما سمع ويقبل"، والفرق: أن على الأول المقول المتأذي منه لفظ (هُوَ أُذُنٌ)، لقوله:"وإيذاؤهم له هو قولهم فيه: هُوَ أُذُنٌ"، (وَيَقُولُونَ) في التنزيل عطف تفسير لقوله:(يُؤْذُونَ النَّبِيَّ).
فاشتغلت قلوبهم فقال بعضهم: لا عليكم، فإنما هو أذن سامعة قد سمع كلام المبلغ فأذن، ونحن نأتيه فنعتذر إليه، فيسمع عذرنا أيضاً، فيرضى، فقيل: هو أذن خير لكم.
وقرئ: "أذن خير لكم"؛ على أن "أذن" خبر مبتدأ محذوف، و"خير" كذلك، أي: هو أذن هو خير لكم، يعنى: إن كان كما تقولون فهو خير لكم، لأنه يقبل معاذيركم، ولا يكافئكم على سوء دخلتكم. وقرأ نافع بتخفيف الذال.
فإن قلت: لم عدّى فعل الإيمان بالباء إلى الله، وإلى المؤمنين باللام؟ قلت: لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به، فعدّي بالباء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى الثاني: المقول المتأذي منه غير مذكور، و (يُؤْذُونَ) معبر عنه، (وَيَقُولُونَ) عطف عليه، لقوله:"ذموه وبلغة ذلك" إلى قوله: "لا عليكم، فإنما هو أذن سامعة".
قال الزجاج: "من المنافقين من كان يعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: إن بلغه عني حلفت له وقبل مني، لأنه أذن يسمع العذر، فأعلم الله تعالى أنه أذن خير، أي: مستمع خير لكم، ثم بين ممن يقبل، فقال: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، أي: هو أذن خير لكم، لا أذن شر؛ يسمع ما أنزله الله عليه، فيصدق به، ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه به، ورحمة للمؤمنين منكم"، ويعلم منه: أنه لا يقبل منهم، ولا يسمع عذرهم ولا يرحمهم، لأنهم ليسوا بمؤمنين.
قوله: (وقرئ: "أذن خير لمك"): قال أبو البقاء: " (خيرٌ) على هذا صفة "أذن"، أي: أذن ذو خير، ويجوز أن يكون "خير" بمعنى "أفعل"، أي: أذن أكثر خيراً لكم".
قوله: (سوء دخلتكم)، الأساس:"إنه لخبيث الدخلة وعفيف الدخلة، وهو باطن أمره، وأنا عالم بدخلة أمرك". الجوهري: "داخلة الرجل: باطن أمره، وكذلك الدخلة بالضم".
وقصد السماع من المؤمنين، وأن يسلم لهم ما يقولونه، ويصدّقه، لكونهم صادقين عنده، فعدّى باللام، ألا ترى إلى قوله:(وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ)[يوسف: 17] ما أنبأه عن الباء. ونحوه: (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ)[يونس: 83]، (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (الشعراء: 111)، (قال آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ) [طه: 71].
فإن قلت: ما وجه قراءة ابن أبى عبلة: "ورحمة" بالنصب؟ قلت: هي علة معللها محذوف تقديره: "ورحمة لكم يأذن لكم"، فحذف لأنّ قوله:(أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) يدل عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأن يسلم لهم ما يقولونه): أي: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) مضمن معنى التسليم، فالأحسن أن يُضمن (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ) معنى الوثوق والاعتراف، فيكون المعنى: هو أذن خير يسمع آيات الله ودلائله، فيعترف بصدقها ويشق بها، ويستمع إلى المسلمين، فيسلم لهم ما يقولون، ويصدقهم.
وفيه تعريض بأن المنافقين أذن شر يسمعون آيات الله، ولا يثقون بها، فيعرضون عنها، ويسمعون قول المسلمين فلا يسلمون لهم قولهم، ولا يقبلون نصيحتهم.
أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل قول المنافقين، ولا يسمع إلى خداعهم، وهذا أوجه في الرد، أي: يقبل قول المسلمين ولا يقبل قول المنافقين.
قوله: (ما أنباه): أي: ما أشده نبوا عن استعمال الباء، أي: ألا ترى إلى قوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا)[يوسف: 17] كيف كان بعيداً عن استعمال الباء، لأن قوله:(بِمُؤْمِنٍ لَنَا): بمصدق لنا، لقوله بعده:(وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)[يوسف: 17].
[(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) 62].
(لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الخطاب للمسلمين، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن، أو يتخلفون عن الجهاد، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم، ويؤكدون معاذيرهم بالحلف، ليعذروهم ويرضوا عنهم، فقيل لهم: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم: الله ورسوله بالطاعة والوفاق.
وإنما وحد الضمير؛ لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا في حكم مرضىّ واحد، كقولك: إحسان زيد وإجماله نعشنى وجبر منى. أو: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الخطاب للمسلمين، وكان المنافقون) إلى آخره: بيان لكيفية الخطاب معهم.
قوله: (وإنما وحد الضمير): جواب عن سؤال مقدر، وتقريره أن يُقال: لما كان (أَحَقُّ) خبراً عنهما، بمعنى: الله ورسوله أحق من غيرهما بالرضا، فكان الظاهر أن يثنى الضمير، ويقال: أن يرضوهما؟ فأجاب بقوله: "وإنما إلى آخره.
قوله: (فانا في حكم مرضي واحد): قال أبو البقاء: "فعلى هذا (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) خبر عن الاسمين، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قائم مقام الله، كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) [الفتح: 10] ".
قوله: (نعشني): أي: قواني ورفعني.
قوله: (أو: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك): قال أبو البقاء: " (وَاللَّهُ) مبتدأ و (أَحَقُّ) خبره، و (رَسُولَهُ) مبتدأ ثان وخبره محذوف، دل عليه الأول، وقال سيبويه: (أَحَقُّ) خبر "الرسول"، وخبر الأول محذوف، وهو أقوى؛ إذ لا يلزم منه التفريق بين
[(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) 63].
المحادّة: مفاعلة من الحدّ، كالمشاقة من الشقّ، (فَأَنَّ لَهُ) على حذف الخبر، أى: فحق أن له (نارَ جَهَنَّمَ)، وقيل: معناه: فله، و"أنّ": تكرير،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المبتدأ وخبره، وفيه أيضاً أنه خبر الأقرب إليه، قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما
…
عندك راضٍ والرأي مختلف"
قوله: (مفاعلة من الحد): قال الزجاج: "معناه: من يجانب الله ورسوله، أي: من يكون في حد، والله ورسوله في حد".
الراغب: "الحد: الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر، يُقال: حددت كذا: جعلت له حداً يميز، وحد الدار: ما تتميز به عن غيرها، وحد الشيء: الوصف المحيط بمعناه المميز له عن غره، قال تعالى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) [الطلاق: 1]، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة: 5 و 20]، أي: يمانعون، فذلك إما باعتبار الممانعة وإما باستعمال الحديد".
قوله: (وقيل: معناه: فله، و"أن" تكرير): أي: كرر "أنَّ" للتوكيد، قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ إذ يلزم الفصل بين المؤكد والمؤكد بجملة الشرط، وإيقاع أجنبي بين فاء الجزاء وما في حيزه، ويشكل أيضاً نصب (نَارَ جَهَنَّمَ).
لأن في قوله: (أَنَّهُ) تأكيداً، ويجوز أن يكون (فَأَنَّ لَهُ) معطوفا على (أنه)، على أن جواب (مَنْ) محذوف، تقديره: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم. وقرئ: "ألم تعلموا" بالتاء.
[(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) 64]
كانوا يستهزئون بالإسلام وأهله وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم، حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إلا شر خلق الله، لوددت أنى قدمت فجلدت مئة جلدة، وأن لا ينزل فينا شيء يفضحنا.
والضمير في (عليهم) و (تنبئهم للمؤمنين)، وفي (قلوبهم): للمنافقين، وصحّ ذلك؛ لأن المعنى يقود إليه، ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قلت: قد سبق مراراً أن مثل هذا التأكيد مقحم بن الكلام، فلا يكون أجنبياً، قال أبو البقاء:"إنما كررت توكيداً، كقوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)، ثم قال: (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل: 119]، والفاء جواب الشرط". ومثله قول الحماسي:
وإن امرأ دامت مواثيق عهده
…
على مثل هذا إنه لكريم
وأما نصب "النار" فليس بمشكل؛ لأنها ليست بزائدة حتى لا تعمل، وفيه بحث.
قوله: (ويجوز أن يكون (فأنَ له) معطوفاً على (أنَّه)) أي: ألم يعلموا هذا وهذا عقيبه أيضاً.
لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم، ومعنى (تنبئهم بما في قلوبهم):، كأنها تقول لهم: في قلوبكم كيت وكيت، يعنى: أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة، فكأنها تخبرهم بها.
وقيل: معنى (يحذر): الأمر بالحذر، أى ليحذر المنافقون.
فإن قلت: الحذر واقع على إنزال السورة في قوله: (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ)، فما معنى قوله (إن الله مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ)؟ قلت: معناه: محصل مبرز إنزال السورة. أو أنّ الله مظهر ما كنتم تحذرونه، أي تحذرون إظهاره من نفاقكم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كأنها تقول لهم: في قلوبكم كيت وكيت): هذا على أن تقع الاستعارة في الضمير المرفوع في (تُنَبِّئُهُمْ) على المكنية.
قوله: (الحذر واقع على إنزال السورة): هذا إذا كان (يَحْذَرُ) على الإخبار، لأنه فعلٌ مضارع محكي عن شأنهم وعادته، ومن ثم قال:"وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله"، وحاصل السؤال: أن الطباق هو أن يُقال: والله منزل ما يحذرونه، فكيف وضع موضعه (مُخْرجٌ)؟ وحاصل الجواب: أن الزيادة للمبالغة.
قوله: (مُحصل مبرز إنزال السورة): فالمحذر منه - على هذا- إنزال السورة، والمراد بقوله:(اسْتَهْزِئُوا): هو ما في قلوبهم من النفاق، لأن المنافق مستهزئ، كما سبق في البقرة في قوله:(يُخَادِعُونَ اللَّهَ)[البقرة: 9]: أنه تفسير لقوله: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)[البقرة: 8].
قوله: (أو أن الله مظهر ما كنتم تحذرونه): فالمحذر منه إظهار النفاق، لأن قوله:"من نفاقم" بيان "ما كنتم تحذرونه"، أي: يكشف نفاقكم كشفاً تاماً، وهو ما قال في القصة
[(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) 65 - 66].
بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك، وركب من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل، يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك فقال:"احبسوا علىّ الركب"، فأتاهم، فقال:"قلتم كذا وكذا"، فقالوا: يا نبي الله، لا والله ما كنا في شيء من أمرك، ولا من أمر أصحابك، ولكن كنا في شيء مما يخوض الركب فيه؛ ليقصر بعضنا على بعض السفر.
(أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) لم يعبأ باعتذارهم؛ لأنهم كانوا كاذبين فيه، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم، وبأنه موجود منهم، حتى وبخوا بأخطائهم موقع الاستهزاء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآتية: "فقال لهم: قلتم كذا وكذا، والدال على الكشف التام معنى قوله:(إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ)، أي: لابد أن يخرجه إخراجاً لا مزيد عليه، ما ظنكم بمخرج هو الله تعالى؟ !
قوله: (لم يعبأ باعتذارهم)، الجوهري:"ما عبأت بفلان عبأ، أي: ما باليتُ به"، واعتذارهم: هو قولهم: (إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)، نُزِّلَ هذا الاعتذار منزلة اعترافهم بالاستهزاء لكونهم كاذبين فيه، كأنهم قالوا: نحن مستهزؤون، وهو المراد من قوله:"فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم"، ولهذا قُدم المعمول على العامل.
قوله: (حتى وبخوا بأخطائهم موقع الاستهزاء): أي: ليس مكان الاستهزاء الحاصل
حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير، وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته.
(لا تَعْتَذِرُوا): لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم، (قَدْ كَفَرْتُمْ): قد أظهرتم كفركم باستهزائكم (بَعْدَ إِيمانِكُمْ): بعد إظهاركم الإيمان، "إِنْ يعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ" بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق، "نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ" مصرين على النفاق غير تائبين منه، أو:"إن يعف عن طائفة منكم" لم يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستهزءوا فلم نعذبهم في العاجل، تعذب في الآجل طائفة بأنهم كانوا مجرمين مؤذين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستهزئين.
وقرأ مجاهد: "إن تعف عن طائفة" على البناء للمفعول مع التأنيث، والوجه التذكير، لأن المسند إليه الظرف، كما تقول: سير بالدابة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه المذكورات، لأن همزة التقرير، على سبيل التوبيخ، المصدرة على الجار والمجرور، المقدم على عامله: مؤذنة بأن الاستهزاء واقع لا محالة، لكن الخطأ في المستهزأ به، يعني: مكان الاستهزاء غير المذكورات، فأخطأتم حيث جعلتموها مكانه، قال صاحب "المفتاح":"لا يجوز بعدما عرفت أن التقديم يستدعي العلم بحال نفس الفعل وقوعاً: أزيداً ضربت، سائلاً عن حال وقوع الضرب، وذلك أن تقديم المفعول يستدعي حصول الفعل، كما عرفت في باب التقديم، وأن السؤال عن وقوع الضرب يستدعي عدم حصوله". هذا معنى قول المصنف: "وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته".
قوله: (والوجه التذكير؛ لأن المسند إليه الظرف) إلى آخره: حكاية كلام ابن جني.
ولا تقول: سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى، كأنه قيل: إن ترحم طائفة، فأنث لذلك، وهو غريب، والجيد قراءة العامّة:"إن يعف عن طائفة"، بالتذكير، و"تعذب طائفة"، بالتأنيث. وقرئ:"إن يعف عن طائفة يعذب طائفة"، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل.
[(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) 67 - 68].
(بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أريد به نفى أن يكونوا من المؤمنين، وتكذيبهم في قولهم:(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ)[التوبة: 56]، وتقرير قوله:(وَما هُمْ مِنْكُمْ)[التوبة: 56]، ثم وصفهم بما يدل على مضادّة حالهم لحال المؤمنين:(يَامُرُونَ بِالْمُنْكَرِ): بالكفر والمعاصي، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ): عن الإيمان والطاعات، (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) شحا بالمبارّ والصدفات والإنفاق في سبيل الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وتكذيبهم في قولهم: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ)[التوبة: 56]، وتقرير قوله:(وَمَا هُمْ مِنْكُمْ)[التوبة: 56]): بيان لاتصال هذه الآية بما قبلها، وذلك أنه سبحانه وتعالى لما عد فضائح المنافين وحكى قبائحهم - من قوله:(وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ)[التوبة: 42]، وقوله:(إِنَّمَا يَسْتَاذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)[التوبة: 45]، وقوله:(ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي)[التوبة: 49]، وقوله:(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ)[التوبة: 50]، وقوله:(قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)[التوبة: 53]، وقوله:(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ)[التوبة: 56]، وقوله:(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ)[التوبة: 58]، وقوله:(وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ)[التوبة: 61]، وقوله:(يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ)[التوبة: 64]، خص من بين المذكورات ما هو أقبحها وأشنعها من الكذب المحض والزور البحت - وهو
(نَسُوا اللَّهَ): أغفلوا ذكره، (فَنَسِيَهُمْ) فتركهم من رحمته وفضله، (هُمُ الْفاسِقُونَ): هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرُّد في الكفر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) - بالرد بقوله: (وَمَا هُمْ مِنْكُمْ)[التوبة: 56]، لأنه على منوال قوله:(آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)[البقرة: 8]، وأكد الرد بقوله:(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)، وعلله بقوله:(يَامُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ).
وفي تعليله بهذا الوصف، وتعليل قوله:(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ)[التوبة: 71]: اعتناء عظيم واهتمام شديد بشأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي العود إلى تقرير الرد بعد الطول الدلالة على أن الكذب مناف للإيمان الذي هو التصديق، وهذا أقبح القبائح.
قوله: ((الْفَاسِقُونَ) هم الكاملون في الفسق): يريد أن اللام في (الْفَاسِقُونَ) للجنس، فدل على كمال هذا المعنى فيهم، نظيره قوله تعالى:(وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)[البقرة: 5]، والكافر إذا وُصف بالفسق دل على المبالغة، ومن ثم قال:"هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير"، ثم في وصف المنافقين بالفسق دل على المبالغة، ومن ثم قال:"هو التمرد في الكفر الانسلاخ عن كل خير"، ثم في وصف المنافقين بالفسق - والنفاق أوغل منه في الكفر - تعريض بالمؤمنين، وردع لهم عن الاتصاف بما يشاركون من تبوأ مقعده في الدرك الأسفل من النار، وإليه الإشارة بقوله:"وكفى المسلم زاجراً أن يُلم بما يكسبه هذا الاسم" وهو من باب قوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)[فصلت: 6 - 7].
والانسلاخ عن كل خير، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول: كسلت؛ لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله: (كُسالى)[النساء: 142]، فما ظنك بالفسق!
(خالِدِينَ فِيها): مقدّرين الخلود، (هِيَ حَسْبُهُمْ) دلالة على عظم عذابها، وأنه لا شيء أبلغ منه، وأنه بحيث لا يزاد عليه، نعوذ بالله من سخطه وعذابه، و (َلَعَنَهُمُ اللَّهُ): وأهانهم مع التعذيب، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين، كما عظم أهل الجنة، وألحقهم بالملائكة المكرمين، (وَلَهُمْ عَذابٌ): ولهم نوع من العذاب سوى الصلي بالنار، ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يُكسبه هذا الاسم): "كفى": يتعدى إلى مفعولين. الجوهري: "كفاه مؤونته، وكفاك الشيء"، قال الله تعالى:(وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ)[الأحزاب: 25]. الأساس: "ما فعل ذلك وما ألم وما كاد، وهذه ناقة قد ألمت للكبر، وألم بالأمر: لم يتعمق فيه، وألم بالطعام: لم يُسرف في أكله".
قيل: يجوز أن يكون فاعل "كفى": "أن يُلم بما يكسبه"، و"زاجراً" تمييز مقدم على الفاعل، ونحوه قوله تعالى:(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)[الصف: 3]، أي: كفى المسلم إلمامه بشيء يكسبه وصف المنافين زاجراً. والأولى أن فاعل "كفى" قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)، و"زاجراً" تمييز، و"أن يُلم" ثاني مفعولي "كفى"، ويجوز أن يُجعل "زاجراً" حالاً من الفاعل، وأن يُجعل ثاني مفعولي "كفى" وأن يتعلق "أن يُلم" بـ "زاجراً"، المعنى: كفى قوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) المسلم زاجراً أن يقرب إلى ما يكسبه اسم الفسق.
قوله: (ولهم نوع من العذاب) إلى آخره: يريد أنه تعالى لما وعد المنافقين والكفار بأن
(مقيم): دائم كعذاب النار. ويجوز أن يريد: (ولهم عذاب مقيم) معهم في العاجل لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق، والظاهر المخالف للباطن، خوفا من المسلمين، وما يحذرونه أبدا من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم.
[(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) 69].
الكاف محلها رفع؛ على: أنتم مثل الذين من قبلكم، أو نصب؛ على: فعلتم مثل ما فعل الذين من قبلكم، وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا، ونحوه قول النمر:
كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلَا طَلبَا
بإضمار: "لم أر".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لهم نار جهنم خالدين، خص من الفريقين بالذكر المنافقين، وقدم الخبر على المبتدأ ونكره ووصفه بالمقيم؛ ليدل على أنهم اختصوا بعذاب لا يكتنه كنهه، ومع ذلك أنه مقيم خالد كالعذاب المذكور قبل.
قوله: (كاليوم مطلوباً ولا طلبا): أوله:
حتى إذا الكلابُ قال لها
وقوله: (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) تفسير لتشبيههم بهم، وتمثيل فعلهم بفعلهم،
و"الخلاق": النصيب، وهو ما خلق للإنسان، أي: قدّر من خير، كما قيل له:"قسم"؛ لأنه قسم،
و"نصيب"، لأنه نصب، أي: أثبت، و"الخوض": الدخول في الباطل واللهو، (كَالَّذِي خاضُوا): كالفوج الذي خاضوا، وكالخوض الذي خاضوا .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يصف ثور وحش وكلاباً، أي: قال الكلاب لها، أي: لأجل الكلاب، يريد بالمطلوب: الثور، وبالطلب: الكلاب، وهو جمع طالب، كخدم وخادم، أي: الثور يجد في الفرار، والكلاب لا تجد في الطلب، الكاف في "كاليوم" في موضع الحال، وصاحبها المفعول به، وهو "مطلوباً"، فصارت حالاً، ثم حذف المضاف إليه مع صفته الذي هو "أراه"، وأقيم الظرف مقامه، فصار الكلام ما ترى.
قوله: (تفسير لتشبيههم بهم، وتمثيل فعلهم بفعلهم): يعني: قوله تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) تشبيه مبهم، لم يُعلم أنهم فيم شُبهوا بمن قبلهم؟ فبين بقوله:(كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) إلى آخر الآية وجه الشبه، وهو القوة والمال، والتشبيه تمثيلي؛ لِمَا فيه من تشبيه حال المخاطبين بحالهم، وكان أصل الكلام: أنتم كالذين من قبلكم ذوي قوة وشدة وأصحاب أموال، أبطرتهم قوتهم وأموالهم حتى اشتغلوا بما أوتوا من حظوظ الدنيا وشهواتها، عن طلبا لفوز برضوان الله، فبطل ما كانوا فيه، وخسروا خسراناً مبيناً.
قوله: ((كَالَّذِي خَاضُوا): الفوج الذين خاضوا): قدر "الفوج" ليطابق المشبه به، قال أبو البقاء:" (الذي) فيه وجهان: أحدهما: أنه جنس، أي: خوضاً كخوض الذين خاضوا، والثاني: أن "الذي" هاهنا مصدرية، أي كخوضهم، وهو نادر".
فإن قلت: أي فائدة في قوله: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) وقوله: (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) مغن عنه، كما أغنى قوله:(كَالَّذِي خاضُوا) عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ قلت: فائدته أن يذم الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا، ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية، عن النظر في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضا به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله، فتقول: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم، ويعذب، ويعسف، وأنت تفعل مثل فعله.
وأما (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) فمعطوف على ما قبله، مستند إليه، مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أي فائدة في قوله: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ): تلخيص السؤال: أن هاهنا تشبيهين؛ أحدهما يجري على ظاهره، وهو قوله:(وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا)، وثانيهما فيه إطناب، لأن أصله فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، فأي فائدة في زيادة (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ)؟
وأجاب: أن هذه الزيادة كالتوطئة والتمهيد للتمثيل؛ لمزيد تقبيح الاستمتاع بشهوات الدنيا ولذاتها، وتوطين ذلك في قلب السامع إجمالاً وتفصيلاً، فيقدر مثله للتمثيل الثالث؛ لونه معطوفاً عليه، ويمكن أن يقال: التمثيل الثاني كالمفرع على الأول بشهادة الفاءين للإيذان بأن "حب الدنيا رأس كل خطيئة".
قوله: (والتهائهم بشهواتهم)، الجوهري:"لهوت بالشيء ألهو لهواً: إذا لعبت به، ولهيت عنه - بالكسر- ألهى لهياً ولهياناً: إذا سلوت عنه وتركت ذكره".
(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) نقيض قوله: (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)[العنكبوت: 27].
[(أَلَمْ يَاتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) 70].
(وَأَصْحابِ مَدْيَنَ): وأهل مدين، وهم قوم شعيب، (وَالْمُؤْتَفِكاتِ): مدائن قوم لوط، وقيل:
قريات قوم لوط وهود وصالح، وائتفاكهنّ: انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر، (فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ): فما صحّ منه أن يظلمهم، وهو حكيم، لا يجوز عليه القبيح وأن يعاقبهم بغير جرم، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وائتفاكهن انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر): الائتفاك في الأصل: "الانقلاب، وحقيقته: أن يُجعل الشيء عاليه سافله، ثم يُستعار لانقلاب الأحوال عن الخير على الشر، فإذا حُمل "المؤتفكات" على مدائن قوم لوط فالانقلاب على حقيقته، وإذا حُمل على العموم فالانقلاب مجاز، لأن كل القريات ما انقلبت عاليها سافلها.
قوله: (فما صح منه أن يظلمهم، وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح): مذهبه، قال القاضي:"معناه: لم يكن من عادته تعالى ما يُشابه ظُلم الناس، كالعقوبة بلا جُرم".
[(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) 71 - 72].
(بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في مقابلة قوله في المنافقين: (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)[التوبة: 67].
(سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد، كما تؤكد الوعيد في قولك: سأنتقم منك يوماً، تعنى: أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونحوه (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (مريم: 96)، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى: 5]، (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) [النساء: 152].
(عَزِيزٌ): غالب على كل شيء قادر عليه، فهو يقدر على الثواب والعقاب، (حَكِيمٌ): واضع كلا موضعه على حسب الاستحقاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: ((بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) في مقابلة قوله في المنافقين): فيكون "يقبضون أيديهم"[التوبة: 67] المعبرُ عن البُخل في مقابلة (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، و (نَسُوا اللَّهَ) [التوبة: 67] في مقابلة (وَيُطِيعُونَ اللَّهَ)، والوعيد في مقابلة الوعد.
قوله: (فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد): قال صاحب "التقريب": "وفيه نظر". والجواب: أن المقصود بالتأكيد أن السين في الإثبات مقابلة "لن" في النفي، فتكون بهذا الاعتبار تأكيداً.
(وَمَساكِنَ طَيِّبَةً): عن الحسن: قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد، و (عَدْنٍ) علم، بدليل قوله:(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ)[مريم: 61]، ويدل عليه ما روى أبو الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "عدن: دار الله التي لم ترها عين، ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون، والصدّيقون، والشهداء، يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك"، وقيل: هي مدينة في الجنة، وقيل: نهر جناته على حافاته.
(وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ): وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، لأنّ رضاه هو سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم، وإنما تتهنأ له برضاه، كما إذا علم بسخطته تنغصت عليه، ولم يجد لها لذة وإن عظمت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بدليل قوله: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ)[مريم: 61]: أي: بدليل وصفها بالمعرفة.
قوله: (وشيء من رضوان الله أكبر): قال صاحب "المفتاح": "قال: (وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ) دون أن يقول: ورضوان الله أكبر، قصداً إلى إفادة: قدر يسير من رضوانه خير من ذلك كله".
الراغب: "رضي يرضى رضاً فهو مرضى ومرضو، رضا العبد عن الله: أن لا يكره ما يجري به قضاؤه، ورضا الله عن العبد: هو أن يراه مؤتمراً لأمره، ومنتهياً عن نهيه. والرضوان: الرضا الكثير، ولما كان أعظم الرضا رضا الله خُص لفظ "الرضوان" في القرآن بما كان من الله تعالى".
قوله: (تتهنأ له): الضمير الفاعل راجع إلى "النعم"، أي: إنما يمرى النعيم والتطيب للعبد بواسطة رضاه وعلمه أنه تعالى راض عنه.
وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة، والنفس المرّة من مشايخنا، يقول: لا تطمح عيني، ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة، كما تطمح وتنازع إلى رضاه عنى، وأن أحشر في زمرة المهديين المرضيين عنده.
(ذلِكَ) إشارة إلى ما وعد الله، أو إلى الرضوان، أي (هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وحده دون ما يعدّه الناس فوزاً.
وروى: "أن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا".
[(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَاواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) 73].
(جهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف، (وَالْمُنافِقِينَ) بالحجة، (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) في الجهادين جميعاً، ولا تحابهم، وكل من وقف منه على فساد في العقيدة: فهذا الحكم ثابت فيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (بعض أولي الهمة البعيدة): قيل: عني به عبد السيد الخطيبي أخا صاعد.
قوله: (والنفس المرة)، الجوهري:"المرة: القوة وشدة العقل أيضا".
قوله: (هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى)، الحديث: مخرج في "الصحيحين" عن أبي سعيد.
"أُحل عليكم رضواني"، أي: أوجب. الجوهري: "حل العذاب يحل - بالكسر -: وجب، ويحل - بالضم-: نزل، وقرئ بهما قوله تعالى: (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) [طه: 81] ".
قوله: (وكل من وقف منه على فساد في العقيدة: فهذا الحكم ثابت فيه): اعتبر في قوله:
يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها، عن ابن مسعود: إن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه، فإن لم يستطع فبقلبه"، يريد الكراهة والبغضاء والتبرأ منه.
وقد حمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها.
[(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) 74].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(جَاهِدِ) اشتراكا معنوياً، وحمله على المعاني المختلفة للقدر المشترك، وهو التغليب على المخالف لإظهار الحق، وفيما ورد عليه الأمر من الكفر والنفاق اعتبر معنى فساد العقيدة لكون العلة الباعثة على الجهاد مشتركة أيضاً.
قوله: (فليكفر في وجهه)، الجوهري:"اكفهر الرجل: إذا عبس، ونمه قول ابن مسعود: "إذا لقيت الكافر فالقه بوجه مكفهر"، أي: لا تلقه بوجه منبسط".
ويشبه كلام ابن مسعود: ما روينا عن مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي عن أبي سعيد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"مَنْ رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبهن وذلك أضعف الإيمان".
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم، منهم الجلاس بن سويد، فقال الجلاس: إن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلفناهم، وهم ساداتنا وأشرافنا، فنحن شر من الحمير، فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس: أجل، والله إنّ محمداً صادق، وأنت شرّ من الحمار! وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحضر فحلف بالله ما قال، فرفع عامر يده، فقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق، فنزل:(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا) فقال الجلاس: يا رسول الله، عرض الله علىّ التوبة، والله لقد قلته، وصدق عامر، فتاب الجلاس وحسنت توبته.
(وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام، (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند مرجعه من تبوك، توافق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي، إذا تسنم العقبة بالليل، فأخذ عمار بن ياسر بزمام راحلته يقودها، وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون، فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله! فهربوا.
وقيل: همّ المنافقون بقتل عامر لردّه على الجلاس. وقيل: أرادوا أن يتوّجوا عبد الله بن أبىّ وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تصديق الكاذب وتكذيب الصادق): يُريد: أنزل تصديقي في حقيقة الأمر، وإن كنت كاذباً عند الناس لحلف الجلاس، وأنزل تكذيبه في حقيقة الأمر، وإن كان صادقاً عند الناس لحلفه، فسمي نفسه الكاذب لظاهر حاله، وخصمه الصادق لذلك، تحريره: أنزل في شأن من كذب وهو مصدق، ومن صدق وهو مكذب.
(وَما نَقَمُوا): وما أنكروا وما عابوا، (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ) وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش، لا يركبون الخيل، ولا يحوزون الغنيمة، فأثروا بالغنائم، وقتل للجلاس مولى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثنى عشر ألفاً فاستغنى.
(فَإِنْ يَتُوبُوا) هي الآية التي تاب عندها الجلاس، (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) بالقتل والنار.
[(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) 75 - 77].
روى: أنّ ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، فقال عليه والسلام:"يا ثعلبة"، قليل تؤدّى شكره خير من كثير لا تطيقه". فراجعه وقال: والذي بعثك بالحق، لئن رزقني الله مالا لأعطينّ كل ذى حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنما، فنمت كما ينمى الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا، وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: كثر ماله حتى لا يسعه واد! فقال: "يا ويح ثعلبة! ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فأثروا بالغنائم): أي: صاروا أغنياء، الجوهري:""أثرى الرجل: إذا كثر ماله".
قوله: (اثني عشر ألفاً): قيل: يجوز أن تكون زيادة الألفين شنقاً، كانوا يعطون الدية ويتكرمون بزيادة عليها ويسمونها شنقاً. الجوهري:"الشنق: ما دون الدية، وذلك أن يسوق ذو الحمالة الدية كاملة، فإذا كانت معهاديات جراحات، فتلك تُسمى الأشناق، كأنها متعلقة بالدية العظمى".
قوله: (يا ويح ثعلبة! ): مختصر من قصته مذكور في "الاستيعاب". النهاية: "ويح:
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقين لأخذ الصدقات، فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومرّا بثعلبة فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائض، فقال: ما هذه إلا جزية! ما هذه إلا أخت الجزية! وقال: ارجعا حتى أرى رأيى، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا ويح ثعلبة! " مرّتين، فنزلت، فجاءه ثعلبة بالصدقة، فقال: إنّ الله منعني أن أقبل منك"، فجعل التراب على رأسه، فقال: "هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني".
فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبى بكر رضي الله عنه فلم يقبلها، وجاء إلى عمر رضى الله عنه في خلافته فلم يقبلها، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه.
وقرئ: "لنصدقن ولنكونن" بالنون الخفيفة فيهما، (مِنَ الصَّالِحِينَ) قال ابن عباس رضي الله عنه: يريد الحج.
(فَأَعْقَبَهُمْ): عن الحسن وقتادة: أنّ الضمير للبخل، يعنى: فأورثهم البخل، (نِفاقاً) متمكنا (فِي قُلُوبِهِمْ) لأنه كان سببا فيه وداعياً إليه، والظاهر أن الضمير لله عز وجل، والمعنى: فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم، فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدّق والصلاح، .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كلمة ترحم وتوجع، تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وهي منصوبة على المصدر".
قوله: (هذا عملك): أي منع الله إياي قبول صدقتك جزاء عملك.
قوله: (يريد الحج): يعني: عطف (وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ) على (لَنَصَّدَّقَنَّ) - بعد قوله: (لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ) -: يُفيد الصلاح في المال، والصلاح في المال بعد الصدقة هو النفقة في الحج والغزو.
وكونهم كاذبين، ومنه: جعل خلف الوعد ثلث النفاق.
وقرئ: "يكذبون" بالتشديد، و"ألم تعلموا" بالتاء، عن علىّ رضي الله عنه.
[(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) 78].
(سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ): ما أسرّوه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، وما يتناجون به فيما بينهم؛ من المطاعن في الدين، وتسمية الصدقة جزية، وتدبير منعها.
[(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) 79].
(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) محله النصب أو الرفع على الذمّ، ويجوز أن يكون في محل الجرّ بدلا من الضمير في (سرهم ونجواهم) [التوبة: 87]، وقرئ:"يلمزون"، بالضم (الْمُطَّوِّعِينَ): المتطوّعين المتبرعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومنه جُعل خُلفُ الوعدِ ثلث النفاق): أي: من أجل أن خُلفَ الوعد سببٌ لإعقاب النفاق قبل: خُلفُ الوعد ثلث النفاق، لمح إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"آية المنافق ثلاثة: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر"، وفي رواية:"وإذا اؤتمن خان"، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة. ويمكن أن تستنبط الخلال كلها من الآية، فالعهد من قوله:(عَاهَدَ اللَّهَ)، والوعد من قوله:(وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ)، والكذب من قوله:(وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ).
روي: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حثّ على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب، وقيل: بأربعة آلاف درهم، وقال: كان لي ثمانية آلاف، فأقرضت ربى أربعة، وأمسكت أربعة لعيالي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت"، فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً، وتصدّق عاصم بن عدىّ بمئة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بصاع من تمر، فقال: بت ليلتي أجرّ بالجرير على صاعين، فتركت صاعا لعيالي، وجئت بصاع، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات، فلمزهم المنافقون، فقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبى عقيل، ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات، فنزلت.
(إِلَّا جُهْدَهُمْ): إلا طاقتهم، قرئ بالفتح والضم، (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) كقوله:(الله يستهزئ بهم)[البقرة: 15] في أنه خبر غير دعاء، ألا ترى إلى قوله:(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً): القصة مذكورة في "الاستيعاب"، وعلى تقدير أن تكون ثمانين ألفاً تمام حصتها، يكون مجموع المال ألفا ألفٍ وخمسُ مئة ألف وستون ألفاً.
قوله: (أجر بالجرير): الجرير: حبل يجر البعير به، بمنزلة العذار للدابة غير الزمام. النهاية:" (أن رجلاً يجر الجرير، فأصاب صاعين من تمر، فتصدق بأحدهما)؛ يريد أنه كان يستقي الماء بحبل".
قوله: (ألا ترى إلى قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)): أي: عطف قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
[(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) 80]
سأل عبد الله بن عبد الله بن أبىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رجلا صالحا: أن يستغفر لأبيه في مرضه، ففعل، فنزلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنّ الله قد رخص لي، فسأزيد على السبعين"، فنزلت:(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ)[المنافقون: 6].
وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر، كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر، والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، قال علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه:
لَأَصْبَحَنَّ الْعَاصِ وَابْنَ الْعَاصِي
…
سَبْعِينَ ألْفاً عَاقِدِي النَّوَاصِي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على قوله: (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ)، ولو كان (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) دعاء، لزم عطف الخبري على الطلبين وإنما خولف بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة الاسمية والفعلية، ليؤذن أن العذاب الأليم وعيد دائم، وأما استهزاء الله إياهم فعلى التجدد، كما قال:(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ)[التوبة: 126]، أو أن السخرية قد حصلت لهم في الدنيا، والعذاب الأليم كائن في الآخرة على الدوام.
قوله: (وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر): يعني: في قوله تعالى: (قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)[التوبة: 53]، لنكتة فيه، وهي أن المعنى: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه.
قوله: (لأصبحن العاص) البيت: "لأصبحن": من الصبح، أي: لأعطين الصبوح، يُقال في الحرب: صبحناهم، أي: عاديناهم بالخيل، ويوم الصباح: يوم الغارة، يريد بـ"العاص":
فإن قلت: كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار، كيف وقد تلاه بقوله:(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا) الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذي عصاه، و"ابن العاص": بيان له، وهو عمرو بن العاص، "سبعين ألفاً": أي: من الجيش، "عاقدي النواصي": أي: نواصي خيلهم، والعاقد بمعنى المعقود.
رُوي عن علي بن عيسى أنه قال: العرب تبالغ بالسبع وبالسبعين، لأن التعديل في نصف العقد، وهو خمسة، وإذا زيد عليها واحدٌ كان لأدنى المبالغة، وإذا زيد اثنان كان لأقصى المبالغة، ولذلك قالوا للأسد: سبع، لأنه قد ضُوعف قوته سبع مرات.
وقال القاضي: "قد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبع مئة ونحوها في التكثير، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنه العدد بأسره".
وقال صاحب "الإيجاز": "السبعة أكمل الأعداد بجمعها معاني الأعداد، لأن الستة أو لعدد تام، لأنها تُعادل أجزاءها، إذ نصفها ثلاثة، وثلثها اثنان، وسدسها واحد، وجُملتها ست، وهي مع الواحدة سبع، فكانت كاملة، إذ ليس بعد التمام سوى الكمال، ولعل واضع اللغة سمي الأسد سبعاً لكمال قوتهن كما أنه أسد لإساده في السير، ثم "سبعون" غاية الغاية، إذ الآحاد غايتها العشرات، فكان المعنى: أنه لا يُغفر لهم، وإن استغفرت أبداً".
قوله: (كيف خفي): أي: هذا المعنى، وهو أن السبعين مثل في التكثير.
حتى قال: "قد رخص لي ربى، فسأزيد على السبعين"؟
قلت: لم يخف عليه ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، كقول إبراهيم عليه السلام:(وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[إبراهيم: 36]، وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة: لطف لأمّته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (قد رخص لي ربي، فسأزيد على السبعين): قال في "الانتصاف": "أنكر القاضي حديث الاستغفار ولم يصححه، وقبله قوم، وجعلوه عمدة مفهوم المخالفة".
وقلت: إنما ينكره من لا يد له في علم الحديث، والحديث رواه البخاري ومسلم وابن ماجه والنسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "إنما خيرني الله تعالى، فقال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآية، وسأزيد على السبعين".
قوله: (ولكنه خيل بما قال): أي: صور في خياله أو في خيال السامع ظاهر اللفظ -وهو العدد المخصوص-، دون المعنى الخفي المراد- وهو التكثير-، كما أن إبراهيم عليه السلام ما
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عد عصيانه- في قوله: (وَمَنْ عَصَانِي) - عصيان الله المراد منه عبادة الأصنام لدلالة السياق، كما سيجيء، فعقبه بقوله:(فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[إبراهيم: 36]، لغاية رحمته ورأفته على أمته، وهو من أسلوب التورية، وهو أن يطلق لفظ له معنيان: قريب وبعيد، فيراد البعيد منهما، كقول القبعثري - في جواب الحجاج:"لأحملنك على الأدهم"-: "مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب"، أبرز الوعيد في معرض الوعد.
قال القاضي: "فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من "السبعين" العدد المخصوص؛ لأنه الأصل، فجوز أن يكون ذلك حداً يخالفه حكم ما وراءه، وقوله: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) كالتنبيه على عذر الرسول صلى الله عليه وسلم في استغفاره، وهو عدم يأسه من إيمانهم ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم، لقوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة: 113] ".
[(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) 81].
(الْمُخَلَّفُونَ): الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فأذن لهم وخلفهم في المدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان، ب (ِمَقْعَدِهِمْ): بقعودهم عن الغزو، (خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ): خلفه، يقال: أقام خلاف الحي، بمعنى: بعدهم، ظعنوا ولم يظعن معهم، وتشهد له قراءة أبى حيوة:"خلف رسول الله"، وقيل: هو بمعنى المخالفة لأنهم خالفوه حيث قعدوا ونهض، وانتصابه على أنه مفعول له أو حال، أى قعدوا لمخالفته أو مخالفين له.
(أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) تعريض بالمؤمنين، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض،
وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان؟ !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وانتصابه على أنه مفعول له): قال أبو البقاء: "و (خِلافَ) ظرف بمعنى: خلف، أي: بعد، والعامل فيه "مقعد" أو (فَرِحَ)، وقيل: هو مفعول من أجله، فعلى هذا هو مصدر، أي: لمخالفته، وقيل: هو مصدر دل عليه الكلام، لأن مقعدهم عنه تخلف".
قوله: ((أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) تعريض بالمؤمنين): يعني: في ذكر المجاهدة بالأموال والأنفس تعريض بالمؤمنين ومدح لهم، وذم للمنافقين.
قوله: (وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم) إلى آخره: عطف تفسيري على قوله: "وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله"، وهو على هذا تفسير لقوله:"بالمؤمنين أيضاً".
قوله: (وكره ذلك): المشار إليه هو المذكور من بذل الأموال والإيثار. و"كرِهَ": إما حال من فاعل "فعلوا"، و"قد" مُقدرة، أو من الراجع المنصوب إلى "ما".
(قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) استجهال لهم، لأن من تصوّن من مشقة ساعة، فوقع بسبب ذلك التصوّن في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل، ولبعضهم:
مَسَرَّةُ أحْقَابٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا
…
مَسَاءَةَ يَوْمٍ أرْيُهَا شِبْهُ الصَّابِ
فَكَيْفَ بِأَنْ تَلْقَى مَسرَّةَ سَاعَةٍ
…
وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَةُ أحْقَابِ
[(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) 82].
معناه: فسيضحكون قليلا، ويبكون كثيرا (جَزاءً)، إلا أنه أخرج على لفظ الأمر، للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (استجهال لهم): يعني نظروا إلى هذا الحر النزر، غفلوا عن تلك النار التي لا تقاس حرارتها بشيء من النيران، بله حر القيظ، ومن تصون من مشقة ساعة، فوقع به في مشقة الأبد: كان أجهل من كل جاهل.
ويمكن أن يقال: إن قوله: (لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) تتميم للتجهيل، أي: قل لهم هذا وجهلهم به، وليتهم يفقهون ما تعنيه بقولك. قال القاضي:" (لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) أنها كيف هي، ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة".
قوله: (مسرة أحقاب) البيتين: "الأحقاب": الأزمان الكثيرة، و"الأري": العسل، و"الصاب": نبتٌ مُر، وقيل: هو الحنظل، "مساءة أحقاب": مُبتدأ، والخبرُ "وراء تقضيها"، والجملة ثاني مفعولي "تلقى".
قوله: (حتمٌ واجب): لأن الأمر لا يحتمل الصدق والكذب، كما يحتمله الخبر، ولذلك قال:"لا يكون غيره"، أو أن أمر الله للأشياء حتمٌ لوجودها وقطعٌ في كونها لقوله تعالى:(أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82]، و (فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا) [البقرة: 243].
يروى: أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا، لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَاذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) 83].
وإنما قال: (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ)؛ لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف، أو اعتذر بعذر صحيح، وقيل: لم يكن المتخلفون كلهم منافقين، فأراد بالطائفة: المنافقين منهم (فَاسْتَاذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) يعنى إلى غزوة بعد غزوة تبوك، (وأَوَّلَ مَرَّو) هي الخرجة إلى غزوة تبوك، وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق، بخلاف غيرهم من المتخلفين (مَعَ الْخالِفِينَ) قد مرّ تفسيره، قرأ مالك بن دينار:"مع الخلفين"؛ على قصر الخالفين.
فإن قلت: (مَرَّو) نكرة وضعت موضع "المرات" للتفصيل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لا يرقأ لهم دمع)، النهاية:"رقأ الدمع يرقأ [رقوءا] بالضم: إذا سكن وانقطعن والاسم الرقوء بالفتح".
قوله: (موضع المرات للتفصيل): صح بالصاد المهملة، يعني: أن "أفعل" التفضيل: إذا أُريد به بيان زيادته في المعنى، يقتضي أن يكون المفضل داخلاً فيما أضيف إليه، فالأصل الجمع، فوُضع المفرد موضعه، لإرادة التفصيل، أي: فضل المذكور على الجنس المذكور إذا فصل الجنس واحداً بعد واحد، فعلى هذا (أَوَّلَ) بعضُ ما أضيف إليه، وهي (مَرَّةٍ)، فحقه التأنيث، فلِمَ ذُكِّر؟
فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها، وهو دال على واحدة من المرات؟ قلت: أكثر اللغتين: هند أكبر النساء، وهي أكبرهنّ، ثم إنّ قولك: هي كبرى امرأة، لا تكاد تعثر عليه، ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة، وآخر مرة.
وعن قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا، قيل فيهم ما قيل.
(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ * وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) 84 - 85].
روى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين، ويدعو لهم، فلما مرض رأس المنافقين عبد الله بن أبىّ، بعث إليه ليأتيه، فلما دخل عليه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إن قولك: هي كبرى امرأة، لا تكاد تعثر عليه): قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يُقال: تقديره: هند إنسان أكبر النساء، وزماناً أول مرة، واختير التذكير لأن التأنيث ظاهر هاهنا، واستغني عنه كما استغنوا بـ "تركتُ" عن "وذرتُ"، مثله قول الذبياني:
نبئت نعماً على الهجران عاتبة
…
سقياً ورعياً لذاك العاتب الزاري
أي: لذلك الشخص، قال أبو البقاء:"المرة في الأصل: مصدر: مر يمر، ثم استعمل ظرفاً اتساعاً، وهذا يدل على قوة شبه الزمان بالفعل".
قال: أهلكك حب اليهود، فقال: يا رسول الله، بعثت إليك لتستغفر لي، لا لتؤنبنى، وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده، ويصلى عليه، فلما مات دعاه ابنه حباب إلى جنازته، فسأله عن اسمه، فقال: أنت عبد الله ابن عبد الله، الحباب: اسم شيطان، فلما همّ بالصلاة عليه قال له عمر: أتصلي على عدوّ الله؟ فنزلت. وقيل: أراد أن يصلى عليه، فجذبه جبريل.
فإن قلت: كيف جازت له تكرمة المنافق وتكفينه في ثوبه؟ قلت: كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له. وذلك أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أخذ ببدر أسيرا، لم يجدوا له قميصاً، وكان رجلا طوالا، فكساه عبد الله قميصه. وقال له المشركون يوم الحديبية: إنا لا نأذن لمحمد، ولكنا نأذن لك، فقال: لا، إن لي في رسول الله أسوة حسنة، فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لا لتؤنبني)، الجوهري:"أنبه تأنيباً: عنفه ولامه".
قوله: (وسأله أن يكفنه في شعاره): عن البخاري ومسلم عن جابر قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أُبيٍّ بعدما أُدخل حفرته، فأمر به فأخرج، فوضعه على ركبتيه، ونفث فيه من ريقه، وألبسه قميصه، قال: وان كسا عباساً قميصاً".
وفي رواية: "قال له ابن عبد الله: ألبس عبد الله قميصك الذي يلي جلدك".
وفي أخرى: "لما كان يومُ بدر أتى بأسارى، وأتى بالعباس، ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصاً، فوجدوا قميص عبد الله بن أبي، يقدر عليه، فكساه إياه، فذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه". قال ابن عيينة: "كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يد، فأحب أن يكافئه".
وإجابة له إلى مسألته إياه، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلا، وكان يتوفر على دواعي المروءة، فعمل بعادات الكرام، وإكراماً لابنه الرجل الصالح، فقد روى أنه قال له:"أسألك أن تكفينه في بعض قمصانك، وأن تقوم على قبره، لا يشمت به الأعداء"، وعلماً بأن تكفينه في قميصه لا ينفعه مع كفره، فلا فرق بينه وبين غيره من الأكفان، وليكون إلباسه إياه لطفاً لغيره، فقد روى أنه قيل له: لم وجهت إليه بقميصك وهو كافر؟ فقال: "إنّ قميصي لن يغنى عنه من الله شيئاً، وإن أؤمل في الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب"، فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج، لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك ترحمه واستغفاره كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف، لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك، دعا المسلم إلى أن يتعطف على من واطأ قلبه لسانه ورآه حتما عليه.
فإن قلت: فكيف جازت الصلاة عليه؟ قلت: لم يتقدم نهى عن الصلاة عليهم، وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم، لما في ذلك من المصلحة، وعن ابن عباس:"ما أدرى ما هذه الصلاة، إلا أنى أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخادع".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وإجابة له إلى مسألته): صح بالنصب عطفاً على "مكافأة له"، وكذا "وإكراماً" و"عِلماً"، وكذا قوله:"وليكون إلباسه إياه لُطفاً لغيره"، وإنما أدخل اللام في الأخير لأن الكون ليس فعلاً لفاعل الفعل المعلل.
قوله: (وعن ابن عباس: ما أدري ما هذه الصلاة): روينا عن البخاري الترمذي والنسائي عن عمر رضي الله عنه قال: "لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول، دُعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه، وقلت: يا رسول الله، أتُصلي
(ماتَ) صفة لـ (أحد)، وإنما قيل:(مات)(وماتوا) بلفظ الماضي، والمعنى على الاستقبال، على تقدير الكون والوجود، لأنه كائن موجود لا محالة، (إِنَّهُمْ كَفَرُوا) تعليل للنهى.
وقد أعيد قوله: (وَلا تُعْجِبْكَ) لأنّ تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهمّ يفتقر إلى فضل عناية به، لاسيما إذا تراخى ما بين النزولين، فأشبه ذلك الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه.
[(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَاذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) 86 - 89].
يجوز أن يراد السورة بتمامها، وأن يراد بعضها، في قوله:(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ)، كما يقع القرآن والكتاب على كله، وعلى بعضه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على ابن أبي، وقد قال يوم كذا وكذا:[كذا وكذا]؟ أُعدد عليه، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"أخر عني يا عمر"، قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة:(وَلا تُصَلِّ) إلى قوله: (وَهُمْ فَاسِقُونَ). قال: فتعجبت بعدُ من جُرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، والله ورسوله أعلم".
قوله: (فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه): ويسمى هذا الأسلوب في البديع: الترجيع.
وقيل: هي (براءة)، لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد، (أَنْ آمِنُوا) هي" أن" المفسرة، (أُولُوا الطَّوْلِ): ذوو الفضل والسعة، من: طال عليه طولا، (مَعَ الْقاعِدِينَ): مع الذين لهم علة وعذر في التخلف، (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ما في الجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الشقاء والهلاك.
(لكِنِ الرَّسُولُ) أي: إن تخلف هؤلاء فقد نهد إلى الغزو من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقداً، كقوله (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً) [الأنعام: 89]، (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) [فصلت: 38].
(الْخَيْراتُ) تتناول منافع الدارين؛ لإطلاق اللفظ، وقيل: الحور، لقوله:(فِيهِنَّ خَيْراتٌ)[الرحمن: 70].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: هي براءة): عطف على قوله: "أن يُراد السورة بتمامها"، أي: أي سورة كانت، ولا تخلو كل سورة من الاشتمال على أمر بالإيمان والجهاد إما حقيقة أو ضمناً، لأن المقصود الأولي من إنزالها الدعوة إلى الله تعالى وإلى طريق الحق.
[قوله: ((إِنْ آمَنُوا) هي"أن" المفسرة)]: قال أبو البقاء: " (إِنْ آمَنُوا)، أي: آمنوا، والتقدير: يُقال فيها: آمنوا. وقيل: (أنْ) هاهنا مصدرية، تقديره: أنزلت بأن آمنوا، أي: بالإيمان. وإنما اختار المصنف أن تكون مفسرة، لأن قولهم في الجواب:(ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) يستدعي الأمر بالجهاد، وفي جعلها مصدرية ثم تأويلها بالأمر- أي: ملتبسة بالإيمان، أي: بالأمر بالإيمان - توسيع الدائرة.
قوله: (تهد إلى الغزو): ينهد- بالفتح-: ينهض محتشداً مستعداً متهيئاً.
[(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) 90].
(الْمُعَذِّرُونَ) من: عذر في الأمر: إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدّ: وحقيقته: أنه يوهم أن له عذراً فيما يفعل، ولا عذر له. أو المعتذرون -بإدغام التاء في الذال، ونقل حركتها إلى العين، ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين، وضمها لإتباع الميم، ولكن لم تثبت بهما قراءة-، وهم الذين يعتذرون بالباطل، كقوله:(يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم)[التوبة: 94].
وقرئ: "المعذرون" بالتخفيف، وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه، قيل: هم أسد وغطفان؛ قالوا: إن لنا عيالا، وإن بنا جهدا فائذن لنا في التخلف. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل؛ قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طىّ على أهالينا ومواشينا، فقال صلى الله عليه وسلم:"سيغنيني الله عنكم". وعن مجاهد: نفر من غفار، اعتذروا فلم يعذرهم الله. وعن قتادة: اعتذروا بالكذب.
وقرئ: "المعذرون" بتشديد العين والذال، من: تعذر، بمعنى اعتذر، وهذا غير صحيح، لأنّ التاء لا تدغم في العين إدغامها في الطاء والزاي والصاد، في "المطوّعين"، و"أزكى" و"أصدق".
وقيل: أريد المعتذرون بالصحة، وبه فسر (المعذرون) و"المعذرون" -على قراءة ابن عباس-: الذين لم يفرطوا في العذر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
قوله: (وقيل: أريد المعتذرون بالصحة): أي: بالحق لا الباطل.
قال صاحب "التقريب" قوله: : أريد المعتذرون بالصحة، وبه فُسر (الْمُعَذِّرُونَ)" مشدداً ومخففاً، من: أعذر: إذا لم يُفرط في العُذر. وفيه نظر؛ إذ "المُعذر" على زنة "المُفعِّل" هوا لممرض والمقصر يعتذر بغير عذر. ذكره في "الصحاح" تم كلامه.
(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان، وقرأ أبىّ:"كذبوا" بالتشديد.
(سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ): من الأعراب، (عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا: بالقتل، وفي الآخرة: بالنار.
[(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) 91 - 92].
(الضُّعَفاءِ): الهرمي والزمني، و (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ): الفقراء، وقيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة. و"النصح لله ورسوله": الإيمان بهما،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمذكور في "الصحاح": " (الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ): يُقرأ بالتشديد التخفيف: أما "المُعذر" بالتشديد: فقد يكون محقاً وقد يكون غير محق؛ فأما المحق فهو في المعنى: المعتذر، لأن له عذراً، لكن التاء قلبت ذالاً، فأدغمت فيها، وجُعلت حركتها على العين، كما قرئ: "يخصمون" بفتح الخاء، ويجوز كسر العين لاجتماع الساكنين، ويجوز ضمها إتباعها للميم.
وأما الذي ليس بمحق فهو المُعذر، على جهة المفعل، لأنه الممرض والمقصر يعتر بغير عذر. وكان ابن عباس يقرأ:"وجاء المعذرون" - مخففة، من: أعذر - ويقول: والله هذا أُنزلت، وكان يقول: لعن الله المعذرين! كأن الأمر عنده أن المعذر - بالتشديد - هو المظهر للعذر اعتلالاً من غير حقيقة له في العذر، وهذا لا عذر له. والمعذر: الذي له عُذر. وقد بينا الوجه الثاني في المُشدد".
وطاعتهما في السر والعلن، وتوليهما، والحب والبغض فيهما، كما يفعل الموالي الناصح بصاحبه، (عَلَى الْمُحْسِنِينَ): على الناصحين المعذورين، ومعنى:"لا سبيل عليهم": لا جناح عليهم، ولا طريق للعتاب عليهم.
(قُلْتَ) حال من الكاف في (أَتَوْكَ)، "وقد" قبله مضمرة، كما قيل في قوله:(أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ)[النساء: 90]، أي إذا ما أتوك قائلا: لا أجد (تَوَلَّوْا).
