المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ترجمةٌ مُوجَزةٌ للمؤلِّف (1) ‌ ‌اسمُه: محمَّدُ بنُ صالحِ بنِ عبد الله - التحفة المكية في توضيح أهم القواعد الفقهية

[محمد بن صالح الشاوي]

فهرس الكتاب

‌ترجمةٌ مُوجَزةٌ للمؤلِّف

(1)

‌اسمُه:

محمَّدُ بنُ صالحِ بنِ عبد الله بنِ محمَّدِ بنِ عبد الله بنِ سُلَيمانَ بنِ محمَّدِ بنِ غانِمٍ الشاويُّ البَقْميُّ الأَزْديُّ.

‌مولدُه:

وُلِدَ المؤلِّفُ في البُكَيْريَّةِ، بتاريخ:(23/ 9/ 1350 هـ)، الموافقِ:(31/ 1/ 1932 م).

‌نشأتُه:

نشأ المؤلِّفُ في البُكَيْريَّةِ بين أبوَيْنِ محافِظَيْنِ ومتديِّنَيْن؛ فقد كان والده فضيلةُ الشيخِ صالحِ بنِ عبد الله الشاويِّ رحمه الله عالمًا مِنْ علماء البُكَيْرِيَّة، وكان مِنْ المُوسِرينَ، ولله الحمدُ والمِنَّة؛ ولذلك اعتذَرَ لمَّا كُلِّفَ بالقضاءِ مرَّتَيْن

(2)

؛ لأنَّ القضاءَ سوف يَشغَلُهُ عن الاستمرارِ في تحصيلِ العلم، وإلقاءِ الدروس، وعن أعمالِهِ التجاريَّة.

حَفِظَ المؤلِّفُ القرآنَ منذ نعومةِ أَظْفاره؛ حيثُ بدأ بالحفظِ على يد الشيخ عبد الله بن محمد الخُلَيفي رحمه الله، قبل أن يكونَ إمامًا للحرَمِ المكي، ثم أكمَلَ حِفْظَهُ على الشيخِ المقرئِ عبد الرحمن بن سالم الكريديس رحمه الله في مسجد تُرْكي

(3)

.

‌طلبُهُ للعلم:

وبعد أن حَفِظَ القرآنَ بدأ مسيرتَهُ في طلَبِ العلم؛ حيثُ اهتَمَّ به

(1)

هذه ترجمةٌ مختصَرةٌ كتَبْتُها عن الوالدِ حفظه الله، وهناك ترجمةٌ موسَّعةٌ جمَعْتُها مِنْ ذِكْرياتِهِ، ومِن الوثائقِ والمراسَلاتِ الموجودةِ لدَيْنا، ولعلَّ اللهَ أن ييسِّرَ لي طبعَها.

(2)

حيثُ عيَّنه المَلِكُ عبد العزيز رحمه الله قاضيًا في القَصِيمِ، فامتنَعَ واستشفَعَ بالمشايخ، فسمَحَ له، ثم لمَّا تولَّى الملك سعود رحمه الله، عيَّنه قاضيًا في الجنوب، فأرسَلَ للمَلِكِ برقيَّةً قال فيها:(إنه بلَغَ سنَّ التقاعُد، وإنَّ ظروفَهُ الصحِّيَّةَ لا تَسمَحُ له)، فأُعفِيَ؛ رحمه الله رحمةً واسعة، وأسكَنَهُ فسيحَ جناته.

(3)

هكذا يُسمَّى؛ نسبةً إلى مؤسِّسهِ تُرْكي بن منصور التركي رحمه الله. ينظر: مساجد البُكَيْريَّة (ص 61).

ص: 5

والدُهُ، وأحضَرَهُ إلى مجالسِ العلماء؛ ليتعلَّمَ ويستفيدَ منهم، وكان أوَّلُ ذلك عندما بلَغَ التاسعةَ من عُمُره؛ حيثُ كان يجلسُ مع طلبةِ العلمِ الذين يدرُسُونَ عند والدِهِ فضيلةِ الشيخ صالح بن عبد الله الشاوي رحمه الله؛ في كُتُبِ شيخِ الإسلام ابن تيميَّة، وكتبِ ابن القيِّم، وكتبِ التفسير، وكتبِ السِّيرةِ النبويَّة؛ ولهذا يُعتبَرُ والدُهُ هو شيخَهُ الأوَّلَ الذي تعلَّم عليه بعضَ العلوم الشرعية.

ولما بلَغَ الحاديةَ عَشْرةَ مِنْ عُمُرِه، رَغِبَ إليه والدُهُ أن ينضمَّ إلى الحَلْقةِ في المسجد الجامع الكبير في البُكَيْريَّة؛ ليدرُسَ على الشيخ محمَّد بن عبد الله السُّبَيِّلِ إمامِ الحرَمِ المكي، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله السُّبَيِّل

(1)

، والشيخِ العلَّامة محمَّد بن مُقبِلِ المُقبِل، وغيرهم مِنْ علماء ذلك الزمان رحمهم الله.

وفي السنةِ الثالثةَ عَشْرةَ مِنْ عُمُرِهِ، سافر إلى الرياض، وانضمَّ مع طلبةِ العلمِ في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وأخيه الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم، وغيرِهم من العلماء آنَذَاك رحمهم الله.

ولما قَدِمَ عبد الله ابنُ العمِّ الشيخِ محمَّد بن عثمان الشاوي رحمه الله مِنْ الطائف، أقنَعَهُ بالالتحاقِ بدارِ التوحيدِ في الطائف؛ فالتحَقَ ودرَسَ بها، وبعد أن أخَذَ شهادةَ المتوسِّطةِ مِنْ دار التوحيد، عاد إلى الرياض، وأكمَلَ الثانويةَ في المعهدِ العلميِّ بالرياض.

وفي عام (1372 هـ) التحَقَ بكلية الشريعة، والتي كانت تسمَّى آنَذَاكَ:«دارَ العُلُومِ الشرعيَّة» ، واستمرَّ فيها حتى تخرُّجه عام (1376 هـ)، وكان مِنْ ضمن أوَّلِ دُفْعةٍ تخرَّجت في الكلية، وكان مِنْ مشايخِهِ وأساتذتِهِ الذين درَسَ عليهم في

(1)

وهو شقيقُ الشيخِ محمَّد بن عبد الله السُّبَيِّل إمامِ الحرَم المكي رحمه الله.

ص: 6

الكلية: الشيخُ محمَّد الأمين الشِّنْقِيطي، مؤلِّفُ تفسيرِ (أضواء البيان)، والشيخُ عبد العزيز بن باز، والشيخُ عبد الرزَّاق عفيفي، وغيرهم من أهل العلم آنذاك رحمهم الله.

‌أعمالُه:

وبعد تخرُّجه في كلية الشريعة عام 1376 هـ، تمَّ تعيينُهُ قاضيًا في المنطقة الشرقية في بَلْدةِ النُّعَيْريَّةِ بتاريخ:(15/ 2/ 1377 هـ)، وقام بتأسيسِ المحكمةِ الشرعيَّةِ فيها، وعُيِّنَ رئيسًا لها، واستمَرَّ عمَلُهُ في مَجَالِ القضاء حتى تاريخ:(16/ 8/ 1379 هـ).

وفي أثناء وجوده في النُّعَيْريَّةِ قاضيًا تولَّى إمامةَ جامع النُّعَيرِيَّة، وتولَّى الخَطَابةَ يوم الجمعةِ، وفي الأعياد والمناسَبات.

ومن المهامِّ التي تولَّاها أثناءَ عمله قاضيًا في النُّعَيْريَّة: تأسيسُ هيئاتِ الأمرِ بالمعروف، والنهيِ عن المنكَرِ فيها، ثم عُيِّنَ رئيسًا لها، وتولَّى أعمال الحِسْبةِ فيها لفترةٍ وجيزة، حتى تمَّ تعيينُ رئيسٍ مستقِلٍّ لها.

وبعد عامَيْنِ تقريبًا من عملِهِ في مجالِ القضاءِ: طلَبَ منه سماحة الشيخ محمدُ بنُ إبراهيم رحمه الله الانتقالَ إلى الرياض؛ لتأسيسِ وافتتاحِ كتابةِ العَدْل، والقيامِ بعملِ اللازمِ لها؛ حيثُ لم يكن هناك كتابةُ عَدْلٍ رسميَّةٌ بهذا الاسمِ قبل ذلك في منطقةِ الرياضِ والقَصِيم.

وبعد الانتهاءِ مِنْ عمليَّةِ تأسيسِ وافتتاحِ كتابةِ العَدْلِ: عُيِّنَ رئيسًا لها؛ فكان أوَّلَ رئيسٍ لكتابةِ العَدْلِ بالرياض، وقد رتَّب فضيلتُهُ ما يَلزَمُ لها مِنْ الأنظِمةِ والقوانينِ والموظَّفينَ، وباشَرَ العمَلَ فيها بتاريخ:(18/ 8/ 1379 هـ).

وخلالَ فَتْرةِ عملِهِ رئيسًا لكتابة العَدْلِ: كُلِّفَ بالعمَلِ عضوًا قضائيًّا احتياطيًّا بهيئةِ المنازَعاتِ التجاريَّةِ في الفترةِ المسائيَّةِ في حالةِ تغيُّبِ أحدِ أعضاء الهيئة،

ص: 7

وذلك بتاريخ: (28/ 5/ 1389 هـ)، ثم صار بعد ذلك عضوًا رسميًّا، بعد أن طلَبَ أحدُ الأعضاءِ مِنْ الشيخِ محمَّد بن جُبَير رحمه الله إعفاءَهُ مِنْ الهيئة، للتفرُّغِ إلى عملِهِ الرسمي.

ومِن الأعمالِ التي تولَّاها: قيامُهُ بعقودِ الأَنكِحةِ بين الناس؛ حيثُ عَمِل مأذونًا للأنكحة، وقد تم تعيينُهُ في هذا العمل بتاريخ:(5/ 4/ 1392 هـ)، بجانبِ عملِهِ في كتابةِ العَدْلِ بالرياض.

ومِن الأعمالِ التي تولَّاها أيضًا: تعيينُهُ عضوًا مؤسِّسًا في مؤسَّسةِ الجزيرةِ للصِّحَافةِ والطِّبَاعةِ والنَّشْر، ثم انتُخِبَ أيضًا مِنْ قِبَلِ زملائِهِ وعُيِّنَ عضوًا إداريًّا بتاريخ:(1/ 8/ 1398 هـ).

كلُّ ذلك بجانبِ عمَلِهِ في كتابة العَدْل.

ومِن الأعمالِ أيضًا: تعيينُهُ مستشارًا لمعالي وزيرِ العَدْلِ آنذاكَ الشيخ إبراهيم بن محمَّد بن إبراهيم آل الشيخ، بتاريخ:(15/ 3/ 1398 هـ)، وبعد فترةٍ وجيزةٍ مِنْ عمَلِهِ مستشارًا طلَبَ الإعفاءَ والتقاعُدَ المبكِّر، فتحقَّق له ما يريد؛ وذلك بتاريخ:(9/ 2/ 1399 هـ)؛ لأنه كان يريدُ إراحةَ نفسِهِ مِنْ الأعمالِ الرسميَّة، والتفرُّغَ لكتابةِ البحوث، والعبادةِ، وغير ذلك.

بعد التقاعُد: وبعد التقاعُدِ قرَّر الانتقالَ إلى مكَّةَ المكرَّمةَ حرَسَها الله، وسكَنَ بجوارِ الحرَمِ المكي، وكان يصلِّي فيه الصلواتِ الخمسَ، ويحضُرُ الدروسَ والمحاضَرات، وقد ساعَدَهُ ذلك على استعادةِ حِفْظِهِ لكتاب الله.

ولقد رأيتُ مِنْ الوالدِ حفظه الله أثناءَ إقامتِهِ في مكَّةَ عنايةً بكتاب الله؛ تلاوةً وحفظًا، وفهمًا وتدبُّرًا؛ حتى إنه ترَكَ لأبنائِهِ جميعَ أعمالِهِ وتجاراتِه، منذ رُبُعِ قَرْنٍ تقريبًا، وسكَنَ بجوارِ الحرَمِ المكي، حتى لا يَشغَلَهُ شيءٌ عن القرآنِ

ص: 8

ومدارَسَتِه، وكان ولا يزال: يَختِمُ القرآنَ في كلِّ يومٍ مَرَّةً؛ لا يَثْنِيهِ عن ذلك إلا الضرورةُ القاهرة؛ هذا بخلافِ عباداتِهِ الأخرى مِنْ الصلاةِ والقيامِ والطواف، وحضورِ دروسِ الحرَمِ المكي.

‌مؤلَّفاتُه:

لم يَشغَلِ الوالدُ نَفْسَهُ كثيرًا بالتأليف؛ لأنه كان مشغولًا في أوَّلِ حياتِهِ بالوظائفِ الحكوميَّةِ والخَطَابةِ وغيرِها مِنْ الأعمال، وبعد التقاعُدِ شُغِلَ كثيرًا بمجالِ الأعمالِ الحُرَّةِ والتجارةِ، مع الاهتمامِ بالعبادةِ، وغيرِها، ومع ذلك: لم يَغْفُلْ عن تدوينِ بعضِ البحوثِ والكتاباتِ المفيدةِ، والتي جمَعْناها في المؤلَّفات التالية:

1 -

النَّفَحَاتُ المَكِّيَّةِ فِي تَفْسِيرِ كِتَابِ رَبِّ البَرِيَّةِ.

2 -

دُرُوسٌ وقَبَساتٌ مِنْ الحرَمِ - فوائِدُ ووقَفَاتٌ مُنْتقاةٌ مِنْ دُرُوسِ الحرَمِ المكِّيِّ وغَيْرِهِ.

3 -

نَفَحَاتٌ قرآنيَّة - تَعْلِيقٌ عَلَى بَعْضِ الآيَاتِ القُرآنيَّةِ.

4 -

التُّحْفَةُ المَكِّيَّةُ فِي تَوْضِيحِ أَهَمِّ القَوَاعِدِ الفِقْهِيَّةِ.

5 -

الَّلآلِئُ المَكِّيَّةُ مِنْ كَلَامِ خَيْرِ البَرِيَّةِ - شَرْحِ سَبْعُونَ حَدِيثًا نَبَوِيًّا صَحِيحًا.

6 -

تَرَاجِمُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الشَّاوِيِّ.

7 -

خُطْبةُ المِنْبَر.

8 -

رسالتانِ في القَدَرِ والرِّبا، ومقالاتٌ متنوِّعة.

9 -

القَضَاءُ وَالقَدَرُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ.

10 -

الرَّدُّ الوَارِف عَلَى مَنْ أَبَاحَ رِبَا المَصَارِف.

ص: 9

11 -

قُطُوفٌ دَانِيَةٌ - مَقَالَاتٌ وَمَوْضُوعَاتٌ مُتَنَوِّعَةٌ.

12 -

حِكَمٌ مُخْتَارَاتٌ مِنْ عُيُونِ الشِّعْرِ وَالأَدَبِ.

13 -

أَيَّامٌ مِنْ حَيَاةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ الشَّاوِيِّ - جَمَعَهُ وَرَتَّبَهُ ابْنُهُ صَالِحُ الشَّاوِي.

هذا؛ ونَسْألُ اللهَ أن يَجعَلَ هذه الأعمالَ خالصةً لوجهِهِ الكريم، وأن يَحفَظَ الوالد، ويُديمَ عليه الصِّحَّةَ والعافية.

ص: 10

‌المقدمة

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين، وقائد الغر المحجَّلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.

أما بعد:

تعتبر القواعد الفقهية من العلوم المساعدة للفقيه في معرفة ما تشابه من المسائل والأحكام الفقهية، وربط ذلك بقواعد كلية تجمع شتاتها وتنظم منثورها.

وهذا العلم من العلوم النافعة التي أبدعها الفقهاء لضبط الأحكام الفقهية غير المتناهية، بتأليف قواعد مختصرة تشتمل على فروع كثيرة، فتسهل على الفقهاء ضبط الفروع المتزاحمة، واستنباط أحكام النوازل.

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في مقدمة كتابه: تقرير القواعد وتحرير الفوائد

(1)

: (فهذه قواعد مهمة، وفوائد جمة، تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه من مآخذ الفقه على ما كان عنه قد تغيب، وتنظم له منثور المسائل في سلك واحد، وتقيد له الشوارد، وتقرب عليه كل متباعد).

ولا يغني هذا العلم عن دراسة الفقه، وإنما غايته زيادة الملكة الفقهية لدى الفقيه بمعرفة الأشباه والنظائر لكل مسألة فقهية، ونظم ذلك في قواعد كلية منضبطة، فيعظم بذلك تصور الفقيه لمسائل الفقه، وهذا بلا شك يسهل حفظ الفروع ويغني العالم بالضوابط عن حفظ أكثر الجزئيات، ويساعد الفقيه على

(1)

ينظر: قواعد ابن رجب (ص 3).

ص: 11

فهم مناهج الفتوى ويطلعه على حقائق الفقه ومآخذه، ويمكنه من تخريج الفروع بطريقةٍ سليمة منهجية، ويجنبه التناقض الذي قد يترتب على التخريج اعتمادًا على المسائل الجزئية.

فالشريعة تسوي بين المتماثلين في الأحكام الشرعية، وتلحق الشيء بنظيره، كما قال ابن القيم رحمه الله

(1)

: (وأما أحكامه الأمرية الشرعية فكلُّها هكذا، تجدها مشتملة على التسوية بين المتماثلين، وإلحاق النظير بنظيره، واعتبار الشيء بمثله، والتفريق بين المختلفين، وعدم تسوية أحدهما بالآخر.

وشريعته سبحانه منزهة أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه، ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو مثلها أو أزيد منها، فمن جوَّز ذلك على الشريعة فما عرفها حق معرفتها؛ ولا قدَّرها حق قدرِها، وكيف يُظن بالشريعة أنها تبيح شيئًا لحاجة المكلف إليه ومصلحته، ثم تحرم ما هو أحوج إليه والمصلحة في إباحته أظهر، وهذا من أمحل المحال.

وقد فطر الله سبحانه عباده على أن حكمَ النظير حكمُ نظيره، وحكمَ الشيء حكمُ مثله، وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين، وعلى إنكار الجمع بين المختلفين، والعقل والميزان الذي أنزله الله سبحانه شرعًا وقدرًا يأبى ذلك).

والقواعد الفقهية هي التي تجمع بين المتماثلات، بحيث يستطيع الفقيه معرفة حكم الشيء من خلال أشباهه ونظائره من المسائل، وإن خفي عليه دليل الحكم الخاص في هذا الشيء بعينه، ولا يكون ذلك إلا للفقهاء الكبار الذين عرفوا مقاصد الشريعة، وتناسق أحكامها، وزادت ملكتهم الفقهية من خلال

(1)

(ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (1/ 149).

ص: 12

كثرة المطالعة في الفقه وأصوله، ومعرفة الأدلة من الكتاب والسنة، ومزاحمة العلماء بالركب.

وهذا الكتاب محاولة متواضعة لتقريب أهم القواعد الفقهية للمبتدئين، مع ذكر شيء من المسائل الفرعية التي تنتظمها كل قاعدة.

أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله خالصًا لوجهه، وأن يكتب لنا وكل من سعى في إخراجه الأجر والمثوبة، إنه خير مسؤول.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

قاله وكتبه

محمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عبد اللهِ الشَّاوِي

الخميس: 01/ 03/ 1443 هـ - الموافق: 07/ 10/ 2021 م

ص: 13

‌مقدمات بين يدي القواعد

‌أولاً: تعريف القواعد الفقهية:

القواعد: جمع: قاعدة.

والقاعدة لغة: الأساس، ومنه قواعد البناء وأساسه، قال الله تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]

(1)

.

والقاعدة في الاصطلاح: هي الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته، وهي قضية كلية يدخل تحتها جزئيات كثيرة، وتحيط بالفروع والمسائل من الأبواب المتفرقة، وهي الأساس والأصل لما فوقها

(2)

.

والفقهية: نسبة إلى الفقه.

والفقه لغة: فهم الشيء والعلم به

(3)

.

والفقه في الاصطلاح: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية

(4)

.

(1)

ينظر: مقاييس اللغة، الرازي (5/ 108)، والصحاح، الفارابي (2/ 525)، والقاموس المحيط، الفيروزآبادي (ص 311)، ولسان العرب، ابن منظور (3/ 357)، ومختار الصحاح، الرازي (ص 257)، مادة:(قعد).

(2)

ينظر: التعريفات، الجرجاني (ص 149)، والكليات، الكفوي (ص 702)،

(3)

ينظر: مقاييس اللغة، الرازي (4/ 442)، والصحاح، الفارابي (6/ 2243)، والقاموس المحيط، الفيروزآبادي (ص 1250)، مادة:(فقه)، وينظر: القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، العبد اللطيف (1/ 33 - 40).

(4)

ينظر: التعريفات، الجرجاني (ص 168)، والكليات، الكفوي (ص 690)،

ص: 15

والقاعدة إما أن تطبق على جميع الفروع التي تدخل تحتها، كما سبق في التعريف، وإما أن تشمل غالبَ الجزئيات أو أكثرها، ويخرج عنها بعض الفروع والجزئيات التي تعتبر استثناءات، وقد تطبق عليها قاعدة أخرى، ولذلك عرفها الحموي في حاشيته على الأشباه والنظائر بأنَّها:(حكم أغلبي ينطبق على معظم جزئياته)

(1)

.

ومن اختار هذا التعريف اعترض على التعريف الأول من جهتين:

الأولى: أن القاعدة الفقهية أغلبية وليست كلية، لأن القاعدة الفقهية كثيرًا ما يندُّ عنها بعض فروعها وتستثنى منها.

والثانية: أن هذه التعريفات ليست فيها ما يحدد نوع الجزئيات الداخلة تحتها، فهي تعريفات للقاعدة عمومًا لا للقاعدة الفقهية خاصة

(2)

.

ومن اختار التعريف الأول الذي يفيد انطباقَ القاعدةِ على جميع الجزئيات، رأى أن الأصل فيها أن تكون كذلك، وأن خروج بعض الفروع عنها لا يضرُّ ولا يؤثر، وتكون استثناء من القاعدة، لأن كل قاعدة أو مبدأ أو أصل له استثناء، وهذا الاستثناء لا يغير من حقيقة الأصل أو المبدأ

(3)

.

‌ثانيًا: الفرق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية:

سبق أن ذكرنا تعريف القاعدة الفقهية، وأنها: الأمر الكلي أو الأغلبي الذي ينطبق على جميع جزئياته أو معظمها.

(1)

ينظر: مجموعة الفوائد البهية، القحطاني (ص 19)، وشرح القواعد السعدية، الزامل (ص 8).

(2)

ينظر: القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، العبد اللطيف (1/ 37).

(3)

ينظر: القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب، الزحيلي (1/ 22).

ص: 16

أما القاعدة الأصولية: فهي قضية أصولية كلية يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.

وقد فرق الإمام القرافي بين هذين العلمين، فقال

(1)

: (فإن الشريعة المعظمة المحمدية -زاد الله تعالى منارها شرفًا وعلوًّا- اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:

أحدهما: المسمى بأصول الفقه، وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة، وخبر الواحد وصفات المجتهدين.

والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد، مشتملة على أسرار الشرع وحكمه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه. وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال، فبقي تفصيله لم يتحصل).

وقد لخص بعض الباحثين الفرق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية، في النقاط التالية

(2)

:

1 -

أن قواعد الأصول: إنما تتعلق بالألفاظ ودلالاتها على الأحكام في غالب أحوالها.

(1)

ينظر: الفروق، القرافي (1/ 2).

(2)

ينظر: الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، البورنو (ص 20).

ص: 17

وأما قواعد الفقه: فتتعلق بالأحكام ذاتها.

2 -

أن قواعد الأصول: إنما وضعت لتضبط للمجتهد طرق الاستنباط واستدلاله، وترسم للفقيه مناهج البحث والنظر في استخراج الأحكام الكلية من الأدلة الإجمالية.

وأما قواعد الفقه: فإنما تراد لتربط المسائل المختلفة الأبواب برباط متحد وحكم واحد، هو الحكم الذي سيقت القاعدة لأجله.

3 -

إن قواعد الأصول: إنما تبنى عليها الأحكام الإجمالية، وعن طريقها يستنبط الفقيه أحكام المسائل الجزئية من الأدلة التفصيلية.

وأما قواعد الفقه: فإنما تعلل بها أحكام الحوادث المتشابهة وقد تكون أصلًا لها.

4 -

إن قواعد الأصول: محصورة في أبواب الأصول ومواضعه ومسائله.

وأما قواعد الفقه: العام والفتوى عند جميع المذاهب ولم تجمع للآن في إطار واحد.

5 -

إن قواعد الأصول: إذا اتفق على مضمونها لا يستثنى منها شيء؛ فهي قواعد كلية مطردة كقواعد العربية بلا خلاف.

وأما قواعد الفقه: فهي مع الاتفاق على مضمون كثير منها يستثنى من كل منها مسائل تخالف حكم القاعدة بسبب من الأسباب؛ كالاستثناء بالنص أو الإجماع أو الضرورة أو غير ذلك من أسباب الاستثناء، ولذلك يطلق عليها كثيرون بأنها قواعد أغلبية أكثرية لا كلية مطردة.

6 -

ومع وضوح الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية فقد نجد

ص: 18

قواعد مشتركة بين العلمين، ولكن تختلف فيهما زاوية النظر، حيث إن القاعدة الأصولية ينظر إليها من حيث كونها دليلًا إجماليًّا يستنبط منه حكم كلي، والقاعدة الفقهية ينظر إليها من حيث كونها حكمًا جزئيًّا لفعل من أفعال المكلفين.

فمثلًا قاعدة: (الاجتهاد لا ينقض بمثله أو بالاجتهاد):

ينظر إليها الأصولي من حيث كونها دليلًا يعتمد عليه في بيان عدم جواز نقض أحكام القضاة وفتاوى المفتين إذا تعلقت بها الأحكام على سبيل العموم والإجمال.

وينظر إليها الفقيه من حيث تعليل فعل من أفعال المكلفين، فيبين حكمه من خلالها.

فإذا حكم حاكم أو قاض بنقض حكمٍ في مسألة مجتهَدٍ فيها؛ كالخلع هل هو فسخٌ للعقد أو طلاق، وقد كان حكم حاكم في مسألة بعينها بأن الخلع فسخ، وأجاز العقد على امرأة خالعها زوجها ثلاث مرات أو بعد طلقتين، ثم جاء حاكم آخر فأراد التفريق بين الزوجين؛ لأنه يرى أن الخلع طلاق فيقال له: لا يجوز ذلك؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله.

ولكن لك في مسألة أخرى متشابهة أن تحكم فيها باجتهادك لا أن تنقض حكمك أو حكم غيرك في مسألة اجتهادية لا نصية.

(فالقواعد الفقهية تشبه أصول الفقه من ناحية، وتخالفها من ناحية أخرى.

أما جهة المتشابه: فهي أن كلًّا منهما قواعد تندرج تحتها جزئيات.

وأما جهة الاختلاف: فهي أن قواعد الأصول عبارة عن المسائل التي تشملها أنواع من الأدلة التفصيلة، يمكن استنباط التشريع منها.

ص: 19

وأما قواعد الفقه: فهي عبارة عن المسائل التي تندرج تحتها أحكام الفقه نفسه، ليصل المجتهد إليها بناء على تلك القضايا المبينة في أصول الفقه، ثم إن الفقيه إن أوردها أحكامًا جزئية فليست قواعد، وإن ذكرها في صور قضايا كلية تندرج تحتها الأحكام الجزئية فهي القواعد.

وكل منهما -القواعد الكلية والأحكام الجزئية- داخل في مدلول الفقه على وجه الحقيقة، وكل منهما متوقف عند المجتهد على دراسة الأصول التي يبني عليها كل ذلك)

(1)

.

‌ثالثا: أهمية القواعد الفقهية:

قال الإمام القرافي رحمه الله

(2)

: (وهذه القواعد مهمة في الفقه، عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه، ويشرف ويظهر رونق الفقه ويعرف، وتتضح مناهج الفتاوى وتكشف، فيها تنافس العلماء وتفاضل الفضلاء، وبرز القَارحُ على الجَذَعِ

(3)

، وحاز قصب السبق من فيها برع.

ومن جعل يُخَرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها.

(1)

ينظر: المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية، عبد الوهاب (ص 332).

(2)

ينظر: الفروق، القرافي (1/ 3).

(3)

القارح من الخيل: ما أكمل خمس سنين، والجَذَع من الخيل: ما استكمل أربعة أعوام ودخل في الخامسة، والمعنى: غلب القوي الضعيف، ويقابله في المعنى: البازل من الإبل: ما أكمل خمس سنين، والجَذَع من الإبل: ما استكمل أربعة أعوام ودخل في الخامسة. ينظر: تاج العروس، الزبيدي (7/ 47)، معجم متن اللغة، أحمد رضا (4/ 523).

ص: 20

ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب، وحصَّل طِلْبتَه في أقرب الأزمان، وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان، فبين المقامين شأوٌ بعيد

(1)

، وبين المنزلتين تفاوتٌ شديد).

وقد لخص بعض الباحثين أهمية دراسة القواعد الفقهية في النقاط التالية

(2)

:

(أولاً: أنها تضبط المسائل الفقهية المنتشرة المتعددة، وتنظمها في سلك واحد مما يمكِّن من إدراك الروابط والصفات الجامعة بين الجزيئات المتفرقة، فهي كما قال ابن رجب رحمه الله

(3)

:

(فهذه قواعد مهمة وفوائد جمة، تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه من مآخذ الفقه على ما كان عنه قد تغيَّب، وتنْظم له منثور المسائل في سلك واحد، وتقيد له الشوارد، وتقرب عليه كل متباعد).

ثانيًا: أن ضبطها يُيَسِّر على الفقيه ضبط الفقه بأحكامه، ويغنيه عن حفظ أكثر الجزئيات؛ إذ إن حفظ جزئيات الفقه وفروعه يستحيل أن يقدر عليه إنسان خلافًا للقواعد، فإن حفظها وإن كَثُرَت داخلٌ تحت الإمكان؛ ولذا قال القرافي يرحمه الله:(من ضبط الفقه بقواعده، استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات؛ لاندراجها في الكليات).

(1)

الشأو: الغاية والأمد والطموح والهمة. ينظر: الصحاح، الفارابي (6/ 2388)، تهذيب اللغة، الهروي (11/ 305).

(2)

ينظر: مجموعة الفوائد البهية، القحطاني (ص 6).

(3)

ينظر: القواعد لابن رجب (ص 3).

ص: 21

ثالثًا: أن دراستها تُكَوِّن عند المرء ملكة فقهية تنير أمامه الطريق لدراسة أبواب الفقه الواسعة والمتعددة، ومعرفة الأحكام الشرعية، واستنباط الحلول للوقائع المتجددة والمسائل النازلة؛ ولذا أصبحت القواعد معينا ثَرًّا للفقهاء، ومبعث حركة دائمة ونشاط متجدد، يُبعد الفقه عن أن تتحجر مسائله وتتجمد قضاياه.

قال الإمام السيوطي رحمه الله

(1)

: (اعلم أن فن الأشباه والنظائر فن عظيم، به يُطَّلع على حقائق الفقه ومداركه، ومآخذه وأسراره، ويتمهّد في فهمه واستحضاره، ويقتدر على الإلحاق والتخريج، ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لاتنقضي على مَرّ الزمان).

رابعًا: أنها تمكن الفقيه من تخريج الفروع بطريقة سَوِيَّة، وتبعده عن التخبط والتناقض الذي قد يترتب على التخريج من المناسبات الجزئية.

وقد نقل تاج الدين السبكي عن والده قوله

(2)

: (وكم من آخر مستكثر في الفروع ومداركها قد أفرغ جمامَ ذهنه فيها، غفل عن قاعدة كلية، فتخبطت عليه تلك المدارك وصار حيران، ومن وفقه الله بمزيد من العناية جمع بين الأمرين، فيرى الأمر رأي العين).

خامسًا: إدراك مقاصد الشريعة وأسرارها وحكمها.

سادسًا: اكتساب ملكة التقعيد والتأصيل والاستنباط والتخريج بإدمان النظر في الفروع لمعرفة الأمر الجامع بينها، مما أدى إلى استنباط القاعدة.

(1)

ينظر: الأشباه والنظائر (ص 6).

(2)

ينظر: الأشباه والنظائر (1/ 309).

ص: 22

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى

(1)

: (لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم).

‌رابعًا: خصائص القواعد الفقهية:

للقواعد الفقهية خصائص تتمّيز بها دون قواعد أصول الفقه، وهي:

1 -

الحفظ والضبط للمسائل الكثيرة المتناظرة، بحيث تكون القاعدة وسيلة لمعرفة الأحكام المندرجة تحتها.

2 -

تدل على أن الأحكامَ المتحدة العلة مع اختلافها محققةٌ لجنس واحد من العلل، محققةٌ لجنس واحد من المصالح.

3 -

إن معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها، ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد يتمكن العارف بها من انتزاع الفروع منها.

وعلى العكس القواعد الفقهية، فإنها تخدم المقاصد الشرعية العامة والخاصة، وتمهد الطريق للوصول إلى الأحكام وحكمها.

وهذا التفصيل يعطينا فكرة كاملة عن الموضوع، ويكشف عن الفروق الأساسية بين المصطلحين

(2)

.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (19/ 203).

(2)

ينظر: المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية، عبد الوهاب (ص 333).

ص: 23

‌خامسًا: مميزات القواعد الفقهية:

تمتاز القواعد الفقهية بمميزات منها:

الميزة الأولى: كثرتها حيث إنها غير محصورة بعدد بل تعدُّ بالآلاف، وهي منثورة في بطون كتب الفقه والأحكام، ولا ينتظمها كتاب واحد.

الميزة الثانية: أنها تمتاز بإيجاز عباراتها، مع عموم معناها، وسعة استيعابها للمسائل الجزئية، إذ تصاغ القاعدة في جملة مفيدة مكونة من كلمتين أو بضع كلمات من ألفاظ العموم، مثل قاعدة:(العادة مُحكَّمة)، وقاعدة:(الأعمال بالنيات)، أو (الأمور بمقاصدها)، وقاعدة:(المشقة تجلب التيسير).

فكل من هذه القواعد تعتبر من جوامع الكلم، إذ يندرج تحت كل منها ما لا يحصى من المسائل الفقهية المختلفة.

الميزة الثالثة: أن لكلًّ منها ضابطًا يضبط فروع الأحكام العملية، ويربط بينها برابطة تجمعها وإن اختلفت موضوعاتها وأبوابها، قال الأستاذ مصطفى الزرقا: لولا هذه القواعد لبقيت الأحكام الفقهية فروعًا مشتتةً، قد تتعارض ظواهرها دون أصول تمسك بها، وتبرز من خلالها العلل الجامعة

(1)

.

‌سادسًا: القواعد الخمس الكبرى:

ذكرنا أن القواعد الفقهية غير منحصرة لكثرتها، إلا أن هناك قواعد خمس كبرى، تعدُّ أشهر تلك القواعد الكلية، وأعظمها نفعًا، إذ يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية، وهي مما اتفق عليه الفقهاء، واعتنى به الفضلاء قديمًا وحديثًا.

(1)

ينظر: الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، البورنو (ص 23).

ص: 24

وهذه القواعد هي:

القاعدة الأولى: (الأمورُ بمقاصدها).

القاعدة الثانية: (اليقينُ لا يزول بالشك).

القاعدة الثالثة: (المشقةُ تجلب التيسير).

القاعدة الرابعة: (الضررُ يزال).

القاعدة الخامسة: (العادةُ مُحَكَّمة).

ص: 25

‌القاعدة الأولى: الأمورُ بمقاصدها

أو: (العبرة للمقصود لا للتبع).

أو: (العبرة للمقاصد دون الصور).

فيدخل في ذلك العبادات والمعاملات، وتحريمُ الحيل المحرمةِ مأخوذٌ من هذا الأصل، وانصراف ألفاظ الكنايات والمحتملات إلى الصرائح من هذا الأصل، وصورها كثيرة جدًّا

(1)

.

والأمور: بمعنى: الأحكام الشرعية العملية المتعلقة بالمكلف، وتشمل: العبادات والمعاملات.

معنى هذه القاعدة:

أن الأحكام الشرعية تتعلق بمقاصدها، من حيث الصحة والبطلان، أو النفوذ والاعتداد، فلا تصح العبادة إلا بالنية، ولا يؤخذ في كثير من الأحكام التكليفية بما يصدر عن النائم والناسي من الخطأ؛ لعدم القصد.

ودليل هذه القاعدة: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»

(2)

. رواه البخاري ومسلم.

وفي الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أُجرت عليها، حتى ما تجعل في فيِّ امرأتِك»

(3)

.

(1)

ينظر: رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة، السعدي (ص 103).

(2)

أخرجه البخاري برقم (1)، ومسلم برقم (1907)، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري برقم (56)، ومسلم برقم (1628).

ص: 27

ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونيةٌ، وإذا استُنفرتم فانفروا»

(1)

.

وهذه القاعدة من أهم القواعد الفقهية وأكثرها استخدامًا، وهي إحدى القواعد الخمس الكبرى التي يدور عليها الفقه الإسلامي.

قال السيوطي رحمه الله

(2)

: (اعلم أنه قد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر حديث النية، وقال أبو عبيدة: ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة منه.

واتفق الإمام الشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن مهدي، وابن المديني، وأبو داود، والدارقطني وغيرهم على أنه ثلث العلم، ومنهم من قال: ربعه.

ووجه البيهقي كونه ثلث العلم: بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة، وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد:«نية المؤمن خير من عمله»

(3)

.

وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم، أنه أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده؛ فإنه قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث «الأعمال بالنية» ، وحديث:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»

(4)

، وحديث:«الحلال بين والحرام بين»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (2783)، ومسلم برقم (1353).

(2)

ينظر: الأشباه والنظائر، السيوطي (ص 9).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

أخرجه البخاري برقم (2697)، ومسلم برقم (1718)، عن عائشة رضي الله عنها.

(5)

أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599)، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

ص: 28

وقال الشيخ سعد الشثري

(1)

: (للنية أثر كبير على أعمال المكلف، ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»

(2)

، والنية توضح المراد بالأيمان، وبألفاظ الكنايات، وتعين نوع العبادة المؤداة هل هي مثلًا صلاة الظهر أو نافلتها.

وعلى النية يترتب الثواب والعقاب، فمن فعل الحرام غير قاصد له فلا عقاب له، ومن فعل الطاعة بقصد التقرب إلى الله لنيل الثواب الأخروي استحق الثواب، وكذلك المباحات إذا قصد المكلف بها التقوى على طاعة الله استحق الثواب عليها).

وفي هذه القاعدة: أن الأمور تتبع المقاصد حُسنًا وقبحًا، فإن كان القصد من الطاعة حسنًا كان العمل حسنًا، وإن كان قبيحًا كان قبيحًا، والمكلف مأمور بإخلاص العمل لله وحده، وترك الرياء، وأن يكون عمله وفق ما أراد الله تبارك وتعالى منه.

وقد تكون صورة العمل حسنة، إلا أن سوء القصد يجعله سيئًا خبيثًا، وقد تكون صورة العمل سيئة إلا أن حسن القصد يجعله حسنًا مأذونًا فيه، كما ذكر الله تعالى ذلك في سورة الكهف في قصة نقب السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار.

وانظر إلى هذا الرجل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، فيما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون تُصُدِّق الليلة على زانية،

(1)

ينظر: القواعد الأصولية والفقهية المتعلقة بالمسلم غير المجتهد، الشثري (ص 52).

(2)

سبق تخريجه.

ص: 29

قال: اللهم، لك الحمد على زانية. لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على غني، قال: اللهم، لك الحمد على غني. لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارقٍ، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على سارق، فقال: اللهم، لك الحمد على زانية، وعلى غني، وعلى سارق، فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قُبلت؛ أما الزانية فلعلها تستعف بها عن زناها، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق يستعف بها عن سرقته»

(1)

.

فهذا الرجل أعطى صدقته لغير مستحقيها، ومع ذلك فقد تقبل الله صدقته لإخلاصه وحسن قصده ورغبته في الخير.

ومن فروع هذه القاعدة:

تمييز العبادات من العادات بالقصد، كالجلوس في المسجد، فإنه يتردد بين الجلوس للاعتكاف والجلوس للاستراحة، وكالوضوء والغسل يتردد بين التبرد والتنظيف والقربة، فلولا النية لما تميزت العبادة عن غيرها ولا حصلت

(2)

.

وكذلك تمييز مراتب العبادات بالقصد، لأن القصد النية شرط صحة في العبادات المحضة، وشرط لحصول الثواب في جميع الأعمال.

ومنه أن المعاملات بالكنايات، لا بد لها من نية.

ومنه أن جميع المباحات تتميز عن المعاصي والقربات بالنية

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (1421)، ومسلم برقم (1022).

(2)

ينظر: الأشباه والنظائر، السبكي (1/ 57).

(3)

ينظر: الغيث الهامع شرح جمع الجوامع، أبي زرعة العراقي (ص 660).

ص: 30

ويتفرع من هذه القاعدة ثلاث قواعد:

1 -

لا ثواب إلا بنية.

2 -

النية شرط لصحة الأعمال.

3 -

العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني.

قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين

(1)

: (فالنية روح العمل ولبُّه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم، وهما قوله:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»

(2)

.

فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع.

وأن من نوى بعقد النكاح التحليل كان محلِّلا، ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح؛ لأنه قد نوى ذلك، «وإنما لكل امرئ ما نوى» ؛ فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان، والثانية معلومة بالنص.

وعلى هذا فإذا نوى بالعصْر حصول الخمر كان له ما نواه، ولذلك استحق اللعنة، وإذا نوى بالفعل التحيلَ على ما حرمه الله ورسولُه كان له ما نواه؛ فإنه قصد المحرم وفعل مقدورَه في تحصيله).

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (4/ 522).

(2)

سبق مرارًا.

ص: 31

وقال أيضًا

(1)

: (أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يحتاج إلى ذكره؛ فإن القُرُبات كلها مَبْنَاها على النيات، ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقَصْد، ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل، أو دخل الحمام للتنظيف، أو سَبَحَ للتبرُّد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق، فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له. ولو أمْسَكَ عن المُفْطِّرات عادة واشتغالًا ولم ينو القربة لم يكن صائمًا. ولو دار حول البيت يلتمس شيئًا سقط منه لم يكن طائفًا.

ولو أعطى الفقير هبةً أو هدية ولم ينو الزكاة لم تحتسب زكاة. ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له ثوابُه.

وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والإمتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب؛ ولهذا لو جامع أجنبيةً يظنها زوجتَه أو أمَتُه لم يأثم بذلك وقد يُثاب بنيته. ولو جامع في ظُلمةٍ من يظنُّها أجنبية فبانت زوجتُه أو أمَتُه أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام.

ولو أكل طعامًا حرامًا يظنّثه حلالًا لم يأثم به، ولو أكله وهو حلال يظنه حرامًا وقد أقدم عليه أثِم بنيته. وكذلك لو قتل مَنْ يظنه مسلمًا معصومًا فَبَانَ كافرًا حربيًّا أثم بنيته. ولو رمى صيدًا فأصاب معصومًا لم يأثم، ولو رمى معصومًا فأخطأه وأصاب صيدًا أثِم، ولهذا كان القاتل والمقتول من المسلمين في النار

(2)

لنية كل واحد منهما قتل صاحبه).

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (3/ 90).

(2)

يشير إلى حديث الأحنف بن قيس رضي الله عنه، قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل -يعني: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلقيني أبو بكرة فقال أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال: ارجع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» ، فقلت: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟، قال:«إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» ، أخرجه البخاري برقم (31)، ومسلم برقم (2888).

ص: 32

وذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بعض المسائل التي تتبع هذه القاعدة، ومن ذلك أفعال شارب الخمر، قال

(1)

: (واختلف العلماء في فعله، هل يؤاخذ به أم لا؟ والصواب أن فعله كفعل المخطئ، لا كفعل المتعمِّد.

فلو قتل إنسانًا لم يُقتصّ منه؛ لأنه لا عقل له، ولكن تؤخذ منه الدية، إلا إذا علمنا أنه تناول المسكر لتنفيذ فعلِه، فإنه يؤاخذ به.

يعني: لو فرضنا أن هذا الرجل يريد أن يقتل شخصًا، فقال: إن قتلته وأنا عاقل قتلوني به، ولكن أشرب مسكرًا وأقتله، وأنا سكران، ففي هذه الحال نقول: إنه يقتل؛ لأنه سَكِرَ من أجل الوصول إلى العمل المحرم، والعبرة في الأمور بمقاصدها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»

(2)

.

وقال صاحب تفسير المنار رحمه الله

(3)

: (والقاعدة الطبيعية الشرعية أن الأمور بمقاصدها، ونحن نرى كثيرًا من الناس يقصدون قراء القرآن في ليالي رمضان أو في المآتم، ليستمعوا إلى فلان القارئ الحسن الصوت لغرض التلذذ بترتيله وتوقيع صوته أو بلاغته، ولا أحد منهم ينتفع بشيء من مواعظ القرآن ونُذُره، وحِكمه وعِبره، ولا عقائده وأحكامه، ومنهم المسلمون وغير المسلمين.

بل سمعت بأذني من غير المسلمين من يستمع القرآن ويعجب من شدة تأثيره وتغلغله في أعماق القلب وهو لا يؤمن به، ولهذا قال تعالى:{أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 42]، هذا الاستفهام للإنكار، يعني: أن السماع

(1)

ينظر: الشرح الممتع، ابن عثيمين (14/ 443).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

ينظر: تفسير المنار، رشيد رضا (11/ 314).

ص: 33

النافع للمستمع هو ما عقل به ما يسمعه وفقهه وعمل بمقتضاه، فمن فقد هذا كان كالأصم الذي لا يسمع).

وقد ذكر السيوطي رحمه الله أن هذه القاعدة تجري أيضًا في علم العَروض، فإن الشعر عند أهله: كلام موزون مقصود به ذلك: أما ما يقع موزونًا اتفاقًا، لا عن قصد من المتكلم، فإنه لا يسمى شعرًا، وعلى ذلك خرج ما وقع في كلام الله تعالى كقوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله:«هل أنتِ إلا إصبع دميتِ، وفي سبيل الله ما لقيتِ»

(1)

.

وهذه القاعدة أيضًا من أهم قواعد الحنفية التي ذكروها في إبطال الشرك وإن سمي بغير اسمه، وفرعوا عليها عدة أحكام، وقالوا: إنما يبنى اللفظ على المقصود لا على ظاهر اللفظ.

فلما كان قصد القبورية من زياراتهم للقبور؛ الطواف بها، وأكل ترابها، والتمسح والتبرك بها، والنذر لها، ودعاء أهلها، وطلب الحوائج وكشف الكرب منهم، كان ذلك شركًا صريحًا، وإن تستروا بستار التوسل، والكرامة، والولاية، والزيارة، لأن الأمور بمقاصدها.