وقد حصر الله المعذورين في التخلف: الذين ليس لهم في أبدانهم استطاعة، والذين عدموا آلة الخروج، والذين سألوا المعونة فلم يجدوها.
وقيل: المستحملون أبو موسى الأشعري وأصحابه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلى هذا قوله: "المعتذرون بالصحة" معطوف على قوله: "وهُم الذين يعتذرون بالباطل"، والوجهان مبنيان على قوله:"أو المعتذرون بإدغام التاء"، وهو عطف على قوله:"مِن: عذر في الأمر".
فالحاصل: أن (الْمُعَذِّرُونَ) إما محمول على أنه من المُفعل، من: عذر في الأمر: إذا قصر فيه، أو على: معتذرون، بإدغام التاء، وهو أيضاً إما أن يُراد منه الذين يعتذرون بالباطل، كما ذهب إليه ابن عباس، أو أريد المعتذرون بالصحة، أي: بالحق لا الباطل، كما ذكره الجوهري. ومعنى قراءة ابن عباس من هذا الأخير.
قوله: (كما يفعلُ الموالي الناصح بصاحبه): يريد: أن النصح لله ولرسوله مستعار للإيمان والطاعة والتولي والحب والبغض فيهما.
قوله: (المستحملون أبو موسى [الأشعري] وأصحابه): عن أبي موسى قال: أتيت رسولا لله صلى الله عليه وسلم في رهط من الأشعريين تستحمله، قال:"والله لا أحملكم، وما عندي ما أحلكم عليه". ثم لبثنا ما شاء الله، فأتي بإبل، فأمر لنا بثلاث ذود، فلما انطلقنا قال بعضنا لبعض: لا بارك الله لنا، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله، فحلف أن لا يحملنا. قال أبو موسى:
وقيل البكاؤون، وهم ستة نفر من الأنصار.
(تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ): كقولك: تفيض دمعاً، وهو أبلغ من: يفيض دمعها، لأنّ العين جعلت كأن كلها دمع فائض، و (من) للبيان، كقولك: أفديك من رجل،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له، فقال:"ما أنا حملتكم، بل الله حملكم، إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير". هذه رواية النسائي، وفي رواية البخاري ومسلم نحو هذه.
قوله: (وقيل البكاؤون، وهم ستة نفر من الأنصار): قال محيي السنة: "هم سبعة نفر، سموا البائين: معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعلبة ابن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن عنمة، وعبد الله بن مغفل المُزني، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن الله قد ندبنا إلى الخروج معك فاحملنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أجد ما أحملكم عليه، فولوا وهم يبكون"، والحديث".
قوله: (و (مِنَ) للبيان، كقول: أفديك من رجُل): يعني: "مِن" تجريد، جُرد من الرجل شخص، فخوطب بقوله: أفديك، وهو هو، وهو من قولك: رأيتك من أسد، وهو أبلغ من قولك: رأيت منك أسداً، فكذلك جرد من الدمع أعيناً، وجُعلت كأنها دموع فائضة، وهو المراد من قوله:"لأن العين جُعلت كان كلها دمعٌ فائض".
ومحل الجار والمجرور: النصب على التمييز، (أَلَّا يَجِدُوا): لئلا يجدوا، ومحله نصب على أنه مفعول له، وناصبه المفعول له الذي هو (حزناً).
[(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَاذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) 93 - 94].
فإن قلت: (رَضُوا) ما موقعه؟ قلت: هو استئناف،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قلت: ذكر في المائدة هذا الوجه، وجعل (مِن) ابتدائية حيث قال:"فجُعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها"، وقال:" (مِنَ) لابتداء الغاية، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببه"، فهل من فرق؟
قلت: أما من حيث المعنى والمبالغة فلا، وأما من حيث الطريقة: فإن طريقة ذلك ما ذكرناه عن صاحب "الانتصاف": "أصله: فاض دمع عينه، ثم: فاضت عينه دمعاً، فحُوِّل الفاعل، وجُعِل تمييزاً للإبهام والتبيين، ثم: فاضت عينه من الدمع، فلم يبينه على الأصل، بل أبرزه في صورة التعليل"، وطريقة التجريد كما بيناها.
قوله: (وناصبه المفعول له): أي: قوله: (حَزَناً)، فهو من التداخل في المفعول له.
كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف، (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) يعنى: أن السبب في استئذانهم: رضاهم بالدناءة وخذلان الله تعالى إياهم.
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون قوله: (قُلْتَ لا أَجِدُ) استئنافاً مثله، كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا، فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ فقيل: (قلت لا أجد ما أحملكم عليه)[التوبة: 92]، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض؟ قلت: نعم، ويحسن.
(لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) علة للنهى عن الاعتذار، لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا علم أنه مكذب وجب عليه الإخلال به، وقوله:(قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) علة لانتفاء تصديقهم، ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إن السبب في استئذانهم: رضاهم بالدناءة وخذلان الله إياهم): جعل الرضا والطبع سبباً واحداً للاستئذان، والظاهر أن قوله:(وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) كالتذييل لما سبق، فيكون الطبع سبباً للجهل المؤدي إلى الرضا بالدناءة والدعة، ويؤيده الفاء في قوله:(فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)، فالمجموع سبب لذلك المجموع، وهذا ظاهر على مذهب أهل السنة. وكذلك جعل القاضي كلاً من الرضا والطبع سبباً مستقلاً.
قوله: (إذا ما أتوك لتحملهم تولوا): فإن قلت: كيف يكون إتيانهم للحملان سبباً للتولي إذا لم يقيد بقوله: (لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ)؟ قلت: دل الإتيان للحملان على رغبتهم في التجهيز معه صلى الله عليه وسلم، ودل التولي على حرمانهم ما يرومونه، فصحت السببية.
قوله: ((قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ) علة لانتفاء تصديقهم): فهو علة للعلة، يعني: قوله: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) استئناف لبيان موجب (لا تَعْتَذِرُوا)، وقوله:(قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ) استئناف آخر لبيان موجب (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ)، كأنه لما قيل: لا تعتذروا،
لأنّ الله تعالى إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وأحوالهم وما في ضمائرهم من الشر والفساد، لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم.
(وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) أتنيبون أم تثبتون على كفركم، (ثُمَّ تُرَدُّونَ) إليه وهو عالم كل غيب وشهادة، وسر وعلانية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقيل: لِمَ لا نعتذر؟ قيل: لأنا لن نؤمن لكم، أي: لا نصدقكم في عذركم، فقيل: لِمَ لم تؤمنا لنا؟ قيل: لأن الله قد نبأنا مما في ضمائركم من الشر.
قوله: (الإعلام بأخبارهم وأحوالهم) ظاهره أن (مِنْ أَخْبَارِكُمْ) مفعول ثان لقوله: (نَبَّأَنَا اللَّهُ)، قال أبو البقاء:"هذا الفعل قد يتعدى إلى ثلاثة، أولها ضمير الجمع، والآخران محذوفان، تقديره: أخباراً من أخباركم مبينة، و (مِنْ أَخْبَارِكُمْ) تنبيه على المحذوف، وليس (مِنْ) زائدة؛ إذ لو كانت زائدة لكانت مفعولاً ثانياً والثالث محذوف، وهو خطأ، لأن المفعول الثاني إذا ذُكر في هذا الباب لزم ذكر الثالث".
قوله: (أتنيبون أم تثبتون): إشارة إلى أن قوله: (وَسَيَرَى اللَّهُ) بمعنى العلم، وقد أخذ أحد مفعوليه، ويقتضي الثاني، فيكون بمعنى قوله:(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)[هود: 7، والملك: 2]، وقد ذكر في سورة المُلك: أنه ليس بتعليق، والتقدير: سيرى الله عملكم أتنيبون عنه- أي: ترجعون - أم تثبتون عليه. والمعنى: سيعلم الله عملكم من الإنابة عن الكفر أو الثبات عليه علماً يتعلق به الجزاء.
فيجازيكم على حسب ذلك.
[(سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَاواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) 95].
(لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم، (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ): فأعطوهم طلبتهم، (إِنَّهُمْ رِجْسٌ) تعليل لترك معاتبتهم، يعنى: أنّ المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم، إنما يعاتب الأديم ذو البشرة، والمؤمن يوبخ على زلة تفرط منه، ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار، وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم، (وَمَاواهُمْ جَهَنَّمُ) يعنى: وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً، فلا تتكلفوا عتابهم.
[(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) 96].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فيجازيكم على حسب ذلك): يعني: وضع (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) موضع ضمير الله عز وجل ليدل على التهديد والوعيد، وأنه تعالى مطلعٌ على سركم علنكم لا يفوت عن علمه شيء من ضمائركم وأعمالكم، فيجازيكم على حسب ذلك.
قله: (فلا توبخوهم): نصب؛ عطف على قوله: لتعرضوا عنهم" على ووجه التسبب، أي: لتعرضوا فلا توبخوا: ذكر نحوه في قوله تعالى: (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ)[الأنعام: 52].
قوله: (إنما يُعاتب الأديم ذو البشرة): قال الميداني: "المعاتبة: المعاودة، وبشرة الأديم: ظاهره الذي عليه الشعر، أي: إنما يُعاد إلى الدباغ من الأديم ما سلمت بشرته، يُضرب لمن فيه مراجعة ومستعتب، قال الأصمعي: كل ما كان في الأديم متحمل ما سلمت البشرة، فإذا نغلت البشرة بطل الأديم".
(لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) أي: غرضهم في الحلف بالله طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم، (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم، وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها، وقيل إنما قيل ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين يقتضى رضا الله عنهم. وقيل: هم جد بن قيس، ومعتب بن قشير، وأصحابهما، وكانوا ثمانين رجلا منافقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة:"لا تجالسوهم ولا تكلموهم". وقيل: جاء عبد الله ابن أبىّ يحلف أن لا يتخلف عنه أبداً.
[(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 97].
(الْأَعْرابُ): أهل البدو (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) من أهل الحضر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((الأَعْرَابِ) أهل البدو): روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يؤكل من طعام الأعراب، فأهدت أم سنبلة لبناً، فناولت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب، فقالت عائشة رضي الله عنها: قد كنت نهيت عن طعام الأعراب؟ فقال: "إنهم ليسوا بالأعراب، إنهم أهل باديتنا، ونحن أهل حاضرتهم، وإذا دعوا أجابوا، فليسوا بالأعراب".
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم"، للعشاء.
النهاية: "في الحديث: "ثلاث من الكبائر"، منها: "التعرب بعد الهجرة": هو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجراً"، جعل المهاجر ضد الأعرابي.
لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء، ومعرفة الكتاب والسنة، (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا) وأحق بجهل حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام، ومنه قوله عليه السلام:"إن الجفاء والقسوة في الفدّادين".
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ): يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر، (حَكِيمٌ) فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم، ومخطئهم ومصيبهم، من عقابه وثوابه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأعراب: ساكنو البادية من العرب الذين لا يُقيمون في الأمصار، ولا يدخلونها إلا لحاجة. والعرب: اسم لهذا الجيل المعروف من الناس، ولا واحد له من لفظه، وسواء أقام البادية أو المدن، والنسبة إليه: أعرابي وعربي. وقال صاحب "المغرب": "العربي: واحد العرب، وهم الذين استوطنوا المدن والقرى، والأعراب: أهل البدو".
قوله: (لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم)، الأساس:"جفاني فُلان: فعل بي ما ساءني، وثوب جاف: غليظ، وهو من جفاة العرب".
قال الإمام: "إنما حكم عليهم بشدة الكفر والنفاق، لأنهم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدب، ولا ضبط ضابط، فنشؤوا كما شاؤوا، ومن أصبح وأمسى [مشاهداً] لوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبياناته الشافية، وتأديباته الكاملة، كيف يكون مساوياً لمن لم يؤاثر هذا الخير؟ ! فقابل الفواكه الجبلية بالبستانية لتعرف الفرق، ولشبههم بالوحوش، واستيلاء الهواء الحار اليابس الموجب لمزيد التكبر والنخوة".
روينا عن أحمد بن حنبل وأبي داود والترمذي النسائي عن ابن عباس: "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن".
قوله: (في الفدادين)، النهاية:"الفدادون - بالتشديد-: الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم، وقيل هم المكثرون من الإبل، وقيل: هم الجمالون والبقارون والحمارون والرعيان".
[(وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 98 - 99].
(مَغْرَماً): غرامة وخسراناً، والغرامة: ما ينفقه الرجل وليس يلزمه، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء، لا لوجه الله عز وجل، وابتغاء المثوبة عنده، (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) دوائر الزمان: دوله وعقبه؛ لتذهب غلبتكم عليه، ليتخلص من إعطاء الصدقة.
(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) دعاء معترض، دعا عليهم بنحو ما دعوا به، كقوله عز وجل:(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)[المائدة: 64].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (دوله وعقبه): جمع عقبة؛ النوبة. الأساس: "الدهر دول، والله يداول الأيام بين الناس؛ مرة لهم ومرة عليهم، والدهر دول وعقب ونوب، وتداولوا الشيء بينهم".
قوله: (دعا عليهم بنحو ما دعوا به، كقوله تعالى: (وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)[المائدة: 64]: "الانتصاف": "ما في هذه الآية زيادة مناسبة بآية المائدة، لأن الذي نُسب إليهم - انتظار الدوائر- مُطلق، ودعاؤه عليهم بدائرة السوء مقيد".
قلت: يكفي في تشبيهه به أن تكون المشاكلة من حيث اللفظ لا من حيث المعنى، كما قال هناك:"والطباق من حيث اللفظ"، على أن استعمال هذا اللفظ في الشر أكثر، لا سيما من أعداء الله، فإذن لا يكون مطلقاً، لكن في قول المصنف:"دعا عليهم بنحو ما دعوا به" بحث؛ لأن قوله: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ) لا دعاء فيه، بل هو إخبار، اللهم إلا أن يُقال: إن من تربص بغيره السوء لا يخلو من الدعاء عليه.
وقرئ: (السوء) بالضم، وهو العذاب، كما قيل له: سيئة، (والسوء) بالفتح، وهو ذمّ للدائرة، كقولك: رجل سوء، في نقيض قولك: رجل صدق، لأنَّ من دارت عليه ذامّ لها، (وَاللَّهُ سَمِيعٌ) لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة، (عَلِيمٌ) بما يضمرون.
وقيل: هم أعراب أسد وغطفان وتميم.
(قُرُباتٍ) مفعول ثان لـ (يتخذ)، والمعنى: أنّ ما ينفقه سبب لحصول القربات عند الله، (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ)، لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم، كقوله:"اللهم صل على آل أبى أوفي"، وقال تعالى:(وَصَلِّ عَلَيْهِمْ)[التوبة: 103]، فلما كان ما ينفق سبباً لذلك، قيل:(ويتخذ ما ينفق قربات .... وصلوات).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "السوء" بالضم): ابن كثير وأبو عمرو هنا وفي الفتح، والباقون: بفتحها.
قوله: (لأن من دارت عليه ذام لها): تعليل لتصحيح وصف الدائرة بالسوء، أي: الذم، لأنه من إضافة الموصوف إلى الصفة، كرجل صدقٍ وسوءٍ؛ للمبالغة والبيان، فإذن الدائرة مُطلقة، وإنما تتبين بالإضافة، فيصح أن يُقال أيضاً: دائرة صدق، قال في سورة الفتح:"فهي عندهم دائرة سوء، وعند المؤمنين دائرة صدق".
قوله: (اللهم صل على آل أبي أوفى): عن البخاري ومسلم وأبي داود عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أبي من أصحاب الشجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قومٌ بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته، فقال:"اللهم صل على آل أبي أوفى".
(أَلا إِنَّها) شهادة من الله للمتصدقين بصحة ما اعتقدوا، من كون نفقاتهم قربات، وتصديق لرجائهم، على طريق الاستئناف، مع حرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه، وكذلك (سَيُدْخِلُهُمُ) وما في "السين" من تحقيق الوعد.
وما أدل هذا الكلام على رضا الله عن المتصدقين، وأن الصدقة منه بمكان، إذا خلصت النية من صاحبها.
وقرئ: "قُرْبَةٌ"، بضم الراء.
وقيل: هم عبد الله وذو البجادين ورهطه.
[(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) 100].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (مع حرفي التنبيه والتحقيق)، أي:"ألا" و"إن".
قوله: (عبد الله ذو البجادين ورهطه): روى ابن عبد البر في "الاستيعاب": هو عبد الله بن عبد نهم المُزني، سُمي به لأنه حين أراد المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعت أمه بجاداً لها نصفين، فاتزر بواحدٍ منهما، وارتدى بالآخر. قال ابن هشام: إنما سُمي ذا البجادين لأنه كان يُنازع إلى الإسلام، فمنعه قومه، وكانوا يضيقون عليه، حتى تُرك في بجادٍ له ليس عليه غيرهن والبجاد: الكساء الغليظ الجافي، فهرب منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق بجاده نصفين، فاتزر بواحد، واشتمل بالآخر، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل له: ذو البجادين، فلما مات دفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:" [اللهم إني قد] أمسيت راضياً عنه، فارض عنه"، وكان عبد الله بن مسعود يقول: يا ليتني كنت صاحب الحفيرة".
(والسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ) هم الذين صلوا إلى القبلتين، وقيل: الذين شهدوا بدراً،
وعن الشعبي: من بايع بالحديبية، وهي بيعة الرضوان ما بين الهجرتين، (و) َمن (الْأَنْصارِ) أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير، فعلمهم القرآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((و) من (الأَنصَارِ): أهل بيعة العقبة): معطوف على قوله: "من المهاجرين"، وقوله:"والذين آمنوا حين قدم" معطوف على قوله: "أهل بيعة العقبة"، وهذا موضع يفتقر إلى فضل بسط لاشتماله على طبقات الصحابة رضوان الله عليهم، وقد اضطرب فيه كلام المصنف، فنقول- والله أعلم-.
لا يخلو من أن يفسر (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) بالذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصل لهم السبق بإدراكه وصحبته، فتكون (مِنَ) بيانية، أو بالذين سبقوا على بعضهم بما نالوا من الكرامة التي لم تحصل لغيرهم، وتكون (مِنَ) تبعيضية.
يؤيده ما روى محيي السنة والواحدي عن سعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين وجماعة: هُم الذين صلوا إلى القبلتين. وعن عطاء بن أبي رباح: هم أهل بدر. وعن الشعبي: من شهد بيعة الرضوان، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية.
وروى عن أبي صخر قال: أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له: ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: جميعُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، محسنهم ومسيئهم. فقلت: من أين تقول؟ قال: اقرأ (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) إلى أن قال: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)، (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) شرط في التابعين شريطة، وهو أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة. قال أبو صخر: فكأني لم أقرأ هذه الآية قط.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلى الأول: يُحمل (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) على التابعين الذين لم يلحقوا النبي صلوات الله عليه، كما روى محيي السنة عن بعضهم: هم الذين سلكوا سبيل الصحابة في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة.
وعلى الثاني: يحمل على الصحابة الذين لم تحصل لهم تلك المزايا والفضائل، روى محيي السنة أيضاً: هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين.
وروى ابن عبد البر في "الاستيعاب" عن الحسن قال: "حضر الناس باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب وأولئك الشيوخ من قريش، فخرج آذنه، فجعل يأذن لأهل بدر، كصهيب وبلال، فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط، إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد، ونحن جلوس لا يلتفت إلينا! فقال سهيل: أيها القوم، إني - والله -قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم، دُعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما والله لما سبقوكم به من الفضل اشد عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تنافستم فيه، ثم قال: أيها القوم، إن هؤلاء القوم قد سبقوكم بما ترون، ولا سبيل لكم إلى ما سبقوكم إليه، فانظروا هذا الجهاد فالزموه، عسى الله أن يرزقكم شهادة، ثم نفض ثوبه، فقام ولحق بالشام". فقال الحسن: "ويا له من رجل ما كان أعقله! وصدق والله، لا يجعل الله عبداً أسرع إليه كعبد أبطأ عنه". ولأن عمر رضي الله عنه كان يقدمهم في العطاء.
وهذا القول أظهر من الأول، وأجرى على تأليف النظم.
قال أبو البقاء: " (َالسَّابِقُونَ) يجوز أن يكون معطوفاً على قوله: (مَنْ يُؤْمِنُ)[التوبة: 99]، أي: ومنهم السابقون، ويجوز أن يكون مبتدأ، وفي الخبر ثلاثة أوجه: أحدها: (الأَوَّلُونَ)،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمعنى: والسابقون إلى الهجرة الأولون من أهل الملة، [أو]: والسابقون إلى الجنة الأولون إلى الهجرة. والثاني: الخبر (مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)، وفيه الإعلام بأن السابقين من هذه الأمة هم المهاجرون والأنصار. والثالث: أن الخبر رضي الله عنهم ".
وقلت: على الوجه الأول: رضي الله عنهم جملة مستأنفة على تقدير: ما السؤال عما يترتب على السبق، ويدخل على هذا تحت حكم الأعراب جميع من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ويشملهم رضوان الله. وعلى الوجه الثاني: يكون (وَالسَّابِقُونَ) عطف جملة على جملة، ويختص الرضوان بالسابقين والتابعين.
وعلى الجملة يحصل من النظم مراتب الصحابة على خمس طبقات؛ لأن السابقين: إما من المهاجرين وإما من الأنصار، والتابعين: إما منهما وإما من غيرهما.
وبناء لام المصنف على القول الثاني، لكن في لامه بحث، وكان من الواجب أن يجعل السابقين من المهاجرين: من هاجر الهجرتين ومن شهد بدراً والحديبية ومن صلى القبلتين، ومن الأنصار: من شهد العقبتين ومن شهد بدراً والحديبية ومن صلى القبلتين؛ لاشتراك الثلاثة الأخيرة فيهما.
وأما حديث من بايع بالحديبية: فقد رويناه عن مسلم والترمذي والدارمي والنسائي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن جابر في قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)[الفتح: 18]، قال:"بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لانفر، ولم نبايعه على الموت".
وعن مسلم: "سئل جابر: كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربعة عشر مئة، فبايعناه وعمر رضي الله عنه آخذ بيده تحت الشجرة، هي سمرة، فبايعناه، غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره". ورواية الدارمي نحو رواية مُسلم.
وأما حديث أهل بيعة العقبة الأولى: فعلى ما رواه ابن الجوزي رحمه الله في كتاب "الوفا": أنها كانت في سنة إحدى عشرة من النبوة، لقي ستة نفر من الخزرج، والعقبة الثانية في السنة المقبلة منها، لقي اثني عشر رجلاً من الأنصار فيها، فبايعوه.
وقد أثبتنا نُبذاً من القصة في أول البقرة، عند قوله:(الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ)[البقرة: 27].
وأما حديث مصعب بن عمير: فقد رواه ابن الجوزي: أن أهل البيعة الثانية لما انصرفوا بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُصعب بن عمير إلى المدينة يُفقه أهلها، ويقرئهم القرآن، فأسلم خلقٌ كثير.
قال صاحب "الجامع": هو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد امناف، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يُقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وهو أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل الهجرة.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما حديث الهجرة الأولى: فعلى ما رواه ابن الجوزي: أنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى أرض الحبشة، فقال: إن بها ملاً لا يظلم الناس، فتحرزوا عنده حتى يأتيكم الله بفرج منه، فخرج جماعة، وكان خروجهم في رجب من السنة الخامسة من النبوة، وخرجت قريش في آثارهم، ففاتوهم.
وعن عبد الله بن عُتبة، عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ونحن نحو من ثمانين رجلاً، وبعث قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، وقالا: إن نفراً من بني عمنا نزلوا بأرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا، فبعث إليهم، فقال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا خطيبكم اليوم، فلما دخلوا قيل له: لِمَ لا تسجد؟ فقال: إنا لا نسجد لغير الله.
وروينا في "مُسند أحمد بن حنبل" رضي الله عنه: "قال: فدعانا، قال جعفر: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، حتى بعث الله عز وجل إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله تعالى وتوحيده وعبادته، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وقذف المحصنات، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - وعدد عليه أمور الإسلام-، فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا، ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا خرجنا إلى بلدك، اخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله عز وجل؟ فقال جعفر: نعم، فقرأ عليه صدر من (كهيعص)[سورة مريم]، فبكى- والله - النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، فقال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى عليه السلام من مشكاة واحدة".
وقرأ عمر رضي الله عنه: "والأنصار" بالرفع؛ عطفا على (السابقون)، وعن عمر: أنه كان يرى أنّ قوله: (والأنصار وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) بغير واو، صفة للأنصار، حتى قال له زيد: إنه بالواو، فقال: ائتوني بأبي، فقال: تصديق ذلك في أول الجمعة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال ابن الجوزي: "قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم. قال: فما تقولون في عيسى ابن مريم عليه السلام؟ قال: نقول كما قال الله تعالى: هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر. قال: فرفع عُوداً من الأرض، وقال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على ما نقول فيه، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، فإنه الذي نجده في الإنجيل، وإنه الذي بشر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحملُ نعليه، وأمر بهدايا الآخرين فردت إليهما".
وأما الهجرة الثانية: فهي ما رويناه في "صحيح البخاري" عن ابن عباس: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين، فمكث ثلاث عشرة سنة، ثم أمر بالهجرة، فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، ثم توفي صلى الله عليه وسلم".
وأما تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة: فقد روى صاحب "الكامل": أنه في يوم الثلاثاء النصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من مقامه بالمدينة، وقيل: على رأس ستة عشر.
وفي هذه السنة وقعت غزوة بدر الكبرى في شهر رمضان، في سابع عشرة، وقيل: في تاسع عشرة، وكانت يوم الجمعة.
وفي سن ست من الهجرة كانت عمرة الحديبية، وفيها بيعة الرضوان.
فعُلم أن بيعة الرضوان لم تكن بين الهجرتين، كما نقله المصنف.
قوله: (تصديق ذلك في أول الجمعة): يعني: يشهد لما ذكرت من أن الواو لازم:
(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ)[الجمعة: 3]، وأوسط الحشر:(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ)[الحشر: 10]، وآخر الأنفال:(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ)[الأنفال: 75]. وروى: أنه سمع رجلا يقرؤه بالواو، فقال: من أقرأك؟ قال: أبىّ، فدعاه، فقال: أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنك لتبيع القرظ بالبقيع، قال: صدقت، وإن شئت قلت: شهدنا وغبتم، ونصرنا وخذلتم، وآوينا وطردتم. ومن ثم قال عمر: لقد كنت أرانا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا.
وارتفع "السابقون" بالابتداء، وخبره رضي الله عنهم، ومعناه: رضي عنهم لأعمالهم، (وَرَضُوا عَنْهُ) لما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية.
وفي مصاحف أهل مكة: "تجرى من تحتها"، وهي قراءة ابن كثير، وفي سائر المصاحف:
(تحتها)، بغير (من).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ)[الجمعة: 2] إلى قوله: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ)[الجمعة: 3]، كما في قوله:(وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)[الحشر: 10]، كذلك ينبغي أن يجري قوله:(وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ).
قوله: (لتبيع القرظ): القرظ: ورق السلم يدبغ به، ومنه: أديم مقروظ.
قوله: (كنت أرانا رُفعنا)، النهاية:"أُرى: فعلٌ لم يسم فاعله، من: رأيت، بمعنى: ظننت، وهو يتعدى إلى مفعولين، فإذا بنيته إلى ما لم يسم فاعله تعدى إلى مفعول واحد، فقلت: أرى زيداً". ومعنى كلامه رضي الله عنه: إني كنت أظن أن المهاجرين هم السابقون فقط، حيث جعل "الذين اتبعوهم بإحسان" صفة للأنصار، فإذا الأنصار مثلنا في الرفعة ومنخرطون في سلك السابقين الأولين، والآيات التي جاء بها أبي مستشهداً دالة على أن المراد بـ "التابعين" غير "الأنصار".
[(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) 101].
(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) يعنى: حول بلدتكم، وهي المدينة، (مُنافِقُونَ) وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار، كانوا نازلين حولها، (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عطف على خبر المبتدأ الذي هو"ممن حولكم"، ويجوز أن تكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدّرت: ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق، على أنّ (مَرَدُوا) صفة موصوف محذوف، كقوله:
أنَا ابْنُ جَلَا .....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أنا ابن جلا): تمامه:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
…
متى أضع العمامة تعرفوني
القائل سحيم بن وثيل الرياي، أي: أنا ابن رجل كشف الأمور وأوضحها، وقيل:"جلا" مصدر مقصور، وهو انحسار الشعر من الرأس، أي: أنا ابن من باشر الحروب، لان من أكثر وضع البيضة على رأسه انحسر شعره.
"طلاع الثنايا": أي: ثنايا الجبال، ويُقال: رجلٌ طلاع الثنايا وطلاع أنجد، أي: يقصد عظائم الأمور.
وعلى الوجه الأوّل: لا يخلو من أن يكون كلاما مبتدأ، أو صفة لـ (منافقون)، فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"متى أضع العمامة تعرفوني": أي: بالصفة المذكورة التي هي انحسار الشعر، التقدير: أنا ابن رجل يقال له: جلا.
قال ابن الحاجب في "الأمالي": "معنى البيت هو: أنني أرتكب الأهوال ولا أجبن عنها، وقوله: "متى أضع العمامة تعرفوني": إما أن يُريد به كثرة المباشرة للحرب، فلا يراه الأكثر إلا بغير عمامة، فقال: متى أضع العمامة يعرفني الذي ما رآني إلا غير متعمم، أو يريد: إني مُكثر لمباشرة الحرب ولباس عدة الحرب، فمتى أضع العمامة وألبس آلة الحرب تعرفوني، يعني: إني إذا حاربت عُرفت بإقدامي وشجاعتي.
وأما قوله: "جلا" ففيه غير قول، تقديره: أنا ابن رجل جلا، فحذف الموصوف وأقيم الصفة مقامهن وقيل: إن "جلا" علمٌ غلب على أبيه، وقيل: إنما أراد أنا ابن ذي جلا، والجلا: انحسار الشعر عن مقدم الرأس".
قوله: (وعلى الوجه الأول: لا يخلو من أن يكون كلاماً مبتدأ): فيكون قوله: "من أهل المدينة" مع ما عُطف عليه خبرين لقوله: (مُنَافِقُونَ)، و (مَرَدُوا): إما استئناف على تقدير: ما حالهم وما ديدنهم، وأجب:(مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ)، أو صفة. قال أبو البقاء: " (مَرَدُوا) صفة للمنافقين، وقد فصل بينهما بقوله:(وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) خبر مبتدأ محذوف،
(مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ): تمهروا فيه، من: مرن فلان عمله، ومرد عليه: إذا درب به وضرى عليه، حتى لان عليه ومهر فيه، ودلّ على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله:(لا تَعْلَمُهُمْ)، أي: يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك، لفرط تنوقهم في تحامى ما يشكك في أمرهم، ثم قال (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ)، أي لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطانا، ويبرزون لك ظاهرا كظاهر المخلصين من المؤمنين، لا تشك معه في إيمانهم، وذلك أنهم مردوا على النفاق، وضروا به، فلهم فيه اليد الطولي.
(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) قيل: هما القتل وعذاب القبر، وقيل: الفضيحة وعذاب القبر، وعن ابن عباس: أنهم اختلفوا في هاتين المرّتين، فقال:"قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال: "اخرج يا فلان فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق"، فأخرج ناسا وفضحهم"، فهذا العذاب الأوّل، والثاني عذاب القبر.
وعن الحسن: أخذ الزكاة من أموالهم، ونهك أبدانهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: من أهل المدينة قوم كذلك، (لا تَعْلَمُهُمْ) صفة أخرى، والعلم بمعنى المعرفة، يتعدى إلى مفعول واحد".
قوله: (إذا درب به وضري)، أي: مهر واعتاد.
قوله: (تنوقهم): تنوق: أي: تأنق، الأساس:"تنوق في الأمر، وفلان له نيقة. وفي المثل: خرقاء ذات نيقة، يُضرب لجاهل يدعي المعرفة".
قوله: (فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم: الفاء فصيحة، والتقدير: رُوي عن ابن عباس أنه قال: إن الصحابة اختلفوا فيهاتين المرتين على أقوال، وأنكر هذا الاختلاف، فقال: قام
…
(إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ): إلى عذاب النار.
[(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) 102].
(اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أي: لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا متذممين نادمين، وكانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان ابن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حرام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن ابن مسعود قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إن منكم منافقين، فمن سميت فليقم"، ثم قال "قم يا فلان"، حتى سمي ستة وثلاثين".
قوله: ((اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) - إلى قوله-: وكانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حرام): وفي هذا المقام اختلاف كثير بين المحدثين والمفسرين لا يكاد ينضبط.
أما أبو لبابة: فعلى ما ذكره صاحب "الاستيعاب" و"جامع الأصول": "هو أبو لبابة رفاعة بن عبد المنذر"، وأما أوس بن ثعلبة ووديعة بن حرام: فليس لهما ذكر في هذين الكتابين.
وقيل: كانوا عشرة، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لما بلغهم ما نزل في المتخلفين، فأيقنوا بالهلاك، فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل المسجد فصلى ركعتين، وكانت عادته صلى الله عليه وسلم كلما قدم من سفر، فرآهم موثقين، فسأل عنهم، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم، فقال:"وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أؤمر فيهم"، فنزلت، فأطلقهم وعذرهم، فقالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك، فتصدق بها وطهرنا، فقال:"ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً"، فنزلت:(خذ من أموالهم صدقة)[التوبة: 103].
(عَمَلًا صالِحاً): خروجا إلى الجهاد، (وَآخَرَ سَيِّئاً): تخلفا عنه. عن الحسن وعن الكلبي: التوبة والإثم.
فإن قلت: قد جعل كل واحد منهما مخلوطا، فما المخلوط به؟ قلت: كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به، لأنّ المعنى: خلط كل واحد منهما بالآخر، كقولك:"خلطت الماء واللبن"، تريد: خلطت كل واحد منهما بصاحبه، وفيه ما ليس في قولك:"خلطت الماء باللبن"، لأنك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذكر محيي السنة في "المعالم" عن ابن عباس أنه قال: كانوا عشرة منهم أبو لبابة. وروى عطية [عنه]: أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة، وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم: كانوا ثمانية، وقال قتادة والضحاك: كانوا سبعة، وقالوا جميعاً: أحدهم أبو لبابة.
قوله: (وكانت عادته): أي: كانت دخول المسجد للصلاة بعد القدوم عادته صلوات الله عليه، فأنث اسم "كان" باعتبار الخبر، كقوله: من كانت أمك؟
قوله: (وفيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن): أي: من أن كل واحد منهما مخلوط
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صريحاً ومخلوط به، بخلاف ما إذا جيء بالباء، قال صاحب "الانتصاف":"فإذا ذكرت الباء صرحت باختلاط أحد القسمين بالآخر، واختلاط الآخر به من جهة اللزوم، وبالواو صرحت بأن كل احد مخلوط، وكون كل واحد منهما مخلوطاً به مأخوذ من اللزوم، فقول الزمخشري: "هو بالواو يُفيد ما تفيده الباء وزيادة" بعيد، بل الوجه أنه ضمن (خَلَطُوا) معنى: عملوا".
وقال صاحب "التقريب": وفيه بحث؛ لأن كل واحد منهما إما أن يدل على الآخر أو لا؛ فإن لم يدل فلا نسلم كونهما مخلوطاً بهما في الأول، وإن دل لزم كونهما مخلوطين ومخلوطاً بهما في الثاني، ويمكن أن يقال: مقتضى الخلط ذكر الباء، ففي الأول لابد من تقدير المخلوط به، وهو إما أحد المذكورين أو غيرهما، والثاني منتفٍ بالأصل وبالقرينة، وكذا بالعكس، فتعين الآخر، فكل واحد مخلوط به لتوفر مقتضى الخلط ومخلوط صريحاً، وأما الثاني- وهو ما ذُكر الباء معه- فقد وفد على الخلط ما يقتضيه، ولا ضرورة تُلجيء إلى جعل الآخر مخلوطاً به، ولا يلزم أن يكون مخلوطين لوجود الباء، ولا مخلوطاً بهما لعدم شمول الباء لهما، بل أحدهما مخلوط والآخر مخلوط به، كما هو صريح اللفظ، فالأول أبلغ، وهو المطلوب.
وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما، كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء، ويجوز أن يكون من قولهم: بعت الشاة شاة ودرهما، بمعنى: شاة بدرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: يلزم من الأول خلطان صريحاً، ومن الثاني خلط واحد، على ما قال صاحب "المفتاح":" (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً) بسيء (وَآخَرَ سَيِّئاً) بصالح، لأن الخلط يستدعي مخلوطاً ومخلوطاً به، أي: تارة أطاعوا وأحبطوا الطاعة بكبيرة، وأخرى عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة".
وقلت: الحبوط مذهبه، مع أنه دفع لا خلط.
قوله: (شاة ودرهماً): عن سيبويه: الواو في "ودرهماً" بمعنى الباء، أي: بدرهم، لأن الواو للجمع، والباء للإلصاق، والجمع والإلصاق من باب واحد. قاله شارح "الكتاب".
وقال ابن الحاجب: "بعت الشاة شاة ودرهماً: أصله: شاة بدرهم، أي: شاة مع درهم، ثم كثر ذلك فنصبوا "شاة" نصب "يداً"، ثم أبدلوا من باء المصاحبة واواً، وإذا أُبدلت باء المصاحبة واواً وجب أن يُعرب ما بعدها بإعراب ما قبلها، كقولهم: كل رجلٍ وضيعته، وقلهم: امرأ ونفسه".
فإن قلت: كيف قيل: (أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وما ذكرت توبتهم؟ قلت: إذا ذكر اعترافهم بذنوبهم، وهو دليل على التوبة، فقد ذكرت توبتهم.
[(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) 103].
(تُطَهِّرُهُمْ) صفة لـ (صدقة)، وقرئ:"تطهرهم"، من أطهره، بمعنى: طهره. و"تطهرهم"، بالجزم جوابا للأمر. ولم يقرأ "وَتُزَكِّيهِمْ" إلا بإثبات الياء. والتاء في "تُطَهِّرُهُمْ" للخطاب أو لغيبة المؤنث، والتزكية: مبالغة في التطهير وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال، (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) واعطف عليم بالدعاء لهم وترحم، والسنة أن يدعو المصدّق لصاحب الصدقة إذا أخذها، وعن الشافعي رحمه الله: أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة: "أجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولم يُقرأ (وَتُزَكِّيهِمْ) إلا بإثبات الياء): أي: ولم يقرأ أحد من الأئمة السبعة إلا بإثبات الياء، وقرأ مسلمة بن محارب في الشواذ بدون الياء، ووجه إثبات الياء أنه استئناف، كما في قوله تعالى:(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ)[الحج: 5]، أي: نحنُ نقر، فكذا هاهنا، أي: هي تزكيهم. قاله السجاوندي.
قوله: (والتاء في (تُطَهِّرُهُمْ) للخطاب أو لغيبة المؤنث): قال أبو البقاء: " (تُطَهِّرُهُمْ) نصب صفة لـ (صَدَقَةً)، ويجوز أن يكون مستأنفا، والتاء للخطاب، أي: تطهرهم أنت، (وَتُزَكِّيهِمْ) التاء للخطاب لا غير، لقوله:(بها)، ويجوز أن يكون قوله:(تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) في موضع نصب صفة لـ (صَدَقَةً)، مع قولنا: إن التاء فيهما للخطاب، لأن قوله:(تُطَهِّرُهُمْ) تقديره: بها، ودل عليه (بها) الثانية، على أن يكون من باب التنازع، وإذا كان
وقرئ: (إنّ صلاتك)، على التوحيد.
(سكن لهم) يسكنون إليه، وتطمئنّ قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم، (وَاللَّهُ سَمِيعٌ) يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم، (عَلِيمٌ) بما في ضمائرهم من الغم من الندم لما فرط منهم.
[(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَاخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) 104].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيها ضمير الصدقة جاز أن يكون صفة لها، ويجوز أن تكون الجملتان حالاً من ضمير الفاعل في (خُذُ) "، وذكر الزجاج نحوه.
قوله: (وقرئ: (إِنَّ صَلاتَكَ) على التوحيد): حفص وحمزة والكسائي.
قوله: ((سَكَنٌ لَهُمْ): يسكنون إليه)، الراغب:"السكون" ثبوت الشيء بعد تحرك، ويستعمل في الاستطيان، نحو: سكن مكان كذا، أي: استوطنه، واسم المكان: مسن، قال تعالى:(فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ)[الأحقاف: 25]، وقال:(وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)[الأنعام: 13]، وقال:(جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ)[القصص: 73]، فيُقال من الأول: سكنته، ومن الثاني: أسكنته، والسن: السكون وما يسكن إليه، قال:(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً)[النحل: 80]، وقال:(إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ)[التوبة: 103]، والسكنى: أن يُجعل له السكون في دار بغير أجرة".
قرئ: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) بالياء والتاء، وفيه وجهان:
أحدهما: أن يراد المتوب عليهم، يعنى: ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم (أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) إذا صحت، ويقبل الصدقات إذا صدرت عن خلوص النية، (وهو) للتخصيص والتأكيد، وأن الله تعالى من شأنه قبول توبة التائبين.
وقيل: معنى التخصيص في (هو): أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الله هو الذي يقبل التوبة ويردّها، فاقصدوه بها، ووجهوها إليه.
[(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) 105].
(وَقُلِ) لهؤلاء التائبين: (اعْمَلُوا) فإن عملكم لا يخفى، خيراً كان أو شراً، على الله وعباده، كما رأيتم وتبين لكم.
والثاني: أن يراد غير التائبين؛ ترغيباً لهم في التوبة، فقد روى أنهم لما تيب عليهم ........
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قرئ: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) بالياء والتاء): بالياء التحتانية: السبعة، وبالتاء شاذة.
قوله: (و (هو) للتخصيص): أي: لفظة (هُوَ) مفيدة للتخصيص والتأكيد، وأن الله من شأنه قبول توبة التائبين، مثال للتخصيص والتأكيد معاً، يعني: لابد أن يقبل التوبة، ولا يكون خلافه ألبتة، لأن من شأنه وعادته سبحانه وتعالى أن يفعله ولا يتركه، وذلك أن الضمير المرفوع للفصل أو للتأكيد، ثم في قوله:(يَقْبَلُ) ضمير يرجع إلى المسند إليه، فيزيد الحكم به تأكيداً.
قوله: (والثاني أن يُراد غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة): فعلى الأول: الكلام مع
قال الذين لم يتوبوا: هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا، لا يكلمون ولا يجالسون، فما لهم، فنزلت.
فإن قلت: فما معنى قوله: (وَيَاخُذُ الصَّدَقاتِ)؟ قلت: هو مجاز عن قبوله لها، وعن ابن مسعود "إن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل"، والمعنى: أنه يتقبلها ويضاعف عليها، وقوله (فَسَيَرَى اللَّهُ) وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التائبين، والاستفهام في (أَلَمْ يَعْلَمُوا) لاستبطاء توبتهم، ولذلك قدر:"ألم يعلموا قبل أن يُتاب عليهم"، ولم يُقدر في الثاني، لأن المراد ترغيب من استمر علمه، فالاستفهام للتقرير والتوبيخ.
قوله: (قال الذين لم يتوبوا: هؤلاء الذين كانوا [بالأمس] معنا): يعني: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) استفهام على سبيل التقرير، والجملة مفصولة على الاستئناف، فإنه تعالى لما قسم الأعراب المتخلفين أقساماً؛ منهم المنافقون ومنهم التائبون ومنهم المرجون، وذكر توبة التائبين بقوله:(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ)[التوبة: 102]، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الصدقات منهم أمارة لقبول التوبة، قرر لهم ذلك المعنى بقوله:(أَلَمْ يَعْلَمُوا)[التوبة: 104]، يعني: أما تقرر عندهم قبل أن يتوب الله عليهم أن الأمر على هذا، أقرر المعنى لغير التائبين منهم، ترغيباً لهم في التوبة، ثم أتبعه بقوله:(وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ)؛ ترهيباً لهم ووعيداً من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة. وهذا الوجه أوفق من الأول، لأن الوعيد بقوله:(فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) لا يليق بالتائبين المأمور بقبول صدقاتهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (إن الصدقة تقع في يد الله): روينا عن مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
[(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 106].
قرئ: (مرجون) و (مرجؤن)؛ من أرجيته. وأرجأته: إذا أخرته، ومنه المرجئة، يعنى: وآخرون من المتخلفين موقوف أمرهم، (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) إن بقوا على الإصرار ولم يتوبوا، (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)
إن تابوا، وهم ثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع،
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم، ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شدّ أنفسهم على السواري، وإظهار الجزع والغم، فلما علموا أنّ أحداً لا ينظر إليهم فوّضوا أمرهم إلى الله، وأخلصوا نياتهم، ونصحت توبتهم، فرحمهم الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"ما تصدق أحدٌ بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كف الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل، كما يُربي أحدكم فلوه وفصيله"، ورواه البخاري مع تغيير فيه.
قوله: (وقرئ: (مُرْجَوْنَ) و"مُرجَؤون"): ابن كثير وأبو بكر وابن عامر وأبو عمرو: (مُرجَؤون)، والباقون: بغير همز.
قوله: (ومنه المُرجِئة): وهم الذين لا يقطعون على أهل الكبائر بشيء من عقوبة أو عفو، بل يؤخرون الحكم في ذلك إلى يوم القيامة، يُقال: أرجأت الأمر وأرجيته - بالهمز أو الياء-: إذا أخرته.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وفي قراءة عبد الله: "غفور رحيم"، (وإمّا) للعباد، أي: خافوا عليهم العذاب، وارجوا لهم الرحمة.
[(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) 107 - 108].
في مصاحف أهل المدينة والشام: (الذين اتخذوا) بغير واو؛ لأنها قصة على حيالها؛ وفي سائرها بالواو؛ على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (و (إمَّا) للعباد): أي لفظةُ (إمَّا) لشك العباد، قال الزجاج:" (إمَّا) لوقوع أحد الشيئين، والله عز وجل عالم بما يصير إليه أمرهم، إلا أن هذا للعباد، خُوطبوا بما يعلمون، فالمعنى: ليكن أمرهم عندكم على هذا في الخوف والرجاء"، وهو المراد بقوله:"خافوا عليهم العذاب وارجوا لهم الرحمة" على الأمرين.
وقال الإمام: "فجعل أناس يقولون: هلكوا إن لم يُنزل الله لهم عُذراً، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم"، وقال القاضي:"وفيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادة الله تعالى". فعلى هذا: (إمَّا) لترديد الأمر بحسب المشيئة، لا بشك العباد، وهو مثلُ "أو" التنويعية.
قوله: (في مصاحف أهل المدينة والشام: "الذين اتخذوا" بغير واو): وكذا قرأ نافع وابن عامر.
روي: أنّ بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم، فأتاهم فصلى فيه، فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف، وقالوا: نبنى مسجداً، ونبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فيه، ويصلى فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوتهم، وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلما انهزمت هوازن خرج هارباً إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين: أن استعدّوا بما استطعتم من قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر، وآت بجنود، ومخرج محمداً وأصحابه من المدينة.
فبنوا مسجداً بجنب مسجد قباء، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، ونحن نحب أن تصلى لنا فيه، وتدعو لنا بالبركة، فقال:"إني على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا- إن شاء الله - صلينا فيه"، فلما قفل من غزوة تبوك، سألوه إتيان المسجد، فنزلت عليه.
فدعا بمالك بن الدخشم، ومعن بن عدى، وعامر بن السكن، ووحشي قاتل حمزة، فقال لهم:"انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه"، ففعلوا، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين.
(ضِراراً): مضارّة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ومعازة، (وَكُفْراً): وتقوية للنفاق، (وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء، فيغتص بهم، فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فيغتص بهم): أي: يمتلئ بهم. الأساس: "المسجد غاص بأهله، وأغص الأرض علينا، فغصت بنا".
(وَإِرْصاداً): وإعداداً لأجل لمَنْ (حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وهو الراهب، أعدوه له ليصلى فيه، ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله، أو بمال غير طيب: فهو لاحق بمسجد الضرار.
وعن شقيق: أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر، فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد، فقال: لا أحب أن أصلى فيه، فإنه بني على ضرار، وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة، فإنّ أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً.
وعن عطاء: لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه، أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين، يضارّ أحدهما صاحبه.
فإن قلت: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) ما محله من الإعراب؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((وَإِرْصَاداً): وإعداداً)، الراغب:"الرصد: الإعداد للترقب، يقال: رصد وترصد وأرصدته له، قال تعالى: (وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر: 14]، تنبيهاً أنه لا ملجأ ولا مهرب. المرصد: موضع الرصد، والمرصاد: نحوه، كن يقال للمكان الذي اختص بالترصد".
قوله: (أنه لم يُدرك الصلاة): يعني: كان من عادة شقيق أن يُصلي في مسجد بني عامر بالجماعة، وقد اتفق يوماً أنه لم يدرك الجماعة فيه، فقيل له: مسجد بني فُلان لم يصلوا فيه، أي: لم يقيموا فيه الجماعة، فهلا تصلي فيه بالجماعةن فأجاب بما أجاب.
قوله: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) ما محله من الإعراب؟ ): هذا السؤال مبني على ما ذكره أولاً: "أن قوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا) إذا رُوي بالواو: هو عطف قصة مسجد الضرار الذي
قلت: محله النصب على الاختصاص، كقوله:(الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ)[النساء: 162]، وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، معناه: وفيمن وصفنا الذين اتخذوا، كقوله (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) [المائدة: 38].
فإن قلت: بم يتصل قوله: (مِنْ قَبْلُ)؟ قلت: بـ (اتخذوا)، أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف.
(إِنْ أَرَدْنا): ما أردنا ببناء هذا المسجد (إِلَّا): إلا الخصلة (الْحُسْنى)، أو الإرادة الحسنى، وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين.
(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) قيل: هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى فيه أيام مقامه بقباء، وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وخرج يوم الجمعة .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحدثه المنافقون على سائر قصصهم، وبغير الواو: على أنها قصة على حيالها". وعلى هذا ينبغي أن يكون جملة، وهو مفرد، فلابد من تقدر ما تتم به جملة، وما ذلك؟
وأجاب: إن أريد بإيرادها الذم - لأنها أفظع القصص -فتكون نصباً على الاختصاص، كما أن قوله:(وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ)[النساء: 162] أفضل الصفات، فقطع لذلك، وإن أُريد مجرد العطف فتكون رفعاً؛ على أنه مبتدأ خبره محذوف.
قوله: (أي: اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف): يريد: أن هذه الآية متصلة بقوله تعالى: (وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَاذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) [التوبة: 86 - 87].
وهو أولى، لأنّ الموازنة بين مسجدي قباء أوقع. وقيل: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وعن أبى سعيد الخدري: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأخذ حصباء فضرب بها الأرض وقال:"هو مسجدكم هذا" لمسجد المدينة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يشهد له سبب النزول، وهو قوله:"فبنوا مسجداً بجنب مسجد قُباء، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن نحب أن تصلي لنا فيه، قال: "إني على جناح سفر، وإذا قدمنا، إن شاء الله تعالى، صلينا فيه"، فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد، فنزلت"، إلى آخره.
وعن محيي السنة: " (مِنْ قَبْلُ): يرجع إلى أبي عامر، يعني: قوله: (حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) من قبل أن يُبنى مسجد الضرار، والمحارب هو أبو عامر الفاسق، لأنه لم يزل يُقاتل إلى يوم حنين".
قوله: (لأن الموازنة بين مسجدي قباء أوقع): يعني: إذا جعلنا المسجد مسجد قُباء، ولم نجعله مسجد المدينة، كان أنسب؛ لأن كلا المسجدين مبنيان في قُباء، وبانيهما إخوان؛ بنو عمرو بن عوف، وبنو غنم بن عوف.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: بل الأنسب ما نص عليه صلوات الله عليه، على ما روينا عن مسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد: قلت: يا رسول الله، أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء، فضرب به الأرض، ثم قال:"هو مسجدكم هذا"، لمسجد المدينة.
وفي رواية الترمذي والنسائي: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو مسجدي هذا".
وأما بيان حقيقة الموازنة: فإن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالوصف بالتقوى من أول يوم من مسجد قباء، لأن هذا الوصف وقع مقابلاً لقوله:(ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، وكل ما يقابل هذه الأوصاف مفقود في مسجد قُباء، موجود في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن التعبير بالقيام عن الصلاة- في قوله:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) - يستدعي المداومة، كما مر في أول البقرة، يعضده توكيده المنهي بقوله:(أَبَداً)، ومداومة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تُوجد إلا في مسجده صلوات الله عليه.
وأما ما جاء عن الترمذي وأبي داود عن أبي هريرة قال: "نزلت هذه الآية في أهل قُباء: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)، وكانوا يستنجون بالماء، فنزلت".
وعن ابن ماجه عن أبي أيوب وجابر وأنس: أن هذه الآية لما نزلت: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الأنصار، إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فما طهوركم؟ " قالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنتجي بالماء، قال:"هو ذاك، فعليكموه".
وكلام أبي هريرة لا يعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث جابر وأنس وأبي أيوب محتمل، بل هو إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب.
(مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ): من أول يوم من أيام وجوده.
(فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) قيل: لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس، فقال:"أمؤمنون أنتم؟ " فسكت القوم، ثم أعادها، فقال عمر: يا رسول الله، إنهم لمؤمنون وأنا معهم. فقال صلى الله عليه وسلم:"أترضون بالقضاء؟ " قالوا: نعم، قال:"أتصرون على البلاء؟ " قالوا: نعم .........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على أنه لا يبعد أن يحمل التطهر على الطهارتين الظاهرة والباطنة، كما قال القاضي:"الطهارة من المعاصي والخصال المذمومة [طلبا] لمرضاة الله تعالى". هذا أوفق للنظم والتعريض بأن أصحاب الضرار على خلاف ذلك، والله أعلم.
قوله: (من أول يوم من أيام وجوده): أي: حين وُجد وأسس كان مبنياً على التقوى، قال الزجاج:(مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ): دخلت "مِن" في الزمان، والأصل "منذ" و"مُذ"، وهو أكثر الاستعمال في الزمان، و"مِن" جائزٌ دخولها أيضاً، لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، قال زُهير:
لِمَنِ الديار بقنة الحجر
…
أقوين من حجج ومن شهر
قال: "أتشكرون في الرخاء؟ " قالوا: نعم. قال: صلى الله عليه وسلم: "مؤمنون ورب الكعبة"، فجلس، ثم قال:"يا معشر الأنصار، إن الله عز وجل قد أثنى عليكم، فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط"، فقالوا يا رسول الله، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم (فيه رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا).
وقرئ: "أن يطهروا"، بالإدغام، وقيل: هو عام في التطهر من النجاسات كلها. وقيل:
كانوا لا ينامون الليل على الجنابة، ويتبعون الماء أثر البول. وعن الحسن: هو التطهر من الذنوب بالتوبة. وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم، فحموا عن آخرهم.
فإن قلت: ما معنى المحبتين؟ قلت: محبتهم للتطهر: أنهم يؤثرونه، ويحرصون عليه حرص المحب للشيء المشتهى له على إيثاره، ومحبة الله تعالى إياهم: أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم، كما يفعل المحب بمحبوبه.
[(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) 109].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال أبو البقاء: " (أَوَّلِ) يتعلق بـ (أُسِّسَ)، والتقدير عند البصريين: من تأسيس أول يوم، لأنهم يرون أن "مِن" لا تدخل على ابتداء الزمان، وأن ذلك لـ"مُنذ"، وهو ضعيف، لأن التأسيس المقدر ليس بمكان حتى تكون "مِن" لابتداء الغاية، ويدل على جواز دخول "مِن" على الزمان ما جاء في القرآن من دخولها على (قبل) و (بعد) ".
قوله: (المشتهى): بالفتح، فالضمير المستتر يعود إلى اللام، والمجرور في (لَهُ) إلى "المحب"، وجاز "المشتهي" بالكسر، فالمجرور يعود إلى "الشيء"، والمستتر يعود إلى اللام.
قرئ: (أَسس بنيانه)، و (أُسس بنيانه)، على البناء للفاعل والمفعول، و (أسس بنيانه)، جمع "أساس" على الإضافة، و"أساس بنيانه، بالفتح والكسر؛ جمع "أس"، و"أساس بنيانه"؛ على "أفعال"، جمع "أس" أيضا، و"أس بنيانه".
والمعنى: أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه، (خَيْرٌ أَمْ مَنْ) أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل (شَفا جُرُفٍ هارٍ) في قلة الثبات والاستمساك، وضع "شفا الجرف" في مقابلة "التقوى"، لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قرئ: (أَسَّسَ بُنْيَانَهُ) و"أسس بنيانه"): قرأ نافع وابن عامر "أسس بنيانه"؛ بضم الهمزة وكسر السين ورفع النون، والباقون: بفتح الهمزة واسين ونصب النون من (بُنْيَانَهُ).
قوله: (والمعنى: أفمن أسس بنيان دينه): قال الواحدي: "البنيان: مصدر يراد به المبني هاهنا، والتأسيس: إحكام أُسِّ البناء، وهو أصله، المعنى: المؤسس بنيانه متقياً يخاف الله ويرجو ثوابه ورضوانه". تم كلامه.
اعلم أن أصل المعنى أن يُقال: أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة خير أم من أسس النبيان على قاعدة ضعيفة رخوة، ثم: أفمن أسس بنيان دينه على الحق خير أم من أسس بنيان دينه على الباطل، لأن الحق هو الثابت الذي لا يزول، والباطل بخلافه. فوضع موضع الحق "التقوى"، لأن التقوى تستلزم الحق، وموضع الباطل:(شَفَا جُرُفٍ هَارٍ)، على إرادة ما يُضاد التقوى، يصح التقابل، لأن ما يُضاد التقوى مستلزم للباطل.
فإن قلت: فما معنى قوله: (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ)؟ قلت: لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل، قيل:(فانهار به في نار جهنم)، على معنى: فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز، فجيء بلفظ "الانهيار" الذي هو للجرف،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فما معنى قوله: (فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)؟ ) يعني: حين جعلت (شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) مجازاً عما يُنافي التقوى، فأي مناسبة بينه وبين قوله:(فَانْهَارَ)؟
وأجاب: أنه متفرع على التشبيه، لأنه صفة ملائمة للمستعار منه ترشيحاً للاستعارة، ولما كان مبني الترشيح على تناسي التشبيه رأساً، وعلى صرف النفس عن توهمه أصلاً، قال:"وليُصور أن المبطل كأنه أسس بنياناً على شفا جُرفٍ من أودية جهنم، فانهار به ذلك الجرف، فهوى في قعرها".
قال القاضي: " (شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) في مقابلة التقوى، وترشيحه بانهياره في النار في مقابلة الرضوان؛ تنبيهاً على أن تأسيس ذاك على أمر يحفظه عن النار، ويوصله إلى رضوان الله ومقتضياته التي الجنة أدناها، وتأسيس هذا على ما هم بسببه على صدد الوقوع في النار ساعة فساعة، ثم إن مصيرهم إلى النار لا محالة".
وقلت: تمام تقريره: أنه قوبل (عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ) - المراد من قصد المؤمنين في تأسيسهم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، المنجح لمقاصدهم؛ من الظفر والنصرة في الدنيا، والفلاح بالعقبى، وهو الحق الثابت الواجب، المشبه بالقاعدة المحكمة القوية على الاستعارة المكنية- بقوله:(شَفَا جُرُفٍ هَارٍ)، وهو عزم المنافقين فيما أضمروا في تأسيسهم من الكيد بالمؤمنين، ثم خيبتهم فيما عزموا عليه، وهوا لباطل الزائل، المشبه بالقاعدة الرخوة الواهية.
وليصور أنّ المبطل كأنه أسس بنيانا على شفا جرف من أودية جهنم، فانهار به ذلك الجرف، فهوى في قعرها.
والشفا: الحرف والشفير، وجرف الوادي: جانبه الذي يتحفر أصله بالماء، وتجرفه السيول فيبقى واهيا، والهار: الهائر، وهو المنصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط، ووزنه "فعل"؛ قصر عن "فاعل"، كخلف، من: خالف، ونظيره: شاك وصات، في: شائك وصائت، وألفه ليست بألف "فاعل"، إنما هي عينه، وأصله هور وشوك وصوت. ولا ترى أبلغ من هذا الكلام، ولا أدلّ على حقيقة الباطل وكنه أمره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم فرع على المستعار له "الرضوان" تجريداً، كما فرع على المستعار منه "الانهيار" ترشيحاً، وكلا التفريعين منبئان عن أقصى الدرجات وأبعد الدركات، وقوبل الواو في (وَرِضْوَانٍ) بالفاء في (فَانْهَارَ)، وكلا التفريعين منبئان عن استعارتين، للدلالة على أن التقوى تقتضي مسببات خارجة عن الحد والعد، وهو على منوال:(حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)[الزمر: 71]، و (إِذَا جَاءُوهَا وفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) [الزمر: 73].
قوله: (وليُصوِّر): عطف على محذوف، يعني: لما أراد أن يُقال: فطاح به، رشح المجاز وقال:(فَانْهَارَ)، ليكون أبلغ، وليصور أن المبطل.
قوله: (والشفا: الحرف)، الراغب:"شفا البئر والنهر: طرفه، ويُضرب به المثل في القرب من الهلكة، قال تعالى: (وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا) [آل عمران: 103]، وأشفى على الهلاك، أي: حصل على شفاه، وتثنيته: شفوان، والفاء من المرض: موافاة شفا السلامة، وصار اسماً للبرء".
قوله: (وأصله: هورٌ): قال الزجاج: "ومعنى (هَارٍ): هائر، وهذا من المقلوب، كما قالوا: شاك السلاح، يريدون: شائك".
وقرئ: (جرف). بسكون الراء.
فإن قلت: فما وجه ما روى سيبويه عن عيسى بن عمر: "على تقوى من الله"، بالتنوين؟ قلت: قد جعل الألف للإلحاق لا للتأنيث، كتترى؛ فيمن نوّن، ألحقها بـ"جعفر". وفي مصحف أبىّ:
"فانهارت به قواعده".
وقيل: حفرت بقعة من مسجد الضرار، فرئي الدخان يخرج منه. وروى: أن مجمع ابن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراغب: "هار البناء وتهور: سقط، وقرئ: (شفا جرف هائر)، يُقال: بئر هارٍ وهائر ومنهار، ويُقال: انهار فلان: إذا سقط من مكان عال، ورجل هار وهائر: ضعيف في أمره؛ تشبيهاً بالبئر الهائر".
قوله: (وقرئ "جُرف" بسكون الراء): ابن عامر وحمزة وأبو بكر، والباقون: بضمها.
قوله: (قد جعل الألف للإلحاق، لا للتأنيث): قال ابن جني: "حكى ابن سلام: قال سيبويه: كان عيسى بن عمر يقرأ (على تقوى من الله)، قلت: على أي شيء نون؟ قال: لا أدري ولا أعرفه، قلت: فهل نون أحد غيره؟ قال: "لا". قال ابن جني: "أما التنوين فإنه وإن كان غير مسموع إلا في هذه القراءة، فإن قياسه أن تكون الألف للإلحاق لا للتأنيث، كتترى، فيمن نون، وجعلها ملحقة بجعفر". ثم قال:"أما قول سيبويه: "لم يقرأ بها أحد"، فجائز يعني: ما سمعه، لكن لا عُذر له في أن يقول: لا أدري، لأن قياس ذلك أخف وأسهل على ما قلنا من أن تكون ألفه للإلحاق".
قوله: (رُوي أن مُجمع بن حارثة): "مُجمع": بفتح الميم الثاني مُشدداً، "حارثة": بالحاء المهملة
فكلم بنو عمرو بن عوف - أصحاب مسجد قباء - عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته: أن يأذن لمجمع يؤمّهم في مسجدهم، فقال: لا، ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علىّ، فوالله لقد صليت بهم، والله يعلم أنى لا أعلم ما أضمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئاً للقرآن، وكانوا شيوخا لا يقرؤون من القرآن شيئا، فعذره وصدّقه، وأمره بالصلاة بقومه.
[(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) 110].
(رِيبَةً): شكا فى الدين ونفاقا، وكان القوم منافقين، وإنما حملهم على بناء ذلك المسجد كفرهم ونفاقهم، كما قال عز وجل:(ضِراراً وَكُفْراً)[التوبة: 107]، فلما هدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا - لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم - تصميما على النفاق، ومقتاً للإسلام، فمعنى قوله:(لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ):
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والثاء المثلثة في نُسخ "الكشاف"، والرواية في "جامع الأصول":"مُجمع بن حارثة- ويُقال: ابن جارية- بن عامر الأنصاري، وكان أبوه منافقاً من أهل مسجد الضرار، وكان مُجمع مستقيماً، وكان قارئاً".
"مُجمع": بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الميم الثانية وسرها وبالعين المهملة، و"جارية": بالجيم والياء تحتها نقطتان والراء: نحوه في "الاستيعاب".
قوله: (ولا نعمة عين): النعمة مصدر سماعي بمعنى الإنعام، الجوهري:"نُعمة العين - بالضم-: قرتها، ويُقال: نُعمَ عين، [ونعام عين]، ونعامة عين، ونعمة عين، ونعمى عين، كله بمعنى، أي: أفعل ذلك كرامة لك وإنعاماً لعينك وما أشبهه".
لا يزال هدمه سبب شكّ ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم، لا يزول وسمه عن قلوبهم، ولا يضمحلّ أثره "إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ" قطعاً، وتفرّق أجزاء، فحينئذ يسلون عنه، وأمّا ما دامت سالمة مجتمعة، فالريبة باقية فيها متمكنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم): قال الإمام: "لما صار بناء ذلك البنيان سبباً لحصول الريبة في قلوبهم، جعل نفس ذلك البنيان ريبة، وفيه وجوه: أحدها: أن المنافقين عظم فرحهم ببناء المسجد، فلما أمرهم بتخريبه ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وارتيابهم في نبوته. وثانيها: أنه لما أمر بتخريبه ظنوا أن ذلك للحسد، فارتفع أمانهم عنه، وعظم خوفهم، فارتابوا في أنه هل يتركوا على ما هم فيه، أو يؤمر بقتلهم ونهب أموالهم؟ وثالثها: اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء، فلما أمر بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه. والصحيح هو الأول".
وقلت: يمكن أن يرجح المعنى الثاني على أن الريبة محمولة على موضوعها الأصلي، قال الراغب:"الريبة: اسم من الريب"، وقال المصنف في قوله تعالى:(لا رَيْبَ فِيهِ)[البقرة: 2]: "الريب مصدر: رابني، إذا حصل فيك الريبة، وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها، ومنه: ريب الزمان، وهو ما يُقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه".
المعنى: لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سبباً للقلق والاضطراب والوجل في الصدور، والشخوص في القلوب، إلى أن تقطع قلوبهم ما قال، فارتفع أمانهم عنه، وعم خوفهم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، والله تعالى أعلم.
فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها، وما هو كائن منه بقتلهم، أو في القبور، أو في النار.
وقرئ: "يقطع"، بالياء، و"تقطع"، بالتخفيف، و (تقطع)، بفتح التاء؛ بمعنى تتقطع،
و"تقطع قلوبهم"، على أن الخطاب للرسول، أي: إلا أن تقطع أنت قلوبهم بقتلهم. وقرأ الحسن:
"إلى أن"، وفي قراءة عبد الله:"ولو قطعت قلوبهم"، وعن طلحة:"ولو قطعت قلوبهم"؛ على خطاب الرسول أو كل مخاطب.
وقيل: معناه: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفاً على تفريطهم.
[(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) 111].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ذكرُ التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها): أي: كناية عن أن الريبة باقية متمكنة فيها غير زائلة، فلو صور أن قلوبهم تقطع وتفرق قطعاً حتى تخرج الريبة منها لزالت، وأما ما دامت سالمة متجمعة فالريبة باقية متمكنة فيها، ولما كانت الكناية غير منافية لإرادة غير ما وُضع له اللفظ ولإرادة ما وُضع له، قال:"فيجوز" بالفاء، وعطف عليه:"ويجوز أن يُراد حقيقته".
قال القاضي: " (إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قطعاً بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك والإضمار، وهو في غاية المبالغة، والاستثناء من أعم الأزمنة".
قوله: (و (تَقَطَّعَ) بفتح الفاء): ابن عامر وحفص وحمزة، والباقون: بضمها.
مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشروي، وروى: تاجرهم فأغلى لهم الثمن، وعن عمر رضي الله عنه: فجعل لهم الصفقتين جميعاً، وعن الحسن: أنفسا هو خلقها، وأموالا هو رزقها. وروى: أن الأنصار حين بايعوه على العقبة، قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال:" أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم". قال: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: "لكم الجنة". قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل.
ومرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابىّ وهو يقرؤها، فقال: كلام من؟ قال "كلام الله"، قال: بيع -والله- مربح، لا نقيله ولا نستقيله، فخرج إلى الغزو، فاستشهد فيه.
(يُقاتِلُونَ) فيه معنى الأمر، كقوله (وتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) [الصف: 11]، وقرئ:(فيقتلون ويقتلون) على بناء الأوّل للفاعل، والثاني للمفعول،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فجعل لهم الصفقتين): أي: المعقود عليه، وهو الثمن والمُثمن، أي: لا يعود الربح من البيع والشراء إلا إليهم. النهاية: "الصفقة: المرة من الصفق باليدين عند المبايعة، ومنه قول أبي هريرة: "ألهاهم الصفق بالأسواق"، أي: التبايع".
قوله: (فيه معنى الأمر)، وذلك أنه تعالى أتى بالمضارع كأنه قيل: اشتريت منكم أنفسكم في الأزل، وأعطيت ثمنها الجنة، فسلموا المبيع واستمروا على القتال، ومن ثم عقبه بقوله:(فَاسْتَبْشِرُوا).
قوله: (وقرئ: (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) على بناء الأول للفاعل، والثاني للمفعول): حمزة والكسائي: يبدآن بالمفعول قبل الفاعل، والباقون: يبدؤون بالفاعل قبل المفعول.
وعلى العكس، (وَعْداً) مصدر مؤكد، وأخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت، قد أثبته (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) كما أثبته في القرآن، ثم قال:(وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) لأنّ إخلاف الميعاد قبيح، لا يقدم عليه الكرام من الخلق، مع جوازه عليهم لحاجتهم إليه، فكيف بالغنى الذي لا يجوز عليه قبيح قط؟ ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعد ثابت قد أثبته (فِي التَّوْرَاةِ): يعني: (حَقّاً) بمعنى: ثابتاً، وكان من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن، فقرن التوراة والإنجيل معه في سلك واحد، ليؤذن بالاشتراك، ولذلك أتى بحرف التشبيه وقال:"كما أثبته في القرآن"، إلحاقاً لما لا يُعرف بما يُعرف.
قوله: (لأن خلاف الميعاد قبيح) إلى آخره: تعليل لما يُعطيه الاستفهام وبناء "أفعل" في قوله: (وَمَنْ أَوْفَى) من معنى المبالغة.
قوله: (ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ): وذلك أنه تعالى لما مثل صورة بذل المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وصورة إثابته عز وجل إياهم به بالجنة، بالبيع والشراء، أتى بقوله:(يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) بياناً، لأن مكان التسليم المعركة، لأن البيع سلم، ومن ثم قيل:(بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ)، ولم يقل: بالجنة، وأبرز الأمر في صورة الخبر، ثم ألزم البيع من جانبه، وضمن إيصال الثمن إليهم، بقوله:(وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً)، أي: لا إقالة ولا استقالة من حضرة رب العزة سبحانه وتعالى، ثم ما اكتفى بذلكن بلعين الصوك المثبت فيها هذه المبايعة، وهي التوراة والإنجيل والفرقان، وأذن بالسجل أيضاً، وهو قوله:(وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ)، وخصه باسمه الجامع،
[(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) 112].
(التَّائِبُونَ) رفع على المدح، أي: هم التائبون، يعنى المؤمنين المذكورين، ويدل عليه قراءة عبد الله وأبىّ رضي الله عنهما:"التائبين"، بالياء، إلى قوله:"والحافظين"، نصباً على المدح، ويجوز أن يكون جراً؛ صفة لـ (لمؤمنين)، وجوّز الزجاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف، أي: التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا، كقوله (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى) [النساء: 95]، وقيل: هو رفع على البدل من الضمير في (يقاتلون)، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره:(العابدون)، وما بعده؛ خبر بعد خبر، أي: التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال.
وعن الحسن: هم الذين تابوا من الشرك، وتبرؤا من النفاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ووضعه موضع المضمر، وأبرز التركيب في صيغة الإنشائية- وقد سبقت خواصه في قوله:(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ)[آل عمران: 135]-، ثم ختمها بفذلكة حسنة على سبيل التذييل، وهو قوله:(وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
قوله: (كقوله: (وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) أي: في قوله تعالى: (لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ) إلى قوله: (وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)[النساء: 95]، أي: كلاً من القاعدين والمجاهدين وعد الله المثوبة، وهو الجنة.
قوله: (أي: التائبون من الكفر على الحقيقة: الجامعون لهذه الخصال)، كقولك: المتقي: هو
و (الْعابِدُونَ): الذين عبدوا الله وحده، وأخلصوا له العبادة، وحرصوا عليها.
و(السَّائِحُونَ): الصائمون؛ شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم، وقيل: هم طلبة العلم يسيحون في الأرض، يطلبونه في مظانه.
[(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) 113].
قيل قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبى طالب: "أنت أعظم الناس علىَّ حقاً، وأحسنهم عندي يداً، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي"، فأبى، فقال:"لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه"، فنزلت.
وقيل: لما افتتح مكة سأل: أي أبويه أحدث به عهداً؟ فقيل: أمك آمنة، فزار قبرها بالأبواء، ثم قام مستعبراً فقال:"إني استأذنت ربى في زيارة قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها، فلم يأذن لي"، فنزلت.
وهذا أصح؛ لأنّ موت أبى طالب كان قبل الهجرة، وهذا آخر ما نزل بالمدينة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذي يؤمن ويصلي ويزكي، وإنما قال:"على الحقيقة"، وفسر (الْعَابِدُونَ) بقوله:"الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة"؛ لأن الأخبار معرفة باللام، وقد عُطفت بعضها على بعض، للتنبيه على استقلال كل بالكمال، فلا يحمل مثلها على المبتدأ على الحصر إلا ليؤذن ببلوغ الغاية، عليه كلام الحسن.
قوله: (مستعبراً): يُقال: استعبر بالبكاء: بالغ فيه. و"الأبواء": موضع بين مكة والمدينة، وعنده بلد ينسب إليه. النهاية:"الأبواء- بفتح الهمزة وسكون الباء والمد-: جبل بين مكة والمدنية، وعنده بلد ينسب إليه".
قوله: (وهذا أصح؛ لأن موت أبي طاب كان قبل الهجرة، وهذا آخر ما نزل بالمدينة):
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال صاحب "التقريب": وفيه نظر، إذ يجوز أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مستغفراً لأبي طالب إلى نزولها، والتشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة.
وقلت: هذا هو الحق، والرواية الأولى- وهي أن تكون نازلة في أبي طالب - هي الصحيحة، لما روينا عن البخاري ومسلم والنسائي عن المسيب بن حزن: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" إلى قوله: قال أبو طالب آخر ما كلمهم: أنا على ملة عبد المطلب، وأبي أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فنزلت:(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى) الآية.
وأما حديث أمه: فرويناه عن مسلم وأحمد بن حنبل وأبي داود وابن ماجه والنسائي عن أبي هريرة: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى، وأبكى من حوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تُذكر الموت".
وأما قول المصنف: "سأل أي أبويه أحدث به عهداً" لا وجه له، ولا جاءت الرواية به؛
وقيل: استغفر لأبيه. وقيل: قال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا وذوى قرابتنا، وقد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه.
(ما كانَ لِلنَّبِيِّ): ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته، (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) لأنهم ماتوا على الشرك.
[(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) 114].
قرأ طلحة: " وما استغفر إبراهيم لأبيه"، وعنه:"وما يستغفر إبراهيم"، على حكاية الحال الماضية، (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاه) ُ أي: وعدها إبراهيم أباه، وهو قوله (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) (الممتحنة: 4)، ويدل عليه قراءة الحسن وحماد الرواية:"وعدها أباه".
فإن قلت: كيف خفي على إبراهيم أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده؟ قلت: يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى منه الإيمان، جاز الاستغفار له، على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي، لأن العقل يجوّز أن يغفر الله للكافر، ألا ترى إلى قوله عليه السلام لعمه:"لأستغفرنّ لك ما لم أنه"، وعن الحسن: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فلاناً يستغفر لآبائه المشركين، فقال:"ونحن نستغفر لهم"، فنزلت. وعن على رضي الله عنه: رأيت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له، فقال: أليس قد استغفر إبراهيم؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للعلم بأنه صلوات الله عليه وُلد وأبوه لم يكن حياً، قال ابن الجوزي في كتاب "الوفا":"وُلد عبد الله لأربع وعشرين سنة مضت من مُلك كسرى، ثم تزوجت به آمنة، فلما حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم تُوفي، وقد قيل: إن عبد الله توفي بعد ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصح ذلك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة، فلما بلغ ست سنين خرجت إلى أخوالها بني عدي بن النجار بالمدينة تزورهم، ثم رجعت به إلى مكة، فلما كانوا بالأبواء توفيت أمه، فقرها هناك".
قوله: (وعن علي رضي الله عنه: رأيت رجلاً يستغفر لأبويه) الحديث: رواه الترمذي والنسائي، وفي آخره:"فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية".
فإن قلت: فما معنى قوله: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ)؟ قلت: معناه: فلما تبين له من جهة الوحي أنه لن يؤمن، وأنه يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه، قطع استغفاره، فهو كقوله:(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)[التوبة: 113].
(أَوَّاهٌ) فعال، من أوه كـ"لال" من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه، ومعناه: أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له، مع شكاسته عليه، وقوله (لأرجمنك) [مريم: 46].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فما معنى قوله: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ)؟ ): وجه السؤال: لم يزل أبو إبراهيم كافراً، والكافر عدو الله، فكيف قيل:(فَلَمَّا تَبَيَّنَ)، كأنه كان خفياً كفره؟ وأجاب: أنه ما كان كفره خفياً، بل كان يُرجى منه الإيمان، فلما تبين له من جهة الوحي أنه يموت كافراً انقطع رجاؤه.
قوله ((اوَاهُ) فعال؛ مِن: أوَّهَ): قال الحريري في "درة الغواص": "يقولون في التأوه: أوه، والأفصح أن يُقال: أوه، بكسر الهاء وضمها وفتحها، والكسر أغلب، وعليه قول الشاعر:
فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها
…
ومن [بُعدِ] أرضٍ بيننا وسماء
وقد شدد بعضهم الواو، فقال: أوه، ومنهم من حذف الهاء وكسر الواو، فقال: أو، وتصريف الفعل منها: أوه وتأوه، المصدر: الآهة، ومنه قولُ مثقب العبدي:
إذا ما قمت أرحلها بليلٍ
…
تأوه آهة الرجل الحزين
[(وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) 115 - 116].
يعنى: ما أمر الله باتقائه واجتنابه -كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه، وتبين أنه محظور- لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يسميهم ضلالاً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفسر بعضهم "الأواه" بأنه: الذي يتأوه من الذنوب، وقيل: المتضرع في الدعاء".
وقيل: لآل: فعال، كضراب، ولؤلؤ: رُباعي مثل: برثن، والرباعي لا يؤخذ منه فعال، لأنه يعود إلى الحذف، فتصير هادماً، وأنت تقصد البناء، فـ "لآل" وُضع من تركيب "لأل"، لمن يُلابس اللؤلؤ ويبيعه، كالسمان والعواج، قال الفراء: سمعت العرب تقول لصاحب اللؤلؤة: لآل، مثل: لعال، والقياس: لآء، مثل: لعاع. نقله الجوهري.
قوله: (ما أمر الله باتقائه): تفسير لقوله: (يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)، و (مَّا) موصولة، وكذا في "ما أمر الله" موصولة، و"مِن" في "مما نهى عنه" بيان لـ "غيره"، والخبرُ "لا يؤاخذ به"، وفي هذا التقرير بيان لاتصال هذه الآية بما قبلها.
قوله: (ولا يسميهم ضُلالاً): قيل: فيه إيماء إلى مذهبه، وقال الواحدي:"وما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم".
ولا يخذلهم، إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم، وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب، وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر، ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم.
وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهى عنه.
وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها، وهي أنّ المهديَّ للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: بل الحق ما ذكره المصنف؛ لأن الآيات الثلاث المصدرة بقوله: (مَا كَانَ) في نظام واحد، وهو في الآية الأولى والثانية بمعنى: لا ينبغي، المعنى: لا يصح ولا يستقيم مِنَ المؤمنينَ أن يستغفروا للمشركين مِنْ بعدِ ما بين الله تعالى لهم أنهم من أصحاب النار، وكذلك لا يستقيم من لُطف الباري وأفضاله أن يَذُم المؤمنين ويؤاخذهم ويسميهم ضُلالاً حتى يبين لهم ما يتقون، وهو أن الاستغفار على من مات مشركاً غير جائز، فإذا بين لهم ذلك فلم يتركوا الاستغفار فحينئذ يسميهم ضُلالاً ويذمهم، ثم أوقع حال الخليل عليه السلام بين الآيتين مستطرداً مؤكداً كالاعتراض، ويؤديه كلام القاضي:" (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) أي: ليسميهم ضُلالاً ويؤاخذهم".
قوله: (كما لايؤاخذون بشُرب الخمر، ولا ببيع الصاع بالصاعين): يعني: الاستغفار لآباء المشركين من قبيل هاتين المعصيتين؛ في أن العقل يجوز ذلك قبل ورود الشرع.
قوله: (وفي هذه الآية شديدة): أي: خصلة أو بلية أو قارعة أو داهية، حذف الموصوف، كما حُذف الصلة في قولهم:"جاء بعد اللتيا والتي"؛ لشدة الأمر وفظاعته.
والمراد بـ (ما يتقون): ما يجب اتقاؤه للنهى، فأما ما يعلم بالعقل - كالصدق في الخبر، وردّ الوديعة: فغير موقوف على التوقيف.
[(لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَحِيمٌ) 117].
(لقد تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ) كقوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)[الفتح: 2]، وقوله:(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)[غافر: 55، محمد: 19]،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعني: في الآية تهديد عظيم للعلماء الذين يقدمون على المناكير؛ على سبيل الإدماج، وتسميتهم ضُلالاً من باب التغليظ، ثم أكد الوعيد على سبيل الاستئناف بإثبات العلم المحيط، والقدرة الكامل الدالة على الإعادة للجزاء، حين لا ناصر سواه، من قوله:(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ) الآية.
قوله (وأما ما يُعلم بالعقل): ففيه الخلاف المشهور، الانتصاف:"قاعدة الحسن والقبح تقتضي أن العقل حاكم، والشرع كاشفٌ لما غمض، وقد تقدم بطلانها".
قوله: ((تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ) كقوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ): وبان وجه تشبيه الآيتين ما
وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرون والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأوّابين صفة الأنبياء، كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح.
وقيل: معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه، كقوله:(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. فِي ساعَةِ)[التوبة: 43].
(في ساعة الْعُسْرَةِ): في وقتها، والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق، كما استعملت الغداة والعشية واليوم:
غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وهو بعث للمؤمنين على التوبة" على سبيل التعريض، وذلك أنه صلوات الله عليه ممن يستغني عن التوبة، فوُصف بها ليكون بعثاً للمؤمنين على التوبة، "وإبانةً لفضل التوبة" على طريقة قوله تعالى:(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ)[غافر: 7]، وحملة العرش ليسوا ممن لا يؤمنون، لكن ذُكر الإيمانُ لشرفه والترغيب فيه، وإليه الإشارة بقوله:"وأن صفة الأوابين صفة الأنبياء"، والذي يدل على أن (تَابَ اللَّهُ) لمجرد الوصف عطف قوله:"وقيل: معناه: تاب الله [عليه] من إذنه للمنافقين" على هذا الوجه، لأنه بإزاء ما الأولى عدمه.
قوله: (وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج): عطف تفسيري على قوله: "وهو بعث"، كما أن قوله:"وأن صفة التوابين" عطف على قوله: "وإبانة لفضل التوبة" كذلك.
قوله: (غداة طفت علماء بكر بن وائل): تمامه:
وعاجت صدور الخيل شطر تميم
عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَرَا
إذَا جَاءَ يَوْماً وَارِثِى يَبْتَغِى الْغِنَى
والعسرة: حالهم في غزوة تبوك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول: إنهم علوا في المنزلة والغلبة على العدو. "عاج": أي: مال، والعوج: عطف رأس البعير بالزمام، "شطر تميم": نحوهم، طفا العود على الماء؛ أي: جرى، "علماء": أصله: على الماء، القياس الإدغام لاجتماع المتجانسين، فلما سُكن الثاني سكونا لازماً لم يتأت فيه الإدغام، لأنه عكس ما يُوجبه، وهو سكون الأول وتحرك الثاني، والتخفيف مطلوب، فعدلوا إلى الحذف، كما في: مست وظلت.
قوله: (عشية قارعنا جُذام وحميرا): وصدره:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة
قال الأصمعي: في الأمثال: "ما كل بيضاء شحمة، ولا سوداء تمرة"، أي: ليس كل ما يشبه شيئاً ذلك الشيء، و"جُذام": أبو القبيلة. يقول: لما التقينا جُذام وحمير ظننا أن سبيلهم سبيل سائر الناس، وأنا سنغلبهم، فوجدناهم بخلاف ذلك. قوله:(إذا جاء يوماً وارثي يبتغي الغني): عجزه:
يجد جمع كف غير ملء ولا صفر
كانوا في عسرة من الظهر؛ يعتقب العشرة على بعير واحد. وفي عسرة من الزاد؛ تزودوا التمر المدود، والشعير المسوّس، والإهالة الزنخة، وبلغت بهم الشدّة أن اقتسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة، ليشربوا عليها الماء، وفي عسرة من الماء، حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها، وفي شدّة زمان، من حمارّة القيظ، ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة.
(كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) عن الثبات على الإيمان، أو عن إتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه، وفي (كاد) ضمير الشأن، وشبهه سيبويه بقولهم: ليس خلق الله مثله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقال: أعطيت فلاناً جمع كف، أي: ملء كف، وضربته بجمع كفي، والصفر: الخالي، يقول: إذا جاء وارثي يبتغي الميراث يجد من ترتي ما هو غير كثير ولا قليل؛ فرسٌ ضامر، وسيف صارم، ورمحٌ خطي.
قوله: (في عُسرة من الظهر)، النهاية:"الظهر: الإبل يُحمل عليها ويُركب".
قوله: (التمر المدود): قال الحريري: "يقولون: باقلاء مدود، وطعام مسوس، ومتاع مقارب، ورجل موسوس، فيفتحون ما قبل الحرف الأخير من كل كلمة، والصواب كسره، ويُقال في الفعل من "المُدود": قد دود وأداد ودود وديد".
قوله: (والإهالة الزنخة)، النهاية:"الإهالة: كل شيء من الأدهان يؤتدم به، وقيل: هي ما أُذيب من الألية والشحم"، و"الزنخة: المتغيرة الرائحة، ويقال: سنخة، بالسين".
قوله: (من حمارة القيظ)، الجوهري:"حمارة القيظ- بتشديد الراء-: حره".
قوله: (ليس خلق الله مثله) أي: ليس الشأن خلق الله مثله.
وقرئ: (يزيغ) بالياء، وفي قراءة عبد الله:"من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم" يريد المتخلفين من المؤمنين، كأبى لبابة وأمثاله، (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) تكرير للتوكيد، ويجوز أن يكون الضمير للفريق، تاب عليهم لكيدودتهم.
[(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) 118].
(الثَّلاثَةِ): كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، ومعنى (خُلِّفُوا) خلفوا عن الغزو، وقيل: عن أبى لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعدهم، وقرئ:"خُلِّفُوا" أي: خلفوا الغازين بالمدينة، أو فسدوا؛ من الخالفة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: (يَزِيغُ) بالياء): حمزة وحفص، والباقون: بالتاء الفوقانية.
قوله: (ويجوز أن يكون الضمير للفريق): عطف على قوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) تكرير للتوكيد" من حيث المعنى، يعني: إذا كان قوله: (تَابَ عَلَيْهِمْ) تكريراً كان الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم كما سبق، وإذا لم يكن تكريراً كان ذلك الضمير للفريق المذكور في قوله:(كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ)، لصدور الكيدودة منهم.
قوله: (أو فسدوا، من الخالفة)، النهاية:"وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: "جاءه أعرابي فقال له: أنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، فقال: فما أنت؟ فقال: أنا الخالفة بعده"، الخليفة: من يقوم مقام الذاهب ويسد مسده، والهاء فيه للمبالغة، وجمعه الخلفاء على معنى التذكير، لا على اللفظ، مثل: ظريف وظرفاء، ويُجمع على اللفظ: خلائف، كظريفة وظرائف. وأما الخالفة: فهو الذي لا غناء عنده ولا خير فيه. وإنما قال ذلك تواضعاً وهضماً من نفسه حين قال له: أنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وخلوف الفم. وقرأ جعفر الصادق رضي الله عنه: "خالفوا"، وقرأ الأعمش:"وعلى الثلاثة المخلفين".
(بِما رَحُبَتْ) برحبها، أي: مع سعتها، وهو مثل للحيرة في أمرهم، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرّون فيه قلقاً وجزعا مما هم فيه، (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي: قلوبهم، لا يسعها أنس ولا سرور، لأنها حرجت من فرط الوحشة والغمّ، (وَظَنُّوا): وعلموا (أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ) سخط (اللَّهِ إِلَّا) إلى استغفاره، (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا): ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرّة بعد أخرى، ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا، أو: ليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة، علماً منهم أن الله تواب على من تاب، ولو عاد في اليوم مئة مرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وخلوف الفم)، النهاية:"الخلفة -بالكسر- تغير ريح الفم، وأصلها في النبات: أن ينبت الشيء بعد الشيء، لأنها رائحة حديثة بعد الراحة الأولى، يُقال: خلف فمه خلفة وخلوفاً".
قوله: ((أَنْفُسَهُمْ): أي: قلوبهم): أي: لا يجوز أن تُجرى الأنفس- وهي الذوات- على معناها الحقيقي، لأن الضيق والسعة لا يستعملان فيها، فتكون مجازاً عن القلوب، لأن النفوس بها، كقوله:"المرء بأصغريه"، كما سبق في البقرة.
قوله: (ثم رجع عليهم بالقبول): يعني: قوله: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) تكرير لقوله: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ)، لأنه معطوف على قوله:(لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ)[التوبة: 117]، وليس التكرير للتوكيد فقط، بل مع الاستيعاب، ولذلك قال:"كرة بعد أخرى"، وهذا يدل على أن (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) - في تلك الآية- إذا كان للتكرير هو الوجه.
قوله: (أو ليتوبوا أيضاً فيما يُستقبل): يعني: أنه تعالى عاملهم بقبول التوبة والرحمة مرة
روي أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به، عن الحسن: بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيراً من مئة ألف درهم فقال: يا حائطاه، ما خلفني إلا ظلك وانتظار ثمرك، اذهب فأنت في سبيل الله، ولم يكن لآخر إلا أهله فقال: يا أهلاه ما بطأنى ولا خلفني إلا الضنّ بك، لا جرم والله لأكابدنّ المفاوز حتى ألحق برسول الله صلي الله عليه وسلم، فركب ولحق به. ولم يكن لآخر إلا نفسه، لا أهل ولا مال، فقال: يا نفس، ما خلفني إلا حب الحياة لك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد أخرى؛ ليستقيموا على التوبة، أو ليستجدوها كلما فرطت منهم زلة، لأنهم علموا بالنصوص الصحيحة أن طريان الخطيئة يستدعي تجدد التوبة، وإليه الإشارة بقوله:"علماً منهم أن الله تواب على من تاب، ولو عاد في اليوم مئة مرة، واقتبسه من قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أصر من استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين مرة"، رُوي عن أبي بكرن وألحقه الصغاني إلى الحسان في "كشف الحجاب".
قوله: (بدا له): أي: ندم، البداء- بالتفح والمد-: الندامة.
قوله: (إلا الضن بك): إنما أنث "بك"؛ لأن المراد من الأهل المرأة، وإلا فالأهل يُذكر ويؤنث.
والله لأكابدنّ الشدائد حتى ألحق برسول الله صلي الله عليه وسلم، فتأبط زاده ولحق به، قال الحسن: كذلك -والله- المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصر عليها.
وعن أبى ذرّ الغفاري: أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره، واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده:"كن أبا ذرّ"، فقال الناس: هو ذاك، فقال:"رحم الله أبا ذرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده): أما مشيه وحده: فهذه المشية. وأما موته وحده: فإنه مات بالربذة وحده، وسببه: أنه خرج بعد وفاة أبي بكر رضي الله عنه إلى الشام، فلم يزل بها حتى ولي عثمان رضي الله عنه، ثم استقدمه عثمان لشكوى معاوية، وأسكنه الربذة، فمات بها.
وعن أم ذر زوجته قالت لما حضرت أبا ذر الوفاة بيت، فقال لي: ما يبكيك؟ فقلت: ما لي لا أبكي، وأنت بفلاة من الأرض، وليس عندي ثوب يسعك كفناً، ولابد للقيام بجهازك! قال: فأبشري ولا تبكي، فإني سمعت رسول الله صلىلله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم:"ليموتن منكم رجلٌ بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين"، وليس من أولئك النفر أحدٌ إلا قد مات في قومه وجماعته، فأنا ذلك الرجل، والله ما كذبت، فأبصري الطريق، فبينا نحن كذلك إذا برجال على رواحلهم، قالوا: يا أمة الله، مالك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يموت فكفنوه، فكفنوه وقاموا عليه ودفنوه في نفر كلهم يمان. هذا مختصر من رواية ابن عبد البر في "الاستيعاب"، وليس فيه:"كن أبا ذر".
وعن أبي خيثمة، أنه بلغ بستانه، وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر، فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضحّ والريح، ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومرّ كالريح، فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب، فقال:"كن أبا خثيمة"، فكأنه، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغفر له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في الضح)، النهاية:"في حديث أبي خيثمة رضي الله عنه: "يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح، وأنا في الظل والتنعم"، الضح: ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض، وهو كالقمراء للقمر".
قوله: (يزهاه السراب)، الجوهري:"زها السراب الشيء يزهاه: إذا رفعه".
قوله: (فكانه): أي: كان هو إياه، ومنه قوله:
ومُعذرٍ قال الجمال لوجهه
…
كن مجمعاً للطيبات فكانه
الجوهري: "كنتك وكنت إياك، كما تقول: ظننتك زيداً، وظننت زيداً إياك، تضع المنفصل في موضع المتصل في الكناية عن الاسم والخبر، لأنهما منفصلان في الأصل، لأنهما مبتدأ وخبر، قال أبو الأسود الدؤلي:
دع الخمر يشربها الغواة فإنني
…
رأيت أخاها كافياً بمكانها
فإلا يكنها أو تكنه فإنه
…
أخوها غذته أمه بلبانها
ومنهم من بقي لم يلحق به، منهم الثلاثة، قال كعب: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه، فردّ علىّ كالمغضب بعدما ذكرني وقال:"ليت شعري ما خلف كعباً"؟ فقيل له: ما خلفه إلا حسن برديه، والنظر في عطفيه. فقال: معاذ "و" الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاماً،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعني: الزبيب".
وأما الرواية الصحيحة عن البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي عن ابن شهاب: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة"، فإذا هو أبو خيثمة. وتمام حديث كعب بن مالك بطوله مروي بهذه الرواية الصحيحة، وليس فيه:"كن أبا ذر".
قوله: (إلا حُسن برديه، والنظر في عطفيه): كناية عن كونه معجباً بنفسه ذا زهو وتكبر.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أعلم إلا فضلاً وإسلاماً": فإشارة إلى الرد فيما يتصور من ذلك
ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة، فتنكر لنا الناس، ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد.
فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا، ولا نقربهنّ، فلما تمت خمسون ليلة، إذا أنا بنداء من ذروة سلع: أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجداً، وكنت كما وصفني ربى (ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) وتتابعت البشارة، فلبست ثوبي، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون، فقام إلىّ طلحة بن عبيد الله يهرول إلي، حتى صافحني وقال: لتهنك توبة الله عليك،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكلام، وهو النقصان في الإنسانية والنقصان في الدين، يعني: هو كامل خلقاً ودينا، وذكر ابن عبد البر في "الاستيعاب" قصته، وليس فيها هذه الزيادة، وقال:"هو أبو خيثمة الأنصاري احد بني سالم بن الخزرج، شهد أُحداً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي إلى أيام يزيد بن معاوية".
قوله: (ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة): أي: خصوصاً الثلاثة، كقولهم:"اللهم اغفر لنا أيتها العصابة"، قال أبو سعيد السيرافي: إنه معول فعل محذوف، أي: أريد الثلاثة، وأخص الثلاثة. وخالفه الجمهور، وقالوا:"أي": مُنادى، و"الثلاثة": صفة له، وإنما أوجبوا ذلك لأنه في الأصل كان كذلك، فنُقل إلى الاختصاص، وكُلما نُقل من باب إلى باب، فإعرابه بحسب أصله، كأفعال التعجب.
قوله: (يُهرول إليّ)، النهاية:"الهرولة: ضرب من السير، بين المشي والعدو".
فلن أنساها لطلحة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يستنير استنارة القمر:"أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك"، ثم تلا علينا الآية.
وعن أبى بكر الورّاق: أنه سئل عن التوبة النصوح؟ فقال: أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) 119 - 121].
(مَعَ الصَّادِقِينَ): وقرئ: "من الصادقين"، وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولا وعملا، أو الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله ورسوله على الطاعة، من قوله:(رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)[الأحزاب: 23]، وقيل: هم الثلاثة، أي كونوا مع المهاجرين والأنصار ووافقوهم، وانتظموا في جملتهم، واصدقوا مثل صدقهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فلن أنساها لطلحة) أي: هذه الخصلة، وهي بشارته إياي بالتوبة، أي: لا أزال أذكر إحسانه إليَّ بذلك، وكنت رهين منته به.
قوله: (وعن ابن عباس: الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب): عطفٌ على قوله: "وهم الذين صدقوا" من حيثُ المعنى.
وقيل: لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: "ولا يصلح الكذب في جدّ ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه، ثم لا ينجزه، اقرؤوا إن شئتم: (وكونوا مع الصادقين)، فهل فيها من رخصة؟ ! ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اعلم أن الخطاب في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ): إن كان المراد عاماً فالمناسب أن يُراد بـ (الصَّادِقِينَ): ما قال أولاً: "وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً"، وإن كان الخطاب لأهل الكتاب فالظاهر أن يُراد بـ (الصَّادِقِينَ):"الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله ورسوله على الطاعة"، وهذا ما عليه الصحابة رضوان الله عليهم، ولذلك قال:(رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)[الأحزاب: 23]، وإن كان الخطاب لمن تخلف من الطلقاء، فالمناسب أن يُراد بـ (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) الآية:[التوبة: 117]، وعلى الثالث: قوله: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) الآية [التوبة: 118].
والأولى أولى الوجوه؛ لأنه كالخاتمة للآيات تشتمل على الفريقين وغيرهما، فيدخلوا فيه دخولاً أولياً من غير ترجيح، وليكون كالتخلص إلى العود إلى ما بُدئ به الكلام، وهو قوله:(مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ).
قوله: (من الطلقاء): قيل: هم السبعة الذين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد، فأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية.
قوله: (فهل فيها من رخصة؟ ): يعني: لما أمر المكلف بأن يدخل نفسه في زمرة الصادقين من الأنبياء والمرسلين، وأن تكون له مساهمة فيمن صدقه نية وقولاً وعملاً، فيكون قد كلفه فيالصدق بما لا يحتمل أدنى ما يصدق عليه الكذب.
(وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه، علما بأنها أعزُ نفس عند الله وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدّة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيموا لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أمروا أن يصحبوه على البأساء والضراء)، ثم قوله:"وهذا نهيٌ بليغ": يدل على أن الآية متضمنة للأمر أو النهي؛ أما النهي فمن قوله: (مَا كَانُ)، فإن معناها: لا ينبغي ولا يستقيم ولا يصح، وهو أبلغ من صريح النهي، فإذا نهوا عن أن يتخلفوا عنه، وعن أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، وجب عليهم أن يصحبوه في البأساء والضراء، وأن يُلقوا أنفسهم ما تلقاه نفسه من الشدائد، فيكونوا مأمورين بذلك، بناء على أن النهي أمر بضده.
وإنما أفاد قوله تعالى: (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) ما ذُكر من المبالغات، لأنه تعالى عداه بالباء وبـ "عن"، قال الواحدي:"يُقال: رغبتُ بنفسي عن هذا الأمر، أي: ترفعت عنه". النهاية: "يُقال: رغبت بفلان عن هذا الأمر: إذا كرهته له وزهدت له فيه، ومنه الحديث: إني لأرغب بك عن الأذان".
وقلت: معناه أن هذا الأمر مما لا يليق بمنزلتك، لأنك أرفع قدراً من أن تُزاوله، المعنى: ما صح لهم ولا استقام أن يترفعوا بأنفسهم عن نفسه، أي: بأن يكرهوا الشدائد لأنفسهم، ولا يكرهوها له، فإنه مستهجن جداً، بل عليهم أن يعكسوا القضية، وإليه الإشارة بقوله: "ولا يقيموا لها وزناً
…
فضلاً عن أن يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها".
فضلا عن أن يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهى بليغ مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية.
(ذلِكَ) إشارة إلى ما دل عليه قوله: "ما كان لهم أن يتخلفوا"، من وجوب مشايعته، كأنه قيل: ذلك الوجوب بسبب بِأَنَّهُمْ (لا يُصِيبُهُمْ) شيء من عطش، ولا تعب ولا مجاعة في طريق الجهاد، ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم، ولا يتصرفون في أرضهم تصرفا يغيظهم ويضيق صدورهم، (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا): ولا يرزؤونهم شيئا بقتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة أو غير ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها)، الأساس:"وإني لأربأ بك عن الأمر: أرفعك عنه ولا أرضاه لك، وربأت بنفسي عن عمل كذا، وما عبأت بكذا ولا ربأت به".
قوله: ((ذَلِكَ) إشارة إلى ما دل عليه قوله: "ما كان لهم أن يتخلفوا"): وهو تلخيص للتلاوة ودلالتها على وجوب مشايعته؛ لما مر في قوله: (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ) أنه متضمن للأمر بالنفير معه، صلوات الله عليه.
والمعنى: أن ذلك الأمر والتهييج بسبب ترتب هذه الفوائد المتكاثرة عليه ديناً ودُنيا، ومن حق العاقل أن لا يتقاعد عنها.
فقوله: (وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) القرينتان واردتان لبيان ما لهم من الغنيمة والنصرة بعد بيان ما كان عليهم من التعب والنصب في قوله: (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، ثم جُمعا في قوله:(إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ).
قوله: (ولا يرزؤونهم شيئاً): أي: لا ينقصوهم، ومنه: الرزية: المصيبة.
(إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ)، وفازوا واستوجبوا الثواب ونيل الزلفى عند الله، وذلك مما يوجب المشايعة.
ويجوز أن يراد بالوطء: الإيقاع والإبادة، لا الوطء بالأقدام والحوافر، كقوله عليه السلام:"آخر وطأة وطئها الله بوج"، و"الموطئ" إمّا مصدر كالمورد، وإمّا مكان، فإن كان مكانا: فمعنى (يغيظ الكفار): يغيظهم وطؤه، و"النيل" أيضاً: يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً، وأن يكون بمعنى المنيل، ويقال: نال منه: إذا رزأه ونقصه، وهو عام في كل ما يسوؤهم وينكبهم ويلحق بهم ضرراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (آخر وطأة وطئها الله بوج): النهاية: "زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو محتضن أحد ابني ابنته، وهو يقول: "إنكم لتبخلون وتجبنون، وإنكم لمن ريحان الله، وإن آخر وطأة وطئها [الله] بوج"، يعني: تحملون على البخل والجبن، فإن الأب يبخل بإنفاق ماله ليخلفه لهم، ويجبن عن القتال ليعيش لهم ويربيهم. و"ريحان الله": رزقه وعطاؤه. و"وج": من الطائف.
والوطء في الأصل: الدوس بالقدم، فسُمي به الغزو والقتل، لأن من يطأ الشيء برجله فقد استقصى في هلاكه وإهانته. والمعنى: إن آخر أخذة ووقعة أوقعها الله تعالى بالكفار كانت بوج، وكانت غزوة الطائف آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يغز بعدها إلا غزوة تبوك، ولم يكن فيها قتال.
ووجه تعلق هذا القول بالأولاد: أنه إشارة إلى تقليل ما بقي من عمره، صلوات الله عليه، فكنى به عن ذلك".
قوله: (وينكبهم): وروي: "وينكيهم"، النهاية: "يُقال: نكيتُ في العدو أنكي نكاية، فأنا
وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً؛ من قيام وقعود ومشى وكلام وغير ذلك، وكذلك الشر، وبهذه الآية استشهد أصحاب أبى حنيفة رحمه الله: أنّ المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش في الغنيمة، لأنّ وطء ديارهم مما يغيظهم وينكى فيهم.
ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر، وقد قدما بعد تقضى الحرب، وأمدّ أبو بكر رضي الله عنه المهاجر بن أبى أمية، وزياد بن أبى لبيد، بعكرمة بن أبى جهل مع خمس مئة نفس، فلحقوا بعدما فتحوا، فأسهم لهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناكٍ: إذا أكثرت فيهم الجراح والقتل، فوهنوا لذلك، وقد يُهمز؛ لغة فيه. يُقال: نكأت القرحة أنكؤها: إذا قشرتها".
قوله: (ولقد أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: روينا عن الترمذي عن أبي موسى قال: "قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين بعد أن افتتح خيبر، فقسم لنا، ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا".
وعن أبي داود عن أبي موسى قال: "قدمنا فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فأسهم لنا- أو قال: فأعطانا منها-، وما قسم لأحدٍ غاب عن فتح خيبر منها شيئاً، إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا؛ جعفراً وأصحابه، قسم لهم معه".
عند الشافعي: لا يشارك المدد الغانمين.
وقرأ عبيد ابن عمير: "ظماء" بالمدّ، يقال: ظمأ ظماءة وظماء.
(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً) ولو تمرة، ولو علاقة سوط، (وَلا كَبِيرَةً) مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة، (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي: أرضاً في ذهابهم ومجيئهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعند الشافعي: لا يُشارك المدد الغانمين): في "الروضة": "يستحق السهم من شهد الوقعة بنية الجهاد، قاتل أم لم يقاتل، إذا كان ممن يسهم له؛ من حضر قبل انقضاء القتال: استحق، وإن حضر بعد حيازة المال: فلا، وإن حضر بعد انقضائه وقبل حيازة المال: أظهر الوجهين: لا يستحق، ولو أقاموا على حصن، وأشرفوا على فتحه، فلحق مدد قبل الفتح: شاركوهم، وإن فتحوا ودخلوا آمنين، ثم جاء المدد: لم يشاركوهم".
قلت: ويؤيده ما روى البخاري عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أباناً على سرية من المدينة قبل نجد، فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدما افتتحها، وإن حُزم خيلهم الليف، فلم يقسم له".
ودل أيضاً قول أبي موسى في الحديث الأول: "وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر" إلى آخره، على مذهب الشافعي.
قوله: (مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة): في "مُسند أحمد بن حنبل" عن عبد الرحمن بان سمرة قال: طجاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز جيش العسرة، فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يُلبها بيده، وقال:"ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم"، يُرددها مراراً".،
والوادي: كل منعرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل، وهو في الأصل:"فاعل" من: ودي: إذا سال، ومنه: الودي، وقد شاع في استعمال العرب بمعنى: الأرض، يقولون: لا تصلّ في وادي غيرك.
(إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) ذلك من الإنفاق وقطع الوادي، ويجوز أن يرجع الضمير فيه إلى (عمل صالح)، وقوله:(لِيَجْزِيَهُمُ) متعلق بـ (كتب)، أي: أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء.
[(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) 122].
اللام لتأكيد النفي، ومعناه: أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن، وفيه: أنه لو صح وأمكن ولم يؤدّ إلى مفسدة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كل منعرج)، الجوهري:"مُنعرج الوادي: منعطفه يمنة ويسرة".
قوله: (ويجوز أن يرجع الضمير فيه): عطف على قوله: " (إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ) ذلك"، يعني: أن الضمير المرفوع القائم مقام الفاعل في (كُتِبَ): إما مُجرىَ مجرى اسم الإشارة، والمشار له ما سبق من الإنفاق وقطع الوادي، أو راجع إلى (عَمَلٌ صَالِحٌ)، أي: يُقدر له: "عمل صالح"، ليقوم مقام الفاعل، بقرينة قوله تعالى:(إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ).
وقوله: (لِيَجْزِيَهُمْ) تعليل لهذا الفعل، كما أن قوله:(إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) تعليل لذلك.
قوله: (وفيه: أنه لو صح): يعني: أشار في هذه الآية إلى أن طلب العلم فريضة على كل مسلم؛ على سبيل الإدماج، لأن سوق الكلام: أنه لولا ضرورة دعت المسلمين إلى المنع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من تنفيرهم كافة في طلب العلم، لوجب تنفير الكل، فيفهم من هذا أن قوله:(فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ) ترخيص للبعض من القعود لمصلحة دينية، وعزيمة لآخرين في التنفير لطلب العلم، ثم الرجوع إلى القاعدين لأجل التعليم.
وكان من حق الظاهر أن يُقال: "ليتفقهوا في الدين وليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يفقهون"، فوضع موضع "التعليم":"الإنذار"، وموضع "يفقهون":(يَحْذَرُونَ)؛ ليؤذن بأن الغرض من التعليم والتفقه اكتساب خشية الله والحذر من بأسه وعقابه.
قال حجة الإسلام الغزالي رحمة الله عليه"لقد كان اسم "الفقه" بالعصر الأول مطلقاً على علم الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات العمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، ويدلك عليه قوله تعالى:(لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)، وما به الإنذار والتخويف هو الفقه، دون تعريفات الطلاق واللعان والسلم والإجارة.
وسأل فرقد السبخي الحسن عن شيء، فأجابه، فقال: إن الفقهاء يخالفونك. فقال الحسن: ثكلتك أمك فريقد، هل رأيت فقيهاً قط بعينيك؟ ! إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكاف عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم. ولم يقل في جميع ذلك: الحافظ لفروع الفتاوى". تم كلامه.
ومنه أخذ المصنف في الطعن في المتسمين باسم الفقه قائلاً: "لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة"، إلى آخره.
لوجب، لوجوب التفقه على الكافة، ولأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
(فَلَوْلا نَفَرَ) فحين لم يمكن نفير الكافة، ولم يكن مصلحة، فهلا نفر (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) أي: من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم، يكفونهم النفير.
(لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ): ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ): وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه: إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة، ويؤمّونها من المقاصد الركيكة، من التصدّر والترؤس والتبسط في البلاد، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم، ومنافسة بعضهم بعضاً،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة): رواه الصغاني في "كشف الحجاب" عن أبي سعيد، ولم يذكر "ومسلمة"، وضعفه.
قوله: (لم يُمكن نفير الكافة): النفير هنا: مصدر، الأساس:"نفر القوم إلى الثغر نفيراً، وجاء نفير بني فلانٍ ونفرهم".
قوله: (أي: من كُل جماعة كثيرة جماعة قليلة): كأنه استنبط من استعمال التنزيل الفرق بين "الفرقة" و"الطائفة"، لأن القياس أن ينتزع من الكثير القليل، وألا فالجوهري لم يفرق بينها.
وفشوّ داء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر، أو شرذمة جثوا بين يديه، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم، فما أبعد هؤلاء من قوله عز وجل:(لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً)[القصص: 83]!
(لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ): إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملا صالحاً.
ووجه آخر: وهو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفشوا داء الضرائر بينهم): الضرائر: جمعُ ضريرة. الأساس: "من المجاز: ما أشد ضريرته عليها: غيرته، وبينهم داء الضرائر: الحسد، وامرأة ضريرة". وفيه تعبير شديد وتوبيخ عظيم، وذلك أن العلماء إذا وقع بينهم التحاسد دخلوا في حكم النساء.
قوله: (موطأ العقب دون الناس)، النهاية:"وفي حديث عمار: "أن رجلاً وشى به إلى عمر رضي الله عنه، فقال: اللهم إن كان كذب فاجعله موطأ العقب"، أي: كثير الأتباع، دعا عليه بأن يكون سلطاناً أو مقدماً، فيتبعه الناس ويمشون وراءه".
قوله: (ووجه آخر): عطف على قوله: "أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح".
والمعنى على الأول: ما ينبغي للمؤمنين، ولا يصح منهم، أن يخرجوا من أوطانهم جميعاً على المدينة، ليتفقهوا في الدين، وإذا كان كذلك فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين. فحذف من الأول:"ليتفقهوا في الدين" مع الشرط؛ لدلالة الكلام عليه.
وعلى الثاني: (لِيَتَفَقَّهُوا) علة لمعنى النهي في قوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا)، وعلة قوله:(فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ) محذوفة، المعنى: لا يصح تنفير الجميع إلى الغزو، لأن التفقه أيضاً من فروض الكفايات، وإذا كان كذلك فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة للغزو، وتبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر.