قال شيخ القرآن الفنجفيري رحمه الله في الرد على المبتدعة والقبورية

(2)

: (وها أنا في زمان تبدلت الشريعة، وجعلوا العبادة ذريعة للمعيشة، ووضعوا الألفاظ الصحيحة للنية الردية، فاستحلوا الرشوة باسم الهدية، والقتل بالرهبة، والزنى بالنكاح، والربا بالمنافع، والمُغنِّي بالحادي، والمطرب بالقوَّال،

(1)

أخرجه البخاري برقم (2802)، ومسلم برقم (1796)، عن جندب بن سفيان رضي الله عنه.

(2)

ينظر: جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، الأفغاني (2/ 618).

ص: 34

والمداهن بالمصلح، والخداعة بالسياسة، والكتمان بالمصلحة، والشرك بالله العظيم بتعظيم الأولياء الكرام، والعبادة للقبور والشيوخ بالتعظيم لهم، والجحد لصفات الله تعالى بالتنزيه، وإثبات الصفات له تعالى بالتجسيم، والبدعة بالسنة، فبدلوا دين الله تعالى وشرائعه، وحرفوا الكلم عن مواضعه، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]).

مجمل ما تدخل فيه هذه القاعدة من أبواب الفقه:

ذكر الشافعي رحمه الله أن النية تدخل في سبعين بابًا من الفقه، وعقب السيوطي رحمه الله على ذلك بقوله

(1)

: (قلت: وهذا ذكر ما يرجع إليه من الأبواب إجمالًا:

من ذلك: ربع العبادات بكماله، كالوضوء، والغسل فرضًا ونفلًا، والتيمم، وإزالة النجاسة على رأي، وغسل الميت على رأي، والأواني في مسألة الضبة بقصد الزينة أو غيرها.

والصلاة بأنواعها: فرض عين وكفاية، وراتبة وسنة، ونفلا مطلقا، والقصر، والجمع، والإمامة والاقتداء وسجود التلاوة والشكر، وخطبة الجمعة على أحد الوجهين، والأذان على رأي.

وأداء الزكاة، واستعمال الحلي أو كنزه، والتجارة، والقنية، والخلطة على رأي، وبيع المال الزكوي، وصدقة التطوع.

والصوم فرضًا ونفلًا، والاعتكاف.

والحج والعمرة كذلك، والطواف فرضًا واجبًا وسنة، والتحلل للمحصر،

(1)

ينظر: الأشباه والنظائر (ص 9 - 11).

ص: 35

والتمتع على رأي، ومجاوزة الميقات، والسعي، والوقوف على رأي، والفداء، والهدايا، والضحايا فرضًا ونفلًا، والنذور، والكفارات، والجهاد والعتق والتدبير، والكتابة، والوصية، والنكاح، والوقف، وسائر القرب، بمعنى توقف حصول الثواب على قصد التقرب بها إلى الله تعالى، وكذلك نشر العلم تعليمًا وإفتاءً وتصنيفًا، والحكم بين الناس وإقامة الحدود، وكل ما يتعاطاه الحكام والولاة، وتحمل الشهادات وأداؤها.

بل يسري ذلك إلى سائر المباحات إذا قصد بها التقوى على العبادة أو التوصل إليها، كالأكل، والنوم، واكتساب المال وغير ذلك، وكذلك النكاح والوطء إذا قصد به إقامة السنة أو الإعفاف أو تحصيل الولد الصالح، وتكثير الأمة، ويندرج في ذلك ما لا يحصى من المسائل.

ومما تدخل فيه من العقود ونحوها: كنايات البيع والهبة، والوقف، والقرض، والضمان، والإبراء، والحوالة، والإقالة، والوكالة، وتفويض القضاء، والإقرار، والإجارة والوصية، والعتق، والتدبير، والكتابة، والطلاق، والخلع، والرجعة، والإيلاء، والظهار، والأيمان، والقذف، والأمان.

ويدخل أيضًا فيها في غير الكنايات في مسائل شتى: كقصد لفظ الصريح لمعناه، ونية المعقود عليه في المبيع والثمن، وعوض الخلع، والمنكوحة، ويدخل في بيع المال الربوي ونحوه وفي النكاح إذا نوى ما لو صرح به بطل.

وفي القصاص في مسائل كثيرة: منها تمييز العمد وشبهه من الخطأ، ومنها إذا قتل الوكيل في القصاص، إن قصد قتله عن الموكل، أو قتله بشهوة نفسه.

وفي الردة، وفي السرقة: فيما إذا أخذ آلات الملاهي بقصد كسرها وإشهارها

ص: 36

أو بقصد سرقتها، وفيما إذا أخذ الدائن مال المدين بقصد الاستيفاء، أو السرقة، فلا يقطع في الأول، ويقطع في الثاني.

وفي أداء الدين: فلو كان عليه دينان لرجل، بأحدهما رهن، فأدى أحدهما ونوى به دين الرهن، انصرف إليه والقول قوله في نيته، وفي اللقطة بقصد الحفظ أو التمليك.

وفيما لو أسلم على أكثر من أربع: فقال: فسخت نكاح هذه، فإن نوى به الطلاق كان تعيينًا لاختيار النكاح، وإن نوى الفراق أو أطلق حمل على اختيار الفراق. وفيما لو وطئ أمة بشبهة، وهو يظنها زوجته الحرة، فإن الولد ينعقد حرًّا.

وفيما لو تعاطى فعل شيء مباح له، وهو يعتقد عدم حلِّه: كمن وطئ امرأة يعتقد أنها أجنبية، وأنه زان بها، فإذا هي حليلته أو قتل من يعتقده معصومًا، فبان أنه يستحق دمه، أو أتلف مالًا لغيره، فبان ملكه. قال الشيخ عز الدين: يجري عليه حكم الفاسق لجرأته على الله، لأن العدالة إنما شرطت لتحصل الثقة بصدقه، وأداء الأمانة، وقد انخرمت الثقة بذلك، لجرأته بارتكاب ما يعتقده كبيرة.

قال: وأما مفاسد الآخرة فلا يعذب تعذيب زان ولا قاتل، ولا آكل مالًا حرامًا لأن عذاب الآخرة مرتب على ترتب المفاسد في الغالب، كما أن ثوابها مرتب على ترتب المصالح في الغالب.

قال: والظاهر أنه لا يعذب تعذيب من ارتكب صغيرة، لأجل جرأته وانتهاك الحرمة، بل عذابًا متوسطًا بين الصغيرة والكبيرة.

ص: 37

وعكس هذا: من وطئ أجنبية وهو يظنها حليلة له، لا يترتب عليه شيء من العقوبات المؤاخذات المترتبة على الزاني اعتبارًا بنيته ومقصده.

وتدخل النية أيضًا: في عصير العنب بقصد الخَليَّة والخمريَّة، وفي الهجر فوق ثلاثة أيام فإنه حرام، إن قصد الهجر وإلا فلا.

ونظيره أيضًا: ترك الطيب والزينة فوق ثلاثة أيام لموت غير الزوج، فإنه إن كان بقصد الإحداد حرم وإلا فلا.

وتدخل أيضًا في نية قطع السفر، وقطع القراءة في الصلاة، وقراءة القرآن جنبا بقصده، أو بقصد الذكر.

وفي الصلاة بقصد الإفهام، وفي غير ذلك وفي الجعالة إذا التزم جُعلًا لمعين، فشاركه غيره في العمل إن قصد إعانته، فله كل الجعل، وإن قصد العمل للمالك فله قسطُه، ولا شيء للمشارك، وفي الذبائح.

فهذه سبعون بابًا، أو أكثر، دخلت فيها النية كما ترى.

فعلم من ذلك فساد قول من قال إن مراد الشافعي بقوله: تدخل في سبعين بابًا من العلم؛ المبالغة، وإذا عددت مسائل هذه الأبواب التي للنية فيها مدخل لم تقصر عن أن تكون ثلث الفقه أو ربعه).

ص: 38

‌القاعدة الثانية: اليقين لا يزول بالشك

وهذه القاعدة تدخل في كافة الأبواب الفقهية وكافة العبادات والمعاملات.

قيل: هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه، والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر

(1)

؛ فمن حصل له الشك في شي منها رجع إلى الأصل المتيقن.

ولذلك قالوا: الأصل الطهارة في كل شي والأصل الإباحة، إلا ما دل الدليل على نجاسته أو تحريمه.

وقالوا: الأصل براءة الذمم من الواجبات ومن حقوق الخلق، حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك.

وقالوا: الأصل بقاء ما اشتغلت به الذمم من حقوق الله وحقوق عباده، حتى يتيقن البراءة والأداء

(2)

.

فمن كان على يقين من الوضوء ثم شك في الحدث فإن وضوءه لا ينقض.

وإذا كان الماء طاهرًا يقينًا، ثم شك في نجاسته، فهذا الشك لا يزيل طهورية الماء لأن اليقين لا يزول بالشك

(3)

.

كذلك لو توضأ الإنسان لصلاة الظهر، ثم جاءت صلاة العصر وشكّ هل

(1)

ينظر: غمز عيون البصائر، أحمد مكي (1/ 194).

(2)

ينظر: رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة (ص 102).

(3)

ينظر: المغني، ابن قدامة (1/ 74).

ص: 39

أحدث أم لم يحدث؟ فالأصل أنه على طهارة؛ لأن الطهارة يقين والحدث شكّ واليقين لا يزول بالشك.

وكذلك إذا كان في الصلاة فشك أنه خرج منه ريح، فإنه يطرح الشك ويبقى على يقين الطهارة.

وقد دل على ذلك حديث عباد بن تميم رضي الله عنه، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال:«لا ينفتل، أو لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا»

(1)

.

هذا الحديث يدل على أن الأشياء يحكم ببقائها على ماهي عليه حتى يُتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ.

وهناك أدلة أخرى على هذه القاعدة منها: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدْرِ كم صلى ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشكَّ وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم، فإن كان صلى خمسًا شَفعْن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيما للشيطان» . أخرجه مسلم

(2)

.

فإن من شك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا فإنه يعتبرها ثلاثًا؛ لأن اليقين هو تعلق الصلاة بالذمة، ثم تيقن أداء ثلاث ركعات فبرأت منها الذمة، وشك في أداء الرابعة فبقيت في الذمة، وهكذا كل ما كان الشك في عدده أو أجزائه بني على الأقل؛ لأنه هو المتيقن حصولُه.

(1)

أخرجه البخاري برقم (137)، ومسلم برقم (361).

(2)

في صحيحه برقم (571).

ص: 40

وكذلك من شكَّ في طلوع الفجر وهو يريد الصوم، فإنه يجوز له الأكل والشرب؛ لأن اليقين في حقه بقاءُ الليل.

ومن شك في غروب الشمس وهو صائم فليس له أن يفطر؛ لأن اليقين في حقِّه بقاء النهار

(1)

.

قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد

(2)

: (وفي هذا الحديث من الفقه أصل عظيم جسيم مطَّرد في أكثر الأحكام، وهو أن اليقين لا يزيله الشك، وأن الشيء مبني على أصله المعروف حتى يزيله يقين لا شك معه.

وذلك أن الأصل في الظهر أنها فرض بيقين أربع ركعات، فإذا أحرم بها ولزمه إتمامها وشك في ذلك، فالواجب الذي قد ثبت عليه بيقين لا يخرجه منه إلا يقين، فإنه قد أدى ما وجب عليه من ذلك.

وقد غلط قوم من عوام المنتسبين إلى الفقه في هذا الباب، فظنوا أن الشك أوجب على المصلي إتمام صلاته والإتيان بالركعة، واحتجوا لذلك بأعمال الشك في بعض نوازلهم، وهذا جهل بيِّن وليس كما ظنوا، بل اليقين بأنها أربع، فرض عليه إقامتها، وأوجب عليه إتمامها.

وهذا واضح والكلام لوضوحه يكاد يستغنى عنه

ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقله من يقين طهارته إلى شك، بل أمره أن يبني على يقينه في ذلك حتى يصحَّ عنده يقين يصير إليه، والأصل في هذا وفي البناء على اليقين في الصلاة سواء، إلا أن مالكًا رحمه الله قال: من شك في الحدث بعد يقينه بالوضوء

(1)

ينظر: القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، العبد اللطيف (2/ 664).

(2)

ينظر: التمهيد (5/ 25).

ص: 41

فعليه الوضوء، ولم يتابعه على هذا القول أحد من أهل الفقه علمته إلا أصحابُه ومن قلدهم في ذلك

(1)

، وقد قال أبو الفرج: إن ذلك استحباب واحتياط منه.

وخالف عبد الله بن نافع مالكًا في هذه المسألة فقال: لا وضوء عليه، وقال ابن خواز منداد: اختلفت الرواية عن مالك فيمن توضأ ثم شك هل أحدث أم لا فقد قال: عليه الوضوء، وقد قال: لا وضوء عليه، وهو قول سائر الفقهاء.

قال أبو عمر: مذهب الثوري وأبي حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي ومن سلك سبيله البناء على الأصل حدثًا كان أو طهارة، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور، وداود بن علي وأبي جعفر الطبري، وقد قال مالك: إنه إنْ عرض له ذلك كثيرًا فهو على وضوئه.

وأجمع العلماء أن من أيقن بالحدث وشك في الوضوء أن شكَّه لا يفيد فائدة وأن عليه الوضوء فرضًا، وهذا يدلك على أن الشك عندهم مُلغى، وأن العمل على اليقين عندهم وهذا أصل كبير في الفقه فتدبره وقف عليه).

أنواع الشك:

جاء في غمز عيون البصائر

(2)

: (اعلم أن الشك على ثلاثة أضرب:

شك طرأ على أصل حرام، وشك طرأ على أصل مباح، وشك لا يعرف أصله.

فالأول: مثل: أن يجد شاة مذبوحة في بلد فيها مسلمون ومجوس فلا تحل، حتى يعلم أنها ذكاةُ مسلم؛ لأن أصلها حرام، وشككنا في الذكاة المبيحة، فلو كان الغالب فيها المسلمين جاز الأكل؛ عملًا بالغالب المفيد للطهورية.

(1)

انظر رحمك الله إلى إنصاف وتجرد هذا العالم الكبير، فإنه لم يتابع إمامه في مسألة خالف فيها الدليل الصحيح وجماهير الفقهاء، وإنما اتبع الدليل وإن خالف إمامه.

(2)

ينظر: غمز عيون البصائر، أحمد مكي (1/ 193).

ص: 42

والثاني: أن يجد ماء متغيرًا واحتمل تغيره بنجاسة، أو طول مكث، يجوز التطهير به عملًا بأصل الطهارة.

والثالث: مثل معاملة من أكثر ماله حرام ولم يتحقق المأخوذ من ماله عين الحرام، فلا تحرم مبايعته لإمكان الحلال وعدم التحريم، ولكن يُكره خوفًا من الوقوع في الحرام، كذا في فتح القدير).

ومن الأدلة على هذه القاعدة أيضًا: عموم قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، ونحوها قوله تعالى:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28].

وجاء في درر الحكام بشرح مجلة الأحكام

(1)

: («اليقين لا يزول بالشك» : نعم لأن اليقين القوي أقوى من الشك، فلا يرتفع اليقين القوي بالشك الضعيف، أما اليقين فإنما يزول باليقين الآخر، فما ثبت بيقين لا يرتفع بالشك، وما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين.

والشك لغة معناه: التردد.

واصطلاحًا: تردد الفعل بين الوقوع وعدمه، أي: لا يوجد مرجح لأحد على الآخر، ولا يمكن ترجيح أحد الاحتمالين، أما إذا كان الترجيح ممكنًا لأحد الاحتمالين، والقلب غير مطمئن للجهة الراجحة أيضًا فتكون الجهة الراجحة في درجة الظن، والجهة المرجوحة في درجة الوهم، وأما إذا كان القلب يطمئن للجهة الراجحة فتكون (ظنًّا غالبًا)، والظن الغالب ينزل منزلة اليقين.

(1)

ينظر: درر الحكام في شرح مجلة الأحكام، علي أفندي (1/ 22). وينظر أيضًا: الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي (2/ 76)، والمنثور في القواعد الفقهية، الزركشي (2/ 257)، وفتح القدير، الكمال بن الهمام (1/ 191)، والأشباه والنظائر، ابن نجيم (ص 49).

ص: 43

واليقين لغة: قرار الشيء، يقال:(يَقِن الماء في الحوض) بمعنى: استقر.

واصطلاحًا: هو حصول الجزم أو الظنِّ الغالب بوقوع الشيء أو عدم وقوعه؟

وقد عرفه البعض بأنه: (هو علم الشيء المستتر عن نظر واستدلال).

ويفهم من هذه الإيضاحات؛ أنه لا يوجد الشك في شيء عند وجود اليقين، ولا اليقين حيث يوجد الشك.

إذ أنهما نقيضان، ولا يجوز اجتماع النقيضين.

والقصد هنا بالشك إنما هو (الشك الطارئ) بعد حصول اليقين في الأمر.

فاليقين السابق لا يزول بالشك الطارئ، وأنه لا يزول إلا بيقين مثله.

مثال ذلك: إذا سافر رجل إلى بلاد بعيدة فانقطعت أخباره مدة طويلة، فانقطاع أخباره يجعل شكًّا في حياته، إلا أن ذلك الشكَّ لا يزيل اليقين، وهو حياته المتيقنة قبلًا، وعلى ذلك فلا يجوز الحكم بموته، وليس لورثته اقتسام تركته ما لم يثبت موته يقينًا.

وبالعكس إذا سافر آخر بسفينة وثبت غرقُها فيحكم بموت الرجل؛ لأن موته ظنُّ غالب والظن الغالب كما تقدم بمنزلة اليقين.

مثال آخر: لو أقر شخص بمبلغ لآخر قائلا أظن أنه يوجد لك بذمتي كذا مبلغ، فإقراره هذا لا يترتب عليه حكم؛ لأن الأصل براءة الذمة، والأصل هو المتيقن فما لم يحصل يقين يشغل ذمته لا يثبت المبلغ عليه للمقر له، إذ أن إقراره لم ينشأ منه عن يقين بل عن شك وظن، وهذا لا يزيل اليقين ببراءة ذمة المقر كما لا يخفى).

ص: 44

وعكس ذلك: من كان مدينًا لآخر بيقين، ثم شك في الأداء، فإن الدين لا يسقط ويلزمه أداؤه، لأن الشك لا يزيل اليقين

(1)

.

ولا يشترط في تحقق اليقين الاعتراف والتصديق، بل يتصور مع الجحود، كما قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]

(2)

.

ومن صور هذه القاعدة:

(ما إذا كان إنسان يعلم أن بَكرًا مدينٌ لعمرو بألف مثلًا، فإنه يجوز له أن يشهد على بكر بالألف، وإن خامره الشك في وفائها، أو في إبراء الدائن له عنها، إذ لا عبرة للشك في جانب اليقين السابق.

ومن ذلك: ما إذا كان يعلم أن العين الفلانية كانت ملك بكرٍ، ثم نازعه فيها أحد، فإنه يجوز له أن يشهد لبكر بأن العين ملكه، وإن كان يحتمل أنه باعها لمن ينازعه، لأن امتلاكه للعين يقين، ومنازعة غيره له فيها شك.

ومن ذلك: ما لو ادعى زيد على عمرو ألفًا مثلًا، فأقام عمرو بينة على الأداء أو الإبراء، فأقام زيد أيضًا بينة على أن له عليه ألفًا، فإن بينةَ زيد هذه لا تقبل من غير أن يبرهن أن الألف المشهود عليها هي غير تلك الألف التي ادعى عمرو أداءها أو الإبراء عنها، لأن فراغ ذمة عمرو بعد البينة التي أقامها أصبح يقينًا، والألف التي أقام زيد عليها البينة مطلقة، فيحتمل أن تكون هي المرادةُ أو المبروءُ عنها، فلا تشغل ذمة عمرو بمجرد الشك، بعد التيقن بفراغها، ولأن الموجب والمسقط إذا اجتمعا يعتبر المسقط متأخرًا.

(1)

ينظر: المبادئ الفقهية، أبي الوفاء درويش (ص 10).

(2)

ينظر: شرح القواعد الفقهية، أحمد الزرقا (ص 79).

ص: 45

ومن ذلك: ما لو اشترى أحد شيئًا ثم ادعى أن به عيبًا وأراد ردَّه، واختلف التجار أهل الخبرة فقال بعضهم: هو عيب، وقال بعضهم: ليس بعيب، فليس للمشتري الردُّ، لأن السلامة هي الأصل المتيقن فلا يثبت العيب بالشك.

ومن ذلك: ما لو طلق الرجل زوجته، وكانت ذات لبن، وتزوجت بآخر بعد عدتها، فحملت منه وأرضعت طفلًا في مدة الحمل، فإن لبنها لم يزل معتبرًا من الزوج الأول، فتثبت به حرمة الرضاع بالنسبة له، لأنه كان متيقنًا أن اللبن منه، فلا نحكم بأنه من الثاني بمجرد الشك الحاصل بسبب حبلها من الزوج الثاني، فإذا ولدت يحكم حينئذ بأن اللبن بعد الولادة من الثاني)

(1)

.

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحتج بهذه القاعدة على فضل الصحابة وعدالتهم فيقول

(2)

: (ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم، لا يجوز أن يدفع بنقولٍ بعضُها منقطع، وبعضها محرَّفٌ، وبعضها لا يقدح فيما علم، فإن اليقين لا يزول بالشك، ونحن قد تيقنا ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا، وما يصدق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلة العقل، من أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، فلا يقدح في هذا أمورٌ مشكوك فيها فكيف إذا علم بطلانُها؟!).

(ولا يكاد يخفى على الناظر في هذه القاعدة الجليلة وتطبيقاتها ما تتضمن من التيسير ورفع الحرج من جهة تخليص المكلف من الشك الذي قد يقع له فيورث الحيرةَ والترددَ، وذلك ببيان الطريق إلى ذلك، وهو إلغاء ذلك الشك واعتباره في حكم المعدوم والعمل بما تيقنه أولًا.

(1)

ينظر: المرجع السابق (ص 82).

(2)

ينظر: منهاج السنة النبوية (6/ 305).

ص: 46

ولا يعارض هذا الوجه من التيسير أنه قد يترتب عليه زيادة تكليف، كما إذا شك المصلي هل صلى ثلاثًا أو أربعًا في صلاة الرباعية؟ فإنه يجعلها ثلاثًا ويلزمه الإتيان برابعة؛ لأن مجرد دلالة المكلف على الطريق الذي يخرج بواسطته عن الشك والتردد يعدّ تيسيرًا ولو تضمن زيادة تكليف، ويدرك هذا -تمامًا- من كثرت شكوكُه وسيطر عليه التردد)

(1)

.

(1)

ينظر: القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، العبد اللطيف (2/ 668).

ص: 47

‌القاعدة الثالثة: المشقة تجلب التيسير

يعني: أن الصعوبة التي تصادف في شيء تكون سببًا باعثًا على تسهيل وتهوين ذلك الشيء. وبعبارة أخرى يجب التوسيع وقت الضيق، حتى لا يقع الناس في الحرج والمشقة.

ومن هنا كانت التسهيلات الشرعية بتجويز عقود القرض، والحوالة، والحجز، والوصية، والسلم، وإقالة البيع، والرهن، والإبراء، والشركة، والصلح، والوكالة، والإجارة، والمزارعة، والمساقاة، وشركة المضاربة، والعارية، والوديعة كلها مستندة على هذه القاعدة، وقد صار تجويزها دفعًا للمشقة وجلبًا للتيسير وتسمى:(رُخَصًا).

وفي حديث أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الهِرَّةِ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ»

(1)

.

وقد ذكر الشيخ السعدي رحمه الله أن هذا الحديث يدل على هذه القاعدة العظيمة، فقال

(2)

: (وذلك أصل كبير من أصول الشريعة، من جملته: أن هذه الأشياء التي يشق التحرز منها طاهرة، لا يجب غسلُ ما باشرت بفيها أو يدها أو رجلها، لأنه علل ذلك بقوله:«إنها من الطوافين عليكم والطوافات» ، كما أباح الاستجمار في محل الخارج من السبيلين، ومسح ما أصابته النجاسة من النعلين

(1)

أخرجه أبو داود برقم (75)، والترمذي برقم (92)، والنسائي برقم (68)، وأحمد في المسند برقم (22636)، وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح).

(2)

ينظر: بهجة قلوب الأبرار، السعدي (ص 64).

ص: 48

والخفين، وأسفل الثوب، وعفا عن يسير طين الشوارع النجس، وأبيح الدم الباقي في اللحم والعروق بعد الدم المسفوح، وأبيح ما أصابه فم الكلب من الصيد، وما أشبه ذلك مما يجمعه علة واحدة، وهي المشقة).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

(1)

: (ومن فوائد هذا الحديث: أن المشقة تجلب التيسير، وجهُه: أن الله تعالى رفع النجاسة عنها لمشقة التحرز منها، حيث إنها من الطوافين، ولو كانت نجسة وهي في البيت تشرب من الإناء، وتشرب من اللبن، وتأكل من الطعام لكان في ذلك مشقة.

ومن فوائد هذا الحديث: أن النجاسات التي يشق التحرز منها معفوٌّ عنها، وذكر العلماء من ذلك: يسير الدم النجس غير الخارج من السبيلين يعفى عنه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: جميع النجاسات يعفى عن يسيرها مع مشقة التحرز منها، وما قاله رحمه الله على القاعدة.

فعلى هذا الذين يستخدمون الحمير؛ والحمار كما تعرفون أنه يبول ويروث أحيانًا، فإذا وقف وبال على أرض صلبة سيصيب صاحبه الرشاش، فيقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن مثل هذا يعفى عنه لمشقة التحرز منه، وأخذَ القول من هذا التعليل؛ «إنها من الطوافين عليكم»

(2)

.

تعريف الرخصة:

تقدم أن التيسير المترتب على المشقة يسمى: رُخَصًا.

والرخصة لغة: التوسع، واليسر، والسهولة.

(1)

ينظر: فتح ذي الجلال والإكرام (1/ 96).

(2)

سبق تخريجه.

ص: 49

وفي اصطلاح الفقهاء: هي الأحكام التي ثبتت مشروعيتها بناء على الأعذار مع قيام الدليل المحرم توسعًا في الضيق.

مثال: إن بيع السلم بيع معدوم، وبما أن بيع المعدوم باطل، فكان من الواجب عدم تجويز هذا البيع، إلا أن احتياج الناس قبل الحصول على محصولاتهم للنقود، قد جوز هذا العقد تيسيرًا وتسهيلًا لهم.

كذلك للتيسير والتسهيل قد منح للمشتري خيار الغبن والتغرير

(1)

وجوز سماع شهادة النساء في الأشياء التي لا يمكن اطلاع الرجال عليها.

وجعل العقد الذي يحصل في البيع والإجارة والهبة والصلح على المال والإقرار والإبراء وتأجيل الدين وإسقاط الشفعة الناشئ عن إجبار وإكراه غير معتبر.

وكذلك اكتفي بأن يشاهد المشتري كومة القمح أو الشعير بدلا من أن يشاهد كل قمحة أو شعيرة يشتريها حتى يزول حق خيار الرؤية؛ لأنه لو لزم أن يرى المشتري كل حبة من الكومة لاستوجب ذلك صعوبة في البيع والشراء.

وكذلك اكتفي في الثياب برؤية الثوب من طرفه دون أن يراه المشتري جميعه، وكذلك جوز بيع الوفاء

(2)

دفعًا لمماطلة المدين وتسهيلًا للدائن لأن يستوفي دينه.

وجوز أيضًا خيار الشرط في البيع لمن له الخيار دفعًا للغرم الذي قد يحصل للبائع والمشتري بعد حصول البيع.

(1)

خِيَار الْغبن: هُوَ أَنْ يغر البَائِع المُشْتَرِي أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ غره الدَّلال، فللمغرر الخيار في فسخ العقد.

(2)

بيع الوفاء: مصطلح خاصٌّ بالمذهب الحنفي؛ وهو: البيع بشرط أن البائع متى ردَّ الثمن يرد المشتري إليه المبيع، وهو محرم عند الحنابلة والمالكية والشافعية، جائز عند الحنفية.

ص: 50

وجوز زواج المرأة بدون النظر إليها؛ لأنه لو لم يجز ذلك لامتنع الكثيرون عن تزويج بناتهم غيرة عليهن من رؤية الخاطبين.

وجوز وشرع الطلاق للتسهيل والتوسيع على الناس؛ لأن بقاء الزوجية حال وجود النفور والكراهية بين الزوجين مشقة عظمى وبلية كبرى عليهما معًا.

وجوزت الوصية ليتمكن الذي لم يوفق لعمل الخير في حياته من إجرائه بعد وفاته، وأخيرًا يجب أن يعلم أن المشقة تجلب التيسير إذا لم يوجد نصٌّ، وأما إذا وجد النصُّ، فلا يجوز العمل خلاف ذلك النصِّ بداعي جلب التيسير وإزالة المشقة

(1)

.

وقد عبر بعض الفقهاء عن هذه القاعدة بعبارة: (إذا ضاق الأمر اتسع).

وقد عزا الخطابي هذه العبارة إلى الشافعي رضي الله عنه عند كلامه على الذباب يقع في الماء القليل.

ويقرب منها: (الضرورات تبيح المحظورات)، ومن ثم التيمم والمسح وصلاة المتنفل قاعدًا، والرخص جميعها، إسقاطًا وتخفيفًا

(2)

.

قال السيوطي رحمه الله في الأشباه والنظائر

(3)

: (قول الشافعي رضي الله عنه: (إذا ضاق الأمر اتسع)، وقد أجاب بها في ثلاثة مواضع:

أحدها: فيما إذا فقدت المرأة وليَّها في سفر، فولَّت أمرها رجلًا يجوز. قال يونس بن عبد الأعلى: قلت له: كيف هذا؟ قال: إذا ضاق الأمر اتسع.

(1)

ينظر: درر الحكام في شرح مجلة الأحكام، علي أفندي (1/ 35).

(2)

ينظر: الأشباه والنظائر، السبكي (1/ 49).

(3)

ينظر: الأشباه والنظائر (ص 83).

ص: 51

الثاني: في أواني الخزف المعمولة بالسرجين؟

(1)

أيجوز الوضوء منها؟ فقال: إذ ضاق الأمر اتسع حكاه في البحر.

الثالث: حكى بعض شراح المختصر أن الشافعي رحمه الله، سئل عن الذباب يجلس على غائط، ثم يقع على الثوب فقال: إن كان في طيرانه ما يجف فيه رجلاه، وإلا فالشيء إذا ضاق اتسع).

ومن معاني هذه القاعدة قولهم: (لا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة)

(2)

.

فالشارع لم يوجب علينا ما لا نقدر عليه بالكلية، وما أوجبه من الواجبات فعجز عنه العبد سقط عنه، إذا قدر على بعضه وجب عليه ما يقدر عليه، وسقط عنه ما يعجز عنه، وأمثلتها كثيرة جدًّا.

وكذلك ما احتاج الخلق إليه لم يحرمه عليهم، والخبائث التي حرمها إذا اضطر إليها العبد فلا أثم عليه، فالضرورات تبيح المحظورات الراتبة، والمحظورات العارضة.

والضرورة تقدر بقدرها، تخفيفًا للشر.

فالضرورة تبيح المحرمات من المآكل والمشارب والملابس وغيرها

(3)

.

قال علاء الدين المرداوي رحمه الله

(4)

: (ودليل هذه القاعدة: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، إشارة إلى ما خفف عن هذه

(1)

السرجين: هو الزبل أو البعر والروث، وهو ما يعرف بالسماد الذي تسمد به الأشجار والزروع.

(2)

وسيأتي الكلام على هذه القاعدة.

(3)

ينظر: رسالة لطيفة في أصول الفقه المهمة للسعدي (ص 2 - 10).

(4)

ينظر: التحبير شرح التحرير (8/ 3847).

ص: 52

الأمة من التشديد على غيرهم، من الإصر ونحوه، وما لهم من تخفيفات أخر دفعًا للمشقة، كما قال تعالى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66].

وكذلك تخفيف الخمسين صلاة في الإسراء إلى خمس صلوات، وغير ذلك مما لا ينحصر.

وقد قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وقال في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وقال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال تعالى في دعائهم:{وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]، وغير ذلك.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السمحة»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة»

(2)

، في أحاديث وآثار كثيرة

(3)

.

ويدخل تحت هذه القاعدة: أنواع من الفقه، منها في العبادات: التيمم عند مشقة استعمال الماء على حسب تفاصيل في الفقه، والقعود في الصلاة عند مشقة القيام وفي النافلة مطلقًا، وقصر الصلاة في السفر، والجمع بين الصلاتين، ونحو ذلك.

ومن ذلك: رخص السفر وغيرها.

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (22291)، والطبراني في الكبير برقم (7715).

(2)

أخرجه أحمد في المسند برقم (2107)، والبخاري في الأدب المفرد برقم (287)، وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة برقم (881).

(3)

منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتم ميسرين» ، وحديث:«يسروا ولا تعسروا» .

ص: 53

ومن التخفيفات أيضًا: أعذار الجمعة والجماعة، وتعجيل الزكاة، والتخفيفات في العبادات لا تكاد تنحصر، وهي في المعاملات كثيرة جدًّا، وفي المناكحات، والجنايات، وفي كتاب القضاء. ومن التخفيفات المطلقة: فروض الكفايات وسننها، والعمل بالظنون لمشقة الاطلاع على اليقين، إلى غير ذلك).

وقد ذكر أبو عبد الله الزركشي رحمه الله في تشنيف المسامع بجمع الجوامع صورًا كثيرة لهذه القاعدة فقال

(1)

: (فهذه القاعدة داخلة أيضًا في العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات:

ففي العبادات: كون الصلوات خمسًا فقط، وتفريقها على الأوقات، وإباحة القصر والجمع فيها للمسافر، واغتفار الفعل الفاحش في الصلاة للخائف، وكيف أمكنه في حالة شدة الخوف، وإسقاطها بالأعذار من حيض أو صِبا أو جنون، واشتراط الطهارة فيها عن نجاسة تفحُش لا غير، والاكتفاء فيها بالتطهير برشٍّ في بول صبي، أو إبقاء أثر إذا عسِر زواله، واشتراط الوضوء في الأعضاء الأربعة دون جميع البدن، وعند الحدث لا عند كل صلاة، وإقامة التراب بدل الماء في مواضعه، ومسح الخف والرأس مقام الغسل، وأحكام الحيض والاستحاضة، وجعل المطهر الماء العام الموجود المتيسر الحصول، وعدم تنجيسه ببعض النجاسات، وعدم إفساده ببعض المغسولات والمغيرات، وإعادة الطهورية إليه بعد سلبها باستعمال أو تنجس أو غير ذلك، والاكتفاء في القبلة بمجتهد البلد ومحاريب المسلمين وعدم اعتبارها في حق العاجز والخائف، ومسافر يتنفل.

(1)

ينظر: تشنيف المسامع، الزركشي (3/ 466).

ص: 54

والعفو عن بعض الأفعال والأقوال، والاكتفاء بما يستطاع في أركان الصلاة، وشروطها في الخوف والأمن وإسقاط الأعذار للجمعة والجماعة.

والاستسقاء والكسوفين دون إيجابها، وجعل الجنازة فرض كفاية، كل ذلك تيسيرٌ جلَبَه مشقةُ ما سوى ذلك.

وتقريره تعالى نصب الزكوات مع اشتراط الحول، والسوم، وتقليل الواجب ورعاية العشر ونصفه، واعتبار المتمكن للأداء والضمان، وما يعفى عنه من خيل ورقيق وعقار وغير ذلك، وتعيين الأصناف المستحقين، وتجويز التعجيل والتوكُّل.

واستحباب صدقة التطوع الشاق تركها على سخي أو متقرب إلى الله تعالى، أو رقيق القلب رحمة من غير تقييد بجنس ولا قدر ولا مصرف ولا زمان ولا مكان.

وتقديره الصيام بشهر، وإلى الليل فقط، والعفو عما يشق وإباحة الفطر بالعذر واستحباب صيام التطوع، وكونه بنية من النهار وإباحة الخروج منه لمن يشاء، وتوسيع القضاء وفدية لحواملهم ونحوه.

ص: 55

وتقديره تعالى وجوب الحج بالاستطاعة والمواقيت بأماكنها المقاربة للحرم، وتقليل الأعمال، وتوسيع وجوبه، وتجويز النيابة فيه، وإباحة محظوراته بالعذر، وتقدير كفاراته، وتجويز التحلل بالإحصار والفوات وشبهه.

وإيجابه تعالى الجهاد على الكفاية، وفي السنة كلها مرة واحدة، وتجويز المتحرف للقتال والتحيز إلى فئة، والفرار لأكثر من الضعف وإحلال الغنائم، وقبول الجزية ونحوه.

وعفوه تعالى عن لغو اليمين وتكفيرها قبل الحنث، والتخيير بينها وبين المنذور لجاجًا. واستحبابه تعالى العتق والتدبير والكتابة من غير وجوب ولا تحريم، وإباحته تعالى الطيبات والتشبع منها، وإباحة الذبائح من كل مناكح ونحوه، وأنواع الصيد.

وأما الأموال: فإحلال الله تعالى البيع من غير إيجاب له، وإطلاقه في الأماكن والأزمان، وإثبات الخيار فيه، ثم جعله لازمًا، وإباحة الردِّ بالعيب وخلف الشرط، وتأجيل الثمن في أي جنس، وبأي قدر، والنهي عن العقود المؤدية وإباحة العرايا

(1)

والقرض، والسلم والحوالة والرهن والصلح، والضمان وإحلاله الإجارة والعارية وتجويز عقد الإرفاق، وجعلها غير لازمة، كالوكالة والقراض والشركة العارية والوديعة.

وشرعية الأوقاف والهبات والهدايا والمواريث والوصايا، وإحياء الموات واللقطة، ومن ذلك الشفعة والقسمة وما يوهم ضررًا.

وأما النكاح: فإباحته من غير إيجاب وإطلاقه في غير المحارم، وتجويز مثنى وثلاث ورباع ومن غير معاينة، وإطلاق الاستمتاع فيه، وتفويضه للأولياء، وتقرير أنكحة الكفار، وتجويز فسخه بأسباب الفسخ، وإطلاق الصداق في الجنس والقدر وتشطيره، وإسقاطه بالمفارقة، وإيجاب القسم وحسن المعاشرة، وإباحة الخلع والطلاق والرجعة ومطالبة الولي، وتحريم الظهار،

(1)

قال النووي رحمه الله في شرحه على مسلم (10/ 188): (وأما العرايا: فهي أن يخرص الخارص نخلات، فيقول، هذا الرطب الذي عليها إذا يبس تجيء منه ثلاثة أوسق، فهو بيع الرطب على النخل بالتمر على الأرض خرصًا، فيخرص ما على النخل من الرطب وما يجيء منه من التمر إذا جف، ثم يبيع ذلك بمثله تمرًا ويسلمه إليه قبل التفرق، وقد أجيز ذلك للحاجة).

ص: 56

وإعادة الحل للمظاهر بالكفارة، وإيجاب النفقات وجعلها على الموسر قدره وعلى المقتر قدره.

وأما الجنايات: فبالعصمة في غير العمد المحض، ورعاية المماثلة، وتحريم المثلة، وتجويز العفو وقتال البغاة.

والإعلام بأنه تعالى لم يجعل شفاء فيما حرم، وإنما الخمر داء، وأن التعريض ليس بقذف.

وجعل الإمامة والقضاء على الكفاية، واعتماد الظاهر ولو بالاجتهاد وإثابة من أخطأ دون تأثيمه ورد شهادة المتهم وقبول غيرها، واليمين مع الشاهد، ورجل مع امرأتين والنسوة الخلص في مواطن الحاجة، وأمثلة ذلك كثيرة).

وأحسن جلال الدين السيوطي رحمه الله في الأشباه والنظائر

(1)

الكلام عن هذه القاعدة وذكر الأسباب التي تدعو إلى استعمالها فقال: (واعلم أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها سبعة:

الأول: السفر: قال النووي: ورُخَصُه ثمانية، منها: ما يختص بالطويل قطعًا وهو القَصر والفطر والمسح أكثر من يوم وليلة.

ومنها: ما لا يختص به قطعًا، وهو ترك الجمعة وأكل الميتة.

ومنها: ما فيه خلاف، والأصح اختصاصُه به

(2)

وهو الجَمع.

ومنها: ما فيه خلاف، والأصح عدم اختصاصه به، وهو التنفل على الدابة وإسقاط الفرض بالتيمم.

(1)

ينظر: الأشباه والنظائر (ص 77)، وينظر أيضًا: الأشباه والنظائر، ابن نجيم (ص 64)، وغمز عيون البصائر، أحمد مكي (1/ 245).

(2)

على مذهبه.

ص: 57

واستدرك ابن الوكيل رخصةً تاسعة، صرح بها الغزالي وهي: ما إذا كان له نسوة وأراد السفر، فإنه يقرع بينهن، ويأخذ من خرجت لها القرعة، ولا يلزمه القضاء لضراتها إذا رجع.

الثاني: المرض: ورخصه كثيرة: التيمم عند مشقة استعمال الماء، وعدم الكراهة في الاستعانة بمن يصب عليه أو يغسل أعضاءه، والقعود في صلاة الفرض وخطبة الجمعة والاضطجاع في الصلاة.

والإيماء والجمع بين الصلاتين وهو المختار، والتخلف عن الجماعة والجمعة مع حصول الفضيلة كما تقدم، والفطر في رمضان وترك الصوم للشيخ الهرم مع الفدية، والانتقال من الصوم إلى الإطعام في الكفارة.

والخروج من المعتكف وعدم قطع التتابع المشروط في الاعتكاف، والاستنابة في الحج وفي رمي الجمار، وإباحة محظورات الإحرام مع الفدية، والتحلل على وجه، فإن شرطه فعلى المشهور.

الثالث: الإكراه.

الرابع: النسيان.

الخامس: الجهل.

السادس: العسر وعموم البلوى: كالصلاة مع النجاسة المعفو عنها، كدم القروح والدمامل والبراغيث، والقيح والصديد، وقليل دم الأجنبي وطين الشارع، وأثر نجاسة عسِر زواله، وذرق الطيور

(1)

إذا عم في المساجد والمطاف وما يصيب الحب في الدوس من روث البقر وبوله.

(1)

ذرق الطيور: خرؤها.

ص: 58

ومن ذلك: العفو عما لا يدركه الطرفُ وما لا نفس له سائلة

(1)

، وريق النائم، وفم الهرة.

ومن ذلك: مشروعية الاستجمار بالحجر وإباحة الاستقبال والاستدبار في قضاء الحاجة في البنيان.

وجواز المسح على العمامة لمشقة استيعاب الرأس، ومسح الخف في الحضر لمشقة نزعه في كل وضوء، ومن ثم وجب نزعه في الغسل لعدم تكرره.

وأنه لا يحكم على الماء بالاستعمال ما دام متردّدا على العضو، ولا يضره التغيير بالمكث والطين والطحلب وكل ما يعسر صونه عنه، وإباحة الأفعال الكثيرة والاستدبار في صلاة شدة الخوف، وإباحة النافلة على الدابة في السفر وفي الحضر على وجهٍ، وإباحة القعود فيهما مع القدرة، وكذا الاضطجاع والإبراد بالظهر في شدة الحر، ومن ثم لا إبراد بالجمعة لاستحباب التبكير إليها.

والجمع في المطر، وترك الجماعة والجمعة بالأعذار المعروفة وعدم وجوب قضاء الصلاة على الحائض لتكررها بخلاف الصوم وبخلاف المستحاضة لندرة ذلك، وأكل الميتة ومال الغير مع ضمان البدل إذا اضطُر، وأكل الولي من مال اليتيم بقدر أجرة عمله إذا احتاج، وجواز تقديم نية الصوم على أوله، ونية صوم النفل بالنهار، وإباحة التحلل من الحج بالإحصار والفوات، ولبس الحرير للحكة والقتال، وبيع نحو الرمان والبيض في قشره، والموصوف في الذمة وهو السلم، مع النهي عن بيع الغرر.

ومشروعية الخيار لما كان البيع يقع غالبا من غير ترَوٍّ ويحصل فيه الندم فيشق على العاقد، فسهل الشارع ذلك عليه بجواز الفسخ في مجلسه، وشرع له

(1)

أي: دم يجري؛ كالبق والبراغيث والذباب.

ص: 59

أيضًا شرطه ثلاثة أيام، ومشروعية الرد بالعيب، والتحالف، والإقالة والحوالة، والرهن، والضمان والإبراء، والقرض، والشركة، والصلح، والحجر، والوكالة، والإجارة، والمساقاة، والمزارعة، والقراض، والعارية، الوديعة للمشقة العظيمة في أن كل أحد لا ينتفع إلا بما هو ملكه، ولا يستوفي إلا ممن عليه حقه، ولا يأخذه إلا بكماله، ولا يتعاطى أموره إلا بنفسه، فسهل الأمر بإباحة الانتفاع بملك الغير، بطريق الإجارة أو الإعارة أو القراض، وبالاستعانة بالغير وكالة، وإيداعًا، وشركة وقراضًا ومساقاة، وبالاستيفاء من غير المديون حوالة، وبالتوثق على الدين برهن وضامن وكفيل وحجر، وبإسقاط بعض الدين صلحًا، أو كله إبراء.

ومن التخفيف: جواز العقود الجائزة؛ لأن لزومها يشق، ويكون سببًا لعدم تعاطيها ولزوم اللازم، وإلا لم يستقر بيع ولا غيره.

ومنه: إباحة النظر عند الخطبة، وللتعليم، والإشهاد والمعاملة والمعالجة وللسيد.

ومنه: جواز العقد على المنكوحة من غير نظر، لما في اشتراطه من المشقة التي لا يحتملها كثير من الناس في بناتهم وأخواتهم من نظر كل خاطب فناسب التيسير لعدم اشتراطه، بخلاف المبيع فإن اشتراط الرؤية فيه لا يفضي إلى عسر ومشقة.

ومنه: إباحة أربع نسوة فلم يقتصر على واحدة تيسيرًا على الرجال وعلى النساء أيضًا لكثرتهن ولم يزد على أربع لما فيه من المشقة على الزوجين في القسم وغيره.

ومنه: مشروعية الطلاق، لما في البقاء على الزوجية من المشقة عند التنافر، وكذا مشروعية الخلع والافتداء والفسخ بالعيب ونحوه، والرجعة في العدة لما كان الطلاق يقع غالبًا بغتة في الخصام والجرح ويشق عليه التزامه فشرعت له

ص: 60

الرجعة في تطليقتين: ولم تشرع دائمًا لما فيه من المشقة على الزوجة إذا قصد إضرارها بالرجعة والطلاق كما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ.

ومنه: مشروعية الإجبار على الوطء أو الطلاق في المولي.

ومنه: مشروعية الكفارة في الظهار واليمين تيسيرًا على المكلفين لما في التزام موجب ذلك من المشقة عند الندم.

وكذا مشروعية التخيير في كفارة اليمين لتكرره بخلاف كفارة الظهار والقتل والجماع لندرة وقوعها، ولأن المقصود الزجر عنها.

ومشروعية التخيير في نذر اللجاج: بين ما التزم والكفارة لما في الالتزام بالنذور لجاجًا من المشقة.

ومنه: مشروعية التخيير بين القصاص والدية تيسيرًا على هذه الأمة على الجاني والمجني عليه، وكان في شرع موسى صلى الله عليه وآله القصاص متحتمًا ولا دية.

وفي شرع عيسى صلى الله عليه وآله الدية ولا قصاص.

ومنه: مشروعية الكتابة، ليتخلص العبد من دوام الرقِّ لما فيه من العسر، فيرغب السيد الذي لا يسمح بالعتق مجانًا، بما يبذل له من النجوم.