إذا بعث بعثا بعد غزوة تبوك، وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد، استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير، وانقطعوا جميعاً عن استماع الوحي والتفقه في الدين، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد، ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجدال بالحجّة أعظم أثراً من الجلاد بالسيف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الانتصاف: "قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً) على الأول: خبر، وعلى الثاني: معناه النهي، لأن المراد بالأول تنفير أهل البوادي إلى المدينة للتفقه، وهذا لو أمكن فعله من الجميع لكان جائزاً أو واجباً، ولما لم يُمكن فُعل على طريق فرض الكفاية، وفي الثاني فلأن المؤمنين نفروا من المدينة للجهاد، ولو أنهم نفروا أجمعين لكان ممكناً، فنهوا عن اطراح التفقه، وأمروا به أمر كفاية".
وقال القاضي: "وفيه دليل على أن التفقة والتذكير من فروض الكفاية".
وقلت: وفي توسيطها بين آيات الجهاد دليل على أن المقصود الأولي من التفقه: الإنذار والبعث على الجهاد والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقامة الدين، والحذر عن أن يدخلوا في زمرة المنافقين المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (بعث بعثاً)، الجوهري:"البعوث: الجيوش، وكنت في بعث فلان، أي: في جيشه".
وقوله: (لِيَتَفَقَّهُوا) الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف النافرة من بينهم، (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ): ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم، بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم، وعلى الأوّل: الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.
[(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) 123].
(لُونَكُمْ): يقربون منكم، والقتال واجب مع كافة الكفرة؛ قريبهم وبعيدهم، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب. ونظيره:(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشعراء: 214]، وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، ثم غيرهم من عرب الحجاز، ثم غزا الشام. وقيل: هم قريظة والنضير وفدك وخيبر. وقيل: الروم، لأنهم كانوا يسكنون الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق وغيره.
وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم، ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى. وعن ابن عمر: أنه سئل عن قتال الديلم؟ فقال: عليك بالروم.
وقرئ (غِلْظَةً) بالحركات الثلاث، فالغلظة كالشدّة، والغلظة كالضغطه، والغلظة كالسخطة، ونحوه:(وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)[التوبة: 73]، (وَلا تَهِنُوا) [آل عمران: 139]، وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال، وشدّة العداوة والعنف في القتل والأسر، ومنه:(وَلا تَاخُذْكُمْ بِهِما رَافَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ)[النور: 2].
(مَعَ الْمُتَّقِينَ) ينصر من اتقاه فلم يترأف على عدوّه.
[(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: (غِلْظَةً) بالحركات الثلاث): بالكسر: السبعة.
قوله: (وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال، وشدة العداوة والعنف في القتل والأسر): يعني: قوله: (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) كلمة جامعة لهذه المعاني، وذلك لأنه أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين الغلظة، وفي الحقيقة أمر للمؤمنين بأن يتصفوا بصفاتٍ إن وجدهم الكفار
رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) 124 - 125].
(فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ): فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة (إِيماناً) إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي، والعمل به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجدوا فيهم تلك الصفات، ومثله - لكن في النهي - قوله تعالى لموسى عليه السلام:(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)[طه: 16].
ولما كان المطلوب من أمر الكافرين اتصاف المؤمنين بتلك الصفات، وهي مضادة للرأفة والرحمة التي يقتضيها صلة الموصول- أعني: قوله: (يَلُونَكُمْ) -؛ لأن الظاهر من حق الجار مع الجار الترأف والترحم، ذيل الكلام بقوله:(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، ومعناه: ما قال: إن الله "ينصر من اتقاه، فلم يترأف على عدوه"، أي: عدو الله، فاللام في (الْمُتَّقِينَ) للجنس، ويجوز أن تكون للعهد، وقد وضع (الْمُتَّقِينَ) موضع المضمر، أي: معكم، إذا لم يوجد منكم الترأف والترحم، والله أعلم.
قوله: (إنكار واستهزاء بالمؤمنين): (فَمِنْهُمْ) جواب للشرط، وقوله:(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ليسا بمعطوفين على الجزاء، بل تفصيلان لمفصل محذوف، كأنه قيل: فأما إذا ما أنزلت سورة فالناس من بين مستهزئ مطبوع على قلوبهم، ومؤمن مستبشر مستزيد للإيمان، فمنهم من يقول: أيكم زادته هذه إيماناً، ومنهم من
و (أيكم) مرفوع بالابتداء، وقرأ عبيد بن عمير:" أيكم" بالفتح؛ على إضمار فعل يفسره (زادَتْهُ)، تقديره: أيكم زادت زادته هذه إيمانا (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) لأنها أزيد لليقين والثبات، وأثلج للصدر. أو فزادتهم عملا، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان، لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل، (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ): كفراً مضموما إلى كفرهم، لأنهم كلما جدّدوا -بتجديد الله الوحي- كفراً ونفاقا، ازداد كفرهم، واستحكم وتضاعف عقابهم.
[(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) 126 - 127].
قرئ: (أَوَلا يَرَوْنَ) بالياء والتاء، (يُفْتَنُونَ): يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله، ثم لا ينتهون ولا يتوبون عن نفاقهم، ولا يذكرون: ، ولا يعتبرون، ولا ينظرون في أمرهم، أو يبتلون في بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعاينون أمره، وما ينزل الله عليه من نصرته وتأييده،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول: آمنا بالله وما أنزل إلينا، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً) الآية، (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ)، الآية.
قوله: (وأثلج للصدر)، النهاية:"ثلجت نفسي بالأمر تثلج ثلجاً، وثلجت تثلج ثلوجاً: اطمأنت إليه وسكنت، وثبتت فيه ووثقت".
قوله: (لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل): تعليل للاعتبارين، أي: إذا كان الإيمان يُراد به الاعتقاد فزيادته بزيادة اليقين، وإن كان العمل فزيادته بزيادة العمل.
قوله: (قرئ: (أَوَلا يَرَوْنَ) بالياء والتاء): بالتاء الفوقانية: حمزة، والباقون: بالياء.
أو: يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقتلهم وينكل بهم، ثم لا ينزجرون.
(نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ): تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي وسخرية به، قائلين: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) من المسلمين؛ لننصرف، فإنا لا نصبر على استماعه، ويغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم.
أو: ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لواذا، يقولون:(هل يراكم من أحد). وقيل: معناه: إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين.
(صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح، (أَنَّهُمْ): بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ): لا يتدبرون حتى يفقهوا.
[(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) 128 - 129].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لواذاً)، الأساس:"لاذ به لياذاً، ولاذ لواذاً، واعتصم بلوذ الجبل، أي: بجانبه".
قوله: ((صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) دعاء عيهم بالخذلان)، الانتصاف: "يحتمل أنه أخبر تعلق بأنه صرف قلوبهم، ومنعها من تلقي الحق، لكن الزمخشري نفر من ذلك رعاية لقاعدة الحسن والقبح، ثم في هذا الدعاء مناسبة لما فعلوا، وهو الانصراف، كقوله تعالى:(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)[المائدة: 64]، وقوله تعالى:(وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ)[التوبة: 98].
(مِنْ أَنْفُسِكُمْ): من جنسكم ومن نسبكم، عربي قرشي مثلكم، ثم ذكر ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج، بقوله:(عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي: شديد عليه شاق - لكونه بعضاً منكم - عنتكم ولقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب.
(حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) حتى لا يخرج أحد منكم عن إتباعه والاستسعاد بدين الحق الذي جاء به، (بِالْمُؤْمِنِينَ) منكم ومن غيركم (رَءوفٌ رَحِيمٌ).
وقرئ: "من أنفسكم"، أي: من أشرفكم وأفضلكم، وقيل: هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعائشة رضي الله عنهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثم ذكر ما يتبع المجانسة المناسبة من النتائج): وذلك من إجراء هذه الصفات على الرسول صلوات الله عليه، لتعداد المنن على المرسل إليهم، فيجب أن يعتبر في كل من تلك الصفات فائدة جليلة، ليصح الامتنان بكل منها، فأجري عليه أولاً (مِنْ أَنفُسِكُمْ) أي: من جنسكم، لأن الجنس إلى الجنس أميل، ثم رتب عليه صفات أخر على سبيل الترقي، كما سينبئ عنه كلامه.
قوله: ((عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ): أي: شديد عليه شاق): وعن الراغب: "العزة: حالة مانعة للإنسان أن يُغلب، من قولهم: أرض عزاز، أي: صلبة، والعزيز: الذي يقهر ولا يُقهر. قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) [المنافقون: 8]، وقد يُذم بالعزة، كقوله تعالى: (بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ) [ص: 2]، وقد تُستعار للحمية والأنفة المذمومة، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ) [البقرة: 206]، ويقال: عز علي ذا، أي: صعب، (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) [ص: 23]، أي غلبني، عز الشيء: قل، اعتباراً بماقيل: كل موجود مملول، وكل مفقود مطلوب".
وقيل: لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (رَءوفٌ رَحِيمٌ).
(فَإِنْ تَوَلَّوْا): فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك، فاستعن وفوّض إليه، فهو كافيك معرّتهم، ولا يضرونك، وهو ناصرك عليهم.
وقرئ "العظيم" بالرفع.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: العرش لا يقدر أحد قدره. وعن أبىّ ابن كعب: آخر آية نزلت (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ).
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما نزل علىّ القرآن إلا آية آية، وحرفاً حرفاً، ما خلا سورة (براءة) و (قل هو الله أحد)، فإنهما أنزلتا علىّ، ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كافيك معرتهم)، النهاية:"المعرة: الأمر القبيح المكروه والأذى، وهي مفعلة، من العر، أي: موضع الجرب"، و"ناصبوك": أي: عادوك
قوله: (وحرفاً حرفاً)، النهاية:"الحرف في الأصل: الطرف والجانب، وسمي به الحرف من حروف الهجاء"ن فالمراد به هاهنا الجملة المفيدة، سواء كانت آية أو أقل أو أكثر، على معنى: لم تبلغ تمام السورة.
والله أعلم بالصواب
تمت السورة حامداً لله ومصلياً
سورة يونس
مكية، وهي مئة وتسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
[(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ * أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) 1 - 2].
(الر) تعديد للحروف على طريق التحدي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سورة يونس عليه السلام
مكية، وهي مئة وتسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: ((الر) تعديد للحروف على طريق التحدي): أي: بالقرآن، كما قال في البقرة:"هو كقرع العصا، وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم- وقد عجزوا عنه- كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم، ليؤديهم إلى النظر إلى أنه ليس من كلام البشر، وانه كلام خالق القوى والقدر".
و (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات، و"الكتاب": السورة، و"الْحَكِيمِ" ذو الحكمة؛ لاشتماله عليها ونطقه بها، أو وصف بصفة محدثة. قال الأعشى:
وَغَرِيبَةٍ تَاتِى المُلُوكَ حَكِيمَة
…
قَدْ قُلْتُهَا لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا؟ !
الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه، و (أَنْ أَوْحَيْنا) اسم "كان"، و (عجباً): خبرها. وقرأ ابن مسعود: "عجب"،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (و (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) إشارة إلى ماتضمنته السورة من الآيات): فإن قلت: كيف يُشار إلى ما تضمنته السورة، وهو مترقب؟ قلت: قال في قوله تعالى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)[الكهف: 78]: "تصور فراق بينهما، فأشار إليه"، وسيجيء التحقيق فيه هنالك.
قوله: (ونطقه بها): يعني: وُصِفَ (الْكِتَابِ) بـ (الْحَكِيمُ) على الاستعارة المكنية بجامع اشتماله على الحكمة.
قوله: (أو وُصِف بصفة محدثه): وعند أهل السنة: بصفة متكلمه الحكيم، وهو من الإسناد المجازي، كقولهم: نهاره صائم، وليله قائم.
الراغب: "الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعمل، فالحكمة من الله تعالى: معرفة الأشياء. وإيجادها على غاية الإحكام، وإذا وُصف بها القرآن فلتضمنه الحكمة".
قوله: (وغريبة) البيت: أي: رب قصيدة غريبة قد قلتها في مدح الملوك ذات حكمة، ليتعجب الناس ويقولوا: من قالها؟ !
فجعله اسما، وهو نكرة، و (أَنْ أَوْحَيْنا) خبراً، وهو معرفة، كقوله:
يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاء
والأجود أن تكون "كان" تامّة، و (أن أوحينا) بدلا من "عجب".
فإن قلت: فما معنى اللام في قوله: (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً)؟ وما هو الفرق بينه وبين قولك: أكان عند الناس عجباً؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فجعله اسماً، وهو نكرة، و (أَنْ أَوْحَيْنَا) خبراً، وهو معرفة): أي: هو من باب القلب لأمن الإلباس، والضمير في "كقوله" لحسان، أوله:
كأن سلافة من بيت رأس
ورواية "الصحاح": "كأن سبيئة من بيت رأس".
"السلافة": أول ما يسيل من ماء العنب، وهو أرق ما فيه، "السبيئة": الخمر، يقال: سبأت الخمر سبأ: إذا اشتريتها لتشربها، و"بيت رأس": اسم قرية بالشام تُباع فيه الخمر.
قال ابن جني: "إنما جاز ذلك من حيث كان "عسل وماء" جنسين، فكأنه قال: يكون مزاجها العسل والماء، لأن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، أي: فإذا الأسد بالباب، لا فرق بينهما، لأنك في الموضعين لا تريد أسداً معيناً،
قلت: معناه: أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علماً لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم، وليس في "عند الناس" هذا المعنى.
والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر، وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم، دون عظيم من عظمائهم، فقد كانوا يقولون: العجب أنّ الله لم يجد رسولا يرسله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإنما لم يجز هذا في قولك: كان قائم أخاك، وكان جالس أباك، لأنه ليس في "جالس" و"قائم" معنى الجنسية التي تلاقي معيناً نكرتها ومعرفتها [على ما قدمناه] ".
ومعنى الآية على هذا: أكان الوحي للناس هذا الجنس من الفعل، وهو التعجب.
وقال ابن جني أيضاً: "يجوز مع النفي جعلُ اسم "كان" وأخواتها نكرة، ولا يجوز مع الإيجاب، ألا تراك تقول: ما كان إنسان خيراً منك، ولا تقول: كان إنسان خيرا ًمنك".
والاستفهام في قوله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) للتوبيخ، فيفيد معنى النفي.
قوله: (معناه: أنهم جعلوه لهم أعجوبة): فإذن اللام مثلها في قوله تعالى: (هيت لك)[يوسف: 23]، قال أبو البقاء:"اللام متعلق بـ "عجب" للتبيين".
قوله: (أفناء رجالهم)، الجوهري:"يقال: هو من أفناء الناس: إذا لم يعلم ممن هو"، ولم يرد هاهنا حمول نسبه، لأنه صلوات الله عليه كان من الأعلام المشاهير كابراً عن كابر، لكن أريد أنه لم يكن من العظماء والرؤساء، يدل عليه قولهم:(عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)[الزخرف: 31]، وقولهم:"يتيم أبي طالب".
إلى الناس إلا يتيم أبى طالب، وأن يذكر لهم البعث، وينذر بالنار، ويبشر بالجنة.
وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب، لأنّ الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشر مثلهم، وقال الله تعالى (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا) [الإسراء: 95]، وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب أيضاً، لأنّ الله تعالى: إنما يختار من استحق الاختيار، لجمعه أسباب الاستقلال بما اختير له من النبوّة، والغنى والتقدّم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سبأ: 37]، والبعث للجزاء على الخير والشر هو الحكمة العظمى، فكيف يكون عجباً؟ إنما العجب العجيب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء.
(أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ): (أن) هي المفسرة، لأنّ الإيحاء فيه معنى القول، ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وأصله: أنه أنذر الناس، على معنى: أن الشأن قولنا: أنذر الناس، و (أَنَّ لَهُمْ) الباء معه محذوف، (قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي: سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأن يذكر لهم البعث): معطوف على محذوف تقديره: لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس؛ لأن يدعوهم إلى الله، وأن يذكر لهم البعث، إلا يتيم أبي طالب.
قوله: (والبعث للجزاء): عطف على قوله: "وإرسالُ الفقير"، وهو على قوله:"لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشراً" من حيث المعنى، وذلك أن المتعجب منه في قوله:(أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ) ثلاثة أشياء: كون الرسول رجلاً، وكونه بعضاً منهم، وكون المنذر البعث. وأجاب عن كل واحد على سبيل التفصيل وأحسن، لا سيما قوله:"إنما العجب العجيب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء"، لكن في قوله:"إنما يختار من استحق الاختيار" بحث.
وعلل نفي التعجب بقوله: "لأن الرسل" إلى آخره، لأن العجب: هو حال يعتري الإنسان من رؤية خلاف العادة.
فإن قلت: لم سميت السابقة قدما؟ قلت: لما كان السعي والسبق بالقدم، سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما، كما سميت النعمة يداً؛ لأنها تعطى باليد، وباعاً؛ لأنّ صاحبها يبوع بها، فقيل: لفلان قدم في الخير، وإضافته إلى (صدق) دلالة على زيادة فضل، وأنه من السوابق العظيمة. وقيل: مقام صدق.
(إِنَّ هذا): إن هذا الكتاب وما جاء به محمد "لَسحِرٌ"،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً): قال السجاوندي: "سُمي المُقدم قدماً، كما سُمي الجاسوس عيناً، والمستعلي رأساً، بل كل صفة مرضية للعبد عند سيده: قدم، وكل نعمة شاملة للسيد على عبده: يد".
قوله: (لأن صاحبها يبوع بها)، الأساس:"ومن المجاز: لفلان سابقة وباع، وتبوع للمساعي: مد باعه".
قوله: (مقام صدق): هو كقوله تعالى (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)[القمر: 55]، الأساس:"مشى فلان اليقدمية والقدمية: إذا تقدم في المكارم ومعالي الأمور".
الانتصاف: "لم يسموا السابقة السوء: قدماً، إما لكون المجاز لم يطرد، أو اطرد ولكن غلب العرف على قصرها".
قوله: (إن هذا الكتاب وما جاء به محمد لسحر): إشارة إلى اتصال هذه الآية بالآيتين السابقتين، آذنت الأولى: بأن السورة تحدي بها، وأفحم من تحدى بها، وأثبت بالآيتين السابقتين، آذنت الأولى: بأن السورة تحدى بها، وأفحم من تحدى بها، وأثبتت رسالة المدعي، والثانية: بأنهم بعد العجز عاندوا وتعجبوا مستهزئين، والثالثة: بأنهم أظهروا ما به يتبين عجزهم من تلك الكلمة التي يرمي بها العاجز المبهوت، وإليه الإشارة بقوله:"وهو دليل عجزهم واعترافهم به".
ومن قرأ: (لساحر): فهذا إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً، وفي قراءة أبىّ:"ما هذا إلا سحر".
[(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) 3 - 4].
(يُدَبِّرُ) يقضى ويقدر على حسب مقتضى الحكمة، ويفعل ما يفعل المتحرى للصواب الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، لئلا يلقاه ما يكره آخراً، و (الْأَمْر): َ أمر الخلق كله، وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإنما فُصلت الجمل لاختلافها خبراً وطلباً على سبيل التعداد، نحو قولهم:"واعبد ربك، العبادة حق له"، على تعويل الترتيب إلى الذهن دون اللفظ.
قوله: (ومن قرأ: (لَسَاحِرٌ): ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي.
قوله: (الناظر في أدبار الأمور [وعواقبها] لئلا يلقاه ما يكره آخراً): لخص المعنى القاضي حيث قال: "التدبير: النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة العاقبة".
قلت: هذا تمثيل، ولذلك قال:"ويفعل ما يفعلُ المتحري".
فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: قد دل بالجملة قبلها على عظمة شأنه وملكه بخلق السماوات والأرض، مع بسطتها واتساعها في وقت يسير، وبالاستواء على العرش، وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة، وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره.
وكذلك قوله: (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) دليل على العزة والكبرياء، كقوله:(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ)[النبأ: 38].
و(ذلِكُمُ) إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أي: ذلك العظيم الموصوف بما وصف به: هو ربكم، وهو الذي يستحق منكم العبادة، (فَاعْبُدُوهُ) وحده،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وبالاستواء على العرش): عطف على "بخلق السماوات والأرض"، وهو بدل من قوله:"بالجملة" بإعادة العامل، وكرر الباء في المعطوف ليؤذن باستقلاله بنفسه، وفيه لف، فقوله:"على عظمة شأنه" مستفاد من قوله: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وقوله:"ومُلكه" -أي: عظمة مُلكه-من قوله: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)، فكان قوله:(يُدَبِّرُ الأَمْرَ) تتميماً لهذا المعنى، لأن الأول دل على عظم الشؤون وجلائل الأمور، وهذا على توابعها، وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وقدره، وكذلك قوله:(مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) تتميم للمجموع وتمثيل لما عُهد من السلاطين من اجتماع الملأ حول سرير الملك، وعليه قوله تعالى:(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ)[النبأ: 38].
قال القاضي: "فيه رد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وإثبات الشفاعة لمن أذن له". قلت: آذن رحمه الله بارتباط هذه الآية مع قوله: (وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)[يونس: 18].
قوله: (أي: ذلك العظيم الموصوف بما وصف به) إلى آخره: إشارة إلى أن في اسم الإشارة
ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع، (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فإن أدنى التفكر والنظر ينبهكم على الخطأ فيما أنتم عليه.
(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي: لا ترجعون في العاقبة إلا إليه فاستعدوا للقائه.
(وَعْدَ اللَّهِ) مصدر مؤكد لقوله: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ)، و (حَقًّا) مصدر مؤكد لقوله:(وَعْدَ اللَّهِ).
(إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه، وهو أنّ الغرض ومقتضى الحكمة بابتداء الخلق وإعادته: هو جزاء المكلفين على أعمالهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إشعاراً بأن ما قبله- وهو الله الموصوف بكونه رباً، خالقاً، مستوياً على العرش، مدبراً للأمور - حقيق بما بعده؛ وهو أن يخص بالعبادة، ولا يشرك فيها غيره، كما سبق في أول البقرة.
قوله: ((أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فإن أدنى التفكر والنظر ينبهم على الخطأ): مُشعرٌ بأن التذكر دون التفكر، الجوهري:"ذكرته بلساني وبقلبي، وتذكرته"، وقال:"التفكر: التأمل".
يعني: كان من حق الظاهر أن يُقال: "أفلا تفكرون"، أي: في تلك الدلائل القاهرة الباهرة، لتعرفوا أن الله هوا لمستحق للعبادة، لأنه هو المنعم بجميع تلك النعم المتظاهرة، فوضع موضعه (تَذَكَّرُونَ)؛ تتميماً للمعنى وتربية للفائدة، يعني: يكفيكم الإخطار بالبال دون استعمال الرؤية.
قال الإمام: "هذا يدل على أن التفكر في المخلوقات والاستدلال بها على جلال الله وعزته وعظمته من أعلى المراتب، وأكمل الدرجات".
قوله: (لا ترجعون في العاقبة إلا إليه): الحصر ومعنى التخصيص مستفاد من التقديم.
قوله: (وهو أن الغرض): الجملة معطوفة على جملة قوله: "معناهالتعليل"؛ على سبيل البيان،
وقرئ: "أنه يبدأ الخلق"، بمعنى: لأنه، أو: هو منصوب بالفعل الذي نصب (وعد الله)، أي: وعد الله وعداً بدأ الخلق ثم إعادته، والمعنى: إعادة الخلق بعد بدئه، وقرئ:(وعد الله)، على لفظ الفعل، و"يبدئ"، من أبدأ، ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب (حقا)، أي: حقّ حقا بدأ الخلق، كقوله:
أَحَقَّا عِبَادَ اللَّهِ أَنْ لَسْتُ جَائِياً
…
وَلَا ذَاهِباً إلّا عَلَيَّ رَقِيبُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والضمير المرفوع راجع إلى "معناه"، أي: قوله (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) استئناف معناه أن الغرض يقتضي الحكمة، إلى آخره.
قوله: (والمعنى: إعادة الخلق بعد بدئه): يعني: على تقدير المصدر لابد من التقديم والتأخير؛ لأن الإبداء ليس موعوداً، بل الموعود الإعادة، فتقدر "إعادة الخلق بعد بدئه".
قوله: (ويجوز أن يكون مرفوعاً): عطف على قوله: "أو هو منصوب بالفعل"، يعني: على قراءة من قرأ "أنه يبدأُ الخلق" بالفتح، يجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدر ناصب له، أي: وعد الله وعداً بدء الخلق، أو أن يكون مرفوعاً بفعل مقدر رافع له، أي: حق حقاً بدء الخلق.
قوله: (مرفوعاً بما نصب (حَقاً): لأنه مصدر مؤكد لغيره، وهو قوله:"حق"، وإليه الإشارة بقوله:"أي: حق بدء الخلق حقاً".
قوله: (أحقاً عباد الله)، البيت: قيل: "أحقاً": في موضع الظرف، كأنه قال: أفي حق؟
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و"أن": مخففة من الثقيلة، وموضعه مع ما بعده موضع المبتدأ، و"أحقاً" في موضع الخبر، يقول: أفي حق، يا عباد الله، أني لا أجيء ولا أذهب إلا علي رقيب محافظ يَعُدُّ خُطاي وأنفاسي ويتأمل قصوري.
ومثله قول الحماسي:
أحقاً عباد الله أن لستُ رائياً
…
رفاعة طول الدهر إلا توهما
قال المرزوقي: "أحقاً: انتصب عند سيبويه على الظرف، كأنه قال: أفي الحق ذلك، فإن قيل: وكيف جاز أن يكون ظرفاً؟ قلت: لما رآهم يقولون: أفي حق كذا، أو: أفي الحقن جعلوه إذا نصبوه على تلك الطريقة، قال:
أفي الحق أني مُغرم بك هائم
والمعنى: أفي الحق [لست رائياً] هذا الفتى إلا متوهماً أبد الدهر، وفائدة قوله:"عباد الله"،
وقرئ: "حق أنه يبدؤ الخلق"؛ كقولك: حق أنّ زيداً منطلق.
(بِالْقِسْطِ): بالعدل، وهو متعلق بـ"يجزى"، والمعنى: ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم، أو: بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا صالحاً، لأنّ الشرك ظلم، قال الله تعالى:(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13]، والعصاة: ظلام أنفسهم، وهذا أوجه، لمقابلة قوله:(بِما كانُوا يَكْفُرُونَ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنه رجع فيما كان لايؤمن به ولا يسكن إليه بشاعة وقباحة إلى الناس كافة، يستنبئهم فيه ويستفتيهم".
قوله: (وهذا أوجه) أي: إذا كان (بِالْقِسْطِ) معناه: بقسطهم، على أن تكون اللام بدلاً من المضاف إليه، والفاعل:(الَّذِينَ آمَنُوا)، كان أوجه من أن يكون معناه: بقسطه، والفاعل: الله، ليتجاوب كل من المتقابلين، وهما (الَّذِينَ آمَنُوا)(وَالَّذِينَ كَفَرُوا)، فيما استحقوا به الجزاء وعداً وتفضلاً، فإن قوله:(بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) يُوجب أن يقال: بقسطهم.
قال القاضي: "معنى قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ): ليجزي الذين كفروا بشراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم، لكنه غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب، والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة، والعقاب واقع بالعرض، وأنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه، ولذلك لم يُعينه، وأما عقاب
[(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) 5].
الياء في (ضِياءً) منقلبة عن واو "ضواء" لكسرة ما قبلها، وقرئ:"ضئاء" بهمزتين بينهما ألف على القلب، بتقديم اللام على العين، كما قيل في عاق: عقا، والضياء أقوى من النور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكفرة فكأنه داء ساقه إليه سوء اعتقادهم وشؤم أفعالهم، والآية كالتعليل لقوله:(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً)، فإنه لما كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة المكلفين على أعمالهم، كان مرجع الجميع إليه لا محالة، ويؤيده قراءة من قرأ:"أنه يبدأ" بالفتح، أي: لأنه".
قوله: (وقرئ: "ضئاء" بهمزتين): قُنبُل ابن كثير، قال أبو البقاء:"الياء في "ضياء" منقلبة عن واو، لقولك: ضوء، والهمزة أصل، ويُقرأ بهمزتين بينهما ألف، والوجه فيه: أن يكون أخر الياء، وقدم الهمزة، فلما وقعت الياء طرفاً بعد ألف زائدة قلبت همزة عند قوم، وعند آخرين قلبت ألفاً، ثم قلبت الألف همزة؛ لئلا تجتمع ألفان".
قوله: (والضياء أقوى من النور): قد سبق بيانه في أول البقرة، قال القاضي:"ما بالذات: ضُوء، وما بالعرض: نور، وقد نبه سبحانه وتعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها، والقمر نيراً بعرض الاكتساب"، قال السجاوندي:" (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً) مضيئة مع سياسة قاهرة للبصر، (وَالْقَمَرَ نُوراً)، أي: ظهوراً بلُطف".
(وَقَدَّرَهُ) وقدّر القمر، والمعنى: وقدّر مسيره (مَنازِلَ)، أو قدّره ذا منازل، كقوله تعالى:(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ)[يس: 39]، (وَالْحِسابَ): وحساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي، (ذلِكَ) إشارة إلى المذكور، أي: ما خلقه إلا ملتبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة، ولم يخلقه عبثاً. وقرئ:"يفصل"، بالياء.
[(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) 6].
خصّ المتقين لأنهم يحذرون العاقبة، فيدعوهم الحذر إلى النظر والتدبر.
[(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ * أُولئِكَ مَاواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) 7 - 8].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((وَقَدَّرَهُ): وقدر القمر): قال محيي السنة: "قيل: تقدير المنازل ينصرف إلى القمر خاصة، لأن بالقمر يُعرف انقضاء الشهور والسنين لا بالشمس، ومنازل القمر ثمانية وعشرون، وقيل: ينصرف إليهما، واكتفى بذكر ادهما عن الآخر، لأن مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها".
قوله: ((ذَلِكَ) إشارة إلى المذكور): قال محيي السنة: " (ذَلِكَ) رد إلى الجعل والتقدير".
وقلت - والله اعلم- وفيه إشعار بأن ذلك الجعل والتقدير مُنحصر ومقصور على الحق الذي هو معرفة الله تعالى، ومعرفة صفاتهن واستحقاقه لأن يُعبد ولا يُشرك به شيء، والعبادة لها أوقات معلومة وحُسبانات معينة، وأن الفائدة من الجعل والتقدير هي الحسبان المنوط به العبادة لا غير، قال الله تعالى:(يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)[البقرة: 189].
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأن المتقي العالم العامل من يستدل بذلك على معرفة بارئه ومنشئه؛ لينشيء له العبادة، وإليه لَوَّحَ الله تعالى بقوله:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) إلى قوله: (لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة: 164]، وهنا بقوله:(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) إلى قوله: (لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)[يونس: 6].
وأن المنجم المخذول القائل بأن لا مرجع ولا معاد، يشتغل بما لا يعنيه، ويخلد إلى الأرض متبعاً لهواه، فيغفل عن تلك المعرفة والعبادة فيهلك، وإليه أومأ بقوله:(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَاوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)، ألا ترى كيف ختم الآية بالكسب والعمل، كما استعقب الآية السابقة بقوله:(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله: (بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)[يونس: 4]، ليُعلم أن الكلام في المعرفة والعبادة وما يتعلق بهما.
ويؤيد هذا التأويل ما روينا في "صحيح البخاري" عن قتادة قال: "خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف بما لا يعلم".
وروى أبو داود عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال: "من اقتبس بابا من علم النجوم لغير ما ذكر الله، فقد اقتبس شعبة من السحر، المنجم كاهن، والكاهن ساحر، والساحر كافر".
(لا يَرْجُونَ لِقاءَنا): لا يتوقعونه أصلا، ولا يخطرونه ببالهم؛ لغفلتهم المستولية عليهم، المذهلة باللذات وحب العاجل عن التفطن للحقائق،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي رواية رزين عن قتادة: "والله، ما جعل الله في النجم حياة أد ولا رزقه ولا موته، وإنما يفترون على الله الكذب، ويتعللون بالنجوم".
قال صاحب "الجامع": "جعل المُنجم الذي يتعلم النجوم للحم بها وعليها، وينسب التأثيرات من السعادة والشقاوة إليها كافراً، نعوذ بالله من ذلك، ونسأله العصمة في القول والعمل".
قوله ((لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا): لا يتوقعونه أصلاً): اعلم أن الرجاء حقيقته توقع الخير، ويُستعمل في معنى الخوف مجازاً، قال في"الأساس":"أرجو من الله المغفرة، ورجوت في ولدي الرُّشد، وأتيت فلاناً رجاء أن يحسن غلي، ومن المجاز: استعمال الرجاء في معنى الخوف والاكتراث، يُقال: لقيت هولاً ما رجوته وما ارتجيته".
والوجه الأول مبني على معنى الاكتراث، ولهذا زاد:"أصلاً"، وفسر "لا يتوقعونه" بقوله"ولا يخطرونه ببالهم؛ لغفلتهم"، والثاني على حقيقته، ولهذا قال:"لا يأملون حُسن لقاءنا"، والثالث على مجرد الخوف، ومن ثم قال:"ولا يخافون سوء لقاءنا".
قوله: (ولا يخطرونه ببالهم؛ لغفلتهم): إيذان بأن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ)[يونس: 7] من عطف الصفة على الصفة، بمعنى: أنهم الجامعون بين عدم التوقع وثبوت الغفلة، وأن كل واحدة من هاتين الصفتين مستقلة فيهم مستقرة بهم مميزة لذواتهم، ولما صح أن تكون الثانية سبباً في الأولى، قال:"ولا يخطرونه ببالهم؛ لغفلتهم"، فوكل الترتب إلى ذهن الذكي.
أو لا يؤملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء، أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف، (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) من الآخرة، وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي، كقوله تعالى:(أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ)[التوبة: 38]، (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي: وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها، فبنوا شديداً وأمّلوا بعيداً.
[(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) 9 - 10].
(يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ): يسدّدهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدّى إلى الثواب، ولذلك جعل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) بيانا له وتفسيرا، لأنّ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: "يجوز أن يكون العطف لتغاير الفريقين، والمراد بالأولين من أنكر البعث، ولم يُرد الحياة الدنيا، وبالآخرين من ألهاه العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له".
قوله: (يُسددهم)، الأساس:"سد الرجل يسد: صار سديداً، وسد قوله وأمره يسد، وأمره سديد، وتسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدي إلى الثواب"، جعل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ) بياناً لهن لأن ما يؤدي إلى الثواب كأنه نفس الثواب تنزيلاً للسبب منزلة المسبب، وذلك أن في إيقاع (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) خبراً لقوله:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، وهو عين الهداية، الدلالة على الثواب والاستقامة والمزيد منها، قال تعالى:(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً)[التوبة: 124]، ولم تكن الهداية بهذه المثابة إلا أن تكون موجبة للثواب ومستحقة للأجر عندهم، ولذلك قال: "لأن
ويجوز أن يريد: يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، كقوله تعالى:(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ)(الحديد: 12).
ومنه الحديث: "إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول له: أنا عملك، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة. والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة فيقول له: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار".
فإن قلت: فلقد دلت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة: هو إيمان مقيد، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح، والإيمان الذي لم مقرونا بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها"، [فالهداية] على هذا التفسير عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية، وسبيل هذا البيان سبيل البدل في قوله تعالى: (ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) [فاطر: 32 - 33]، قال: "جعلَ (جَنَّاتُ عَدْنٍ) الذي هو السبق بالخيرات، لأن السبق لما كان السبق في نيل الثواب نُزل منزلة السبب، كأنه الثواب، فأبدلت عنه (جَنَّاتُ عَدْنٍ) ".
قوله: (يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة): فعلى هذا الهداية مجرد الدلالة، وقال أبو البقاء:" (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً من ضمير المفعول في (يَهْدِيهِمْ)، والمعنى: يهديهم في الجنة إلى مُراداتهم في هذه الحال"، وقال القاضي:"يجوز أن يكون خبراً ثانياً".
قلت: الأمر كذلك، ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعا فيها بين الإيمان والعمل، كأنه قال: إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعاً فيها بين الإيمان والعمل): اعلم أن من خواص "الذي" إيقاع صلته علة لخبره، قال صاحب "المفتاح":"أو أن تُومئ بذلك-أي: بالإتيان بالموصول- إلى وجه بناء الخبر الذي تبنيه عليه، فتقول: الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم"، وإذا كان كذلك كان مجموع الصلة علة لكونه تعالى يهديهم، ومن انتفاء فرد من أفراد المجموع ينتفي حكم التعليل.
فإن قلت: فإذا حصل التعليل من بناء الخبر على الموصول وصلته- كما ذكر -، فأي فائدة في ذكر تعليل آخر، وهو (بِإِيمَانِهِمْ)؟ قلت: الظاهر أن يحمل بناء الخبر على الموصول على تحقيق الخبر، كقوله:
إن التي ضربت بيتاً مهاجرة
…
بكوفة الجند غالت وُدَّها غول
فتبقى الباء مخلصة للتعليل، فيحصل التحقيق مع التعليل، ويؤذن بأن الإيمان الموصوف له أثر عظيم في تحصيل البُغية، قال القاضي: "ومفهوم الترتيب، وإن دل على أن سبب الهداية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو الإيمان والعمل الصالح، لكن دل منطوق قوله:(بِإِيمَانِهِمْ) على استقلال الإيمان بالسببية، وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف له".
وقلت: الحق أن الضمير في (يَهْدِيهِمْ) وفي (بِإِيمَانِهِمْ)، راجع إلى الموصول مع صلته، والصلة مشتملة على المعنيين، وتخصيص أحدهما بالذكر لإنافته وشرفه، لا أن مجرد الإيمان كافٍ في السببية، ولأن مذهب السلف الصالح على أن العمال داخلة في الإيمان، وروينا في "سنن ابن ماجه" عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأركان".
وفي "شرح السُّنة": "أن الصحابة التابعين ومن بعدهم من علماء السنة اتفقت على أن الأعمال من الإيمان، قالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"، وأيده بالآيات والأخبار، وقد سبق الكلام فيه مستقصى في الأنفال.
على أن المقام مقام مدح، ولا شك أن مجرد التصديق لا مدح فيه، وأن الكلم الطيب إنما يرفعه العمل الصالح، كأنه قيل: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يرفع الله منزلتهم إلى مباغيهم بسبب إيمانهم المعتبر المحلي بالعمل الصالح.
ثم قال: (بإيمانهم)، أي: بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح، وهو بين واضح لا شبهة فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روينا في "مسند أحمد بن حنبل" عن أبي ذر وأبي الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأعرف أمتي يوم القيام من بين سائر الأمم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم"، وفي رواية قال:"هم غُر محجلون من أثر الوضوء، ليس كذلك أحد غيرهم".
وأما خلاف الأصوليين فمشهور لا حاجة إلى عرضه.
ومقام المدح لا يدل على ما أورده صاحب "الانتصاف" من أنه يلزم أن المؤمن إذا لم يعمل صالحاً مخلدٌ في النار، وقال:"إنه تعالى جعل سبب الهداية إلى الجنة مطلق الإيمان، فقال: (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)، وقوله: "إن المراد إضافة العمل إلى الإيمان" لا تنتهض به الدعوى، وشبهته أن الإيمان الذي جُعل سبباً مقيد بالأعمال الصالحة، فيقيد به الثاني، وهو ممنوع، فإن الضمير يعود إلى الذوات لا باعتبار الصفات".
وقلت: قد ذكرنا أن هذا مما يأباه اللفظ.
قوله: (ثم قال: (بِإِيمَانِهِمْ)): يعني: أن الإضافة بدل من لام التعريف، كقوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام:(وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْباً)[مريم: 4]، أي: رأسي، أو أن الإيمان إذا قُرنَ بالعمل أريد مجرد التصديق، وإذا جُرد عنه أريد به المجموع.
(دَعْواهُمْ): دعاؤهم، لأن (اللهمّ) نداء لله، ومعناه: اللهمّ إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت:"اللهمّ إياك نعبد، ولك نصلى ونسجد"، ويجوز أن يراد بالدعاء: العبادة، (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [مريم: 48]، على معنى: أن لا تكليف في الجنة ولا عبادة، وما عبادتهم إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه، وذلك ليس بعبادة، إنما يلهمونه، فينطقون به تلذذاً بلا كلفة، كقوله تعالى:(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً)[الأنفال: 35].
(وَآخِرُ دَعْواهُمْ): وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح (أَنِ) يقولوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)، ومعنى (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ): أنّ بعضهم يحيى بعضا بالسلام،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد): قال صاحب "الروضة" في "الأذكار": "قال أصحابنا: وإن قنت بما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما [كان حسناً، وهو]: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ولا نكفرك، ونؤمن بكن ونخلع ونترك من يفجركن اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق".
قوله: (وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح (أنْ) يقولوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)): قال القاضي: "ولعل المعنى: أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال، ثم حياهم الملائكة بالسلامة من الآفات، والفوز بأصناف الكرامات، فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: ولعل الظاهر هو أن يضاف السلام إلى الله عز وجل إكراماً لأهل الجنة، كما ذكر المصنف في الوجه الأخير، وينصره قوله تعالى في سورة يس:(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)[يس: 58]، "أي: يُسلمُ عليهم بغير واسطة مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمناهم"، كذا فسره المصنف.
وهذا يدل على أنه يحصل للمؤمنين بعد نعيمهم في الجنة ثلاثة أنواع من الكرامة:
وسطها: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ).
وأولها: ما يقولون عند مشاهدتها: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)، وهي سطوع نور الجمال من وراء حجاب الجلال، وما أفخم شأن اقتران (اللَّهُمَّ) بـ (سُبْحَانَكَ) في هذا المقام، كأنهم لما رأوا أشعة تلك الأنوار لم يتمالكوا أن لا يرفعوا أصواتهم به.
وآخرها: أجل منهما، ولذلك ختموا الدعاء عند رؤيتها بـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وما هي إلا نعمة الرؤية التي كل نعمة دونها.
فكانت الكرامة الأولى كالتمهيد للثالثة، وما أشد طباقاً لهذا التأويل ما رويا عن ابن ماجه عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نورن فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، قال: وذلك قوله تعالى: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)[يس: 58]، قال: فينظر إليهم وينظرون إليه،
وقيل: هي تحية الملائكة إياهم، إضافة للمصدر إلى المفعول، وقيل: تحية الله لهم، و"أن" هي المخففة من الثقيلة، وأصله: أنه الحمد لله، على أن الضمير للشأن، كقوله:
أَنْ هالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره". والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
قوله: (أن هالك كل من يحفى وينتعل): صدره:
في فتية كسيوف الهند قد علموا
"كسيوف الهند": أي: تبرق أسارير جبهتهم كالسيوف، خفف "أن" المفتوحة، وأضمر اسمها، وهو ضمير الشأن، "من يحفى": كناية عن الفقير، كما أن "من ينتعلُ" كناية عن الغني، يقول: قد علم هؤلاء الفتيان أن الهلاك يعم الناس فقيرهم وغنيم، وهم يتبادرون إلى اللذات قبل أن يُحال بينهم وبينها.
والشعر للأعشى، وهو محرف، وفي "ديوانه":
قد علموا
…
أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل
وقرئ: "أنّ الحمد لله" بالتشديد ونصب "الحمد".
[(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) 11].
أصله: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) تعجيله لهم الخير،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقبله:
أنا برئنا حفاة لا نعال لنا
…
أنا كذلك قد نحفى وننتعلُ
قوله: (وقرئ: "أن الحمد لله"): قال ابن جني: "قرأها ابن محيصن، وهي تدل على أن قراءة الجماعة: (أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ): "أنْ" فيها مخففة، بمنزلة قول الأعشى: "أن هالكٌ" البيت، ولا يجوز أن تكون زائدة، كقوله:
ويوماً توافينا بوجه مقسم
…
كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم
أي: كظبية".
فوضع (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) موضع "تعجيله لهم الخير" إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل له، والمراد أهل مكة وقولهم:(فأمطر علينا حجارة من السماء)[الأنفال: 32]، يعنى: ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل الخير ونجيبهم إليه، (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) لأميتوا وأهلكوا.
وقرئ: "لقضى إليهم أجلهم" على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل، وتنصره قراءة عبد الله:"لقضينا إليهم أجلهم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إشعاراً بسرعة إجابته لهم)، الانتصاف:"هذا من بديع القرآن، لا ترى العدول من لفظ إلى آخر إلا لمعنى، والنحوي يقول في (أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً) [نوح: 17]: إنه أجرى المصدر على غير فعله، وهذا المصدر لفعل دل عليه هذا الفعل، كأنه قال: "فنبتم نباتاً"، وله فائدة في التحقيق وراء هذا، وهو التنبيه على تحتم القدرة وسرعة نفاذ حكمها، حتى كأن إنبات الله نفس النبات، فقرن أحدهما بالآخر".
وقلت: كان أصل الكلام: "ولو يُعجل الله للناس الشر تعجيله"، ثم وضع موضعه "الاستعجال"، ثم نُسب إليهم، فقيل:(اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ)؛ لأن المراد أن رمته سبقت غضبه، فأريد مزيد المبالغة، وذلك أن استعجالهم الخير أسرع من تعجيل الله لهم الخير، فإن الإنسان خُلق عجولاً، إذا سمع بخير لا يثبت على شيء حتى يسرع إليه، والله صبور حليم؛ يؤخر للمصالح الجمة التي لا يهتدي إليها عقل الإنسان، ومع ذلك يسعف بطلبتهم ويُسرع بإجابتهم.
فإن قلت: كيف اتصال هذه الآية بما قبلها؟ قلت- والله أعلم-: إنه تعالى لما افتتح السورة بقوله: (الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)، وذكر تعجب قريش عن إرساله صلوات الله عليه، واختصاصه بالنبوة دونهم، وقولهم تعنتاً وعناداً:(إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)[يونس: 2]؛ طعناً في كلامه المجيد، آذن بذلك أن هذه السورة الشريفة محتوية على بيان تكذيب قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإيذائهم لهن وطعنهم فيه، ومشتملة على بيان الآيات الدالة على عظمة الله تعالى وكبرياء شأنه؛
فإن قلت: فكيف اتصل به قوله: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ)، وما معناه؟ قلت: قوله (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ) متضمن معنى نفى التعجيل، كأنه قيل: ولا نعجل لهم الشر، ولا نقضي إليهم أجلهم، فنذرهم (فِي طُغْيانِهِمْ) أي: فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم، إلزاما للحجة عليهم.
[(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) 12].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنبيهاً وتفريعاً، فجعل قوله:(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا) إلى قوله: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)[يونس: 2]، تمهيداً وتوطئة لذكر أصول الآيات وأمهاتها، وهو قوله:(إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)[يونس: 3] إلى آخر الآيات بياناً لكبرياء سُلطانه، وأن له أن يختص برسالته من يشاء، وأن المقصود من الإرسال الدعوة إلى معرفة الله، وبيان كيفية عبادته، لأن المبدأ منه والمرجع إليه، ليثيب المحسن ويعاقب المسيء، فقد حصل هذا المقصود من هذا الرسول الكريم والكتاب المجيد، وقطع بهما المعاذير، وأزاح الحجج.
وبين بعد ذلك صفة عفوه وحلمه بهذه الآية، حيث لم يهلكهم بغتة بما تكلموا به من تلك الشنعاء في كتابه المجيد:(إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)، وفي رسوله المجتبي:"إن الله لم يجد رسولاً يرسله على الناس إلا يتيم أبي طالب"، كقوله تعالى:(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)[فاطر: 45].
قوله: (فكيف اتصل): الفاء تدل على الإنكار، أي: لزم من قضية "لو"، وقولك:" (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ): لأميتوا وأهلكوا": أنهم ما أهلكوا، بل أمهلوا، ومعنى قوله:(فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) الإمهال أيضاً، فكيف اتصل به؟
(لِجَنْبِهِ) في موضع الحال، بدليل عطف الحالين عليه، أي: دعانا مضطجعاً، (أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً). فإن قلت: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأجاب: أن اتصاله به من حيث المعنى لا اللفظ، لأن قوله:(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ) متضمن معنى نفي التعجيل، لأن "لو" لتعليق ما امتنع بامتناع غيره، يعني: لم يكن التعجيل ولا قضاء العذاب، فيلزم من ذلك حصول المهلة، قال القاضي:(فَنَذَرُ) معطوف على فعل محذوف دل عليه الشرطية، كأنه قيل: لا نعجل ولا نقضي، فنذرهم إمهالاً لهم واستدراجاً".
وقلت: الظاهر أن الفاء في (فَنَذَرُ) جواب شرط محذوف، وقوله:(الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) تكرير لما سبق من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[يونس: 7]، كُرر للذم ولإناطة ما لم ينط به أولاً، ويُراد بهم منكرو البعث من أهل مكة الذين قالوا:(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[الأنفال: 32] جُحوداً وإنكاراً، كما مر في تفسيره، ويكون قوله:(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ) كالتوطئة والتمهيد لذكرهم، و (النَّاسَ) يُراد به: جنسُ المعاندين.
والمعنى: ولو يُعجل الله لهذا الجنس من الأمم الشر تعجيله لهم الخير لأبادهم وأهلكهم، ولكن يمهلهم استدراجاً؛ ليزيدوا في طغيانهم، ثم يستأصلهم، كما قال تعالى:(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) الآية [فاطر: 45]، فإذا كان كذلك فنحن نذرُ هؤلاء - الذين لا يؤمنون بالبعث ولا يرجون لقاءنا، ويقولون: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء- في طغيانهم يعمهون، ثم نقطع دابرهم.
قوله: ((لِجَنْبِهِ) في موضع الحال): قال أبو البقاء: "واللام في (لِجَنْبِهِ) على أصلها
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عند البصريين، أي: دعانا مُلقياً لجنبه"، وقال السجاوندي:(لِجَنْبِهِ): مضطجعاً عليه، كقوله:
فخر صريعاً لليدين وللفم
قال المصنف: "اللام- في (يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ) [الإسراء: 107] للاختصاص"، أي: أنهم ما يدعون الله إلا عند الاضطرار، ويخصون هذه الحالة بالخضوع أكثر من تلك الحالات، ومجاز هذه اللام كمجاز ["في"] في قوله:(فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)[طه: 71].
وكما خُصصت هذه الحالة باللام قدمت على الحالتين؛ لينبه على كون الإنسان هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً لا صبر له في الصدمة الأولى على المصيبات، ثم إنه إذا أصابه بعض التسلي قعد، ثم قام
قلت: معناه: أنّ المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها؛ إن كان منبطحاً عاجز النهض متخاذل النوء، أو كان قاعداً لا يقدر على القيام، أو كان قائماً لا يطيق المشي والمضطرب إلى أن يخف كل الخفة، ويرزق الصحة بكمالها والمسحة بتمامها.
ويجوز أن يراد: أن من المضرورين من هو أشدّ حالا وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء، لأنّ الإنسان للجنس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)[آل عمران: 191]: ففي شأن الخاصة الذين يبذلون جهدهم في خدمة بارئهم، ويستغرقون أوقاتهم في طاعته، فإذا قدروا على القيام في أداء العبادة لا يقعدون ولا يذكرون مضطجعين إلا عند الاضطرار، فتلك الآية في شأن الإنسان الضجور، وهذه في شأن المؤمن الصبور.
قوله: (منبطحاً)، الجوهري:"بطحه: ألقاه على وجهه، فانبطح".
قوله: (متخاذل النوء)، الجوهري:"ناء ينوء: نهض بجهد ومشقة"، الأساس:"ونؤت بالحمل: نهضت به: وفلان نوؤه متخاذل: إذا كان ضعيف النهض".
قوله: (والمسحة بتمامها)، الأساس:"يقال: من الله عليك بالمسحة، وأذاقك حلاوة الصحة، وبه مسحة من جمال، ومسح الله ما بك".
قوله: (ويجوز أن يُراد أن من المضرورين): عطف على قوله: "أن المضرور لا يزال داعياً"، فاعتبر الجنس في "الإنسان" على الأول بحسب كل فرد من أفراده، فالتفصيل بحسب أحوال كل شخص، ولهذا قال:"معناه أن المضرور لا يزال داعياً، فهو يدعونا في حالاته كلها"، واعتبر في الثاني الجنس بحسب الأنواع، فالتفصيل بحسب أحوال الأشخاص، قال:"ومِنَ المضرورين من هو أشد حالاً، ومن هو كذا ومن هو كذا".
(مَرَّ) أي: مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر، ونسى حال الجهد، أو: مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه، كأنه لا عهد له به، (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا): كأنه لم يدعنا، فخفف وحذف ضمير الشأن، قال:
كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقّانِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو: مر عن موقف الابتهال): يعني: لم يذكر متعلق (مَرَّ)، فيحتمل أن يُعدى بـ"على" تارة لتضمينه معنى "مضى"، وأخرى بـ"عن" لتضمين معنى المجاوزة.
قوله: (كأن ثدياه حُقان): أوله:
ونحرٍ مشرق اللون
"النحر": موضع القلادة من الصدر، والأصل: حُقتان، لأن التاء الثابتة في الواحدة ثابتة في التثنية، فحذف على خلاف القياس، وخفف "كأن"، وأبطل العمل، وقال:"ثدياه حُقان"، وهما مرفوعان بالابتداء والخبر، والضمير في "ثدياه" يعود إلى "النحر".
(كَذلِكَ) مثل ذلك التزيين (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ): زين الشيطان بوسوسته، أو: الله عز وجل بخذلانه وتخليته، (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الإعراض عن الذكر وإتباع الشهوات.
[(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) 13 - 14].
(لَمَّا) ظرف لـ (أهلكنا)، والواو في (وَجاءَتْهُمْ) للحال، أي: ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات.
وقوله: (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) يجوز أن يكون عطفاً على (ظلموا)، وأن يكون اعتراضاً، واللام لتأكيد النفي، يعنى: وما كانوا يؤمنون حقاً، تأكيداً لنفي إيمانهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأن يكون اعتراضاً): وإذا كان عطفاً تفسيراً للمعطوف عليه، لأن ظلمهم على الأنبياء عند مجيئهم بالبينات والمعجزات هو الظلم كله، وهو الكفر البالغ.
وإذا كان اعتراضاً كان تأكيداً لمضمون الجملة، وهو الهلاك لما يستحقون من الإجرام، لأن مثل ذلك الإهلاك لا يكون إلا لمن لم يؤمن قط، ولزمته الحجة.
قوله: (واللام لتأكيد النفي): ليس تقريراً لمعنى الاعتراض، بل ابتداء تفسير لقوله:(وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)، وقوله:"وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم" عطف تفسيري على قوله: "تأكيداً"، وهو مفعول له لمقدر، أي: إنما أتى باللام في الكلام المنفي لهذا الأمر، ويريد
وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم، وأن الإيمان مستبعد منهم.
والمعنى: أن السبب في إهلاكهم تكذيب الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثه الرسل.
(كَذلِكَ) مثل ذلك الجزاء، يعنى الإهلاك (نَجْزِي) كل مجرم، وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ: يجزى، بالياء.
(ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم، أي: استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكنا، (لِنَنْظُرَ) أتعملون خيراً أم شراً، فنعاملكم على حسب عملكم، (وكَيْفَ) في محل النصب بـ (تعملون) لا بـ"ننظر"، لأنّ معنى الاستفهام فيه يحجب أن يتقدّم عليه عامله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
به: أن معنى العلم مستفاد من معنى التأكيد، وأن نفي الإيمان عنهم بهذه الحيثية تابع لسبق علم الله فيهم بأنهم لا يؤمنون، وقوله:"والمعنى أن السبب" إلى آخره: تلخيص لمعنى الآية بحسب العطف لا الاعتراض، فظهر منه أن علم الله ليس سبباً مستقلاً في إهلاكهم، وهو مذهبه.
وأما بيان وجه الاعتراض: فهو أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل، والسبب في التكذيب والإهلاك سبق علم الله أنهم يصرون على الكفر، وانه تعالى مهلكهم، ونحوه في الاعتراض قوله تعالى:(ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)[البقرة: 51 و 92]، أي:"وانتم قوم عادتكم الظلم"، فرجع مآل التأويل إلى بطلان مذهبه.
قوله: (و (كَيْفَ) في محل النصب بـ (تَعْمَلُونَ): المعنى: لننظر عملكم أهو خير أم شر، إيمان أم كفر؟ وهذا هو الوجه، وقيل:"ننظر" بمعنى "نعلم"، أي: لنعلم جواب كيف تعملون؟ كما ذكر سيبويه في قولك: علمت أزيد عندك أم عمرو؟ والمعنى: علمت جواب ذلك.
فإن قلت: كيف جاز النظر على الله تعالى، وفيه معنى المقابلة؟ قلت: هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجوداً، شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبيانه: أن الرسل إذا قالوا للقوم: كيف تعملون؟ أتعملون الخير أم الشر- مثلاً-؟ فإجابتهم: إما بالقول؛ بأن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وإما بالفعل؛ بأن يشتغلوا بالعمل، وإما لا يجيبون. وعلى أي وجه كان، فلابد من حصول جواب لقولهم: كيف تعملون؟ فيعلم الله الجواب واقعاً بالفعل حاصلاً، بعدما علم أنه سيحصل. حاصل المعنى يؤول إلى أن المعنى: جعلناكم خلائف في الأرض لنعلم ما تجيبون به الأنبياء من قولهم: كيف تعملون؟
ولما كان "ننظر" بمعنى "نعلم" يكون معلقاً عن العمل فيما بعده، قال ابن الحاجب:"فإذا قلت: علمت أزيد عندك أم عمرو؟ فمعناه: علمت أحدهما معيناً على صفة هو كونه عندكن لأنه ذلك الذي يُقال في جوابه"، فعلى هذا: فإذا قيل: علمت كيف زيد، فمعناه: علمت زيداً على حالة هو كونه صحيحاً أم سقيماً، لأنه ذلك الذي يُقال في جوابه، فإن "كيف يُسأل بها عن الحال.
فمعنى (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ): نعلم عملكم على أي حال كان من الخير والشر، قال القاضي:"وفائدته الدلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأفعال وكيفياتها، لا هي من حيث ذاتها، ولذلك يحسن الفعل تارة، ويقبح أخرى".
قوله: (هو مستعار للعلم المحقق)، الانتصاف:"لو اقتصر الزمخشري رحمه الله تعالى على إنكار الرؤية من العبد لله تعالى لقبح، فكيف وقد ضم إليه إنكار رؤية الله للعبد، وليس النظر مستلزماً للمقابلة، وقد أبطل في موضعه".
[(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) 15].
غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين، فقالوا:(ائْتِ بِقُرْآنٍ) آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك، (أَوْ بَدِّلْهُ) بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة وذمّ عبادتها، فأمر بأن يجيب عن التبديل، لأنه داخل تحت قدرة الإنسان، وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل، وأن يسقط ذكر الآلهة. وأما الإتيان بقرآن آخر، فغير مقدور عليه للإنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فأمر بأن يُجيب عن التبديل؛ لأنه داخل تحت قدرة الإنسان
…
، وأما الإتيان بقرآن آخر فغير مقدور): اعلم أن التبديل يجيء بمعنيين، قال المصنف في قوله تعالى:(يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ)[إبراهيم: 48]: "التبديل: التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك: بدلت الدراهم دنانير، وفي الأوصاف كقولك: بدلت الحلقة خاتماً".
ويمكن أن ينزل قوله: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا) على المعنى الأول، ولهذا قال:"إن نُسخت آية تبعت النسخ"، لأن النسخ إبطال للمنسوخ مع إبداله الناسخ، ويُنزل قوله:(أَوْ بَدِّلْهُ) على المعنى الثاني، ولهذا قال:"وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل، وأن يُسقط ذكر الآلهة"، ثم الجواب- وهو قوله:(قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) - يحتمل أن يجرى على المعنيين، فيكون جواباً عن الاقتراحين، وأن يُحمل على الأهون، فيدخل الأغلظ بطريق الأولى، وفي كلامه إشعار بهذا.
(ما يَكُونُ لِي): ما ينبغي لي وما يحل، كقوله تعالى:(ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ)[المائدة: 116]، (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي): من قبل نفسي - وقرئ بفتح التاء - من غير أن يأمرنى بذلك ربى (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيّ) لا آتى ولا أذر شيئاً من نحو ذلك، إلا متبعاً لوحي الله وأوامره، إن نسخت آية تبعت النسخ، وإن بدِّلت آية مكان آية تبعت التبديل، وليس إلىّ تبديل ولا نسخ.
(إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بالتبديل والنسخ من عند نفسي (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
فإن قلت: أما ظهر وتبين لهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن حتى قالوا: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا)؟ قلت: بلى، ولكنهم كانوا لا يعترفون بالعجز، وكانوا يقولون: لو نشاء لقلنا مثل هذا، ويقولون: افترى على الله كذبا، فينسبونه إلى الرسول، ويزعمونه قادراً عليه وعلى مثله، مع علمهم بأنّ العرب مع كثرة فصحائها وبلغائها إذا عجزوا عنه، كان الواحد منهم أعجز.
فإن قلت: لعلهم أرادوا: (ائت بقرآن غير هذا أو بدّله) من جهة الوحي، كما أتيت بالقرآن من جهته، وأراد بقوله:(ما يَكُونُ لِي): ما يتسهل لي، وما يمكنني أن أُبدّله؟ قلت: يردّه قوله: (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما قوله: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى) فجاء مستأنفاً وعلى الانحصار؛ بياناً لموجب أن ليس إليه النسخ والتغيير، ولا أمر من الأمور مما يتعلق بالوحي، لأن المعنى: ما أتبع شيئاً مما يتعلق بالدين إلا ما يوحى إلي.
قوله: (لعلهم أرادوا: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)): السؤال واردٌ على قوله فيما سبق: "وأما الإتيان بقرآن آخر غير مقدور عليه للإنسان".
قوله: (يرده قوله: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي): يعني: أنه صلوات الله عليه علل
فإن قلت: فما كان غرضهم -وهم أدهى الناس وأنكرهم- في هذا الاقتراح؟ قلت: الكيد والمكر، أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن: ففيه أنه من عندك، وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير: فللطمع ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل، فإمّا أن يهلكه الله فينجوا منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه، وتصحيحاً لافترائه على الله.
[(قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُون) 16].
(لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ يعنى أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجا عن العادات، وهو أن يخرج رجل أُميّ لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ) بقوله: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، ولو حُمل النسخ والتبديل على أن يكون من جهة الوحي - كما جاء في كثير من القرآن - لم يستقم ترتب العذاب عليه.
وقلت: ويُمكن أن يُقال: معناه: ما يتسهل لي ولا يمكنني أن أقترح على الله بأن ينسخ ويُغير ويأتي بما تريدونه؛ لأنه عصيان وطغيان، لأني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، ويكون تعريضاً بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.
قوله: (وأنكرهم)، الأساس:"فلان فيه نكارة ونكر - بالفتح-: أي: دهاء وفطنة". الراغب: "النكر: الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف، وقد نكر نكارة، قال الله تعالى:(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ)[القمر: 6].
قوله: (وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم) إلى آخره: بيان وتفسير لقوله: "أمراً عجيباً".
فيقرأ عليهم كتاباً فصيحاً، يبهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان وما يكون، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه، وألصقهم به.
(وَلا أَدْراكُمْ بِهِ): ولا أعلمكم به على لساني، وقرأ الحسن:"ولا أدراتكم به"، على لغة من يقول: أعطاته وأرضاته، في معنى أعطيته وأرضيته،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهو مفعول "إحداثه"، ومعنى قوله:(لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ): أني عبد مجبور في التلاوة، وليس في وُسعي أن لا أتلوه وأحط عبأه، فضلاً عن أن آتي بما اقترحتموه من الإتيان بغيره أو إبداله من عند نفسي، ولله في كوني مجبوراً أسرارٌ وحكم وإحداث أمر عجيب غريب.
وفيه إبطال لمذهبه؛ لأنه جعل التلاوة تابعة لمشيئة الله، وقرر أنه مجبور في ذلك.
قوله: ((وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ) ولا أعلمكم به على لساني): أي: لو شاء الله ما تلوته عليكم، ولا أعلمكم الله به على لساني، قال القاضي:"المعنى: أنه الحق الذي لا محيص عنه، لو لم أرسل به لأرسل به غيري".
قوله: (وقرأ الحسن: "ولا أدراتكم به"): قال ابن جني: "قراءة ابن عباس والحسن وابن سيرين، وهي قراءة قديمة التناكر لها والتعجب منها، ولعمري إنها في بادئ أمرها على ذلك، غير أن لها وجهاً، وإن كانت فيه صنعة وإطالة، وطريقه: أنه أراد: "ولا أدريتكم به"، ثم قُلبت الياء لانفتاح ما قبلها- وإن كانت ساكنة - ألفاً، كقولهم في ييأس: ياءس، وقالوا: عاعيت
وتعضده قراءة ابن عباس: "ولا أنذرتكم به". ورواه الفراء: "ولا أدرأتكم به"، وبالهمزة، وفيه وجهان، أحدهما: أن تقلب الألف همزة، كما قيل: لبأت بالحج، ورثأت الميت وحلأت السويق، وذلك لأنّ الألف والهمزة من واد واحد، ألا ترى أنّ الألف إذا مستها الحركة انقلبت همزة. والثاني: أن يكون من: درأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته دارئا، والمعنى: ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني.
وعن ابن كثير: "ولأدراكم به" بلام الابتداء، لإثبات الإدراء، ومعناه: لو شاء الله ما تلوته أنا عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلا دون سائر الناس.
(فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً وقرئ عُمُراً بالسكون. يعنى: فقد أقمت فيما بينكم يافعا وكهلا،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهاهيت، والأصل: عيعيت وهيهيت، فقلبت الياء الساكنة فيها ألفاً، وكذلك قلبت ياء "أدريتكم" ألفاً، فصارت "أدراتكم"، وروينا أيضاً عن قُطرب أن لغة عقيل في قولك: أعطيتك: أعطاتك، فلما صار من "أدريتكم" إلى "أدراتكم"، هُمز على لغة من قال في الباز: البأز، وفي العالم: العألم، وفي الخاتم: الخأتم، ولها نظائر، وقد أوردناها في "الخصائص" في باب [ما] همزته العرب ولا اصل له في همز مثله".
قوله: (وتعضده قراءة ابن عباس): يعني: كما أن "أنذرتكم" مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك "أدرأتكم" مسند إليه بخلاف المشهور، فإنها مسند إلى الله تعالى.
قوله: (يافعاً)، الجوهري:"أيفع الغلام، أي: ارتفع، فهو يافع، ولا يُقال: موفع، وهو من النوادر".
فلم يعرفني أحد منكم متعاطياً شيئاً من نحوه، ولا قدرت عليه، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتعلموا أنه ليس إلا من الله، لا من مثلي، وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم:(ائت بقرآن غير هذا)؛ من إضافة الافتراء إليه.
[(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) 17]
(مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في قولهم: إنه ذو شريك وذو ولد، وأن يكون تفاديا مما أضافوه إليه من الافتراء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (دسوه)، الجوهري:"ودسست الشيء في التراب: أخفيته، والدسيس: إخفاء المكر". والذي دسوه فيه: ما ذكره في الجواب: "كان غرضهم في هذا القول الكيد والمكر، وفيه أنه من عندك وأنت قادر على مثله، وأنه إن وُجد منه تبديل، فإما أن يهلكه الله، أو يسخروا منه، ويجعلوه حجة عليه وتصحيحاً لافترائه".
قوله: (تفادياً)، الأساس: "ومن المجاز: تفادي منه: تحاماه، قال:
تفادي الأسود الغلب منه تفادياً"
يعني: إذا عُلق قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى) بقوله: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)، أي: أشركوا، كان المراد افتراء المشركين في قولهم: إنه ذو شريك وولد، ويكون قوله:(ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ)[يونس: 14]، وقوله:(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)[يونس: 15] إلى هاهنا، إعلاماً بأن المشركين الذين بعث إليهم
[(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) 18]
(ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر. وقيل: إن عبدوها لا تنفعهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم استنوا سنن من قبلهم في تكذيب آيات الله والرسل، في قوله:(وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)[يونس: 13]، ولما فرغ من قصة المشركين عاد إلى الأول، وربط به قوله:(فَمَنْ أَظْلَمُ).
وإذا عُلق بقوله: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)[يونس: 16]، ومعناه كما قال:"وهو جواب عما دسوه تحت قولهم: ائت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه" كان احترازاً أو تحامياً مما أضافوه إليه من الافتراء، وجيء بالعام ليكون أبلغ، وهذا الوجه أنسب وأدل على معنى التعريض.
قوله: (الأوثان): بالنصب؛ عطف بيان لقوله: (مَا لا يَضُرُّهُمْ)، وهو مفعول (يَعْبُدُونَ).
قوله: (وقيل: إن عبدوها لا تنفعهم): والفرق أن المقصود الأولي على الأول من قوله: (مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) الأصنام بعينها، وأنها جمادات لا تقدر على ضر ولا نفع، كقوله تعالى:(وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ)[القمر: 13]، أي: على السفينة. وعلى الثاني: المقصود فقدان أوصاف المعبودية، فإن من حق المعبود أن يُثيب عابده إن عبد، ويُعاقب عن قعد، ويجوز أن يدخل في الثاني غير الأصنام من الملائكة والمسيح، تلخيصه: ويعبدون لما لا يُعتد به، أو لما لا يستحق العبادة.
وإن تركوا عبادتها لم تضرهم، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة، معاقباً على المعصية، وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة العزي ومناة وهبل وإسافا ونائلة وَكانوا يَقُولُونَ (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ)، وعن النضر بن الحارث: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى.
(أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ): أتخبرونه بكونكم شفعاء عنده، وهو إنباء بما ليس بمعلوم لله، وإذا لم يكن معلوما له - وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات - لم يكن شيئا، لأن الشيء ما يعلم ويخبر عنه، فكان خبراً ليس له مخبر عنه. فإن قلت: كيف أنبؤوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأنّ الذي أنبؤوا به باطل غير منطو تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه، كما يخبر الرجل الرجل بما لا يعلمه. وقرئ:"أتنبئون" بالتخفيف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (العالم الذات)، وقوله:(لأن الشيء ما يُعلم ويخبر عنه): كلاهما مذهبه.
قوله: (فكان خبراً): أي: قولهم: (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) ليس له مخبر عنه، لأنه لو كان له مخبر عنه لتعلق علم الله تعالى [به] لشمول علم الله جميع الكائنات، وحين لم يتعلق علم الله به علم انه لم يكن مخبراً عنه.
وقوله: (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) تأكيد لنفيه، لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم، (يُشْرِكُونَ) قرئ بالتاء والياء و"ما" موصولة أو مصدرية، أي: عن الشركاء الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم.
[(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) 19 - 20].
(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم، وذلك في عهد آدم عليه السلام إلى أن قتل قابيل هابيل، وقيل: بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين ديارا.
(وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) عاجلا فيما اختلفوا فيه، ولميز المحق من المبطل، وسبق كلمته بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف، وتلك دار ثواب وعقاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن ما لم يُوجد فيهما- أي: في السماوات والأرض - فهو منتفٍ معدوم): كلام على سبيل إلزام الخصم على الفرض والتقدير، وألا فالمسلمون منزهون عن أمثاله، قال الإمام الداعي إلى الله فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى:"ثبت بالدليل انه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية لهان وثبت انه تعالى قادر على جميع الممكنات، فهو تعالى قادر أن يخلق خارج العالم ألف ألفِ عالمٍ أعظم وأوسع منه، ودلائل الفلاسفة - خذلهم الله - في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة مبنية على مقدمات واهية". على أن المصنف فسر (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)[البقرة: 255] بـ"ما رُوي: أنه تعالى خلق كرسياً، وهو بين يدي العرش، دون السماوات والأرض، وهو إلى العرش كأصغر شيء".
وقالوا: (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أرادوا: آية من الآيات التي كانوا يقترحونها، وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر، بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات، وجعلوا نزولها كلا نزول، وكأنه لم تنزل عليه آية قط، حتى قالوا:(لولا أنزل عليه آية) واحدة من (ربه)، وذلك لفرط عنادهم، وتماديهم في التمرّد، وانهماكهم في الغيّ.
(فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي: هو المختص بعلم الغيب المستأثر به، لا علم لي ولا لأحد به، يعنى أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو، (فَانْتَظِرُوا) نزول ما اقترحتموه، (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) لما يفعل الله بكم؛ لعنادكم وجحودكم الآيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقالوا: (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ): والتلاوة: (وَيَقُولُونَ)، وإنما عدل عنه ليؤذن به أن قوله:(وَيَقُولُونَ) ليس معطوفاً على قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا)[يونس: 18]، كما يقتضيه ظاهر اللفظ، وإنما هو معطوف على قوله:(قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)[يونس: 15] ما بينهما اعتراض، وأوثر المضارع على الماضي ليؤذن باستمرار هذا القول منهم، وأن هذا القول من دأبهم وعادتهم.
قوله: (أن الصارف عن إنزال الآيات [المقترحة] أمر مغيب): فيه إشارة إلى أن قوله تعالى: (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا) جواب على الأسلوب الحكيم، فإنهم حين طلبوا إنزال آية واحدة، مع تلك الآيات المتكاثرة، دل على أن سؤالهم للتعنت والعناد، فأجيبوا بما أجيبوا؛ يؤذن بأن سؤالهم سؤال المقترحين يستحقون به نقمة الله وحلول عقابه، يعني: أنه لابد أن
[(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) 21].
سلط الله القحط سبع سنين على أهل مكة، حتى كادوا يهلكون، ثم رحمهم بالحياة، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في الآيات، ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه، و"إذا" الأولى للشرط، والآخرة جوابها، وهي للمفاجأة، و"المكر": إخفاء الكيد وطيه، من الجارية الممكورة: المطوية الخلق، ومعنى (مَسَّتْهُمْ): خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم.
فإن قلت: ما وصفهم بسرعة المكر، فكيف صح قوله:(أَسْرَعُ مَكْراً)؟ قلت: بلى، دلت على ذلك كلمة المفاجأة، كأنه قال: وإذا رحمناهم من بعد ضراء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تُستأصل شأفتكم، لكن أنا لا أعلم متى يكون، وأنتم كذلك، لأنه من علم الغيب، وإذا كان كذلك فانتظروا ما يوجبه اقتراحكم، إني معكم من المنتظرين إياه. هذا التقرير أنسب من تقريره؛ لأن قوله:"أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب" لا وجه له، لأن الصارف مُعين، وهو عنادهم، قال الله تعالى:(وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ)[الأنعام: 109].
قوله: (و"إذا" الأولى للشرط، والآخرة جوابها، وهي للمفاجأة): قال أبو البقاء: "والعامل في الثانية الاستقرار الذي في (لهُم)، وقيل: "إذا" الثانية زمانية أيضاً، وهي وما بعدها جواب الأولى".
قوله: (من: الجارية الممكورة)، الجوهري:"الممكورة: المطوية الخلق من النساء". الأساس: "امرأة ممكورة الساقين: خدلجتهما".
فاجؤوا وقوع المكر منهم، وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤوسهم من مس الضراء، ولم يتلبثوا ريثما يسيغون غصتهم. والمعنى: أنّ الله دبر عقابكم، وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام.
(إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ) إعلام بأنّ ما تظنونه خافيا مطويا لا يخفى على الله، وهو منتقم منكم. وقرئ:(تمكرون) بالتاء والياء.
وقيل: مكرهم قولهم: سقينا بنوء كذا. وعن أبى هريرة: "إنّ الله ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها، فتصبح طائفة منهم بها كافرين؛ يقولون: مطرنا بنوء كذا.
[(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) 22 - 23].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ريثما يسيغون)، الجوهري:"راث علي خبرك يريث ريثاً: أبطأ". و"ما" مصدرية، أي: مقدار ساعة غصنهم، فأطلق "ريث" على المقدار، وجاز لأن البطء للمقدار.
قوله: (وقرئ: (تَمْكُرُونَ) بالتاء والياء): بالتاء الفوقانية: السبعة، وبالياء: شاذة.
قوله: (وعن أبي هريرة) الحديث: من رواية مسلم والنسائي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: "ألم تروا إلى ما قال ربكم؟ قال: ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، يقولون: الكواكب، الكواكب".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وروينا عن البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن زيد بن خالد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذل مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب".
قال صاحب "الجامع": "النوء: واحد الأنواء، وهي ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة في منزلة منها، يسقط في الغرب كل ثلاثة عشر ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلها، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع نظيرها: يكون مطر، فينسبون المطر إلى المنزلة، ويقولون: "مُطرنا بنوء كذا، وإنما سُمي "نوءاً"؛ لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب، ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءاً، أي: نهض وطلع، وقيل: النوء: هو الغروب، فهو من الأضداد".
ثم قال: "وعلمُ النجوم المنهي عنه: هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكائنات والحوادث التي لم تقع، وأنهم يُدركون معرفتها بتسيير الكواكب وانتقالاتها، واجتماعاتها وافتراقها، وأن لها تأثيراً اختيارياً في العالم، وأما ما يُعرف من النجوم، كمعرفة الأوقات، والاهتداء بها في الطرقات، ومعرفة القبلة، وأشباه ذلك، فليس به بأس".
فإن قلت: بين لي صورة هذا المكر؟ قلت: إنهم بعدما أنجاهم الله تعالى من المكاره والضراء كانوا يلبسون الأمر على أتباعهم في أن ذلك من الله ومن قدرته، لسوء صنيعهم وتكذيبهم الأنبياء، وينسبون ذلك إلى الأنواء؛ إرادة أن لا يؤمنوا، ولا يشكروا الله، ولا يستدلوا على وجود الخالق.
قرأ زيد بن ثابت: "ينشركم"، ومثله قوله (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة: 10]، (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الروم: 20].
فإن قلت: كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قرأ زيدُ بن ثابت: "ينشركم"): قال صاحب "التيسير": "قرأ ابن عامر: (ينشركم في البر والبحر) بالنون والشين؛ من النشر، والباقون: بالياء والسين، أي: من التسيير".
قوله: (كيف جعل الكون في الفلك غاية؟ ): يعني: أنه تعالى قال: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ)، والسير في البحر ابتداؤه الكون في الفلك لا غايته؟
وخلاصة الجواب: أنه تعالى لم يجعل ابتداء السير مختصاً بالبحر، بل بالبر والبحر، ولم يجعل الكون في البحر وحده غاية للسير، بل جعل الكون مع ما عطف عليه وما اتصل به غاية للمذكور قبله، كأنه قيل: هو الذي قدر لكم في البر والبحر الرفاهية والرخاء فتنقلبون فيها كيف شئتم، وتسيرون أني أردتم، لا تصيبكم شدة وبأساء، وأنتم مع ذلك لا تذكرون الله ولا تشكرونه بما أولاكم، حتى إذا وقعتم في الضر والشدة التي لا غاية لها دعوتم الله مخلصين له الدين، فوضع موضع هذه الغاية:(إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) إلى آخره، ليدل على النهاية في الضر، لأنه لا غاية بعدها.
وتلخيصه: أن في ذكر ابر والبحر بيان غاية حالة الرفاهية في السير، وفي اختصاصه بحالة البحر بيان انتهاء حالة الشدة والمشقة، ونحوه في المعنى قوله تعالى:(وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) [النحل: 53 - 54].
والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ قلت: لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد "حتى" بما في حيزها، كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة، وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف، وتراكم الأمواج، والظنّ للهلاك والدعاء بالإنجاء.
فإن قلت: ما جواب (إذا)؟ قلت: (جاءتها). فإن قلت: فـ (دعوا)؟ قلت: بدل من "ظنوا"، لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به. فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح. فإن قلت: ما وجه قراءة أمّ الدرداء: "في الفلكي"، بزيادة ياء النسب؟ قلت: قيل: هما زائدتان، كما في الخارجي والأحمري، ويجوز أن يراد به اللجّ والماء الغمر الذي لا تجرى الفلك إلا فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الانتصاف: "مثله في الاعتبار قوله تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا) [النساء: 6]، واستدل أبو حنيفة رضي الله عنه بأن الصغير يُبتلى قبل البلوغ، فجعل البلوغ غاية وقوع الابتلاء، فيلزم وقوع الابتلاء قبله".
الإنصاف: "المجعول غاية هو جملة ما في حيز (حَتَّى)؛ من البلوغ المقرون بإيناس الرشد، وهذا المجموع يلزم وقوعه بعد الابتلاء، فلا يلزم أن يقع كل واحد بعد الابتلاء، وهذه الآية موضحة لذلك".
وقلت: بين الآيتين بون بعيد؛ لما ذكرنا من أخذ الزبدة والخلاصة من الغاية والمُغيا.
قوله: (فإن قلت: فـ (دَعَوُا)؟ ): أي: إذا كان الجواب (إذَا) قوله: (جاءَتْهَا)، فما موقع قوله:(دَعَوَا اللَّهَ)؟
قوله: (قيل: هما زائدتان، كما في الخارجي): قال ابن جني: "العرب قد زادت في الإضافة
والضمير في "جَرَيْنَ" للفلك، لأنه جمع "فلك" كالأسد، في "فعل" أخي "فعل"، .......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما لا يحتاج إليها، من قولهم في الأحمر: وفي الأشقر: أشقري.
فإن قلت: هذا أمر يختص بالصفات، وليس (الْفُلْكِ) بصفة؟ قيل: قد جاء ذلك في الاسم أيضاً، قال الصلتان:
أنا الصلتاني الذي ....
وأيضاً قد شُبه كل واحدٍ من الاسم والصفة بصاحبه".
قوله: (لأنه جمعُ "فَلك"): قيل: الضمة في "فُلْك" إذا أريد به الواحد الضمة في "بُرد"، وإذا أريد به الجمع كالضمة في "كُتْب".
قوله: (الأسد في "فُعل" أخي "فَعَل"): قال المصنف: في "القصريات" عن أبي علي الفارسي: أن الضمة في "فُعْل" لثقلها: بمنزلة الفتحتين في "فَعَل"، فلذلك آخوا بينهما، وجمعوا "فعلاً" على "فُعْل"، كما جمعوا "فُعْلاً" على "فعْل".
وفي قراءة أمّ الدرداء: للفلك أيضاً، لأنّ "الفلكي" يدلّ عليه.
(جاءَتْها): جاءت الريح الطيبة، أي: تلقتها، وقيل: الضمير للفلك، (مِنْ كُلِّ مَكانٍ): من جميع أمكنة الموج، (أُحِيطَ بِهِمْ) أي: أهلكوا، جعل إحاطة العدوّ بالحي مثلا في الهلاك، (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من غير إشراك به، لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه، (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) على إرادة القول، أو لأن (دَعَوُا) من جملة القول، (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ): يفسدون فيها ويعبثون مترافين في ذلك، ممعنين فيه، من قولك: بغى الجرح: إذا ترامى إلى الفساد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (للفُلْكِ أيضاً): أي: الضمير في قراءة أم الدرداء للفلك أيضاً، لأن "الفلكي" يدل عليه، قال المصنف رحمه الله تعالى: هذا كقولك:
إذا زُجر السفيه جرى إليه
أي: إلى السفه، لأن السفيه يدل عليه، فاستغنى عن ذكر السفه بذكر السفيه.
قوله: (جاءت الريح الطيبة، أي: تلقتها) ريح عاصف، فالضميران للريحين، أحداهما: ريح عاصف، والأخرى: ريح طيبة.
قوله: (جعل إحاطة العدو بالحي مثلا): هو مثل قوله تعالى: (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ)[البقرة: 19]، وقد سبق تحقيقه.
قوله: (مترادفين): هو اسم فاعل من الترافؤ، وهو التوافق، مهموز اللام، "والمرافاة: الاتفاق،
فإن قلت: فما معنى قوله: (بِغَيْرِ الْحَقِّ)، والبغي لا يكون بحق؟ قلت: بلى، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والرفاء: الالتحام والاتفاق"، ذكره الجوهري؛ الرفاء في المهموز، والمُرافاة في الناقص، وإنما بالغ المصنف في تفسير (يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ)؛ بقوله: "ويعيثون"، فإنه الغلو في الفساد، وبقوله: "مترافين"؛ لتعدية (يَبْغُونَ) بـ (فِي)، وهو يتعدى بـ"على" للمبالغة، على نحو قوله:
يجر في عراقيبها نصلي
قال الجوهري: "بغى الرجل على الرجل: استطال".
قوله: (بلى): أي: بلى، يكون البغى بحق، كهدم المسلمين دور الكفرة، وإحراق زروعهم، قال صاحب "الفرائد": هذا يُشعر بأن البغي موضوع للاستيلاء، سواء كان حقاً أو باطلاً، وقيد (بِغَيْرِ الْحَقِّ) لإخراج ما هو حق، وهذا منظور فيه، لأنه قال قبل هذا:"هو من قولك: بغى الجرح: إذا ترامى إلى الفساد". وقال الزجاج: "البغي: الترامي في الفساد"، وإذا ذُكر البغي لا يخطر بالبال إلى الظلم.
وقلت: ويمكن أن يُقال: البغيُ بحسب اللغة: هو ترامي الشيء إلى الفساد، سواء كان الفساد عدلاً أو ظلماً، لأن الفساد: خروج الشيء من أن يكون منتفعاً به، فهذا قد يكون عدلاً، كهدم دور المشركين وإحراق زروعهم وقتلهم، ثم خصه العُرف بما يكون ظلما، فالقيد بالنظر إلى ما يكون بحسب اللغة.
وقرئ: (متاع الحياة الدنيا)، بالنصب. فإن قلت: ما الفرق بين القراءتين؟ قلت: إذا رفعت كان "المتاع" خبراً للمبتدأ الذي هو (بَغْيُكُمْ)، و (عَلى أَنْفُسِكُمْ) صلته - كقوله (فَبَغى عَلَيْهِمْ) [القصص: 76]-، ومعناه: إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم، يعنى: بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا، لا بقاء لها.
وإذا نصبت فـ (عَلى أَنْفُسِكُمْ) خبر غير صلة، معناه: إنما بغيكم وبال على أنفسكم، و (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا. ويجوز أن يكون الرفع على: هو متاع الحياة الدنيا، بعد تمام الكلام.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تمكر ولا تعن ماكرا، ولا تبغ ولا تعن باغياً، ولا تنكث ولا تعن ناكثاً"، وكان يتلوها. وعنه عليه الصلاة والسلام:"أسرع الخير ثواباً: صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً: البغي واليمين الفاجرة"،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: (مَتَاعُ الْحَيَاةِ) بالنصب): حفص، والباقون: بالرفع.
قوله: (على: هو متاع الحياة الدنيا، بعد تمام الكلام): قال صاحب "المرشد": " (مَتَاعُ): من قرأ بالرفع: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون خبراً لقوله: (بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)، ولا يحسن الوقف على قوله: (بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) للفصل بين المبتدأ والخبر. والآخر: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، ويكون خبر (بَغْيُكُمْ) قوله: (عَلَى أَنْفُسِكُمْ)، وهو كلام تام، والوقف عليه تمام، ويبتدئ: (مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، على: هو متاع الحياة الدنيا".
قوله: (واليمين الفاجرة): أي: الكاذبة، الجوهري:"فجر، أي: كذب، وأصله: الميل، والفاجر: المائل".
وروي: "ثنتان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "لو بغي جبل على جبل لدك الباقي"، وكان المأمون رحمة الله عليه يتمثل بهذين البيتين في أخيه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه): أي: الأمين، وكان من خبرهما على ما ذكره الفقيه أبو حنيفة الدينوري: أنه بويع الأمين بعد وفاة أبيه هارون الرشيد بالخلافة، ووصل الخبر إلى أخيه المأمون، وهو بمرو الروذ، فركب إلى المسجد الأعظم، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، أحسن الله عزاءنا وعزاءكم في الخليفة الماضين وبارك لنا ولكم في خليفتكم الحادث، ومد الله في عمره، جددوا البيعة لإمامكم الأمين، فبايعه الناس.
ثم إن الأمين استشار إسماعيل بن صبيح في عزل أخيه المأمون من خُراسان، فقال له: أعيذك الله أن تنقض ما استنه الرشيد ومهده، فقال له الأمين: ويحك يا ابن صبيح، عن عبد الملك ابن مروان كان أحزم رأياً منك؛ حيثُ قال: لا يجتمع الفحلان في هجمة إلا قتل أحدهما صاحبه. ثم كتب إليه وسأله أن يقدم عليه ليعينه على أموره، فامتنع المأمون، فجرى بينهما ما جرى حتى قتل الأمين.
وقال ابن حمدون: ولما أتى طاهر برأس الأمين حمد الله وأثنى عليه، وقال: (قُلْ اللَّهُمَّ
يَا صَاحِبَ الْبَغْي إنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَةٌ
…
فَارْبَعْ فَخَيْرُ فِعَالِ المَرْءِ أعْسَلُهُ
فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْماً عَلَى جَبَلٍ
…
لَانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ
وعن محمد بن كعب: ثلاث من كنّ فيه: كنّ عليه، البغي والنكث والمكر، قال الله تعالى:
(إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ).
[(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَاكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) 24].
هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها، وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً، بعد ما التف وتكاثف، وزين الأرض بخضرته ورفيفه، (فَاخْتَلَطَ بِهِ): فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) بآل عمران: 26]، فبعث بالرأس والبُردة إلى المأمون، وكتب: وجهت إليك بالدنيا والآخرة، فبُويع المأمون بالخلافة، والله أعلم.
قوله: (يا صاحب البغي) البيتين: "مصرعة": أي: كثير المصارعة شديدها، "فاربع" أي: ارفق وكُف، ربع الرجل: إذا وقف، و"الفَعَال" - بفتح الفاء -: غالب في المكارم، واستعمل هاهنا لمجرد الفعل.
قوله: (هذا من التشبيه المركب): لأن الوجه على ما ذكره منتزع من عدة أمور متوهمة، وقوله:(أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا) استعارة وقعت في طرف المشبه به، فالمشبه به مركب من أمور حقيقية وأمور مجازية.
قوله: (ورفيفه)، الجوهري:"رف لونه يرف - بالكسر - رفا ورفيفاً، أي: برق وتلألأ".
(أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) كلام فصيح: جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين، وأصل (وازَّيَّنَتْ): تزينت، فأدغم، وبالأصل قرأ عبد الله، وقرئ:"وازينت"، أي: أفعلت، من غير إعلال الفعل، كأغيلت، أي: صارت ذات زينة، و"ازيانت"، بوزن ابياضت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) كلام فصيح): ومجيء (وَازَّيَّنَتْ) عقيب قوله: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا) ترشيح لتلك الاستعارة، شُبهت الأرض بالعروس، وحُذف المشبه به، وأقيم المشبه مقامه على المكنية، ثم جعلت القرينة أخذها الزخرف، ثم فُرع عليها قوله:(وَازَّيَّنَتْ).
قال المصنف في البقرة: "إني أراعي الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام فلا عليَّ أولىَ حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به أم لم يله، ألا ترى إلى قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الآية، كيف ولي "الماء" الكاف، وليس الغرض تشبيه "الدنيا" بـ "الماء"، ولا بمفرد آخر يتمحل لتقديره".
قوله: ("وأزينت" على: أفعلت): ابن جني: "قرأ الأعرج: "وأزينت"، وأبو عثمان النهدي: "وازيأنت"، أما "أزينت" فمعناه": صارت ذا زينة بالنبت، ومثله: أجذع المهر، أي: صار إلى الإجذاع، وأحصد الزرع، أي: صار إلى الحصاد، إلا أنه أخرج العين على الصحة،
(أنهم قادِرُونَ عَلَيْها): متمكنون من منفعتها، محصلون لثمرتها، رافعون لغلتها، (أَتاها أَمْرُنا) وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم، (فَجَعَلْناها): فجعلنا زرعها، (حَصِيداً): شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله، (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ): كأن لم يغن زرعها، أي: لم ينبت، على حذف المضاف في هذه المواضع لا بدّ منه، وإلا لم يستقم المعنى.
وقرأ الحسن: "كأن لم يغن" بالياء، على أنّ الضمير للمضاف المحذوف، الذي هو الزرع، وعن مروان: أنه قرأ على المنبر: "كأن لم تتغن" بالأمس، من قول الأعشى:
طَوِيلُ الثّوَاءِ طَوِيلُ التَّغَنِّ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكان قياسه: "أزانت"، مثل: أشاع الحديث، وأباع الثوب، أي: عرضه للبيع. وأما "ازيأنت": فإنه أراد "افعالت"، مثل: ابياضت واسوادت، إلا أنه كره اتقاء الألف والنون الأولى ساكنتين، فحرك الألف، فانقلب همزة".
قوله: (لم يغن زرعها) فحذف المضاف، فانقلب الضمير المضرور مرفوعاً، واستتر في الفعل.
قوله: 0 طويل الثواء طويل التغن): ويروي أوله:
لعمرك ما طول هذا الزمن
…
على المرء إلا عناء معن
أراد: مُعنى، طرح الياء ثم خفف.
و"الأمس": مثل في الوقت القريب، كأنه قيل: كأن لم تغن آنفاً.
[(وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) 25].
(دارِ السَّلامِ): الجنة، أضافها إلى اسمه تعظيما لها، وقيل: السلام: السلامة، لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه. وقيل: لفشوّ السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم، (إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) [الواقعة: 26]، (وَيَهْدِي): ويوفق (مَنْ يَشاءُ)، وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم، لأنّ مشيئته تابعة لحكمته، ومعناه: يدعو العباد كلهم إلى دار السلام، ولا يدخلها إلا المهديون.
[(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) 26].
(الْحُسْنى): المثوبة الحسنى، (وَزِيادَةٌ): وما يزيد على المثوبة، وهي التفضل، ويدل عليه قوله:(وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)[النساء: 173]، وعن علىّ رضي الله عنه: الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن مشيئة الله تابعة لحكمته): تعليل لاختصاص الهداية بمن علم أن اللطف يُجدي عليهم، أي: ينفعهم، يريد: انه تعالى لا يوفق من علم أن اللطف لا ينفعه، فإنه منافٍ لحكمته؛ لوقوع التوفيق حينئذ عبثاً، وهو تعالى منزه عن فعل العبث، لأنه حكيم.
وعندنا: أن الله تعالى يخلق الهداية فيمن يشاء، ولا غنى له عن أن لا يهتدي؛ لأن الكائنات تابعة لمشيئة الله وإرادته، وأفعاله كلها حكمة وصواب، وإن خفي علينا وجهها.
قال القاضي: "وفي تعميم الدعوة، وتخصيص الهداية بالمشيئة: دليل على أن الأمر غير الإرادة، وأن المصر على الضلالة لم يُرد الله رشده".
وعن ابن عباس رضي الله عنه: الحسنى: الحسنة، والزيادة: عشر أمثالها. وعن الحسن: عشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وعن مجاهد: الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن شجرة: الزيادة: أن تمرّ السحابة بأهل الجنة، فتقول: ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم.
وزعمت المشبهة والمجبرة: أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى، وجاءت بحديث مرقوع:"إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا: أن يا أهل الجنة، فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحب إليهم منه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى): قال محيي السنة: "هذا قول جماعة من الصحابة، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وحذيفة، وأبو موسى، وعبادة بن الصامت. وهو قول الحسن وعكرمة وعطاء ومقاتل والضحاك والسدى"، رضوان الله عليهم أجمعين.
قوله: (بحديث مرفوع): صح بالقاف عنده، أي: مرقع مفترى، وأما عند أهل السنة فهو مرفوع - بالفاء-، قال محيي الدين النواوي في "مختصر ابن الصلاح":"المرفوع: هو ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقع مطلقه على غيره، ويدخل فيه متصل الإسناد ومنقطعه، هذا هو المشهور. وقال الخطيب الحافظ: المرفوع: ما أخبر به الصحابي عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله، فخصه بالصحابي".
(وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ): لا يغشاها، (قَتَرٌ): غبرة فيها سواد، (وَلا ذِلَّةٌ): ولا أثر هوان وكسوف بال، والمعنى: لا يرهقهم ما يرهق أهل النار؛ إذكارا بما ينقذهم منه برحمته. ألا ترى إلى قوله تعالى: (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ)[عبس: 41]، (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [يونس: 27].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما هذا الحديث: فقد رويناه عن مسلم وأحمد بن حنبل والترمذي وابن ماجة عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ: إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، قالوا: ألم تبيض وجوهنا، وتنجنا من النار، وتدخلنا الجنة؟ ! قال: فكشف الحجاب، قال: فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه"، زاد في رواية لمسلم:"ثم تلا: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) "، وفي رواية ابن ماجة:"تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، وقال: إذا دخل أهل الجنة"، الحديث.
قوله: (إذكاراً بما يُنقذهم): هو مفعول له لقول مقدر، أي: قال الله تعالى: لا يرهق وجوههم قتر؛ ليذكر أهل الجنة بما ينقذهم الله منه، وهو إرهاق وجوههم، أي: غشيانها غبرة فيها سواد، بسبب رحمته، فإنهم إذا ذكروا ذلك زاد فرحهم وتبجحهم، كما أن أهل النار إذا ذكروا ما فاتهم من النعيم المقيم ازداد غمهم وحسرتهم.
روى محيي السنة عن ابن أبي ليلى: "هذا بعد نظرهم إلى ربهم".
وقال السجاوندي: "قتر: غبار الحرمان والخيبة".
وقلت: في هذا الكلام مسحة من قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)[القيامة: 22 - 23]، فيكون قوله:(وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) كناية عن حصل غاية مباغيهم ونهاية سرورهم- يقال للكئيب الحزين: كأن على وجهه قتراً وذلة - لأن الجنة مع نعيمها وذاتها - عند العارف إذا لم يظفر بتلك النعمة الكبرى - مكان حزن وكآبة.
[(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) 27].
فإن قلت: ما وجه قوله (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها)، وكيف يتلاءم؟ قلت:
لا يخلو، إمّا أن يكون (وَالَّذِينَ) كَسَبُوا معطوفاً على قوله:(الَّذِينَ أَحْسَنُوا)، كأنه قيل: والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وإمّا أن يقدّر: وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، على معنى: جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها.
وهذا أوجه من الأوّل، لأنّ في الأوّل عطفاً على عاملين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما وجه قوله: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ)؟ ): أي: ما وجه إعرابه في التركيب؟ وكيف يلتئم بما قبله؟
وأجاب بجوابين:
أحدهما: أنه من عطف المفرد على المفرد، ووجهه: أن "الذين كسبوا" مجرور؛ خبرٌ لقوله: (جَزَاءُ سَيِّئَةٍ)، كما أن المعطوف عليه كذلك، نحو قولك: في الدار زيد والحجرة عمرو.
وثانيهما: أنه من عطف الجملة على مثلها، فلا يلزم العطف على عاملين مختلفين، لكن لا بُد من تقدير محذوف؛ لأنه لا يجوز حمل الجزاء على المسيء، فيقدر مضاف ليصح.
قوله: (عطفاً على عاملين): العامل الأول: اللام، والعامل الثاني: الابتداء، وسيبويه لا يجيزه.
وإن كان الأخفش يجيزه. وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة: الفضل، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله، ودل ثمة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله.
وقرئ: "يرهقهم" بالياء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي هذا دليل): أي: في هذا النظم والترتيب دليل على أن المراد بالزيادة الفضل لا الرؤية، وذلك أن قوله تعالى:(وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ)[يونس: 25] مجمل يعم الفريقين: المهتدي والضال، لأن الدعوة عامة، وقوله:(وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)[يونس: 25] تفصيل له، وذكر فيه أحد الفريقين - وهم المهتدون - وترك الضالين؛ بدلالة قوله:(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى)[يونس: 26](وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ) عليه، كأنه قيل: والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ثم فرق ما لكل من الفريقين من الجزاء والفضل، فقيل:(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى)(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا)، فإن قوله:(جَزَاءُ سَيِّئَةٍ) مقابل لقوله: (الْحُسْنَى)، وهو العدل، ولا تكون الزيادة على العدل إلا الفضل.
وقلت: نعم ما قلت، ولكن لابد للنظم المعجز والعدول من الأصل من فائدة؛ وفي تقييد جانب السيئة بالجزاء، والتخصيص بالمثل، وإطلاق جانب الحسنة، ثم تقييده بالزيادة: إعلام بالفرق العظيم، وأن (الْحُسْنَى) أيضاً فضل، كما في قوله تعالى:(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا)[الأنعام: 160]، ولا ارتياب أن (عَشْرُ أَمْثَالِهَا) الواقع في مقابلة (لا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا) ليس غير الفضل، ولأنه لابد في نصوصية الجزاء وإطلاق ما يقابله في كلام الله المجيد من مزيد فائدة.
وتفسير "الزيادة" على ما جاء عن أفضل البشر واجب المصير لا محيد عنه، ثم إن الإمام
(مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ) أي: لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه، ويجوز: ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم، كما يكون للمؤمنين. (مُظْلِماً) حال من (اللَّيْلِ)، ومن قرأ:(قِطَعاً) بالسكون -من قوله: (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ)[هود: 81]- جعله صفة له، وتعضده قراءة أبىّ بن كعب:"كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقل تفسير الزيادة بالفضل عن القاضي، وأتى بدلائل جمة على أن المراد بالزيادة الرؤية، فلينظر هناك.
قوله: (من يعصمهم): يريد: أن (مِن) في (مِنْ عَاصِمٍ): زائدة، وفي (مِنْ اللَّهِ): حال منه، أي كائناً من جهة الله وشفيعاً بإذنه.
قوله: (ومن قرأ: "قطعاً" بالسكون): ابن كثير والكسائي، والباقون: بفتحها.
قوله: (جعله): أي جعل (مُظْلِماً) صفة لـ (قطعاً)، إنما قيد هذه القراءة به؛ لأن قطعاً على هذا مفرد يطابق قوله:(مُظْلِماً)، ولهذا قال:"من قوله: (بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ) "، أي: مأخوذ من قوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ)[هود: 81]، أي: بعضه، وأما (قِطَعاً) - بفتح الطاء-: فهو
فإن قلت: إذا جعلت (مظلماً) حالا من (الليل)، فما العامل فيه؟ قلت: لا يخلو: إمّا أن يكون (أُغْشِيَتْ) من قبل، أو (مِنَ اللَّيْلِ) صفة لقوله:(قِطَعاً)، فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكون معنى الفعل في (مِنَ اللَّيْلِ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جمعُ "قطعة" غير مطابق لقوله: (مُظْلِماً)، اللهم إلا أن يُقال:"إن (قِطَعاً) في معنى الكثير"، كما قاله أبو البقاء.
قوله: (فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة): قال صاحب "التقريب": وفيه نظر؛ لأن (مِنْ اللَّيْلِ) ليس صلة (أُغْشِيَتْ) حتى يكون عاملاً في المجرور، بل التقدير أنه صفة، فيكون العامل فيه معنى الفعل، وهو "كائنة"، فلا يكون العامل فيه (أُغْشِيَتْ)، وأيضاً الصفة هو (مِنْ اللَّيْلِ)، وذو الحال هو (اللَّيْلِ)، فلا يكون (أُغْشِيَتْ) عاملاً في ذي الحال، مع أنه المقصود.
وقد يقال: إن (مِنَ) للتبيين، والتقدير: كائنة من الليل، فـ (أُغْشِيَتْ) عامل في الصفة، وهي "كائنة"، فكأنه عامل في (اللَّيْلِ)، لكنك تعلم أنه مبني على أن العامل في الشيء عامل فيه، فهو فاسد، فالوجه أن يُقال: إن (مِنَ) للتبعيض، أي: بعض الليل، ويكون بدلاً من (قِطَعاً)، ويُجعل (مُظْلِماً) حالاً من "البعض" لا من (اللَّيْلِ)، فيكون العامل في ذي الحال
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(أُغْشِيَتْ). قال مكي بن أبي طالب: "الواجب أن يُقال: إن العامل في ذي الحال هو العامل في الحال؛ لأنها هو في المعنى، إذ لو اختلف لكان قد عمل عاملان في معمول واحد".
وأجاب الإمام المغفور [له] أمين الدين الشرفشاهي رحمه الله: إن نسبة (أُغْشِيَتْ) إلى (قِطَعاً) إنما هي باعتبار ذاتها المبهمة المفسرة بـ (اللَّيْلِ)، لا باعتبار مفهوم "القطع" في نفسها، وإنما ذُكرت لبيان مقدار ما أغشيت به وجوههم، وهو الليل مظلماً، فإفضاء الفعل إلى (قِطَعاً) - باعتبار ما لا يتم معناها المراد إلا به- كإفضاء الفعل إليه، كما إذا قيل: اشتريت أرطالاً من الزيت صافياً، فإن المشتري منه: الزيت، والأرطال مبينة لمقدار المشترى صافياً، فالعامل في الحال إنما هو الفاعل اللفظي، ولا يلاحظ معنى الفعل في الجار والمجرور في جهة العمل لغلبة العامل اللفظي عليه بالظهور، وفيما أورد المعترض من تقدير المبدل في هذا المحل نظر؛ لأن (مِنْ اللَّيْلِ) تتمة لـ (قِطَعاً)، فلا يكون بدلاً منه.
وقلت- والله أعلم-: ليس إجراء الصفات كلها على الموصوفات سواء، فكم ترى من صفات أو أحوال هي المقصودة في الاعتبار، والموصوفات تابعة، ألا ترى إلى قوله تعالى:(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ)[الحج: 30]، وقولك: رأيت منك أسداً، فإن المقصود ذم الأوثان، وأنها عين الرجس، وأن المخاطب شجاع بالغ في الشجاعة.
وهاهنا جُرد من نفس الليل ذو وصف مثله، وهو "قطعه"، مبالغة؛ لكمالها فيه، فكأنه جعل الليل بماله قطعاً، وأغشيت بها وجوههم، ولأن الليل هو المصحح للتشبيه، ومنه
[(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) 28].
(مَكانَكُمْ): الزموا مكانكم، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم، و (أَنْتُمْ) أكد به الضمير في (مكانكم)؛ لسدّه مسدّ قوله: الزموا، (وَشُرَكاؤُكُمْ) عطف عليه، وقرئ:"وَشُرَكاؤُكُمْ" على أنّ الواو بمعنى "مع"، والعامل فيه ما في (مكانكم) من معنى الفعل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغشيان، ولتوطئة ذكر (قِطَعاً)، كما مر في كلام المجيب، ولولاه لكان أصل الكلام: ترى وجوههم مسودة، كقوله تعالى:(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)[الزمر: 60]، ولما أريد التتميم فيه وانضمام العبوسة والتحير مع الظلمة شبهت بالليل، وأوقع (مُظْلِماً) حالاً منه؛ ليتصور من ذلك تخمة السحاب وتكاثف المطر وما يلحق لمن حصل فيه من التحير والخوف والدهشة، ولما أريد اتصاله بالمشبه جعلت الوسيلة أداة التشبيه ولفظ الغشيان، ولمزيد المبالغة جيء بقوله:(قِطَعاً) على سبيل التجريد، وأوقع (مِنْ اللَّيْلِ) بياناً له- ما مر-، ولا يتنبه لهذه المعاني إذا أجري الكلام على ظاهره، وإن يُقال: إن عامل الصفة "هم" المقدر دون (أُغْشِيَتْ)؛ إذ لا يُفهم منه الاهتمام بشأن الليل.
قوله: (لسده مسد [قوله]: الزموا): قال أبو البقاء: " (مَكَانَكُمْ) ظرف لوقوعه موقع الأمر،
(فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ): ففرّقنا بينهم، وقطعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا، أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: الزموا، وفيه ضمير فاعل، و (أَنْتُمْ) توكيد له، والكاف والميم في موضع جر عند قومن وعند آخرين: الكاف للخطاب لا موضع لها، كالكاف في إياكم".
قوله: ((فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ): ففرقنا بينهم)، الأساس:"المزايل: المباين، وإني لا أزايلك، وتزايلوا وتزيلوا"، قال أبو البقاء:" (فَزَيَّلْنَا): عينُ الكلمة واو، لأنه من: زال يزول، وإنما قُلبت ياء لأن وزنه "فَيْعَل"، أي: زيولنا، مثل: بيطر وبيقر، وقيل: هو مِن: زِلتُ الشيء أزيله، فعينه ياء، فيحتمل أن يكون: فعلنا وفيعلنا".
وقلت: فالمباينة: إما بحسب قطع الوصل، كقوله سبحانه وتعالى:(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ)[عبس: 34 - 35]، فهو المراد بقوله:"وقطعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا"، أو بحسب الأبدان بعد اجتماعها، فهو المراد من قوله:"فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم"، فقوله:"كقوله: (أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ) [غافر: 73 - 74] " يجوز أن يستشهد به للبعد بحسب الأبدان، فمعنى (ضَلُّوا عَنَّا): غابوا عن عيوننا، فلا نراهم، وأن يُستشهد به للبعد بحسب الأبدان، فمعنى (ضَلُّوا عَنَّا): بطل عنا ما كنا نختلق من الكذب وشفاعة الآلهة، كما سيجيء بُعيد هذا.
قوله: (والوصل التي كانت بينهم): عطف على: "أقرانهم"، أي: حبالهم، على سبيل البيان.
وتبرؤ شركائهم منهم ومن عبادتهم، كقوله تعالى:(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا)[غافر: 73 - 74]، وقرئ:"فزايلنا بينهم"، كقولك: صاعر خدّه وصعره، وكالمته وكلمته.
(ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) إنما كنتم تعبدون الشياطين، حيث أمروكم أن تتخذوا لله أنداداً فأطعتموهم.
(فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ * هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)[29 - 30].
(إِنْ كُنَّا) هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وهم الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دون الله من أولى العقل، وقيل: الأصنام؛ ينطقها الله عز وجل، فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي زعموها وعلقوا بها أطماعهم.
(هُنالِكَ) في ذلك المقام، وفي ذلك الموقف، أو في ذلك الوقت -على استعارة اسم المكان للزمان- (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ): تختبر وتذوق، (ما أَسْلَفَتْ) من العمل، فتعرف كيف هو، أقبيح أم حسن، أنافع أم ضارّ، أمقبول أم مردود؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرّفه ليكتنه حاله، ومنه قوله تعالى (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (الطارق: 9).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تختبر وتذوق
…
فتتعرف): فالابتلاء على هذا مجاز عن المعرفة، ولهذا جاء بالفاء في "فتتعرف"، وشبهه بقوله:"كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه، ومنه قوله تعالى: (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [الطارق: 9] "، أي: تُكشف وتظهر.
وعن عاصم: "نبلو كلَّ نفس"، بالنون ونصب "كل"؛ أي: نختبرها باختبار ما أسلفت من العمل، فنعرف حالها بمعرفة حال عملها؛ إن كان حسناً فهي سعيدة، وإن كان سيئاً فهي شقية. والمعنى: نفعل بها فعل الخابر، كقوله تعالى:(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[هود: 7، الملك: 2]، ويجوز أن يراد: نصيب بالبلاء -وهو العذاب- كل نفس عاصية، بسبب ما أسلفت من الشر.
وقرئ: "تتلو"، أي تتبع ما أسلفت، لأنَّ عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار، أو تقرأ في صحيفتها ما قدّمت من خير أو شر.
(مَوْلاهُمُ الْحَقِّ): ربهم الصادق ربوبيته، لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة، أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم، العدل الذي لا يظلم أحداً، وقرئ:"الحق"، بالفتح على تأكيد قوله" (رُدُّوا إِلَى اللَّهِ) [الأنعام: 62]، كقولك: هذا عبد الله الحق لا الباطل، أو على المدح؛ كقولك: الحمد لله أهل الحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وعن عاصم: "نبلو"): وهي شاذة، وإن أُسند إليه، وقرأ حمزة والكسائي:"تتلو كل نفس"، بتاءين، والباقون: بالتاء والباء بعدها.
قوله: (أي: نختبرها باختبار ما أسلفت) إلى آخره: يُعلم من تقريره: أن قوله: (مَا أَسْلَفَتْ) بدل من قوله: (كُلِّ نَفْسٍ)، لأن المراد: يبلو كل نفس عمله، فينظر: إن كان عمله خيراً فهو سعيد، وإن كان شراً فهو شقي، ونحوه قوله تعالى:(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا)[الزمر: 17].
قوله: ((مَوْلاهُمْ الْحَقِّ) ربهم الصادق ربوبيته): اعلم أن "المولى" لفظ مشترك في معنى السيد والمالك، وفي معنى متولي الأمور، فإن كان الأول: فالمناسب أن يفسر (الْحَقِّ) بالصادق ربوبيته، لأن الكلام تعريض بالمشركين، يدل عليه عطف قوله: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ): وضاع عنهم ما كانوا يدعون أنهم شركاء لله، أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة.
[(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) 31 - 33].
(مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي: يرزقكم منهما جميعاً، لم يقتصر برزقكم على جهة واحدة؛ ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يَفْتَرُونَ)، ولهذا عرف "الحق" باللام، وإليه الإشارة بقوله:"لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة"، أي: يتخذون مالكاً لأنفسهم بالباطل. وإن كان الثاني: فاللائق أن يؤول (الْحَقِّ) بالعدل، لأن من يتولى أمر الغير ينبغي أن يكون عادلاً، وهو المراد من قوله:"العدل الذي لا يظلم".
اعلم أن قوله: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ) كالاعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، لأن الضمير في (عنهُم) راجع إلى قوله:(لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا).
قوله: (لم يقتصر برزقكم على جهةٍ واحدة): يعني: إنما ذكر الجهتين ليدل به على التوسعة والشمول. الانتصاف: "هذه الآية رادة على المعتزلة أن من الأرزاق مالم يرزقه الله، بل يرزقه العبد نفسه، وهو الحرام".
وقلت: يقوى هذا عطف قوله: (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ)، وجوابهم:(فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ)، إذ المعنى: من الذي له الرزق الواسع، والملك الشامل، والتصرف العجيب، والتدبير الأنيق؟ فينبغي أن لا يخصص شيء من ذلك.
(أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ): من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة. أو: من يحميهما ويحصنهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه، (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ): ومن يلي تدبير أمر العالم كله، جاء بالعموم بعد الخصوص، (أَفَلا تَتَّقُونَ): أفلا تقون أنفسكم ولا تحذرون عليها عقابه فيما أنتم بصدده من الضلال.