ومنه: مشروعية الوصية عند الموت ليتدارك الإنسان ما فرط منه في حال الحياة وفسح له في الثلث دون ما زاد عليه دفعًا لضرر الورثة، فحصل التيسير ودفع المشقة في الجانبين.

ومنه: إسقاط الإثم عن المجتهدين في الخطأ والتيسير عليهم بالاكتفاء بالظن ولو كلفوا الأخذ باليقين لشق وعسر الوصول إليه.

فقد بان بهذا أن هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه.

ص: 61

السابع: النقص: فإنه نوع من المشقة إذ النفوس مجبولة على حب الكمال، فناسبه التخفيف في التكليفات.

فمن ذلك: عدم تكليف الصبي، والمجنون، وعدم تكليف النساء بكثير مما يجب على الرجال: كالجماعة، والجمعة، والجهاد والجزية، وتحمل العقل، وغير ذلك وإباحة لبس الحرير، وحل الذهب، وعدم تكليف الأرقاء بكثير، مما على الأحرار، ككونه على النصف من الحر في الحدود والعدد وغير ذلك).

فوائد تتعلق بهذه القاعدة:

وهذه الفوائد ذكرها الإمام السيوطي رحمه الله في كتاب الأشباه والنظائر

(1)

، وهي مما يضبط هذه القاعدة، ويحدد طرق ومسارات استخدامها.

الفائدة الأولى: أقسام المشقة:

وقد قسم السيوطي رحمه الله المشقة إلى قسمين:

القسم الأول: مشقة لا تنفك عنها العبادة غالبًا، كمشقة البرد في الوضوء والغسل، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، ومشقة ألم الحدود، ورجم الزناة، وقتل الجناة، فلا أثر لهذه في إسقاط العبادات في كل الأوقات.

القسم الثاني: المشقة التي لا تنفك عنها العبادات غالبًا، فهذه على مراتب:

الأولى: مشقة عظيمة فادحة: كمشقة الخوف على النفوس، والأطراف ومنافع الأعضاء فهي موجبة للتخفيف والترخيص قطعًا؛ لأن حفظ النفوس والأطراف لإقامة مصالح الدين أولى من تعريضها للفوات في عبادة، أو عبادات يفوت بها أمثالها.

(1)

ينظر: الأشباه والنظائر (ص 80 - 82).

ص: 62

الثانية: مشقة خفيفة لا وقع لها، كأدنى وجع في إصبع، وأدنى صداع في الرأس، أو سوء مزاج خفيف، فهذه لا أثر لها، ولا التفات إليها، لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها.

الثالثة: متوسطة بين هاتين المرتبتين.

فما دنا من المرتبة العليا، أوجب التخفيف، أو من الدنيا، لم يوجبه كحُمَّى خفيفة ووجع الضرس اليسير، وما تردد في إلحاقه بأيهما اختلف فيه ولا ضبط لهذه المراتب، إلا بالتقريب.

الفائدة الثانية: أنواع تخفيفات الشرع:

قال الشيخ عز الدين: تخفيفات الشرع ستة أنواع:

الأول: تخفيف إسقاط، كإسقاط الجمعة والحج، والعمرة، والجهاد بالأعذار.

الثاني: تخفيف تنقيص، كالقصر.

الثالث: تخفيف إبدال، كإبدال الوضوء، والغسل بالتيمم، والقيام في الصلاة بالقعود والاضطجاع، أو الإيماء، والصيام بالإطعام.

الرابع: تخفيف تقديم، كالجَمْع، وتقديم الزكاة على الحول، وزكاة الفطر في رمضان، والكفارة على الحنث.

الخامس: تخفيف تأخير، كالجمْع، وتأخير رمضان للمريض والمسافر، وتأخير الصلاة في حق مشتغل بإنقاذ غريق، أو نحوه من الأعذار الآتية.

السادس: تخفيف ترخيص، كصلاة المستجمر، مع بقية النجوِ، وشرب الخمر للغصةِ، وأكل النجاسة للتداوي، ونحو ذلك.

ص: 63

واستدرك العلائي سابعًا: وهو: تخفيف تغيير، كتغير نظم الصلاة في الخوف.

الفائدة الثالثة: أقسام الرخص:

الرخص أقسام: ما يجب فعلُها: كأكل الميتة للمضطر، والفطر لمن خاف الهلاك بغلبة الجوع والعطش وإن كان مقيمًا صحيحًا، وإساغة الغُصَّة بالخمر.

وما يندب: كالقصر في السفر والفطر لمن يشق عليه الصوم في سفر، أو مرض، والإبراد بالظهر، والنظر إلى المخطوبة.

وما يباح: كالسلم.

وما الأولى تركها: كالمسح على الخف، والجمع والفطر لمن لا يتضرر، والتيمم لمن وجد الماء يباع بأكثر من ثمن المثل، وهو قادر عليه.

وما يكره فعلها: كالقصر في أقل من ثلاثة مراحل).

وينبغي أن يعلم أن هذا التيسير ينبغي أن تكون أتت به الشريعة لا عن الهوى، وإلا لتعطلت الكثير من الأحكام بدعوى المشقة، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

(1)

: (المشقة تجلب التيسير، ولكن التيسير في حدود الشريعة، فليس كل ما شقَّ جاز أن ييسَّر وإلا لقلنا: إن الربا يجوز إذا دعا ضعف الاقتصاد إليه وما أشبه ذلك، لكن نقول: المشقة تجلب التيسير في حدود الشريعة، بمعنى: أن الشريعة تلاحظ المشقة فتيسر).

(1)

ينظر: فتح ذي الجلال والإكرام (1/ 527).

ص: 64

‌القاعدة الرابعة: الضرر يزال

وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»

(1)

.

قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم

(2)

: (واختلفوا: هل بين اللفظين -أعني: الضر والضرار- فرق أم لا؟

فمنهم من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد، والمشهور أن بينهما فرقًا، ثم قيل: إن الضرر هو الاسم، والضرار الفعل، فالمعنى: أن الضرر نفسه منتف في الشرع، وإدخال الضرر بغير حق كذلك.

وقيل: الضرر: أن يدخل على غيره ضررًا بما ينتفع هو به، والضرار: أن يدخل على غيره ضررًا بلا منفعة له به، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع، ورجح هذا القول طائفة، منهم ابن عبد البر، وابن الصلاح.

وقيل: الضرر: أن يضر بمن لا يضره، والضرار: أن يضر بمن قد أضر به على وجه غير جائز.

وبكل حال فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الضرر والضرار بغير حق.

(1)

أخرجه مالك في الموطأ برقم (2758)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (11496)، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه مرسلًا. وأخرجه ابن ماجه برقم (2340)، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في المسند برقم (2865)، وابن ماجه برقم (2341)، عن ابن عباس رضي الله عنهما. قال الألباني: صحيح لغيره. وأخرجه الدارقطني في سننه برقم (3079)، والحاكم في المستدرك برقم (2345)، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرك مسلم ولم يخرجاه.

(2)

ينظر: جامع العلوم والحكم (2/ 212).

ص: 65

فأما إدخال الضرر على أحد بحقٍّ، إما لكونه تعدى حدود الله، فيعاقب بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهذا غير مراد قطعا، وإنما المراد: إلحاق الضرر بغير حق).

وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين

(1)

: (فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقَّاه على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به).

وقولهم: (الضرر يزال): أي: تجب إزالته، لأن الإخبار في كلام الفقهاء للوجوب

(2)

، فيجب رفع الضرر بعد وقوعه، وهذه إحدى القواعد بشأن الضرر، من حظر وقوعه، ووجوب إزالته بعد الوقوع

(3)

.

ومن فروع هَذِه الْقَاعِدَة: شرع الزواجر من الْحُدُود، وَالضَّمان، وردُّ المغصوب مَعَ قيام عينه، وضمانُه بالتلف، وارتكابُ أخف الضررين، والتطليق بالإضرار والإعسار، وَمنع الْجَار من إِحْدَاث مَا يضر بجاره وَنَحْو ذَلِك

(4)

.

فهذه القاعدة أيضًا كثيرة التوغل في أبواب الفقه كالحدود، فهي لدفع الضرر عن الضروريات الخمسِ المعتبرة بالإجماع

(5)

.

قال علاء الدين المرداوي رحمه الله في التحبير شرح التحرير

(6)

: (وهذه

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (3/ 372).

(2)

ينظر: شرح القواعد الفقهية، أحمد الزرقا (ص 179).

(3)

ينظر: القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب، الزحيلي (1/ 210).

(4)

ينظر: منهج التشريع الإسلامي وحكمته، الشنقيطي (ص 28).

(5)

ينظر: الغيث الهامع شرح جمع الجوامع، أبي زرعة العراقي (ص 659).

(6)

ينظر: التحبير شرح التحرير (8/ 3846).

ص: 66

القاعدة فيها من الفقه ما لا حصر له، ولعلها تتضمن نصفَه، فإن الأحكام إما لجلب المنافع أو لدفع المضار، فيدخل فيها دفع الضروريات الخمس التي هي: حفظ الدين، والنفس، والنسب، والمال، والعرض، كما سبق ذلك وشرحه، وغير ذلك).

وهذه القاعدة ترجع إلى تحصيل المقاصد، وتقريرها بدفع المفاسد أو تخفيفها.

وقال الشيخ عبد الوهاب خلاف رحمه الله

(1)

: (وهذا بيان المبادئ الخاصة بدفع الضرر، وأمثلة مما تفرع على كل مبدأ منها:

1 -

الضرر يزال شرعًا: من فروعه: ثبوتُ حقِّ الشفعة للشريك أو الجار، وثبوت الخيار للمشتري في ردِّ المبيع بالعيب وسائر أنواع الخيارات، والجبر على القسمة إذا امتنع الشريك، ووجوب الوقاية والتداوي من الأمراض، وقتل الضار من الحيوان، وتشريع العقوبات على الجرائم من حدود وتعازير وكفارات.

2 -

الضرر لا يزال بالضرر: من فروعه: لا يجوز للإنسان أن يدفع الغرق عن أرضه بإغراق أرض غيره، ولا أن يحفظ ماله بإتلاف مال غيره، ولا يجوز للمضطر أن يتناول طعام مضطر آخر.

3 -

يُتحمَّل الضرر الخاص لدفع الضرر العام: من فروعه: يقتل القاتل لتأمين الناس على نفوسهم، تقطع اليد لتأمين الناس على أموالهم، يهدم الجدار الآيل للسقوط في الطريق العام، يحجز على المفتي الماجن، والطبيب الجاهل،

(1)

ينظر: علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف (ص 194).

ص: 67

والمكاري المفلس، يباع مال المدين جبرًا عنه إذا امتنع عن بيعه وأداءِ دينه، تسعَّر أثمان الحاجياتِ إذا غلا أربابها في أثمانِها، يباع الطعام جبرًا على مالكه، إذا احتكر واحتاج الناس إليه وامتنع من بيعه، يُمنع اتخاذُ حانوت حداد بين تجار الأقمشة.

4 -

يرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما: من فروعه: يحبس الزوج إذا ماطل في القيام بنفقة زوجته، يحبس القريب إذا امتنع عن الإنفاق على قريبه، وتطلق الزوجة للضرر وللإعسار، إذا اضطر المريض إلى تناول الميتة أو مال الغير تناوله، إذا عجز مريض الصلاة عن التطهير، أو ستر العورة أو استقبال القبلة صلى كما قدر؛ لأن ترك هذه الشروط أخف من ترك الصلاة.

5 -

دفعُ المضار مقدم على جلب المنافع: ولذا جاء في الحديث: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»

(1)

. ومن فروعه: يمنع أن يتصرف المالك في ملكه إذا كان تصرفه يضر بغيره، يكره للصائم أن يبالغ في المضمضة، أو الاستنشاق.

6 -

الضرورات تبيح المحظورات: من فروعه: من اضطر في مخمصة إلى ميتة أو دم أو أي محرم فلا إثم عليه في تناوله، من لم يستطع الدفاع عن نفسه إلا بالإضرار بغيره فلا إثم عليه في الدفاع به، من امتنع من أداء دينه يؤخذ الدين من ماله بغير إذنه.

7 -

الضرورات تقدَّر بقدرها: من فروعه: ليس للمضطر أن يتناول من المحرم إلا قدر ما يسدُّ الرَّمق، ولا يعفى من النجاسة إلا القدر الذي لا يمكن الاحتراز عنه، وأحكام الرخص تبطل إذا زالت أسبابها، فالتيمم يبطل إذا تيسر التطهر بالماء، والفطر يحرم في رمضان إذا أقام المسافر الصحيح، وكل ما جاز لعذر يبطل بزواله).

(1)

أخرجه البخاري برقم (7288)، ومسلم برقم (1337)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 68

أنواع الضرر المذموم:

قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم

(1)

: (إن الضرر المنهي عنه وهو الضرر بغير حق وهو على نوعين:

أحدهما: ألّا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه، وقد ورد في القرآن النهي عن المضارة في مواضع: منها في الوصية، قال الله تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]، وفي حديث أبي هريرة المرفوع:«إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضره الموت، فيضار في الوصية، فيدخل النار» ، ثم تلا: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ

إلى قوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 13، 14]، وقد خرجه الترمذي وغيره بمعناه

(2)

.

وقال ابن عباس: الإضرار في الوصية من الكبائر، ثم تلا هذه الآية

(3)

.

والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يخصَّ بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي فرضه الله له، فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارثٍ»

(4)

.

(1)

ينظر: جامع العلوم والحكم (2/ 212) باختصار.

(2)

أخرجه بنحوه أبو داود برقم (2867)، والترمذي برقم (2117)، وابن ماجه برقم (2704)، وأحمد في المسند برقم (7742) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن غريب.

(3)

أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير برقم (4939)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (12586)، وذكره اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (6/ 1103).

(4)

أخرجه أبو داود برقم (2870)، وابن ماجه برقم (2713)، وأحمد في المسند برقم (22294)، عن أبي أمامة رضي الله عنه، وورد عن عمرو بن خارجة رضي الله عنه.

ص: 69

وتارة بأن يوصي لأجنبي بزيادة على الثلث، فتنقص حقوق الورثة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الثلث والثلث كثير»

(1)

.

ومتى وصَّى لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث، لم ينفذ ما وصَّى به إلا بإجازة الورثة، وسواء قصد المضارة أو لم يقصد.

وأما إن قصد المضارَّةَ بالوصية لأجنبي بالثلث، فإنه يأثم بقصده المضارة، وهل تُرَدُّ وصيته إذا ثبت بإقراره أم لا؟ حكى ابن عطية رواية عن مالك أنها تُرد، وقيل: إنه قياس مذهب أحمد.

ومنها: الرجعة في النكاح، وقال تعالى:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231]، وقال:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228].

فدل ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة، فإنه آثم بذلك، وهذا كما كانوا في أول الإسلام قبل حصرِ الطلاق في ثلاث يُطلق الرجل امرأته، ثم يتركها حتى يقارب انقضاءَ عدتها، ثم يراجعها، ثم يطلقها، ويفعل ذلك أبدًا بغير نهاية، فيدع المرأة لا مطلقة ولا ممسَكة، فأبطل الله ذلك، وحصر الطلاق في ثلاث مرات.

ومنها: في الإيلاء، فإن الله جعل مدة المُؤلي أربعة أشهر إذا حلف الرجل على امتناعه من وطء زوجته، فإنه يضرب له مدة أربعة أشهر، فإن فاء ورجع إلى الوطء، كان ذلك توبته، وإن أصرَّ على الامتناع لم يمكَّن من ذلك، وفيه قولان للسلف والخلف:

(1)

أخرجه البخاري برقم (22742)، ومسلم برقم (1628)، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

ص: 70

أحدهما: أنها تطلق عليه بمضي هذه المدة.

والثاني: أنه يوقف، فإن فاء، وإلا أمر بالطلاق، ولو ترك الوطء لقصد إضرار بغير يمين مدة أربعة أشهر، فقال كثير من أصحابنا: حكمُه حكم المؤلي في ذلك، وقالوا: هو ظاهر كلام أحمد.

وكذا قال جماعة منهم: إذا ترك الوطء أربعة أشهر لغير عذر، ثم طلبت الفرقة فرق بينهما؛ بناء على أن الوطء عندنا في هذه المدة واجب.

واختلفوا: هل يعتبر لذلك قصد الإضرار أم لا يعتبر؟ ومذهب مالك وأصحابه إذا ترك الوطء من غير عذر، فإنه يفسخ نكاحُه، مع اختلافهم في تقدير المدة.

ولو أطال السفر من غير عذر، وطلبت امرأته قدومه، فأبى، فقال مالك وأحمد وإسحاق: يفرقُ الحاكم بينهما، وقدره أحمد بستة أشهر، وإسحاق بمضي سنتين.

ومنها في الرضاع، قال تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]، قال مجاهد في قوله:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} .

قال: لا يَمنع أمَّه أن ترضعه ليحزنَها، وقال عطاء وقتادة والزهري وسفيان والسدي وغيرهم: إذا رضيت ما يرضى به غيرها، فهي أحقُّ به، وهذا هو المنصوص عن أحمد، ولو كانت الأم في حبال الزوج.

وقيل: إن كانت في حبال الزوج، فله منعُها من إرضاعه، إلا ألّا يمكن ارتضاعُه من غيرها، وهو قول الشافعي وبعض أصحابنا، لكن إنما يجوز ذلك إذا كان قصد الزوج به توفير الزوجة للاستمتاع، لا مجرد إدخال الضرر عليها.

ص: 71

وقوله: {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233]، يدخل فيه أن المطلقة إذا طلبت إرضاع ولدها بأجرة مثلها، لزم الأب إجابتُها إلى ذلك، وسواء وجد غيرها أو لم يوجد، هذا منصوص الإمام أحمد.

فإن طلبت زيادة على أجرة مثلها زيادة كثيرة، ووجد الأب من يرضعه بأجرة المثل، لم يلزم الأب إجابتها إلى ما طلبت، لأنها تقصد المضارة، وقد نصَّ عليه الإمام أحمد.

ومنها في البيع، قد ورد النهي عن بيع المضطر

(1)

.

وقال عبد الله بن معقل: بيع الضرورة ربا.

وقال حرب: سئل أحمد عن بيع المضطر، فكرهه

(2)

، فقيل له: كيف هو؟ قال: يجيئك وهو محتاج، فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين، وقال أبو طالب: قيل لأحمد: إن ربح بالعشرة خمسة؟ فكره ذلك، وإن كان المشتري مسترسلًا لا يحسن أن يماكس، فباعه بغبن كثير، لم يجز أيضًا.

قال أحمد: الخلابة: الخداع، وهو أن يغبنَه فيما لا يتغابن الناس في مثله؛ يبيعه ما يساوي درهما بخمسة، ومذهب مالك وأحمد أنه يثبت له خيار الفسخ بذلك.

(1)

أخرجه أبو داود برقم (3382)، والبيهقي في السنن الكبرى (11076 - 11077)، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال البيهقي رحمه الله في معرفة السنن والآثار (8/ 181):(وأما حديث علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن بيع المضطر»، فإنه إنما رواه أبو عامر صالح بن رستم، عن شيخ من بني تميم، عن علي، فهو عن مجهول، ثم هو محمول عندنا على الذي يضطر إلى البيع بالإكراه على البيع، والله أعلم. وإن أراد الذي يضطر إلى البيع بدين ركبه، أو فقر أصابه، فكأنه استحب أن يعان ولا يحوج إلى البيع بترك معونته والتصدق عليه، وبالله التوفيق).

(2)

ينظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق، الكوسج (6/ 2557).

ص: 72

ولو كان محتاجًا إلى نقد، فلم يجد من يقرضه، فاشتري سلعة بثمن إلى أجل في ذمته، ومقصوده بيع تلك السلعة، ليأخذ ثمنها، فهذا فيه قولان للسلف، ورخص أحمد في رواية، وقال في رواية: أخشى أن يكون مضطرًّا؛ فإن باع السلعة من بائعها له، فأكثر السلف على تحريم ذلك، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم.

ومن أنواع الضرر في البيوع: التفريق بين الوالدة وولدها في البيع، فإن كان صغيرًا، حرم بالاتفاق، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة»

(1)

، فإن رضيت الأم بذلك، ففي جوازه اختلاف، ومسائل الضرر في الأحكام كثيرة جدًّا، وإنما ذكرنا هذا على وجه المثال.

والنوع الثاني: أن يكون له غرض آخر صحيح، مثل أن يتصرف في مُلكه بما فيه مصلحة له، فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره، أو يمنع غيره من الانتفاع بملكه توفيرًا له، فيتضرر الممنوع بذلك.

فأما الأول: وهو التصرف في ملكه بما يتعدى ضرره إلى غيره، فإن كان على غير الوجه المعتاد، مثل أن يؤجج في أرضه نارًا في يوم عاصف، فيحترق ما يليه، فإنه متعدٍّ بذلك، وعليه الضمان، وإن كان على الوجه المعتاد، ففيه للعلماء قولان مشهوران:

(1)

أخرجه الترمذي برقم (1566)، وأحمد في المسند برقم (23466)، والحاكم في المستدرك برقم (2334)، وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وقال الترمذي: حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، كرهوا التفريق بين السبي بين الوالدة وولدها، وبين الولد والوالد، وبين الإخوة)، وحسنه الألباني.

ص: 73

أحدهما: لا يمنع من ذلك، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما.

والثاني: المنع، وهو قول أحمد، ووافقه مالك في بعض الصور.

فمن صور ذلك: أن يفتح كُوَّةً في بنائه العالي مشرفة على جاره، أو يبني بناء عاليًا يشرف على جاره ولا يستره، فإنه يُلزم بستره، نصَّ عليه أحمد، ووافقه طائفة من أصحاب الشافعي، قال الروياني منهم في كتاب الحلية: يجتهد الحاكم في ذلك، ويمنع إذا ظهر له التعنت، وقصد الفساد، قال: وكذلك القول في إطالة البناء ومنع الشمس والقمر.

وقد خرج الخرائطي وابن عدي بإسناد ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا حديثًا طويلًا في حق الجار، وفيه:«ولا يستطيل عليه بالبناء فيحجب عنه الريح إلا بإذنه»

(1)

.

ومنها: أن يحفر بئرًا بالقرب من بئر جاره فيذهب ماؤها، فإنها تطمُّ في ظاهر مذهب مالك وأحمد.

ومنها: أن يحدث في ملكه ما يضر بملك جاره من هزٍّ أو دقٍ ونحوهما، فإنه يمنع منه في ظاهر مذهب مالك وأحمد، وهو أحد الوجوه للشافعية.

وكذا إذا كان يضرُّ بالسكان، كما إذا كان له رائحة خبيثة ونحو ذلك.

ومنها: أن يكون له ملك في أرض غيره، ويتضرر صاحب الأرض بدخوله إلى أرضه، فإنه يجبر على إزالته ليندفعَ به ضررُ الدخول، وخرج أبو داود في سننه من حديث أبي جعفر محمد بن علي أنه حدث سمرة بن جندب أنه كانت له عضد من نخل في حائط رجل من الأنصار، ومع الرجل أهله، فكان سمرة

(1)

ينظر: الكامل، ابن عدي (6/ 292).

ص: 74

يدخل إلى نخله، فيتأذى به ويشق عليه، فطلب إليه أن يناقله، فأبى فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، قال: فهبه له ولك كذا وكذا أمرًا رغبه فيه، فأبى، فقال: أنت مضارٌّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصاري:«اذهب فاقلع نخله»

(1)

، وقد روي عن أبي جعفر مرسلًا.

قال أحمد في رواية حنبل بعد أن ذكر له هذا الحديث: كل ما كان على هذه الجهة وفيه ضرر، يمنع من ذلك، فإن أجاب وإلا أجبره السلطان، ولا يضر بأخيه في ذلك، فيه مرفق له.

وأما الثاني: -وهو منع الجار من الانتفاع بملكه، والارتفاق به- فإن كان ذلك يضر بمن انتفع بملكه، فله المنع كمن له جدارٌ واهٍ لا يحتمل أن يُطرح عليه خشب، وأما إن لم يضر به، فهل يجب عليه التمكين، ويحرم عليه الامتناع أم لا؟ فمن قال في القسم الأول: لا يمنع المالك من التصرف في ملكه، وإن أضر بجاره، قال هنا: للجار المنع من التصرف في ملكه بغير إذنه، ومن قال هناك بالمنع، فاختلفوا هاهنا على قولين:

أحدهما: المنع هاهنا وهو قول مالك.

والثاني: أنه لا يجوز المنع، وهو مذهب أحمد في طرح الخشب على جدار دار جاره، ووافقه الشافعي في القديم وإسحاق وأبو ثور، وداود، وابن المنذر، وعبد الملك بن حبيب المالكي، وحكاه مالك عن بعض قضاة المدينة.

(1)

أخرجه أبو داود برقم (2636)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق برقم (584)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (11883)، وفي معرفة السنن والآثار برقم (12269).

ص: 75

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبه على جداره» ، قال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرْمِيَنَّ بها بين أكتافكم

(1)

.

وقضى عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة أن يُجري ماء جاره في أرضه، وقال: لتمرنَّ به ولو على بطنك

(2)

.

وفي الإجبار على ذلك روايتان عن الإمام أحمد، ومذهب أبي ثور الإجبار على إجراء الماء في أرض جاره إذا أجراه في قني في باطن أرضه، نقله عنه حرب الكرماني.

ومما ينهى عن منعه للضرر منع الماء والكلأ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ»

(3)

.

وفي سنن أبي داود

(4)

: أن رجلًا قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحلُّ منعه؟ قال:«الماء» قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال:«الملح» قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال:«أن تفعل الخير خير لك» .

وفيه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (2463)، ومسلم برقم (1609).

(2)

أخرجه مالك في الموطأ برقم (2897)، والشافعي في مسنده برقم (1495)، والبغوي في شرح السنة برقم (2174)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار برقم (12264)، وفي السنن الكبرى برقم (11882)، وقال: هذا مرسل، وبمعناه رواه أيضًا يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو أيضًا مرسل، وقد روي في معناه حديث مرفوع.

(3)

أخرجه البخاري برقم (2354)، ومسلم برقم (1566).

(4)

سنن أبي داود برقم (1669)، وأحمد في المسند برقم (15549)، عن بهيسة عن أبيها.

(5)

أخرجه أبو داود برقم (3477)، وابن ماجه برقم (2472)، وأحمد في المسند برقم (23082).

ص: 76

وذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يمنع فضل الماء الجاري والنابع مطلقًا، سواء قيل: إن الماء لمالك أرضه أم لا، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم، والمنصوص عن أحمد وجوب بذله مجانًا بغير عوض للشرب، وسقي البهائم، وسقي الزروع، ومذهب أبي حنيفة والشافعي: لا يجب بذله للزروع.

وأما النهي عن منع النار، فحمله طائفة من الفقهاء على النهي عن الاقتباس منها دون أعيان الجمر، ومنهم من حمله على منع الحجارة المورية للنار، وهو بعيد، ولو حمل على منع الاستضاءة بالنار، وبذل ما فضل عن حاجة صاحبها بها لمن يستدفئ بها، أو ينضج عليها طعاما ونحوه، لم يبعد.

وأما الملح فلعله يحمل على منع أخذه من المعادن المباحة، فإن الملح من المعادن الظاهرة، لا يُملك بالإحياء ولا بالإقطاع، نصَّ عليه أحمد.

وفي سنن أبي داود

(1)

: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع رجلًا الملح، فقيل له: يا رسول الله، إنه بمنزلة الماء العِدِّ

(2)

، فانتزعه منه.

ومما يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر» : أن الله لم يكلف عباده فعل ما يضرهم ألبتة، فإن ما يأمرهم به هو عين صلاح دينهم ودنياهم، وما نهاهم عنه هو عين فساد دينهم ودنياهم، لكنه لم يأمر عباده بشيء هو ضارٌّ لهم في أبدانهم أيضًا.

(1)

أخرجه أبو داود برقم (3064)، والترمذي برقم (1380)، وابن ماجه برقم (2475)، والنسائي في الكبرى برقم (5736)، وقال الترمذي: غريب.

(2)

قال الخطابي رحمه الله في معالم السنن (3/ 43): (وهذا يبين ما قلنا: من أن المعدن الظاهر الموجود خيره ونفعه لا يقطعه أحد، والماء العد هو الماء الدائم الذي لا ينقطع، وفيه من الفقه: أن الحاكم إذا تبين الخطأ في حكم نقضه وصار إلى ما استبان من الصواب في الحكم الثاني).

ص: 77

ولهذا أسقط الطهارة بالماء عن المريض، وقال:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].

وأسقط الصيام عن المريض والمسافر، وقال:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

وأسقط اجتناب محظورات الإحرام، كالحلق ونحوه عمن كان مريضًا، أو به أذى من رأسه، وأمر بالفدية.

وفي المسند

(1)

عن ابن عباس، قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: «الحنيفية السمحة» . ومن حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني أرسلت بحنيفية سمحة»

(2)

.

ومن هذا المعنى ما في الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى رجلًا يمشي، قيل: إنه نذر أن يحج ماشيًا، فقال:«إن الله لغني عن مشيه، فليركب» ، وفي رواية:«إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه»

(3)

.

وفي السنن عن عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا فلتركب»

(4)

.

وقد اختلف العلماء في حكم من نذر أن يحج ماشيًا، فمنهم من قال: لا يلزمه المشي، وله الركوب بكل حال، وهو رواية عن أحمد والأوزاعي.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه أحمد في المسند برقم (24855 - 25962).

(3)

أخرجه البخاري برقم (1865)، ومسلم برقم (1642).

(4)

أخرجه الترمذي برقم (1544)، وأحمد في المسند برقم (17306)، وقال الترمذي: حديث حسن، وروي أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله.

ص: 78

وقال أحمد: يصوم ثلاثة أيام، وقال الأوزاعي: عليه كفارة يمين، والمشهور أنه يلزمه ذلك إن أطاقه، فإن عجز عنه، فقيل: يركب عند العجز، ولا شيء عليه، وهو أحد قولي الشافعي.

وقيل: بل عليه -مع ذلك- كفارة يمين، وهو قول الثوري وأحمد في رواية.

ومما يدخل في عمومه أيضًا: أن من عليه دين لا يطالب به مع إعساره، بل ينظر إلى حال إيساره، قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وعلى هذا جمهور العلماء خلافًا لشريح في قوله: إن الآية مختصة بديون الربا في الجاهلية.

والجمهور أخذوا باللفظ العام، ولا يكلف المدين أن يقضي مما عليه في خروجه من ملكه ضرر، كثيابه ومسكنه المحتاج إليه، وخادمه كذلك، ولا ما يحتاج إلى التجارة به لنفقته ونفقة عياله هذا مذهب الإمام أحمد).

ص: 79

‌القاعدة الخامسة: العادة محكَّمة

العادة: هي اطرادُ وقوع الشيء دائمًا، أو في وقت دون وقت:

فالأول: كدوران الشمس والنجوم في أفلاكها، كما قال سبحانه وتعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33].

والثاني: كطلوعها من المشرق، وغروبها في المغرب، وكوقوع المطر في الشتاء، وزيادة نيل مصر في أيامه، وأشباه ذلك، حتى لو قال قائل: دليل نبوتي أن الشمس لا تطلع اليوم من المشرق، أو أنها لا تغرب في المغرب، بل تجول في أطراف الفلك ونحو ذلك، فوقع الأمر كما قال، لدلَّ ذلك على صدقه، وما ذاك إلا لانخراق العادة المطردةِ على يديه

(1)

.

يعني: أن العادة عامة كانت أو خاصة تُجعل حَكَمًا لإثبات حكم شرعي لم ينص على خلافه بخصوصه، فلو لم يرِد نصٌّ يخالفها أصلا، أو ورد ولكن عامًّا، فإن العادة تعتبر

(2)

.

فقولهم: العادة محكَّمة: أي: معمولٌ بها شرعًا.

(يعني الفقهاء بهذه القاعدة: أنه يُرجع في تحديد المراد من بعض الألفاظ الشرعية، والألفاظ التي يتعامل بها الناس، وبناء الأحكام الشرعية عليها إلى عادة الناس وما تعارفوا عليه، وذلك إذا لم يرد الشرعُ بتحديده، ولم يتضمن المعنى اللغوي للفظ تحديدًا وتقديرًا له. قال السبكي: واشتهر عند الفقهاء أن ما

(1)

ينظر: شرح مختصر الروضة، الصرصري (3/ 150).

(2)

ينظر: شرح القواعد الفقهية، أحمد الزرقا (ص 219).

ص: 80

ليس له ضابط في اللغة ولا في الشرع يُرجع فيه إلى العرف، وعند الأصوليين أن العرف مقدم على اللغة.

وقيدت العادة المعتبرة بألَّا تخالف نصًّا شرعيًّا، وبأن تطَّردُ وتغلبُ، وقيد العرف بأن يكون سابقًا لإنشاء التصرف، أو مقارنًا له، واشترط بعضهم أن يكون العرف عامًّا كما اشترط فيه -فيما يجري بين الناس من المعاملات- ألا يُصرّح بخلافه)

(1)

.

دليل القاعدة:

أشار الفقهاء والأصوليون إلى حديث: «ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن» ، لكنه لا يصحّ، وليس له إسناد

(2)

، وإنما هو منقولٌ عن ابن مسعود موقوفًا عليه

(3)

.

(1)

ينظر: القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، العبد اللطيف (1/ 299، 300).

(2)

ذكره مالك في الموطأ برقم (241) دون إسناد، وقال: (وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما رآه

إلخ»، قال ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (6/ 18):(وهذا لا نعلمه ينسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه أصلًا، وأما الذي لا شك فيه فإنه لا يوجد البتة في مسند صحيح، وإنما نعرفه عن ابن مسعود)، وقال الحافظ العلائي:(ولم أجده مرفوعًا في شيء من كتب الحديث أصلًا ولا بسند ضعيف بعد طول البحث وكثرة الكشف والسؤال، وإنما هو من قول عبد الله بن مسعود موقوفًا عليه أخرجه أحمد في مسنده)، ذكره السيوطي في الأشباه والنظائر (ص 89).

(3)

أخرجه أحمد في المسند برقم (3600)، والبزار برقم (1816)، والطبراني في الكبير برقم (8583)، والأوسط برقم (3602)، ولفظه: عن عبد الله بن مسعود، قال:«إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ» ، وأخرجه الحاكم في المستدرك برقم (4465)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم برقم (1618).

ص: 81

والأحسن الاحتجاج بقوله عليه الصلاة والسلام لهند: «خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف»

(1)

.

وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]، قال ابن السمعاني في القواطع:(العرف في الآية ما يعرفه الناس ويتعارفونه فيما بينهم)، وقال ابن عطية:(كل ما عرفته النفوس مما لا ترده الشريعة)

(2)

، وقال ابن ظفر في الينبوع:(العرف: ما عرَّفه العقلاء بأنه حسن وأقرهم الشارع عليه)

(3)

، وقال ابنُ حجر:(وفيه اعتماد العرف في الأمور التي لا تحديدَ فيها من قبل الشرع)

(4)

.

ويدلُّ على هذه القاعدة ما ورد من الآيات والأحاديث مصرحًا فيها باعتبار العرف والعادة في بناء الأحكام الشرعية، ومنها:

1) قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228].

2) قوله سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].

3) قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].

فقد فُسر المعروف: بالمتعارف في عرف الشرع، أو ما تعارف عليه الناس.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوزنُ: وزنُ أهل مكة، والمِكيال: مكيالُ أهل المدينة»

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم برقم (1714)، عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

ينظر: تفسير ابن عطية (2/ 491).

(3)

ينظر: التحبير شرح التحرير (8/ 3852)، والغيث الهامع شرح جمع الجوامع، أبي زرعة العراقي (ص 659).

(4)

ينظر: فتح الباري (9/ 510).

(5)

أخرجه أبو داود برقم (3340)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار برقم (1252).

ص: 82

فاعتبر الرسولُ صلى الله عليه وسلم عادة أهل مكة في الوزن، لأنهم كانوا أهل نتاجٍ، واعتبر عادة أهل المدينة في الكيل؛ لأن عادتَهم الكيلُ

(1)

.

قال الشيخ أحمد الزرقا رحمه الله

(2)

: (أصل هذه القاعدة قول ابن مسعود رضي الله عنه: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح» ، وهو حديث حسن، وإنه وإن كان موقوفًا عليه فله حكم المرفوع، لأنه لا مدخل للرأي فيه.

والعادة: هي الاستمرار على شيء مقبول للطبع السليم، والمعاودة إليه مرة بعد أخرى، وهي المرادة بالعرف العملي.

فالمراد بها حينئذ ما لا يكون مغايرًا لما عليه أهل الدين والعقل المستقيم ولا منكرًا في نظرهم.

والمراد من كونها عامة: أن تكون مطردة أو غالبة في جميع البلدان.

ومن كونها خاصة: أن تكون كذلك في بعضها، فالاطراد والغلبة شرط لاعتبارها سواء كانت عامة أو خاصة.

ثم إذا لم يرد نصٌّ مخالف يشملها فلا كلام في اعتبارها، فقد نقل ابن عابدين أن العادة إحدى حجج الشرع فيما لا نصَّ فيه.

أما إذا ورد نصٌّ فإما أن يكون نصًّا في مخالفتها، فلا كلام في اعتباره دونها مطلقا، عامة كانت أو خاصة، لأن النصَّ أقوى من العُرف.

فالعمل بها حينئذ عبارة عن ردِّ النصِّ ورفضه للعادة وهو لا يجوز.

(1)

ينظر: شرح مشكل الآثار، الطحاوي (3/ 283).

(2)

ينظر: شرح القواعد الفقهية (ص 219).

ص: 83

وإما أن يكون عامًّا ويكون المعتاد جزيئًا من جزئياته، فحينئذ: إما أن تكون عامة فتصلح أن تكون مخصصة لعمومِه اتفاقًا، عملية كانت أو قولية.

وإما أن تكون خاصةً، واختلف في أنها هل تصلح مخصصة للنص العام بالنسبة لمن اعتادها أم لا، والمذهب أنها لا تصلح، وعليه مشى الفقيه أبو جعفر وأبو بكر البلخي).

تذكر:

إنما تعتبر العادة إذا لم تخالف نصًّا شرعيًّا وإذا كانت مطردة، وكانت سابقة، فلا عبرة بالعرف الطارئ

(1)

، وألا تخالف شرطًا للمتعاقدين أو أحدهما

(2)

.

القواعد المندرجة تحت هذه القاعدة:

1 -

استعمال الناس حجةٌ يجب العمل بها.

2 -

إنما تعتبر العادة إذا اطَّردت أو غلبت.

3 -

العبرة للغالب الشائع لا للنادر.

4 -

العُرف الذي تحمل عليه الألفاظ، إنما هو المقارن السابق دون المتأخر.

5 -

الحقيقة تترك بدلالة العادة.

6 -

الكتاب كالخطاب.

7 -

الإشارة المعهودة للأخرس كالبيان باللسان.

(1)

ينظر: المصدر السابق (ص 220).

(2)

ينظر: مجالات إعمال العرف، د. وليد بن علي الحسين (ص 14)، بحث منشور على الإنترنت.

ص: 84

8 -

المعروف عُرفًا كالمشروطِ شرطًا.

9 -

التعيين بالعرف كالتعيينِ بالنص.

10 -

المعروفُ بين التجار كالمشروط بينهم.

11 -

لا ينكر تغير الأحكام الاجتهادية بتغير الأزمان.

صور ما يرجع فيه إلى العادة والعرف في الشريعة:

ذكر الشيخ السعدي رحمه الله أن من أحكام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الكلية؛ الرجوع إلى العرف إذا تعذر التعيين شرعًا ولفظًا، كالرجوع للعرف في نفقة الزوجات والأقارب والأُجراء، وكالشروط العرفية في المعاملات إذا اطردت بين الناس، وكالقبض والحِرز ونحوها مما لا يُعَدُّ ولا يُحصى

(1)

.

وفي قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]، قال الشيخ السعدي رحمه الله

(2)

: (أي: ليس عليكم يا معشر الأزواج جناح وإثم بتطليق النساء قبل المسيس، وفرض المهرِ، وإن كان في ذلك كسرٌ لها، فإنه ينجبر بالمتعة، فعليكم أن تُمتعوهن بأن تعطوهن شيئًا من المال، جبرًا لخواطرهن {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ}، أي: المعسر {قَدَرُهُ}، وهذا يرجعُ إلى العُرف، وأنه يختلف باختلاف الأحوال ولهذا قال: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} فهذا حقٌّ واجبٌ {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} ليس لهم أن يبخسوهن).

وفي قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، قال

(3)

: (أي: لا تضاروهن عند سكناهن بالقول أو الفعل، لأجل أن

(1)

ينظر: تيسير اللطيف المنان (1/ 166).

(2)

ينظر: تفسير السعدي (ص 105).

(3)

ينظر: تفسير السعدي (ص 871).

ص: 85

يمللن، فيخرجن من البيوت قبل تمام العدة فتكونوا أنتم المخرجين لهن، وحاصل هذا أنه نهى عن إخراجهن، ونهاهن عن الخروج، وأمر بسكناهن، على وجه لا يحصل عليهن ضررٌ ولا مشقة، وذلك راجع إلى العرف).

وفي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4]، ذكر العلماء أن الحدَّ الذي يصير به الكلب معلَّمًا تحل ذبيحته يرجه إلى العرف، جاء في نظم الدرر

(1)

: (قال الشافعي: والكلب لا يصير معلَّمًا إلا عند أمور: إذا أشلى استشلى

(2)

، وإذا زُجر انزجر، وحبس ولم يأكل، وإذا دعي أجاب، وإذا أراده لم يفر منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلَّم، ولم يذكر حدًّا، لأن الاسم إذا لم يكن معلومًا من نصٍّ ولا إجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف).

وفي قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]، قال ابن عادل رحمه الله في اللباب

(3)

: (ففي الزوجة والمملُوك أمر واحد، فالواجب على هذا هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع، والقدرة، وصفة الإنفاق؛ فأما النوع فلا يتعين أن يعطيها مكيلًا كالبُرِّ، ولا موزونًا كالخبز، ولا ثمن ذلك كالدَّراهم، بل يرجع في ذلك إلى العرف).

وفي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في التفسير

(4)

: (ومن فوائد الآية: أن

(1)

ينظر: نظم الدرر، البقاعي (6/ 21).

(2)

أي: إذا حرضه على الصيد استجاب له.

(3)

ينظر: اللباب في علوم الكتاب (19/ 175).

(4)

ينظر: تفسير الفاتحة والبقرة (2/ 327).

ص: 86

السفر الذي يباح فيه الفطر غير مقيد بزمن، ولا مسافة؛ لإطلاق السفر في الآية؛ وعلى هذا يرجع فيه إلى العرف: فما عده الناس سفرًا فهو سفر؛ وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن تحديده بزمن، أو مسافة يحتاج إلى دليل).

وفي قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله من فوائد ذلك

(1)

: (أنه يرجع في الإطعام في كيفيته ونوعه إلى العرف؛ لأن الله تعالى أطلق ذلك؛ والحكم المطلق إذا لم يكن له حقيقة شرعية يرجع فيه إلى العرف).

وفي قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، ذكر من الفوائد

(2)

: (أن للزوجة حقًّا كما أن عليها حقًّا؛ لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ}، ومنها: إثبات الرجوع إلى العرف؛ لقوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ}؛ وهكذا كل ما جاء، ولم يحدد بالشرع فإن مرجعه إلى العرف).

وفي قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، ذكر من الفوائد

(3)

: (أنه يجب على المولود له رزقهن، وكسوتهن بالمعروف؛ فيرجع إلى العرف في نوع الرزق، وكميته، وكيفيته؛ وكذلك الكسوة).

وفي قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، قال

(4)

: (أي: يقبضها من يتوثق بها -وهو الطالب- من المطلوب الذي هو الراهن؛ والطالب الذي قبض

(1)

ينظر: المصدر السابق (2/ 329).

(2)

ينظر: المصدر السابق (3/ 105).

(3)

ينظر: المصدر السابق (3/ 149).

(4)

ينظر: المصدر السابق (3/ 425).

ص: 87

الرهن يسمى مرتهنًا؛ فهنا راهن، ومرتهن، ورهن، ومرهون به؛ فالرهن: العين؛ والراهن: معطي الرهن؛ والمرتهن؛ آخذ الرهن؛ والمرهون به: الدين؛ فأركان الرهن أربعة، ولم يبين سبحانه وتعالى كيف القبض؛ فيرجع في ذلك إلى العرف؛ ومعناه: أن يكون الشيء في قبضة الإنسان، وتحت سيطرته).

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام جامع في هذه القاعدة فيما يتعلق بالعشرة بين الزوجين، حيث قال

(1)

: (في قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ

إلى قوله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ

إلى قوله تعالى: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، فجعل المباح أحد أمرين: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

وأخبر أن الرجال ليسوا أحق بالردِّ إلا إذا أرادوا إصلاحًا؛ وجعل لهن مثل الذي عليهن بالمعروف.

وقال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، وقال تعالى في الآية الأخرى:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]، وقال تعالى:{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232]، وقوله هنا:{بِالْمَعْرُوفِ} ، يدل على أن المرأة لو رضيت بغير المعروف لكان للأولياء العضل، والمعروف: تزويج الكفء.

وقد يستدل به من يقول: مهر مثلها من المعروف؛ فإن المعروف هو الذي يعرفه أولئك.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (34/ 84).

ص: 88

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ

إلى قوله: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، فقد ذكر أن التراضي بالمعروف والإمساك بالمعروف؛ والتسريح بالمعروف والمعاشرة بالمعروف وأن لهن وعليهن بالمعروف كما قال:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .

فهذا المذكور في القرآن هو الواجب العدل في جميع ما يتعلق بالنكاح من أمور النكاح وحقوق الزوجين؛ فكما أن ما يجب للمرأة عليه من الرزق والكسوة هو بالمعروف؛ وهو العرف الذي يعرفه الناس في حالهما نوعًا وقدرًا وصفة، وإن كان ذلك يتنوع بتنوع حالهما من اليسار والإعسار والزمان كالشتاء والصيف والليل والنهار؛ والمكان فيطعمها في كل بلد مما هو عادة أهل البلد وهو العرف بينهم.

وكذلك ما يجب لها عليه من المتعة والعشرة، فعليه أن يبيت عندها ويطأها بالمعروف.

ويختلف ذلك باختلاف حالها وحاله.

وهذا أصح القولين في الوطء الواجب أنه مقدر بالمعروف؛ لا بتقدير من الشرع قررته في غير هذا الموضع.

والمثال المشهور هو (النفقة)، فإنها مقدَّرة بالمعروف تتنوع بتنوع حال الزوجين عند جمهور المسلمين.

ومنهم من قال: هي مقدرة بالشرع نوعًا وقدرًا: مُدًّا من حنطة أو مدًّا ونصفًا أو مدين؛ قياسًا على الإطعام الواجب في الكفارة على أصل القياس.

ص: 89

والصواب المقطوع به ما عليه الأمة علمًا وعملًا قديمًا وحديثًا؛ فإن القرآن قد دل على ذلك وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لهند امرأة أبي سفيان لما قالت له: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»

(1)

. فأمرها أن تأخذ الكفاية بالمعروف، ولم يقدِّر لها نوعًا ولا قدرًا، ولو تقدر ذلك بشرع أو غيره لبين لها القدر والنوع، كما بين فرائض الزكاة والديات.