(فَذلِكُمُ) إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله، (رَبُّكُمُ الْحَقُّ) الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر، (فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) يعنى: أن الحق والضلال لا واسطة بينهما، فمن تخطى الحق وقع في الضلال، (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) عن الحق إلى الضلال، وعن التوحيد إلى الشرك، وعن السعادة إلى الشقاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أو: من يحميهما): عطف على "من يستطيع خلقهما"، فسر (يَمْلِكُ) تارة بالاستطاعة مجازاً، كما فسر أبو حنيفة رضي الله عنه (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) [النساء: 25]: بمن لم يملك طول الحرة، وأخرى بـ"يحميها ويحصنهما"، لأن في الملك معنى التسلط والغلبة. والأول أوفق؛ ليضم الخالقية مع الرازقية، كقوله تعالى:(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)[فاطر: 3].
قوله: ((فَذَلِكُمْ) إشارة إلى من هذه قدرته): فهو من باب الإعلام بأن ما قبل اسم الإشارة جدير بما بعده، لما عددت من صفات.
قوله: (يعني: أن الحق والضلال لا واسطة بينهما): يريد أن الاستفهام في قوله: (مَاذَا) للإنكار، يعني: بعد هذا البيان الشافي وإظهار الحق، ما هذا التواني والتقاعد؟ ! وليس ذلك إلا الركوب على متن الباطل ومتابعة الزيغ والهوى، وقوله تعالى:(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) تنبيه على هذا التوبيخ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولما كان (تُصْرَفُونَ) مطلقاً يحتمل العموم قدر: "عن الحق إلى الضلال، وعن التوحيد إلى الشرك، وعن السعادة إلى الشقاوة"، ثم فرع على هذا الإصرار قوله:(كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا)، أي: حقت عليهم كلمة العذاب، فوضع (الَّذِينَ فَسَقُوا) موضع الضمير للعلية، والدليل على الإصرار ترتب الفسق على عدم الإيمان، ثم عاد إلى ذم آلهتهم وتقبحي عبادتها منهم بقوله:(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ). هذا تقرير الوجه الأخير، وهو أوفق لتأليف النظم.
وأما حل تركيبه: فإنه بنى التشبيه بقوله: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)، تارة على قوله تعالى:(فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ)، وأخرى على قوله:(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)، ثم فرع تفسير "الكلمة" على الأول: بالعلم، وعلى الثاني: بالحكم، وجعل على هذين التفريعين (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بدلاً من "الكلمة".
وخص تفسير "الكلمة" بالعدة بالعذاب، على التشبيه الثاني، وجعل (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) تعليلاً للعدة؛ لأن الحكم بعدم الإيمان لا يصلح أن يكون تفسيراً للعدة، المعنى: كما ثبت صرفهم عن الحق كذلك ثبت الوعد لهم بالعذاب، ويجوز أيضاً: وكما ثبت صرفهم عن الحق كذلك ثبت القول عليهم بالخذلان.
فإن قلت: من أين فسرت "الكلمة" بالعلم تارة، والحكم أخرى؟ قلت: لما قال: "حق عليهم انتفاء الإيمان"، وعطف عليه قوله:"وعلم الله منهم ذلك"؛ على سبيل التفسير، عُلم أن قوله تعالى:(كَلِمَةُ رَبِّكَ) معبر به عن العلم الأزلي، ولا قول ثمة.
(كَذلِكَ) مثل ذلك الحق (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)، أي: كما حق وثبت أنّ الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق، فكذلك حقت كلمة ربك (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أي: تمرّدوا في كفرهم، وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه، و (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بدل من "الكلمة" أي: حق عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله منهم ذلك، أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان، وأن إيمانهم غير كائن، أو أراد بـ"الكلمة": العدة بالعذاب، و (أنهم لا يؤمنون) تعليل، بمعنى: لأنهم لا يؤمنون.
[(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ *قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) 34 - 35].
فإن قلت: كيف قيل لهم: (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نحوه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)[يونس: 96]، قال: في تفسيره بناء على مذهبه: "تلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر". ولما قال: حق عليهم كلمة الله، عُلم ان هناك قولاً قيل في حقهم وحكم عليهم: أنهم من أهل الخذلان، فإذن لابد أن لا يؤمنوا، ونحوه قوله تعالى:(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)[يس: 7]، ومنه سُمي المسيح بـ"كلمة الله"، لأنه عليه السلام وُجد بكلمة "كُنْ" وكلا المعنيين متقاربان.
وأما المعنى الثالث: فمأخوذ من قوله تعالى: (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ)[الزمر: 19]. والله أعلم.
قوله: (كيف قيل لهم: (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ)؟ ): توجيه السؤال: أن قوله: (هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ) الآية، كيف ينتهص حجة عليهم، وأنهم منكرون للإعادة، لأن لهم أن
وهم غير معترفين بالإعادة؟ قلت: قد وضعت إعادة الخلق - لظهور برهانها - موضع ما إن دفعه دافع كان مكابراً، رادّا للظاهر البين الذي لا مدخل للشبهة فيه، دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمراً مسلماً معترفاً بصحته عند العقلاء، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم (قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)، فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب، يعنى: أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق، فكلم عنهم.
يقال: هداه للحق وإلى الحق، فجمع بين اللغتين: ويقال: هدى بنفسه؛ بمعنى: اهتدى، كما يقال: شرى بمعنى: اشترى. ومنه قوله: (أَمَّنْ لا يَهِدِّي). وقرئ: (لا يهدّى)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقولوا: ما ثبت عندنا أن الإعادة كائنة، فكيف نُقر بإلهية من ادعيت إلهيته بهذه الدعوى؟ ! نعم، لو أتى بالاستدلال بالخالقية والرازقية دون الإماتة والإحياء- كما في قوله تعالى:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْء)[الروم: 40]، لاستقام لإثبات الدعوى.
وأجاب: أن في وضع هذه الآية مكان تلك الآية نظراً دقيقاً، وهو الإشارة إلى أن الإعادة أمر مكشوف ظاهر، بلغ في الظهور والجلاء بحيث يصح أن تثبت به دعوى أخرى، ففيه صنعة الإدماج، كقول ابن نباتة:
فلابد لي من جهلة في وصاله
…
فمن لي بخل أودع الحلم عنده
ضمن الغزل الفخر بكونه حليماً، والفخر شكاية الإخوان.
ثم الدليل على ظهور الدليل: أمره تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: (قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)[يونس: 34]: أمره بأن يُجيب عنه كما يجاب عن الأمر المسلم ثبوته، كقوله تعالى:(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ)[الأنعام: 19]، لكن الذي يمنعهم المكابرة واللجاج.
قوله: (وقرئ: (لا يَهْدِي)): ابن كثر وورش وابن عامر: "أمن لا يهدي"، بفتح الياء
بفتح الهاء وكسرها مع تشديد الدال، والأصل: يهتدي، فأدغم، وفتحت الهاء بحركة التاء، أو كسرت لالتقاء الساكنين، وقد كسرت الياء لإتباع ما بعدها، وقرئ:"إلا أن يهدى"؛ من هداه، وهدّاه: للمبالغة، ومنه قولهم: تهدى، ومعناه: أن الله وحده هو الذي يهدى للحق، بما ركب في المكلفين من العقول، وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم، وبما لطف بهم، ووفقهم، وألهمهم، وأخطر ببالهم، ووقفهم على الشرائع، فهل من شركائكم الذين جعلتم أندادا لله أحد من أشرفهم، كالملائكة والمسيح وعزير، يهدى إلى الحق مثل هداية الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والهاء وتشديد الدال، وقالون وأبو عمرو كذلك إلا أنهما يخفيان حركة الهاء، وأبو بكر: يكسر الياء والهاء، وحفص: بفتح الياء وكسر الهاء، حمزة والكسائي: بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال.
قوله: (بما ركب في المكلفين من العقول، وأعطاهم من التمكين): قيل: هذا بناء على مذهبه، لأن عند أهل السنة: أنه هو الهادي؛ بأن يخلق فيهم الهداية.
ثم قال: (أفمن يهدى إلى الحق) هذه الهداية (أحق) بالإتباع، أم الذي (لا يهدى) أي: لا يهتدي بنفسه، أو لا يهدى غيره، (إلا أن) يهديه الله. وقيل: معناه أمن لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه، (إِلَّا أَنْ يُهْدى) إلا أن ينقل، أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً، فيهديه.
(فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بالباطل، حيث تزعمون أنهم أندادا لله.
[(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) 36].
(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ) في إقرارهم بالله، (إِلَّا ظَنًّا) لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم، (إِنَّ الظَّنَّ) في معرفة الله (لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ) وهو العلم (شَيْئاً).
وقيل: وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام: أنها آلهة، وأنها شفعاء عند الله إلا الظن، والمراد بالأكثر: الجميع، (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ) وعيد على ما يفعلون من إتباع الظن وتقليد الآباء، وقرئ:" تفعلون" بالتاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: الهداية هاهنا: هي بعثة الرسل، وإنزال الكتب، ومنح العقول، وتوفيق طريق النظر والاستدلال، لا مجرد العقل؛ لأن مجرد العقل يعارضه الوهم والظن، قال القاضي:"يهدي للحق بنصب الحجج وإرسال الرسل والتوفيق للنظر والتدبر".
قوله: (أمن لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه)، الجوهري:"الهداء: مصدر قولك: هديت المرأة إلى زوجها، وقد هُديت إليه".
قوله: ((فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بالباطل): قال الزجاج: "ما لكم": كلام تام، أي: شيء لكم في عبادة الأوثان، ثم قيل لهم:(كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، أي: على أي حال تحكمون، و (كَيْفَ) نصب بـ (تَحْكُمُونَ).
قوله: (والمراد بالأكثر: الجميع): يعني: أن جميعهم متابعون الظن في القول بأن الأصنام
[(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَاتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) 37 - 40].
(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ) افتراء (مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ) كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)، وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
آلهة وشفعاء. قال صاحب "الفرائد": "يُمكن أن يُقال: لما كان عاقبة بعضهم الإيمان باتباع العلم، ذكر الأكثر". وقلت: هذا مجاز باعتبار ما يؤول، وهو بعيد، بل يمكن أن يُقال: إن في إطلاق "الأكثر" فائدة، وهي ما يُشعر به أن القائلين كانوا متفاوتين في جحد الحق، فمنهم من كان شاكاً فيه، ومنهم من علم ولكن عاند وكابر، وأكثرهم اتبعوا الظن، ويؤيده ما سبق من قوله:"إنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق".
وأما إطلاق الأكثر على الجميع، فهو كاستعمال القليل للعدم، كما في قول الشاعر:
قليل التشكي للمصيبات حافظ
…
من اليوم أعقاب الأحاديث في غد
المرزوقي: "نفي أنواع التشكي كلها عنه، وعلى هذا قوله تعالى:(فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ)[البقرة: 88]، وحمل النقيض على النقيض حسن، وطريقته مسلوكة.
قوله: ((وَلَكِنْ) كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)، وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة): إشارة
لأنه معجز دونها، فهو عيار عليها، وشاهد لصحتها، كقوله:(هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ)[فاطر: 31]. وقرئ: "ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب"، على: ولكن هو تصديق وتفصيل. ومعنى "وما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى": وما صحّ وما استقام، وكان محالا أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى.
(وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ): وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع، من قوله:(كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ)[النساء: 24].
فإن قلت: بم اتصل قوله: (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)؟ قلت: هو داخل في حيز الاستدراك، كأنه قال: ولكن كان تصديقاً وتفصيلا منتفياً عنه الريب كائنا من رب العالمين، ويجوز أن يراد: ولكن كان تصديقاً من رب العالمين، وتفصيلا منه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى المبالغة في انتفاء الافتراء عنه، يعني: كيف يكون كذباً، وهو مما يثبت به الصدق والحق، غذ لولاه لما هرت لكم حقية الكتب المنزلة من قبل، فما كان كذلك كيف يُقال: إنه مُفترى؟ !
قوله: (فهو عيار عليها)، المغرب: "العيار: المعيار الذي يقاس به غيره ويسوى، وعيار الدراهم والدنانير: ما جُعل فيها من الفضة الخالصة أو الذهب الخالص.
قوله: (ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب كائناً من رب العالمين): قال أبو البقاء: "قوله: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى): (هذا) اسم (كان)، و (القرآن) عطف بيان، و (أَنْ يُفْتَرَى) خبر (كان)، أي: ما كان هذا القرآن مفترى، ولكن كان تصديق الذي، أي: مصدق الذي، و"تفصيل الكتاب" مثل (تَصْدِيقَ)، (لا رَيْبَ فِيهِ) يجوز أن يكون حالاً من (الْكِتَابَ)، و (الْكِتَابَ) مفعول في المعنى، ويجوز أن يكون مستأنفا، (مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يجوز أن يكون حالاً أخرى".
لا ريب فيه، فيكون (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) متعلقاً بـ (تصديق) و"تفصيل"، ويكون (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراضاً، كما تقول: زيد لا شكّ فيه كريم.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراه) ُ بل أيقولون: اختلقه، على أن الهمزة تقرير لإلزام الحجة عليهم، أو إنكار لقولهم واستبعاد، والمعنيان متقاربان.
(قُلْ) إن كان الأمر كما تزعمون (فَاتُوا) أنتم على وجه الافتراء (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ)، فأنتم مثلي في العربية والفصاحة، ومعنى (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي: شبيهة به في البلاغة وحسن النظم. وقرئ: "بسورة مثله"، على الإضافة، أي: بسورة كتاب مثله، وَادْعُوا من دون الله مَنِ اسْتَطَعْتُمْ من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بل أيقولون: اختلقه): إشارة إلى أن (أمْ) هي المنقطعة، والهمزة: إما للتقرير أو الإنكار؛ فإذا كانت للتقرير كان المعنى: أنتم قلتم: إنه اختلقه؛ فأتوا بسورة مثله.
وإذا كانت للاستبعاد والإنكار كان المعنى: إنه بعيد أن يقولوا: إنه مختلق، وهم عاجزون عن الإتيان بمثله، فالمعنيان متقاربان في إلزام الحجة عليهم.
قوله: (ومعنى (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي: شبيهة به في البلاغة): مضى تحقيقه في سورة البقرة.
قوله: (وادعوا من دون الله من استطعتم): قدم الجار والمجرور على المفعول به، وفي التلاوة خلافه؛ ليؤذن بأن (مِنْ دُونِ) صلة الفعل لا حال من المفعول، ليفيد العموم المراد من قوله:"لا يقدر على ذلك أد غيره"، فيكون على وزان قوله:(قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ) الآية [الإسراء: 88]، ولو جُعل حالاً رجع المعنى: أي: وادعوا من استطعتم، والحال أنه غير الله، وهو عن المقصود بمعزل.
يعني: أنّ الله وحده هو القادر على أن الإتيان بمثله، لا يقدر على ذلك أحد غيره، فلا تستعينوه وحده، ثم استعينوا بكل من دونه، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنه افتراء.
(بَلْ كَذَّبُوا): بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجؤوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فلا تستعينوه وحده): الفاء تدل على انه لازم المفهوم، وهو أيضاً يقوى المقصود، إذ لو جُعل حالاً لم يفد هذا المعنى.
قوله: (بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجؤوه): هذا المعنى مستفاد من تقييد الفعل بقوله: (وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ).
قوله: (ويعلموا كنه أمره): هذه المبالغة يعطيه معنى قوله: (مَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)، لأن الظاهر: ما لم يحيطوا به علماً، فعدل إليه ليكون أبلغ، وفي الكلام ترق من الأهون إلى الأغلظ، وذلك أنه تعالى لما نعى على المعاندين بقوله:(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً)، ثم أتبعه بقوله:(وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى)، نبه على أن من جملة متابعتهم الظن زعمهم في هذا الحق الواضح الصادق في نفسه المصدق لغيره: أنه مفترى وليس من عند الله، ثم أضرب عن الزعم بقوله:(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) يعني: دع الكلام في الزعم والظن، بل صرحوا بالقول بالافتراء، ثم أضرب عن هذا بقوله:(بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)، يعني: دع نسبتهم الافتراء إليهن بل إنهم كذبوه بديهاً مطلقاً، ولم يلتفتوا إلى وضوحه في نفسه، ولا أنهم نظروا في الدليل الدال على صحته، وهو أن يُجربوا قواهم ويحرزوا أنفسهم، هل يقدرون على أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه، واستمروا على التقليد، وأصروا على التكذيب.
كالناشئ على التقليد من الحشوية، إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة، أنكرها في أوّل وهلة، واشمأز منها، قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه، من غير أن يفكر في صحة أو فساد، لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب.
فإن قلت: ما معنى التوقع في قوله: (وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ)؟ قلت: معناه: أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل؛ تقليداً للآباء، وكذبوه بعد التدبر، تمرداً وعناداً، فذمّهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع؛ ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرّر عليهم التحدّي، ورازوا قواهم في المعارضة، واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغياً وحسداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في أول وهلة)، النهاية:"لقيته وهلة، أي: أول شيء، والوهلة: المرة من الفزع، أي: لقيته أول فزعة فزعتها بلقاء إنسان".
قوله: (أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر): يعني: تكذيبهم القرآن كان مستمراً قبل التدبر، وانتهى الاستمرار بعد التدبر مع تغير الجهل إلى العلم، والكفر إلى العناد، قال في "المفصل":"إن "لم يَفعَل" نفيُ "فَعَل"، و"لما يفعل" نفيُ "قد فعل"، وهي "لم" ضُمت إليها "ما"، فازدادت في معناها أن تضمنت معنى التوقع والانتظار، واستطال زمان فعلها".
فعلى هذا: عُلم أن تكذيبهم استطال زمانه، لن لم يعلم أنهم بعدما جاءهم تأويله عاندوا أم أنصفوا؟ لكن مقام النعي عليهم دل على معنى العناد، ويؤيده ما ذكرنا من معنى الترقي آنفاً، وقوله بعده:(كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
(كَذلِكَ) أي: مثل ذلك التكذيب (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعنى: قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها، من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن قلدوا الآباء وعاندوا. وقيل: هو في الذين كذبوا وهم شاكون.
ويجوز أن يكون معنى (وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ): ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب، أي: عاقبته، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولكن قلدوا الآباء): مستدرك معنوي، فإن معنى قوله:(كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ): يعني: قبل النظر من غير إنصاف أنهم ما أنصفوا في التكذيب بديهاً، لكن قلدوا الآباء وعاندوا، نحوه قول الشاعر:
إذا قيل: هذا منهل، قلت: قد أرى
…
ولن نفس الحر تحتمل الظما
قوله: (وقيل: هو في الذين كذبوا وهم شاكون): عطف على معنى قوله: "بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن"، وذلك أن الذي لم يحط بالشيء علماً: إما أن لا يُدرك منه شيئاً قط، أو يدركه لكن بحيث لا يسمى علماً، بل شكا.
قوله: (ويجوز أن يكون معنى (وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ): عطف على قوله: قبل أن يفقهوه، ويعلموا كنه أمره، ويقفوا على تأويله ومعانيه"، وذلك أن "التأويل": تفسير مايؤول إليه
يعني: أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب، فتسرّعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حدّ الإعجاز، وقبل أن يخبروا أخباره بالغيوب وصدقه وكذبه.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ): يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب، ومنهم من يشكّ فيه لا يصدق به، أو يكون للاستقبال، أي: ومنهم من سيؤمن به، ومنهم من سيصرّ، (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) بالمعاندين، أو المصرين.
[(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) 41].
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ): وإن تموا على تكذيبك ويئست من إجابتهم، فتبرأ منهم وخلهم، فقد أعذرت، كقوله تعالى:(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ)[الشعراء: 216]، وقيل: هي منسوخة بآية السيف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشيء، وما يؤول إليه أمر القرآن: إما من جهة الغموض والخفاء وكونه معجزاً، وإما من جهة عاقبة ما أخبر فيه من المغيبات، وإلى ذلك أشار بقوله:"إنه كتاب معجز من جهتين" إلى آخره، وفرع بقوله:"فيسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات".
قوله: (أو يكون للاستقبال): عطف على قوله: "يصدق به في نفسه"، فالإيمان على الأول: بمعنى التصديق القلبي، وإليه أشار بقوله:"في نفسه"ن والصيغة للحال، وعلى الثاني: بمعنى الإيمان المتعارف، والصيغة للاستقبال المتعارف.
قوله: (وإن تموا على تكذيبك): إشارة على أنه لم يرد به معنى المضي، بل الدوام والثبات على التكذيب، وتكذيب غب تكذيب، يدل عليه الجزاء، وهو قوله: (فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ
[(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ) 42 - 43].
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) معناه: ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن، وعلمت الشرائع، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، وناس ينظرون إليك، ويعاينون أدلة الصدق، وأعلام النبوّة، ولكنهم لا يصدقون.
ثم قال: أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم، لأنّ الأصم العاقل ربما تفرّس واستدل إذا وقع في صماخه دوي الصوت،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عَمَلُكُمْ)، فإنه أمر بالتخلية المتاركة، ولا يكون ذلك إلا بعدما بُولغ في الإبلاغ، وأيس من الإجابة، ولهذا قال:"فقد أعذرت"، مثله قوله تعالى:(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا)[القمر: 9]، أي: كذبوه تكذيباً على غب تكذيب.
قوله: (ثم قال: أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم): يريد: أن قوله: (أَفَأَنْتَ) معطوف بحرف التعقيب على الجملة السابقة، المعنى: ومنهم من يستمعون إليك ولكن لا يصدقونك، فأنت تبذل جهدك في إسماعهم وتصديقهم، ثم أدخلت الهمزة بين المعطوف والمعطوف عليه لمزيد الإنكار.
قوله: (لأن الأصم العاقل ربما تفرس): إشارة على أن قوله: (وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ) تتميم لقوله: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ)، كما في قولك: أتكرم زيداً ولو أهانك. فـ"لو" بمعنى "إن"، فقوله:"لأن الأصم" تعليل لإرداف التتميم.
قوله: (دوي الصوت): الإضافة من باب: جرد قطيفه. الجوهري: "دوي الريح: حفيفها".
فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعاً، فقد تمّ الأمر، أو تحسب أنك تقدر على هداية العمى، ولو انضم إلى العمى -وهو فقد البصر- فقد البصيرة، لأنّ الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء، يعنى: أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا، كالصمّ والعمى الذين لا عقول لهم ولا بصائر.
وقوله: (أَفَأَنْتَ
…
أَفَأَنْتَ) دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلا الله عز وجل بالقسر والإلجاء، كما لا يقدر على ردّ الأصم والأعمى المسلوبى العقل: حديدي السمع والبصر راجحى العقل، إلا هو وحده.
[(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) 44].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فجهد البلاء): أي: غاية البلاء.
قوله: ((أفَأَنتَ
…
أفَأَنتَ): يعني: في تكرير (أفأَنتَ) مع ما فيه من تقديم الفاعل المعنوي، وإيلائه همزة الإنكار: الدلالة على أن نبي الله صلى الله عليه وسلم تصور في نفسه من حرصه على إيمان القوم: أنه قادر على الإسماع والهداية، وأنه تعالى يسلب ذلك المعنى منه، ويثبته لنفسه على الاختصاص.
قال القاضي: "في الآية تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المقصود منه، ولذلك لا توصف به البهائم، وهو لا يتأتى إلا باستعمال العقل السليم في تدبره، وعقولهم لما كانت مؤوفة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف والتقليد، تعذر إفهامهم الحكم والمعاني الدقيقة، فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق".
(إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) أي: لا ينقصهم شيئاً مما يتصل بمصالحهم، من بعثة الرسل وإنزال الكتب، ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والتكذيب، ويجوز أن يكون وعيداً للمكذبين، يعنى: أن ما يلحقهم يوم القيامة من العذاب لا حق بهم على سبيل العدل والاستيجاب، ولا يظلمهم الله به، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف ما كان سببا فيه.
[(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) 45].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويجوز أن يكون وعيداً للمكذبين): وعلى الوجه الأول: لم يكن وعيداً، بل بياناً لإزاحة العلة وإلزام الحجة، فعلى التقديرين: الآية تذييل للكلام السابق، إما للتكاليف المذكورة والأقاصيص المعدودة من أول السورة، يعني: أن الله تعالى لا ينقص شيئاً مما يحتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و"الظلمُ" على الأول: مُضمنٌ معنى النقصان، فعداه على مفعولين، وعلى الثاني: بمعناه. و (شَيْئاً) منصوب بنزع الخافض، ولهذا قدر:"ولا يظلمهم الله به".
الانتصاف: "الوجه الأول مبني على مسألة رعاية الأصلح، والثاني صحيح".
وقال القاضي: "في الآية دليل على أن للعبد كسباً، وأنه ليس مسلوب الاختيار بالكلية، كما زعمت المجبرة".
(إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ) يستقربون وقت لبثهم في الدنيا، وقيل: في القبور، لهول ما يرون، (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ): يعرف بعضهم بعضاً، كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا، وذلك عند خروجهم من القبور، ثم ينقطع التعارف بينهم لشدّة الأمر عليهم.
فإن قلت: (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) و (يَتَعارَفُونَ كيف موقعهما؟ قلت: أما الأولى: فحال من «هم» أي: يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة، وأما الثانية: فإما أن تتعلق بالظرف، وإما أن تكون مبينة، لقوله: (كأن لم يلبثوا إلا ساعة)، لأنّ التعارف لا يبقى مع طول العهد، وينقلب تناكرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يستقربون وقت لبثهم): أي: يعدونه قريباً، نحو: استعجب الشيء: عده عجيباً.
قوله: (مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة): قال أبو البقاء: " (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ) حال، والعامل فيها (يَحْشُرُهُمْ)، و (كان) مخففة من الثقيلة، اسمها محذوف، أي: كأنهم و (مِنْ النَّهَارِ) نعت لـ (سَاعَةً)، (يَتَعَارَفُونَ) حال أخرى مقدرة، والعامل (يَحْشُرُهُمْ)؛ لأن التعارف لا يكون حال الحشر، والعامل في (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ): اذكر".
وأما المصنف فجعله متعلقاً بالظرف عاملاً فيه، المعنى: يتعارفون يوم يحشرهم، أو عيناً له حيث جعله بياناً للحال، على نحو:(إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً)[الزخرف: 3]، وهذا يوافق قول أبي البقاء:" (يَتَعَارَفُونَ) حال أخرى".
قوله: (لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد): تعليل لكون الجملة الثانية مبينة للأولى، يعني: في قوله: (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً) معنى (يَتَعَارَفُونَ)، وذلك أن قرب العهد بين الخلان مما لا يبلى جديدهم، وقد قيل: طول العهد منس، فكان فيها مظنة التعارف، فتبين بقوله:(يَتَعَارَفُونَ) هذا المعنى المبهم فيه، فعلى هذا: الحال غير مقدرة، والمراد باللبث: اللبث في
(قَدْ خَسِرَ) على إرادة القول، أي: يتعارفون بينهم قائلين ذلك، أو هي شهادة من الله تعالى على خسرانهم. والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر، (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) للتجارة عارفين بها، وهو استئناف فيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أخسرهم.
[(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) 46].
(فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) جواب (نتوفينك)، وجواب (نرينك) محذوف، كأنه قيل: وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة.
فإن قلت: الله شهيد على ما يفعلون في الدارين، فما معنى (ثم)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القبور، ذلك أن قلة اللبث في القبور غير مانعة من التعارف الكائن في الدنيا، بخلافه إذا قُدر اللبث في الدنيا، وطوله في القبور، فإنه سبب للتناكر لا التعارف.
قوله: (أي: يتعارفون قائلين ذلك): فعلى هذا يكون (قَدْ خَسِرَ) حالاً من فاعل (يَتَعَارَفُونَ)، و (الَّذِينَ كَذَّبُوا) مظهر وضع موضع المضمر.
وعلى أن يكون شهادة من الله تعالى تكون الجملة تذييلاً للكلام السابق، وفي (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ) تعميم، وقوله:(وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) تتميم ومبالغة، ولهذا قال:"ما أخسرهم".
قوله: (أنهم وُضعوا في تجارتهم)، الجوهري:"وُضع الرجل في تجارته وأوضع- على ما لم يسم فاعله فيهما- أي: خسر".
قوله: (فذاك): أي: فذاك حق وصواب، أو ثابت وواقع في الدنيا، بدليل قوله:"فنحن نريكه في الآخرة".
قوله: (الله شهيد على ما يفعلون في الدارين، فما معنى (ثُمَّ)؟ ): يعني: أن شهادة الله على
قلت: ذكرت الشهادة، والمراد مقتضاها ونتيجتها، وهو العقاب، كأنه قال: ثم الله معاقب على ما يفعلون. وقرأ ابن أبى عبلة: "ثم"، بالفتح، أي: هنالك، ويجوز أن يراد: أنّ الله مؤدّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة، حين ينطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم.
[(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) 47].
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) يبعث إليهم لينبههم على التوحيد، ويدعوهم إلى دين الحق، (فَإِذا جاءَ) هم (رَسُولُهُمْ) بالبينات فكذبوه، ولم يتبعوه، (قُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي: بين النبي ومكذبيه، (بِالْقِسْطِ): بالعدل، فأنجى الرسول وعذب المكذبون، كقوله:(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)[الإسراء: 15]، أو لكل أمّة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، كقوله تعالى:(وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ)[الزمر: 69].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخلق كونه رقيباً عليهم وحافظاً، وهذا المعنى لا يبرح في الدارين، وإيراد (ثُمَّ) يدل على حدوثه.
وأجاب: أن المراد بالشهادة لازمها، لأن اطلاع الله على أفعالهم القبيحة مستلزم للعقاب، و (ثُمَّ) للتراخي في الرتبة، أو المراد بها إظهار الشهادة يوم القيامة بإنطاق الجوارح، و (ثُمَّ) على ظاهرها.
قوله: (ويجوز أن يُراد): جواب آخر عن السؤال، و"الشهيدُ" على حقيقته، و (ثُمَّ) للتراخي في الزمان أيضاً.
قوله: 0 (قْضِي بَيْنَهُمْ)): ويُروى بالواو، فعلى هذا لابد من تقدير جواب "إذا".
[(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَاخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) 48 - 49].
(مَتى هذَا الْوَعْدُ) استعجال لما وعدوا من العذاب استبعادا له، (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا) من مرض أو فقر (وَلا نَفْعاً) من صحة أو غنى، (إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) استثناء منقطع، أي: ولكن ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب؟ !
(لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) يعنى: أن عذابكم له أجل مضروب عند الله وحدّ محدود من الزمان (إِذا جاءَ) ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة، فلا تستعجلوا.
وقرأ ابن سيرين: "فإذا جاء آجالهم".
[(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) 50 - 52].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أجل مضروب عند الله، وحد محدود من الزمان): يعني: قوله: (فَلا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) عبارة عن حد معين وزمان لا يتجاوز عنه الشخص ولا يتعداه، وقريب منه قول الحماسي:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
…
متأخر عنه ولا متقدم
قال المرزوقي: "يقول: حبسني الهوى في الموضع الذي تستقرين فيه، فألزمه ولا أفارقه، وأنا معك مقيمة وظاعنة، لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك".
وقال الجوهري: "أخرته فتأخرن واستأخر؛ مثل: تأخر".
(بَياتاً) نصب على الظرف، بمعنى: وقت بيات، فإن قلت: هلا قيل: ليلا أو نهاراً؟ قلت:
لأنه أريد: إن أتاكم عذابه وقت بيات، فبيتكم وأنتم ساهون نائمون لا تشعرون، كما يبيت العدو المباغت، والبيات: بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم. وكذلك قوله:(نَهاراً) معناه: في وقت أنتم فيه مشتغلون بطلب المعاش والكسب، ونحوه:(بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ)[الأعراف: 97]، (ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف: 98].
الضمير في (مِنْهُ) للعذاب، والمعنى: أن العذاب كله مكروه مرّ المذاق موجب للنفار، فأي شيء يستعجلون منه؟ وليس شيء منه يوجب الاستعجال!
ويجوز أن يكون معناه التعجب، كأنه قيل: أي: شيء هول شديد يستعجلون منه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والجواب وارد على الأسلوب الحكيم، لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا استبعاد أن الموعود من الله تعالى، وأنه صلوات الله عليه هو الذي يدعي أن ذلك منه، فطلبوا منه تعيين الوقت تهكماً وسخرية، فقيل في الجواب: هذا التهكم إنما يتم إذا ادعيت بأني أنا الجالب لذلك الموعود، وإذا كنت مقراً بأني مثلكم في أن لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، كيف أدعي ما ليس لي بحق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح، ولم يلتفت إلى تهكمكم واستبعادهم، فقال:(لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ) الآية.
قوله: (لأنه أريد: إن أتاكم عذابه وقت بيات): يعني: عدل عن ظاهر المقابلة، ولم يقل: ليلاً أو نهاراً، ليُعلم أن القصد منهما إلى الوقتين المختصين بالترفه والاشتغال بأمور المعاش، إذ لو قيل: ليلاً أو نهاراً، لم يكن كذلك، فهو مثل قوله تعالى:(بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ)[الأعراف: 97]، (ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف: 98]، وهو من باب التتميم.
قوله: (كأنه قيل: أي شيء هولٍ شديد): اعلم أن (ماذا) فيه وجهان: أن يكونا اسمين؛ بمعنى: ما الذي، وأن يكون اسماً واحداً؛ بمعنى: أي شيء، والمراد هنا هذا الثاني.
قال أبو البقاء: "في (ماذا) مذهبان: أحدهما: "ما" استفهام، و"ذا" بمعنى "الذي"، وما بعده صلته، فتكون "ما" مبتدأ، والصلة والموصول خبر. والثاني: أن تجعل "ماذا" بمنزلة اسم واحد
ويجب أن تكون "من" للبيان في هذا الوجه. وقيل: الضمير في (مِنْهُ) لله تعالى.
فإن قلت: بم تعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط؟ قلت: تعلق بـ (أرأيتم)، لأنّ المعنى: أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون، وجواب الشرط محذوف، وهو: تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاستفهام". وهاهنا: "(ماذا) اسم واحد مبتدأ، و (يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ) الخبر، وقد ضُعف من حيث إن الخبر جملة، ولا ضمير فيه يعود إلى المبتدأ، وأجيب بأن العائد الهاء في (مِنْهُ)، فهو كقولك: زيد أخذت منه درهماً". تم كلامه.
ثم التنكير في "شيء": إما للشيوع أو للنوع، فإن كان الأول: فالتقدير: أي فرد من أفراد هذا الجنس يستعجلون، و"من" في (مِنهُ) للتبعيض، وإليه الإشارة بقوله:"إن العذاب كله مر المذاق، فأي شيء يستعجلون منه؟ "، وإن كان الثاني: فـ"مِن" تجريدية، فيُنتزع من العذاب شيء يُقال في حقه: أي شيء هول شديد يستعجلون؟ فـ"الشيءُ" هو نفس العذاب، كما تقول: رأيت أسداً منك، ولهذا قال:"يجب أن تكون "مِن" للبيان في هذا الوجه".
قوله: (وقيل: الضمير في (مِنْهُ) لله تعالى) قال الزجاج: "المعنى: أي شيء يستعجل المجرمون من الله عز وجل؟ والأجود أن يكون للعذاب؛ لقوله: (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) ".
وقلت: اتصاله بما قبله لايخرجه من ذكر العذاب، بل هذا أبلغ، لأن المراد: أي شيء يستعجل المجرمون من الله عز وجل؟ أي: هل تعرفون ما العذاب الذي المعذب به هو الله تعالى؟ ففيه تعجب وتعجيب.
فإن قلت: فهلا قيل: ماذا تستعجلون منه؟ قلت: أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال، وهو الإجرام؛ لأنّ من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعا من مجيئه وإن أبطأ، فضلا أن يستعجله.
ويجوز أن يكون (ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) جوابا للشرط، كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ ثم تتعلق الجملة بـ (أرأيتم)، وأن يكون (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) جواب الشرط، و (ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) اعتراضاً.
والمعنى: إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال): يعني: وضع المُظهر - وهو (الْمُجْرِمُونَ) - موضع الضمير؛ للإشعار بالعلية، وأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب.
قوله: (ويجوز أن يكون (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) جواباً للشرط): عطف على قوله: "وجواب الشرط محذوف".
اعلم أن جواب الشرط إذا كان محذوفاً: فتقدير الكلام: أخبروني أي نوع من العذاب تستعجلونه، أو أي شيء عظيم تستعجلون منه، ثم قيل تقريراً للإنكار إن أتاكم أمارات ما تستعجلونه، ورأيتم هولها وشدتها، تعرفوا الخطأ فيه. ففي الكلام التفات، ووضع للظاهر موضع المضمر، ثم عطف قوله:(َثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِه) على الجزاء المحذوف، لبُعد ما بين المرتبتين، وأدخل همزة الإنكار بين المعطوف والمعطوف عليه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإن كان الجواب: (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ): فالتقدير: أخبروني إن أتاكم عذاب الله، فأي نوع من العذاب تستعجلونه فتذوقونه. ونظيره قولك: إن أتيتك ماذا تطعمني، أي: أي شيء من المطعومات الشهية والمأكولات اللذيذة تُطعمني. وهذا لا يقال إلا فيما كان الإطعام مما لا مثل فيه، فيستفهم عن نوع ما يطعمه.
وإن كان الجواب مايدل عليه قوله: (َثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِه): فالتقدير: "إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم" فدل هذا على أن الجواب (آمَنْتُمْ)، وهو مضمر على شريطة التفسير، وأن قوله:((َثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِه) عطف عليه، لأن قوله:"بعد وقوعه حين لا ينفعكم" وُضع موضع "ثُمَّ" ومدخولها، فكأنه قيل: إن أتاكم عذابه آمنتم به، ثم آمنتم به حين لاينفعكم الإيمان.
ثم أدخلت همزة الاستفهام بين المعطوف والمعطوف عليه لمزيد الإنكار، يدل عليه قوله:"دخول حرف الاستفهام على "ثُمَّ" كدخوله على الواو والفاء، في قوله: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) [الأعراف: 97]، (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى) [الأعراف: 98] "، وذكر هناك:"انهما معطوفان على قوله: (فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً) [الأعراف: 95]، وأن الفاء والواو حرفاً عطف دخلت عليهما همزة الإنكار"، وقد سبق غير مرة بيان هذا الأسلوب، فلا يُقدر المعطوف عليه بعد الهمزة، كما يقال: إن أتاكم عذابه، فقال لكم: أكفرتم قبل إتيان العذاب، ثم إذا ما وقع آمنتم به، كما قيل، فإنه عن مقصود المصنف بمعزل.
وهذا المقام من عويصات هذا الكتاب، قلما يخوض فيه إلا المرتاض في علمي المعاني والبيان.
ودخول حرف الاستفهام على "ثم"، كدخوله على الواو والفاء في قوله:(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى)[الأعراف: 97]، (أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف: 98].
(آلْآنَ) على إرادة القول، أي: قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب: آلآن آمنتم به (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)، يعنى: وقد كنتم به تكذبون، لأنّ استعجالهم كان على جهة التكذيب والإنكار. وقرئ:"آلان"، بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام.
(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) عطف على "قيل" المضمر قبل (آلآن).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يعني: وقد كنتم به تكذبون): يريد: أن قوله: (آمَنْتُمْ بِهِ أَالآنَ)، يقتضي أن يُقال بعده: وقد كنتم به تكذبون، لا: تستعجلون، وإنما جاز وضعه في موضعه، لأن المراد الاستعجال السابق، وهو قوله:(مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)، وكان هذا القول تهكماً منهم وتكذيباً واستبعاداً، وفي العدول استحضار لتلك المقالة الشنيعة، فتكون أبلغ من "تُكذبون".
قوله: ("آلان" بحذف الهمزة التي بعد اللام): نحوه من .... الجوهري: "الآن: اسم للوقت الذي أنت فيه، وهو ظرف غير متمكن، وقع معرفة، ولم تدخل عليه الألف واللام للتعريف؛ لأنه ليس له ما يشره"، ونقل الزجاج عن الخليل:"أن الألف واللام إنما تدخل لعهد، و"الآن" لم يُعهده قبل هذا الوقت، فدخلت الألف واللام للإشارة إلى الوقت الحاضر، فلما تضمنت معنى هذا وجب أن تكون موقوفة، ففتحت لالتقاء الساكنين، وهما الألف واللام".
[(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) 53].
(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ): ويستخبرونك فيقولون: (أَحَقٌّ هُوَ)، وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء، وقرأ الأعمش:"آلحق هو"، وهو أدخل في الاستهزاء، لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل؛ وذلك أنّ اللام للجنس، فكأنه قيل: أهو الحق لا الباطل؟ أو أهو الذي سميتموه الحق؟ والضمير للعذاب الموعود، و (إِي) بمعنى: نعم، في القسم خاصة، كما كان "هل" بمعنى "قد" في الاستفهام خاصة، وسمعتهم يقولون في التصديق: إيوَ، فيصلونه بواو القسم، ولا ينطقون به وحده (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ): بفائتين العذاب، وهو لا حق بكم لا محالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهو أدخل في الاستهزاء): وذلك أن المبتدأ والخبر إذا عُرفا، وكان أحد التعريفين باللام أفاد الانحصار، سواء كان تعريف عهد أو جنس، نحو: زيد المنطَلِق أو المنطلِقُ زيد. ثم إذا أريد تعريف جنس احتمل الانحصار حقيقة؛ نحو الله الخالق، وهو المراد بقوله:"أهو الحق لا الباطل"، وادعاء؛ نحو: حاتم الجواد، وهو المراد بقوله:"هو الذي سميتموه الحق"، وعلى التقديرين: هذا أبلغ في الاستهزاء من مجرد قولهم: (أَحَقٌّ هُوَ)، لأن معناه: ليس بحق، وليس فيه معنى التهكم المفيد للتعريض.
قوله: (والضمير للعذاب): إشارة إلى اتصال الآية بقوله: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ)، يعني: لما أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بما أجاب ما زادوا على التكذيب والاستبعاد سوى التهكم والإنكار، فدل على تماديهم في الطغيان والجحود.
قوله: ("هل") بمعنى "قد" في الاستفهام خاصة): قال في "المفصل": "إن "هل" بمعنى "قد"، إلا أنهم قد تركوا الألف بعدها"، وفي "الإقليد":"هل" ضعيفة في الاستفهام، ألا
[(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) 54 - 56].
(ظَلَمَتْ) صفة لـ (نفس)؛ على: ولو أنّ لكل نفس ظالمة، (ما فِي الْأَرْضِ) أي: ما في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها وجميع منافعها على كثرتها، (لَافْتَدَتْ بِهِ): لجعلته فدية لها. يقال: فداه فافتدى، ويقال: افتداه أيضاً؛ بمعنى فداه، (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم، وعاينوا من شدّة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم، وبهرهم، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ولا ما يفعله الجازع، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب، كما ترى المقدّم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخطب، ويغلب حتى لا ينبس بكلمة، ويبقى جامداً مبهوتاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تراها تجيء بمعنى "قد"، كقوله:"أهل رأونا"، فلو كان للاستفهام للزم الجمع بين حرفيه: الهمزة و"هل"، وهو ممتنع.
قوله: (يثخنه ما دهمه)، الأساس:"أثخنه قوله: بلغ منه"، أي: كل مبلغ.
قوله: (حتى لا ينبس بكلمة): المرزوقي: "يُقال: كلمته فما نبس، أي: لم يتكلم بحرف، وما سمعت للقوم نبسة".
وقيل: أسرّ رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم. وقيل: أسروها: أخلصوها، إما لأن إخفاءها إخلاصها، وإما من قولهم: سرّ الشيء؛ لخالصه، وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة. وقيل: أسروا الندامة: أظهروها، من قولهم: أسر الشيء وأشره: إذا أظهره. وليس هنالك تجلد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن إخفاءها إحلاصها): وذلك أن الندامة هي حصول الغم بسبب العثور على سوء الصنيع، فيُقال: ندم فُلان: إذا حصلت له هذه الحقيقة في القلب، وإذا قيل: أخفى الندامة، آذن بشدة تمكنها في القلب وإخلاصها عن شوائب ما ينافيها، ثم إذا خُوطب بها في مقام الانتقام والتوبيخ كان تهكماً بالمخاطب، أو يقال: أظهر الندامة: إذا أبدى أمارات حصولها في القلب، من انتكاس الرأس، وعض الأنامل، وتغير الكلام. وأخفى الندامة: إذا تجلد وكمنها في القلب حذار الشماتة، فتكون مخلصة بهذا الاعتبار، قال:
وتجلدي للشامتين أربهم
…
أني لريب الدهر لا أتضعضع
مثله قوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى)[الأنبياء: 3]، قال:"النجوى لا تكون إلا خفية، فقال: (وَأَسَرُّوا) للمبالغة"، كأنه قيل: واسروا السر.
قوله: (وقيل: أسروا الندامة: أظهروها): عطف على قوله: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ)؛ لأن المراد من الأول: إخفاؤها، وكذلك قوله:"وقيل: أسر رؤساؤهم الندامة" عطف عليه باعتبار اختلاف الفاعل في "أسروا". الجوهري: "أسررت الشيء: كتمته وأعلنته أيضاً، وهو من الأضداد".
قوله: (وليس هنالك تجلد): أي: أظهروه عجزاً وضعفاً، وفيه كناية.
(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي: بين الظالمين والمظلومين، دل على ذلك ذكر الظلم.
ثم أتبع ذلك الإعلام بأنّ له الملك كله، وأنه المثيب المعاقب، وما وعده من الثواب والعقاب فهو حق، وهو القادر على الإحياء والإماتة، لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أن الأمر كذلك، فيخاف ويرجى، ولا يغتر به المغترون.
[(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) 57 - 58].
(قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ) أي: قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد؛ من موعظة وتنبيه على التوحيد، (و) َهو (شِفاءٌ) أي: دواء (لِما) فِي صدوركم من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق، (وَرَحْمَةٌ) لمن آمن به منكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثم أتبع ذلك): معطوف على محذوف، أي: ذكر الله تعالى ما ذكر، ثم أتبع ذلك، وتلخيصه: أن قوله: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) الآية، كالتذييل لما سبق من الوعد وتحقيق إنجازه، يجري مجرى التعليل، يعني: تفهموا أني أنا المالك على الإطلاق فيبعد مني أن لا أفي بوعدي، وأنا القادر على الإحياء والإماتة، وأن الرجوع إليَّ، فكيف أخلف وعدي؟ !
قوله: (جامع لهذه الفوائد؛ من موعظة وتنبيه على التوحيد .. ، ودُعاءٍ إلى الحق): إلى هنا مناسب لقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ)[يونس: 25]، وقوله:(وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) مناسب لقوله: (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[يونس: 25]، ولهذا قال:"ورحمة لمن آمن به منكم"، فقوله:"دعاء" يُقرأ بالجر عطفاً على "موعظة"، وكذا "رحمة". وإنما فسر (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) بقوله:"وتنبيه على التوحيد"؛ لأن المراد بالشفاء بالقرآن، وهو بنفسه لا يرفع العقائد الفاسدة، بل بما فيه من التنبيهات والآيات الدالة على التوحيد والحجج المزيلة للشك والريب، فقوله:"هو شفاء" إشارة على التنبيه على التوحيد.
أصل الكلام: بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فبذلك فليفرحوا، والتكرير للتأكد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال القاضي: "قد جاءكم كتاب جامع للحِكَم العملية الكاشفة عن محاسن الأعمال وقبائحها، والمرغبة في المحاسن، والزاجرة عن القبائح، والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد، وهدى إلى الحق واليقين، ورحمة للمؤمنين حيث أنزل عليهم، فنجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان".
قوله: (ودعاء إلى الحق): تفسير لقوله: (وَهُدًى)، وهو محمول على أن الهدى: مجرد الدلالة؛ ليكون عاماً في جميع الخلق، يدل عليه قوله:"ورحمة لمن آمن منكم"، لأنه خصها بهم.
ويمكن أن يحمل على الدلالة الموصلة إلى البغية، فيختص بالمؤمنين، كقوله تعالى:(هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)[البقرة: 2]، اختصاص الرحمة بهم لما سبق أن قوله:(وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) على وزان (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) في تلك الآية، وتكون الإشارة بقوله:(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) إليهما، أي: إلى الهدى والرحمة؛ وضعاً للمظهرين موضع ضميريهما، لأنه خطاب للمؤمنين، بدلالة قوله:(هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
قوله: (والتكرير للتأكيد): يعني: إذا جُعلت من باب الحذف على شريطة التفسير كان توكيداً مع التخصيص للتكرير والتقديم، كقوله تعالى:(فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)[العنكبوت: 56]، فالفاء في (فَلْيَفْرَحُوا)، جواب للشرط، كالفاء في (فَاعْبُدُونِ)، فتكون الفاء في (فَبِذَلِكَ) زائدة كما نص عليه المالكي في كتاب "الشواهد"، ومن ثم قدر المصنف في أصل الكلام ثلاث فاءات؛ فالأولى لربط الكلام بما قبله، والثالثة جواب للشرط، فالثانية زائدة.
والتقرير، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما.
ويجوز أن يراد: بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وإيجاب اختصاصهما بالفرح): فإن قلت: كيف قال: "اختصاصهما بالفرح"، والواجب أن يُقال:"إيجاب اختصاص الفرح بهما"، فإن تقديم قوله:(فَبِذَلِكَ) على الفعل يفيد ذلك، كأنه قيل: افرحوا بهما لا بغيرهما؟ والجواب: إذا اختص الفرح بهما فقد اختصا بالفرح مبالغة، ويجوز أن يكون من باب القلب.
قوله: (لا مفروح به): "به" متعلق بـ"مفروح"، وخبره "أحق منهما"، وكان من حقه أن يكون منصوباً، كما ذكره في "المفصل"، لأنه مشابه للمضاف، وهو ما يتعلق به شيء من تمامه معناهن لا على جهة الإضافة، نحو: لا خيراً من زيد عندنا.
قوله: (ويجوز أن يُراد: بفضل الله وبرحمته فليعتنوا): وقرينة الحذف صورة التركيب، وتقديم الجار والمجرور دال على الاعتناء بشأنهما، كقوله تعالى:(فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)[العنكبوت: 56]، فإنه في تأويل: فإن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخصوها في غيرها، دل على تقدير الإخلاص تقديم المفعول المؤذن بالاختصاص، أو دل على تقدير "فليعتنوا" قوله:(فَلْيَفْرَحُوا)، لأن الفرح معنى بشأنه، مثل قولك: زيداً ضربت غلامه، أي: أهنت زيداً ضربت غلامه.
ويجوز أن يراد: قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته، فبذلك - فبمجيئها - فليفرحوا.
وقرئ: "فليفرحوا" بالتاء، وهو الأصل والقياس، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه، و"لتأخذوا مضاجعكم"، قالها في بعض الغزوات. وفي قراءة أبي:"فافرحوا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال أبو البقاء: "الفاء الأولى مرتبطة بما قبلها، والثانية بفعل محذوف، أي: فليعجبوا بذلك فليفرحوا، كقولهم: زيداً فاضربه، أي: تعمد زيداً فاضربه".
قوله: (فبذلك- فبمجيئها-فليفرحوا): قال القاضي: "فالباء على هذا متعلقة بفعل دل عليه (قَدْ جَاءَتْكُمْ)، وذلك إشارة إلى مصدرهن والفاء بمعنى الشرط، أنه قيل: إن فرحوا بشيء فبمجيئهما ليفرحوا، أو للربط بما قبلها، والدلالة على أن مجيء الكتاب الجامع بين هذه الصفات موجب للفرح، وتكريرها للتأكيد". هذا الوجه أوفق لملائمة الكلام.
قوله: ("فلتفرحوا" بالتاء، وهو الأصل والقياس، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: وروينا عن أبي داود عن أبي بن كعب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا) - بالتاء الفوقانية-".
قال المصنف: كأن النبي صلى الله عليه وسلم آثر القراءة بالأصل، لأنه أدل على الأمر بالفرح، وأشد
(هُوَ) راجع إلى "ذلك"، وقرئ:(مما تجمعون) بالياء والتاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تصريحاً به، إيذاناً بأن الفرح بفضل الله تعالى وبرحمته بليغ التوصية به، ليطابق التكرير والتقرير، وتضمين الكلام معنى الشرط لذلك. ونظيره مما انقلب فيه ما ليس بفصيح فصيحاً:(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)، من تقديم الظرف اللغوِ ليكون الغرض اختصاص التوحيد.
وقال ابن جني: "قراءة (فَلْتَفْرَحُوا) - بالتاء- خرجت على أصلها، وذلك أن أصل الأمر أن يكون بحرفه، وهو اللام، فأصل "اضرب": لتضرب، كما هو للغائب، لكن لما كثر أمر الحاضر حذفوه، كما حذفوا حرف المضارعة تخفيفاً، وإنما القوا في الأكثر الهمزة لئلا يقع الابتداء بالساكن، ولم يحذفوا من أمر الغائب لأنه لم يكثر كثرته، ولهذا لم يؤمر الغائب بنحو: صه، ومهن وحيهل، والذي حسن التاء هاهنا على الأصل أنه أمر للحاضرين بالفرح، لأن النفس تقبل الفرح، فذهب به إلى قوة الخطاب فاعرفه، ولا تقل قياساً على ذلك: فبذلك فلتحزنوا، لأن الحزن لا تقبله النفس قبول الفرح، إلا أن تريد صغارهم وإرغامهم.
وقلت: هذا معنى قول المصنف في الحاشية: "لأنه أدل على الأمر بالفرح".
قوله: (وقرئ: (مِمَّا يَجْمَعُونَ) بالياء والتاء): ابن عامر: بالتاء الفوقانية، والباقون: بالياء.
وعن أبي بن كعب: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ)، فقال:"بكتاب الله والإسلام"، وقيل فضله الإسلام، ورحمته ما وعد عليه.
[(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ 59 - 60].
(أَرَأَيْتُمْ): أخبروني، و (ما أَنْزَلَ اللَّهُ):(ما) في موضع النصب بـ (أنزل)، أو بـ (أرأيتم)، في معنى: أخبرونيه، (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا) أي: أنزله الله رزقا حلالا كله،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فضله: الإسلام، ورحمته: ما وعد عليه): فيه اعتزال خفي؛ لأن ما عد على الإسلام، وهو الثواب، فينبغي أن لا يكون فضلاً.
قوله: ((مَا) في موضع النصب بـ (أنزَلَ)): هذا على أن تكون (مَا) استفهامية، لدلالة الكلام على الإنكار، أي: أي شيء أنزل الله من رزق فبعضتموه، وقلتم: هذا حلال وهذا حرام؟ والمنكر: إنزال ما هو سبب لتجزئتهم الرزق، أي: ليس لأحد أن يُحرم أو يُحل شيئاً من رزق الله تعالى، لأن ذلك مختص بالله عز وجل.
وعلى أن تكون متعلقة بالاستخبار تكون موصولة، ومن ثم قال:"أخبرونيه".
قوله: (أي: أنزله الله رزقاً حلالاً كله): قال القاضي: " (لكُمْ) دل على أن المراد منه ما حل، ولذل وبخ على التبعيض".
فبعضتموه وقلتم: هذا حلال وهذا حرام، وكقولهم:(هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ)[الأنعام: 138]، (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام: 139].
(ءآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ) متعلق بـ (أرأيتم)، و (قل): تكرير للتوكيد، والمعنى: أخبروني: الله أذن لكم في التحليل والتحريم، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه، أم تتكذبون على الله في نسبة ذلك إليه؟ ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، و (أم) منقطعة، بمعنى: بل أتفترون على الله، تقريرا للافتراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ) متعلق بـ (أَرَءَيْتُمْ): أي: مفعوله على تأويل ما يُجاب عنه، ومن ثم قدر:"أخبروني: الله أذن لكم"، ويؤيده ما ذكر في الأنعام في قوله:(قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ)[الأنعام: 40]: "مُتعلق الاستخبار محذوف، تقديره: أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة، من تدعون؟ ".
قوله: (ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، و (أمْ) منقطعة): فالمعنى: أنه تعالى لما استخبر بقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً) على سبيل التقرير، أنكر عليهم أن يكون ذلك مما يأذن الله به، بقوله:(اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ)، ثم أضرب عنه بقوله (أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) تقريراً للافتراء. وعُلم منه أن الهمزة- على الأول- للاستخبار، و (أمْ) متصلة، قال القاضي "ويجوز أن تكون متصلة بـ ((أَرَءَيْتُمْ)، و (قُلْ) مكرر للتأكيد".
وقيل: لا يجوز أن تكون (أمْ) متصلة، لأنه يصير المعنى: أي الأمرين واقع؛ الإذن منه أم الافتراء؟ وهو وهم، لأن الاستخبار بقوله:"أخبروني"، وهو عالم بأنه ما أذن الله لهم، وأنهم مفترون؛ للوعيد وطلب الإقرار منهم على الكذب والافتراء وإلزام الحجة.
وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسأل عنه من الأحكام، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه، وأن لا يقول أحد في شيء: جائز أو غير جائز؛ إلا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله.
(يَوْمَ الْقِيامَةِ) منصوب بالظنّ، وهو ظنّ واقع فيه، يعنى: أي: شيء ظنّ المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه؟ وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة، وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره. وقرأ عيسى بن عمر:"وما ظنّ"، على لفظ الفعل. ومعناه: وأي ظنّ ظنوا يوم القيامة. وجيء به على لفظ الماضي لأنه كائن فكأن قد كان.
(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) حيث أنعم عليهم بالعقل، ورحمهم بالوحي، وتعليم الحلال والحرام، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعمة، ولا يتبعون ما هدوا إليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (عن التجوز): أي: التساهل والتسامح، وفي الحديث:"كان من خلقه الجواز"، ذكره في "النهاية".
قوله: (ما يُصنع بهم): قيل: "ما" موصولة، وهي مفعول به لـ "ظن المفترين"، فحذف للإبهام، وإليه الإشارة بقوله:"أبهم أمره".
قوله: (حيث أنعم عليهم بالعقل، ورحمهم بالوحي): وقلت: سياق الكلام في الوحي، لأنه تعالى لما عم الخطاب بقوله:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ)[يونس: 57]، وفيهم المؤمن والافر، ومن عليهم بإنزال الكتاب الجامع لتلك الصفات، أمر
[(وَما تَكُونُ فِي شَأنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) 61].
(وَما تَكُونُ فِي شَانٍ): "ما" نافية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشأن: الأمر، وأصله الهمز بمعنى: القصد، من شأنت شأنه إذا قصدت قصده.
والضمير في (مِنْهُ) للشأن، لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو معظم شأنه، أو للتنزيل، كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل من قرآن، لأنّ كلّ جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له، أو لله عز وجل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حبيبه بأن يخاطب كلا من الفريقين بما يناسب حاله، قال في حق المؤمنين:(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) الآية [يونس: 58]، أي: هذا الهدى والرحمة، وقال في حق الكافرين:(قُلْ أَرَءَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ) الآيتين، يعني: لكم هذه الموعظة والدواء لما في الصدور من العقائد الفاسدة وظن الافتراء، بل الامتنان بقوله:(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ)، حيث أنعم عليهم بهذا الكتاب الجامع لصفات الكمال.
ثم وعد حبيبه صلوات الله عليه على تبليغه، وبشارته، ونذارته للفريقين، ومواظبتهن ومواظبة أمته لتلاوته، بما لا يدخل تحت الوصف، حيث قال:(وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ)[يونس: 61]، وعلى هذا الضمير في (مِنهُ) للتنزيل، ولايلزم الإضمار قبل الذكر، كما سيجيء في كلامه.
قوله: (أو لله عز وجل: أي: الضمير في (مِنْهُ) لله تعالى، و"مِن" الأولى: ابتدائية، والثانية: مزيدة، وعلى أن يكون الضمير للشأن: الأولى: تبعيض، والثانية: بيان؛ على تقدير: وما تفعل
وما (تَعْمَلُونَ) أنتم جميعاً (مِنْ عَمَلٍ) أيّ عمل كان، (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً): شاهدين رقباء نحصي عليكم، (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) من: أفاض في الأمر: إذا اندفع فيه.
(وَما يَعْزُبُ) قرئ بالضم والكسر: وما يبعد وما يغيب، ومنه: الروض العازب، (وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) القراءة بالنصب والرفع، والوجه: النصب على نفى الجنس، والرفع على الابتداء، .....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من هذه الشؤون التلاوة، وعلى أن يكون الضمير للتنزيل: الأولى: ابتداء، والثانية: بيان أبو البقاء: " (مِن) الثانية: مزيدة، والضمير في (مِنْهُ) للشأن، أي: من أجله".
قوله: (القراءة بالنصب والرفع): حمزة: برفع الراء في "أصغر" و"أكبر"، والباقون: بفتحهما.
قوله: (والوجه: النصب على نفي الجنس): قيل: فيه نظر؛ لأنه لو كان اسماً لـ "لا" التي لنفي الجنس لكان الواجب النصب، لأنه مضارع للمضاف، على نحو: لا خيراً منه قائم، ولم يذكر أحد إلا الفتح، قال الزجاج هاهنا وفي سبأ:"إنه في موضع خفض، إلا أنه فُتح لأنه لا ينصرف". وقال القاضي: " (وَلا أَصْغَرَ) إلى آخره: كلام برأسه مقرر لما قبله،
ليكون كلاما برأسه، وفي العطف على محل (مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(لا) نافية، و (أصغَرَ) اسمها، و (مِن) عطف على لفظ (مِثْقَالُ ذَرَّةٍ)، وجُعل الفتح بدل الكسر لامتناع الصرف".
قوله: (وفي العطف على محل (مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ)، يعني: إذا قرئ "أصغر" مرفوعاً عطفاً على محل (مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ) أو على لفظ (مِثْقَالِ ذَرَّةٍ)، فتحاً في موضع الجر، لأن (أَصْغَرَ) و (أَكْبَرْ) لا ينصرفان؛ للزوم الصفة ووزن الفعل، (إشكال) لما يؤدي على التقديرين، إلا أن يُقال: لا يعزُبُ عنه شيء إلا في كتاب، تقريره: هو أن الكتاب المبين: إما اللوح المحفوظ أو علمه، كما فسره في الأنعام، فعلى الأول: لا يعزب عنه شيء قط إلا ما في اللوح، فإنه يعزب عنه، وعلى الثاني: لا يعزب عن ذاته شيء إلا ما في علمه، فإنه يعزب، وهو مشكل.
ولك أن تقول: إذا جُعل الاستثناء من باب قوله تعالى: (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى)[الدخان: 56] لا يبقى الإشكال، المعنى: لا يبعد عنه شيء قط، لا الصغير ولا الكبير، إلا ما في اللوح أو في علمه، إن عُد ذلك من العزوب فهو العزوب، ومعلوم أنه ليس من العزوب قطعاً، فإذن لا يعزب عنه شيء قط.
وفي "الكواشي" معنى "لا يعزب": لا يبين ولا يصدر، أي: لم يصدر عن الله شيء بعد خلقه له إلا وهو في اللوح، أو الاستثناء منقطع، المعنى: لا يعزب عن ربك شيء، لكن جميع الأشياء ثابت في كتاب مبين.
أو على لفظ: (مِثْقالِ ذَرَّةٍ) فتحاً في موضع الجرّ لامتناع الصرف: إشكال، لأنّ قولك "لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب" مشكل.
فإن قلت: لم قدّمت "الأرض" على "السماء"، بخلاف قوله في سورة سبأ:(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ)(سبأ: 3)؟ قلت: حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك قوله:"لا يَعْزُبُ عَنْهُ"، لاءم ذلك أن قدّم الأرض على السماء،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن الراغب: "العازب: المتباعد في طلب الكلأ عن أهله، يُقال: رجل عزب، وامرأة عزبة، وعزب عنه حلمه".
قوله: (لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم) إلى قوله: (لاءم ذلك أن قدم الأرض على السماء) يريد: أن في الآية الترقي من الأهون إلى الأغلظ، وأن الكلام في أعمال العباد، وذلك أن سياق الكلام من ابتداء قوله:(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)[يونس: 41] إلى هاهنا، في تقبيح أعمال الكفرة، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم مما بلا من مقاساة القوم وطعنهم في الدين، يدل عليه قوله تعالى بعد هذا:(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)[يونس: 65]، وكان الاهتمام بشمول العلم والإحاطة التامة ليترتب عليه الوعد والوعيد بجزاء الأعمال، أوجب الترقي من الأهون إلى الأغلظ.
ألا ترى كيف بدأ الخطاب مع حبيبه بخاصة نفسه، وقال:(وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ)، ثم ثنى بما هو أعم خطاباً ومعلوماً، وقال:(وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ)، ثم رجع إلى
على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية.
[(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) 62 - 64].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خطاب نفسه وعم المعلومات بأسرها مسلياً له، ولذلك خص لفظ "الرب"، فكما رُوعي الترقي في ذلك ناسب أن يُراعي في الأرض والسماء، لأن الكلام في الأعمال.
ومن ثم لما أجرى الكلام في سبأ لإثبات مُطلق الحمد لله تعالى، أجرى ذكر السماء والأرض على الظاهر، ولما قيد المد في الآخرة في قوله:(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ)[سبأ: 1] قدم الأرض في قوله: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ)[سبأ: 2] على خلاف الظاهر، لأن الحمد في الآخرة مسبوق بوجود الأعمال الصالحة للحامد، (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [يونس: 10]، (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر: 34] ن ولما رد على منكر الحشر في قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَاتِينَا السَّاعَةُ)[سبأ: 3]، بقوله:(ُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَاتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ)[سبأ: 3] إلى آخر الآيات، عاد إلى الظاهر؛ لأن المراد من إثبات العلم الشامل مجرد التهديد والوعيد.
قوله: (حُكمه حكم التثنية): وذلك أن قولك: جاءني زيدٌ وزيد، وقولك: جاءني الزيدان، سواء، كما أن التثنية تُفيد الجمعية، فكذلك العطف.
(أَوْلِياءَ اللَّهِ): الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. وقد فسر ذلك في قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) فهو توليهم إياه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة): بيان لوجه نسبة الولايتين في قوله: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ) ولاية الله وولاية العبد؛ لأنه من الأمور النسبية، فاعتبر الولاية من جانب العبد بالطاعة، ومن جانب الله بالكرامة، وجعل القدر المشترك بينهما التولي؛ فراراً من تفسير الولاية بالمحبة الحقيقية، كما في قوله تعالى:(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)[المائدة: 54].
فإذا حُمل الولي على المحب أمن من التكلف الذي ذكره، ويكون قوله:(الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) صفة واردة على المدح بتقدير: اذكر، أو: هُم، لا الكشف كما قال، يسلم من الفصل بين الصفة الموصوف بالخبر، وليثبت لهم بها ما يناسبها من البشارة في الدارين، كما نُفي عنهم عند ذكر الولاية خوف الأجل وحزن العاجل، كأنه قيل: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم في الآجل، ولا هم يحزنون في العاجل؛ لون الله ولياً لهم، وهم أولياء الله، ولهم البشرى في الدنيا والآخرة؛ لكونهم موصوفين بالإيمان والتقوى.
فينطبق على هذا التفسير الحديث النبوي على ما أورده الإمام أحمد بن حنبل في "مسنده" عن عمرو بن الجموح: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الله: "أوليائي من عبادي، وأحبائي من خلقي: الذين يذكرون بذكري، وأذكر بذكرهم"، فإنه صُرح فيه بذكر المحبة، ولم يُذكر فيه ما ذكره:"يُذكر الله برؤيتهم"؛ ليُحتاج إلى تفسيره بالسمت الهيئة، وأن يُقال: من نظر إلى سيماهم رأى أثر طاعتهم إياي فيذكرني.
(لهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فهو توليه إياهم. وعن سعيد بن جبير: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: "من أولياء الله؟ فقال: هم الذين يذكر الله برؤيتهم"، يعنى: السمت والهيئة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: الإخبات والسكينة.
وقيل: هم المتحابون في الله. وعن عمر رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة؛ لمكانهم من الله" قالوا: يا رسول الله، خبرنا من هم، وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم، قال: "هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النهاية: "في حديث عمر رضي الله عنه: "فينظرون إلى سمته وهديه": أي: حُسن هيئته ومنظره في الدين، وليس من الحسن والجمال، وقيل: هو من السمت: الطريق، يُقال: الزم هذا السمت".
قوله: (الإخبات والسكينة)، النهاية:"في الدعاء: "اجعلني لك مخبتاً"، أي: خاشعاً مطيعاً، والإخبات: التواضع والخشوع، وأصله من الخبت: المطمئن من الأرض".
قوله: (وعن عمر رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم الحديث: رواه أبو داود مع تغيير يسير. فإن قلت: ظاهر الحديث يوهم فضلهم على من يغبطهم؟ والجواب: أن هذه الحالة قبل دخول الجنة حين يتجلى الله بعظمته على أهل العرصات، يدل عليه:"لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس".
ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس"، ثم قرأ الآية.
(الَّذِينَ آمَنُوا) نصب أو رفع؛ على المدح أو على وصف الأولياء، أو على الابتداء والخبر:(لهم البشرى).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وما روينا عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: المتحابون بجلال الله يكونون يوم القيامة على منابر من نور، يغبطهم أهل الجمع". أخرجه رزين.
وعن مسلم ومالك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي"، فإذا الأنباء والشهداء مشتغلون بما يهمهم من أمر الشفاعة والأمة.
ولا يبعد أن يكون قد خصهم وحدهم في هذه الحالة بتلك الكرامة، ولا يلزم منه فضلهم على أولئك في غيرها من الكرامات، وفي سائر الحالات والأوقات.
النهاية: "الغبط: حسد خاص، يقال: غبطت الرجل أغبطه غبطاً: إذا اشتهيت أن يكون لك مثل ماله، وأن يدوم عليه ما هو له. والحسد: إذا اشتهيت أن يكون لك مثل ما له، وأن يزول عنه ما هو فيه".
قوله: (نصب أو رفع) فالنصب: إما بتقدير: أعني، أو على الوصف. والرفع: إما بتقدير: هم، أو على الابتداء، والخبر:(لَهُمُ)، ففيه لفٌ ونشر.
والبشرى في الدنيا: ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه، وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم "هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له"، وعنه عليه الصلاة والسلام:"ذهبت النبوّة وبقيت المبشرات". وقيل: هي محبة الناس له والذكر الحسن، وعن أبى ذر: قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل يعمل العمل لله، ويحبه الناس، فقال:"تلك عاجل بشرى المؤمن"، وعن عطاء: لهم البشرى عند الموت؛ تأتيهم الملائكة بالرحمة، قال الله تعالى:(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ)[فصلت: 30]، وأمّا البشرى في الآخرة: فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرون من بياض وجوههم، وإعطاء الصحائف بأيمانهم، وما يقرؤون منها، وغير ذلك من البشارات.
(لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ): لا تغيير لأقواله، ولا إخلاف لمواعيده، كقوله: : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)[ق: 29]، و (ذلِكَ) إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين، وكلتا الجملتين اعتراض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له) الحديث: أخرجه أحمد بن حنبل والترمذي عن أبي الدرداء.
قوله: (وكلتا الجملتين اعتراض): أما الأولى: فهو قوله: (لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)، إذ معناه: لا إخلاف لمواعيده، فيكون مؤكداً لمعنى الوعد في قوله:(لَهُمْ الْبُشْرَى). وأما الثانية: فهي قوله تعالى: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، إذ معناه: أن البشارة في الدارين هو الفوز العظيم، فيكون مؤكداً لهذا المعنى، ولو جُعلت الأولى معترضة، والثانية تذييلاً للمعترض والمعترض فيه ومؤكدة لها: كان أحسن.
[(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) 65].
(وَلا يَحْزُنْكَ) وقرئ: "ولا يحزنك"؛ من: أحزنه، (قَوْلُهُمْ): تكذيبهم لك، وتهديدهم، وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك، (إِنَّ الْعِزَّةَ) ِ استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل: مالي لا أحزن؟ فقيل، إنّ العزة لله جميعاً، أي: إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم، (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة: 21]. (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا)[غافر: 51].
وقرأ أبو حيوة: "أن العزة"، بالفتح بمعنى: لأن العزة؛ على صريح التعليل، ومن جعله بدلا من (قولهم) ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه، لا ما أنكر من القراءة به.
(هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ): يسمع ما يقولون، ويعلم ما يدبرون ويعزمون عليه، وهو مكافئهم بذلك.
[(أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) 66].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومن جعله بدلاً من (قولهم)): قيل: هو قتيبة بن مسلم؛ جعل "أن العزة"- بفتح "أن" - بدلاً من قوله تعالى: (قولهم)، ثم أنكره بأن قال:"هذا يؤدي إلى أن يُقال: فلا يحزنك أن العزة لله جميعاً، وهو فاسد"، فالمنكر تخرجيه حيث جعله بدلاً، ولم يجعله تعليلاً على حذف حرف العلة، كما قررناه، وحين جعله بدلاً لم يجعله من قبيل قوله تعالى: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ
…
) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ) [القصص: 86 و 89]، ومثله في سورة يس، فيكون للتهييج والإلهاب والتعريض بالغير.
(مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ): يعنى العقلاء المميزين، وهم الملائكة والثقلان، وإنما خصهم، ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكته فهم عبيد كلهم، وهو سبحانه وتعالى، ربهم ولا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا أن يكون شريكا له فيها، فما وراءهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون له نداً وشريكا، وليدلّ على أنّ من اتخذ غيره ربا من ملك أو إنسي، فضلا عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر.
ومعنى: وما يتبعون شركاء، أي: وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء، لأنّ شركة الله في الربوبية محال، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظن) أنها شركاء، (إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ): يحزرون ويقدرون أن تكون شركاء تقديراً باطلا.
ويجوز أن يكون (وَما يَتَّبِعُ) في معنى الاستفهام، يعنى: وأي شيء يتبعون، (وشُرَكاءَ) نصب علي هذا بـ (يدعون)، وعلى الأوّل بـ (يتبع)، وكان حقه: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء، فاقتصر على أحدهما للدلالة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وكان حقه): أي: على التقدير الأول، لأنه لابد لقوله:(يَدْعُونَ) من مفعول، فإذا كان (شُرَكَاءَ) مفعولاً لقوله:(وَمَا يَتَّبِعُ) فيقدر له أيضاً آخر مثله، المعنى على هذا: من في السماوات ومن في الأرض مملو لله ومختص به، لا شركي له فيهما أحد، وهؤلاء ما يتبعون شركاء، وإن سموه شركاء.
والمعنى على الثاني: كل من في السماوات ومن في الأرض من الملائكة والثقلين مملوكون له، أي شيء هذا الذي يتبعه هؤلاء الذين يدعونه شركاء من دون الله؟ أي: ما مقداره؟ يعني: ما يتبعونه ليس بشيء.
ويجوز أن تكون "ما" موصولة معطوفة على (من)، كأنه قيل: ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء، أي: وله شركاؤهم.
وقرأ على بن أبى طالب رضي الله عنه: "تدعون"، بالتاء، ووجهه: أن يحمل (وَما يَتَّبِعُ) على الاستفهام، أي: وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، يعنى: أنهم يتبعون الله ويطيعونه، فما لكم لا تفعلون مثل فعلهم؟ كقوله:(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)[الإسراء: 57].
ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقال: إن يتبع هؤلاء المشركون إلا الظن، ولا يتبعون ما يتبع الملائكة والنبيون من الحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمعنى على الموصولة: لله من في السماوات ومن في الأرض، وله شركاؤهم، أي: ملكه ومملوكه وتحت قهره.
والمعنى على قراءة علي رضي الله عنه: أي شيء الذي يتبعه الملائكة والمسيح وعزير؟ هل تعرفونه؟ وهو الله عز وجل، فما لكم لا تتبعونهم وتعبدونه؟ ! فيكون إلزاماً بعد برهان.
قوله: (ثم صرف الكلام عن الخطاب): أي: في قراءة علي رضي الله عنه: "الذين تدعون"، إلى الغيبة في قوله:"إن يتبع هؤلاء"؛ نعياً عليهم سوء صنيعهم إلى غيرهم، فيكون "ثم صرف" عطفاً على "أي شيء" من حيث المعنى، أي: قال الله تعالى مخاطباً: أي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء، ثم صرف الكلام إلى الغيبة، وقوله بعد ذلك:"ثم نبه على عظيم قدرته" عطف على قوله: "إنما خصهم" من حيث المعنى أيضاً، أي: إنما نبه المشركين خطابهم بحرف التنبيه في قوله: (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ)، رخص العقلاء بالذكر لتلك النكتة، ثم بعد ذلك نبههم بقوله:(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ)[يونس: 67]؛ ليؤذن بأن من يكون موصوفاً بهذه الصفات يستحق أن لا يُشرك به شيء.
[(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) 67].
ثم نبه على عظيم قدرته ونعمته الشاملة لعباده التي يستحق بها أن يوحدوه بالعبادة، بأنه جعل لهم الليل مظلماً ليسكنوا فيه مما يقاسون في نهارهم من تعب التردّد في المعاش، والنهار مضيئاً يبصرون فيه مطالب أرزاقهم ومكاسبهم، (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع معتبر مدّكر.
[(قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) 68].
(سُبْحانَهُ) تنزيه له عن اتخاذ الولد، وتعجب من كلمتهم الحمقاء، (هُوَ الْغَنِيُّ) علة لنفى الولد، لأنّ ما يطلب به الولد من يلد، وما يطلبه له: السبب في كله الحاجة، فمن الحاجة منتفية عنه كان الولد عنه منتفيا.
(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا، (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا): ما عندكم من حجة بهذا القول،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يبصرون فيه): إشارة إلى أن الإسناد في قوله: (مُبْصِراً) مجاز، أي: أسنده إلى النهار مبالغة في إبصارهم الأشياء فيه، كقولك: نهاره صائم.
قوله: (لأن ما يطلب به الولد من يلدن وما يطلبه له): يعني: الذي يطلب الوالد باستعانته الولد- وهو الزوجة-، والذي يطلب الوالد لأجله الولد- وهو أن يكون ظهيراً له في حياته، وخلفاً بعد مماته-: السبب في كل ذلك الحاجة، والله سبحانه وتعالى هو الغني عن الحاجة. هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى:(بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[الأنعام: 101]، وقد أشبعنا القول فيه.
والباء حقها أن تتعلق بقوله: (إِنْ عِنْدَكُمْ) على أن يجعل القول مكاناً للسلطان، كقولك: ما عندكم بأرضكم موز، كأنه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان، (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين، فدلّ على أنّ كل قول لا برهان عليه لقائله؛ فذاك جهل وليس يعلم.
[(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) 69 - 70].
(يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) بإضافة الولد إليه (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) أي: افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا، وذلك حيث يقيمون رئاستهم في الكفر ومناصبتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتظاهر به، ثم يلقون الشقاء المؤبد بعده.
[(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) 71 - 73].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ((إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ)): قيل: قوله: (سُلْطَانٍ) مبتدأ، و (إنْ) نافية، و (مِن) زائدة، و (عِنْدَكُمْ) الخبر، و (بِهَذَا) حال من الضمير في الظرف العائد إلى (سُلْطَانٍ)، كأنه قيل: ما عندكم حجة حاصلة أو واقعة في هذا القول مكاناً ومحلاً للسلطان. وهو متعسف؛ لأنه يلزم الفصل بين العامل المعنوي ومعموله بأجنبي، والأولى أن يُقال:(مِن سُلْطَانٍ) فاعل الظرف، لأنه اعتمد على النفي، و (بِهَذَا) ظرف، والباء بمعنى "في"، أي: ما حصل عندكم في هذا سلطان، قال أبو البقاء:" (إنْ) هاهنا بمعنى "ما" لا غير".
قوله: (ومناصبتهم النبي بالتظاهر به): أي: معاداته صلى الله عليه وسلم بسبب التعاون بالافتراء.
(كَبُرَ عَلَيْكُمْ): عظم عليكم وشق وثقل، ومنها قوله تعالى:(وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ)[البقرة: 45]، ويقال: تعاظمه الأمر، (مَقامِي): مكاني، يعنى نفسه، كما تقول: فعلت كذا لمكان فلان، وفلان ثقيل الظل، ومنه:(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ)[الرحمن: 46]، بمعنى: خاف ربه، أو قيامي ومكثي بين أظهركم مدداً طوالا؛ ألف سنة إلا خمسين عاماً، أو: مقامي وتذكيري، لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم، ليكون مكانهم بيناً، وكلامهم مسموعا، كما يحكى عن عيسى صلوات الله عليه: أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود.
(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) من: أجمع الأمر وأزمعه: إذا نواه وعزم عليه، قال:
هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْماً وَأَمْرِي مُجْمعُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفلان ثقيل الظل): كناية عن بعده عن القلوب، وتنافر النفوس عنه، يعني: إذا كان الظل الذي هو أخف الأشياء على الأرض ثقيلاً منه، فكيف بنفسه وطلله، وكل الأمثلة من باب الكناية الإيمائية.
قوله: (أو قيامي ومُكثي): يعني: المراد من قوله: (مَقَامِي): إما المكان أو المصدر، فإن كان الأول فيكون كناية عن النفس كما مر، وإن كان الثاني: فإما أن يكون المراد المكث والسكون مجازاً، فقوله:"ومكثي" عطف تفسيري لـ"قيامي"، وإما أن يراد به حقيقة القيام، فهو المراد من قوله:"لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا".
قوله: (هل أغدون يوماً وأمري مجمع): أوله:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع
والواو بمعنى "مع" يعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم. وقرأ الحسن: "وشركاؤكم" بالرفع، عطفا على الضمير المتصل، وجاز من غير تأكيد بالمنفصل؛ لقيام الفاصل مقامه لطول الكلام، كما تقول: اضرب زيداً وعمرو.
وقرئ: "فاجمعوا" من الجمع، و"شركاءكم"؛ نصب للعطف على المفعول، أو لأنّ الواو بمعنى "مع"، وفي قراءة أبىّ:"فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم".
فإن قلت: كيف جاز إسناد الإجماع إلى الشركاء؟ قلت: على وجه التهكم، كقوله (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ) [الأعراف: 195].
فإن قلت: ما معنى الأمرين؛ أمرهم الذي يجمعونه، وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟ قلت: أمّا الأمر الأوّل: فالقصد إلى إهلاكه، يعنى: فأجمعوا ما تريدون من إهلاكي، واحتشدوا فيه وابذلوا وسعكم في كيدي، وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته، وثقته بما وعده ربه من كلاءته وعصمته إياه، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا.
وأما الثاني ففيه وجهان، أحدهما: أن يراد مصاحبتهم له،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ("فاجمعوا"؛ من الجمع): يمكن أن يكون المراد: فاجمعوا ذوي الأمر منكم، أي: رؤساءكم ووجوهكم، كما قال تعالى:(وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)[النساء: 59]، ويجوز أن يكون المراد بالأمر: ما كانوا يجمعونه من كيدهم، كقوله تعالى:(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً)[طه: 64].
زعم أبو الحسن: أن وصل الألف في (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) أكثر في كلامهم، وإنما يقطعون الألف إذا قالوا: على كذا وكذا.
وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم، يعنى: ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة، وحالكم عليكم غمة، أي، غما وهما، والغم والغمة، كالكرب والكربة. والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول، والغمة: السترة؛ من غمه: إذا ستره.
ومنها قوله عليه السلام: "ولا غمة في فرائض الله" أي: لا تستر، ولكن يجاهر بها، يعنى:
ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستورا عليكم، ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به.
(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) ذلك الأمر الذي تريدون بى، أي: أدوا إلىَّ قطعه وتصحيحه، كقوله:(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أو: أدّوا إلىّ ما هو حق عليكم عندكم من هلاكي، كما يقضى الرجل غريمه، (وَلا تُنْظِرُونِ): ولا تمهلوني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (والغم والغمة كالكرب والكربة)، الراغب:"الغم: ستر الشيء، ومنه الغمام؛ لكونه سائراً لضوء الشمس والقمر، والغمي مثله، ومنه: غُم الهلال، ويوم غمُّن وليلة غمة وغُمي، وغمة الأمر، قال الله تعالى: (لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً)، أي: كربة، يُقال: غم وغمة؛ نحو: كرب وكربة، وناصية غماء: تستر الوجه".
قوله: (أن يُراد به ما أريد بالأمر الأول): وهو ما تريدون من إهلاكي وبذل الوُسع في كيدي، أي: لا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم، لكن مكشوفاً، فـ (ثُمَّ) على هذا للتراخي في الرتبة، فإن المراد بالأمر الأول: القصد إلى إهلاكه مطلقاً، وبالثاني: ذلك القصد مع قيد كونه مزيلاً للغمة والكرب، ففي الكلام ترق من الأدنى إلى الأغلظ، ومثله قول الحماسي:
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة
…
يرى غمرات الموت ثم يزورها
قوله: (أو: أدوا إليَّ ما هو حق عليكم): يريد: أن قوله: (ثُمَّ اقْضُوا) مضمن معنى
وقرئ: "ثم أفضوا إلىّ"، بالفاء بمعنى: ثم انتهوا إلىّ بشرّكم. وقيل: هو من: أفضى الرجل: إذا خرج إلى الفضاء، أي: أصحروا به إلىّ وأبرزوه لي
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ): فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي، (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ): فما كان عندي ما ينفركم عنى وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم، وطلب أجر على عظتكم، (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة، أي: ما نصحتكم إلا لوجه الله تعالي، لا لغرض من أغراض الدنيا، (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئا، ولا يطلبون به دنيا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأداء، ثم القضاء: إما بمعنى قطع الحكم وبته وتصحيحه، واستشهد له بقوله:(وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ)، قال:" (قضى) عُدي بـ "إلى"، لأنه ضُمن معنى "أوحينا"، كأنه قيل: أوحينا إليك مقضياً مبتوتاً"، وإما بمعنى قضاء الدين، والمعنى: أدوا إليَّ ما هو حق عليكم عندكم، أي: في معتقدكم، فعلى هذا فيه استعارة، ولهذا قال:"كما يقضي الرجلُ غريمه"، فكأنه كان في معتقدهم أن إهلاك نوح كالحق الثابت للرجل على غريمه، فلابد من استيفائه.
قوله: (فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي): إنما أعاد ذكر "تذكيري" ليؤذن أن هذا الشرط مرتبط بالشرط الأول، وأن المعنى: إن توليتم لأنكم ضجرتم عنين وشق عليكم طول مقامي وتذكيري، فابذلوا وسعكم في هلاكي وإبطال كيدي، ليظهر لكم أني ما أريد بذاك إلا نُصحكم وهدايتكم، وإن توليتم، لا أني طامع في أموالكم، وأطلب منكم أجر الموعظة، فاعلموا وأيقنوا أني ما نصحتكم إلا لوجه الله تعالى، لا لغرض من أغراض الدنيا.
وهذا يُنبئ أن نوحاً ما أتى بهذا النوع من الكلام إلا بعد مراجعات طويلة وإلزامهم الحجة، كما قالوا:(يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا)[هود: 32]، وأنه بذل وُسعهُ في
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التذكير والنصح وإبلاغ ما يجب عليه أن يبلغه، وأن القوم بلغوا الغاية في العناد، وإليه الإشارة بقوله:"فذكر أن توليهم لم يكن عن تفريط منه".
فإن قلت: لم خص المقام الأول بالتوكل، والثاني بالإسلام؟ فنقول- على لسان العارفين، والعلم عند الله تعالى-: إن مقام التسليم فوق مقام التوكل- وسيأتيك تصديقه في قوله تعالى: (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) بُعيد هذا-، ولأن التوكل: كلة الأمر كله إلى مالكه، والتعويل على وكالته، ومن ثم جعل الله تعالى قوله:(فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ) مقدمة للجزاء، وهو قوله:(فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) وبالغ فيه غاية المبالغة.
وقال المصنف: "إنما قال ذلك إظهاراً لقلة مبالاته، وثقته بما وعده ربه من كلاءته"، والتسليم وترك الأسباب التي تُزاحم العقول والأوهام. ومن ثم ذيل قوله:(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ)، لقوله:(فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ).
قال العارف أبو [إسماعيل] عبد الله الأنصاري: "التوكل أصعب المنازل، والتسليم أعلى الدرجات"، وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري:"التوكل صفة المؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحدين. والتوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم - لقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة: 131]-، والتفويض صفة نبينا محمد"، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، والله أعلم.
يريد: أن ذلك مقتضى الإسلام، والذي كل مسلم مأمور به. والمراد أن يجعل الحجة لازمة لهم، ويبرئ ساحته، فذكر أن توليهم لم يكن تفريط منه في سوق الأمر معهم على الطريق الذي يجب أن يساق عليه، وإنما ذلك لعنادهم وتمرّدهم لا غير.
(فَكَذَّبُوهُ): فتموا على تكذيبه، وكان تكذيبهم له في آخر المدّة المتطاولة كتكذيبهم في أوّلها، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان، (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) يخلفون الهالكين بالغرق، (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله، وتسلية له.
[(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) 74].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يريد: أن ذلك مقتضى الإسلام، والذي كل مسلم مأمور به): يريد: أن قوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) جملة مذيلة للكلام السابق مقررة لمضمون معناه، وإلى التقرير والتأكيد الإشارة بقوله:"المراد أن يجعل الحجة لازمة لهم، ويبرئ ساحته".
وفيه أن من دعا الناس إلى هداية أو علمهم من علوم الدين شيئاً، وأخذ عليه الأجرة، خرج من جملة الورثة.
قوله: ((فَكَذَّبُوهُ) فتموا على تكذيبه): يعني: أن في تعقيب (فَكَذَّبُوهُ) بما سبق إشعاراً بتجدد التكذيب، وليس به، بل المراد التعاقب والاستمرار؛ لأن قول نوح عليه السلام:(إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ) لم يكن إلا عن تكذيب سابق منهم، يعني: كذبوه ابتداء، ثم بعد التذكير والنصح لم ينزلوا عن عادتهم من التكذيب، بل استمروا عليه، مثله في "القمر":(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا)[القمر: 9]، "أي: كذبوه تكذيباً عقيب تكذيب".
(مِنْ بَعْدِهِ): من بعد نوح، (رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ) يعنى: هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً، (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ): بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم، (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا): فما كان إيمانهم إلا ممتنعاً كالمحال؛ لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه، (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) يريد: أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق، فما وقع فصل بين حالتيهم؛ بعد بعثة الرسل وقبلها، كأن لم يبعث إليهم أحد.
(كَذلِكَ نَطْبَعُ): مثل ذلك الطبع المحكم نطبع (عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ)، والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم، لأنّ الخذلان يتبعه، ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فما كان إيمانهم إلا ممتنعاً كالمحال): هذه الاستحالة تستفاد من لام "كي" المؤكدة، كقوله تعالى:(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ)[آل عمران: 161].
قوله: (والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم): أي: الكناية التلويحية، وذلك أن من عاند وثبت على اللجاج خذله الله، ومنع عنه التوفيق واللطف، فلا يزال على هذا حتى يتراكم الرين، ويطبع على قلبه، قال تعالى:(كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ)[المطففين: 14]، والدليل على أن الطبع كناية عن العناد واللجاج: تصريح الاعتداء في قوله: (الْمُعْتَدِينَ)، قال القاضي:" (نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) بخذلانهم لانهماكهم في الضلال واتباع المألوف، وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد".
[(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) 75 - 78].
(مِنْ بَعْدِهِمْ): من بعد الرسل، (بِآياتِنا): بالآيات التسع، (فَاسْتَكْبَرُوا) عن قبولها، وهو أعظم الكبر؛ أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها، (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ): كفاراً ذوى آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردّها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهو أعظم الكبر): قيل: هو ضمير الشأن، و"أن يتهاون" خبر "أعظم الكبر"، والجملة مفسرة للضمير، ويمكن أن يعود الضمير إلى الاستكبار الذي هو مدلول "استكبر"، و"أن يتهاون" بدل من "أعظم الكبر".
والمعنى ينظر إلى قوله صلوات الله عليه: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" الحديث، أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي.
النهاية: "بطر الحق: أن يجعل ما جعله الله حقاً من توحيده وعبادته باطلاً، وقيل: أنا يطغى ويتكبر عند سماع الحق فلا يقبله"، غمط الناس: الاحتقار لهم والازدراء بهم.
قوله: ((وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ): كفاراً ذوي آثام عظام، فلذلك استكبروا): قال صاحب "الفرائد": لا دلالة في هذا الكلام على ما ذكر، والظاهر أنه عطف على "استكبروا" أي: استكبروا وثبتوا على إجرامهم، ولا يلزم أيضاً أن استكبارهم بسبب إجرامهم، سلمنا أنه يلزم، لكن لما أمكن أن يكون للعطف ولا مرجح لأن يكون للحال، والعطف فيه الأصل، والعدول عنه إلى غيره لغير ضرورة عدول عن الأصل.
(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا): فلما عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند الله، لا من قبل موسى وهارون، (قالُوا) لحبهم الشهوات:(إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويهاً وباطلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: العجب أنه نسب إلى المصنف ما هو عنه بريء، ثم قام مجادلاً يغضب عليه، ولم يدر أنه سلك مسلك التذييل والاعتراض، ألا ترى إلى قوله في تفسير قوله تعالى:(ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ)[البقرة: 92]: "يجوز أن يكون (وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) حالاً، أي: عبدتم العجل وأنتم واضعون العبادة في غير موضعها، وأن يكون اعتراضاً؛ بمعنى: وأنتم قوم عادتكم الظلم"، فلذلك اتخذتم العجل من بعده إلها، ويُقال في هذا المقام: كان عادتهم الإجرام وركوب الآثام العظام، فلذلك استكبروا.
وإنما فسر (مُجْرِمِينَ) بآثام عظام؛ لأن الكافر إذا وُصف بالفسق أو الجرم أريد التمرد في الكفر، والتناهي فيه.
قوله: (فلما عرفوا أنه هوا لحق، وأنه من عند الله): قال صاحب "الفرائد": لا دلالة في الكلام على أنهم عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند الله، لا من قبل موسى وهارون، وإنما عُلم هذا المعنى في موضع آخر، وهو قوله تعالى:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ)[النمل: 14]، إلا أنه من حقه أن يعرف أنه الحق بأدنى تأمل، وليس بسحر لبعده عن السحر.
وقلت: ما أوضح دلائله، وهو أن قوله:(الْحَقِّ) مُظهر أقيم موضع المضمر من غير لفظه السابق- والمراد منه الآيات السابقة في قوله: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا)، وهي الآيات على الاستعارة؛ ليدل على غاية ظهوره وشدة سطوعه، حيث لا يخفى على من له أدنى مسكه، ولا يستقيم قولهم:(إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) جواباً لقوله: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ)، إلا على حمل الحق على المعجزات، لأن هذا الكلام يقوله العاجز عندما قهرته الحجة، وبهرته سلطانها، ولا يبقى له متشبث.
فإن قلت: هم قطعوا بقولهم: (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) على أنه سحر،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويعضده ما مر في أول السورة يونس في قوله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) إلى قوله: (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)[يونس: 2]، قال المصنف:"هو دليل عجزهم واعترافهم به"، والمعنى: ثم بعثنا من بعدهم موسى إلى فرعون وملئه بالمعجزات، فلم يلتفتوا إليها، واستكبروا، ثم لما تبين لهم بعد ذلك حقيقته، عاندوا وقالوا:(إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ)، وأجابهم عليه السلام بقوله:(أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ)، وصرح بالحق.
قوله: (هم قطعوا بقولهم): توجيه السؤال: كيف أوقع (أَسِحْرٌ هَذَا) مقولاً لقوله: (أَتَقُولُونَ) على الاستفهام، وأنهم لم يقولوا:(أَسِحْرٌ) على الاستفهام، بل قطعوا فيه القول، حيث صدروا الجملة بـ (إنَّ) وأدخلوا اللام في الخبر؟
وأجاب عنه بأوجه:
أحدها: أن يكون قوله: (أَتَقُولُونَ) كناية عن العيب والطعن؛ لكونه واقعاً في مقابلة طعنهم وعيبهم، واللام لبيان المطعون فيه- كما في قوله:(هَيْتَ لَكَ)[يوسف: 23]، و (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) [يوسف: 43]-، ثم جاء بقوله:(أَسِحْرٌ هَذَا)؛ تقريراً لقولهم: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) واستجهالاً لهم، ما يشبه هذا السحر، وإنه لحق ثابت قاهر في الحجة، والسحر باطل، وصاحبه غير فائز بالبغية، كما قال الزجاج:"والمفلح الذي يفوز بإرادته، أي: كيف يكون سحراً، وقد أفلح الذي أتى به، أي: فاز في حجته".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وثانيها: ظاهر.
وثالثها: أن يكون حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا: أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح، ولا يفلح الساحر؟ ! وهو ليه السلام يحكي عنهم على طريقة المشاكلة وإطباق الجواب على السؤال، ويرد عليهم، أو أن يكون لهم كلام يقرب من هذا، فإنهم لما قالوا:(إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) جيء بهذا الكلام حاكياً لذلك، يعني: دعوا هذا، فنكم أنكرتموه بأبلغ من ذلك حيث قلتم: أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح؟ !
نحوه مر في قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ)[البقرة: 7]، وفي قوله:(إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً)[البقرة: 26]، هذا أغمض الوجوه، وإن قال صاحب "الانتصاف":" [في] الفرق بين القولين غموض، وإيضاحه: أن "القول" في الأول: كناية عن العيب، فلا يتقاضى مفعولاً، وفي الثاني: على بابه، فطلب مفعولاً".
وقلت: يحتمل وجهاً آخر في الآية، وهو أن قولهم:(إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) دل على هذا الجواب من حيث المعنى، فإنهم لما أثبتوا لهما السحر، وأكدوا الجملة بـ (إنَّ) واللام، كأنهم ادعوا أن ما جاء به من قبيل الباطل الذي لا يفلح صاحبهن لما اشتهر بين الناس أن السحر باطل، وصاحبه غير مفلح، ألا ترى إلى قول موسى عليه السلام:(مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) - ولذلك سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم السحرة بالبطلة في قوله: "اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة"، أخرجه مسلم عن أبيأمامة-، فجاء موسى عليه السلام بمايلزم من كلامهم، وأنكر عليهم ذلك، أي: أتقولون للحق الواضح الذي يفوز صاحبه بكل بغية ذلك، أي: أسحر هذا، والحال أن الساحر لا يُفلح؟ !
فكيف قيل لهم: أتقولون أسحر هذا؟ قلت: فيه أوجه: أن يكون معنى قوله (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ): أتعيبونه وتطعنون فيه، وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلا يخاف القالة، وبين الناس تقاول: إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه، ونحو القول: الذكر، في قوله (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) (الأنبياء: 60)، ثم قال (أَسِحْرٌ هذا) فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه.
وأن يحذف مفعول (أتقولون)، وهو ما دل عليه قولهم:(إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ)، كأنه قيل: أتقولون ما تقولون؟ يعنى قولهم: (إن هذا لسحر مبين)، ثم قيل:(أسحر هذا). وأن يكون جملة قوله: (أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا: أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ)، كما قال موسى للسحرة:(ما جئتم به السحر، إنّ الله سيبطله)[يونس: 81].
(لِتَلْفِتَنا): لتصرفنا، واللفت والفتل: أخوان، ومطاوعهما: الالتفات والانفتال، (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) يعنون عبادة الأصنام، (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) أي: الملك، لأنّ الملوك موصوفون بالكبر، ولذلك قيل للملك: الجبار، ووصف بالصيد والشوس،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ووصف بالصيد)، الجوهري:"الصيد- بالتحريك-: مصدر للأصيد، وهو الذي يرفع رأسه كبراً، ومنه قيل للملك: أصيد، وأصله في البعير يكون به داء في رأسه فيرفعه، ويُقال: إنما قيل للملك: أصيد؛ لأنه لا يلتفت يميناً وشمالاً".
و"الشوس" بالتحريك: النظر بمؤخر العين تكبراً أو تغيظاً، فعلى هذا: الكبرياء من لوازم الملك، فيكون كناية عنه، قال الزجاج:"وإنما سُمي الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يُطلب من أمر الدنيا".
ولهذا وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله:
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَة لَيْسَ فِيهِ
…
جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلَا كِبْرِيَاءُ
ينفى ما عليه الملوك من ذلك.
ويجوز أن يقصدوا ذمّهما، وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا، كما قال القبطي لموسى عليه السلام:(إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض)(القصص: 19).
(وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي: مصدّقين لكما فيما جئتما به، وقرئ:"يطبع"، "ويكون لكما الكبرياء" بالياء.
[(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) 79 - 82].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كما قال القبطي لموسى عليه السلام: (إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ)): وهو على خلاف نقل المفسرين، قال محيي السنة والواحدي:"القائل الإسرائيلي، وذلك أن موسى عليه السلام لما أدركته الرقة بالإسرائيلي، فمد يده ليبطش بالفرعوني، ظن الإسرائيلي انه يريد أن يبطش به لما رأى من غضبه عليه السلام، وسمع قوله: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) [القصص: 18]، قال: (يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ) [القصص: 19]، وذلك أن القبطي ما كان عالماً أن موسى عليه السلام كان قاتل القبطي، وحين سمع انطلق إلى فرعون وأخبره"، وقد ذكر نحوه في "الكواشي".
(ما جِئْتُمْ بِهِ): (ما) موصولة واقعة مبتدأ، و (السِّحْرُ) خبر، أي: الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله.
وقرئ: (آلسحر)، على الاستفهام، فعلى هذه القراءة (ما) استفهامية، أي: أي شيء جئتم به، أهو السحر؟ وقرأ عبد الله:"ما جئتم به سحر"، وقرأ أبىّ:"ما أتيتم به سحر". والمعنى: لا ما أتيت به.
(إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) أي: سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "السحر" على الاستفهام): وهي قراءة أبي عمرو، فيوقف على (جِئْتُمْ بِهِ)، ويبدأ "السحر". قال أبو البقاء:" (ما) استفهام على هذا، نصب بفعل محذوف، أي: أي شيء أتيتم؟ و (جِئْتُمْ بِهِ) تفسير للمحذوف، ويجوز أن يكون مرفوعاً على الابتداء، و (جِئْتُمْ بِهِ) الخبر، و"السحر": يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أو عكسه، وعلى هذا يجوز أن يكون "السحر" بدل من موضع (مَا)، كما تقول: ما عندك؟ أدينار أم درهم؟ "، قال أبو علي:"فعلى هذا لا يلزم أن يضمر للسحر خبر، لأنك إذا أبدلته من المبتدأ صار في موضعه، وصار ما كان خبراً لما أبدلت منه، في موضع خبر المبدل".
وقلت: فعلى القراءة المشهورة: الحصر لازم لتعريف الخبر، فيكون الرد ثابتاً على ما قال:"الذي جئتم به السحر"، لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً، وكذا على قراءة "السحر" في غير البدل. وأما على البدل وعلى قراءة عبد الله وأبي: فالحصر مستفاد من التعريض، حيث وقع في مقابل قولهم:(إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ)، ولهذا قال:"لا ما أتيت به"، على النفي.
(لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ): لا يثبته ولا يديمه، ولكن يسلط عليه الدمار، (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ): ويثبته (بِكَلِماتِهِ): بأوامره وقضاياه. وقرئ: "بكلمته": بأمره ومشيئته.
[(فَما ءآمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) 83].
(فَما ءآمَنَ لِمُوسى) في أوّل أمره (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ): إلا طائفة من ذراري بني إسرائيل، كأنه قيل: إلا أولاد من أولاد قومه، وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل: الضمير في (قومه) لفرعون، والذرية: مؤمن آل فرعون، وآسية امرأته، وخازنه، وامرأة خازنه، وماشطته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لا يُثبته ولا يديمه): اعلم أن الإفساد: إخراج الشيء عن كونه منتفعاً به، فقوله:(لا يُصْلِحُ) يحتمل أن يُراد أنه تعالى يتركهم وإفسادهم، وما لم يصلحه الله لا يدوم ولا يثبت، فيصير باطلاً زائلاً، ويحتمل أنه يفسد إفسادهم بأن يسلط عليه الدمار فيبطله، والمصنف نظر إلى الاعتبارين؛ لأنها مقابلة لقوله تعالى:(وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ)، فكأنه قيل: ويحق الله الحق ويبطل الباطل.
قوله: ((بِكَلِمَاتِهِ) بأوامره وقضاياه): فسر "الكلمات" حيث جيء بها جمعاً بالأوامر التي هي مقابلة للنواهي، وحيث جيء بها مفرداً بالأمر الذي هو واحد الأمور، وعطف المشيئة عليها، على سبيل البيان؛ ليؤذن بأنه من قوله تعالى:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[يس: 82]، وهو أشمل من الأول، لأن الأوامر والنواهي والأمور والشؤون كلها تابعة لمشيئة الله تعالى وإرادته، ولذلك عطف على الأول:"وقضاياه"، لتتناول "كلماته" ما تناولته "كلمته"، فيستويا في الشمول.
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله: (وَمَلَإيهِمْ)؟ قلت: إلى فرعون، بمعنى: آل فرعون، كما يقال: ربيعة ومضر، أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له. ويجوز أن يرجع إلى "الذرية"، أي: على خوف من فرعون وخوف من أشراف بنى إسرائيل، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم، ويدل عليه قوله:(أَنْ يَفْتِنَهُمْ) يريد: أن يعذبهم.
(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ): لغالب فيها قاهر، (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) في الظلم والفساد، وفي الكبر والعتوّ، بادعائه الربوبية.
[(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) 84 - 86].
(إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ): صدقتم به وبآياته (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا): فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ذو أصحاب): قال الزجاج: "جاز أن يُقال: (وَمَلَئِهِمْ)، لأن فرعون ذو أصحاب يأتمرون له، والملأ من القوم: الرؤساء الذين يرجع إلى قولهم".
وقلت: اعتبر التعدد في نفس فرعون من جهة كونه ذا أصحاب كأنه جماعة، كما وقع في مخاطباتهم: إنا فعلنا، وهم فعلوا. والفرق أن معنى التعدد في الثاني للتعظيم، وفي الأول لمجرد الإضافة، فعلى هذا: الضمير المرفوع في (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) لفرعون وملئه، غُلب "فرعون" على "الملأ"؛ لأنهم يأتمرون بأمره، ولو رجع إليه وإلى الملأ لقيل:"أن يفتنوهم".
والظاهر أن يرجع الضمير في (وَمَلَئِهِمْ) إلى ذرية بني إسرائيل، فلا يفتقر إلى التأويلين، ولهذا قال:"ويدل عليه قوله: (أَن يَفْتِنَهُمْ) ".
ثم شرط في التوكل الإسلام، وهو أن يسلموا نفوسهم لله، أي: يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها، لأن التوكل لا يكون مع التخليط، ونظيره في الكلام: إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوّة.
(فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا) إنما قالوا ذلك، لأنّ القوم كانوا مخلصين، لا جرم أنّ الله سبحانه قبل توكلهم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ثم شرط في التوكل الإسلام): فهاهنا أشياء ثلاثة: الإيمان والتوكل والإسلام، والمراد بالإيمان: التصديق، وبالتوكل: إسناد الأمر إليه، وبالإسلام: إسلام النفس إليه وقطع الأسباب. فعلق التوكل بالتصديق بعد تعلقه بالإسلام؛ لأن الجزاء معلق بالشرط الأول، وتفسير للجزاء الثاني، كأنه قيل: إن كنتم مصدقين الله وآياته فخصوه بإسناد جميع الأمور إليه، وذلك لا يحصل إلا بعد أن تكونوا مخلصين لله مستسلمين أنفسكم له، ليس للشيطان فيكم نصيب، وإلا فاتركوا أمر التوكل.
فعُلم منه أنه ليس لكل من المؤمنين الخوض في التوكل، بل للآحاد منهم، وأن مقام التوكل دون مقام التسليم، وهذا يؤيد ما سبق لنا في قوله تعالى:(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ)[يونس: 72]، والتصديق مصححة التوكل، وعليه ينطبق المثال، وهو قوله:"إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوة"، لأن مكافأة الضرب مشروط بوجدان القوة، وألا فالتحمل والاعتراف بالقصور.
والذي يؤيد أن التوكل متوقف على الإخلاص والتسليم قول المصنف: "إنما قالوا ذلك لأن القوم كانوا مخلصين"، وذلك أن موسى عليه السلام حين شرط عليهم في التوكل الإخلاص والتسليم، وهم أجابوه بحرف التعقيب دل على سبق الإخلاص على الإجابة.
وأجاب دعاءهم، ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في أرضه، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص.
(لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً): موضع فتنة لهم، أي: عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا، أو فتنة لهم يفتتنون بنا ويقولون: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا.
[(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) 87].
(أن تبوءّأ) تبوأ المكان: اتخذه مباءة، كقولك: توطنه، إذا اتخذه وطناً. والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأجاب دعاؤهم ونجاهم): هذا يُعلم من قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ)[الدخان: 30 - 31].
قوله: (أو فتنة لهم يفتنون بنا): عن بعضهم: أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الناس النار، وقال تعالى:(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)[الذاريات: 13]، وسمي ما يحصل عنه العذاب فتنة، قال تعالى:(أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)[التوبة: 49]، ويستعمل في الاختبار، قال تعالى:(وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً)[طه: 40]، وجُعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يُستعملان فيما يُدفع إليه الإنسان منشدة ورخاء، وهما في الشدة أكبر معنى وأكثر استعمالاً، وقد قال تعالى فيهما:(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)[الأنبياء: 35]، وقال في الشر:(عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ)، أي: يبتليهم ويعذبهم.
قوله: (والمعنى: اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما): يريد: أن (تَبَوَّءَا) مُتعد إلى مفعول واحد، تقول: تبوأت بيتاً وتبوأ القوم بيوتاً، فإذا أدخلت اللام قلت: تبوأت للقوم بيوتاً، صار ما كان فاعلاً مفعولاً، وتعدى إلى مفعولين.
قوله: (بيوتاً من بيوته): "مِن" فيه تبعيضية، واللفظان، وإن اتحدت صيغتهما في الجمع، لكن الثاني لما أضيف إلى المعرفة أفاد العموم والاستغراق، كما عُلم في الأصول، والأول لما
ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه، (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ) تلك (قِبْلَةً) أي: مساجد متوجهة نحو القبلة، وهي الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة، وكانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم، فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أوّل الإسلام بمكة.
فإن قلت: كيف نوّع الخطاب، فثنى أوّلا، ثم جمع، ثم وحد آخراً؟ قلت: خوطب موسى وهارون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتا، ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوّض إلى الأنبياء، ثم سيق الخطاب عامّاً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأنّ ذلك واجب على الجمهور، ثم خص موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض، تعظيما لها وللمبشر بها.
[(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) 88].
الزينة: ما يتزين به من لباس أو حلى أو فرش أو أثاث أو غير ذلك، وعن ابن عباس: كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت.
فإن قلت: ما معنى قوله (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ)؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُكر أفاد القلة، ولهذا قيل: الجمع المنكر لا يستثني منه على الأكثر، فمعنى قوله:"بيوتاً من بيوته": بيوتاً متعددة من جملة بيوته المتكاثرة.
قوله: ((بُيُوتِكُمْ) تلك): إشارة إلى أن الإضافة في (بُيُوتِكُمْ) بمعنى لام العهد، وأن النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى.
قلت: هو دعاء بلفظ الأمر، كقوله:(رَبَّنَا اطْمِسْ)، (وَاشْدُدْ)، وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكرّرا، وردّد عليهم النصائح والمواعظ زماناً طويلا، وحذرهم عذاب الله وانتقامه، وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً، وعلى الإنذار إلا استكبارا، وعن النصيحة إلا نبوّا، ولم يبق له مطمع فيهم، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال، وأنّ إيمانهم كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة، أو علم ذلك بوحي من الله، اشتد غضبه عليهم، وأفرط مقته وكراهته لحالهم، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، كما تقول: لعن الله إبليس، وأخزى الله الكفرة، مع علمك أنه لا يكون غير ذلك.
وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه، كأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (هو دعاء بلفظ الأمر): يُريد: أن القاتل كأنه يدعو الله أن يأمرهم- وهم غيبٌ- بأن يُضلوا عن الدين، والتقدير: ربنا أضلهم.
قوله: (اشتد غضبه): جواب "لما عرض"، وقوله:"وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة" عطف على قوله: "أنه لما عرض"، والظاهر أنه عطف على قوله:"بما علم أنه لا يكون غيره"، ليكون ما ذكر من المقدمات تمهيداً للدعاء، ويكون قوله:"ليشهد" مبنياً عليه، يعني: لما فعلوا كيت وكيت، ودعا عليهم، ليكون كالتسجيل على أنهم من أهل الخذلان، وعلامة لمن سمع به أنه لم يبق له فيهم حيلة.
قوله: (يتسكعون فيه)، الأساس:"فلان يتسكع: لايدري أين يتوجه، ومن المجاز: فلان يتسكع في أمره: لايهتدي لوجهه، وأراك متسكعاً في ضلالك".
وليكونوا ضلالا، وليطبع الله على قلوبهم، فلا يؤمنوا، وما علىّ منهم! هم أحق بذلك وأحق، كما يقوله الأب المشفق لولده الشاطر إذا ما لم يقبل منه، حسرة على ما فاته من قبول نصيحته، وحرداً عليه، لا أن يريد خلاعته وإتباعه هواه.
ومعنى الشدّ على القلوب: الاستيثاق منها، حتى لا يدخلها الإيمان، (فَلا يُؤْمِنُوا) جواب للدعاء الذي هو (اشدد)، أو دعاء بلفظ النهى،
وقد حملت اللام في (ليضلوا) على التعليل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وما علي منهم! هم أحق بذلك): "ما" استفهامية أو نافية، يعني: كان موسى عليه السلام بعد الضجر حين لم يبق له حيلة، قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال، وأي شيء يلزمني من جانبهم حتى يطول علي تحسرهم؟ ثم استأنف: هم أحق بذلك وأحق، أو: ليثبتوا على ما هم عليه، وما يلزمني من جانبهم شيء، إني بالغت في الإنذار، وما على الرسول إلا البلاغ.
وقيل: "ما" موصولة، وهو مبتدأ، وقوله:"هم" خبره، وفيه تعسف وبُعد عن المقام.
قوله: (وقد حُملت اللام في (لِيُضِلُّوا)): هذا وجه آخر، وهذه العبارة مؤذنة بأن الوجه الأول أوجه، أي: أنك آتيت فرعون وملأه زينة ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا. وذكره الواحدي وقال: " (فَلا يُؤْمِنُوا) دعاء عليهم، والتأويل: فلا آمنوا".