وفي صحيح مسلم، عن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته العظيمة بعرفات:«لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»

(2)

.

وإذا كان الواجب هو الكفاية بالمعروف، فمعلوم أن الكفاية بالمعروف تتنوع بحالة الزوجة في حاجتها، وبتنوع الزمان والمكان، وبتنوع حال الزوج في يساره وإعساره.

وليست كسوة القصيرة الضئيلة ككسوة الطويلة الجسيمة، ولا كسوة الشتاء ككسوة الصيف، ولا كفاية طعامه كطعامه، ولا طعام البلاد الحارة كالباردة، ولا المعروف في بلاد التمر والشعير، كالمعروف في بلاد الفاكهة والخمير.

وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه أنه قال: قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: «تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت؛ ولا تضرب الوجه؛ ولا تقبِّحْ؛ ولا تهجر إلا في البيت»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (5364)، ومسلم برقم (1714) عن عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه مسلم برقم (1218)، وهو جزء من حديث جابر رضي الله عنه الطويل في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم.

(3)

أخرجه أبو داود برقم (2142)، وأحمد في المسند برقم (20011)، عن حكيم بن معاوية رضي الله عنهما.

ص: 90

فهذه ثلاثة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن للزوجة أن تأخذ كفاية ولدها بالمعروف.

وقال في الخطبة التي خطبها يوم أكمل الله الدين في أكبر مجمع كان له في الإسلام: «لهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»

(1)

.

وقال للسائل المستفتي له عن حق الزوجة: «تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت»

(2)

.

ولم يأمر في شيء من ذلك بقدر معين؛ لكن قيد ذلك بالمعروف تارة وبالمواساة بالزوج أخرى.

وهكذا قال في نفقة المماليك؛ ففي الصحيحين عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هم إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل؛ وليلبسه مما يلبس؛ ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم»

(3)

.

وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق»

(4)

.

ففي الزوجة والمملوك أمره واحد: تارة يذكر أنه يجب الرزق والكسوة بالمعروف، وتارة يأمر بمواساتهم بالنفس.

(1)

سبق تخريجه قريبا.

(2)

سبق تخريجه قريبا.

(3)

أخرجه البخاري برقم (30)، ومسلم برقم (1661).

(4)

أخرجه مسلم برقم (1662).

ص: 91

فمن العلماء من جعل المعروف هو الواجب والمواساة مستحبة، وقد يقال: أحدهما تفسير للآخر.

وعلى هذا فالواجب هو الرزق والكسوة بالمعروف في النوع والقدر وصفة الإنفاق.

وإن كان العلماء قد تنازعوا في ذلك.

أما (النوع) فلا يتعين أن يعطيها مكيلًا كالبر، ولا موزونًا كالخبز، ولا ثمن ذلك كالدراهم؛ بل يرجع في ذلك إلى العرف، فإذا أعطاها كفايتها بالمعروف مثل أن يكون عادتهم أكل التمر والشعير فيعطيها ذلك، أو يكون أكل الخبز والإدام فيعطيها ذلك، وإن كان عادتهم أن يعطيها حبًّا فتطحنه في البيت فعل ذلك، وإن كان يطحن في الطاحون ويخبز في البيت فعل ذلك، وإن كان يخبز في البيت فعل ذلك، وإن كان يشتري خبزًا من السوق فعل ذلك.

وكذلك الطبيخ ونحوه فعلى ما هو المعروف فلا يتعين عليه دراهم ولا حبات أصلًا؛ لا بشرع ولا بفرض؛ فإن تعينَ ذلك دائمًا من المنكر ليس من المعروف، وهو مضر به تارة وبها أخرى.

وكذلك (القدر) لا يتعين مقدار مطرد؛ بل تتنوع المقادير بتنوع الأوقات.

وأما (الإنفاق) فقد قيل: إن الواجب تمليكها النفقة والكسوة، وقيل: لا يجب التمليك، وهو الصواب؛ فإن ذلك ليس هو المعروف؛ بل عُرف النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى يومنا هذا؛ أن الرجل يأتي بالطعام إلى منزله فيأكل هو وامرأته ومملوكه: تارة جميعًا، وتارة أفرادًا، ويفضل منه فضل تارة فيدخرونه، ولا يعرف المسلمون أنه يملكها كل يوم دراهم تتصرف فيها تصرف المالك؛ بل من عاشر امرأة بمثل هذا الفرض كانا عند المسلمين قد تعاشرا بغير

ص: 92

المعروف وتضارَّا في العشرة؛ وإنما يفعل أحدهما ذلك بصاحبه عند الضرر؛ لا عند العشرة بالمعروف.

وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في الزوجة مثل ما أوجب في المملوك، تارة قال:«لهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف»

(1)

، كما قال في المملوك، وتارة قال:«تطعمها إذا أكلت وتكسوها إذا اكتسيت»

(2)

، كما قال في المملوك.

وقد اتفق المسلمون على أنه لا يجب تمليك المملوك نفقته.

فعلم أن هذا الكلام لا يقتضي إيجاب التمليك، وإذا تنازع الزوجان فمتى اعترفت الزوجة أنه يطعمها إذا أكل ويكسوها إذا اكتسى، وذلك هو المعروف لمثلها في بلدها، فلا حق لها سوى ذلك.

وإن أنكرت ذلك أمره الحاكم أن ينفق بالمعروف؛ بل ولا له أن يأمر بدراهم مقدرة مطلقًا أو حَبٍّ مقدر مطلقًا؛ لكن يذكر المعروف الذي يليق بهما.

وكذلك (قسم الابتداء والوطء والعشرة والمتعة) واجبان كما قد قررناه بأكثر من عشرة أدلة، ومن شك في وجوب ذلك فقد أبعد تأمل الأدلة الشرعية والسياسة الإنسانية.

ثم الواجب قيل: مبيت ليلة من أربع ليال، والوطء في كل أربعة أشهر مرة، كما ثبت ذلك في المولى والمتزوج أربعًا.

وقيل: إن الواجب وطؤها بالمعروف فيقل ويكثر بحسب حاجتها وقدرته كالقوت سواء.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 93

وكذلك ما عليها من موافقته في المسكن وعشرته ومطاوعته في المتعة، فإن ذلك واجب عليها بالاتفاق؛ عليها أن تسكن معه في أي بلد أو دار إذا كان ذلك بالمعروف ولم تشترط خلافه.

وعليها ألّا تفارق ذلك بغير أمره إلا لموجب شرعي، فلا تنتقل ولا تسافر ولا تخرج من منزله لغير حاجة إلا بإذنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فإنهن عوانٌ عندكم»

(1)

، بمنزلة العبد والأسير.

وعليها تمكينه من الاستمتاع بها إذا طلب ذلك، وذلك كله بالمعروف غير المنكر؛ فليس له أن يستمتع استمتاعا يضرُّ بها، ولا يسكنها مسكنًا يضرُّ بها، ولا يحبسها حبسا يضرُّ بها.

وجوب خدمة الزوجة زوجها بالمعروف:

وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدمه في مثل فراش المنزل ومناولة الطعام والشراب والخبز والطحن والطعام لمماليكه وبهائمه: مثل علف دابته ونحو ذلك؟

فمنهم من قال: لا تجب الخدمة.

وهذا القول ضعيف كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء؛ فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف؛ بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان وصاحبه في المسكن إن لم يعاونه على مصلحة لم يكن قد عاشره بالمعروف.

وقيل -وهو الصواب- وجوب الخدمة؛ فإن الزوج سيدها في كتاب الله؛

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (20695)، عن أبي حرة الرقاشي عن عمه.

ص: 94

وهي عانية عنده بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى العاني والعبد الخدمة؛ ولأن ذلك هو المعروف.

ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة.

ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف، وهذا هو الصواب، فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال: فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة.

والمعروف فيما له ولها هو موجب العقد المطلق؛ فإن العقد المطلق يرجع في موجبه إلى العرف كما يوجب العقد المطلق في البيع النقد المعروف.

فإن شرط أحدهما على صاحبه شرطًا لا يحرم حلالًا ولا يحلل حرامًا فالمسلمون عند شروطهم؛ فإن موجبات العقود تتلقى من اللفظ تارة، ومن العرف تارة أخرى؛ لكن كلاهما مقيد بما لم يحرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لكل من العاقدين أن يوجب للآخر على نفسه ما لم يمنعه الله من إيجابه، ولا يمنعه أن يوجب في المعاوضة ما يباح بذله بلا عوض: كعارية البضع؛ والولاء لغير المعتق؛ فلا سبيل إلى أن يجب بالشرط فإنه إذا حرم بذله كيف يجب بالشرط فهذه أصول جامعة مع اختصار. والله أعلم).

وذكر ابن القيم رحمه الله أن خدمة المرأة لزوجها أمر قرره العرف والعادة فينبغي العمل به، قال رحمه الله

(1)

: (واحتج من أوجب الخدمة بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه بكلامه، وأما ترفيه المرأة وخدمةُ الزوج وكنسه وطحنه وعجنه وغسيله وفرشه وقيامه بخدمةِ البيت فمن المنكر، والله تعالى يقول {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ

(1)

ينظر: زاد المعاد (5/ 170).

ص: 95

عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] وإذا لم تخدمه المرأة، بل يكون هو الخادم لها، فهي القوَّامة عليه.

وأيضًا: فإن المهر في مقابلة البضع، وكل من الزوجين يقضي وطرَه من صاحبه، فإنما أوجب الله سبحانه نفقتها وكسوتها ومسكنها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها، وما جرت به عادة الأزواج.

وأيضًا فإن العقود المطلقة إنما تنزل على العرف، والعرف خدمة المرأة وقيامها بمصالح البيت الداخلة، وقولهم: إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعًا وإحسانًا، يرده أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة

(1)

، فلم يقل لعلي: لا خدمة عليها، وإنما هي عليك، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحدًا.

ولما رأى أسماء والعلف على رأسِها

(2)

، والزبير معه لم يقل له: لا خدمة

(1)

يشير إلى حديث فاطمة رضي الله عنها: أنها اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي، فانطلقت، فلم تجده، ولقيت عائشة رضي الله عنها، فأخبرتها، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة رضي الله عنها بمجيء فاطمة رضي الله عنها إليها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبنا نقوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«على مكانكما» ، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على صدري، ثم قال:«ألا أعلمكما خيرًا مما سألتما، إذا أخذتما مضاجعكما، أن تكبرا الله أربعًا وثلاثين، وتسبحاه ثلاثًا وثلاثين، وتحمداه ثلاثًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم» . أخرجه البخاري برقم (3705)، ومسلم برقم (2727).

(2)

يشير إلى حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت:(تزوجني الزبير، وما له في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء، وأخرِز غَرْبَه وأعجن، ولم أكن أُحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ، فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: «إخ إخ» ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير، فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب، فاستحييت منه وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني)، أخرجه البخاري برقم (5242)، ومسلم برقم (2182).

ص: 96

عليها، وأن هذا ظلم لها، بل أقره على استخدامها، وأقر سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية هذا أمر لا ريب فيه.

ولا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة وفقيرة وغنية، فهذه أشرف نساء العالمين، كانت تخدم زوجَها، وجاءته صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة، فلم يشكها، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المرأة عانية، فقال:«اتقوا الله في النساء فإنهن عوانٌ عندكم»

(1)

.

والعاني: الأسير، ومرتبة الأسير خدمة من هو تحت يده ولا ريب أن النكاح نوع من الرق، كما قال بعض السلف: النكاح رقٌّ فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته).

وأخرج الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره»

(2)

، قال الزحيلي رحمه الله في التفسير المنير

(3)

: (وتحديد الجوار متروك إلى العرف، وحدده الحسن البصري بأربعين جارًا من كل جانب من الجوانب الأربعة).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن الغسل من الحيض؟ فقال: «خذي فرصة

(4)

من مسك فتطهري بها»، فقالت: كيف أتطهر بها؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سبحان الله سبحان الله! -واستتر بثوبه- تطهري بها» ؛ فاجتذبتها وعرفت الذي أراد؛ فقلت لها: تتبعي بها

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري برقم (6019)، ومسلم برقم (47) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

ينظر: التفسير المنير (5/ 67).

(4)

فرصة: قطعة من صوف أو قطن.

ص: 97

آثار الدم -يعني: الفرج

(1)

، قال ابن الأثير رحمه الله

(2)

: (ورَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمرَها إلى العرف الظاهر، والأمر الغالب من أحوال النساء، كما حمل أمرها في محيضها في كل شهر مرة واحدة؛ على الغالب من عاداتهن، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«كما تحيض النساء ويطهرن»

(3)

، ميقات حيضهن وطهرهن.

وهذا أصل في قياس أمر النساء؛ بعضهن على بعض في باب الحيض، والحمل؛ والبلوغ، وما أشبه ذلك من أمرهن).

وعن سعيدِ بن زيد، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«من أحيا أرضًا ميتةً فهي له»

(4)

، قال ابن الأثير رحمه الله

(5)

: (والإحياء لم يرد في السنة مبينًا؛ فوجب الرجوع فيه إلى العرف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلق حكما إلا على ما إليه طريق، فلما لم يبينه؛ دل على أن طريقَه العرف إذا لم يكن له طريق غيره، ويختلف ذلك باختلاف الغرض واختلاف المقاصد من إحياء الأرضين).

(1)

أخرجه البخاري برقم (314)، ومسلم برقم (332).

(2)

ينظر: الشافي شرح مسند الشافعي (1/ 330).

(3)

أخرجه الترمذي برقم (128)، وأحمد في المسند برقم (27474)، عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها، وقال الترمذي:(حديث حسن صحيح).

(4)

أخرجه أبو داود برقم (3073)، والترمذي برقم (1378)، قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار (32461): والحديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تلقاه العلماء بالقبول.

(5)

ينظر: الشافي في شرح مسند الشافعي (4/ 197).

ص: 98

‌القاعدة السادسة: الشريعة وضعت لجلب المصالح ودرء المفاسد

لا شك أن الأصل في شريعة الإسلام هو تحقيق مصالح العباد في دينهم ودنياهم، ودفع الضرر عنهم.

قال الشاطبي رحمه الله

(1)

: (وذلك أن المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد؛ فالتكليف كلُّه إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معًا؛ فالداخل تحته مقتض لما وضعت له).

وقال ابن القيم رحمه الله

(2)

: (فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل.

فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل.

(1)

ينظر: الموافقات (1/ 318).

(2)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (3/ 11).

ص: 99

فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها.

ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يُمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطيَّ العالم رفع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة).

وقال رحمه الله أيضًا

(1)

: (وإذا تأملت شرائع دينه التي وضعها بين عباده، وجدتها لا تخرج عن تحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وان تزاحمت قدم أهمَّها وأجلَّها وأن فاتت أدناهما، وتعطيل المفاسد الخالصة أو الراجحة بحسب الإمكان، وأن تزاحمت عطَّل أعظمَها فسادًا باحتمال أدناهما، وعلى هذا وضع أحكم الحاكمين شرائعَ دينه دالةً عليه، شاهدةً له بكمال علمه وحكمته ولطفه بعباده وإحسانه إليهم.

وهذه الجملة لا يستريب فيها من له ذوق من الشريعة، وارتضاعٌ من ثُدِيِّها، وورودٌ من صفو حوضها، وكلما كان تضلُّعه منها أعظم، كان شهودُه لمحاسنها ومصالحها أكمل، ولا يمكن أحد من الفقهاء أن يتكلم في مآخذ الأحكام وعللها، والأوصاف المؤثرة فيها حقًّا وفرقًا إلا على هذه الطريقة).

والشريعة لا تأمر بمنكر محض، ولا تنهى عن معروف محض، وفي ذلك

(1)

ينظر: مفتاح دار السعادة، ابن القيم (2/ 22).

ص: 100

يقول الشاطبي رحمه الله

(1)

: (ولا يوجد في هذه الشريعة مصلحة محضة منهيًّا عنها، ولا مفسدة محضة مأمورًا بها، وذلك كله من لطف الله عز وجل بعباده وبره ورحمته، ولا فرق في ذلك بين دقه وجلِّه وكبيره وقليله وجليله وخطيره، إلا أن خفيف المصالح مستحبٌّ وخطيرها واجبٌ، وخفيف المفاسد مكروهٌ وكثيرها محرمٌ.

وكلما عظُمت المصلحة تأكد الأمر بها بالوعد والمدح والثناء، إلى أن تنتهي المصلحة إلى أعظم المصالح، وعلى ذلك تبنى فضائل الأعمال.

وكذلك كلما عظُمت المفسدة تأكد النهي عنها بالوعيد والذم والتهديد، إلى أن تنتهي المفسدة إلى أكبر الكبائر).

وقد حدد الإمام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله ما يقصد بالمصالح والمفاسد في الدنيا والآخرة، فقال

(2)

: (اعلم أن من أنعم الله عليه وأحسن إليه وفَّقَه لطاعته ونيل مثوبته، ومن خذله أبعده بمعصيته وعقوبته.

فمصالح الآخرة: الحصول على الثواب، والنجاة من العقاب.

ومفاسدها: الحصول على العقاب وفوات الثواب، ويعبر عن ذلك كله بالمصالح الآجلة.

والمقصود من العبادات كلها: إجلال الإله وتعظيمه ومهابته والتوكل عليه والتفويض إليه، وكفى بمعرفته ومعرفة صفاته شرفًا، والآخرة وهي أفضل من كل ثواب يقع عليها، ما عدا النظر إلى وجهه الكريم.

(1)

ينظر: الفوائد في اختصار المقاصد، سلطان العلماء (ص 131).

(2)

ينظر: قواعد الأحكام (2/ 72).

ص: 101

وأما مصالح الدنيا: فما تدع إليه الضروريات أو الحاجات والتتمات والتكملات.

وأما مفاسدها: ففوات ذلك بالحصول على أضداده، ويعبر عن ذلك كله بالمصالح العاجلة).

أقسام الأفعال من حيث المصلحة والمفسدة:

قال العز بن عبد السلام رحمه الله

(1)

: (الأفعال ضربان:

أحدهما: ما خفيت عنا مصالحه ومفاسده، فلا نُقدم عليه حتى تظهر مصلحته المجردة عن المفسدة أو الراجحة عليها، وهذا الذي جاءت الشريعة بمدح الأناة فيه إلى أن يظهر رشدُه وصلاحه.

الضرب الثاني: ما ظهرت لنا مصلحته، وله حالان:

أحدهما: ألا تعارض مصلحته مفسدته ولا مصلحة أخرى، فالأولى تعجيله.

والثانية: أنْ تعارض مصلحتُه مصلحة هي أرجح منه مع الخلوِّ عن المفسدة، فيؤخر عنه رجاء إلى تحصيله، وإن عارضته مفسدة تساويه قدمت مصلحة التعجيل لما ذكرنا فيما خلا عن المعارض

(2)

.

والضابط: أنه مهما ظهرت المصلحة الخلية عن المفاسد يسعى في تحصيلها، ومهما ظهرت المفاسد الخلية عن المصالح يسعى في درئها، وإن التبس الحال احتطنا للمصالح بتقدير وجودها وفعلناها، وللمفاسد بتقدير وجودها وتركناها.

(1)

ينظر: قواعد الأحكام (1/ 58).

(2)

وقد يكون التوقف عن هذا العمل أصوب، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

ص: 102

وإن دار الفعل بين الوجوب والندب بنينا على أنه واجب وأتينا به، وهذا فيما لا تشترط النية فيه، كدفع الصائل عن النفس، فإنه محبوب على قول وواجب على آخر.

وأما ما تشترط فيه النية ففيه نظر من جهة حزم النية، وإن دار بين الندب والإباحة بنينا على أنه مندوب وأتينا به، وإن دار بين الحرام والمكروه بنينا على أنه حرام واجتنبناه، وإن دار بين المكروه والمباح بنينا على أنه مكروه وتركناه.

وقد جاءت الشريعة بمدح السرعة في أمور كالذبح والنحر وضرب الرقاب في القصاص، لما في السرعة في ذلك من تهوين الموت، وقد كتب الله الإحسان على كل شيء، وأمر بإحسان القتلة والذبحة

(1)

، وكذلك أيضًا قصاص الأطراف تحمد فيه السرعة.

ولو صيل على مسلم في نفس أو بضع أو مال، بحيث لو اقتصرنا في الدفع عنه لتحققت المفسدة، فإن السرعة في هذا وأمثاله واجب لا يسع تركها.

وكذلك السرعة في القتال ومكافحة الأبطال، وقد مدح الله المسارعة في الخيرات وأثنى على المسارعين فيها

(2)

، وقال موسى عليه السلام:{وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].

وقد جعل لمن قتل الوزغ بضربة واحدة مائة حسنة، ولمن قتله بضربتين

(1)

يشير إلى حديث شداد بن أوس رضي الله عنه، قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته» . أخرجه مسلم برقم (1955).

(2)

كما في قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وقوله تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [الأنبياء: 12]، وقوله تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133].

ص: 103

سبعين حسنة

(1)

، لما في الضربة الواحدة من المسارعة إلى إزهاقِ روحه ودفعِ ضرره وإحسان قِتلته).

قاعدة في الموازنة بين المصالح والمفاسد:

قال العز بن عبد السلام رحمه الله

(2)

: (إذا تعارضت المصلحتان وتعذر جمعُهما فإن عُلم رجحان إحداهما قدمت، وإن لم يعلم رجحان، فإن غلب التساوي فقد يظهر لبعض العلماء رجحان إحداهما فيقدمها، ويظن آخر رجحان مقابلها فيقدمه، فإن صوَّبنا المجتهدَيْن فقد حصَّل كل واحد منهما مصلحةً لم يحصِّلها الآخر، وإن حصرنا الصواب في أحدهما فالذي صار إلى المصلحة الراجحة مصيبٌ للحق، والذي صار إلى المصلحة المرجوحة مخطئٌ معفوٌّ عنه، إذا بذل جهده في اجتهاده

).

فالشريعة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(3)

: (جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهي تأمر بما تترجح مصلحته، وإن كان فيه مفسدة مرجوحة كالجهاد، وتنهى عما ترجحت مفسدته، وإن كان فيه مصلحة مرجوحة كتناول المحرمات من الخمر وغيره).

وذكر ابن تيمية رحمه الله أمثلة في تطبيق هذه القاعدة ومن ذلك ما ذكره حول الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع، فقد ذكر

(4)

: (أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره.

(1)

يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من قتل وزغًا في أول ضربة كتبت له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك» ، أخرجه مسلم برقم (2240).

(2)

ينظر: قواعد الأحكام (1/ 58).

(3)

ينظر: الجواب الصحيح (6/ 17).

(4)

ينظر: مجموع الفتاوى (23/ 342).

ص: 104

فإن من كان مظهرًا للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته؛ فإذا كان داعية منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته، لما في ذلك من النهي عن المنكر لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته، فإذا أمكن لإنسان ألا يقدم مظهرًا للمنكر في الإمامة وجب ذلك.

لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشرٍّ أعظم ضررًا من ضرر ما أظهره من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكانن ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا.

فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك، بل يصلي خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه، كالجمع والأعياد والجماعة، إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج والمختار بن أبي عبيد الثقفي

(1)

وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادًا من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.

(1)

وقال الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء (3/ 539)، بعد أن وصفه بقلة الدين:(وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يكون في ثقيف كذاب ومبير»، هو في صحيح مسلم برقم (2545)، فكان الكذاب هذا، وكان المبير الحجاج قبحهما الله).

ص: 105

ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقًا معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع.

وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهو أولى من فعلها خلف الفاجر، وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد للعلماء؛ منهم من قال: إنه يعيد؛ لأنه فعل ما لا يشرع بحيث ترك ما يجب عليه من الإنكار بصلاته خلف هذا، فكانت صلاته خلفه منهيًّا عنها فيعيدها.

ومنهم من قال: لا يعيد، قال: لأن الصلاة في نفسها صحيحة، وما ذكر من ترك الإنكار هو أمر منفصل عن الصلاة، وهو يشبه البيع بعد نداء الجمعة.

وأما إذا لم يمكنه الصلاة إلا خلفه كالجمعة، فهنا لا تُعاد الصلاة، وإعادتها من فعل أهل البدع).

وذكر رحمه الله أن العمل قد يقر ويؤذن فيه وإن كان فيه مفسدة، لكنها مغمورة في جانب المصلحة المرجوَّة منه، وبين أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في الغناء يوم العيد هو من هذا الباب، فقال رحمه الله

(1)

: (وقد تقدم أن الرخصة في الغناء في أوقات الأفراح للنساء والصبيان أمر مضَتْ به السنة، كما يرخص لهم في غير ذلك من اللعب، ولكن لا يجعل الخاصُّ عامًّا.

ولهذا لما قال أبو بكر: أمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2)

، لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه التسمية.

(1)

ينظر: الاستقامة (1/ 287).

(2)

يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:(دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، ودخل أبو بكر، فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله عليه السلام فقال: «دعهما»، فلما غفل غمزتهما فخرجتا)، أخرجه البخاري برقم (949)، ومسلم برقم (892)، واللفظ للبخاري.

ص: 106

والصحابة لم يكونوا يفعلون شيئًا من ذلك، ولكن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمرًا خاصًّا بقوله: «إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا

»

(1)

.

فعلم أن هذا وإن كان من الشيطان، لكن الرخصة فيه لهؤلاء لئلا يدعوهم إلى ما يفسد عليهم دينهم، إذ لا يمكن صرفهم عن كل ما تتقاضاه الطبائع من الباطل.

والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فهي تحصِّل أعظم المصلحتين بفوات أدناهما، وتدفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما، فإذا وصف المحتمل بما فيه من الفساد مثل كونه من عمل الشيطان، لم يمنع ذلك أن يكون قد وقع به ما هو أحب إلى الشيطان منه، ويكون إقرارهم على ذلك من المشروع، فهذا أصل ينبغي التفطنُ له).

وبين رحمه الله أن العمل ينهى عنه وإن كان الغرض منه مشروعًا لوجود مفسدة راجحة، فقال رحمه الله أيضًا

(2)

: (وبعض الناس يقصد الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك، ويدعو التماثيل التي في الكنائس، ويحصل ما يحصل من غرضه.

وبعض الناس يدعو بأدعية محرمة باتفاق المسلمين، ويحصل ما يحصل من غرضه.

فحصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحتَه، وإن كان الغرض مباحًا، فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته.

(1)

أخرجه البخاري برقم (952) ومسلم برقم (892) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

ينظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ابن تيمية (1/ 200).

ص: 107

والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فجميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد، لكن لما كانت مفاسدُها راجحة على مصالحها نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها.

كما أن كثيرًا من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة، لكن لما كانت مصلحتُه راجحة على مفسدته أمر به الشارع).

شروط إنكار المنكر:

فهذا يدل على أنه ليس كل معروف يؤمر به في الحال، ولا كل منكر ينهى عنه في الحال، بل يجب النظر في المآلات، فإذا كان المعروف المأمور به سيترتب عليه ما هو أعظم من المنكر، لم يحل الأمر به، وكذلك إذا ترتب على النهي عن المنكر ما هو أنكر منه لم يجز الإنكار.

وقد بين ابن القيم رحمه الله هذا الأصل وتوسع في شرحه، وضرب على ذلك أمثلة، فقال

(1)

:

(المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله.

وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (3/ 11).

ص: 108

الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لا، ما أقاموا الصلاة»

(1)

، وقال:«من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر، ولا ينزعن يدًا من طاعتِه»

(2)

.

ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر؛ فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها.

بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر

(3)

، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء.

(1)

أخرجه مسلم برقم (1855) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.

(2)

نص الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، إلا مات ميتة جاهلية» . أخرجه البخاري برقم (7054)، ومسلم برقم (1849). وأما قوله:«ولا ينزعن يدًا من طاعته» ، فقد أخرجه الإمام مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه، ولفظه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» ، قالوا: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال:«لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ، فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة» .

(3)

يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة، ولجعلتها على أساس إبراهيم» . أخرجه البخاري برقم (1583)، ومسلم برقم (1333)، واللفظ له.

ص: 109

درجات إنكار المنكر:

فإنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزولَ ويخلفه ضده.

الثانية: أن يقلَّ وإن لم يزل بجملته.

الثالثة: أن يخلفَه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخلفَه ما هو شرٌّ منه؛ فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة؛ فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج، كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كَرَمْيِّ النُّشَّاب

(1)

وسباق الخيل ونحو ذلك.

وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مُكاء وتصدية

(2)

، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تُفَرِّغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلًا لهم عن ذل.

وكما إذا كان الرجل مشتغلًا بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع.

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصدُّ

(1)

النُّشَّاب: بضم النون وتشديد المعجمة، جمع: نُشَّابه، وهي السهام. ينظر: تهذيب اللغة، الهروي (11/ 260)، والصحاح، الفارابي (1/ 224).

(2)

المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، ينظر: مشكل الحديث وبيانه، الأصبهاني (ص 345).

ص: 110

عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم).

النهي عن قطع الأيدي في الغزو:

ثم ذكر رحمه الله مثالًا ثانيًا، وهو تعطيل بعض الحدود في دار الحرب، حتى لا يكون ذلك سببًا في إضعاف المسلمين وهزيمتهم، فقال رحمه الله

(1)

:

(المثال الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن تقطع الأيدي في الغزو» رواه أبو داود

(2)

، فهذا حدٌّ من حدود الله تعالى، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره، من لحوق صاحبه بالمشركين حمِيةً وغضبا، كما قاله عمر وأبو الدرداء وحذيفة وغيرهم.

وقد نصَّ أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وذكرها أبو القاسم الخرقي في مختصره فقال:(لا يقام الحدُّ على مسلم في أرض العدو).

وقد أتى بشر بن أرطأة برجل من الغزاة قد سرق بُخْتِيَّةً

(3)

فقال: لولا أني

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (3/ 13).

(2)

أخرجه الترمذي برقم (1450)، عن بسر بن أرطاة، وهو عند أبي داود برقم (4408) بلفظ:«لا تُقطَعُ الأيدي في السَّفر» ، قال الترمذي:(هذا حديث غريب، وقد رواه غير ابن لهيعة بهذا الإسناد نحو هذا، ويقال: بسر بن أبي أرطاة أيضًا، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم: الأوزاعي: لا يرون أن يقام الحد في الغزو بحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو، فإذا خرج الإمام من أرض الحرب ورجع إلى دار الإسلام أقام الحد على من أصابه كذلك قال الأوزاعي)، والحديث صححه الشيخ الألباني.

(3)

البُخْتِيَّة: الْأُنْثَى مِنْ الْجِمَال، طِوَال الْأَعْنَاق، وَالذَّكَر بُخْتِيّ، وَالْجَمْع بُخْت. ينظر: عون المعبود، العظيم آبادي (9/ 435).

ص: 111

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقطع الأيدي في الغزو لقطعت يدك» ، رواه أبو داود

(1)

.

وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة.

روى سعيد بن منصور في سننه

(2)

بإسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه عن عمر كتب إلى الناس؛ ألّا يُجلدن أمير جيش ولا سريةٍ ولا رجل من المسلمين حدًّا وهو غازٍ، حتى يقطع الدرب قافلًا؛ لئلا تلحقه حميةُ الشيطان فيلحق بالكفار.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مثل ذلك

(3)

.

وقال علقمة: كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان، وعلينا الوليد بن عقبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحدَّه، فقال حذيفة: أتحدُّون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم؟

(4)

.

(1)

سنن أبي داود برقم (4408)، باللفظ السابق.

(2)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه برقم (2500).

(3)

قال ابن قدامة رحمه الله في المغني (9/ 308): (وجملته أن من أتى حدًّا من الغزاة، أو ما يوجب قصاصًا، في أرض الحرب، لم يقم عليه حتى يقفل، فيقام عليه حده، وبهذا قال الأوزاعي، وإسحاق، وقال مالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر: يقام الحد في كل موضع؛ لأن أمر الله تعالى بإقامته مطلق في كل مكان وزمان، إلا أن الشافعي قال: إذا لم يكن أمير الجيش الإمام، أو أمير إقليم، فليس له إقامة الحد، ويؤخر حتى يأتي الإمام؛ لأن إقامة الحدود إليه، وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود، أو قوة به، أو شغل عنه، أخر، وقال أبو حنيفة: لا حد ولا قصاص في دار الحرب، ولا إذا رجع، ولنا، على وجوب الحد، أمر الله تعالى ورسوله به، وعلى تأخيره، ما روى بشر بن أبي أرطأة، أنه أتي برجل في الغزاة قد سرق بختية، فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تقطع الأيدي في الغزاة لقطعتك» ، أخرجه أبو داود وغيره، ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه برقم (2501).

ص: 112

وأتى سعد بن أبي وقاص بأبي مِحجن يوم القادسية وقد شرب الخمر، فأمر به إلى القيد، فلما التقى الناس قال أبو محجن:

كفى حزنًا أن تُطردَ الخيلُ بالقَنا

وأُترك مشدودًا عليَّ وثاقيا

فقال لابنة خَصْفة

(1)

امرأة سعد: أطلقيني ولك والله علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قُتلت استرحتُم مني، قال: فحَلَّته حتى التقى الناس.

وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس، قال: وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة.

فوثب أبو مِحجن على فرس لسعد يقال لها البلقاءُ، ثم أخذ رمحًا، ثم خرج، فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا ملَكٌ، لما يرونه يصنع. وجعل سعد يقول: الضبْرُ

(2)

ضَبْرُ البلقاء، والطعنُ طعنُ أبي محجن، وأبو محجن في القيد.

فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرت ابنةُ خصفة سعدًا بما كان من أمره، فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلًا أبلى للمسلمين ما أبلاهم، فخلى سبيله.

فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يقام علي الحدُّ وأطهَّر منها، فأما إذ بهْرَجْتَني

(3)

فوالله لا أشربها أبدًا

(4)

.

(1)

هذا هو الصواب وتتصحف كثيرًا إلى حفصة.

(2)

ضبر الفرس: إذا جمع قوائمه ووثب، ينظر: الكوكب الوهاج، الهرري (4/ 325).

(3)

وقوله: (إذ بهْرَجْتَني)، أي: أهدرتني بإسقاط الحدِّ عني، ومنه:(بهرج دم ابن الحارث)، أي: أبطله.

(4)

أخرجه سعيد بن منصور في سننه برقم (2502).

ص: 113

وليس في هذا ما يخالف نصًّا ولا قياسًا ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعًا، بل لو ادعى أنه إجماع الصحابة كان أصوب.

قال الشيخ في المغني

(1)

: وهذا اتفاق لم يظهر خلافه، قلت: وأكثر ما فيه تأخير الحدِّ لمصلحة راجحة إما من حاجة المسلمين إليه، أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار.

وتأخير الحدِّ لعارض أمرٌ وردت به الشريعة، كما يؤخر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحرِّ والبرد والمرض؛ فهذا تأخير لمصلحة المحدود؛ فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى.

ومن ذلك أنه نهى أن يسمر بعد العشاء الآخرة إلا لمصلٍّ أو مسافر، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها

(2)

، وما ذاك إلا لأن النوم قبلَها ذريعةٌ إلى تفويتها، والسمر بعدها ذريعةٌ إلى تفويت قيام الليل، فإن عارضه مصلحة راجحة كالسمر في العلم ومصالح المسلمين لم يكره)

(3)

.

(1)

ينظر: المغني، ابن قدامة (9/ 310).

(2)

أخرجه البخاري برقم (547)، ومسلم برقم (647)، عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه.

(3)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (3/ 118).

ص: 114

‌القاعدة السابعة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح

هذه القاعدة فرع عن القاعدة السابقة، فإذا تعارض مفسدة ومصلحة، قُدِّم دفع المفسدة غالبًا، وذلك عند تساويهما في النظر، أو عند غلبة المفسدة، لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات.

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه»

(1)

.

ومن ثم سومح في ترك بعض الواجبات دفعًا للمشقة؛ كالقيام في الصلاة، والفطر والطهارة، ولم يسامح في الإقدام على المنهيات: وخصوصًا الكبائر

(2)

.

والمراد بدرء المفاسد: دفعُها ورفعُها وإزالتها.

ومن أدلة ثبوت هذه القاعدة:

* قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، قال الإمام ابن كثير رحمه الله

(3)

:

(يقول تعالى ناهيًا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسبِّ إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبِّك آلهتنا، أو

(1)

أخرجه البخاري برقم (7288)، ومسلم برقم (1337)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ينظر: الأشباه والنظائر، السيوطي (ص 87).

(3)

ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 314).

ص: 115

لنهجُوَنَّ ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسبُّ الكفار اللهَ عدْوًا بغير علم، فأنزل الله:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} .

* ومن الأدلة كذلك: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].

فعلى الرغم من وجود بعض المنافع لبعض الناس في شرب الخمر والاتجار بها، وكذلك في لعب الميسر، إلا أنه غلَّب جانب المفسدة فحرمهما، وعلل ذلك بأن الإثم فيهما كبير وهو أكبر من النفع الجزئي الحاصل لبعض الناس، قال الإمام ابن كثير رحمه الله

(1)

:

(وقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} : أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية، من حيث إن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذة الشدة المطربة التي فيها، كما قال حسان بن ثابت في جاهليته:

ونشربُها فتتركنا ملوكًا

وأسْدًا لا ينهنهها اللقاءُ

وكذا بيعُها والانتفاع بثمنها، وما كان يقمِّشه بعضُهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرتَه ومفسدته الراجحة، لتعلقها بالعقل والدين، ولهذا قال:{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} ؛ ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرحة بل معرِّضة؛

(1)

ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 579).

ص: 116

ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما قرئت عليه: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا

(1)

، حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91]).

* ومن الأدلة كذلك: ما اتفق عليه الشيخان -واللفظ لمسلم- من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجَدْرِ؟ أَمِنَ البيت هو؟ قال: «نعم» ، قلتُ: فلم لم يُدْخلوهُ في البيت؟ قال: «إن قومكِ قَصَّرَتْ بهمُ النفقة» ، قلتُ: فما شأنُ بابِهِ مرتفعًا؟ قال: «فَعَلَ ذلك قومُكِ ليُدخْلوا من شاؤُوا، ويمنعوا من شاؤوا؛ ولولا أنَّ قومك حديثٌ عهدُهُمْ في الجاهليَّةِ فأخاف أن تنكِرَ قلوبُهُمْ: لنظرتُ أن أُدخل الجَدْرَ في البيت، وأن أُلزق بابَهُ بالأرض»

(2)

.

قال الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله

(3)

: (وقد بوَّب البخاري على حديث عائشة، فقال: باب من ترك بعض الاختيار مخافةَ أن يَقْصُرَ فهم بعضِ

(1)

يشير إلى حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال:«اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء» ، فنزلت التي في البقرة:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال:«اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء» ، فنزلت التي في النساء:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، فدعي عمر فقرئت عليه، ثم قال:«اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء» ، فنزلت التي في المائدة:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91]، إلى قوله:{فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال:«انتهينا انتهينا» ، أخرجه أبو داود برقم (3670)، والترمذي برقم (3049)، والنسائي برقم (5540)، وأحمد في المسند برقم (378)، وصححه الألباني.

(2)

أخرجه البخاري برقم (1584)، ومسلم برقم (1333).

(3)

ينظر: ضروة الاهتمام بالسنن النبوية، عبد السلام بن برجس (ص 95).

ص: 117

الناس عنه فيقعوا في أشدَّ منه. اه. قال الحافظ في الفتح

(1)

: ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه. اه.

وقال شيخ الإسلام في مَعْرِضِ ذكر بعض المستحبات

(2)

: ويسْتَحَبُّ للرجل أن يَقصِدَ إلى تأليف القلوب بتركِ هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليفِ في الدينِ أعظمُ من مصلحة فعل مثل هذا.

كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تَغْيِيرَ بناءِ البيت لِمَا في إبقائهِ من تأليفِ القلوب، وكما أنكر ابنُ مسعودٍ على عثمانَ إتمامَ الصلاة في السَّفر، ثم صَلّى خَلْفَهُ مُتمًّا، وقال: الخلافُ شَرٌّ.

وقال رحمه الله في موضعٍ آخر

(3)

: (فالعمل الواحد يكون فعله مستحبًّا تارة، وتركه تارة، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه، بحسب الأدلة الشرعية.

والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فسادٌ راجحٌ على مصلحته، كما تركَ النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم عليه السلام وقال لعائشة:«لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضتُ الكعبة ولألصقتُها بالأرض ولجعلت لها بابين بابًا يدخل الناس منه وبابًا يخرجون منه» ، والحديث في الصحيحين

(4)

، فتركَ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي كان عنده أفضل

(1)

ينظر: فتح الباري، ابن حجر (1/ 225).

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى (22/ 407).

(3)

ينظر: المصدر السابق (24/ 195).

(4)

سبق تخريجه.

ص: 118

الأمرين للمعارض الراجح، وهو: حِدْثَانُ عهدِ قريش بالإسلام، لما في ذلك من التنفير لهم، فكانت المفسدة راجحة على المصلحة.

ولذلك استحب الأئمةُ: أحمد وغيرُه: أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف المأمومين، مثل أن يكون عنده فصل الوتر أفضل بأن يُسَلِّم في الشفعِ ثم يصلي ركعةَ الوترِ، وهو يؤمُّ قومًا لا يرون إلا وَصْلَ الوتر، فإذا لم يمكنْهُ أن يتقدَّمَ إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقتِهِ لهم بوصلِ الوترِ أرجح من مصلحة فَصْلِهِ مع كراهتهم للصلاة خَلْفَهُ.

وكذلك لو كان ممن يرى المخافتَةَ بالبَسْمَلَةِ أفضلَ أو الجهرَ بها، وكان المأمومون على خلاف رأيه، ففعل المفضولَ عنده لمصلحةِ الموافقةِ والتأليف التي هي راجحةٌ على مصلحة تلك الفضيلة كان جائزًا حسنًا).

ومن تطبيقات هذه القاعدة

(1)

:

1 -

لا يجوز للمالك أن يتصرف بملكه بما يضرُّ الغير كاتخاذ معصرة أو فرن يؤذيان الجيران.

2 -

يمنع الشخص من الاتجار بالمحرمات من خمر ومخدرات ولو أدت إلى ربح لأن المفسدة أكبر.

3 -

يمنع الاحتكار والتعدي في الأسعار، ولوكان فيها مصلحة لصاحبها، لحصول المضرة على الآخرين.

4 -

يشرع التخلف عن الجماعة والجمعة بسبب المرض والخوف وتمريض الضائع ونحو ذلك.

(1)

ينظر: القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب، الزحيلي (1/ 239).

ص: 119

5 -

يكره صلاة التراويح في البيوت إذا أدت إلى تعطيل المساجد، تقديمًا لدرء المفسدة، وهي تعطيل المساجد على تحصيل المصلحة وهي صلاتها في البيوت.

6 -

من لم يجد سترة ترك الاستنجاء، ولو على شط نهر؛ لأن النهي عن كشف العورة راجح على الأمر بإزالة النجاسة.

7 -

المبالغة في المضمضة والاستنشاق مسنونة، وتكره للصائم تقديمًا لدرء مفسدة إفساد الصيام على جلب مصلحة سنية المضمضة والاستنشاق.

8 -

قطع اليد المتآكلة حفظًا للروح إذا كان الغالب السلامة بقطعها.

ص: 120

‌القاعدة الثامنة: ما ترتب على المأذون غير مضمون

قال الشيخ عبد الله البسام رحمه الله في درسه في الحرم المكي: (هناك قاعدة في الفقه تقول: ما ترتب على المأذون فليس بمضمون؛ إلا مع التفريط).

والمعنى: أن الولي أو الوكيل إذا اجتهد ولم يفرط لا يضمن ما يحصل منه من تلفيَّات أو خسارة ونحو ذلك، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه مأذون له في البيع والشراء، وما ترتب على المأذون غير مضمون؛ ولأنه أمين والأمين لا ضمان عليه مع عدم التعدي والتفريط.

أما ما يحصل من تلفيات لم يؤذن له فيها فإنه مضمون، أي: يضمن ما يترتب على هذه التلفيات.

ولهذا قال الفقهاء في هذه القاعدة: ما ترتب على المأذون فليس بمضمون، وما ترتب على غير المأذون فهو مضمون.

يعني: ما أذن لك فيه ففعلته فلا تضمن ما ترتب عليه من تلف إذا لم تتعد، لكن إذا قمت بعمل ليس بمأذون فيه ثم إنه حصل من ذلك تلف فإنك تضمن؛ لأنك فعلت ما لم يؤذن لك بفعله، فما ترتب عليه فهو مضمون، أي: تضمنه حيث قمت بهذا الفعل غير المأذون فيه.

فمثلًا: الطبيب الذي أُذن له بالعلاج فما ترتب على هذا المأذون فإنه غير مضمون، وأيضًا هذا المريض أمانة بيد الطبيب، والأمين لا يضمن إلا بالتعدي أو التفريط.

وهكذا السارق إذا قُطعت يده، فسرى ذلك إلى بقية يده من غير أن يحصل

ص: 121

أي اعتداء، فنقول: إن هذه السرايةَ لا تُضمن؛ لأن هذا الفعل تم بحقٍّ ومأذون فيه من الشارع.

لكن لو أن رجلًا قطع يد آخر، ثم إن الجناية سرت، فإن عليه ضمان سراية هذه الجناية، لأن هذا الفعل غير مأذون فيه.

وعكس هذه القاعدة: (ما ترتب على غير المأذون فهو مضمون).

والمعنى كما قلنا: أن من قام بعمل لم يُؤذن له فيه، فإنه يضمن ما يترتب على هذا الفعل من أضرار.

وقد مثل العلماء رحمهم الله لهذه القاعدة برجل جنى على شخص، فقطع إصبعه، ثم إن الجرح سرى إلى اليد، ثم إلى البدن، ثم مات من الجرح، فإن الجارح يضمن نفسًا كاملة، ولا يقف ضمانه على الإصبع الذي قطعه؛ لأن قطعه للإصبع غير مأذون فيه، وما ترتب على غير مأذون فهو مضمون.

ودليل هذه القاعدة حديث أبي هريرة في صحيح مسلم

(1)

، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي؟ قال: «لا تعطه» ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار» ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» .

فَقَتْلُ الصائل مأذون فيه، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرتب عليه ضمانًا، بل قال: بأن صاحبه في النار، فما ترتب على المأذون ليس بمضمون.

ومن أمثلته ما تقدم في دفع الصائل إذا لم يندفع إلا بالضرب، إلا بالقطع، إلا بالقتل

إلى آخره.

(1)

أخرجه مسلم برقم (140)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 122

ومثل ذلك أيضًا: الأكل من مال اليتيم، هذا مأذون فيه إذا كان الولي فقيرًا، وعلى هذا نقول: بأنه لا يجب عليه أن يضمن، وإذا استغنى هذا الولي، فكذلك لا يجب عليه أن يضمن، فما ترتب على المأذون فليس مضمونًا

(1)

.

(1)

ينظر: شرح القواعد الفقهية، الشيخ خالد المشيقح، على شبكة الإنترنت.

https:// www.moswarat.com

ص: 123

‌القاعدة التاسعة: كل نجس حرام، وليس كل حرام نجسًا

هذه القاعدة تدل على أنه لا ملازمة بين التحريم والنجاسة؛ فكل نجس حرام، وليس كل حرام نجسًا.

فلبس الحرير والذهب حرام على الذكور، وهما طاهران ضرورة إجماعًا

(1)

.

يقول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله

(2)

: (فهاتان القاعدتان ينبغي لطالب العلم أن يفهمهما:

‌القاعدة الأولى: (كل نجس حرام):

فدليلها قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]؛ فبين تبارك وتعالى أن علة التحريم كونه رجسًا، أي: نجسًا، فيستفاد من ذلك أن كل نجس فهو حرام).

من أمثلة هذه القاعدة:

روث الحمار نجس، وأيضًا أكلُه حرام، وغيرها كثير.

‌القاعدة الثانية: (ليس كلُّ حرام نجس):

فإننا نرى أن السمَّ حرام وليس بنجس، وأكل البصل لمن أراد أن يأكله

(1)

ينظر: التحرير شرح الدليل (ص 221).

(2)

ينظر: فتاوى نور على الدرب، ابن عثيمين، على موقع الشيخ الرسمي على الشبكة العنكبوتية.

http:// www.ibnothaimeen.com

ص: 124

ليتخلف عن الجماعة حرام، والبصل ليس بنجس، وأما أكل البصل للتشهي أو التطبب فلا بأس به، ولو أدى ذلك إلى ترك الجماعة، لأنه لم يقصد بأكله أن يتخلف عن الجماعة، ونجد أن الدخان -السيجارة- حرام، وليس بنجس.

ومن أمثلة هذه القاعدة:

• شرب الخمر حرام، ولكن -على الراجح- ليست بنجسة.

• شرب السُّم حرام، ولكنه ليس بنجس.

• شرب سيجارة الدخان حرام، ولكنها ليست بنجس.

• أكل البصل من أجل ترك صلاة الجماعة في المسجد حرام، ولكنه ليس بنجس، وغيرها كثير.

وفي حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الوضوء بماء البحر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيه:«هو الطهور ماؤه الحل ميتَتُه»

(1)

.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في فتح ذي الجلال والإكرام

(2)

: (ومن فوائد هذا الحديث: أن جميع الأسماك والحيتان حلال لعموم قوله: «ميتته» ، وميتة هنا: مفرد مضاف، فيعم فكل ميتة البحر من أسماك وحيتان فإنه حلال

(3)

.

وهل هو طاهر أو غير طاهر؟

(1)

أخرجه أبو داود برقم (83)، والترمذي برقم (69)، والنسائي برقم (59)، وابن ماجه برقم (386)، وأحمد في المسند برقم (8735).

(2)

ينظر: فتح ذي الجلال والإكرام (1/ 60).

(3)

واستثنى الحنابلة الضفدع والتمساح. ينظر: المغني، ابن قدامة (9/ 425)، واختلفوا فيما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر، وذلك ككلب الماء وطيره والسلحفاة ونحو ذلك، ينظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي (6/ 696).

ص: 125

هو طاهر وحلال، لأن لدينا قاعدة مفيدة وهي:(أن كل حلال فهو طاهر، وليس كل طاهر حلالًا، وكل نجس فهو حرام، وليس كل حرام نجسًا).

كل حلال طاهر واضح، وليس كل طاهر حلالًا مثل الأشياء الضارة؛ كالسم والدخان، والحشيشة، وما أشبه ذلك، فهذه طاهرة، وهي حرام على خلاف في مسألة الحشيشة والخمر، لكن القول الراجح أنها طاهرة.

ثانيا: كل نجس حرام، الدليل قوله تعالى:{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]. فعلل الله تعالى التحريم بالنجاسة، فدل ذلك على أن كل نجس فهو حرام، هذا من جهة الأثر -الدليل الأثري-.

أما الدليل النظري: فهو أنه إذا كان يجب علينا أن نزيل أثر هذا الشيء من ظواهرنا، فكيف ندخله إلى بواطننا؟

وأيضًا: وليس كل حرام نجًسا، صحيح وهو كذلك كالدخان والسم وشبهه فإنه حرام وليس بنجس، إذن نستفيد من هذا الحديث: أن جميع ميتات البحر حلال، وجميع حيتانه وأسماكه حلالٌ حيّها وميتها).

وقال أيضًا في نفس الكتاب

(1)

: (وحديث أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة فنادى يوم خيبر: «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس»

(2)

، هنا نقيس على ذلك كل رجس، ونقول: كل رجس فهو حرام، والرجس: هو النجس؛ ولهذا من القواعد المقررة: (أن كل نجس حرام وليس كل حرام نجسًا)؛ فالسم مثلًا حرام وليس بنجس، الدخان حرام وليس بنجس،

(1)

ينظر: فتح ذي الجلال والإكرام، ابن عثيمين (1/ 608).

(2)

أخرجه البخاري برقم (5528)، وأخرجه مسلم برقم (1937)، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.

ص: 126

لكن لحم الخنزير نجس فهو حرام، فهاتان قاعدتان مفيدتان: كل نجس حرام وليس كل حرام نجسًا).

مسألة: هل يحرم استعمال النجاسة وملابستها من كل وجه؟

ذكرنا في هذه القاعدة: (أن كل نجس فهو حرام).

فهل التحريم يتناول كل أوجه استعمالات النجاسة؟

أم أن هناك صورًا مستثناة من هذا التحريم؟

وقد تكلم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند حديثه عن حكم الفخَّار الذي يشوى بالنجاسة، والأفران التي تسخن بالزبل، فقال رحمه الله

(1)

: (هذه المسائل مبنية على أصلين:

أحدهما: السرجين

(2)

النجس، ونحوه في الوقود ليسخن الماء أو الطعام ونحو ذلك، فقال بعض الفقهاء من أصحاب أحمد، وغيره: إن ذلك لا يجوز؛ لأنه يتضمن ملابسة النجاسة ومباشرتها.

وقال بعضهم: إن ذلك مكروه غير محرم؛ لأن إتلاف النجاسة لا يحرم، وإنما ذلك مَظِنَّةُ التلوث بها، ومما يشبه ذلك الاستصباحُ بالدهن النجس، فإنه استعمالٌ له بالإتلاف، والمشهور عن أحمد، وغيره من العلماء أن ذلك يجوز، وهو المأثور عن الصحابة.

والقول الآخر عنه، وعن غيره: المنع؛ لأنه مَظِنةُ التلوث به، ولكراهة دخان النجاسة.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (21/ 608)

(2)

السرجين: هو الزبل أو البعر والروث، وهو ما يعرف بالسماد الذي تسمد به الأشجار والزروع.

ص: 127

والصحيح أنه لا يحرم شيء من ذلك، فإن الله تعالى حرم الخبائث من الدم، والميتة، ولحم الخنزير.

وقد ثبت في الصحيحين: عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «إنما حرم من الميتة أكلها»

(1)

.

ثم إنه حرم لبسها قبل الدباغ، وهذا وجه قوله في حديث عبد الله بن عكيم:«كنت رخصتُ لكم في جلودِ الميتةِ، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عَصَب»

(2)

.

فإن الرخصة متقدمة كانت في الانتفاع بالجلود بلا دباغ، كما ذهب إليه طائفة من السلف، فرفَع النهي عما أرخص.

فأما الانتفاع بها بعد الدباغ فلم ينه عنه قط، ولهذا كان آخر الروايتين عن أحمد: إن الدباغ مطهِّرٌ لجلود الميتة، لكن هل يقوم مقام الذكاة، أو مقام الحياة فيطهر جلد المأكول، أو جلد ما كان طاهرًا في الحياة دون ما سوى ذلك؟ على وجهين: أصحّهما الأول، فيطهر بالدباغ ما تطهره الذكاة، لنهيه صلى الله عليه وسلم في حديث عن جلود السباع

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (1492)، ومسلم برقم (363)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرج هذا اللفظ الطبراني في الأوسط برقم (104)، وقال: لم يروه عن أبي سعيد البصري، إلا يحيى بن أيوب، تفرد به: فضالة بن المفضل، عن أبيه، وأخرجه أبو داود برقم (4127 - 4128)، والترمذي برقم (1729)، والنسائي برقم (4249)، وابن ماجه برقم (3613)، وأحمد في المسند برقم (18780)، وليس فيه ذكر الرخصة الأولى.

(3)

يشير إلى حديث أبي المليحِ بنِ أسامة، عن أبيه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جُلُودِ السِّبَاعِ، أخرجه أبو داود برقم (4132)، والترمذي برقم (1770)، والنسائي برقم (4253)، وأحمد في المسند برقم (20706)، وصححه الألباني.

ص: 128

وأيضًا فإن استعمال الخمر في إطفاء الحريق ونحو ذلك، سلَّمه المنازعون، مع أن الأمر بمجانبة الخمر أعظم، فإذا جاز إتلاف الخمر بما فيه منفعة، فإتلاف النجاسات بما فيه منفعة أولى؛ ولأنهم سلموا جواز طعام الميتة للبزاة والصقور فاستعمالها في النار أولى.

وأما قول القائل: هذا مَظِنَّةُ ملابستها، فيقال: ملابسة النجاسة للحاجة جائز إذا طهر بدنه وثيابه عند الصلاة ونحوها، كما يجوز الاستنجاء بالماء مع مباشرة النجاسة، ولا يكره ذلك على أصح الروايتين عن أحمد، وهو قول أكثر الفقهاء.

والرواية الثانية يكره ذلك بل يستعمل الحجر، أو يجمع بينهما، والمشهور أن الاقتصار على الماء أفضل وإن كان فيه مباشرتها.

وفي استعمال جلود الميتة إذا لم يقل بطهارتها في اليابسات روايتان: أصحهما جواز ذاك، وإن قيل إنه يكره فالكراهة تزول بالحاجة.

وأما قوله: هذا يفضي إلى التلوث بدخان النجاسة، فهذا مبني على الأصل الثاني، وهو أن النجاسة في الملَّاحة إذا صارت ملحًا، ونحو ذلك، فهل هي نجسة أم لا؟ على قولين مشهورين للعلماء، هما روايتان عن أحمد نصَّ عليهما في الخنزير المشوي في التنور، هل تُطهِّر النار ما لصق به، أم يحتاج إلى غسل ما أصابه منه؟ على روايتين منصوصتين:

إحداهما: هي نجسة، وهذا مذهب الشافعي، وأكثر أصحاب أحمد، وأحد قولي أصحاب مالك، وهؤلاء يقولون: لا يطهر من النجاسة بالاستحالة إلا الخمرة المنتقلة بنفسها، والجلد المدبوغ إذا قيل إن الدبغ إحالة لا إزالة.

والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد قولي المالكية، وغيرهم: إنها لا تبقى نجسة، وهذا هو الصواب، فإن هذه الأعيان لم يتناولها نصُّ التحريم، لا

ص: 129

لفظًا ولا معنًى؛ وليست في معنى النصوص؛ بل هي أعيان طيبة فيتناولها نصُّ التحليل، وهي أولى بذلك من الخمر المنقلبةِ بنفسها.

وما ذكروه من الفرق بأن الخمر نجست بالاستحالة، فتطهر بالاستحالة، باطل، فإن جميع النجاسات إنما نجست بالاستحالة كالدم، فإنه مستحيل عن الغذاء الطاهر، وكذلك البول والعذرة، حتى الحيوان النجس مستحيل عن الماء والتراب ونحوهما من الطاهرات.

ولا ينبغي أن يعبر عن ذلك بأن النجاسة طهرت بالاستحالة، فإن نفس النجسِ لم يطهر، لكن استحال، وهذا الطاهر ليس هو ذلك النجس وإن كان مستحيلًا منه، والمادة واحدة، كما أن الماء ليس هو الزرع، والهواء، والحب، وتراب المقبرة ليس هو الميت، والإنسان ليس هو المني.

والله تعالى يخلق أجسام العالم بعضها من بعض، ويحيل بعضها إلى بعض، وهي تبدل من الحقائق، ليس هذا هذا، فكيف يكون الرماد هو العظم الميت، واللحم، والدم نفسه، بمعنى أنه يتناوله اسم العظم.

وأما كونه هو هو باعتبار الأصل والمادة، فهذا لا يضر، فإن التحريم يتبع الاسم والمعنى الذي هو الخبث، وكلاهما منتف.

وعلى هذا فدخان النار الموقدة بالنجاسة طاهر، وبخار الماء النجس الذي يجتمع في السقف طاهر، وأمثال ذلك من المسائل، وإذا كان كذلك، فهذا الفخارُ طاهر، إذ ليس فيه من النجاسة شيء، وإن قيل: إنه خالطه من دخانها، خرج على القولين، والصحيح أنه طاهر.

وأما نفس استعمال النجاسة فقد تقدم الكلام فيه، والنزاع في الماء المسخَّن بالنجاسة، فإنه طاهر.

ص: 130

لكن هل يكره؟ على قولين هما روايتان عن أحمد: إحداهما لا يكره، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.

والثاني: يكره، وهو مذهب مالك، وللكراهة مأخذان.

أحدهما: خشية أن يكون قد وصل إلى الماء شيء من النجاسة، فيكره لاحتمال تنجسه، فعلى هذا إذا كان بين الموقد وبين النار حاجز حصين لم يكره، وهذه طريقة الشريف أبي جعفر، وابن عقيل، وغيرهما.

والثانية: أن سبب الكراهة كون استعمال النجاسة مكروها؛ وأن السخونة حصلت بفعل مكروه، وهذه طريقة القاضي أبي يعلى، ومثل هذا طبخ الطعام بالوقود النجس؛ فإن نضج الطعام كسخونة الماء؛ والكراهة في طبخ الفخار بالوقود النجس تشبه تسخين الماء الذي ليس بينه وبين النار حاجز، والله أعلم).

ص: 131

‌القاعدة العاشرة: الخراج بالضمان

أي: الغلة بإزاء الضمان، أي: مستحقَّة بسببه، فمن كان ضمان المبيع عليه كان خراجُه له، وكما أن المبيع لو تلف أو نقص في يد المشتري فهو في عهدته، وقد تلف على ملكه، ليس على بائعِه شيء، فكذا لو زاد وحصل منه على غلة فهو له لا للبائع، إذا فسخ بنحو عيب، فالغُنم لمن عليه الغُرم، ولا فرق عند الشافعية بين الزائد من نفس المبيع كالنتاج والثمر وغيرها كالغلة

(1)

.

وأصل هذه القاعدة هو نص نبوي شريف، وذلك فيما أخرجه أصحاب السنن عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلًا ابتاع غلامًا، فأقام عنده ما شاء اللهُ أن يُقيم، ثم وجد به عيبًا، فخاصمه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فردّة عليه، فقال الرجلُ: يا رسولَ الله قد استغلَّ غلامي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«الخَرَاجُ بالضمَانِ»

(2)

.

قال الخطابي رحمه الله في معالم السنن

(3)

: (معنى الخراج: الدخل والمنفعة، ومن هذا قوله تعالى:{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [المؤمنون: 72].

ويقال للعبد إذا كان لسيده عليه ضريبة: مُخارج.

(1)

ينظر: فيض القدير، المناوي (3/ 503).

(2)

أخرجه أبو داود برقم (3510)، وابن ماجه برقم (2243)، وأخرجه بغير القصة الترمذي برقم (1285 - 1286)، والنسائي برقم (4490)، وأحمد في المسند برقم (24224 - 25999). قال الترمذي في أحد أسانيده: حديث حسن صحيح.

(3)

ينظر: معالم السنن (3/ 148).

ص: 132

ومعنى قوله: الخراج بالضمان؛ المبيع إذا كان مما له دخلٌ وغلة، فإن مالك الرقبة الذي هو ضامن الأصل، يملك الخراج بضمان الأصل.

فإذا ابتاع الرجل أرضًا فأشغلها، أو ماشية فنتجها، أودابة فركبها، أو عبدًا فاستخدمه، ثم وجد به عيبًا، فله أن يردَّ الرقبة ولا شيء عليه فيما انتفع به، لأنها لو تلفت ما بين مدة العقد والفسخ، لكانت من ضمان المشتري، فوجب أن يكون الخراج من حقِّه).

وقال الصنعاني رحمه الله

(1)

: (وقد اختلف العلماء في المسألة على أربعة أقوال:

الأول: للشافعي: أن الخراج بالضمان على ما قررناه في معنى الحديث، وما وجد من الفوائد الأصلية والفرعية فهو للمشتري، ويرد المبيع، ما لم يكن ناقصًا عما أخذه.

الثاني: للهادوية: أنه يفرق بين الفوائد الأصلية والفرعية، فيستحق المشتري الفرعية، وأما الأصلية فتصير أمانة في يده، فإن ردَّ المشتري المبيع بالحكم وجب الردُّ ويضمن التلف، وإن كان بالتراضي لم يردها.

الثالث: للحنفية: أن المشتري يستحق الفوائد الفرعية كالكراء، وأما الفوائد الأصلية كالثمر، فإن كانت باقية ردَّها مع الأصل، وإن كانت تالفة امتنع الردِّ واستحق الأرشَ

(2)

.

(1)

ينظر: سبل السلام، الصنعاني (2/ 40).

(2)

الأرش: هو الذي يأخذه المشتري من البائع، إذا اطلع على عيب في المبيع، فيقوم المبيع صحيحا، ثم يقوم معيبا، فيؤخذ قسط ما بينهما من الثمن ومنه أروش الجراحات. ينظر: غريب الحديث، ابن الجوزي (1/ 19).

ص: 133

الرابع: لمالك: أنه يفرق بين الفوائد الأصلية كالصوف والشعر فيستحقه المشتري، والولد يرده مع أمه، وهذا ما لم تكن متصلة بالمبيع وقت الردِّ، فإن كانت متصلة وجب الردُّ لها إجماعًا، هذا ما قاله المذكورون، والحديث ظاهر فيما ذهب إليه الشافعي).

وأما قول الحنابلة، فقد قال ابن قدامة رحمه الله في المغني

(1)

: (وما يحصل من غلات المبيع؛ ونمائه المنفصل في مدة الخيار، فهو للمشتري، أمضيا العقد، أو فسخاه، قال أحمد في من اشترى عبدًا، فوهب له مالٌ قبل التفرق، ثم اختار البائع العبد: فالمال للمشتري.

وقال الشافعي: إن أمضيا العقد، وقلنا: الملك للمشتري، أو موقوف. فالنماء المنفصل له، وإن قلنا: الملك للبائع، فالنماء له.

وإن فسخا العقد، وقلنا: الملك للبائع، أو موقوف، فالنماء له، وإلا فهو للمشتري. ولنا، قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الخراج بالضمان» ، قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

وهذا من ضمان المشتري، فيجب أن يكون خراجه له؛ ولأن الملك ينتقل بالبيع على ما ذكرنا، فيجب أن يكون نماؤه له، كما بعد انقضاء الخيار.

ويتخرج أن يكون النماء المنفصل للبائع إذا فسخا العقد، بناء على الرواية التي قلنا: إن الملك لا ينتقل.

فأما النماء المتصل فهو تابع للمبيع، أمضيا العقد، أو فسخاه، كما يتبعه في الرد بالعيب والمقايلة.

(1)

ينظر: المغني، ابن قدامة (3/ 489).

ص: 134

وضمان المبيع على المشتري إذا قبضه، ولم يكن مكيلًا، ولا موزونًا، فإن تلف، أو نقص، أو حدث به عيب في مدة الخيار، فهو من ضمانه؛ لأنه ملكه، وغلته له، فكان من ضمانه، كما بعد انقضاء الخيار، ومؤنته عليه.

وإن كان عبدًا، فهلَّ هلال شوال، ففطرته عليه لذلك، فإن اشترى حاملًا، فولدت عنده في مدة الخيار، ثم ردَّها على البائع، لزمه ردُّ ولدها؛ لأنه مبيع حدثت فيه بزيادة متصلة، فلزمه ردُّه بزيادته، كما لو اشترى عبدين، فسمِن أحدهما عنده.

وقال الشافعي في أحدِ قوليه: لا يردُّ الولد؛ لأن الحمل لا حكم له؛ لأنه جزء متصل بالأم، فلم يأخذ قسطًا من الثمن، كأطرافها.

ولنا، أن كل ما يقسط عليه الثمن إذا كان منفصلًا، يقسط عليه إذا كان متصلًا، كاللبن.

وما قالوه يبطل بالجزء المشاع، كالثلث، والربع، والحكم في الأصل ممنوع، ثم يفارق الحمل الأطراف؛ لأنه يئول إلى الانفصال، وينتفع به منفصلًا، ويصحُّ إفرادُه بالعتق، والوصية به، وله، ويرث إن كان من أهل الميراث، ويفرد بالدية، ويرثها ورثته.

ولا يصح قولهم: إنه لا حكم للحمل لهذه الأحكام وغيرها مما ذكرناه في غير هذا الموضع).

ص: 135

‌القاعدة الحادية عشر: الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل

هذه القاعدة تختص بالمسائل الربوية، فالشرط في حِلِّ تبادل الأَموال الربوية تحقق المماثلة بينها، وعند الشك في تحقق المماثلة أو الجهل بها تفسد المعاملة وتبطل لاحتمال الربا، وباب الربا مبني على الاحتياط كما سبق بيانه، وهذا أمر متفق عليه

(1)

.

قال الشيخ عبد المحسن العباد رحمه الله

(2)

: (لو بيع مثلًا كوم من التمر بكوم من التمر، ولم يعرف مقدار هذا ولا مقدار هذا، فالجهل بالتماثل حاصل، فهو كالعلم بالتفاضل، يعني: أن هذا البيع فيه ربًا، ومن شرط بيع الشيء بجنسه أن يكونا متماثلين، وفي بيع كوم من التمر بكوم آخر من التمر جهالة، فالتماثل بينهما مجهول، فهو لا يجوز كما لو علم بالتفاضل، فلا يجوز هذا البيع حتى لو كان أحدهما رديئًا والآخر طيبًا.

والمخرج من الربا أن يبيع الرديء بنقد، ثم يشتري بالنقد من النوع الطيب الذي يريد، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«بِعِ الجَمعَ بِالدَّرَاهِمِ، وَاشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا»

(3)

.

والجمع: هو التمر المجمَّع المختلط، والجنيب: الجيد من أنواع التمر، فكانوا يبيعون الصاع من الجنيب بالصاعين من الجمع، فنهاهم النبي

(1)

ينظر: موسوعة القواعد الفقهية، آل بورنو (3/ 50).

(2)

ينظر: شرح سنن أبي داوود، عبد المحسن العباد (17/ 411).

(3)

أخرجه البخاري برقم (2201)، ومسلم برقم (1593)، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.

ص: 136

صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وبين لهم المخرج، وهو أن يبيع الرديء بدراهم، ثم يشتري بالدراهم التي يقبضها تمرًا جيدًا، أما أن يبيع جنسًا بجنسه متفاضلًا فهذا لا يجوز).

والحاصل: أن الجهل بالتماثل حكمه حكم العلم بالتفاضل، فكونك تجهل التماثل، أي: تجهل معرفة حجم الكميتين، فهو كالعلم بالتفاضل، أي: كمن يبيع كومين من الرديء بكوم من الجيد، فهذا ربا ولا يجوز وذاك ربا لا يجوز.

ص: 137

‌القاعدة الثانية عشر: كل حلال طاهر، وليس كل طاهر حلالاً

تفيد هذه القاعدة بأن كل ما هو حلال استعماله من أكل أو شرب وغيره فإنه طاهر.

قال الشيخ ابن عثيمين

(1)

: ويلزم من الحِلّ الطَّهارة، ولا عكس.

ووصف الله تعالى الحلال بالطيب، وهذا يقتضي طهارته، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168]، وقال تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114].

والأمثلة على هذه القاعدة ما يلي:

1 -

كل مأكول كالإبل والبقر والغنم والضَّبُع -على الصحيح من أقوال العلماء-، ونحو ذلك، فهو حلال طاهر.

2 -

جميع حيوانات البحر فإن ميتتها حلال، ولذلك فهي طاهرة.

3 -

بعض الحيوانات طاهرة؛ كالهرة، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ»

(2)

ومع ذلك ليست حلالًا.

4 -

كل شيء ليس له نفسٌ سائلة إذا ذبح أو قتل، يعني: ليس له دم يسيل عند ذبحه أو قتله، كالبعوض والذباب والفراش، ونحو ذلك؛ فإنه طاهر، لقوله

(1)

ينظر: الشرح الممتع، ابن عثيمين (1/ 94).

(2)

أخرجه مالك في الموطأ (1/ 23)، وأحمد في المسند (5/ 296 - 303)، وأبو داود برقم (75)، والنسائي (10/ 55)، والترمذي برقم (92)، عن أبي قتادة رضي الله عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2437).

ص: 138

صلى الله عليه وسلم: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ، ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ يَطْرَحْهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سُمًّا، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً»

(1)

، وهذا أيضًا ليس حلالًا.

وغيرها من الأمثلة.

قال الإمام محفوظ الكلوذاني رحمه الله

(2)

: (يباح أكلُ كل طاهر لا ضرر في أكله، كالحيوان كلها، والثمار جميعها، وما عمل منها.

وكذلك لحوم الحيوانات وهي على ضربين:

إنسي ووحشي:

فالإنسي: ينقسم إلى:

ما يباح ذبحه وأكل لحمه: وهو الإبل والبقر والغنم والخيل والدجاج والديوك.

وإلى ما لا يباح ذبحه وأكله: كالآدمي والحمير والبغال والكلاب والخنازير والسنانير

(3)

.

وأما الوحشي: فيقسم إلى:

مباح: وهو البقر والحمير والظباء والضبع والضب، والبط والأوِز والنعام، والحمام والغراب وغراب الزرع والعصافير وما أشبهها.

وإلى محظور: وهو كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مَخلب من الطير؛

(1)

أخرجه البخاري برقم (3320) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ينظر: الهداية على مذهب الإمام أحمد، الكلوذاني (ص 455).

(3)

السنور: حيوان أليف من الفصيلة السنورية ورتبة اللواحم، من خير مآكله الفأر، ومنه أهلي وبري، وجمعها سنانير. ينظر: المعجم الوسيط أحمد الزيات وآخرون (1/ 454).

ص: 139

كالأسد والنمر والذئب والفهد، والفيل والزرافة وابن آوى

(1)

وابن عرس

(2)

، والقنفذ والنسر والصقر والعُقاب

(3)

، والشَّاهين

(4)

والبازي والحِدَأَة

(5)

واللقلق

(6)

، والغراب الأسود الكبير والرَّخَم

(7)

.

وكل ما يأكل الجيف، وكل ما يُخَبِّثُه العرب من الحشرات؛ كالحية والعقرب والوزغ وسام أبرص

(8)

، والخنافس والجعلان وبنات وردان

(9)

والفأر وسائر البعوض.

(1)

ابن آوى: من السباع، قال أبو حاتم:(ويقال للاثنين ابنا آوى، وللجميع بنات آوى، وإن كن ذكورًا). ينظر: المقصور والممدود، لأبي علي القالي (ص 168).

(2)

ابن عِرس: دابّة دقيقة تعادي الفأر، وتدخل جحره وتخرجه، تجمع على بنات عرس وبني عرس، حكاه الأخفش. ينظر: حياة الحيوان، الدميري (2/ 232).

(3)

العقابُ: طائِرٌ، تُؤنِّثُها العَرَبُ إذا رأته، لأنها لا تُعَرفُ إناثُها من ذُكُورِها، فإذا عرفت قيل: عُقابٌ ذَكَرَ، ومثله العَقْربُ، ويُجمعُ على عِقبانٍ وثلاث أعْقُبٍ. ينظر: العين، الفراهيدي (1/ 181).

(4)

الشَّاهِينُ: من سِبَاع الطير، لَيْسَ بعربي مَحْض. ينظر: المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده (4/ 189).

(5)

الحدأة، وجمعها: حدأ، بالهمز وكسر الحاء وفتح الدال؛ فإنها ضرب من الطير الجوارح، تصيد الجرذان ونحوها. وفيها لغات: فمنهم من يسكن الدال في الواحد خاصة، ومنهم من يقول: الحدو، بالواو وفتح الدال. ينظر: تصحيح الفصيح (ص 294).

(6)

اللقلق: طائر أعجمى طويل العنق يأكل الحيات، ينظر: الصحاح (4/ 1550).

(7)

الرَّخَمُ: نوعٌ مِنَ الطَّير معروفٌ، واحدتُه رَخَمَة، وَهُوَ موصوفٌ بالغَدْر والمُوق، وَقِيلَ بالقَذَر. ينظر: النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير (2/ 212).

(8)

سام أبرص: ضرب من الوزغ خضراء الرَّأْس وَالْحلق، جاحظة الْعَينَيْنِ لَا تلقاها أبدًا إِلَّا فَاتِحَة فاها، وَهِي من شَرّ السوام تلدغ فَلَا يكَاد يبرأ لديغها. ينظر: المعجم الوسيط أحمد الزيات وآخرون (1/ 96).

(9)

بنت وردان: دويبة تشبه الخنفساء حمراء اللون، وأكثر ما تكون في الحمامات وفي الكنف. ينظر: المعجم الوسيط أحمد الزيات وآخرون (ص 1025).

ص: 140

وما يولد من مأكول وغير مأكول كالسِّمْع

(1)

.

واختلفت الرواية في الثعلب والأرنب واليربوع

(2)

وسنَّوْر البرِّ، فعنه أنها مباحة، وعنه أنها محرمة).

(1)

والسِّمْع أيضًا: ولد الذئب من الضبع. ينظر: تهذيب اللغة، الهروي (2/ 74).

(2)

اليربوع: حَيَوَان من الفصيلة اليربوعية، صَغِير على هَيْئَة الجرذ الصَّغِير، وَله ذَنْب طَوِيل يَنْتَهِي بخصلة من الشّعْر، وَهُوَ قصير الْيَدَيْنِ طَوِيل الرجلَيْن. ينظر: المعجم الوسيط أحمد الزيات وآخرون (1/ 325).

ص: 141

‌القاعدة الثالثة عشر: لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة

أدلّة هذه القاعدة من الكتاب والسنة:

أولًا: الأدلة من الكتاب:

قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله سبحانه:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]، وقوله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]، وقوله سبحانه:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].

وغيرها من الآيات الدّالة على إباحة المحرّمات لأجل الضّرورة، أو الآيات الّتي تدلّ على أنّ التّكليف بقدر الوسع والطّاقة.

ثانيًا: الأدلة من السنة:

ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»

(1)

.

فالقاعدة تدلّ دلالة صريحة على أنّ الواجبات تسقط إذا عجز المكلّف عن فعلها، وأنّ المحرّمات قد تستباح عند الضّرورة، وهذا من يسر هذه الشّريعة وسماحتها

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (7288)، ومسلم برقم (1337)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

ينظر: موسوعة القواعد الفقهية، آل بورنو (8/ 932).

ص: 142

ومنها ما رواه جابر بن سَمُرَةَ رضي الله عنه، أن رجلًا نزل الحرَّةَ ومعه أهلُه وولَدُه، فقال رجل: إن ناقةً لي ضَلَّتْ، فإن وجدْتَّها، فأمْسِكْها، فوجدها، فلم يَجِدْ صاحِبَها، فمرِضَتْ، فقالت امرأتُه: انحَرْها، فأبى، فنَفَقَتْ، فقالت امرأته: اسْلَخْها حتى نُقَدِّدَ شحمَها ولحمَها ونأكلَه، فقال: حتى أسألَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه، فسأله، فقال:«هَلْ عندَكَ غِنًى يُغنيكَ؟» قال: لا، قال:«فَكُلُوها» ، قال: فجاءَ صاحبُها، فأخبره الخبَر، فقال: هَلَّا كنْتَ نحرْتَها، قال: استَحيَيتُ مِنْكَ

(1)

.

قال في عون المعبود

(2)

: (قال في المنتقى: وهو دليل على إمساك الميتة للمضطر). اه.

وقد ذكر هذه القاعدة (لا واجب مع عجز، ولا حرام مع ضرورة) الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين

(3)

، وذكر مثالين عليها:

الأول: أن الرجل إذا لم يجد خلف الصفِّ من يقوم معه، وتعذَّر عليه الدخول في الصف، ووقف فذًّا صحَّت صلاته للحاجة، وهذا هو القياس المحض؛ فإن واجبات الصلاة تسقط بالعجز عنها.

الثاني: -هو طرد هذا القياس- إذا لم يمكنه أن يُصلِّي مع الجماعة إلا قُدّام الإمام فإنه يصلي قدامه وتصحُّ صلاته، وكلاهما وجهٌ في مذهب أحمد، وهو اختيار شيخنا رحمه الله.

(1)

أخرجه أبو داود برقم (3816)، قال العلامة الشوكاني رحمه الله: وليس في إسناده مطعن.

(2)

ينظر: عون المعبود، العظيم آبادي (10/ 212).

(3)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (3/ 227).

ص: 143

وبالجملة: فليست المُصَافةُ أوْجب من غيرها، فإذا سقط ما هو أوجب منها للعذر فهي أولى بالسقوط، ومن قواعد الشرع الكلية أنه:(لا واجبَ مع عجزٍ، ولا حرامَ مع ضرورة).

وهذه القاعدة تشبه في شقِّها الثاني قاعدة الضرورات تبيح المحظورات.

ومن ثم أبيحت الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر لمن غصَّ، ولم يجد غيرها، وأبيحت كلمة الكفر للمكره، وكذلك إتلاف المال، وكذلك أخذ مال الممتنع من الدَّيْنِ بغير إذنه، إذا كان من جنسه ولو كان بكسرِ بابه.

ولو صال الصيد على محرم فقتله دفعًا فلا ضمان؛ لأنه بالصيال التحق بالمؤذيات.

وإذا عم الحرام قطرًا بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادرًا، فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه، ولا يقتصر على الضرورة، قال الإمام

(1)

: (ولا يتبسط فيه كما يتبسط في الحلال، بل يقتصر على قدر الحاجة دون أكل الطيبات ونحوها مما هو كالتتمات).

ولكن ينبغي أن تضبط هذه القواعد بقاعدة: الضرورةُ تقدر بقدرها، كما قال الشيخ السعدي رحمه الله في منظومته

(2)

:

(وكل محظورٍ مع الضرورةْ

بقَدْرِ ما تحتاجه الضرورةْ

وهي قاعدة تعتبر قيدًا للقاعدة السابقة المذكورة في قول الناظم: (ولا محرم مع اضطرار).

(1)

ينظر: المنثور في القواعد الفقهية، الزركشي (2/ 317).

(2)

ينظر: مجموعة الفوائد البهية، القحطاني (ص 61).

ص: 144

والمقصود: أن كل فعل جوِّز للضرورة إنما جاز ذلك الفعل بالقدر الذي يحصل به إزالة تلك الضرورة، ولا يجوز الزيادة عن هذا الحدّ، ومعرفة ذلك راجعة إلى المتضرر نفسه كما سبق.

فلا يباح للمضطر إلا بقدر ما يدفع الضرورة، وقيل: له أن يأكل الأكل الذي اعتاد عليه قبل الضرورة).

قال الشوكاني رحمه الله في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه السابق

(1)

: (وقد أباح لهم مع ذلك الميتة، فكان دلالته أن تُتناول الميتة إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت، كما ذهب إليه مالك والشافعي -رحمهما الله- في أحد قوليه.

والقول الراجح عند الشافعي هو الاقتصار على سدِّ الرَّمق كما نقله المزني وصححه الرافعي والنووي، وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك والهادوية ويدل عليه قوله:«هل عندك غنًى يغنيك» إذا كان يقال لمن وجد سدَّ رمقه مستغنيًا لغة أو شرعًا.

واستدل به بعضهم على القول الأول، قال: لأنه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه، والآية الكريمة قد دلت على تحريم الميتة، واستُثني ما وقع الاضطرار إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل الأكل كحالة الابتداء.

ولا شك أن سد الرَّمَق يدفع الضرورة، وقيل إنه يجوز أكل المعتاد للمضطر في أيام عدم الاضطرار، قال الحافظ: وهو الراجح لإطلاق الآية.

واختلفوا في الحالة التي يصح فيها الوصف بالاضطرار ويباح عندها الأكل.

(1)

ينظر: نيل الأوطار (8/ 172).

ص: 145

فذهب الجمهور إلى أنها الحالة التي يصل به الجوع فيها إلى حد الهلاك، أو إلى مرض يفضي إليه، وعن بعض المالكية تحديد ذلك بثلاثة أيام، وقال ابن حزم رحمه الله

(1)

: حدُّ المضطر أن يبقى يومًا وليلة لا يجد ما يأكل ولا ما يشرب.

ومن القيود أن من العلماء من قيَّد هذه القاعدة بألا تنقص الضرورة عن المحظور، بمعنى ألا يكون المحظور حرمة مما قد يترتب على استمرار الضرورة من مفسدة، ومثّلوا لذلك بمن اضطر إلى أكل ميتة الآدمي على القول بجوازه، فإنه لا يجوز أن يأكل منها لو كان الميت نبيًّا، وإن أبيح له أكل غيره؛ لأن حرمة النبي في الشرع أعظم من نفس المضطر، فتكون من باب دفع أعظم المفسدتين بارتكاب أخفهما.

ومما قيدت به -أيضًا- قاعدة: (الاضطرار لا يبطل حق الغير) فيلزم من اضطر إلى أكل مال غيره، أو نحو ذلك ضمانه

(2)

.

(1)

ينظر: التحبير لإيضاح معاني التيسير، الصنعاني (7/ 591).

(2)

ينظر: القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، العبد اللطيف (1/ 291).

ص: 146

‌القاعدة الرابعة عشر: متى أمكن الدفع بأسهل الوجوه لم يعدل إلى أصعبها

من الأمثلة على هذه القاعدة قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء: 34].

فلا يجوز عند خوف النشوز أن يبدأ بالضرب أو بالهجران، ولكن يبدأ بما بدأ الله به من الموعظة والتنبيه والتحذير، وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله.

قال ابن الجوزي رحمه الله

(1)

: (ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز، قال القاضي أبو يعلى: وعلى هذا مذهب أحمد، وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز. وقال القرطبي

(2)

: أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولًا، ثم بالهجران، فإن لم ينجعا فالضرب، فإنه هو الذي يصلحها له، ويحملها على توفية حقه.

والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرِّح، وهو الذي لا يكسر عظمًا، ولا يشين جارحة، كاللكزة ونحوها، فإن المقصود منه الصلاح لا غير، فلا جرم إذا أدى إلى الهلاك وجب الضمان، وكذلك القول في ضرب المؤدب غلامَه لتعليم القرآن والأدب).

وقد ذكر السبكي رحمه الله هذه القاعدة في الأشباه والنظائر، واستثنى منها

(1)

ينظر: زاد المسير (1/ 402).

(2)

ينظر: تفسير القرطبي (5/ 172).

ص: 147

بعض الصور، فقال

(1)

: (ويستثنى مسائل: منها: من وجد زانيًا بامرأته فله دفعُه بالقتل وإن اندفع بدونه. كذا قال الماوردي، وتبعه صاحب البحر وهو -على تقدير تسليمه- مقيدٌ بقيدٍ إن تأملته طاح الاستثناء، والقيد أن يكون زمنُ الدفع بالسيف أقل من غيره، لكن تعليلهما يدل على أنه لا فرق بين أن يكون زمن الدفع أقل أو لا؛ لأن صاحب البحر قال: إذا رآه أوقع أو أولج جاز أن يبدأ في دفعه بالقتل، وله أن يتعجله، لأنه في كل لحظة تمر عليه مواقع بما لا يستدرك بالأناة، فجاز من أجلها أن يعجل بالقتل، ثم في هذا القتل وجهان:

أحدهما: أنه قتل دفعٍ؛ فعلى هذا يختص بالرجال، ويستوي البكر والثيب.

والثاني: أنه قتْل حَدٍّ جوَّز له أن ينفرد به دون السلطان، لتفرده بالمشاهدة التي لا تتعداه، فعلى هذا يدفع الرجل والمرأة المطاوعة.

وهل يفرق بين البكر والثيب؟ وجهان: أظهرهما لا فرق، ويقتل البكر أيضًا لأن القتل حدٌّ، وجاز تغليظه حالة مواقعة المعصية، ولأن السنة لم تفرق بين البكر والثيب.

ثم إذا قتل عُزِّر، لتفويت القتل على الإمام.

قال صاحب البحر: كذا قال أصحابنا، قال: وعندي ألا يعزَّر لأنه كان يلزمه. قلت: فعلى القول بأنه قتلُ حدٍّ يزول الاستثناء.

وقد فرض صاحب الحاوي والبحر المسألة في الزوج يجد من يزني بزوجته لا من كل زانٍ، وكأن الأمر غُلِّظ على الزاني بحضرة الزوج لما فيه من الغيرة، فلا يُلحق به من وُجد يزني بأجنبية، إذ ليس فيه من الغيرة ما يحمل على هذا.

(1)

ينظر: الأشباه والنظائر، السبكي (1/ 45).

ص: 148

ومنها: هل يجوز رمي الناظر في دار إنسان إلى حريمه قبل إنذاره؟ فيه وجهان: أظهرهما عند الرافعي -وعبر عنه النووي في أصل الروضة بالأصح- الجواز، واستدل به صاحب التقريب؛ على ألا يجب تقديم الكلام في كل دفع، وأنه يجوز للمصول عليه الابتداء بالفعل).

ص: 149

‌القاعدة الخامسة عشر: القضاء يحكي الأداء

القضاء هو: فعل المأمور به بعدخروج وقته لفواته فيه، لعذر أو غيره.

يحكي: يماثل ويشابه.

والأداء: فعل المأمور به في وقته المقدَّر له شرعًا.

معنى القاعدة:

تُبيِّن هذه القاعدة أن القضاء يشابه ويماثل الأداء من حيث كيفيته وطريقته وهيئته وصفته بلا تغيير.

وهذه القاعدة يعمل بها أصحاب المذاهب، إلا أن العمل بها ليس مطلقًا كما سنرى في أمثلة التطبيقات.

تطبيقات القاعدة:

المثال الأول: قضاء الفوائت هل يجب فيه التتابع أم لا؟

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق، بعدما غربت الشمس، فجعل يسبُّ كفار قريش، وقال: يا رسول الله! ما كدت أصلي العصر، حتى كادت الشمس تغرب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«والله! ما صليتُها» ، قال: فقمنا إلى بُطحان

(1)

، فتوضأ للصلاة، وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب

(2)

.

(1)

بطحان: واد بالمدينة وهو مكان متسع.

(2)

أخرجه البخاري برقم (596).

ص: 150

فالنبي صلى الله عليه وسلم قضى ما فاته من الصلاة على ترتيبها وهيئتها وصفتها حال الأداء.

قال السفاريني رحمه الله في كشف اللثام

(1)

: (وهذا الذي أخذ به الإمام أحمد، فقال: يقضي الفوائت مرتبًا فورًا ما لم يضعف بدنه، أو يشغله عن معيشة من يقوم بكفايته، وهذا معتمد المذهب، قلت: الفوائت ولو كثرت، نصَّ عليه، واختاره الشيخ؛ لأن القضاء يحكي الأداء، والأداء مرتب، فالقضاء مثله.

قال في الفروع: يجب قضاء الفوائت اتفاقًا على الفور في المنصوص؛ خلافًا للشافعي، ويجب ترتيبها؛ خلافًا للشافعي.

وعنه -يعني: الإمام أحمد-: لا يجب ترتيب. وقيل: يجبان؛ أي: الفورية والترتيب في خمس صلوات؛ وفاقًا لأبي حنيفة ومالك في الترتيب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رتب، وفعله بيان لمجمل الأعمال المطلقة، وهي تشمل الأداء والقضاء، مع عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتموني أصلي»

(2)

.

واستوجه في الفروع: احتمال وجوب الترتيب؛ ولا يعتبر للصحة، قال: وله نظائر.

قال: قال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام-: إن عجز فمات بعد التوبة، غفر له، ولا تسقط بحج، ولا تضعيف صلاة في المساجد الثلاثة، ولا غير ذلك إجماعًا. ويسقط الترتيب بخشية فوات الحاضرة؛ لئلا تصيرا فائتتين، ولأن ترك الترتيب أيسر من ترك الوقت.

(1)

ينظر: كشف اللثام (2/ 83).

(2)

أخرجه البخاري برقم (631).

ص: 151

وعنه: مع الكثرة؛ وفاقًا لمالك، ويسقط الترتيب بالنسيان أيضًا، على الأصح فيهما؛ خلافًا لمالك.

تنبيهان:

الأول: قول صاحب الفروع: يجبان؛ أي: الفورية والترتيب في خمس؛ وفاقا لمالك وأبي حنيفة: المشهور من مذهب مالك: وجوب الترتيب في القليل من الفوائت، وهو عنده ما دون الخمس، وفي الخمس خلاف.

الثاني: في هذا الحديث من الفوائد: اعتبار ترتيب الفوائت، وهذا المقصود منه هنا، والأكثر على وجوبه مع الذكر.

وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، وحسن التأني مع أصحابه، وما ينبغي الاقتداء به في ذلك.

وأن الفوائت تقضى جماعة، وذلك مستحب كما في المغني.

وأنه لا يلزم القضاء أكثر من مرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض أكثر من مرة، وقال صلى الله عليه وسلم:«من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها»

(1)

، لم يزد على ذلك.

المثال الثاني: قضاء الفوائت للمسافر:

جاء في شرح الموطأ للشيخ عبد الكريم الخضير

(2)

: (يقول

(3)

: «من أدرك

(1)

أخرجه البخاري برقم (597)، ومسلم برقم (684)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ولفظ البخاري:«من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» ، ولفظ مسلم:«من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها» .

(2)

ينظر: شرح الموطأ (2/ 26).

(3)

أي: الإمام مالك رحمه الله.

ص: 152

الوقت وهو في سفر فأخَّر الصلاة ساهيًا أو ناسيًا حتى قدم على أهله»

(1)

: يعني: قدم بلده ولو لم يكن له أهل، لما قدم إلى بلده محل إقامته، «فإن كان قدم على أهله في الوقت فليصلِّ صلاة المقيم» ، لأنه إنما يصلي صلاة السفر بسبب الوصف الذي تلبس به، والوصف ارتفع، والوقت باق، وحينئذ يصلي صلاة مقيم؛ أُذِّن لصلاة الظهر وقد بقي على البلد خمسين كيلو، أو مائة كيلو أو أكثر، ووصل إلى البلد في الوقت، فهذا يصلي صلاة مقيم على كلام الإمام مالك.

لكن ماذا لو أخر الظهر إلى أن وصل إلى بلده بعد أن خرج وقتها على كلام الإمام مالك؟ قال: «وإن كان قد قدم وقد ذهب الوقت فليصلِ صلاة المسافر» . لأنها وجبت عليه في السفر، وصلاتها بعد انقضاء وقتها قضاء، والقضاء على كلامه كما هو مقرر يحكي الأداء، صلاة مقصورة يصليها قصرًا، وجبت عليه في السفر وصلاة المسافر أقرت على التشريع الأول ركعتين، يصليها كما وجبت عليه؛ لأن القضاء يحكي الأداء، هذا رأي الإمام مالك رحمه الله، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.

وصورة المسألة أن شخصًا مسافرًا وجبت عليه صلاة الظهر أو صلاة العصر، ووصل البلد بعد أن خرج وقت الظهر، إذا وصل البلد قبل أن يخرج الوقت، هذا ليس فيه إشكال، يصلي الصلاة تامة، صلاة مقيم، إذا وصل البلد بعد أن خرج وقتها على كلام الإمام مالك، وهو قول أبي حنيفة يصليها قصرًا؛ لأنها إنما وجبت عليه في السفر، وهي هنا في هذه الحالة قضاء والقضاء يحكي الأداء، فيصليها ركعتين.