قال صاحب "الفرائد": الوجه أن يُقال: إنها للتعليل، وإلا فما وجه قوله:(رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، وإنما عدل إلى أمر الغائب؛ ميلاً إلى مذهبه.
الانتصاف: "هذا اعتزال خفي؛ فراراً من أن تكون لام "كي"، فتدل على أن الله أمدهم لعلة الإضلال استدراجاً، كما قال: (لِيَزْدَادُوا إِثْماً) [آل عمران: 178]، ففر من هذا، وحمل على معتقده".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: اللام إذا جُعلت مستعاراً على نحو قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً)[القصص: 8] لا يضره أيضاً، وإليه الإشارة بقوله:"على أنهم جعلوا نعمة الله سبباً في الضلال"، كما قال الزجاج: ويُقرأ: "ليضلوا عن سبيلك"، المعنى: أنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا، وأصارهم ذلك إلى الضلال.
وأما وجه قوله: 0 رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً) على أمر الغائب: فهو أن موسى عليه السلام ما تكلم بها إلى توطئة وتمهيداً، ليتخلص منها إلى الدعاء عليهم، يعني: أنك أوليتهم هذه النعمة ليشكروك ولا يعبدوا غيرك، فما زادتهم تلك النعمة إلا أشراً وتمادياً في الطغيان، وإذا كانت الحالة هذه، فليضلوا عن سبيلك. ولو دعا عليهم ابتداء ربما لم يُعذر، فقدم الشكاية منهم والنعي بسوء صنيعهم، ليتسلق منه إلى الدعاء، مع مراعاة تلاؤم الكلام من إيراد الأدعية منسوقة نسقاً واحداً، ولا مجال للاعتراض؛ لأن الاعتراض حُسن موقعه من الكلام أن تلتذ النفس بسماعه، ولذلك عيب قول النابغة:
لعل زياداً - لا أبا لك - غافل
فليُذق ليدرك.
على أنهم جعلوا نعمة الله سبباً في الضلال، فكأنهم أوتوها ليضلوا، وقوله:(فَلا يُؤْمِنُوا) عطف على (ليضلوا)، وقوله:(رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه.
وقرأ الفضل الرقاشي: "أإنك آتيت"؛ على الاستفهام، و"اطمس" بضم الميم.
[(قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) 89].
قرئ: "دعواتكما"، قيل: كان موسى يدعو وهارون يؤمّن.، ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان. والمعنى: إنّ دعاء كما مستجاب، وما طلبتما كائن، ولكن في وقته، (فَاسْتَقِيما): فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجة، فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف عام إلا قليلا، ولا تستعجلا. قال ابن جريج: فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة.
(وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي: لا تتبعا طريق الجهلة بعادة الله في تعليقه الأمور بالمصالح، ولا تعجلا فإن العجلة ليست بمصلحة، وهذا كما قال لنوح عليه السلام:(إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)[هود: 46].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فَلا يُؤْمِنُوا) عطفٌ على (لِيُضِلُّوا): وقال مكي: " (فَلا يُؤْمِنُوا): عطف على (لِيُضِلُّوا)، وفي موضع نصب عند المبرد والزجاج، وقال الأخفش والفراء: منصوب؛ جواب الدعاء في قوله: (اطْمِسْ)، وقال الكسائي وأبو عبيدة: هو في موضع جزم، لأنه دعاء عليهم"، وقال أبو البقاء:" (فَلا يُؤْمِنُوا) نصبٌ؛ عطف على (لِيُضِلُّوا)، أو جواب الدعاء في قوله: (اطْمِسْ)، أو جزم، ومعناه الدعاء، كما تقول: لا تُعذبني".
وقرئ: (ولا تتبعان)، بالنون الخفيفة - وكسرها لالتقاء الساكنين؛ تشبيهاً بنون التثنية - وبتخفيف التاء من: تبع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "ولا تتبعان" بالنون الخفيفة): ابن ذكوان: بتخفيف النون، والباقون: بتشديدها، قال ابن الحاجب:"رُوي عن ابن ذكوان بتشديد التاء وتخفيف النون، ورُوي عنه أيضاً بتخفيف التاء وإسكانها وفتح الباء وتشديد النون، من: تبع يتبع، وليس فيها إشكال، وإنما الإشكال في تخفيف النون، ووجهه: أن "لا" نافية، والفعل مرفوع على وجهين:
أحدهما: أن يكون جملة خبرية معناها النهي، كقوله تعالى:(تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)[الصف: 11]، و (لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ) [البقرة: 83]، والمعنى: على الأمر والنهي، وعطف جملة خبرية معناها النهي على جملة معناها الطلب.
وثانيهما: أن تكون الواو للحال، أي استقيما غير متبعين، والجملة الفعلية المنفية يجوز أن تأتي بالواو وبغير الواو.
وقول من قال: إن "لا" للنهي، والنون نون التوكيد الخفيفة كُسرت، أو الثقيلة حُذفت الأولى منهما: ضعيف، لا ينبغي أن تؤول قراءة صحيحة عليه، لأنه لم يثبت في اللغة مثله".
قوله: (تشبيهاً بنون التثنية): قال الزجاج: "موضع (تَتَّبِعَانِ) جزم، إلا أن النون
[(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) 90]
قرأ الحسن: "وجوزنا"؛ من: أجاز المكان وجوزه وجاوزه، وليس من: جوز الذي في بيت الأعشى:
وَإذَا تَجَوَّزْنَا حِبَالَ قَبِيلَةٍ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشديدة دخلت للنهي مؤكدة، وكُسرت لسكونها وسكون النون التي قبلها، واختير لها الكسر؛ لأنها بعد ألف تشبه نون الاثنين".
قوله: (وليس من: جوز): يعني: هذه القراءة من: أجاز المكان، أي: خلفه وقطعه، فيُعدى بالباء لأنه لازم؛ الأساس:"جُزت المكان وأجزته وجاوزته وتجاوزته"، وليس من: جوز، بمعنى: نفذ؛ لأنه لا يحتاج إلى التعدية بالباء، يدل عليه قوله:
كما جوز السي في الباب فيتق
قوله: (وإذا تُجوزها حبال قبيلة): تمامه:
أخذت من الأخرى إليك حبالها
لأنه لو كان منه، لكان حقه أن يقال: وجوّزنا بني إسرائيل في البحر، كما قال:
كَمَا جَوَّزَ السَّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ
(فَأَتْبَعَهُمْ): فلحقهم، يقال: تبعته حتى أتبعته. وقرأ الحسن: "وعدوّا"، وقرئ:(أنه) بالفتح؛ على حذف الباء التي هي صلة الإيمان، و"إنه" بالكسر؛ على الاستئناف بدلا من (آمنت) ......
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"تجوزها": أي: تنفدها، يعني: الناقة، "الحبال": جمعُ حبل، وهو مستعار للعهد والأمان، يصف ما قاساه في السفر من خوف الطريق حتى وصل إلى الممدوح، يقول: إذا أدخلها وسط قبيلة أمانها، أخذت تلك القبيلة من القبيلة الأخرى أمانها إليك، وعادة العرب أنهم يستجيرون من قوم إلى قوم ليأمنوا من عادتهم وشرهم.
قوله: (كما جوز السكي في الباب فيتق): أوله:
ولابد من جار يجيز سبيلها
"جوز": أي: نفذ ووسط، و"السكي": المسمار، و"الفيتق": النجار
قوله: (يُقال: تبعته حتى أتبعته): أي: جئت بعده حتى لحقت به.
قوله: (وقرأ الحسن: "وعدوا"): العدو: تجاوز الحد والظلم، عدا عليه عَدْواً وعُدُواً
قوله: (وقرئ: (أنه) بالفتح على حذف الباء): وذلك أن الإيمان يُعدى بالباء، نحو:(يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)[البقرة: 3]، فلما حذف وصل.
كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات، حرصاً على القبول، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته، وقاله حين لم يبق له اختيار قط، وكانت المرّة الواحدة كافية في حال الاختيار، وعند بقاء التكليف.
[(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) 91 - 92].
(آلْآنَ): أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق، وأيست من نفسك. قيل: قال ذلك حين ألجمه الغرق، يعنى: حين أوشك أن يغرق. وقيل: قاله بعد أن غرق في نفسه، والذي يحكى: "أنه حين قال: (آمَنَتْ) أخذ جبريل عليه السلام من حال البحر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات): يريد بالمعنى الواحد: ما لو تلفظ به في حال الاختيار عن صدق منه، لقبل منه، وانخرط في سلك امؤمنين الناجين، هذا على قراءة كسر "إن" في (أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ) الآية؛ صريح.
أما قوله: (آمَنَتْ) فإخبار عن نفسه في الزمان الماضي أنه صدر منه الإيمان المعتبر الذي عليه بنو إسرائيل، لأن الإيمان حينئذ قطع عن متعلقه، فصار كقولهم: فلان يعطي ويمنع، إما باعتبار العموم أو الإطلاق. وأما قوله:(وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ) فهو أبلغ منه؛ لأنه ادعى بالبرهان أنه دخل في زمرة المسلمينن وصار معدوداً فيهم.
قوله: (ألجمه الغرق): في الحديث: "يبلغ العرق منهم ما يلجمهم"، أي: يصل إلى أفواههم، فيصير لهم بمنزلة اللجام يمنعهم عن الكلام.
قوله: (من حال البحر)، النهاية:"الحال: الطين الأسود كالحمأة".
فدسه في فيه"، فللغضب لله على الكافر في وقت قد علم أنّ إيمانه لا ينفعه، وأمّا ما يضم إليه من قولهم: "خشية أن تدركه رحمة الله" فمن زيادات الباهتين لله وملائكته، ........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فدسه)، الأساس:"دس الشيء في التراب، وكل شيء أخفيته تحت شيء فقد دسسته".
قوله: (فمن زيادات الباهتين): يُقال: بهته بهتاً وبهتاناً فهو باهت، أي: افترى عليه ما لم يفعله. الحديث رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لما أغرق الله تعالى فرعون قال: آمنت أنه لا إله إلا آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين. قال جبريل: يا محمد، لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة"، أخرجه الترمذي، وهو أحد أئمة الثقات المقدم بعد مسلم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: العجب أنه كيف نسي كلامه آنفاً: "أن قوله: (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) دعاء"، وخالف أهل التفسير فيه، وأقام له بمعاذير، وحين بلغ إلى الخبر المرفوع بهت وبهت.
وأما الحديث: فقوله: "لو رأيتني" إلى آخره: معناه: لرأيت أمراً عجيباً يبهت الواصف عن كنهه، فإني لما شاهدت تلك الحالة نهضت غضباً لله على عدو الله؛ لادعائه تلك العظيمة، فعمدت إلى حال البحر، فادسه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة لسعتها، مع علمي أن الصد عن رحمة الله غير جابر، الا ترى إلى قوله عليه السلام:"وأنا آخذ من حال البحر"، كيف يصور تلك الحالة في مشاهدته، ويستحضرها، ويستدعي منه العجب على فعله. ونحوه في الشاهد من ينتهز الفرصة على من يغضب ويحنق عليه، فإذا صادفها وفتك به، ربما اختلج في صدره من الفرح أنه بعدُ لم ينل منه، وأن له الخلاص منه.
ونحوه ما روى المصنف: "أن بني إسرائيل كانوا يقولون: إن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق، وأنه ما مات، ولا يموت أبداً بعدما غرق".
على أن ليس للعقل مجال في أمثال هذا النقل الصحيح إلا التسليم ونسبة القصور إلى النفس.
وفيه جهالتان: إحداهما: أنّ الإيمان يصح بالقلب، كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه. والأخرى: أنّ من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر: فهو كافر؛ لأن الرضا بالكفر كفر. (مِنَ الْمُفْسِدِينَ): من الضالين المضلين عن الإيمان،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما قوله: "الرضا بالكفر كفر" فجوابه ما قال أبو منصور الماتريدي في "التأويلات": "الرضا بالكفر ليس بكفر مطلقاً، إنما يكون كذلك إذا رضي بكفر نفسه، لا بكفر غيره".
وقلت: يؤيده ما روينا عن أبي داود النسائيعن سعد بن أبي وقاص قال: "لما كان يوم فتح مكة، أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر - فسماهم- وابن أبي سرح"، وذكر الحديث: وأما ابن أبي سرح، فإنه اختبأ عند عثمان رضي اللهعنه، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة جاء به، حتى وقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثاً، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه، فقال:"أما فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله"، فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسكن ألا أومأت إلينا بعينك، قال:"إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين".
قوله: ((مِنْ الْمُفْسِدِينَ): من الضالين المضلين): فقد سبق أن الكافر إذا وُصف بالإجرام أو الفسق أو الفساد ونحوها كان مبالغة في كفره.
كقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ)[النحل: 98].
وروى: "أنّ جبريل عليه السلام أتاه بفتيا: ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته، فكفر نعمته، وجحد حقه، وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه: يقول أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده، الكافر نعماه: أن يغرق في البحر، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل خطه، فعرفه".
(نُنَجِّيكَ) بالتشديد والتخفيف: نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر. وقيل: نلقيك بنجوة من الأرض. وقرئ "ننحيك"، بالحاء: نلقيك بناحية مما يلي البحر، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر، قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور، (بِبَدَنِكَ) في موضع الحال،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقيل: نلقيك بنجوة من الأرض)، الراغب:"أصل النجاء: الانفصال، ومنه: نجا فلان من فلان، وأنجيته ونجيته، قال تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة: 49]، (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [فصلت: 18]، والنجوة والنجاة: [المكان المرتفع] المنفصل بارتفاعه عما حوله، وقيل: سمي لكونه ناجياً من السيل، ونجيته: تركته بنجوة، وعليه قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ)، ونجوت قشر الشجرة، وجلد الشاة".
قوله: ((ببدنك) في موضع الحال): وهو كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، أي: معها. وفي "الضوء": الفرق بين الباء و"مع": أن و"مع": أن "مع" لإثبات المصاحبة ابتداء، والباء لاستدامتها.
أي: في الحال التي لا روح فيك، وإنما أنت بدن، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير، أو عرياناً لست إلا بدناً من غير لباس. أو بدرعك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الزجاج: (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ): نلقيك عرياناً، وقيل: نلقيك على نجوة من الأرض".
فعلى هذا: كان أصل الكلام: اليوم نطرحك بعد الغرق بجانب البحر، ثم سلك طريق التهكم، وقيل: ننجي بدنك، ثم لمزيد التصوير والتويل أوقع "بدنك" حالاً من الضمير المنصوب.
وقيل: ننجيك مع بدنك، لتصور تلك الهيئة المنكرة في نظر المعتبرين، كما قال:"أي: في الحال التي لا روح فيك"، وإنما أنت بدن، أي: جيفة ملقاة في ساحل البحر، كما يُلقي البحر الجيف ولا يقبله، ثم لإرادة الاستدامة وشدة اللصوق قيل:(نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ)، وكذلك قال:"وإنما أنت بدن"، أي: لست سوى الجيفة شيئا.
ولو جُعلت الباء للآلة، ليكون على وزان قولك: أخذت بيديك، ونظرته بعينيك؛ إيذاناً بحصول هذا المطلوب البعيد التناول، كما قال:"وكان فرعون أعظم شأناً من أن يغرق"، لكان أيضاً وجهاً.
قوله: (أو ببدنك كاملاً سوياً): يعني: لو اقتصر على قوله: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) لاحتمل النقصان من قطع رأٍ أو رجل أو يد، فزيد (بِبَدَنِكَ)؛ لرفع ذلك التوهم، فالحال مؤكدة.
قوله: (أو عُرياناً): فالحال لبيان الهيئة الفظيعة كما سبق، ومن ثم جاء بإداة الحصر:"لست إلا بدناً".
قال عمرو بن معدي كرب:
أَعَاذِلُ صاحبي بَدَنِي وَسَيْفِي
…
َوكُلُّ مُقَلّصٍ سَلِسُ الْقِيَادِ
وكانت له درع من ذهب يعرف بها.
وقرأ أبو حنيفة رحمه الله: "بأبدانك"، وهو على وجهين: إما أن يكون مثل قولهم: "هوى بأجرامه"، يعنى: ببدنك كله وافياً بأجزائه. أو يريد: بدروعك؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أعاذل صاحبي بدني وسيفي) البيت: ويُروى: "شكتي بدني"، والشكة: السلاح.
"أعاذل": أصله: أعاذلة، فرس مقلص- بكسر اللام-: أي: مشرف مشمر طويل القوائم، "سلس القياد": سهل القود.
قوله: (هوى بأجرامه): مأوخذ من قوله:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى
…
بأجرامه من قلة النيق منهوي
"طحت": أي: هلكت، "النيق": أرفع موضع في الجبل.
كأنه كان مظاهراً بينها.
(لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً): لمن وراءك من الناس علامة، وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق. وروى أنهم قالوا:"ما مات فرعون ولا يموت أبداً". وقيل: أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدّقوه، فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه، وكأن مطرحه كان على ممرّ من بني إسرائيل حتى قيل:(لمن خلفك). وقيل: (لِمَنْ خَلْفَكَ): لمن يأتي بعدك من القرون.
ومعنى كونه آية: أن تظهر للناس عبوديته ومهانته، وأنّ ما كان يدّعيه من الربوبية باطل محال، وأنه - مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك - آل أمره إلى ما ترون، لعصيانه ربه عز وجل، فما الظنّ بغيره؟ أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على الله.
وقرئ: (لمن خلقك)، بالقاف؛ أي: لتكون لخالقك آية كسائر آياته.
ويجوز أن يراد: ليكون طرحك على الساحل وحدك، وتمييزك من بين المغرقين - لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا لادعائك العظمة: إنّ مثله لا يغرق ولا يموت -: آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وليعلموا أنَّ ذلك تعمد منه؛ لإماطة الشبهة في أمرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (كان مظاهراً بينها): أي: ليس بعضها فوق بعض، الجوهري:"وظاهر بين ثوبين، أي: طارق بينهما وطابق".
قوله: (وكأن مطرحه كان على ممر بني إسرائيل): أي: على طريقهم الذي كانوا يؤمونه، فهم حينئذ خلفه، وهو قدامهم، لينظروا إليه، ويعتبروا، ويصدقوا قول موسى عليه السلام، ويشكروا نعمة الخلاص وهلاك العدو.
[(وَلَقَدْ بَوَّانا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) 93]
(مُبَوَّأَ صِدْقٍ): منزلا صالحاً مرضيا، وهو مصر والشام، (فَمَا اخْتَلَفُوا) في دينهم، وما تشعبوا فيه شعباً، إلا من بعد ما قرؤُوا التوراة، وكسبوا العلم بدين الحق، ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرّق عنه.
وقيل: هو العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم واختلاف بنى إسرائيل - وهم أهل الكتاب-: اختلافهم في صفته ونعته، وأنه هو أم ليس به. بعدما جاءهم العلم والبيان أنه هو لم يرتابوا فيه، كما قال الله تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة: 146، الأنعام: 20].
[(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) 94 - 95].
فإن قلت: كيف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) مع قوله في الكفرة: (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)[هود: 110، فصلت: 45]؟ قلت: فرق عظيم بين قوله (وإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) بإثبات الشك لهم على سبيل التأكيد والتحقيق، وبين قوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) بمعنى الفرض والتمثيل، كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلا، وخيل لك الشيطان خيالا منه تقديراً (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ).
والمعنى: أن الله عز وجل قدم ذكر بني إسرائيل -وهم قرأة الكتاب-، ووصفهم بأنّ العلم قد جاءهم، لأنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد عليه السلام، ويبالغ في ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فأراد أن يُؤكد علمهم بصحة القرآن، وصحة نبوة محمد صلوات الله عليه): يعني: أن قوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)
فقال: فإن وقع لك شك فرضا وتقديراً، وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق، فسل علماء أهل الكتاب، يعنى: أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك، وقتلها علماً، بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ومساءلتهم، فضلا عن غيرك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معناه: أن الذي قصصنا عليك من أخبار بني إسرائيل، وصحة القرآن، وصحة نبوتك: لا شك عندهم، وأنهم في رسوخ العلم فيه والثبات في اليقين، بحيث إن فُرض لك شك، كما تُفرض المحالات، يصح أن تزيل شكك باستخبارك إياهم، مع إنكارهم نبوتك، "والفضل ما شهدت به الأعداء"، وهو المراد من قوله:"وصف الأحبار بالرسوخ في العلم، لا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشك فيه".
قوله: (أنهم من الإحاطة): "من": يجوز أن تكون اتصالية، كقولك: أنا منك بفرسخين، أي: أنا منك بمسافة فرسخين، فعلى هذا:"مِن" إلى آخره: خبرُ "أنَّ"، ويجوز أن يكون التقدير: أنهم متمكنون من الإحاطة، و"بحيثُ" إلى آخره: حال، كقوله:(وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً)[هود: 72]، في أن الخبر لا يتم إلا بالحال، وأن تكون "مِن": ابتدائية، و"بحيث": خبرُ "أنَّ"، و"مِنَ الإحاطة": حال.
قوله: (وقتلها علماً): يُقال: قتلتُ الشيء خُبراً، قال الله تعالى:(وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً)[النساء: 157]، أي: لم يُحيطوا به علماً، قال الحماسي:
يروعك من سعد بن عمرو جسومها
…
وتزهد فيها حين تقتلها خُبرا
فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله، لا وصف رسول الله بالشك فيه.
ثم قال: (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي: ثبت عندك بالآيات والبراهين القاطعة أنّ ما أتاك هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية، (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ) أي: فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله.
ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والإلهاب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويجوز أن يكون على طريقة التهييج): هو عطف على قوله: "فإن وقع لك شك مثلاً".
الأساس: "ومن المجاز: إذا استقل الرجل غضباًن قيل: هاج فيه"، "ويُقال: ألهبته الأمر: أردتُ بذلك تهييجه".
وفائدة هذا الأسلوب أيضاً راجعةٌ إلى الثبات في اليقين، والبعث على طلب المزيد فيه، كما تقول لمن يجتهد في مزاولة أمر، وأنت تريد مزيد بعثه عليه: أراك توانيت عن هذا الأمر وقعدت عنه؛ تريد تهييجه وتحريضه، وإليه الإشارة بقوله:"ولزيادة التثبيت والعصمة"، هذا هو الوجه، وعليه النظم والتأليف، فإنه تعالى لما قال لحبيبه صلى الله عليه وسلم تهييجاً وإلهاباً: فإن كُنت في شك أن ما أنزلناه إليك حق، وأنك نبي مرسل، فاسأل أهل الكتاب من الذين آمنوا، فإنهم يشهدون بذلك، والله عز وجل بجلالته وعظمته أيضاً يشهد، ويؤكد الشهادة بالقسم.
كقوله: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ)[القصص: 86 - 87]، ولزيادة التثبيت والعصمة، ولذلك قال عليه السلام عند نزوله:"لا أشك ولا أسأل، بل أشهد أنه الحق"، وعن ابن عباس:"لا والله، ما شك طرفة عين، ولا سأل أحداً منهم".
وقيل: خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد خطاب أمته، ومعناه: فإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم، كقوله:(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)[النساء: 174].
وقيل: الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشك، كقول العرب: إذا عز أخوك فهن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونظيره قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)[الرعد: 43].
وقوله: (فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ) تفريع على قوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ)، وقوله:(وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) تفريع على قوله: (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).
قوله: (وعن ابن عباس: لا والله، ما شك طرفة عين، ولا سأل أحداً منهم): فالتعليق بالشرط للفرض، والنهي على التقديرين: إما كناية عن رسوخ أهل الكتاب في معرفة حقية الكتاب والرسول، أو من التهييج والإلهاب، فلا يلزم السؤال. هذا على أن يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (إذا عز أخوك فهُنْ): أي: إذا شكست أخلاقه فحسن خلقك، قال الميداني: "قال أبو عبيد: معناه: مياسرتك صديقك ليست بضيم ركبك منه، فتدخلك الحمية به،
وقيل: "إن" للنفي، أي: فما كنت في شك فسل، يعنى: لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولكن لتزداد يقينا، كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينه إحياء الموتى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنما هو حُسنُ خلقٍ وتفضل، فإذا عاسرك فياسره، وقال المفضل: إن المثل لهذيل بن هبيرة التغلبي، وكان أغار على بني ضبة، فغنم، فأقبل بالغنائم، فقال له أصحابه: اقسمها بيننا، فقال: إن أخاف إن تشاغلتم بالاقتسام أن يُدرككم الطلب، فأبوا، فعندها قال: إذا عز أخوك فهن، فنزل فقسم".
وعلى هذا الخطاب لكل أحد، كقوله صلوات الله عليه:"بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام"، فإنه أمر لكل من تتأتي منه البشارة.
قوله: (لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولن لتزداد يقينا): كما تقول لصاحبك: أنت على يقين من هذه المسألة، فاسأل أهل العلم ليزداد يقينك. الانتصاف:"لو قال هذا المفسر: إن نفي الشك عنه توطئة للسؤال لتقوم حجته على المسؤولين، لا لمزيد يقين، كما في قوله تعالى: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) [الأنعام: 12]، لكان أقوم وأسلم".
وقرئ: "فاسأل الذين يقرؤون الكتب".
[(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) 96 - 97].
(حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ): ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح، وأخبر به الملائكة؛ أنهم يموتون كفاراً، فلا يكون غيره. وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدّر ومراد، تعالى الله عن ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "فسل"): ابن كثير والكسائي.
قوله: (وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر): يعني: هو معلوم الله لا مقدره، وعند أهل السنة: هو معلوم الله ومقدره ومُراده تعالى، فعلمه تعالى يوافق تقديره وإرادته، ولا وتجوز المخالفة.
هذه المسألة تُحرك سلسلة القضاء والقدر، فيجب أن يكشف عن بعض أسرارها نصاً ودراية:
أما النص: فهذه الآية، قال الإمام:"وقد احتج أصحابنا على المطلوب".
وأما الدراية: فما رويناه عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود والترمذي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حاج آدم موسى، قال: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأشقيتهم، قال: قال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فحج آدم موسى".
وعن البخاري ومسلم والترمذي والنسائي في حديث عمر رضي الله عنه، قال:"أخبرني عن الإيمان"، إلى قوله:"قال: تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت".
قال التوربشتي: "أن تؤمن بما أخبر الله تعالى أنه عالم بما هم عاملون له، وحاكم بما هم صائرون إليه، ولا يمكن أن يكون خلاف ما علم وما حكم.
أو يُقال: أن تؤمن بما أخبر الله تعالى عن تقدم علمه تعالى بما يكون من أفعال العباد وأكسابهم، وصدورها عن تقدير منه، وخلقٍ لها، خيرها وشرها". هذا من قول الخطابي، رواه صابح "جامع الأصول".
وقال: "القدر: اسم لما صدر عن فعل القادر، كالهدم والنشر والقبض التي هي أسماء لماي صدر عنفعل الهادم والناشر والقابض، يُقال: قدرت الشيء وقدرت- خفيفة وثقيلة- بمعنى واحد.
والقضاء في هذا: معناها الخلق، كقوله تعالى:(فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ)[فصلت: 12]، أي: خلقهن، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم، ومباشرتهم تلك الأمور، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلحقهم بها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجماع القول في هذا: أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه".
وقال القاضي في "شرح المصابيح": القضاء: هو الإرادة الأزلية والعناية الإلهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر: تعلق تلك الإرادة بالأشياء في أوقاتها.
وقلت: يمكن أن ينزل على هذا المعنى: ما ذكره المصنف في تفسير قوله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ)[الرحمن: 29]: "سأل عبد الله بن طاهر الحسين بن فضل، وقال: أشكلتعلي ثلاث آيات: إحداهن: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ) [الرحمن: 29]، وصح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة؟ وأجاب الحسين: أنها شؤون يبديها، لا شؤون يبتدئها".
وقال العلامة قُطبُ الدين الشيرازي: اعلم أن أفعال العباد تنقسم إلى ما يكون تابعاً لقدرته وإرادته، وإلى ما لا يكون كذلك، مثال الأول: المشي والأكل من الإنسان الصحيح الذي لم يُكره على هذين الفعلين، مثال الثاني: حركة الإنسان إلى أسفل إذا وقع من موضع عالٍ. والقدرة: يُراد بها سلامة آلات الفعل من الأعضاء، ويُراد بها الحالة التي يكون الإنسان عليها وقت صدور الفعل عنهن والأول: يكون قبل الفعل ومعه وبعده، وهي القدرة عند المعتزلة، والثاني: لا يكون إلا مع الفعل، وهي القدرة عند الأشعري، ولا شك أن القدرة بالوجهين لا تكون مقدورة للعبد، بل ربما تكون بعض أسبابها- كالتغذي أو التداوي المقتضين لسلامة الأعضاء - مقدوراً له.
وأما الإرادة فسببها: إما العلمُ بالمصلحة وإما الشهوة وإما الغضب، ولايكون واحدٌ منها
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلا عند الشعور، والشعور أيضاً لا يكون مقدوراً للعبد، وربما يكون بعض أسبابه مقدوراً له، وأما عند حصول القدرة والداعي، فهل يجب الفعل أم لا؟ فالحق أنه يجب، وإلا لزم رجحان أحد طرفي الفعل وتركه بغير مرجح، وهذا الوجوب لا يخرج الفعل عن حد الاختيار، أن يكون الفعل أو الترك بإرادة الفاعل، يختار منهما أيهما أراد، وهاهنا كذلك، لأنه لزم الفعل من القدرة والإرادة.
فمن نظر إلى أسباب القدرة والإرادة، وهما في الأصل من الله تعالى، وعند وجودهما الفعل واجب وعند عدمهما ممتنع، ذهب على أنه جبر محض، وأن أفعال العباد صادرة عنهم على سبيل القهر والإلجاء من غير قدرة واختيار لهم أصلاً. ومن نظر إلى قدرة العبد وإرادته، ذهب إلى أنه قدر محض، وأن أفعالهم صادرة عنهم على سبيل الاستقلال.
وكل واحد منهما أعور بأي عينيه شاء، فإن المذهب الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: هو أنه لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين الأمرين، إذ الاختيار حق، والإسناد إلى فعل الله حق، ولا يتم الفعل بأحدهما دون الآخر.
وما قيل في إثبات الجبر: "إن خلاف ما علم الله وقوعه محال، وهو يوجب الجبر"؛ منقوض إجمالاً: بأنه لو صح هذا لزم الجبر في أفعاله تعالى، لأنه كان في الأزل عالماً بأفعاله فيما لا يزال، وخلافُ ما علم الله وقوعه محال، فما هو جوابكم هناك، فهو الجواب هاهنا، وتفصيلاً: بأن العلم بالشيء ربما لا يكون سبباً لوقوعه، فغن من علم بأن الشمس غداً تطلع، لا يكون علمه سبباً لطلوعها، وإذا لم يكن للعلم أثر في الفعل، فلا يكون الفعل ولا الإيجاب، والله أعلم بالصواب.
[(فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) 98].
(فَلَوْلا كانَتْ): فهلا كانت (قَرْيَةٌ) واحدة من القرى التي أهلكناها، تابت عن الكفر، وأخلصت الإيمان قبل المعاينة وقت بقاء التكليف، ولم تؤخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بمخنقه، (فَنَفَعَها إِيمانُها) بأن يقبله الله منها لوقوعه في وقت الاختيار. وقرأ أبىّ وعبد الله:"فهلا كانت".
(إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) استثناء من القرى، لأنّ المراد أهاليها، وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس لما آمنوا. ويجوز أن يكون متصلا، والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس، وانتصابه على أصل الاستثناء، وقرئ بالرفع على البدل، هكذا روى عن الجرمي والكسائي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأن المراد أهاليها): تعليل لجعل الاستثناء منقطعاً، ونحوه قوله في سورة الجر:"فإن قلت: (إِلاَّ آلَ لُوطٍ) [الحجر: 59] استثناء متصل أو منقطع؟ قلت: لا يخلو من أن يكون استثناء من (قوْمٍ) [الحجر: 58]، فيكون منقطعاً، لأن القوم موصوفون بالإجرام، فكان كاختلاف الجنسين، وان يكون استثناء من ضمير (مُجْرِمِينَ) [الحجر: 58]، فيكون متصلاً، كانه قيل: إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم"، فكذلك هاهنا، فإن أهالي تلك القرى موصوفون بأن يقال في حقهم: هلا كانت قرية من القرى آمنت فنفعها غيمانها، فلا يكونون إذن موصوفين بالإيمان، ثم قيل: لكن قوم يونس آمنوا، فيصح جعله منقطعاً لاختلاف الصفتين، فلو جُعل متصلاً فسد المعنى، لأنه يكون تحضيضاً لأهل القرى على الإيمان النافع، وهو الإيمان في وقت الاختيار، إلا لقوم يونس.
وأما إن قلت: في تحضيضهم على الإيمان النافع معنى نفيه عنهم، كان المعنى: ما كانت قرية آمنت إلا قوم يونس، كان استثناء متصلاً ومعنى صحيحاً، فكان انتصابه على أصل
روي: أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل، فكذبوه، فذهب عنهم مغاضباً، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب، فلبسوا المسوح، وعجوا أربعين ليلة. وقيل: قال لهم يونس: إن أجلكم أربعون ليلة، فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخاناً شديداً، ثم يهبط، حتى يغشى مدينتهم، ويسوّد سطوحهم، فلبسوا المسوح، وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرّقوا بين النساء والصبيان، وبين الدواب وأولادها، فحنّ بعضها على بعض، وعلت الأصوات والعجيج، وأظهروا الإيمان والتوبة، وتضرعوا، فرحمهم الله، وكشف عنهم، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة.
وعن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم، حتى إنّ الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه، فيردّه، وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا: "يا حيّ حين لا حي، ويا حي محيى الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت"، فقالوها، فكشف عنهم.
وعن الفضيل بن عياض: قالوا: "اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله".
[(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) 99].
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مشيئة القسر والإلجاء، (لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاستثناء، وإن كان الأفصح أن يُرفع على البدل، لأنه في كلام غير موجب. نحوه مذكور في آخر سورة هود.
قوله: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ) مشيئة القسر والإلجاء)، الانتصاف: "لما علم أن الآية تقتضي عدم مشيئة الله الإيمان من الجميع، وإنما شاء ممن آمن لا ممن كفر، أوله بمشيئة القسر
على وجه الإحاطة والشمول، (جَمِيعاً) على الإيمان مطبقين عليه، لا يختلفون فيه، ألا ترى إلى قوله:(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) يعنى: إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو لا أنت، وإيلاء الاسم حرف الاستفهام، للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكره؛ من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرّون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والإلجاء، ليتم له". وقال القاضي:"هو دليل على القدرية في أنه تعالى لم يشأ إيمانهم أجمعين، وأن من شاء إيمانه يؤمن لا محالة، والتقييد بمشيئة الإلجاء خلاف الظاهر".
قوله: (للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه): ومذهب المعتزلة: أن الله تعالى قادر على فعل القبائح، لكن الحكمة صارفة عنه، وقد أشار إليه في سورة الأنبياء، في قوله:(لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا)[الأنبياء: 17] ن فدل هذا على أن افكراه ممكن، ودل قوله:(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) على وقوعه قطعاً، لأن إيلاء الضمير حرف الاستفهام يدل على وقوع الفعل وحصوله، لكن الكلام في الفاعل؛ هو هذا المذكور أم غيره؟ قال صاحب "المفتاح":"فلا يجوز بعدما عرفت أن التقديم يستدعي العلم بحال نفس الفعل: أنت ضربت زيداً؟ ".
فقول المصنف بـ"أن الإكراه ممكن مقدور عليه" خلاف مايقتضيه التركيب، فالمعنى: أن الله عز وجل وحده فاعل هذا الإكراه الموجود لا أنت، لأن الإيمان والأعمال الصالحة مشروع على خلاف مقتضى الطبيعة والجبلة الإنسانية، لأنها مائلة على اللذات والشهوات وحُب الرئاسة، ولا يقدر على إيجاد خلاف ما تقتضيه الطبيعة إلا الله عز وجل، ويعضده قوله تعالى:(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي: لا ينبغي ولا يستقيم بالنظر إلى جبلته وخلقته ان يؤمن لأنه مناف له، إلا أن يسهل الله عليه.
[(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) 100].
(وَما كانَ لِنَفْسٍ) يعنى: من النفوس التي علم أنها تؤمن، (إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بتسهيله، وهو منح الألطاف، (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) قابل الإذن بالرجس، وهو الخذلان، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون، وهم المصرون على الكفر، كقوله:(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)[البقرة: 171]، وسمى الخذلان رجسا -وهو العذاب- لأنه سببه. وقرئ:"الرجز"، بالزاي، وقرئ "ونجعل" بالنون.
[(قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) 101].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (قابل الإذن بالرجس، وهو الخذلان، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون): يُريد: أن الآية من باب المقابلة، وذلك أن الإذن لما كان معبراً عن التسهيل، وهو من الله التوفيق ومنح الألطاف، ووقع مقابلاً للرجس، ينبغي أن يفسر "الرجس" الذي يُراد به العذاب بالخذلان؛ لأن الخذلان سبب العاب، وإليه الإشارة بقوله:"وسمي الخذلان رجساً- وهو العذاب- لأنه سببه".
انظر إلى هذا التعسف والانحراف عن محجة الصواب، أين التقابل؟ أم كيف يموه قوله:(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) بهذا التأويل؟ ! وهو مثل قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ)[آل عمران: 145]، وقد قال:"إن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يُقدم عليه إلا بغذن الله تمثيلاً"، وقد سبق بيان المبالغة فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ.
بل الأسلوب من باب اللف والنشر، فقوله:(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ) مفرعٌ على قوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، كما أن قوله:(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) مبني على قوله: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ)، يعني: لما أوجبنا عليهم القول، وقدرنا أنهم من أصحاب النار، فلا يؤمنون ألبتة، ولو جاءتهم كل آية، حتى يصلوا إلى ما قُدر لهم من العذاب الأليم، وكذلك نجعل الرجس - أي: أدناس الشرك والعصيان والعناد- على الذين ختمنا على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم، كقوله تعالى:(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)[البقرة: 171].
المعنى: إذا كان إيمان من في الأرض كلهم معلقاً بمشيئة الله وإرادته، فلا يصح ولا يستقيم أن يؤمن أحد إلا بإذن الله ومشيئته، فلا تقدر أنت أن تكرههم على الإيمان، وإذا سبق التقدير، وحقت كلمة العذاب على الكفرة، وجفت الأقلام، فلابد أن يُجعل الرجس عليهم، والطبع على قلوبهم وعلى سمعهم، حتى لا يعقلوا آيات الله، ولا يلتفتوا إلى إرشادك، ولو جئتهم بكل آية.
تأمل يا أيها الناظر في هذه الآيات، واقطع بأن الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية: تابعة لمشيئة الله وإرادته، جارية بقضائه وقدره، ولا ترى كلاماً أجمع من هذا، ومن حاول تحريفه زل وضل، هيهات! جرى الوادي فطم على القرى، واتسع الخرق على الراقع.
(ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الآيات والعبر، (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ): والرسل المنذرون، أو الإنذارات، (عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ): لا يتوقع إيمانهم، وهم الذين لا يعقلون، وقرئ:"وما يغنى"، بالياء، و"ما" نافية، أو استفهامية.
[(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) 102 - 103].
(أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ): وقائع الله تعالى فيهم، كما يقال: أيام العرب لوقائعها، (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) معطوف على كلام محذوف يدل عليه قوله:(إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ)، كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا، على حكاية الأحوال الماضية، (وَالَّذِينَ آمَنُوا): ومن آمن معهم، كذلك (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين، و (حَقًّا عَلَيْنا) اعتراض، يعنى: حقّ ذلك علينا حقاً. وقرئ: (ننجّ) بالتشديد.
(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) 104].
(يا أَيُّهَا النَّاسُ): يا أهل مكة (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) وصحته وسداده، فهذا ديني فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وقرئ: "نُنَجِّ" بالتشديد): كلهم إلا حفص والكسائي.
قوله: (فهذا ديني، فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم): إشارة إلى أن جواب الشرط- وهو قوله: (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) - لا يستقيم أن يكون جواباً ومسبباً عن قوله: (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي)، إلا بتأويل الإعلام والإسماع، على منوال قوله تعالى:(وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ)[النحل: 53]، قال ابن الحاجب: "إن استقرار النعمة بالمخاطبين
وانظروا فيه بعين الإنصاف، لتعلموا أنه دين لا مدخل فيه للشك، وهو أنى لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون من هو إلهكم وخالقكم، (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) وإنما وصفه بالتوفي، ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقى، فيعبد دون مالا يقدر على شيء.
(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يعنى: أنّ الله أمرني بذلك، بما ركب فيّ من العقل، وبما أوحى إلىّ في كتابه. وقيل: معناه إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه: أثبت عليه أم أتركه وأوافقكم، فلا تحدّثوا أنفسكم بالمحال، ولا تشكوا في أمري، واقطعوا غنى أطماعكم، واعلموا أنى لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا أختار الضلالة على الهدى، كقوله:(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ)[الكافرون: 1 - 2].
(أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) أصله: بأن أكون، فحذف الجار، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس سبباً لكونها من عند الله تعالى، من جهة كونه فرعاً عنه، فالآية جيء بها لإخبار قوم استقرت بهم نعم جهلوا معطيها، فاستقرارها- مجهولة أو مشكوكة- سبب للإخبار بكونها من الله تعالى"، كذا هاهنا؛ كونهم شاكين معرضين عن دين الله: سبب لإقامة دعوته صلوات الله عليه، بإثبات التوحيد، وغسماعه إياهم، ليعرضوه على عقولهم.
قوله: (وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد) إلى آخره: قال صاحب "التقريب": "وفيه نظر؛ لأن تفسيره المطرد بحذف حروف الجارة مع "أن"، يقتضي كونه من المطرد قطعاً، فلعل المراد من قوله: "وهذا الحذف": أن هذا النوع من الحذف، وهو حذف حرف الجر بعد فعل الأمر مثلاً، يحتمل المطرد كما نحن فيه، وغير المطرد كـ "أمرتك الخير"، ونحوه.
الذي هو حذف الحروف الجارّة مع "إن" و"أن"، وأن يكون من الحذف غير المطرد، وهو قوله: أمرتك الخير (فاصدع بما تؤمر)[الحجر: 94].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويمكن أن يُقال: في (أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) حذف، ويحتمل المطرد وغيره، بيانه: أن الحذف المطرد له ركنان: حذف الجار وحده وذكر "أن" بعده، فلو لم يذكر "أن"-كـ"أمرتُك الخير"-، أو ليس المحذوف الجار وحده، بل مع المجرور- نحو:(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)[الحجر: 94]، أي: بصدعه، فحذف الباء ثم الصدع-، فليس بمطرد، فـ (أَنْ أَكُونَ): إما أن يكون مأموراً به، فهو من المُطرد، وإما أن يكون للتعليل - كما ذكره في (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ) [الأنعام: 71]-، والمأمور به محذوف، أي: أمرت بالإيمان لأن أكون مؤمناً، فهو غيرمطرد، إذ حذف الجار والمجرور معاً، نحو:(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)[الحجر: 94] " تم كلامه.
وتحريره: أن قوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) فيه اعتباران، فبالنظر إلى لفة "أنْ" من غير اعتبار كونها واقعة بعد لفظ "الأمر"، مع تقدير حذف الجار، يكون من حذف المطرد. وباعتبار لفظ "الأمر" - فإنه قد يحذف معه الجار، نحو:"أمرتك الخير"، (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) [الحجر: 94]-، من غير نظر إلى لفظ "أنْ"، يكون من الحذف غير المطرد.
وأما قوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ)[الحجر: 94]: فأصله: بماتؤمر به، فحذف حرف الجر وأوصل، فصار: بما تؤمره، ثم حذف الضمير المنصوب.
قوله: (أمرتك الخير): تمامه:
فافعل ما أمرت به
…
فقد تركتك ذا مال وذا نشب
"النشب": المال والعقار.
[(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) 105].
فإن قلت، عطفُ قوله:(وَأَنْ أَقِمْ) على (أَنْ أَكُونَ)[يونس: 104] فيه إشكال، لأنّ "أن" لا تخلو من أن تكون التي للعبارة، أو التي تكون مع الفعل في تأويل المصدر، فلا يصح أن تكون للعبارة، وإن كان الأمر مما يتضمن معنى القول، لأنّ عطفها على الموصولة يأبى ذلك، والقول بكونها موصولة مثل الأولى، لا يساعد عليه لفظ الأمر، وهو (أَقِمْ)، لأنّ الصلة حقها أن تكون جملة تحتمل الصدق والكذب؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (التي للعبارة): أي: المفسرة.
قوله: (لأن عطفها على الموصولة يأبى ذلك): والموصولة لفظة "أن" في قوله: (أَنْ أَكُونَ)[يونس: 104]؛ لأنها متصلة بالفعل مفيدة معها معنى المصدر، والموصولة- كما قيل - على ثلاثة اضرب: ضرب اتفق على اسميته، وهو "الذي" وأخواتهان وضرب اتفق على حرفيته، وهو "أنَّ" و"أنْ" و"كي"، وضرب اختلف فيه، وهو "ما" المصدرية، والألف واللام، فمن أوجب عود الضمي رعليها جعلها اسماً، وإلا فلا.
قوله: (يأبى ذلك): لأن من شرط "أنْ" المفسرة: ان لا يتصل بها شيء منصلة الفعل الذي تفسره، غذ لو اتصل ذلك بها صار في جملة ذلك الفعل، ولم يكن تفسيراً له، قاله في "الإقليد"، فإذا عطفتها على الموصولة اتصلت بها، لأن المطعوف في حكم المعطوف عليه، فيقتضي الاتصال، والذي يدل على أن الأولى موصولة: أنها عملت في (أَكُونَ)، والمفسرة لا تنصب.
قال صاحب "الفرائد": يمكن أن يُقال: (وَأَنْ أَقِمْ) لم يكن عطفاً على (أَكُونَ)، بل المعطوف مقدر، وهو "أوحى إلي" أو "نوديت"، فتكون "أنْ" للعبارة.
وقلت: هذا سائغ من حيث الإعراب، لكن في ذلك العطف فائدة معنوية، وهو أن قوله:(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ) مع التي تليها من الآيات، كالتفسير لقوله:(أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)، على
قلت: قد سوّغ سيبويه أن توصل "أن" بالأمر والنهى، وشبه ذلك بقولهم: أنت الذي تفعل، على الخطاب، لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر. والأمر والنهى دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال.
(وأن أَقِمْ وَجْهَكَ): استقم إليه ولا تلتفت يميناً ولا شمالا. و (حَنِيفاً) حال من "الدين"، أو من "الوجه".
[(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) 106].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسلوب: "أعجبني زيدٌ وكرمه"، داخل معها في حكم المأمور به، فلو قُدر ذلك فات غرض التفسير، وتكون الجملة مستقلة معطوفة على مثلها.
قوله: (أنت الذي تفعل، على الخطاب): والأصل أن يقال: أنت الذي يفعل، على الغيبة؛ نظراً إلى لفظ "الذي"، فلما كان "الذي" وقع خبراً لـ "أنت"، ومعناه معناه، قيل على الخطاب، ووجه الشبه هو أنه لما كان "الذي" يقتضي أن يكون صلتها جملة مشتملة على ضمير راجع إليها، واقتضى أن يكون للغائب، فبالنظر إلى المعنى جاز الخطاب، كذلك جاز أن ينظروا إلى المعنى ويدخلوا "أنْ" المصدرية على الأمر والنهي، لأن الغرض أن يكون ماب عدها في تأويل المصدر، وقد حصل الغرض، سواء كان الفعل إخبارياً أو إنشائياً، بخلافه في الموصول الاسمي، فنه يجب أن تكون صلته جملة خبرية؛ لأن وضعه على جعل الجملة معرفة، ليصح وصف المعرفة بها، ولا تكون الصفة إلا خبرية، وأما الموصول الحرفي فليس كذلك، فصح أن تقع صلته خبرية وطلبية.
(فَإِنْ فَعَلْتَ) معناه: فإن دعوت من دون الله مالا ينفعك ولا يضرّك، فكنى عنه بالفعل إيجازاً (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ):(إذاً) جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدّر، كأنّ سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان. وجعل من الظالمين، لأنه لا ظلم أعظم من الشرك، (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: 13].
[(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) 107 - 108].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فكنى عنه بالفعل إيجازاً): يعني: قد يجاء بلفظ "فعل" بعد تقدم أفعال شتى وكيفيات متعددة، فيعبر به عنها كلها إيجازاً، كما يشار باسم الإشارة إلى كلام طويل اختصاراً، نحوه قوله تعالى:(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا)[البقرة: 24]، أي: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولم تأتوا بشهدائكم من دون الله.
قوله: ((إذاً) جزاء للشرط، وجواب السؤال مقدر): قال ابن الحاجب: "لسنا نعني بالجواب جواب متكلم بالتحقيق، بل قد يكون جواباً لمتكلم، وقد يكون جواباً لتقدير ثبوت أمر، فمثال الأول: يقول الرجل: أنا آتيك، فتقول: إذن أكرمك، فأجبته بهذا الكلام، وصيرت إكرامك جزاء على إتيانه، ومثال الثاني: قولك: لو أكرمتني إذن أكرمك، وأشباهه، في تقدير جواب متكلم سأل: ماذا يكون مرتبطاً بالإكرام؟ فأجابه: بارتباط إكرامه به.
وأما معنى الجزاء فيها فواضح، قال الزجاج تأويلها: إن كان الأمر كما ذكرت فني أكرمك؛ تنبيهاً على أن فيها معنى الجزاء، حتى يصح تقديره مصرحاً به".
أتبع النهي عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر، أنّ الله عز وجل هو الضارّ النافع، الذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلا هو وحده دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به؟ وكذلك إن أرادك بخير لم يردّ أحد ما يريده بك من فضله وإحسانه، فكيف بالأوثان؟ فهو الحقيق إذن بأن توجه إليه العبادة دونها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أتبع النهي عن عبادة الأثان): مفعول "أتبع": أن الله هو الضار النافع"، يريد: أن قوله: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) الآية، متصل بما قبله، معطوف على قوله:(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) الآية: (يونس: 106]، على تأويل الإخباري بالإنشائي، وهما جميعاً متفرعان على قوله: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)[يونس: 105]، أي: كن مائلاً عن سوى دين الله موحداً غير مشرك.
ثم أكد ذلك بأن نهاه بقوله: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ)، وأمره بأن يدعو من يضره وينفعه بقوله:(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ)، أي: وادع من أن يمسسك بضر فلا كاشف له إلا هو، وصور هاهنا حالتي النفع والضر، وخالف بين القرينتين؛ لأن المقام يقتضي الترغيب والتنفير، كقوله تعالى:(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ)[يونس: 105]، فالمناسب ذكر المس مع الضر، والإرادة مع الخير، من غير تأويل، يعني: إذا أوقعك في الضراء لا يكشفها إلا هو، إذ لا ملجأ إلا إليه، فلا تكونن من المشركين، وإذا أراد بك الخير فلا يقدر أحد أن يرد ذلك، فلا مرجو إلا هو، فأقم وجهك لدينه، واعبده مخلصاً، يعني: إذا اراد الله أن يتفضل على احد بمحض فضله، لا يقدر أحد رد فضله، سبحانه وتعالى.
ثم علل ذلك بأنه فعال لما يشاء، وليس لأحد أن يمنعه مما أراد؛ حيث قال:(يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).
وهو أبلغ من قوله: (إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ، أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ)[الزمر: 38].
فان قلت: لم ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً -الإرادة والإصابة- في كل واحد من الضرّ والخير، وأنه لا رادّ لما يريده منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي تخصيص الضر بالمس، والخير بالإرادة: الإشارة إلى أن الإنسان في الضراء أخضع وأخبت، وإلى كشفها أدعى وأميل، وأن المطلوب اللياذ إليه، وأنه في الرخاء إلى مزيد الخير ورجاء الفضل أحرص وأقبل، والمقصود الركون إليه.
أما مقصود المصنف من إيراده: فهو أن الكلام مطلوب فيه التوكيد، فذكر في كل من الفقرتين المتقابلتين ما يدل على إرادة مثله فيما يقابله، وحذف اختصاراً. وهذا ليس بمرضي من مثله؛ لأن فائدة العدول ليس الاختصار ولا التأكيد.
وقال القاضي: "ولعله تعالى ذكر الإرادة في الخير، والمس في الضر، مع تلازم الأمرين، للتنبيه على أن الخير مراد بالذات، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول، ووضع "الفضل" موضع الضمير؛ للدلالة على أنه تعالى متفضل بما يريد بهم من الخير، لا بالاستحقاق عليه، ولم يستثن؛ لأن مراد الله لا يمكن رده".
قوله: (وهو أبلغ من قوله: (إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ)[الزمر: 38]: قال صاحب "التقريب": وهو أبلغ؛ لعموم النفي ولتصريحه هاهنا، وتخصيص النفي بالأصنام والتجوزعن النفي بالاستفهام".
فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ - وهو الإصابة - في أحدهما، والإرادة في الآخر، ليدلّ بما ذكر على ما ترك، على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)، والمراد بالمشيئة: مشيئة المصلحة.
(قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ) فلم يبق لكم عذر، ولا على الله حجة، فمن اختار الهدى وإتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فما ضرّ إلا نفسه، واللام و"على": دلا على معنى النفع والضر، ووكل إليهم الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل، وفيه حث على إيثار الهدى واطراح الضلال مع ذلك.
(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ): بحفيظ موكول إلىّ أمركم وحملكم على ما أريد، إنما أنا بشير ونذير.
[(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) 109].
(وَاصْبِرْ) على دعوتهم واحتمال أذاهم وإعراضهم، (حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ) لك بالنصر عليهم والغلبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلت: أما التجوز عن النفي بالاستفهام: فهو أبلغ لما فيه من إعطائه معنى النفي مع الاستبعاد من أن تكون ممسكات ألبتة، لكن المبالغة هاهنا لإفادة الحصر الحقيقي بـ"لا" و"إلا"، وبالجهات التي أوردناها.
قوله: (والمراد بالمشيئة: مشيئة المصلحة): قيدها نظراً إلى معتقده، وإلا فهو سبحانه وتعالى فاعل لما يشاء.
قوله: (مع ذلك): المشار إليه: قوله: "وكل إليهم" إلى آخره، أي: سيقت الآية لبيان توكيل الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل، وأدمج فيه معنى حب إيثار الهدى واطراح الضلال.
وروي أنها لما نزلت جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، فقال "إنكم ستجدون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني"، يعنى: أنى أُمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامتني الكفرة، فصبرت، فاصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة، قال أنس: فلم نصبر.
وروى: أنّ أبا قتادة تخلف عن تلقى معاوية حين قدم المدينة، وقد تلقته الأنصار، ثم دخل عليه من بعد، فقال له: مالك لم تتلقنا؟ قال: لم تكن عندنا دواب. قال: فأين النواضح؟ قال: قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" يا معشر الأنصار، إنكم ستلقون بعدي أثره". قال معاوية: فماذا قال؟ قال: قال "فاصبروا حتى تلقوني" قال: فاصبر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ستجدون بعدي أثرة) الحديث: من رواية البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للأنصار: "إنكم ستلقون بعدي أثرة"، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض". رواه أحمد بن حنبل.
وروى البخاري عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني، وموعدكم على الحوض".
النهاية: "الأثرة- بفتح الهمزة والثاء-: الاسم من: آثر يؤثر إيثاراً: إذا أعطى، أراد أنه يستأثر عليكم، فيفضل غيركم في نصيبه من الفيء". وفي غيرها: أثرة: بضم الهمزة وإسكان الثاء وبفتحها، وبكسر الهمزة وسكون الثاء، قال الأزهري: هو الاستئثار، أي: يستأثر عليكم بأمور الدنيا، ويفضل غيركم عليكم، ولا يجعل لكم في الأمر من نصيب.
قوله: (فأين النواضح؟ ): وهي الإبل التي تسقي الزروع.
قال: إذن نصبر. فقال عبد الرحمن بن حسان:
أَلَا أبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ
…
أمِيرَ الظّالِمِينَ نَثَا كَلَامِي
بِأَنّا صَابِرُونَ فَمُنْظِرُوكُمْ
…
إلَى يَوْمِ التَّغَابُنِ وَالْخِصَامِ
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورة يونس أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به، وبعدد من غرق مع فرعون".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النهاية: "منه حديث معاوية للأنصار، رضوان الله عليهم، وقد قعدوا عن تلقيه لما حج: "ما فعلت نواضحكم؟ "، كأنه يقرعهم بذلك، لأنهم كانوا أهل حرث وزروع وسقي".
وقيل: فقابله أبو طلحة بقوله: "قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر"، تعريضاً بأنا ظفرنا على أسلافكم، إذ قابلناهم عليها، أشار إلى أنها كانت نجائب.
قوله: (نثا كلامي): النثا - بالنون: خبر، مشهور.
النهاية: "النثا في الكلام: يطلق على القبيح والحسن".