(1)

ينظر: المنتقى شرح الموطأ، الباجي (1/ 23).

ص: 153

مذهب الشافعية في هذه المسألة والحنابلة أنه يصليها تامةً أربع ركعات، ولو خرج وقتها، مع أنهم يقررون قاعدة القضاء يحكي الأداء في بعض المسائل إلا أنهم رأوا أمورًا:

الأمر الأول: أن الشافعية والحنابلة يغلِّبون جانب الحضر؛ لأنه أحوط.

الأمر الثاني: أن الرخصة ارتبطت بوصف وقد زال الوصف، فنرجع إلى العزيمة، فالرخصة التي هي القصر، والتخفيف من أربع ركعات إلى ركعتين مربوطة بوصف وهو السفر، وقد زال هذا الوصف إذًا نرجع إلى الأصل، قال مالك: وهذا الأمر هو الذي أدركت عليه الناس: يعني من التابعين وأهل العلم من أتباعهم ببلدنا: يعني المدينة، والعمل عند أهل المدينة له شأن عند الإمام مالك، فهو يحتج به، ويردُّ بعض النصوص التي تخالف عمل أهل المدينة، فعمل أهل المدينة أصل عند المالكية).

وقال ابن نجيم الحنفي رحمه الله في الأشباه والنظائر

(1)

: (وعندنا فائتة السفر إذا قضاها في الحضر يقضيها ركعتين، وعكسه يقضيها أربعًا؛ لأن القضاءَ يحكي الأداء). المثال الثالث: قضاءُ الصيام:

قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ؛ فقضاء هذه الأيام التي أفطرها من رمضان، هل يجب فيها التتابع أم لا؟

ذهب علماء الحنابلة إلى أن التتابع في قضاء رمضان لا يجب، فلم يطبقوا هنا قاعدة القضاء يحكي الأداء.

(1)

ينظر: الأشباه والنظائر (ص 100).

ص: 154

ففي المغني لابن قدامة رحمه الله

(1)

: (قال

(2)

: وقضاء شهر رمضان متفرقًا يجزئ، والمتتابع أحسن؛ هذا قول ابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي هريرة، وابن محيريز، وأبي قلابة، ومجاهد، وأهل المدينة، والحسن، وسعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وإليه ذهب مالك، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق.

وحكي وجوب التتابع عن علي وابن عمر والنخعي، والشعبي وقال داود: يجب، ولا يشترط؛ ولنا إطلاق قول الله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، غير مقيد بالتتابع.

فإن قيل: قد روي عن عائشة، أنها قالت: نزلت: «فعدة من أيام أخر متتابعات»

(3)

؛ فسقطت «متتابعات» . قلنا: هذا لم يثبت عندنا صحته، ولو صحَّ فقد سقطت اللفظة المحتج بها.

وأيضًا قول الصحابة، قال ابن عمر:«إن سافر؛ فإن شاء فرَّق، وإن شاء تابع وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم» .

وقال أبو عبيدة بن الجراح، في قضاء رمضان:«إن الله لم يرخص لكم في فطره، وهو يريد أن يشق عليكم في قضائه» .

ولأنه صوم لا يتعلق بزمان بعينه، فلم يجب فيه التتابع، كالنذر المطلق، وخبرهم لم يثبت صحته، فإن أهل السنن لم يذكروه، ولو صح حملناه على

(1)

ينظر: المغني، ابن قدامة (3/ 158).

(2)

أي: الخرقي في مختصره.

(3)

أخرجه الدارقطني برقم (2315)، وعبد الرزاق في المصنف برقم (7657)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (8234)، وقال:(قولها: سقطت تريد نسخت، لا يصح له تأويل غير ذلك).

ص: 155

الاستحباب، فإن المتتابع أحسن؛ لما فيه من موافقة الخبر، والخروج من الخلاف وشبهه بالأداء، والله أعلم).

وقال ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة

(1)

: (وإن قضاه مفرَّقًا؛ جاز ولم يكره.

وعنه: هما سواء؛ لقوله سبحانه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، ولم يقيدها بالتتابع، فيجب أن تحمل على الإِطلاق؛ كالمطلقة في قوله:{فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 195].

قال أحمد: قال ابن عباس في قضاء شهر رمضان: «صم كيف شئت، قال الله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}» .

ولأنه يريد اليسر بعباده، وقد يكون التفريق أيسر.

قال مجاهد في الرجل يكون عليه صيام من رمضان أيفرق صيامه أو يصله؟: إن الله أراد بعباده اليسر؛ فلينظر أيسر ذلك عليه، إن شاء وصله، وإن شاء فرقه.

ولأنه اعتبر إكمال العدة فقط، وإكمال العدة يحصل بالتقطيع والصلة.

قال الزركشي رحمه الله

(2)

: والمتتابع أحسن.

وعند المالكية يستحب التتابع ولا يجب

(3)

.

(1)

ينظر: شرح العمدة (1/ 342).

(2)

ينظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي (2/ 616).

(3)

ينظر: التهذيب في اختصار المدونة، ابن الراذعي (1/ 365)، وجامع الأمهات، ابن الحاجب (ص 175)، والتاج والإكليل، الغرناطي (3/ 328).

ص: 156

ومشى بعض علماء الحنفية على قاعدة القضاء يحكي الأداء فأوجبوا التتابع في صيام رمضان، قال صاحب العناية في شرح الهداية

(1)

: (أما صوم رمضان فلا كلام لأحد في وجوب التتابع فيه، وأما غيره فقد ضبطه المشايخ بأن كل ما شرع فيه العتق كان التتابع فيه واجبًا، وما لا فلا فيكون قضاء رمضان مما فيه لمن عليه الخيار، ولأن النصَّ مطلق والعمل به واجب.

وفيه بحث من وجهين:

أحدهما: أن القضاء يحكي الأداء، والتتابع واجب في الأداء، فكان مغنيًا عن تقييد نصِّ القضاء.

والثاني: أن أبي بن كعب رضي الله عنه قرأ: (فعدة من أيام أُخرَ متتابعات)، فهلَّا اعتبرتم قراءته مقيدة كما فعلتم بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه في كفارة اليمين؟).

(1)

ينظر: العناية في شرح الهداية، البابرتي (2/ 354).

ص: 157

‌القاعدة السادسة عشر: كلُّ ما سُكت عن إيجابه أو تحريمه فهو عفوٌ عفا عنه لعباده

هذه قاعدة كلية نافعة، تنبني عليها كثير من المسائل، وتدخل في كثير من أبواب الفقه وبخاصة ما يتعلق بالمعاملات.

ودليل هذه القاعدة قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101].

قال الإمام ابن القيم رحمه الله

(1)

: (وقد اختلف في هذه الأشياء المسؤول عنها: هل هي أحكام قدرية أو أحكام شرعية؟ على قولين:

فقيل: إنها أحكام شرعية عفا الله عنها، أي: سكت عن تحريمها فيكون سؤالهم عنها سبب تحريمها، ولو لم يسألوا لكانت عفوًا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الحج أفي كل عام؟ فقال:«لو قلت نعم لوجبت، ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم»

(2)

؛ ويدل على هذا التأويل حديث أبي ثعلبة المذكور: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا

» الحديث

(3)

؟.

ومنه الحديث الآخر: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة من غير نسيان فلا

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (1/ 57).

(2)

أخرجه البخاري برقم (7288)، ومسلم برقم (1337).

(3)

هذا الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن أعظم المسلمين جرمًا، من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته» . أخرجه البخاري برقم (7289).

ص: 158

تبحثوا عنها»

(1)

، وفسرت بسؤالهم عن أشياء من الأحكام القدرية؛ كقول عبد الله بن حذافة:«من أبي يا رسول الله؟»

(2)

، وقول الآخر: أين أبي يا رسول الله؟، قال:«في النار»

(3)

.

والتحقيق: أن الآية تعم النهي عن النوعين، وعلى هذا فقوله تعالى:{إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} : أما في أحكام الخلق والقدر فإنه يسوءهم أن يبدو لهم ما يكرهونه مما سألوا عنه، وأما في أحكام التكليف فإنه يسوءهم أن يبدو لهم ما يشق عليهم تكليفه مما سألوا عنه.

وقوله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} فيه قولان:

أحدهما: أن القرآن إذا نزل بها ابتداء بغير سؤال فسألتم عن تفصيلها وعلمها أبدى لكم وبين لكم، والمراد بحين النزول زمنه المتصل به، لا الوقت المقارن للنزول.

وكأن في هذا إذنًا لهم في السؤال عن تفصيل المنزل ومعرفته بعد إنزاله؛ ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقًا.

والقول الثاني: أنه من باب التهديد والتحذير، أي: ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسوءكم، والمعنى لا تتعرضوا للسؤال عما يسوءكم بيانه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدى لكم.

(1)

هذا حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، أخرجه الدارقطني برقم (4396)، والطبراني في الكبير برقم (589)، وفي الأوسط برقم (7461)، وفي الصغير برقم (1111)، وفي مسند الشاميين، الطبراني برقم (3492)، وابن عساكر في معجمه برقم (1232)، وقال: هذا حديث غريب ومكحول لم يسمع من أبي ثعلبة.

(2)

أخرجه البخاري برقم (93)، ومسلم برقم (2359).

(3)

أخرجه مسلم برقم (203).

ص: 159

وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} ، أي: عن بيانها خبرًا وأمرًا، بل طوي بيانها عنكم رحمة ومغفرة وحلمًا والله غفور حليم.

فعلى القول الأول: عفا الله عن التكليف بها توسعة عليكم.

وعلى القول الثاني: عفا الله عن بيانها لئلا يسوءكم بيانها).

وقال أيضًا

(1)

: (ومن ذلك الاكتفاء لقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119]، مع قوله صلى الله عليه وسلم:«وما سكت عنه فهو مما عفا عنه»

(2)

: فكل ما لم يُبِيِّنُ الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم تحريمه من المطاعم والمشارب والملابس والعقود والشروط فلا يجوز تحريمها، فإن الله سبحانه قد فصَّل لنا ما حرَّم علينا، فما كان من هذه الأشياء حرامًا فلا بد أن يكون تحريمُه مفصَّلا، وكما أنه لا يجوز إباحة ما حرمه الله فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرمه، وبالله التوفيق).

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (1/ 289).

(2)

يشير إلى حديث سلمان رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء، فقال:«الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه» ، أخرجه الترمذي برقم (1726)، وابن ماجه برقم (3367)، قال الترمذي:(وفي الباب عن المغيرة، وهذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه وروى سفيان وغيره، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان قوله، وكأن الحديث الموقوف أصح، وسألت البخاري عن هذا الحديث، فقال: ما أراه محفوظًا، روى سفيان، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان موقوفًا، قال البخاري: وسيف بن هارون مقارب الحديث، وسيف بن محمد عن عاصم ذاهب الحديث).

ص: 160

‌القاعدة السابعة عشر: الوسائل لها أحكام المقاصد

فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم المسنون إلا به فهو مسنون، وطرق الحرام والمكروهات تابعة لها، ووسيلة المباح مباح، والوسائل لها أحكام المقاصد، وكل ما كان حلالًا، فإن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أباحا الوسائل الموصلة إليه، وكل ما كان حرامًا، فإن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم منعا الوسائل المفضية إليه.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين

(1)

: (لما كانت المقاصد لا يُتوصَّل إليها إلا بأسباب وطُرُق تُفْضِي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها مُعْتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقُرُبَات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها؛ فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصودٌ قصدَ الغاياتِ، وهي مقصودة قصد الوسائل؛ فإذا حَرَّمَ الربُّ تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تُفْضِي إليه فإنه يحرمُها ويمنع منها، تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعًا أن يُقربَ حِمَاه، ولو أباح الوسائل والذرائع المُفْضِية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه تأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك؛ فإن أحدَهم إذا منع جُنْدَه أو رعيته أو أهل بيته من شيء، ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصِّلة إليه لعُدَّ متناقضًا، ولحصل من رعيته وجنده ضدّ مقصوده.

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (4/ 553).

ص: 161

وكذلك الأطباء إذا أرادوا حَسْمَ الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصَّلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحَه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟

ومَنْ تأمل مصادرها ومواردها علم أن اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سدَّ الذرائع المُفْضِية إلى المحارم بأن حرَّمها ونهى عنها، والذريعةُ ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء).

قال الشيخ عبد المحسن الزامل

(1)

: (هذه القاعدة أصل عظيم من أصول الشرع، وهي عامة في جميع الأعمال، فتشمل جميع أحكام الشرع التكليفية.

والمراد بالوسائل: الطرق التي يُتوسل بها ويتوصل بها إلى أمور أخرى، هي مقصودة في نفسها، والوسائل ليست مقصودة، إنما هي طرق إلى هذه المقاصد، فعندنا الوسيلة حسب القصد، فإن كان القصد واجبًا كانت الوسيلة واجبة، وهكذا في المحرَّم والمستحبِّ والمباح والمكروه.

وقد جاء الشرع بإيجاب الطرق والوسائل إلى الأمور الواجبة، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

مثاله: الصلاة في المساجد جماعة واجبة، ولا يتوصل إليها إلا بالسعي إليها، فيكون السعي إليها واجبًا مهما كانت الوسيلة، سواء كان ماشيًا أو راكبًا، وإذا كان في المسجد وأقيمت الصلاة، فعليه أن يقوم إن كان قادرًا ويصلي، حتى يتحقق وجود هذا الواجب وهو الصلاة، وقِسْ على ذلك.

وهكذا المستحب: فالوسيلة إلى المستحب مستحبة، فمن قصد المسجد

(1)

ينظر: شرح القواعد السعدية، الزامل (ص 39).

ص: 162

لصلاة نافلة أو قراءة قرآن أو حضور حلقةِ علمٍ، فالسعي إليها مستحبٌّ ومطلوب.

وفي المباحات أيضًا في أمور الإنسان في معاشه، فمن خرج من بيته لأجل طلب العيش فخروجه من بيته يكون مباحًا في أصله، لكن إذا ضمَّ إليه نيةً أخرى فإنه يترقى إلى درجة أعلى وهي درجة الاستحباب بحسب نيته فيما خرج له، فطلب الرزق أمر مشروع فيكون خروجه أمرًا مشروعًا.

وهكذا في المكروهات والمحرمات، فالوسائل لها أحكام المقاصد، والشرع جاء بسدِّ الوسائل وبفتحها، فالوسائل المحرمة يجب سدُّها، والمكروهة يستحب سدُّها، والواجبة يجب فتحُها، والمستحبة يستحبُّ فتحُها، والمباحة يباح الأخذ بها أو تركُها، هذه هي المسألة الأولى في هذه القاعدة.

المسألة الثانية: كلّما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، هذا هو الأصل، فمن لم يجب عليه الحج لا يجب عليه قصد مكة؛ لأن المقصود نفسه ليس واجبًا، فالوسيلة ليست واجبة، لكن يبقى اعتبار استحبابها، فإذا سقط اعتبار وجوب الوسيلة بقي استحباب السير إليها، لكن ليس بواجب، كذلك في سائر الأحكام الأخرى كلما سقط اعتبار المقصد سقط اعتبار الوسيلة، فمن لم يجب عليه هذا الشيء لم تجب عليه وسيلته، وكذلك إذا لم يستحب هذا الشيء لم تستحب وسيلته.

مسألة:

قالوا: إنه تعتبر الوسيلةُ والمقصود غير موجود، وذكروا في هذا حلقَ المحرِم لرأسه إذا كان أصلع الرأس، أو كان قد جزَّه فلم يَبْقَ فيه شيءٌ، ورميُ الجمرة فإنه يحصل له التحلل الأول، فيباح له كل شيء حرُم عليه بالإحرام إلا

ص: 163

النساء، فعلى هذا هل يشرع له إمرار الموسى على رأسه مع أن المقصود الذي هو الشعر غير موجود، قالوا: إنه يستحب إمرار الموسى، حكاه ابن المنذر وغيره إجماعًا.

لو نظرنا إلى هذه القاعدة وهي: (الوسائل لها أحكام المقاصد)، فإمرار الموسى على رأسه وسيلة إلى التحلل، والتحلل من حلق الرأس واجب، والحلق نسك على الصحيح والشعر غير موجود، فعلى قول الجمهور إذا رمى الجمرة وهو أصلع وفي نيته إزالة ما على رأسه، فإنه يحصل له التحلل الأول، وقول مالك إنه يحصل برمي الجمرة.

وقالوا: إنه يشرع له أن يمرَّ الموسى على رأسه، وهذا مشكل على هذه القاعدة، لكن يمكن أن يقال: إن كان في المسألة خلاف، وأن بعض أهل العلم قالوا: إن إمرار الموسى وآلة الحلاق ليس له معنى، يمكن أن يكون هذا القول أقوى، وإن كان في المسألة إجماع على الاستحباب كما حكاه بعضهم، يمكن أن يقال: إن أمورَ الحج أمورٌ تعبدية، أو في كثير منها يغلب عليها التعبد، ويجب الانقياد وهذا منها. والله أعلم.

المسألة الثالثة: وسيلة المحرم محرمة:

فإذا قلنا الوسيلة محرّمة لأن المقصود أمرٌ محرَّمٌ، مثل قطع الطريق، أو ذهب ليشرب الخمر، أو مشى بقصد النميمة، أو ما أشبه ذلك، فهذا محرم، والواجب واجب، والمستحب مستحب، فإذا كان هذا فإنه في حال الوجوب يثاب الإنسان على الوسيلة والقصد جميعًا.

وكما قلنا في المحرم الوسيلة إليه محرمة، لكن في بعض الأحوال قد يستثنى منها مسائل، فقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة، وهذا إذا أفضت إلى مصلحة

ص: 164

راجحة، بل قد تكون الوسيلة إلى المحرم واجبة، وهذه قد تستثنى من القاعدة كما قلنا، لكن تستثنى بأدلة.

مثاله: إنسان ظالم قصد أن يأخذ مال إنسان ظلمًا، فجاء آخر يريد الإصلاح، ويريد دفع الظلم وقال: أنا أعطيك من مالي هذا مبلغًا معينًا، ولا تأخذ من ماله شيئًا.

فتمكين الظالم من هذا المال محرم عليه، ولا يجوز للظالم أن يأخذه، لأن هذه الوسيلة القصد منها دفع بعض المال إليه لأجل أن يترك بقية المال، والأصل أن تكون محرمة، لكن هذه الوسيلة ليست محرمة وقد تكون مستحبة، وقد تكون واجبة بحسب الحال التي يدفع بها هذا الظالم.

فالشرع سدَّ الطرق المؤدية إلى المحرم، فما كان طريقًا إلى محرم فيجب سدّه، ولا يجوز فتحه، لأنه مناقض لمقصود الشرع في تحليل الحرام بفتح الطرق المؤدية إليه.

وقد تؤدي مسألة الذرائع إلى الأمور المحرمة، وقد تكون واضحة، وقد تكون خفية جدًّا، وقد يكون فيها اختلاف، فالذرائع وسائلها ثلاث:

1 -

وسيلة هي حرام بالإجماع: ويجب سدُّها ولا يجوز فتحها، مثل حفر الآبار في طرق المسلمين ووضع الأذى فيها.

2 -

وسيلة أجمع أهل العلم على حلِّها وعدم تحريمِها: مثل زراعة العنب، فلا يمنع لتوهم اتخاذه خمرًا.

3 -

ووسيلة مختلف فيها: وهي التي ظاهرها تفضي إلى مباح وتتخذ وسيلة إلى أمر محرم.

ص: 165

مثاله: إنسانٌ عقد على امرأة لكي يحلِّلَها لزوجها الذي حَرُمت عليه بالطلاق ثلاثًا، فعقد عليها وأظهر عقدًا في ظاهره ليس عقد تحليل ومن نيته أن يحلِّلَها، وقال بعض أهل العلم إن الذرائع إلى الأمور المباحة إذا كانت تفضي إلى أمر محرم واتخذت ذريعة مباحة وسيلة إليه فإنه لا يجوز وهو حرام.

فهناك أمور تفضي إلى المحرم مباشرة فهذه حرام، وهناك ذرائع إلى أمور محرمة ولا تفضى إليه مباشرة وهي في الظاهر مباحة فهي أيضًا محرمة.

مسألة أخرى: المقاصد أعلى من الوسائل وأعظم رتبة وأجرًا، لأنه إذا سقط المقصود سقطت الوسيلة، وإذا سقط المتبوع سقط التابع.

مثاله: قصد الصلاة واجب، والصلاة واجبة، لكن وجوب الصلاة آكد وأعظم أجرًا، لأنها هي القصد وهذا وسيلة إليها).

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في درسه في الحرم المكي

(1)

: (إن الوسائل لها أحكام المقاصد، فمثلًا مكبرات الصوت وأكثر الحاجات التي أُحدثت، مثل: تنظيم المدارس، والعلوم، وترتيب الأبواب الفقهية والعلمية، والمرتبات، والتنظيم الخاص بالجيوش والدواوين، وتعدد الوزارات، وتقسيم الاختصاصات عليها؛ كل هذه الأشياء وأشياء أخرى قُصد بها التوصل لأداء الواجبات الشرعية، وهي محدثه لكن إحداثها كان لقصد إقامة الشريعة، فلا تعتبر من البدع).

وقال أيضًا في قاعدة

(2)

(ما لا يتم المأمور إلا به): (إذا توقف فعل المأمور

(1)

سمعت ذلك من الشيخ رحمه الله أثناء حضوري للدرس.

(2)

ينظر: المصدر السابق.

ص: 166

به على شيء كان ذلك الشيء مأمورًا به، فإن كان المأمور به واجبًا كان ذلك الشيء واجبًا، وإن كان المأمور به مندوبًا كان ذلك الشيء مندوبًا).

مثال الواجب: ستر العورة فإذا توقف على شراء ثوب، كان ذلك الشراء واجبًا.

ومثال المندوب: التطيب للجمعة، فإذا توقف على شراء طيب، كان ذلك الشراء مندوبًا.

وهذه القاعدة في ضمن قاعدة أعم منها وهي: الوسائل لها أحكام المقاصد.

ص: 167

‌القاعدة الثامنة عشر: ما لا يتم الوجوب إلا به ليس بواجب

هذه القاعدة متفرعة عن القاعدة السابقة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب)؛ سواء قدر عليه المكلف؛ كاكتساب المال للزكاة والحج والكفارات ونحوها، أو لم يقدر عليه؛ كحضور الإمام الجمعة، وحضور العدد المشترط فيها، لأنه من صنع غيره، فإنه ليس بواجب مطلقًا وحكي إجماعًا

(1)

.

وقوله: (ما لا يتم الوجوب إلا به)؛ كشروط الوجوب، وأسبابه، وانتفاء موانعه، فهذه ليست واجبة باتفاق، فليس على المكلف أن يمسك عن إنفاق ما عنده من مال حتى يتم الحول ويزكيه، وليس عليه أن يمسك ما عنده من بهيمة الأنعام أو يزيدها حتى تبلغ نصابًا لتجب فيها الزكاة مثلًا، وإنما يتصرف في ماله تصرفًا عاديًّا من غير هروب من الزكاة، فإذا حال الحول وعنده نصاب زكاة زكَّاه وإلا فلا

(2)

.

وأما (ما لا يتم الواجب إلا به)؛ كالطهارة، وقطع المسافة إلى العبادة، وغسل بعض الرأس، فواجب عند الأكثر خلافًا لبعض المعتزلة

(3)

.

قلت: لاحظ الفرق بين التعبيرين.

(1)

ينظر: مختصر التحرير شرح الكوكب المنير، ابن النجار (1/ 358).

(2)

ينظر: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله، عياض السلمي (ص 40).

(3)

ينظر: المختصر في أصول الفقه، ابن اللحام (ص 62).

ص: 168

‌القاعدة التاسعة عشر: الاجتهاد لا يُنْقَضُ بالاجتهاد

الاجتهاد عند الفقهاء: هو بذلُ الفقيه وسعه في تقرير حكم شرعي.

فإذا اجتهد مجتهد في مسألة ما من المسائل الشرعية الاجتهادية، وعمل باجتهاده، ثم بدا له رأي آخر فعدل عن الأول في حادثة أخرى، فلا ينقض اجتهاده الثاني حكمه الناشئ عن اجتهاده الأول.

قال السيوطي رحمه الله في الأشباه والنظائر

(1)

: (الأصل في ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم، نقله ابن الصباغ، وأن أبا بكر حكم في مسائل خالفه عمر فيها ولم ينقض حكمه، وحكم عمر في المُشَرَّكة بعدم المشاركةِ ثم بالمشاركة، وقال: ذلك على ما قضينا وهذا على ما قضينا

(2)

، وقضى في الجدِّ قضايا مختلفة، وعلته أنه ليس الاجتهاد الثاني بأقوى من الأول، فإنه يؤدي إلى أنه لا يستقر حكم وفي ذلك مشقة شديدة، فإنه إذا نقض هذا الحكم نقض ذلك النقض وهلم جرًّا).

وقال بدر الدين الزركشي رحمه الله في المنثور

(3)

: (لأنه لو نُقض به لنُقض النقضُ أيضًا، لأنه ما من اجتهاد إلا ويجوز أن يتغير ويتسلسل، فيؤدي إلى أنه لا

(1)

ينظر: الأشباه والنظائر (ص 101).

(2)

يشير إلى حديث الحكم بن مسعود الثقفي، قال:(قضى عمر بن الخطاب في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأمها وإخوتها لأبيها وأمها؛ فأشرك عمر بين الإخوة للأم والإخوة للأب والأم في الثلث)، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال عمر:«تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا» ، أخرجه عبد الرزاق في المصنف برقم (19005)، وابن أبي شيبة في المصنف برقم (31097)، والدارمي برقم (671)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (12656).

(3)

ينظر: المنثور في القواعد الفقهية (1/ 108).

ص: 169

تستقر الأحكام، ومن ثم اتفق العلماء على أنه لا ينقض حكم الحاكم في المسائل المجتهد فيها، وإن قلنا: المصيب واحد لأنه غير متعين.

ولو حكم القاضي باجتهاده ثم تغير باجتهاد آخر لا ينقض الأول، وإن كان الثاني أقوى منه.

غير أنه إذا تجدد له لا يعمل إلا بالثاني، بخلاف ما لو بان له الخطأ باليقين قاله ينقض.

ولو تقدم خصمان إلى القاضي فقالا: كان بيننا خصومة في كذا، وتحاكمنا فيها إلى القاضي فلان فحكم بيننا بكذا، لكِنَّا نريد أن نستأنف الحكم فيها عندك. فقيل: يجيبهما. والأصح المنع، بل يُمضي حكم الأول.

ولو اشتبهت القبلة فاجتهد رجل، ثم تغير اجتهاده عمل بالثاني ولا قضاء، حتى لو صلى أربع ركعات لأربع جهات بالاجتهاد فلا قضاء.

ولو اجتهد فظن طهارة أحد الإناءين فاستعمله وترك الآخر، ثم تغير ظنه لم يعمل بالثاني بل يتيمم بلا إعادة في الأصح، وقال ابن سريج: يتوضأ بالثاني ولا يتيمم، لأنها قضية مستأنفة، فلا يؤثر فيها الاجتهاد الماضي

(1)

.

واعلم أنه لا يؤخذ من هذا أن ابن سريج يقول: إن الاجتهاد ينقض بالاجتهاد، وإنما الأصحاب ألزموه ذلك، وهو يدفعه فإن هذا حكم جديد، وإنما ينقض الاجتهاد لو ألزمناه بإعادة الصلاة الأولى وهو لا يقول به.

ولو شهد الفاسق فردت شهادته فتاب وأعادها لم تقبل، لأن قبول شهادته بعد التوبة يتضمن نقض الاجتهاد بالاجتهاد كذا علله في التتمة.

(1)

لعل هذا هو الأصح، ولا يعيد الصلوات التي صلاها بالاجتهاد الأول لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.

ص: 170

ولو ألحقه القائف

(1)

بأحد المتداعيين، ثم رجع وألحقه بالآخر لم يقبل، وكذا لو ألحقه القائف بأحدهما، فجاء قائف آخر فألحقه لم يلحق به، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. وقيل: يتعارضان ويصير كأن لا قائف.

تنبيهات:

التنبيه الأول: اعلم أن هذه العبارة اشتهرت في كلامهم وتحقيقها: أن النقض الممتنع إنما هو في الأحكام الماضية، وإنما تغير الحكم في المستقبل لانتفاء الترجيح الآن، وهذا كالمجتهد في القبلة وغيرها إذا غلب على ظنه دليل فأخذ به، ثم عارضه دليل آخر بعد ذلك، فإنه يعمل بالثاني في المستقبل ولا ينقض ما مضى.

وقال الإمام في باب إحياء الموات مقتضى هذا أن القاضي إذا أمضى حكمه وقضاءه في واقعة، وكان لقضائه مستند من مذهب العلماء ومتعلق بالحجة، فإذا أراد قاض بعده أن ينقض قضاءه لم يجد إليه سبيلًا.

التنبيه الثاني: المراد لا ينقض باجتهاد مثله، فإنه ليس بأولى من الآخر، وينقض باجتهاد أجلى وأوضح منه، ومن طريق أولى أن يتيقن الخطأ كما في القبلة والأواني).

(التنبيه الثالث

(2)

: ينقض قضاء القاضي إذا خالف نصًّا أو إجماعًا أو قياسًا جليًّا. قال القرافي: أو خالف القواعد الكلية. وقال الحَنَفِيَّةُ: أو كان حكمًا لا دليل عليه.

(1)

القيافة: هي لغة تَتَبُّعُ الأثر للتعرف على صاحبه، والقائف: هو الذي يتتبع الآثار ليعرف شبه الشخص بأبيه أو أخيه. وفي الاصطلاح الفقهي، القائف: هو الذي يعرف النسب بفراسته.

(2)

ينظر: الأشباه والنظائر، السيوطي (ص 105).

ص: 171

وإنما ينقض حكم الحاكم لتبين خطئه، والخطأ قد يكون في نفس الحكم بكونه خالف نصًّا أو شيئا مما تقدم، وقد يكون الخطأ في السبب كأن يحكم ببينة مزورة ثم يتبين خلافه، فيكون الخطأ في السبب لا في الحكم، وقد يكون الخطأ في الطريق، كما إذا حكم ببينة ثم بان فسقها. وفي هذه الثلاثة ينقض الحكم بمعنى أنا تبيَّنَّا بطلانه).

وقال النووي رحمه الله في آداب الفتوى

(1)

: (إذا أفتى بشيء ثم رجع عنه فإن علم المستفتي برجوعه ولم يكن عمل بالأول لم يجز العمل به.

وكذا إن نكح بفتواه واستمر على نكاح بفتواه ثم رجع، لزمه مفارقتها كما لو تغير اجتهاد من قلده في القبلة في أثناء صلاته.

وإن كان عمل قبل رجوعه، فإن خالف دليلًا قاطعًا لزم المستفتي نقضُ عمله ذلك

(2)

، وإن كان في محل اجتهاد لم يلزمه نقضه، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. وهذا التفصيل ذكره الصيمري والخطيب وأبو عمرو، واتفقوا عليه ولا أعلم خلافه وما ذكره الغزالي والرازي ليس فيه تصريح بخلافه).

وقال الخطيب البغدادي رحمه الله في الفقيه والمتفقه

(3)

: (وإن كان رجوع المفتي عن قوله الأول من جهة اجتهادٍ هو أقوى، أو قياس هو أولى لم ينقض العمل المتقدم

(4)

، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد).

(1)

ينظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي (ص 35).

(2)

لوجود الدليل القاطع.

(3)

ينظر: الفقيه والمتفقه (2/ 426).

(4)

وإنما يعمل بالأقوى فيما بعد، فلو كان يصلي إلى غير القبلة باجتهاد وتغير اجتهاده باجتهاد أجلى وأوضح؛ فإن كان في الصلاة فإنه يتحول إلى ما ترجح لديه ولا يبطل الركعات التي صلاها بالاجتهاد الأول للقاعدة.

ص: 172

‌القاعدة العشرون: ما حرم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة

الذرائع: جمع: ذريعة. وهي في اللغة: الوسيلة إلى الشيء.

ويقصد بها في اصطلاح الفقهاء والأصوليين: ما كان ظاهره الإباحة، لكنه يفضي ويؤول إلى المفسدة أو الوقوع في الحرام، فيحرم لذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(1)

: (والذريعة ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عمَّا أفضت إلى فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة، ولهذا قيل الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم).

فالمقصود بقولهم: (سد الذرائع)، أي: سدّ الطرق المؤدية إلى الفساد، وقطع الأسباب الموصلة إليه، وحسم مادة الفساد، من أصلها.

قال القرافي رحمه الله

(2)

: (سدُّ الذرائع، ومعناه: حسم مادة وسائل الفساد؛ دفعًا لها، فمتى كان الفعل السَّالم عن المفسدة، وسيلةً للمفسدة: منع الإمام مالك من ذلك الفعل)

قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد

(3)

: (وتحريم الحرير إنما كان سدًّا للذريعة، ولهذا أبيح للنساء وللحاجة والمصلحة الراجحة، وهذه قاعدة: (ما حُرِّم لسدِّ الذرائع، فإنه يباح عند الحاجة والمصلحة الراجحة)، كما حرم النظر

(1)

ينظر: الفتاوى الكبرى (6/ 172).

(2)

ينظر: الفروق، القرافي (2/ 32).

(3)

ينظر: زاد المعاد (4/ 72).

ص: 173

سدًّا لذريعة الفعل، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة الراجحة، وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهي سدًّا لذريعة المشابهة الصورية بعبَّاد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة، وكما حُرِّم ربا الفضل سدًّا لذريعة ربا النسيئة، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا).

وقال أيضًا

(1)

: (إن تحريم ربا الفضل إنما كان سدًّا للذريعة كما تقدَّم بيانه، وما حُرِّم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أُبيحت العَرَايا

(2)

من ربا الفَضْل، وكما أُبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أُبيح النَّظرُ للخاطبِ والشاهدِ والطبيب والمعاملِ من جملة النَّظر المحرم.

وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجالَ حُرِّم لسدِّ ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة. وكذلك ينبغي أن يُباح بيع الحلية المصوغةِ صياغةً مباحةً بأكثر من وزنها؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وتحريم التفاضل إنما كان سدًّا للذريعة؛ فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل، والحيل باطلة في الشرع، وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة المتقوَّمة بالأثمان).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أثناء حديثه عن أوقات النهي عن الصلاة تطوعًا

(3)

: (أن النهي إنما كان لسدِّ الذريعة وما كان لسدَّ الذريعة فإنه يفعل للمصلحة الراجحة، وذلك أن الصلاة في نفسها من أفضل الأعمال وأعظم

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (3/ 408).

(2)

العرايا: هو بيع الرطب على النخل بالتمر على الأرض خرصًا، فيخرص ما على النخل من الرطب، وما يجيء منه من التمر إذا جف، ثم يبيع ذلك بمثله تمرًا، ويسلمه إليه قبل التفرق، وقد أجيز ذلك للحاجة.

(3)

ينظر: مجموع الفتاوى (23/ 186).

ص: 174

العبادات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة»

(1)

، فليس فيها نفسها مفسدة تقتضي النهي، ولكن وقت الطلوع والغروب الشيطان يقارن الشمس، وحينئذ يسجد لها الكفار، فالمصلي حينئذ يتشبه بهم في جنس الصلاة.

فالسُّجود وإن لم يكونوا يعبدون معبودهم ولا يقصدون مقصودهم، لكن يشبههم في الصورة، فنهى عن الصلاة في هذين الوقتين سدًّا للذريعة حتى ينقطع التشبه بالكفار، ولا يتشبه بهم المسلم في شركهم. كما نهى عن الخلوة بالأجنبية والسفر معها والنظر إليها؛ لما يفضي إليه من الفساد، ونهاها أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم. وكما نهى عن سب آلهة المشركين؛ لئلا يسبوا الله بغير علم.

وكما نهى عن أكل الخبائث، لما يفضي إليه من حيث التغذية الذي يقتضي الأعمال المنهي عنها وأمثال ذلك.

ثم إن ما نهي عنه لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى المخطوبة والسفر بها إذا خيف ضياعُها، كسفرها من دار الحرب، مثل سفر أم كلثوم

(2)

، وكسفر عائشة لما تخلفت مع صفوان بن المعطل، فإنه لم ينه عنه إلا لأنه يفضي إلى المفسدة، فإذا كان مقتضيًا للمصلحة الراجحة لم يكن مفضيًا إلى المفسدة).

(1)

أخرجه ابن ماجه برقم (277)، وأحمد في المسند برقم (22378) عن ثوبان رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء برقم (412).

(2)

أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها، وكانت ممن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم، فلم يرجعها إليهم، لما أنزل الله فيهن:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10]، إلى قوله:{وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} . أخرجه البخاري برقم (2712).

ص: 175

‌القاعدة الحادية والعشرون: الشريكان في عين مالٍ أو منفعة إذا كانا محتاجين إلى رفع مضرة أو إبقاء منفعة؛ أجبر أحدهما على موافقة الآخر

قال ابن رجب رحمه الله في القواعد

(1)

: (الشريكان في عين مال أو منفعة، إذا كانا محتاجين إلى دفع مضرة أو إبقاء منفعة؛ أجبر أحدهما على موافقة الآخر في الصحيح من المذهب.

وفيه رواية أخرى: إن أمكن أحدهما أن يستقلَّ بدفع الضرر فعلَه، ولم يُجبر الآخر معه، لكن إن أراد الآخر الانتفاعَ بما فعله شريكه؛ فله منعُه حتى يعطيَه حصةَ مُلكه من النفقة، وإن احتاجا إلى تجديد منفعة؛ فلا إجبار.

ويندرج تحت ذلك صور:

منها: إذا انهدم الحائط المشترك؛ فالمذهب إجبار الممتنع منهما بالبناء مع الآخر، نصَّ عليه في رواية جماعة، فإن الإِجبار هنا من جنس المعاوضة، والمعاوضة في الأموال المشتركة واجبة لدفع الضرر في الانتزاع بالشفعة وبيع ما لا يمكن قسمته.

والمعنى فيه: أن المالك يستحق الانتفاع بملكه، ويجب على شريكه تمكينه منه، فإذا دار الأمر بين تعطيل الحق بالكلية وبين المعاوضة عليه؛ فالمعاوضة عليه أولى؛ لأنه يرجع فيها إلى الانتفاع بالبدل، بخلاف التعطيل.

وأما الرواية الثابتة بعدم الإِجبار؛ فهي مأخوذة من نصِّ أحمد على عدم الإِجبار في بناء حيطان السُّفل إذا كان العلو لآخر وانهدم الكل: أنه لا يجبر

(1)

ينظر: القواعد لابن رجب (2/ 89) باختصار.

ص: 176

صاحب العلو على البناء مع صاحب السفل في السفل، والفرق واضح؛ لأن السفل ملكه مختصٌّ بصاحبه، بخلاف الحائط المشترك، ولذلك عقد الخلال لكل واحد منهما بابًا، وذكر النصَّ بالإِجبار في الحائط، والنصَّ بانتفائه في الصورة الأخرى.

ومنها: إذا انهدم السقف الذي بين سُفل أحدهما وعلوِّ الآخر؛ فذكر الأصحاب في الإِجبار الروايتين، والمنصوص ها هنا أنه إن انكسر خشبه؛ فبناؤه بينهما، لأن المنفعة لهما جميعًا، وظاهره الإِجبار

(1)

.

وإن انهدم السقف والحيطان؛ لم يجبر صاحب العلو على بناء الحيطان؛ لأنها خاصُّ ملك صاحب السفل، ولكنه يجبر على أن يبني معه السقف، فإن لم يفعل؛ أشهد عليه ومنعه من الانتفاع به حتى يعطيه حقه، ويجبر صاحب السفل على بنائه؛ لأنه سترة له. نقل ذلك عنه أبو طالب.

ونقل عنه ابن الحكم: أن صاحب السفل لا يجبر على البناء لأجل صاحب العلو، لكن صاحب العلو له أن يبني الحيطان ويسقف عليها، ويمنع صاحب السفل من الانتفاع به حتى يعطيه حقَّ ما بني به السفل، ويكون لهما جميعًا. وهذا يحتمل أنه أراد أن يعطيه ما بنى به الحيطان كله؛ فيصير البيت لهما؛ كما كان لأحدهما سفله وللآخر علوه، وهو ظاهر كلامه.

ويحتمل أنه يعطيَه نصفَ قيمة بناء السفل، وتكون الحيطان مشتركةً بينهما.

(1)

قال البهوتي رحمه الله في كشاف القناع عن متن الإقناع (3/ 414): (ويجبر الشريك على العمارة مع شريكه في الأملاك والأوقاف المشتركة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، وكنقضه عند خوف سقوطه، وكالقسمة والبناء وإن كان لا حرمة له في نفسه لكن حرمة الشريك الذي يتضرر بترك البناء توجب ذلك، فإن انهدم حائطهما المشترك أو انهدم سقفهما المشترك فطالب أحدهما صاحبه ببنائه معه أجبر الممتنع منهما لما تقدم، فإن امتنع أخذ الحاكم من ماله النفقة وأنفق عليه مع شريكه بالمحاصة).

ص: 177

ومنها: أن ما يقبل القسمة من الأعيان إذا طلب أحد الشريكين قسمته أجبر الآخر عليها، وعلى التزام كلفها ومؤنها لتكميل نفع الشريك، فأما ما لا يقبل القسمة؛ فإنه يجبر أحدهما على بيعه إذا طلب الآخر بيعه، نصَّ أحمد على ذلك في رواية الميموني

(1)

.

(1)

ولذلك قال الخرقي رحمه الله: (ولا تجب الشفعة إلا للشريك المقاسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة، واشترط الزركشي للشفعة شروطًا: أحدها: أن يكون شريكًا، فلا تجب الشفعة للجار، الشرط الثاني: أن يكون ذلك الشقص المشترك مما يقبل القسمة، وهذا معنى قول الخرقي: للشريك المقاسم الذي يقاسم، أي: يستحق أن يقاسم، فلا تجب في الحمام الصغير، والبئر، والعراص الضيقة، ونحو ذلك، الشرط الثالث: أن يكون المبيع أرضًا، فلا شفعة في غير الأرض، لأن ظاهر الحديث أنه إنما حكم بذلك في الأرض دون غيرها، إذ وقع الحدود، وتصريف الطرق، إنما هو في الأرض، لأن الأرض هي التي تبقى على الدوام، ويدوم ضررها، ويستثنى من غير الأرض البناء، والغراس، فإن الشفعة تجب فيهما تبعًا للأرض، وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى: أن الشفعة تجب في كل شيء، إلا في منقول ينقسم، فتجب على هذا في كل ما لا ينقسم، كالحمام الصغير ونحوه، وفي غير الأرض، من البناء المنفرد ونحوه، لعموم حديث جابر المتقدم، الشرط الرابع: أن ينتقل الشقص بعوض مالي، وتحريره أنه إن انتقل بغير عوض -كالإرث والوصية ونحوهما- لم تثبت الشفعة عندنا بلا نزاع، وإن انتقل بعوض مالي -كالبيع، والهبة بشرط الثواب، ونحوهما- ثبتت الشفعة بلا نزاع، وإن انتقل بعوض غير مالي -كالصداق، والصلح عن دم العمد، ونحوهما- فوجهان، أشهرهما عند القاضي وأكثر أصحابه: لا، والثاني: -واختاره ابن حامد، وأبو الخطاب في الانتصار-: نعم، وعليه هل يأخذ الشقص بقيمته أو بالدية ومهر المثل؟ فيه وجهان، والله أعلم. ينظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي (4/ 187).

ص: 178

‌القاعدة الثانية والعشرون: من اتصل بملكه ملكُ غيره متميزًا عنه وهو تابع له، ولم يمكن فصله منه بدون ضرر يلحقه، وفي إبقائه على الشركة ضرر، ولم يفصله مالكه فلمالك الأصل أن يتملكه بالقيمة من مالكه، ويجبر المالك على القبول وإن كان يمكن فصلُه بدون ضرر يلحق مالك الأصل فالمشهور

أنه ليس له تملكه قهرًا لزوال ضرره بالفصل

قال ابن رجب رحمه الله في القواعد

(1)

: (ويتخرج على هذه القاعدة مسائل كثيرة:

منها: غراس المستأجر وبناؤه بعد انقضاء المدة إذا لم يقلعْه المالك؛ فللمؤجِّر تملكُه بالقيمة، لأنه لا يملك قلعَه بدون ضمان نقصِه، وفيه ضرر عليه، ذكر ذلك القاضي وابن عقيل والأكثرون، ولم يشترط أبو الخطاب ألّا يقلعه المالك؛ فلعله جعل الخيرة لمالك الأرض دون مالك الغراس والبناء.

ومنها: غراس المستعير وبناؤه إذا رجع المعير أو انقضت مدة الإعارة، وقلنا: يلزم بالتوقيت؛ فالمنصوص عن أحمد أنه يتملك بالقيمة، نقله عنه مهنا وابن منصور، وكذلك نقل عنه جعفر بن محمد، لكن قال في روايته: يتملك بالنفقة ولمالكه القلع ابتداءً بغير خلاف، ولا يجبر عليه إذا كان فيه ضرر، وإن لم يكن فيه ضرر؛ فتردد فيه كلام الأصحاب، وظاهر كلام أحمد أنه لا يقلع بدون شرط.

ومنها: غراس المفلس وبناؤه إذا رجع بائع الأرض فيها؛ فللمفلس

(1)

ينظر: القواعد لابن رجب (2/ 106) باختصار.

ص: 179

والغرماء القلع، فإن أَبَوْهُ وطلب البائع التملك بالقيمة ملكه، وكذلك إذا طلب القلعَ مضمونًا.

ومنها: القابض بعقد فاسد من المالك إذا غرس وبنى؛ فللمالك تملكه بالقيمة، كغراس المستعير، ولا يقلع إلا مضمونًا لاستناده إلى الإذن، ذكره القاضي وابن عقيل.

ومنها: غراس الغاصب وبناؤه

(1)

، والمشهور عن أحمد أن للمالك قلعه مجانًا، وعليه الأصحاب، وعنه رواية ثانية: لا يقلع، بل يتملك بالقيمة أيضًا، وممن حكاها القاضي وابن عقيل في (كتاب الروايتين) لهما، ونص عليها أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه فيمن غصب أرضًا أو دارًا وبنى فيها؛ قال: يعجبني أن يغرم البناء ويعطي؛ لأنه إن أخذ الغاصب بناءه؛ تضررت الأرض في الخراب والهدم، ويكون أيضًا ذهاب مال الغاصب في الآجر والجص وكل شيء.

وفي مسائل ابن هانئ عن أحمد في رجل اكترى أرضًا يغرس فيها أشجارًا واشترط عليه ربُّ الأرض ألّا يغرس فيها غيره فغرس فيها شجرًا، يعني: غير ما اشترطه، وأثمر الشجر، وأراد أن يقلع الغرس؛ قال: لا يقلع الشجر من الأرض، يضرُّ بهما جميعًا.

وعلى هذه الرواية؛ فلا يقلع إلا مضمونًا؛ كغرس المستعير كذلك، حكاها القاضي وابن عقيل؛ فلذلك يملكه بالقيمة حيث لم يمكن القلع بدون ضرر.

ومنها: من كان في أرضه نخلة لغيره، فلحق صاحب الأرض ضرر بدخوله؛

(1)

ينظر: المغني، ابن قدامة (5/ 180)، والكافي له (2/ 220).

ص: 180

قال أحمد في رواية حنبل، ذكر له الحديث الذي ورد في ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر صاحبها أن يبيع فأبى، فأمره أن يناقل، فأبى، فأمره أن يهب، فأبى؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أنت مضار، اذهب فاقلع نخله»

(1)

.

قال أحمد: كلما كان على هذه الجهة وفيه ضرر يمنع من ذلك، فإن أجاب، وإلا جبره السلطان، ولا يضر بأخيه إذا كان ذلك فيه رفق له.

وأيضًا؛ فالأمر بالقلع هنا إنما كان عند الإِصرار على المضارة والامتناع من قبول ما يدفع ضرر المالك، ولهذا قال أصحابنا في المستعير: إذا امتنع المعير من الضمان مطلقًا، فطلب قيمة الغراس والبناء؛ أجيب إلى ذلك، وإن طلب القلع وضمان النقص؛ لم يجب).

(1)

أخرجه أبو داود برقم (3636)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (12005)، عن سمرة بن جبدب، رضي الله عنه، قال ابن حزم رحمه الله في المحلى (7/ 521): هذا منقطع؛ لأنّ محمد بن علي لا سماع له من سَمُرة، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود.

ص: 181

‌القاعدة الثالثة والعشرون: الأصل عدم الإيثار بالقرب

اختلفت أقوال الفقهاء في هذه القاعدة:

فمنهم: من رأى كراهة الإيثار بالقرب مطلقًا. ومنهم: من رأى التحريم. ومنهم: من رأى أنه خلاف الأولى. ومنهم: من رأى الجواز.

ولكنهم اتفقوا: على أن الأصل هو عدم الإيثار بالقرب.

قال ابن الملقن رحمه الله في التوضيح

(1)

: (وعند أصحابنا لا يجوز الإيثار بالقرب، وإنما الإيثار المحمود ما كان من حظ النفوس دون الطاعات، فيكره أن يؤثر غيره بموضعه من الصف الأول وكذا نظائره).

وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قام له رجل عن مجلسه لم يجلس فيه

(2)

، قال النووي رحمه الله في شرح مسلم

(3)

: (فهذا ورع منه، وليس قعوده فيه حرامًا إذا قام برضاه، لكنه تورع عنه لوجهين:

أحدهما: أنه ربما استحى منه إنسان فقام له من مجلسه من غير طيب قلبه، فسد ابن عمر الباب ليسلم من هذا.

(1)

ينظر: التوضيح (15/ 314).

(2)

أخرجه البخاري برقم (6270)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا، وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه ثم يجلس مكانه. وأخرجه مسلم برقم (2177)، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يقيمن أحدكم أخاه، ثم يجلس في مجلسه» ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما، إذا قام له رجل عن مجلسه، لم يجلس فيه.

(3)

ينظر: شرح النووي على مسلم (14/ 161).

ص: 182

والثاني: أن الإيثار بالقرب مكروه أو خلاف الأولى، فكان ابن عمر يمتنع من ذلك لئلا يرتكب أحد بسببه مكروهًا أو خلاف الأولى؛ بأن يتأخر عن موضعه من الصف الأول ويؤثره به، وشبه ذلك قال أصحابنا، وإنما يحمد الإيثار بحظوظ النفوس وأمور الدنيا دون القرب، والله أعلم).

وذكر الإمام ابن رجب رحمه الله في فتح الباري

(1)

أنه: (إن قام أحد من الصف تبرعًا وآثر الداخل بمكانه، فهل يكره ذلك، أم لا؟

إن انتقل إلى مكان أفضل منه لم يكره، وإن انتقل إلى ما دونه فكرهه الشافعية.

وقال أحمد فيمن تأخر عن الصف الأول، وقدم أباه فيه: هو يقدر أن يبرَّ أباه بغير هذا. وظاهره: الكراهة، وأنه يكره الإيثار بالقرب.

وأما الموثَر، فهل يكره له أن يجلس في المكان الذي أُوثر به؟

فيهِ قولان مشهوران.

أشهرهما: لا يكره، وهو قولُ أصحابنا والشافعية وغيرهم.

والثاني: يكره، وكان ابن عمر لا يفعل ذلك، وكذلك أبو بكرة.

وخَّرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام له رجل من مجلسه، فذهب ليجلس فيه، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(1)

ينظر: فتح الباري (8/ 211).

(2)

أخرجه أبو داود برقم (4828)، وأحمد في المسند برقم (5567)، وحسنه الألباني.

ص: 183

ولو بادر رجلٌ وسبق المؤثر إلى المكان، فهل هو أحق به من الموثر، أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا وغيرهم.

وأما من فسح له في مجلسٍ أوصفٍّ، فلا يكره له الجلوس فيه).

وقال السيوطي رحمه الله في الأشباه والنظائر

(1)

: (قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. قال الشيخ عز الدين: لا إيثار في القربات، فلا إيثار بماء الطهارة، ولا بستر العورة ولا بالصف الأول، لأن الغرض بالعبادات: التعظيم، والإجلال؛ فمن آثر به، فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه.

وقال الإمام: لو دخل الوقت ومعه ماء يتوضأ به فوهبه لغيره ليتوضأ به لم يجز، لا أعرف فيه خلافًا، لأن الإيثار: إنما يكون فيما يتعلق بالنفوس، لا فيما يتعلق بالقرب، والعبادات.

وقال في شرح المهذب، في باب الجمعة: لا يقام أحد من مجلسه ليجلس في موضعه، فإن قام باختياره، لم يكره، فإن انتقل إلى أبعد من الإمام كره.

قال أصحابنا: لأنه آثر بالقربة، وقال الشيخ أبو محمد في الفروق: من دخل عليه وقت الصلاة، ومعه ما يكفيه لطهارته، وهناك من يحتاجه للطهارة، لم يجز له الإيثار.

ولو أراد المضطر إيثار غيره بالطعام، لاستبقاء مهجته، كان له ذلك، وإن خاف فوات مهجته.

والفرق: أن الحق في الطهارة لله، فلا يسوغ فيه الإيثار، والحق في حال المخمصة لنفسه.

(1)

ينظر: الأشباه والنظائر (ص 166)، والأشباه والنظائر لابن نجيم (ص 101)، وغمز عيون البصائر، أحمد مكي (1/ 359).

ص: 184

وقد علم أن المهجتين على شرف التلف، إلا واحدة تستدرك بذلك الطعام، فحسُن إيثار غيره على نفسه.

وقال الخطيب في الجامع: كره قوم إيثار الطالب غيره بنوبته في القراءة، لأن قراءة العلم والمسارعة إليه قربة، والإيثار بالقرب مكروه، انتهى.

وقد جزم بذلك النووي في شرح المهذب، وقال في شرح مسلم: الإيثار بالقرب مكروه، أو خلاف الأولى، وإنما يستحب في حظوظ النفس، وأمور الدنيا

(1)

.

قال الزركشي: وكلام الإمام ووالده السابق: يقتضي أن الإيثار بالقرب حرام، فحصل ثلاثة أوجه.

قلت: ليس كذلك، بل الإيثار إن أدى إلى ترك واجب فهو حرام: كالماء، وساتر العورة، والمكان في جماعة لا يمكن أن يصلي فيه أكثر من واحد، ولا تنتهي النوبة، لآخرهم إلا بعد الوقت، وأشباه ذلك، وإن أدى إلى ترك سنة، أو ارتكاب مكروه فمكروه، أو لارتكاب خلاف الأولى، مما ليس فيه نهي مخصوص، فخلاف الأولى وبهذا يرتفع الخلاف).

تنبيه

(2)

:

(من المشكل على هذه القاعدة: من جاء ولم يجد في الصفِّ فرجةً، فإنه يجرُّ شخصًا بعد الإحرام، ويندب للمجرور أن يساعده، فهذا يفوت على نفسه قربة، وهو أجرُ الصفِّ الأول).

(1)

ينظر: شرح النووي على مسلم (14/ 161)، وفتح الباري، ابن حجر (11/ 64)، وتحفة الأحوذي، المباركفوري (8/ 21).

(2)

ينظر: الأشباه والنظائر، السيوطي (ص 116).

ص: 185

وهذه المسألة اختلف فيها العلماء:

فمنهم من رأى أنه يندب للمجرور أن يساعده وإن فوَّت على نفسه الصف المقدم، لأنه من باب التعاون على البر والتقوى.

قال ابن حجر رحمه الله في الفتح

(1)

: (وقد أورد على هذه القاعدة تجويز جذب واحد من الصف الأول ليصلي معه ليخرج الجاذب عن أن يكون مصليًّا خلف الصفِّ وحده لثبوت الزجر عن ذلك، ففي مساعدة المجذوب للجاذب إيثار بقربة كانت له، وهي تحصيل فضيلة الصف الأول؛ ليحصِّلَ فضيلةً تحصل للجاذب، وهي الخروج من الخلاف في بطلان صلاته.

ويمكن الجواب بأنه لا إيثار، إذ حقيقة الإيثار؛ إعطاء ما استحقه لغيره، وهذا لم يعط الجاذب شيئًا، وإنما رجح مصلحته على مصلحته، لأن مساعدة الجاذب على تحصيل مقصود ليس فيه إعطاؤه ما كان يحصل للمجذوب لو لم يوافقه).

ورأى فريق آخر من العلماء أنه ليس للمنفرد خلف الصفِّ أن يجر غيره، لئلا يحدث خللٌ في الصفوف، ولا يشرع للمجرور أن يساعده، وللمنفرد أن يصلي خلف الصف وحده إذا لم يجد مكانًا في الصفِّ، لأن المشقة تجلب التيسير، وقد سبق ذكر ذلك من كلام الإمام ابن القيم وهو الصواب.

واستشكل بعض العلماء حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب، فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام:«أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟» ، فقال الغلام: لا والله يا

(1)

ينظر: فتح الباري (10/ 87).

ص: 186

رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحدًا، قال: فتلَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده

(1)

.

قال ابن حجر رحمه الله في الفتح

(2)

: (قوله: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟» ظاهر في أنه لو أذن له لأعطاهم، ويؤخذ منه جواز الإيثار بمثل ذلك، وهو مشكل على ما اشتهر من أنه لا إيثار بالقرب، وعبارة إمام الحرمين في هذا: لا يجوز التبرع في العبادات ويجوز في غيرها، وقد يقال: إن القُرب أعمُّ من العبادة).

وأما ابن القيم رحمه الله فقد أجاز الإيثار ببعض القرب فقال

(3)

: (وقول من قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقرب لا يصحُّ.

وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوارَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وسألها عمر ذلك فلم تكره له السؤال، ولا لها البذل، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول، لم يكره له السؤال، ولا لذلك البذل ونظائره.

ومن تأمل سيرة الصحابة، وجدهم غير كارهين لذلك، ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرمٌ وسخاء، وإيثارٌ على النفس، بما هو أعظم محبوباتها، تفريحًا لأخيه المسلم، وتعظيما لقدره، وإجابةً له إلى ما سأله، وترغيبًا له في الخير، وقد يكون ثوابُ كلِّ واحد من هذه الخصال راجحًا على ثواب تلك القربة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر فبذل قربة وأخذ أضعافَها.

(1)

أخرجه البخاري برقم (2451)، ومسلم برقم (2030).

(2)

ينظر: فتح الباري (10/ 87).

(3)

ينظر: زاد المعاد (3/ 442).

ص: 187

وعلى هذا فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يُتوضأ به ويتيمم هو، إذا كان لا بد من تيمم أحدهما، فآثر أخاه وحاز فضيلة الإيثار وفضيلة الطهر بالتراب، ولا يمنع هذا كتابٌ ولا سنة، ولا مكارم أخلاق.

وعلى هذا، فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف، ومع بعضهم ماء، فآثر على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزًا، ولم يُقل إنه قاتل لنفسه، ولا أنه فعل محرمًا، بل هذا غاية الجود والسخاء، كما قال تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].

وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام، وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم، وهل إهداء القرب المجمع عليها والمتنازع فيها إلى الميت إلا إيثار بثوابها، وهو عين الإيثار بالقرب، فأي فرق بين أن يؤثره بفعلها ليحرز ثوابها، وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها، وبالله التوفيق).

ولكن ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين

(1)

كأنه مال إلى كلام الفقهاء في المنع، فقال: (وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله: فلا تؤثر به أحدًا، فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله، وأنت لا تعلم.

وتأمل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرهم إيثارهم له ولا ينفعهم، وأي جهالة وسفهٍ فوق هذا؟

ومن هنا تكلم الفقهاء في الإيثار بالقرب، وقالوا: إنه مكروه أو حرام؛ كمن يؤثر بالصف الأول غيره ويتأخر هو، أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة، أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة، أو يؤثره بعلم يَحرمه نفسه، ويرفعه عليه، فيفوز به دونه.

(1)

ينظر: مدارج السالكين (2/ 284).

ص: 188

وتكلموا في إيثار عائشة رضي الله عنها لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بدفنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها.

وأجابوا عنه بأن الميت ينقطع عمله بموته

(1)

، فلا يتصور في حقه الإيثار بالقرب بعد الموت، إذ لا تقرب في حق الميت، وإنما هذا إيثار بمسكن شريف فاضل لمن هو أولى به منها. فالإيثار به قربة إلى الله عز وجل للمؤثر).

وأما الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقد أجاز بعض صور الإهداء للمصلحة، وذلك في القُرب المستحبة لا الواجبة، فقال

(2)

: (وتأتي هنا مسألة الإيثار بالقُرب هل هو جائز أو مكروه أو محرم؟

سبق لنا الكلام عليه وبينا أن الإيثار ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: ما يحرم فيه الإيثار، وهو الإيثار بالواجب.

والثاني: ما يكره فيه الإيثار إلا لمصلحة تربو على الكراهة.

والثالث: ما يباح فيه الإيثار، وهو ما سوى العبادات من الأمور العادية.

فالذي يحرم فيه الإيثار كأن يكون معي ماء يكفيني للوضوء، فلو آثرت به غيري وتوضأ به، بقيت بلا ماء، فهنا يحْرُم الإيثار؛ لأنني قادر على استعمال الماء وهو في ملكي، فلا يجوز لي أن أوثر به غيري.

أما إذا كانت القربة مستحبة مثل الصف الأول، فهناك مكان رجل واحد في الصف وسبقت إليه أنا وواحد معي فهل أوثره؟

(1)

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» ، أخرجه مسلم برقم (1631).

(2)

ينظر: فتح ذي الجلال والإكرام (3/ 355).

ص: 189

قال العلماء: إنه يكره أن يؤثر غيره بمكانه الفاضل، لكن القول بالكراهة يتوقف فيه الإنسان، إنما يقال: لا ينبغي أن تؤثر؛ لأن هذا يدل على زهد في الخير والسبق إليه، لكن إذا اقتضت المصلحة أن تؤثرَه مثل أن يكون أباك أو أخاك الكبير، أو صاحب فضل عليك وعلى الناس، فهنا يكون الإيثار لا بأس به، بل قد تربو المصلحة ونقول: أن الإيثار هنا مستحبٌّ، أما الإيثار في الأمور العادية فهذا لا بأس به، والأصل فيه الحلُّ والجواز).

مسألة:

قال ابن نجيم رحمه الله في الأشباه والنظائر

(1)

: (ثم رأيت في الهبة من منية المفتي: فقير محتاج معه دراهم، فأراد أن يؤثر على نفسه؛ إن علم أنه يصبر على الشدة فالإيثار أفضل، وإلا فالإنفاق على نفسه أفضل).

(1)

ينظر: الأشباه والنظائر (ص 102).

ص: 190

‌القاعدة الرابعة والعشرون: الضرورات تبيح المحظورات

سبق الإشارة إلى هذه القاعدة عند الكلام على قاعدة: (الضرر يزال) وقاعدة: (لا واجب مع عجز ولا محرم مع ضرورة).

وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في درسه في الحرم المكي

(1)

:

ما الضرورة التي تبيح المحظور؟

فقال: (الضرورة التي تبيح المحظور لها شرطان:

الشرط الأول: أن تزول به الضرورة.

الشرط الثاني: ألَّا تندفع الضرورة إلا بتناوله.

فالضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها، ومن ثم جاز، بل وجب أكل الميتة عند المخمصة).

قال أبو عبد الله بدر الدين الزركشي رحمه الله في المنثور في القواعد الفقهية

(2)

: (ومن ثم أبيحت الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر لمن غصَّ، ولم يجد غيرَها، وأبيحت كلمة الكفر للمكره، وكذلك إتلاف المال، وكذلك أخذ مال الممتنع من الدَّيْن بغير إذنه، إذا كان من جنسه ولو كان بكسر بابه. ولو صال الصيد على مُحرم فقتله دفعًا لا ضمان؛ لأنه بالصيال التحق

(1)

سمعت ذلك منه أثناء حضوري لأحد دروسه في الحرم.

(2)

ينظر: المنثور في القواعد الفقهية (2/ 317 - 320).

ص: 191

بالمؤذيات، وإذا عم الحرام قطرًا بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادرًا، فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه، ولا يقتصر على الضرورة. قال الإمام: ولا يتبسط فيه كما يتبسط في الحلال بل يقتصر على قدر الحاجة دون أكل الطيبات ونحوها مما هو كالتتمات. قال الشيخ أبو علي في كتاب الغصب من شرح التلخيص: ومن اضطر إلى مال غيره وترك الأكل هل يعصي؟ وجهان:

أحدهما: نعم؛ لأن عليه إحياء نفسه.

والثاني: له أن يستسلم للهلاك، كما لو قصده مسلم لقتله، قال: وهكذا الوجهان فيما لو احتاج لشرب الخمر للعطش.

ويجوز إتلاف شجر الكفار وبنائهم لحاجة القتال، وكذا إتلاف الحيوان الذي يقاتلون عليه؛ لدفعهم أو ظفر بهم.

ويجوز نبش الميت بعد دفنه للضرورة؛ بأن دفن بلا غسل أو لغير القبلة، أو في أرض أو ثوب مغصوب، لا للتكفين في الأصح؛ ولا ليدفن عليه آخر.

ويجوز غصب الخيطِ لخياطة جرح حيوان محترم إذا لم يجد خيطًا حلالًا.

والنجاسات إذا عمَّت البلوى بها يرتفع حكمُها.

ومنه الماء الذي يسيل من فم النائم إذا حكمنا بنجاسته وعمت بلوى شخص به، فالظاهر العفو، قاله النووي.

قال: ولو عمت البلوى بذرْق الطير

(1)

، وتعذر الاحتراز منه عفي عنه؛ كطين الشارع، وتصح الصلاةُ معه. وفي النكت للشيخ أبي إسحاق يعفى عن ذَرْق الطيور في المساجد. وكالعفو عن أثر الاستنجاء وسلَسِ البول.

(1)

ذرق الطائر: خرؤه. ينظر: مختار الصحاح، الرازي (ص 112).

ص: 192

فائدة: جعل بعضهم المراتب خمسة: ضرورة، وحاجة، ومنفعة، وزينة، وفضول.

فالضرورة: بلوغه حدًّا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس، بحيث لو بقي جائعًا أو عريانًا لمات أو تلف منه عضو، وهذا يبيح تناول المحرم.

والحاجة: كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكل لم يهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقة، وهذا لا يبيح المحرم.

وأما المنفعة: فكالذي يشتهي خبز الحنطة ولحم الغنم، والطعام الدسم.

وأما الزينة: فكالمشتهي الحلو المتخذ من اللوز والسكر والثوب المنسوج من حرير وكتان.

وأما الفضول: فهو التوسع بأكل الحرام أو الشبهة، كمن يريد استعمال أواني الذهب أو شرب الخمر.

إذا علمت هذا فللقنوع مرتبتان:

إحداهما: يقنع بدفع الحاجة فلا يأكل إلا عند الجوع بقدر ما يدفعه، ولا يميز بين دافع ودافع.

ودونها مرتبة من يقنع باستيفاء المنفعة فيأكل الطيب، ولكن لا يفرق بين صنف وصنف، فإذا اشتهى الحلو استوى عنده الدبس والسكر، وإذا أراد اللبس استوى عنده القطن والصوف.

وأما من دونه، وهو القَنوع بسدِّ الرمَق الصابر على مضضِ الجوع.

وكأن القانعَ يستر وجهَ الحاجة بستر خفيف، كما أن (المِقْنعةَ) تستر وجه

ص: 193

لابسها بعض الستر، ولا يقال لمن جلس خلف حائطٍ من الشمس: أنه تقنع بالحائط.

وينبغي ضبط هذه القاعدة بقاعدة: (ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها)، ومن ثم لا يأكل من الميتة إلا قدر سدِّ الرمق.

فإذا استشير في خاطب وأراد ذكر مساوئه، قال الغزالي في الإحياء: فإن اكتفى بالتعريض، كقوله: لا يصلح لك، لم يعدل إلى التصريح، لأن ما أبيح لضرورة يقدر بقدرها، وذكر مساوئ الشخص من الغيبة، وإنما أباحه ضرورة النصح للمسلمين.

ويجوز أخذُ نبات الحرم؛ لعلف البهائم، ولا يجوز أخذه؛ لبيعه لمن يعلف.

ومثله الطعام في دار الحرب يؤخذ على حسب الحاجة؛ لأنه أبيح للضرورة. ويعفى عن محل استجماره، ولو حمل مستجمرًا في الصلاة بطلت في الأظهر. قال القفال في فتاويه: والمرأة إذا فصَدَها أجنبيٌّ عند فقْد امرأة أو مَحْرم، لم يجز لها كشفُ جميع ساعدها، بل عليها أن تلفَّ على يدها ثوبًا، ولا تكشف إلا القدر الذي لا بد من كشفه للفصدِ، ولو زادت عليه عصتِ الله تعالى).

ص: 194

‌القاعدة الخامسة والعشرون: الحدود تسقط بالشبهات

الشبهة: هي: عارض يعرض للقلب، يمنعه من تصور الأمور على حقيقتها، فيحصل بها اشتباه والتباس، فلا يميز الذي اشتبه عليه الأمر بين الحق والباطل

(1)

.

وهي أيضًا: ما يُشبه الثابت، وليس بثابت، أو هو الشيء المجهول تحليله على الحقيقة، وتحريمه على الحقيقة

(2)

.

ودليل هذه القاعدة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادرءوا الحدود بالشبهات»

(3)

، أخرجه ابن عدي في جزءٍ له من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«ادفعوا الحُدودَ ما استطعتُم»

(4)

. وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي رحمهم الله وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجًا، فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة»

(5)

.

(1)

ينظر: شرح الأصول الستة، خالد المصلح (6/ 2).

(2)

ينظر: المنثور في القواعد الفقهية، الزركشي (2/ 228)، والأشباه والنظائر، ابن نجيم (1/ 379).

(3)

أخرجه الدارقطني برقم (3098)، والبيهقي في السنن الكبرى قم (17059)، ولفظهما: عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ادرءوا الحدود» ، وقال البيهقي: في هذا الإسناد ضعف.

(4)

أخرجه ابن ماجه برقم (2545)، ولفظه:«ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعًا» .

(5)

أخرجه الترمذي برقم (1424)، والحاكم في المستدرك برقم (8163)، والبيهقي في السنن الكبرى برقم (17057)، وضعفه الترمذي.

ص: 195

وأخرجه البيهقي عن عمر، وعقبة بن عامر، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم موقوفًا

(1)

. وأخرج من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: «ادرءوا الحدود»

(2)

فقط.

وقال مسدد رحمه الله في مسنده: حدثنا يحيى القطان، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:«ادرءوا الحدودَ بالشبهة» ، وهو موقوف، حسن الإسناد

(3)

. وأخرج الطبراني عنه موقوفًا: «ادرءوا الحدود والقتل عن عباد الله ما استطعتم»

(4)

.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات

(5)

: (ويقرب من هذا المعنى درء الحدود بالشبهات؛ فإن الدليل يقوم هنالك مفيدًا للظن في إقامة الحدِّ، ومع ذلك، فإذا عارضه شبهة وإن ضعفت؛ غلب حكمُها، ودخل صاحبها في حكم العفو).

وقال ابن اللحام الحنبلي رحمه الله في القواعد والفوائد الأصولية

(6)

: (وتقدم قول أبي المعالي في أول القاعدة في ابن أربع عشرة سنة إذا ترك الصلاة أنه يعيدُ، وهو محمول على البالغ بالسنِّ أو الإنباتِ.

وأما إذا قذف أو قتل لم يُقم عليه الحد، ولم يجب عليه القصاص، ولم أر خلافًا في ذلك بين الأصحاب ولا عن الإمام أحمد، ولا يتخرج وجوب ذلك

(1)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم (17061 - 17063)، وضعفه بالانقطاع.

(2)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (17059)، وقال: وفي هذا الإسناد ضعف.

(3)

قاله ابن حجر في شرح المختصر كما ذكر المناوي في فيض القدير، المناوي (1/ 227).

(4)

ينظر: المعجم الكبير برقم (9695)، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف برقم (13640).

(5)

ينظر: الموافقات (1/ 271).

(6)

ينظر: القواعد والفوائد الأصولية (ص 50).

ص: 196

على تكليفه، لأن الحدود تدرأ بالشبهات، والصغر شبهة، وأكثر الناس على عدم تكليفه، فيكون اختلافهم شبهة مانعة من وجوب القصاص والحد، ولأن الحد والقصاص حق على البدن، وبدن الصبي يضعُف عن ذلك).

وأما حديث: «ادرءوا الحدود بالشبهات» ؛ فقد قال الكمال بن الهمام رحمه الله في فتح القدير

(1)

: (ثم الحديث المذكور قيل لم يحفظ مرفوعًا، وذكر أنه في الخلافيات للبيهقي عن علي رضي الله عنه، وهو في مسند أبي حنيفة عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود بالشبهات» .

وأسند ابن أبي شيبة عن إبراهيم وهو النخعي، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأن أُعطِّل الحدودَ بالشبهات، أحبّ إلي من أن أقيمَها بالشبهات

(2)

.

وأخرج عن معاذ وعبد الله بن مسعود وعقبة بن عامر رضي الله عنهم قالوا: إذا اشتبه عليك الحدُّ فادرأه.

ونقل ابن حزم رحمه الله عن أصحابهم الظاهرية

(3)

: (أن الحدَّ بعد ثبوته لا يحلُّ أن يُدرأ بشبهة، وشنع بأن الآثار المذكورة لإثبات الدرء بالشبهات ليس فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيءٌ، بل عن بعض الصحابة من طرق لا خير فيها، وأعلَّ ما عن ابن مسعود مما رواه عبد الرزاق عنه بالإرسال، وهو غير رواية ابن أبي شيبة، فإنها معلولة بإسحاق بن أبي فروة.

(1)

ينظر: فتح القدير، الكمال ابن الهمام (5/ 248).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (28493).

(3)

ينظر: المحلى، ابن حزم (12/ 57).

ص: 197

ونحن نقول: إن الإرسال لا يقدح، وإن الموقوف في هذا له حكم المرفوع، لأن إسقاط الواجب بعد ثبوته بشبهة خلاف مقتضى العقل؛ بل مقتضاه أن بعد تحقق الثبوت لا يرتفع بشبهة، فحيث ذكره صحابي حمل على الرفع.

وأيضًا في إجماع فقهاء الأمصار على أن: «الحدود تُدرأ بالشبهات» كفاية، ولذا قال بعض الفقهاء: هذا الحديث متفق عليه

(1)

، وأيضًا تلقته الأمة بالقبول.

وفي تتبع المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما يقطع في المسألة، فقد علمنا أنه عليه الصلاة والسلام قال لماعز:«لعلك قبلت، لعلك لمستَ، لعلك غمزتَ»

(2)

، كل ذلك يلقنه أن يقول: نعم، بعد إقراره بالزنا، وليس لذلك فائدة إلا كونه إذا قالها ترك وإلا فلا فائدة.

ولم يقل لمن اعترف عنده بدين: لعله كان وديعة عندك فضاعت ونحوه، وكذا قال للسارق الذي جيء به إليه:«أسرقت ما إخاله سرق»

(3)

، وللغامدية نحو ذلك، وكذا قال علي رضي الله عنه لشراحةَ على ما أسلفناه لعله وقع عليك وأنت نائمة، لعله استكرهك، لعل مولاك زوَّجك منه وأنت تكتُمينه

(4)

، وتتبعُ مثلِه عن كل واحد يوجب طولًا.

فالحاصل من هذا كله كون الحد يُحتال في درئه بلا شك، ومعلوم أن هذه الاستفسارات المفيدة لقصد الاحتيال للدرء كلها كانت بعد الثبوت؛ لأنه كان

(1)

أي: اتفق الأئمة من أصحاب المذاهب وغيرهم على قبوله والعمل به.

(2)

أخرجه البخاري برقم (6824).

(3)

أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (8150)، وعبد الرزاق في المصنف برقم (18923).

(4)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم (16963).

ص: 198

بعد صريح الإقرار وبه الثبوت، وهذا هو الحاصل من هذه الآثار ومن قوله:«ادرءوا الحدود بالشبهات» ؛ فكان هذا المعنى مقطوعًا بثبوته من جهة الشرع؛ فكان الشك فيه شكًّا في ضروري فلا يلتفت إلى قائله ولا يعول عليه، وإنما يقع الاختلاف أحيانًا في بعضٍ -أهي شبهة صالحة للدرء أو لا؟ - بين الفقهاء).

وقال السيوطي رحمه الله في الأشباه والنظائر

(1)

: (الشبهة تُسقط الحدَّ سواء كانت في الفاعل، كمن وطئ امرأة ظنها حليلته أو في المحل، بأن يكون للواطئ فيها ملك أو شبهة، كالأمة المشتركة، والمكاتبة، وأمة ولده ومملوكته المحرم أو في الطريق بأن يكون حلالًا عند قوم، حرامًا عند آخرين، كنكاح المتعة، والنكاح بلا ولي أو بلا شهود، وكل نكاح مختلف فيه، وشرب الخمر للتداوي، وإن كان الأصح تحريمه، لشبهة الخلاف.

وكذا يسقط الحدُّ بقذف من شهد أربعةٌ بزناها، وأربعٌ أنها عذراء، لاحتمال صدقِ بينة الزنا، وأنها عذراء لم تزل بكارتُها بالزنا. وسقط عنها الحدُّ لشبهة الشهادة بالبكارة، ولا قطع بسرقة مال أصله، وفرعه وسيده، وأصل سيده وفرعه، لشبهة استحقاق النفقة وسرقة ما ظنه ملكَه، أو ملكَ أبيه أو ابنه.

ولا يقتل فاقد الطهورين بترك الصلاة متعمدًا، لأنه مختلف فيه، وكذا من مسَّ أو لمس وصلى متعمدًا وهو شافعي، أو توضأ ولم ينو، ذكره القفال في فتاويه.

ويسقط القصاص أيضًا بالشبهة، فلو قتل الحر المسلم: من لا يُدرى أمسلم أو كافر؟ وحر أو عبد؟ فلا قصاص للشبهة نقله في أصل الروضة، عن البحر).

(1)

ينظر: الأشباه والنظائر (ص 123).

ص: 199

ونقل البيهقي رحمه الله عن الشافعي أنه قال: (الناس لا يحدُّون إلا بإقرارهم أو ببينة تشهد عليهم بالفعل وأن الفعل محرم، فأما بغير ذلك فلا حدّ، ثم قال البيهقي: وهكذا لو وجدت حاملًا فادعت تزويجًا أو إكراهًا لم تُحدّ)

(1)

.

قال السيوطي رحمه الله

(2)

: (تنبيه: شرط الشبهة: أن تكون قويةً، وإلا فلا أثرَ لها، ولهذا يُحدُّ بوطء أمة أباحها السيدُ، ولا يراعَى خلافُ عطاءٍ في إباحة الجواري للوطء، وفي سرقة مباح الأصل، كالحطب ونحوه، وفي القذف على صورة الشهادة.

ولو قتل مسلم ذميًّا، فقتله ولي الذمي: قتل به، وإن كان موافقًا لرأي أبي حنيفة. ومن شرب النبيذ يحدُّ، ولا يراعى خلاف أبي حنيفة).

(1)

ينظر: معرفة السنن والآثار (12/ 223).

(2)

ينظر: الأشباه والنظائر (ص 124).

ص: 200

‌القاعدة السادسة والعشرون: الحاجةُ تنزل منزلةَ الضرورةِ، عامةً كانت أو خاصةً

المراد بالحاجة هنا ما كان دون الضرورة، لأن مراتب ما يحرص الشرع على توفيره للإنسان ثلاث:

الأولى: الضرورة:

وهي بلوغ الإنسان حدًّا إذا لم يتناول الممنوع عنه هلك أو قارب، وهذا يبيح تناول الحرام، كما فُصِّل في قاعدة سابقة.

الثانية: الحاجة:

وهي بلوغ الإنسان حدًّا لو لم يجد ما يأكله أو يشربه أو ما يلبسه لم يهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقة.

الثالثة: الكمالية أو التحسينية:

وهي ما يقصد من فعله نوع من الترفُّه وزيادة في لين العيش.

وما عدا ذلك فهو زينةٌ وفضول دون الخروج عن الحدِّ المشروع.

فإذا كانت هناك حاجة عامة لمجموع من الناس أو خاصة بشخص أو فئة ما نزِّلت هذه الحاجة منزلة الضرورة في جواز الترخيص لأجلها، لكن الحاجة مبنية على التوسع والتسهيل فيما يسع العبد تركه بخلاف الضرورة، لأن مبنى الضرورة على لزوم فعل ما لا بد منه للتخلص من عهدة تلزم العبد ولا يسعه الترك

(1)

.

(1)

ينظر: الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، البورنو (1/ 242).

ص: 201

ومعنى هذه القاعدة:

أن الحاجة العامة التي تتعلق بأغلب الناس، وكذلك التي تختص بفئة تنزل منزلة الضرورة فتعطى حكمها من حيث إباحة المحظور، وإن كانت الحاجة في مرتبة دون مرتبة الضرورة وهي أقل باعثًا على مخالفة قواعد الشرع العامة.

وعنى هذا الأصل أن هذا الحكم -أعني اللجوء إلى ارتكاب المحرّم أو مخالفة قواعد الشرع العامة- إنما هو من شأن الضرورات محافظة على المصالح الضرورية، لكننا وجدنا من أدلة الشرع ما يدل على أن الحاجة قد تعطى حكم الضرورة تيسيرًا على العباد وتسهيلًا لشؤون معاشهم، وقد تقدم بيان معنى كل من الضرورة والحاجة وبيان الفرق بين حقيقتيهما.

وقد فرق بعضهم بينهما من جهة أن حكم الضرورة مؤقت بزمان تلك الضرورة، وحكم الحاجة مستمر.

ومع هذا فقد تطلق الضرورة ويراد بها الحاجة.

على أن حكم هذه القاعدة ليس على إطلاقه، فقد اشترط العلماء في الحاجة المبيحة للمحظور شروطًا أهمها ما يلي:

1 -

أن تكون الشدة الباعثة على مخالفة الحكم الشرعي الأصلي بالغة درجة الحرج غير المعتاد.

2 -

أن يكون الضابط في تقدير تلك الحاجة النظر إلى أواسط الناس ومجموعهم بالنسبة إلى الحاجة العامة، وإلى أواسط الفئة المعينة التي تتعلق بها الحاجة إذا كانت خاصة.

3 -

أن تكون الحاجة متعينة؛ بألا يوجد سبيل آخر للتوصل إلى الغرض سوى مخالفة الحكم العام.

ص: 202

4 -

أن تقدر تلك الحاجة بقدْرها كما هو الحال بالنسبة إلى الضرورات.

5 -

ألاّ يخالف الحكم المبني على الحاجة نصًّا من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على حكم ذلك الأمر بخصوصِه، وألاّ يعارض قياسًا صحيحًا أقوى منه، وأن يكون مندرجًا في مقاصد الشرع، وألاّ تفوت معه مصلحة أكبر

(1)

.

وفصل الشيخ أحمد الزرقا رحمه الله في هذه القاعدة فقال

(2)

: (الحاجة تتنزل فيما يحظره ظاهر الشرع منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة.

وتنزيلها منزلة الضرورة في كونها تَثبت حُكمًا، وإن افترقا في كون حكم الأولى مستمرًّا وحكم الثانية مؤقتًا بمدة قيام الضرورة، إذ الضرورة تقدَّر بقدرها.

وكيفما كانت الحاجة فالحكم الثابت بسببها يكون عامًّا بخلاف الحكم الثابت بالعرف والعادة، فإنه يكون مقتصرًا وخاصًّا بمن تعارفوه وتعاملوا عليه واعتادوه، وذلك لأن الحاجة إذا مسَّت إلى إثبات حكم تسهيلًا على قوم، لا يمنع ذلك من التسهيل على آخرين ولا يضر، بخلاف الحكم الثابت بالعرف والعادة، فإنه يقتصر على أهل ذلك العرف، إذ ليس من الحكمة إلزام قوم بعرف آخرين وعادتهم ومؤاخذاتهم بها.

ثم الضرورة في الحالة الملجئة إلى ما لا بد منه.

والحاجة هي الحالة التي تستدعي تيسيرًا أو تسهيلًا لأجل الحصول على

(1)

ينظر: القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، العبد اللطيف (1/ 245 - 247).

(2)

ينظر: شرح القواعد الفقهية (ص 209).

ص: 203

المقصود، فهي دون الضرورة من هذه الجهة، وإن كان الحكم الثابت لأجلها مستمرًّا، والثابت للضرورة مؤقتا كما تقدم.

ثم إنما يضاف تجويز الحكم إلى الحاجة فيما يظهر إذا كان تجويزه مخالفًا للقياس، وإلا كانت إضافته للقياس أولى.

والظاهر أن ما يجوز للحاجة، إنما يجوز فيما ورد فيه نصٌّ يجوِّزه، أو تعاملٌ، أو لم يرد فيه شيء منهما، ولكن لم يرد فيه نصٌّ يمنعه بخصوصه، وكان له نظير في الشرع يمكن إلحاقه به، وجعْل ما ورد في نظيره واردا فيه.

كما في بيع الوفاء

(1)

، فإن مقتضاه عدم الجواز، لأنه إما من قبيل الربا، لأنه انتفاع بالعين بمقابلة الدين، أو صفقة مشروطة في صفقة، كأنه قال: بعته منك بشرط أن تبيعه مني إذا جئتك بالثمن، وكلاهما غير جائز، ولكن لما مسَّت الحاجة إليه في بخارى بسبب كثرة الديون على أهلها، جُوِّز على وجه أنه رهنٌ أبيح الانتفاع بأنزاله، والرهن على هذه الكيفية جائز.

أو كان لم يرد فيه نصٌّ يجوِّزه أو تعاملٌ، ولم يرد فيه نصٌّ يمنعُه، ولم يكن له نظيرٌ جائز في الشرع يمكن إلحاقُه به، ولكن كان فيه نفعٌ ومصلحةٌ، كما وقع في الصدر الأول من تدوين الدواوين، وضرب الدراهم، والعهد بالخلافة وغير ذلك مما لم يأمر به الشرع ولم ينهَ عنه، ولم يكن له نظيرٌ قبل، فإنه دعت إليه

(1)

بيع الوفاء: مصطلح خاصٌّ بالمذهب الحنفي؛ وهو: البيع بشرط أن البائع متى ردَّ الثمن، يرد المشتري إليه المبيع، وهو محرم عند الحنابلة والمالكية والشافعية، جائز عند الحنفية. ودليل منعه: قوله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» ، ولأن شرط رد السلعة متى ما ردَّ البائع الثمن، هو شرط ينافي مقتضى العقد، والشرط المنافي لمقتضى العقد باطل، كما أن حقيقة بيع الوفاء قرضٌ جرَّ نفعًا، فهو حيلة للتوصل للربا.

ص: 204

الحاجة وسوَّغته المصلحة، بخلاف الضرورة فإن ما يجوز لأجلها لا يعتمد شيئا من ذلك.

أما ما لم يرد فيه نص يسوغه، ولا تعاملت عليه الأمة، ولم يكن له نظير في الشرع يمكن إلحاقه به، وليس فيه مصلحة عملية ظاهرة، فإن الذي يظهر عندئذ عدم جوازه، جريًا على ظواهر الشرع، لأن ما يتصور فيه أنه حاجة والحالة هذه يكون غير منطبق على مقاصد الشرع.

وأما ما ورد فيه نصٌّ يمنعه بخصوصه فعدم الجواز فيه واضح، ولو ظنت فيه مصلحة، لأنها حينئذ وهمٌ).

ومما يستدل به على هذه القاعدة:

حديث ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في بيع العرايا، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر، عن زيد بن ثابت رضي الله عنهم، قال: «رخص النبي صلى الله عليه وسلم أن تباع العرايا

(1)

بخرصها

(2)

تمرًا»

(3)

.

وقد جاء في بعض روايات الحديث النصُّ على العلة، حيث أخرج الإمام الشافعي

(4)

أنه قيل لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إما زيد وإما غيره: ما عراياكم هذه؟ قال فلان وفلان وسمى رجالًا محتاجين من الأنصار، شَكَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي، ولا نقد في أيديهم يتبايعون به

(1)

قال النووي رحمه الله في شرحه على مسلم (10/ 188): (وأما العرايا: فهي أن يخرص الخارص نخلات فيقول: هذا الرطب الذي عليها إذا يبس تجيء منه ثلاثة أوسق).

(2)

الخَرْص: هو حَزْرُ ما على النخلة من الرطب تمرًا، أي: تقديره.

(3)

أخرجه البخاري برقم (2380)، ومسلم برقم (1539).

(4)

ذكره البغوي في شرح السنة (8/ 89)، وأخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار برقم (11273).

ص: 205

رطبًا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر، فرخّص لهم أن يتبايعوا العرايا بخرصِها من التمر الذي في أيديهم يأكلونها

(1)

.

وقد بين العلماء معنى العرايا بما يدل على أن سبب الترخيص فيها هو الحاجة إليها

(2)

.

قال ابن الجوزي رحمه الله في كشف المشكل: (وإنما جاز بيعُ العرايا لأجل الحاجة

(3)

، ما رواه الإمام البخاري عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان انصدع فسلسله بفضة

الحديث

(4)

.

ففي الحديث جواز ذلك، وقد علَّله العلماء بالحاجة؛ لأنه قد ثبت النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة

(5)

؛ حديث أنس رضي الله عنه قال: «رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن في لُبْس الحرير لحكّة بهما»

(6)

.

ووجه الدلالة منه: استثناء هذه الحالة من حكم لبس الحرير للرجال، وهو التحريم

(7)

.

(1)

أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار برقم (11273)، والبغوي في شرح السنة (8/ 89).

(2)

ينظر: القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، العبد اللطيف (1/ 252).

(3)

ينظر: كشف المشكل (3/ 451).

(4)

أخرجه البخاري برقم (5638).

(5)

يشير إلى حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنهم كانوا عند حذيفة، فاستسقى فسقاه مجوسي، فلما وضع القدح في يده رماه به، وقال: لولا أني نهيته غير مرة ولا مرتين، كأنه يقول: لم أفعل هذا، ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» . أخرجه البخاري برقم (5426)، ومسلم برقم (2067).

(6)

أخرجه البخاري برقم (5839)، ومسلم برقم (2076).

(7)

ينظر: القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، العبد اللطيف (1/ 254).

ص: 206

‌القاعدة السابعة والعشرون: من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه

قال الشيخ السعدي رحمه الله في منظومة القواعد

(1)

:

(مُعاجِلُ المحظورِ قبل آنِهْ

قد باء بالخسران مَعْ حِرمانهْ

هذه القاعدة تدل على أن الذي يستعجل الشيء الذي وضع له سبب عام مطرد، وطلب الحصول عليه قبل أوانه، أي: وقت حلول سببه العام، ولم يستسلم إلى ذلك السبب الموضوع، بل عدل عنه، وقصد تحصيل ذلك الشيء بغير ذلك السبب قبل ذلك الأوان، فإنه يعاقب بحرمانه، ويحرم من النفع الذي يأتي منه عقابًا له، لأنه افتات وتجاوز.

فيكون باستعجاله هذا أقدم على تحصيله بسبب محظور فيعاقب بحرمانه ثمرة عمله التي قصد تحصيلها بذلك السبب الخاص المحظور، وكذلك من احتال على تحليل الحرام أو تحريم الحلال، فإنه يعامل بنقيض قصده عقوبة له.

وهذه القاعدة كثيرة الفروع والمسائل في المذهب الحنفي والمالكي والحنبلي، وقليلة الفروع عند الشافعية؛ حتى قالوا: إن الصورَ الخارجة عن القاعدة أكثر من الداخلة فيها، وقال الحنابلة بمضمون القاعدة في أمثلة محصورة.

وهذه القاعدة من باب السياسة الشرعية في القمع وسد الذرائع وتحريم الحيل.

(1)

ينظر: منظومة القواعد الفقهية، السعدي (ص 15).

ص: 207

والأصل في هذه القاعدة: أن الله تعالى لما حرَّم على اليهود الصيد يوم السبت، وضعوا الشباك وأخذوا الصيد يوم الأحد، فسمَّى الله هذا العمل اعتداءً وجازاهم بنقيض قصدهم، بأن عاقبهم، قال تعالى:{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرّم عليهم شحومُ الميتة جمَلوه، ثم باعوه، ثم أكلوا ثمنَه»

(1)

، «ولعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له»

(2)

، وسماه: بالتيس المستعار

(3)

، وما ذاك إلا أنه نوى بقصد النكاح التحليل، فاحتال على تحليل الحرام)

(4)

.

وذلك أنّ الرجل إذا طلّق امرأته الطلقة الثالثة وبانت منه بينونة كبرى، لا تَحِلُّ له إلّا بأنْ ينكحها رجل ويطأها، ثمّ يطلقها فتَحِلَّ للأول حينئذٍ، فبعض الناس يحتال فيأتي برجل ويتفق معه على أنْ يتزوج هذه المرأة ويطأها، ثم يطلق لأجل أنْ يحللها للأول.

فهذا المُحَلِّل والمُحَلَّل له كل منهما قد استعجل شيئًا قبل أوانه فعُوقبوا بالحرمان مِنْ ذلك؛ فلا تحلّ المرأة بهذا العمل، وأيضًا استحقوا -والعياذ بالله- اللعن وهو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، فهذا كله مما يدلّ لهذه القاعدة.

وقرَّر أهل العلم تحريم الحيل وعدُّوها تجرؤًا على الله، وإبطالًا لأحكام

(1)

أخرجه البخاري برقم (2236)، ومسلم برقم (1581)، عن جابر رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أبو داود برقم (2026)، وابن ماجه برقم (1935)، عن علي رضي الله عنه.

(3)

أخرجه ابن ماجه برقم (1936)، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، وحسنه الألباني.

(4)

ينظر: القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب، الزحيلي (1/ 414).

ص: 208

القرآن والسنة، فالمحتال بالباطل يعامل بنقيض قصده شرعًا وقدرًا، وأن من احتال على الشرع فأبطل الحقوق، وأحل الحرام، وحرم الحلال، فإنه يعامل بنقيض نيته وقصده جزاءً وفاقًا

(1)

.

ويدلُّ لهذه القاعدة قولُه عليه الصلاة والسلام: «لا يَرِثُ القاتلُ شيئًا»

(2)

، رواه أبو داود، فالقاتل لا يرث مِنْ مُوَرِّثه شيئًا، يعني: لا يرث مِنْ المقتول شيئًا، فلو قتل الأخُ أخاه -وكان هذا الأخ وارثًا في الأصل-، لكنه لمّا قتله لأجل أنْ يستعجل الميراث منه؛ فإنه يُحْرَم مِنْ ذلك معاقبة له بنقيض قصده -لأنّ استعجل الشيء قبل أوانه- فيعاقب بحرمانه.

ومما يدلُّ لها أيضًا ما جاء في الأثر عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنّه ورَّث تُماضِرَ بنت الأصبغ الكلبيةَ مِنْ زوجها عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه

(3)

-وكان عبد الرحمن رضي الله عنه قد طَلّقها في مرضه فبتَّها-، يعني: طلقها طلاقًا بائنًا، هذا القضاء مِنْ عثمان رضي الله عنه كان بمحضر مِنْ الصحابة رضي الله عنهم فكان إجماعًا، والدلالة منه واضحة أنّ عثمان رضي الله عنه وَرَّثَ هذه المطلقة مِنْ زوجها، مع أنّ الأصل أنّ الرجل إذا طلق امرأته طلاقًا بائنًا ثم مات لا ترث منه، لكنه في مثل هذه الحالة يحتمل أنْ يكون أراد حرمانَها مِنْ الميراث؛ فيُعاقب بنقيض قصده، وهذا لا يَرِدُ على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه؛ فإنه يحتمل أنه لم يعلم بحكم المسألة أو بأيّ عذر آخر، لكن المقصود هنا أنّ عثمان ورّث هذه المرأة مع كونها مطلقة طلاقًا بائنًا، فهذا يفيد للاستدلال بالمسألة.

(1)

ينظر: القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب، الزحيلي (1/ 414).

(2)

أخرجه أبو داود برقم (4564).

(3)

أخرجه الدارقطني برقم (4051).

ص: 209

وهذه القاعدة لها عدة فروع تقدم شيءٌ منها، ومن أوضح ما يدخل فيها مسألة حرمان القاتل مِنْ الميراث، لو قَتَلَ الولدُ أباه -عياذًا بالله- فإنه يُحرم مِنْ ميراثه، ولا يخفى أنّ القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قتل عمدٍ عدوان، وقتل شِبْه الخطأ، وقتل الخطأ.

أمّا القتل العمد العدوان وكذا شبه الخطأ: فهذا يُحْرَمُ صاحبه مِنْ الميراث بالاتفاق، إذا قتله عمدًا عدوانًا، أو قتله شبه خطأ، أو شبه عمد -كلاهما بمعنى واحد-؛ فإنه يُحْرَمُ مِنْ الميراث بالاتفاق.

وأمّا في قتل الخطأ: فهذا محل خلاف بين الفقها:

فالجمهور على أنه أيضًا يكون مانعًا للميراث -وإنْ كان خطأً- احترازًا للنفوس وَسدًّا للذرائع التي قد توصل إلى إزهاقها.

القول الثاني: وهو قول المالكية أنه يرث مِنْ المال دون الدِّية، لأنه سيُلزم بالدِّيَة أنْ يدفعها للورثة، ولا يرث مِنْ الدِّيَة، ولكنْ يرث مِنْ غير الدِّيَة مِنْ المال.

والمسألة محل خلاف بين العلماء، ومتى ما ابتلي فيها مَنْ يفتي أو مَنْ يقضي بين الناس فلينظر في القرائن، فبعض القرائن قد تدلُّ على أحد القولين؛ فإذا ظهر له أنّ هذا الولد لا توجد أي قرينة تدلُّ على استعجاله للميراث فإنه يُورَّث، كما لو أَخَذَ الولدُ أباه وسافر به لأداء العمرة، هذا مُحْسِنٌ لوالده، ثم حصل الحادث بالسيارة، هل يمكن أنْ يَرِدَ واردٌ أنّ هذا الولد قد أراد أنْ يقتل والدَه لأجل أنْ يرث منه؟ هذا بعيد جدًّا، لأنه معه بالسيارة فالخطر على الجميع.

والمقصود أنّ الأحوال تختلف، والقرائن تختلف؛ فيجتهد في هذا القاضي أو المفتي.

ص: 210

مِنْ الأمثلة أيضًا: قتْلُ الموصَى له للموصِي، فلو أنّ شخصًا أوصى لآخر بمئة ألف ريال، قال: إذا مُتّ تعطون فلانًا مئة ألف، لمّا عَلِمَ ذلك الرجل أخذ ينتظر ويتحرى متى يموت هذا الموصِي، فاستعجل وقتله لأجل أنْ يحصل على هذه الوصية، فيقال: يُعامل بنقيض قصده فيُحرم مِنْ الوصية.

أيضًا مَنْ سافر في نهار رمضان لأجل أنْ يُفطر فإنه يُعامل بنقيض قصْدِه ولا يحلّ له الفطر.

أيضًا الغالّ مِنْ الغنيمة، يعني: أنْ يأخذ مِنْ الغنيمة قبل القسمة -وإنْ كان مجاهدًا! الأصل أنْ يستحق- لكنه أَخَذَ منها قبل القسمة؛ فهذا يُعامل بنقيض قصده لأنه استعجل الشيء قبل أوانه فيُحرم مِنْ الغنيمة.

هذا كله في أحكام الدنيا، وأيضًا هذه القاعدة أيضًا تدخل في أحكام الآخرة، فمِن ذلك قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة»

(1)

متفق عليه، فهذا استعجل الشيء قبل أوانه -أعني بذلك الرجل يَحْرُمُ عليه الحرير مِنْ غير حاجة-؛ فإذا استعجل ذلك قبل الأوان وهو دخول الجنة والتمتع بهذه النعمة؛ فإنه يُعاقب بالحرمان مِنْ ذلك يوم القيامة.

أيضًا حديث: «مَنْ شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتُب منها؛ حُرِمها في الآخرة»

(2)

متفق عليه، هذا أيضًا مِنْ الأمثلة المتعلقة بالقاعدة فيما يتعلق بالآخرة.

يُعَبّر بعض الفقهاء عن هذه القاعدة بقولهم: (المعاملة بنقيض القصد)، أو يقولون:(المعاقبة بنقيض القصد)، أو (المعارضة بنقيض القصد)، كل هذا بمعنى واحد.

(1)

أخرجه البخاري برقم (5833) عن ابن الزبير رضي الله عنه، ومسلم برقم (2073)، عن أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري برقم (5575)، ومسلم برقم (2003)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 211

معنى هذه القاعدة: أنّ مَنْ فعل الوسائل المشروعة -لاحظ أنّ الوسائل هنا مشروعة- بخلاف القاعدة قبل قليل كانت الوسائل غير مشروعة -قتْل وفعْل مُحَرّمات-، هنا مَنْ فعلَ الوسائل المشروعة بقصد التحايل للوصول إلى أمرٍ غير مشروع؛ فإنه يُعامل بنقيض قصْدِه ولا يُعْتَدّ بهذه الوسيلة.

دليلُ هذه القاعدة قولُ الله عز وجل عن إبليس: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13]، وجه الدلالة أنّ اللهَ عز وجل عاقبَ إبليس بنقيض قصْده حيث تكبّر عن طاعة الله عز وجل وتكبّر عن السجود لآدم عليه السلام فعاقبه الله -جل وعلا- وأخرجه مِنْ الجنة وجعله صاغرًا ذليلًا.

أيضًا يدلُّ لهذ القاعدة قولُ الله -جل وعلا-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81 - 82]، فهؤلاء اتخذوا مِنْ دون الله -جل وعلا- آلهة لينصروهم ويكونوا عِزًّا لهم! فعاقبهم الله -جل وعلا- بنقيض قصدهم، فجعل هذه الآلهة ضدًّا عليهم تتبرأ منهم وتخذلهم يوم القيامة.

ومِن أمثلة هذه القاعدة:

مَنْ باع ما ينقص به النِّصَاب مِنْ المال الزكويّ لأجل أنْ يتحايل لإسقاط الزكاة؛ فإنه يُعامل بنقيض قصْدِه وتؤخذُ منه الزكاة، يعني شخص عنده أربعون مِنْ الغنم -وهذا نصاب-، واستمر هذا النِّصَاب عشرة أشهر، الآن قَرُب إخراج الزكاة، فخشي أنْ تؤخذ منه الزكاة فتحايل بذلك وباع منها واحدة، ما غرضه مِنْ هذا البيع؟ أنْ يسقط الزكاة، فيقال: يُعامل بنقيض قصْدِه فتجب عليه الزكاة، أيضًا مَنْ طلق امرأته في مرض الموت المَخُوْف طلاقًا بائنًا فإنه يُعامل بنقيض قصْدِه وتوَرّث هذه المرأة كما تقدّم في أثر عثمان رضي الله عنه.

لكنْ أُنَبّه هنا إلى أنّ مراد الفقهاء بالمرض المَخُوْف هو المرض الذي

ص: 212

يحصل معه الموت كثيرًا، ولا يلزم أنْ يكون غالبًا، فإذا كان يموت الإنسان إذا مرض بهذا المرض كثيرًا؛ فإنه يكون مَخُوْفًا، وبناءً على ذلك، لو أنه طلق المرأة في هذا المرض المَخُوْف طلاقًا بائنًا فإنها تُوَرّث منه، لأنّ هذه قرينة على أنه أراد إسقاطَ حَقِّها في الميراث.

لكنّ هذا مقيّدٌ بما إذا لم تكن المرأة هي التي أرادت الطلاق، مثلًا: لَمّا مرض هذا الشخص مرضًا مَخُوْفًا تعبت المرأة مِنْ مراعاته والقيام بحقه في المرض، فطلبت الطلاق فطلّقها، ثم بعد يوم أو يومين مات الرجل، هنا لا نُوَرِّثُ المرأة لأنّ قصْدَ الحرمان هنا منتفٍ، لأنّ الطلب جاء مِنْ جهة المرأة.

أيضًا مما يدخل في هذه القاعدة: الحاسدُ، فإنّ اللهَ -جل وعلا- يُعامله بنقيض قصْده، فينقلب حسدُه عليه همًّا وغَمًّا، وقد يُظهر الله تعالى شأن المحسود عليه وينقص مِنْ شأن هذا الحاسد ويَحُطّ مِنْ مكانته معاقبةً له بنقيض قصْده، يعني: لا تدخل هذه القاعدة في المسائل الفقهية فقط! بل تدخل في مثل هذه الأمور المتعلقة بالقلب

(1)

.

أما الشيخ عبد المحسن الزامل رحمه الله فقد رآها قاعدة أغلبية؛ لخروج بعض الصور عنها، ولم يوافق السبكي والسيوطي في نزاعهما في صحتها، قال في شرح قواعد السعدي رحمه الله

(2)

: (هذه القاعدة ذكرها كثير من الأئمة في كتب القواعد، ونازع بعضُهم في صحتها، وقالوا إنها قاعدة غير صحيحة، وإن كان يدخل تحتها مسائل، لكن الخارج منها أكثر من الداخل فيها، فهناك مسائل

(1)

ينظر: فيما تقدم شرح القواعد الفقهية للسعدي لفضيلة الشيخ أحمد بن حمد بن عبد العزيز الونيس، بحث منشور في موقع جامع شيخ الإسلام ابن تيمية. https:// index.taimiah.org

(2)

ينظر: شرح القواعد السعدية، الزامل (ص 151).

ص: 213

داخلة بلا إشكال، ومسائل خارجة بلا إشكال، ومسائل موضع خلاف بين أهل العلم، لكن لما كان الخارج منها كثيرًا قالوا إن في صحتها نظرًا.

فمن المسائل التى تدخل فيها ومن أشهرها: إذا قتل مُوَرِّثه لكي يرثه فإنّ هذا يعاقب بنقيض قصده، ويمنع من الإرث، وكذلك لو قتل الموَصَى له الموصِي، لكي تحصل له الوصية فإنه يعاقب بنقيض قصده، وذكر تقي الدين ابن تيمية رحمه الله وغيره إذا قتل إنسانًا ليتزوج زوجته فإنه يعاقب بنقيض قصده، فلا يُمَكَّن من الزواج منها، وقال بعضهم: إنها لا تحلُّ له أبدًا

(1)

.

وهناك مسائل خرجت منها كما قلنا:

فلو أن امرأة شربت دواءً لكي ينزل منها دم الحيض، فإنه إذا نزل منها هذا الدم فإنها تعتبر حائضًا ولا يجوز لها أن تصلي، ولا يُقال: إنها تعاقب بنقيض قصدها.

ومنها -أيضًا- لو أنه رمى بنفسه من مكان مرتفع مثلًا حتى يتألم في رجله فلا يصلي قائمًا، فإنه لا يعاقب بنقيض قصده، بل يصلي جالسًا وصلاته صحيحة، وإن كان فعله محرمًا.

ومنها -أيضًا- لو تناول شيئًا ليمرض نفسه لكيلا يصوم رمضان فإنه -أيضًا- لا يعاقب بنقيض قصده، بل عليه أن يفطر ويقضي إذا شُفي، لكنه آثم بفعله هذا

إلى غير ذلك.

ولأجل هذا قال بعضهم: إنه لا يدخل فيها إلا مسألة قتل الوارث لمورثه، والباقي موضع خلاف. اوقد تعرّض السبكي في الأشباه والنظائر

(2)

لهذه

(1)

ينظر: الفتاوى الكبرى (5/ 461)، والمستدرك على مجموع الفتاوى (4/ 161).

(2)

ينظر: الأشباه والنظائر (1/ 168).

ص: 214

القاعدة، وأشار إلى أن في صحتها نظرًا، وتكلم على قيود تُصَحّحُها، وقال ما معناه: (إذا كان الأمر الذي قصد المكلف إلى مخالفته، إن كان الأمر مطلوبًا للشارع، وكان مُسبَّبه يحث على سببه مثل الصلاة فهى مطلوبة من الشارع وتحقيقها فيه أجر عظيم، فالسبب وهو الصلاة يحصل مسببُه وهو الأجر العظيم في الدار الآخرة.

وهكذا مثل الصوم ما يترتب عليه من الأجر العظيم، فالمكلَّف يحرص على الصوم ويحرص على الصلاة، اللذين هما سبب من أسباب الأجر فإذا تعاطى المكلف أشياء قد تمنعه من القيام بما يجب أو يشترط للعبادة، أو مثل ما لو تعرض لأذى حتى لا يستطع القيام أو تسبب في إمراض نفسه حتى لا يصوم، فإنه لا يلتفت إلى قصده ويبقى الأجر على ما كان.

وإن كان غير مطلوب للشارع قال: ينظر إن كان هذا الأمر يهدم قاعدة من قواعد الشرع، فإنه لا يلتفت إلى قصده، ولا يعامل بنقيض قصده: مثل ما لو كان عنده سبب الزكاة وهو النصاب وشرطها، وهو الحول، فإيجاد النصاب وإيجاد الحول، ليس تحت قدرة المكلف، إنما المطلوب إذا وجد السبب والنصاب وجبت عليه الزكاة، فقال: لو تحايل في إسقاط الزكاة فإنه لا تجب عليه الزكاة.

وإن كان الذي تسبب المكلف في إسقاطه لا يهدم قاعدة من قواعد الشرع فإنه يعامل بنقيض قصده، مثل ما لو قتل مُورِّثه لكي يرثه، فإن هذا لا يهدم قاعدة من قواعد الشرع فيُحرَم من الميراث؛ لأن الميراث قد يسقط بين القريبين بسبب اختلاف دين أو بين الغرقى، إذا لم يعلم أولهما، المقصود أنه ذكر كلامًا نحو هذا، وكلامه هذا كله موضع نظر، وكثير من أمثلته التي أوردها ليقيّد بها هذه القاعدة لما يوافق مذهبه -عفا الله عنه-.

ص: 215

وزاد بعضهم فيها قيدًا، وهذا القيد يُدخِل كثيرًا مما استثني، قال: من تعجّل شيئاَ قبل أوانه ولم تكن المصلحة في وجوده، عوقب بحرمانه، فهذا قيد جيد، وقد يرد عليه أشياء، وبهذا تكون قاعدة أغلبية، فقد يخرج منها بعض المسائل ولا حرج، لأن هذا هو شأن القواعد أو معظمها.

فمثلًا المسائل التي أشرنا إليها: مسألة سقوط الركن من الصلاة، وعدم وجوب الصوم عليه وجواز الفطر، فهذه أمور لا يُقَال إنه يعاقب بنقيض قصده، لأن هذه الأشياء مطلوب وجودها والمصلحة في وجودها، وقد أمر العبد بتحقيقها، ولا يُقال كما أشار إليه السبكى رحمه الله، وهو أن يُفرّق بين ما إذا كان يهدم قاعدة من قواعد الشرع، وبين ما لا يهدم قاعدة من قواعد الشرع؛ لأن هذا فيه خلاف؛ لأن من تحايل في إسقاط الزكاة ذهب كثير من أهل العلم إلى وجوب الزكاة عليه، فيعامل بنقيض قصده، لكن على القول بعدم وجوب الزكاة هو جار على قول كثير من أهل العلم من الأحناف والشافعية، لأنه لم يوجد شرط الزكاة وهو الحول، وإن كان الصواب هو وجوب الزكاة ويدخل تحت هذه القاعدة.

ومما يدخل فيها ما أشار إليه المصنف رحمه الله وذكرها أيضًا تقي الدين ابن تيمية وغيره أن المكلف إذا تعجّل بعض الأمور في الدنيا قد يحصل له حرمان ومنع لها في الآخرة بحسب ما تعرض له، فالكفار بما هم عليه من كفرهم وضلالهم وتعجُّل طيباتهم في حياتهم الدنيا، مصيرهم إلى النار، فتعجلهم للطيبات هو مما يزيدهم الله به عذابًا في النار.

وأهل الإسلام بحسب مراتبهم، فمن تعجّل كثيرًا من الطيبات فإن هذا يكون نقصًا في نعيمه من حيث الجملة، وقد يكون ليس نقصًا بحسب قصده ونيته.

ص: 216

المقصود أنه كلما كان أدخل في الشبهات والتوسع في المباحات، كلما كان تعرضًا للنقص في الدار الآخرة، فهذه القاعدة كما قلنا في بعض أمثلتها شيء صحيح وواضح، وإذا زيدَ هذا القيد في قوله:(ولم تكن المصلحة في وجوده) كانت قاعدة أغلبية).

ص: 217

‌القاعدة الثامنة والعشرون: الأصل في العبادات الحظر، إلا ما ورد عن الشارع تشريعُه والأصل في العادات الإباحة، إلا ما ورد عن الشارع تحريمه

قال الشيخ عبد الله البسام رحمه الله في درسه في الحرم المكي

(1)

: (إن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن الشريعة مبنية على أصلين:

1 -

الأصل في العبادات الحظر؛ إلا إذا ورد في القرآن أو السنة ما يفيد غير ذلك.

2 -

الأصل في المعاملات والعادات الإباحة، إلا إذا ورد ما يفيد غير ذلك).

قال الشيخ السعدي رحمه الله في منظومة القواعد

(2)

:

والأصلُ في عاداتنا الإباحةْ

حتى يجيءَ صارفُ الإباحةْ

وليس مشروعًا من الأمورْ

غيرَ الذي في شرعنا مذكورْ

قصد الشيخ السعدي رحمه الله بالبيتين السابقين قاعدتين كليتين:

فأما الأولى: فهي أن الأصل في العادات والمعاملات: الإباحة والحِلُّ

(3)

، ودل على صحة ذلك أدلة ترجع إلى: الخبر، والاتفاق.

(1)

سمعت ذلك منه أثناء حضوري دروسه في الحرم.

(2)

ينظر: مجموعة الفوائد البهية، القحطاني (ص 78).

(3)

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (9/ 119): (يجب أن نفهم قاعدة مفيدة جدًّا، وهي: أن الأصل في المعاملات الحل والصحة ما لم يوجد دليل على التحريم والفساد، وهذا من نعمة الله أن الطريق الموصل إلى الله -أي: العبادات- الأصل فيها المنع، حتى يقوم دليل على أنها مشروعة، وأما المعاملات بين الناس، فمن رحمة الله وتوسعته على عباده، أن الأصل فيها الإباحة والحل، إلا ما ورد الدليل على منعه).

ص: 218

فأما الخبر: فمنه ما أخرجه مسلم في صحيحه في قصة تأبير النخل، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أنتم أعلم بأمر دنياكم»

(1)

، ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رَدَّ الأمر في التعامل في الزراعة إلى الخلق، وجعله ليس من جنس الشرع الذي يتوقف فيه حتى يأتي الأمر من الرب سبحانه.

وأما الاتفاق: فحكاه غير واحد، كالنووي في المجموع، والموفق في المغني.

وليُعلَمْ أن المعاملات والعادات باقيةٌ على الأصل ما لم تخالف أصلًا شرعيًّا، أو يأتي الصارف الشرعي لذلك، ومن ذلك: شرب الخمر، فهو من جنس العادات التي حرَّمها الرب سبحانه.

وأما القاعدة الكلية الثانية: فهي أن الأصل في العبادات: الحظر والمنع، ومعنى ذلك: هو ألّا يعتقد الناس في شيء أو في فعل أو قول أنه عبادة، حتى يأتي خطاب الشارع بذلك.

وقد دلت الأدلة على صحة هذه القاعدة، وترجع إلى أدلة: أولها: الخبر، وهو من السنة والأثر.

فأما السنة، فما رواه مسلم من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ»

(2)

، أي: مردود عليه. قال الشاطبي رحمه الله في الاعتصام

(3)

: وهذا أصلٌ في أن الأصل في العبادات المنع والحظر.

(1)

أخرجه مسلم برقم (2363) عن عائشة وأنس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه مسلم برقم (1718) عن عائشة رضي الله عنها.

(3)

ينظر: الاعتصام، الشاطبي (2/ 287).

ص: 219

وبيانه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قيَّد قبول العبادة بأخذها عنه، وصدورها منه صلى الله عليه وسلم، إذ هو المشرِّع صلى الله عليه وسلم، فاعتبار غير ما قاله أو فعله من العبادات عبادة تُفعل أو تقال: اعتبارٌ مردودٌ على صاحبه؛ لأن ذلك محظورٌ عليه.

وأما الأثر؛ فما أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، والخطيب في الفقيه والمتفقه عن سعيد بن المسيب، أنه رأى رجلًا يصلي بعد طلوع الفجر ركعتين زائدتين عن سنة الفجر، يطيل في سجودهما وركوعهما، فزجره عن ذلك، فأنكر عليه المصلي ذلك، فقال له:«بل خالفت السنة»

(1)

.

والآثار في ذلك كثيرة.

وثانيها: الاتفاق؛ فقد حكى شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى اتفاق السلف رحمهم الله على أن الأصل في العبادات الحظر والمنع

(2)

.

فائدة: إذا كان العمل في أصله مشروعًا، ولكن زِيْدَ في هيئته، أو أُنْقِصَ منه، فلا يحكم على بطلانه مطلقًا، ولا على صحته مطلقًا، لأن الخلل قد يكون في شيء يوجب بطلان العبادة، وقد يكون في شيء دون ذلك، ومثاله: الصلاة إذا

(1)

نص الأثر عن أبي رباح، عن سعيد بن المسيب: أنه رأى رجلًا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يكثر فيها الركوع، والسجود فنهاه، فقال: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟ قال: (لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة). أخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم (4131)، وفي معرفة السنن والآثار مختصرًا برقم (5260).

(2)

ومن ذلك قوله رحمه الله: (ولهذا كان أحمد وغيره من فقهاء أهل الحديث يقولون: إن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله، وإلا دخلنا في معنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرمه، وإلا دخلنا في معنى قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59]. ينظر: مجموع الفتاوى (29/ 17).

ص: 220

أُوقعت بدون سجود فإنها باطلة، لأن السجود من الأركان، وإذا أوقعت دون قراءة ما تيسَّر بعد الفاتحة فهي مجزئة صحيحة.

مسألة: هل يشترط في كون الأصل في العبادات الحظر والمنع انسحاب ذلك على كمية فعل العبادة من الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يُزَاد على تلك الكمية في نحو المندوبات والسنن؟

ذهب الشاطبي في الموافقات إلى لزوم ذلك، وأن الزيادة مخالَفة

(1)

.

وذهب ابن القيم في الصواعق المرسلة إلى أن العبادة إذا ثبت أصلها، وندب إليها بالسنة القولية؛ فالمواظبة عليها فضلٌ وسنة).

(فهذا الأصل العظيم في العبادات محل إجماع أهل العلم، وأنه لا يجوز أن يشرع عبادة فيقال: هذا واجب، أو هذا مستحب، والعبادات هي ما يكون محل وجوب، أو محل استحباب، فكل ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم وجوبًا أو استحبابًا فهو عبادة، وما لا فلا)

(2)

.

(والأصل في العادات الإباحة، فالأصل في المآكل والمشارب وأفعال الإنسان العادية كتنقله وما أشبه ذلك الأصل فيها الإباحة والحل، فلا يقال: هذا حرام إلا بدليل، عكس الأمور التعبدية، ولا نقول لأي شيء أقدم عليه: ما الدليل؟ لأن الأصل الإباحة، وألحَقَ كثير من أهل العلم في هذه مسألة الشروط والعقود في البيع والشراء، وقالوا: إن الأصل فيها الإباحة، وقال آخرون: إن الأصل فيها المنع، والصواب في مسألة الشروط والعقود والبيوع الحل لقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275].

(1)

ينظر: الموافقات (3/ 163).

(2)

ينظر: شرح القواعد السعدية، الزامل (ص 65).

ص: 221

والصواب: أن الآية عامة ليست مجملة كما قاله جمع من أهل العلم، فلذلك يجوز أن يشرط ما شاء إلا ما حرم الله ورسوله، وليس معنى ذلك أن يأتي إنسان جاهل بأمور البيع فيشترط ما شاء، هذا لا يجوز، المعنى: أنه يقدم على شيء لا يعلم تحريمه، أما أنه يقدم على شيء لا يعلم حله ولا تحريمه فلا يجوز له ذلك؛ لأنه قد يقدم على شيء محرم، ولهذا نص أهل العلم: أنه يجب على من أراد أن يعمل عملًا من الأمور أن يعلم أحكامه على الجملة، وليس على التفصيل)

(1)

.

وقد أشار الشيخ عبد المحسن الزامل رحمه الله في شرح القواعد السعدية إلى أن المباحات قد تنقلب بالنية إلى عبادات يؤجر المرء عليها، فقال

(2)

: (المباحات في أصلها ليست عبادة، لكن تكون عبادة بالنية، فتنقلب المباحات إلى عبادات بالنية، فمن قصد وجه الله سبحانه وتعالى بهذه العبادات فإنه يكون متعبدًا له سبحانه وتعالى، ومأجورًا بنيته هذه، وهو واضح في عمل الإنسان في أمور كثيرة يمكن أن تنقلب فيها المباحات إلى عبادات.

فالإنسان قد يصل رحمه مثلًا على جهة العادة، خشية أن يقولوا ما زارنا فلان، فيكون أمرًا مباحًا لا له ولا عليه، لأنه لم يقصد وجه الله سبحانه وتعالى، لكن إذا كان قد يقطع رحمه لو لم يخشَ ذلك، فقد يكون بهذه النية ارتكب أمرًا ممنوعًا.

فالإنسان إذا وصل رحمه على سبيل العادة، فبمجرد هذه النية في أصلها يكون لا له ولا عليه، لكنه يستطيع أن يقلبها إلى عبادة بأن ينوي وجه الله سبحانه وتعالى ببره لأقاربه وصلة الأرحام، وينوي بذلك تحصيل الأجر الذي جاء في بر الأقارب وصلة الأرحام.

(1)

ينظر: المصدر السابق (ص 70).

(2)

ينظر: المصدر السابق (ص 65).

ص: 222

وكذلك زيارة صديقه وزميله إذا نوى بها مجرد المؤانسة والمداعبة معه مثلًا، وقد يخشى أن يجد عليه في نفسه، فهذا يكون مباحًا إذا وصله؛ وإن زاره معتقدًا مشروعية زيارة إخوانه، وأنه يحتسب الأجر في ذلك كان مأجورًا بذلك.

وكذلك أمور كثيرة، كما في مسألة تربية الإنسان لأولاده وأبنائه، إذا نوى وجه الله سبحانه وتعالى وقصد أن يصلحهم، وأن يكونوا على طريقة مستقيمة، كان مأجورًا في ذلك، والإنسان ينفق النفقة ويخرجها على أهله وهي واجبة عليه ويؤجر على هذه النية أجر الواجب

(1)

، لكن إذا نوى مع ذلك ما جاء من الأدلة في فضل النفقة على الأهل يُؤجر أجرين؛ أصل الوجوب من جهة الموجب، وزيادة عليه من جهة نيته التي نوى بها وجه الله سبحان وتعالى، بأن يحتسبها، كما جاء في الحديث عن أبي مسعود رضي الله عنه في الرجل ينفق على أهله يحتسبها، له بها صدقة

(2)

إلى غير ذلك.

فالمباحات تنقلب عبادات بالنية، فالإنسان ينام وينوي بنومه التَّقَوِّي على عبادة الله، فإذا نوى بهذه النية إجمام النفس على هذا الأمور المشروعة انقلبت

المباحات إلى عبادات، فالوسائل لها أحكام المقاصد، لأنه نوى نية صالحة و:«إنما الأعمال بالنيات»

(3)

.

ومسألة أخرى ذكرها الشيخ الزامل: وهي الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في

(1)

يدل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى اللقمة تجعلها في فِيِّ امرأتك» . أخرجه البخاري برقم (4409)، ومسلم برقم (1628).

(2)

أخرجه البخاري برقم (55)، ومسلم برقم (1002).

(3)

أخرجه البخاري برقم (1)، ومسلم برقم (1907)، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واللفظ للبخاري.

ص: 223

أفعاله الجبلية التي ليس فيها وجهٌ للتعبد، قال

(1)

: (كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يقتدي بالنّبي عليه الصلاة والسلام في كل أعماله ويقول: إنه يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام، وإن هذا من باب التعبد لله سبحانه وتعالى.

وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلي في الموضع الذي كان يصلي فيه النبي عليه الصلاة والسلام

(2)

، وكان إذا سافر إلى مكة لحج أو لعمرة، أو إلى غير ذلك كان يبول تحت شجرة ويقول: كان النبي عليه الصلاة والسلام يبول تحتها.

فهل هذا من الأمور التعبدية التي يشرع فعلُها أم لا؟

هذا موضع خلاف، ذهب ابن عمر رضي الله عنهما إلى هذا، وجمهور الصحابة رضي الله عنهم إلى أن هذا ليس موضع عبادة، وأنه ليس محل اقتداء في مثل هذه الأمور

(3)

.

فموضوع الاقتداء بأفعاله عليه الصلاة والسلام طويل، وإن كان الأظهر عند كثير من أهل العلم أن الفعل إذا ظهر فيه وجه القربة كان محلًّا للاقتداء، وإن لم يظهر

(1)

ينظر: شرح القواعد السعدية، الزامل (ص 69).

(2)

لحديث نافع رضي الله عنه، قال:«كان ابن عمر ينيخ بالبطحاء التي بذي الحليفة، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينيخ بها، ويصلي بها» . أخرجه مسلم برقم (1257).

(3)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (

ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من المهاجرين والأنصار، أنه كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم، والصواب مع جمهور الصحابة؛ لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله، بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له، كقصد المشاعر والمساجد، وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول، أو غير ذلك، مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له، فإن الأعمال بالنيات). ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (2/ 274).

ص: 224

فيه وجه القربة فلا بأس بالتأسي به عليه الصلاة والسلام من حيث الجملة، لكن الكلام في أنه يتبعه في أفعاله التي هي محضُ جبلة، والتي لا يظهر فيها وجهُ القربة، فجمهور الصحابة رضي الله عنهم كما قلنا يقولون: إنه لا يُشرع الاقتداء به في هذه الحال.

وقد خالف ابنَ عمرَ رضي الله عنهما أبوه فقد ثبت عنه رضي الله عنه أنه كان في سفره، فالتفت يومًا فرأى أناسًا يصلون تحت شجرة، فقال: ما هذا؟ قالوا: أناس يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى تحتها، فقال: أتريدون أن تتخذوا أثرَ نبيكم مسجدًا؟، أو كما قال رضي الله عنه، فأمر بقطعها

(1)

سدًّا للذريعة التي قد تفضي إلى الغلو، ثم تفضي إلى الابتداع والشرك، فلهذا يكون الصواب مع من خالف ابن عمر رضي الله عنه.

فالسنة أن تفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، هذا هو محل الاقتداء، معنى هذا حينما تصلي في هذا المكان لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلى فيه ننظر هل صلى عليه الصلاة والسلام في هذا المكان قصدًا أم اتفاقًا؟

نقول: إنما صلى اتفاقًا، أي: أنه جلس في هذا المكان وصلى فيه، وهكذا فأنت عندما تذهب إلى هذه الشجرة تصلي تحتها صليت قصدًا، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يصل تحتها قصدًا، فأنت في الحقيقة فعلت الفعل على غير الوجه الذي فعله صلى الله عليه وسلم، فلا تكون متّبعًا إذا صليت عندها، بل قد يكون وسيلة إلى شيء من الغلو الذي يؤدي إلى الابتداع، ولهذا كان الصواب كما قلنا

(1)

فقد روى ابن سعد في الطبقات (2/ 100)، وابن أبي شيبة في المصنف (2/ 375)، عن نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما قال:«كان ناس يأتون الشجرة التي يقال لها: شجرة الرضوان التي بويع تحتها؛ فيصلون عندها، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب؛ فأوعدهم فيها، وأمر بها فقطعت» .

ص: 225

هو ما كان عليه جمهور الصحابة رضي الله عنهم، واتفق عليه العلماء بعد ذلك وأنه ليس محلًّا للإتّساء في مثل هذه الأشياء).

وأما المصالح المرسلة فهي أمور تنظيمية يُقصد منها رفع الحرج عن المسلمين، أو تسهيل مصالحهم الدينية والدنيوية؛ كتنظيم الدواوين، وكتابة التاريخ، وأمور على نحو ذلك أحدثها المسلمون بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لتسهيل وتيسير أمورهم الدينية والدنيوية، ومنها: ترتيب الدواوين والموظفين والجنود وقادتهم ومرتباتهم

الخ.

فالوسائل التي يقصد بها التوصل إلى المشروع ليست بدعة إذا لم تكن محرمة لذاتها، مثل: تبويب المسائل، والتصنيع، والمكبرات للصوت لسماع الخطبة والأذان، ونحو ذلك.

وهذا يعني: أن القاعدة في البدع أنها التعبد لله بأمر غير مشروع، وعلى هذا فالبدع كلها ليس فيها حسن؛ فكلها في النار.

وأيضًا الأصل أن العبادات أنها لا تعلل، إلا ما دل الكتاب والسنة على تعليله كما قال تعالى في الصيام:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

ص: 226

‌القاعدة التاسعة والعشرون: لا اجتهاد مع النص

الاجتهاد: هو بذل الوسع في استخراج الحكم والوصول إلى الحقّ، وهذا الاجتهاد نتيجته مظنونة لا مقطوع بها لاحتمال الخطأ، والمجتهد إنّما يضطر للاجتهاد في حكم مسألة ما عندما يعجز عن الحصول على حكم يقيني منصوص له؛ لأنّه لا اجتهاد مع النّصّ

(1)

.

فهذه القاعدة تفيد تحريم الاجتهاد في حكم مسألة ورد فيها نص من الكتاب أو السنة أو الإجماع، لأنه إنما يحتاج للاجتهاد عند عدم وجود النص، أما عند وجوده فلا اجتهاد إلا في فهم النصِّ ودلالته

(2)

.

وقد عقد ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين

(3)

فصلًا في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص، والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول وذكر الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك، فقال رحمه الله:

(قال الله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].

فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما: إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به، وإما اتباع الهوى، فكل ما لم يأت به الرسول فهو من الهوى.

وقال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى

(1)

ينظر: موسوعة القواعد الفقهية، آل بورنو (11/ 1011).

(2)

ينظر: الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، البورنو (ص 33).

(3)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (2/ 88).

ص: 227

فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]؛ فقسم سبحانه طريق الحكم بين الناس إلى الحق، وهو الوحي الذي أنزله الله على رسوله، وإلى الهوى، وهو ما خالفه.

وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18 - 19]؛ فقسم الأمر بين الشريعة التي جعله هو سبحانه عليها وأوحى إليه العمل بها، وأمر الأمة بها، وبين اتباع أهواء الذين لا يعلمون؛ فأمر بالأول، ونهى عن الثاني.

وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]؛ فأمر باتباع المنزل منه خاصة، وأعلم أن من اتبع غيره فقد اتبع من دونه أولياء.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]؛ فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعاد الفعل إعلامًا بأن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تجب استقلالًا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقًا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه

(1)

، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالًا، بل حذف الفعل، وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول؛ إيذانًا بأنهم إنما يطاعون تبعًا لطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن أمر منهم بطاعة الرسول

(1)

يشير إلى حديث المقدام بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» ، أخرجه أحمد في المسند برقم (17174).

ص: 228

صلى الله عليه وسلم وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلا سمع له ولا طاعة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«إنما الطاعة في المعروف»

(2)

، وقال في ولاة الأمور:«من أمركم منهم بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة»

(3)

.

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الذين أرادوا دخول النار لما أمرهم أميرهم بدخولها: «أنهم لو دخلوا لما خرجوا منها»

(4)

، مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم، وظنًّا أن ذلك واجب عليهم، ولكن لما قصروا في الاجتهاد، وبادروا إلى طاعة من أمر بمعصية الله، وحملوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يُرده الآمر صلى الله عليه وسلم، وما قد علم من دينه إرادة خلافه، فقصروا في الاجتهاد، وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبت وتبين؛ هل ذلك طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم أم لا؟

فما الظن بمن أطاع غيره في صريح مخالفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم؟

ثم أمر تعالى برد ما تنازع فيه المؤمنون إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كانوا مؤمنين، وأخبرهم أن ذلك خير لهم في العاجل، وأحسن تأويلًا في العاقبة).

(1)

أخرجه أحمد في المسند برقم (1095)، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبرقم (3889)، عن ابن مسعود رضي الله عنه، وبرقم (20350)، عن الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري برقم (7145)، ومسلم برقم (1840)، عن علي رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري برقم (2955)، ومسلم برقم (1839)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(4)

أخرجه البخاري برقم (7145)، ومسلم برقم (1840).

ص: 229

وعقد رحمه الله فصلًا آخر بعنوان: تحريم الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص، وذكر إجماع العلماء على ذلك

(1)

.

وقد أفاض في هذا الفصل في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب العمل بالكتاب والسنة، وتحريم الاجتهاد مع وجود النص وذكر أقوال العلماء وإجماعهم على ذلك، فقال رحمه الله

(2)

:

(قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1].

وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51].

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، وقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3].

وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

ونهى أن يقول أحد: هذا حلال وهذا حرام لما لم يحرمه الله ورسوله نصًّا، وأخبر أن فاعل ذلك مفتر على الله الكذب، فقال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (4/ 36).

(2)

ينظر: المصدر الصابق، ابن القيم (2/ 199 - 210) باختصار.

ص: 230

الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117].

والآيات في هذا المعنى كثيرة.

وأما السنة: ففي الصحيحين من حديث ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء عند النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث اللعان وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أبصروها؛ فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتينِ خدَلَّج الساقين

(1)

فهو لشريك بن سحماء، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية»، فجاءت به على النعت المكروه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن»

(2)

، يريد -والله ورسوله أعلم- بكتاب الله قوله تعالى:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8]، ويريد بالشأن -والله أعلم- أنه كان يحدُّها لمشابهة ولدها للرجل الذي رميت به، ولكن كتاب الله فصل الحكومة، وأسقط كل قول وراءه، ولم يبق للاجتهاد بعده موقع.

ذكر أقوال العلماء في ذلك المعنى:

وقال الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا، فذهبت معه إلى عمر رضي الله عنه، فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية، فقال: أما الفراش فلفلان، وأما النطفة فلفلان؛ فقال عمر: صدقت، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قضى بالفراش»

(3)

.

(1)

خدلج الساقين: عظيمهما.

(2)

أخرجه البخاري برقم (4747) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه الشافعي في مسنده برقم (1203)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار برقم (15091)، وفي السنن الكبرى برقم (15330).

ص: 231

قال الشافعي: وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب، قال: أخبرني مخلد بن خفاف، قال: ابتعت غلامًا، فاستغللتُه، ثم ظهرت منه على عيب، فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي بردِّه، وقضى عليَّ بردِّ غلتِه، فأتيت عروة فأخبرته، فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا أن «الخراج بالضمان» ، فعجلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: فما أيسر هذا عليَّ من قضاء قضيته، اللهم إنك تعلم أني لم أردْ فيه إلا الحق؛ فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأردُّ قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراح إليه عروة؛ فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به عليَّ له

(1)

.

قال الشافعي: وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب، قال: قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فأخبرته عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضى به، فقال سعد لربيعة: هذا ابن أبي ذئب، وهو عندي ثقة يخبرني عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضيت به، فقال له ربيعة: قد اجتهدت ومضى حكمك، فقال سعد: واعجبًا، أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأردُّ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أرد قضاء سعد بن أم سعد وأنفذُ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا سعد بكتاب القضية فشقه وقضى للمقضي عليه

(2)

.

فليوحشنا المقلدون، ثم أوحش الله منهم.

(1)

أخرجه الشافعي في مسنده برقم (1377)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار (11359)، وفي السنن الكبرى برقم (10742).

(2)

أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار برقم (117).

ص: 232

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا صالح بن عبد الله ثنا سفيان بن عامر عن عتاب بن منصور، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله

(1)

.

وقال الشافعي: أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس

(2)

.

وتواتر عنه أنه قال: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط

(3)

.

وقد تقدم من ذكر رجوع عمر وأبي موسى وابن عباس عن اجتهادهم إلى السنة ما فيه كفاية. وقال شداد بن حكيم عن زفر بن الهذيل: إنما نأخذ بالرأي ما لم نجد الأثر، فإذا جاء الأثر تركنا الرأي، وأخذنا بالأثر

(4)

.

وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة: لا قول لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح الخبر عنه

(5)

.

وقال الشافعي: إذا حدث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ثابت، ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديث أبدًا، إلا حديث وجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يخالفه

(6)

.

(1)

أخرجه الدارمي برقم (446)، والآجري في الشريعة برقم (107)، والمروزي في السنة برقم (94).

(2)

ذكره ابن القيم في كتاب الروح (ص 264).

(3)

ينظر: مجموع الفتاوى (20/ 211)، والطرق الحكمية، ابن القيم (ص 159)، والبداية والنهاية، ابن كثير (16/ 317).

(4)

أخرجه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/ 510).

(5)

ذكره البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (ص 106)، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/ 536)، والحافظ العراقي في طرح التثريب (1/ 97).

(6)

ذكره الشافعي في الأم (7/ 201)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (ص 104).

ص: 233

يصار إلى الاجتهاد وإلى القياس عند الضرورة:

وهذا هو الواجب على كل مسلم؛ إذ اجتهاد الرأي إنما يباح للمضطر كما تباح له الميتة والدم عند الضرورة، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173].

وكذلك القياس إنما يصار إليه عند الضرورة. قال الإمام أحمد: سألت الشافعي عن القياس، فقال: عند الضرورة، ذكره البيهقي في مدخله

(1)

.

وكان زيد بن ثابت لا يرى للحائض أن تنفر حتى تطوف طواف الوداع، وتناظر في ذلك هو وعبد الله بن عباس، فقال له ابن عباس: إمَّا لا فسل فلانةَ الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع زيد يضحك ويقول: ما أراك إلا قد صدقت

(2)

.

وقال ابن عمر: كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسًا، حتى زعم رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك

(3)

.

وقال الأصم: أخبرنا الربيع بن سليمان قال الشافعي لنعطينَّك جملة تغنيك إن شاء الله، لا تدع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا أبدًا إلا أن يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه فتعمل بما قلت لك في الأحاديث إذا اختلفت

(4)

.

(1)

ينظر: المدخل للبيهقي (ص 204)، وأخرجه في معرفة السنن والآثار برقم (336).

(2)

أخرجه مسلم برقم (1328).

(3)

أخرجه النسائي برقم (3450)، وابن ماجه برقم (2450)، وأحمد في المسند برقم (4586)، وصححه الألباني.

(4)

أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 472)، وذكره أبو شامة في مختصر المؤمل برقم (125)، وينظر: إيقاظ همم أولي الأبصار، الفُلَّاني (ص 103).

ص: 234

وقال أحمد بن علي بن عيسى بن ماهان الرازي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: كل مسألة تكلمت فيها صحَّ الخبر فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي

(1)

.

وقال الحميدي: سأل رجل الشافعي عن مسألة فأفتاه، وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال: أرأيت في وسطي زنارًا؟ أتراني خرجت من الكنيسة؟ أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول لي: أتقول بهذا؟ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أقول به؟

(2)

.

قال الحاكم: وسمعت الشافعي يقول: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصَّلتُ من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت؛ فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي، وجعل يردد هذا الكلام

(3)

.

وقال عبد الله بن أحمد: قال أبي: قال لنا الشافعي: إذا صح لكم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقولوا لي حتى أذهب إليه

(4)

.

(1)

أخرجه أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في ذم الكلام وأهله برقم (389)، والبيهقي في مناقب الشافعي (1/ 473)، وينظر: إيقاظ همم أولي الأبصار، الفُلَّاني (ص 104).

(2)

أخرجه أبو إسماعيل الأنصاري في ذم الكلام وأهله (3/ 13)، وأبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان (1/ 224)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (51/ 387)، والبيهقي في مناقب الشافعي (1/ 474)، وذكره أبو شامة في مختصر المؤمل برقم (130).

(3)

أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (51/ 389)، والبيهقي في مناقب الشافعي (ص 18).

(4)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/ 106)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار برقم (3436)، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية (14/ 384)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (11/ 213).

ص: 235

وقال الإمام أحمد: كان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله

(1)

.

وقال الربيع: قال الشافعي: لا نترك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا يدخله القياس ولا موضع للقياس لموقع السنة

(2)

.

قال الشافعي: وهكذا ينبغي أن يكون الصالحون وأهل العلم، فأما ما تذهبون إليه من ترك السنة وغيرها، وترك ذلك لغير شيء؛ بل لرأي أنفسكم؛ فالعلم إذًا إليكم تأتون منه ما شئتم وتدعون ما شئتم

(3)

.

وقد صنف الإمام أحمد رضي الله عنه كتابًا في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ردَّ فيه على من احتج بظاهر القرآن في معارضة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الاحتجاج بها، فقال في أثناء خطبته

(4)

: (إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه، وجعل رسوله الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، وما قصد له الكتاب.

فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المُعبِّر عن كتاب الله الدال على معانيه، شاهده في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم الله لنبيه واصطفاهم له، ونقلوا ذلك عنه، فكانوا أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما أراد الله من كتابه

(1)

أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (51/ 384)، وذكره أبو شامة في خطبة كتاب مختصر المؤمل (ص 105)، وينظر: إيقاظ همم أولي الأبصار، الفُلَّاني (ص 104).

(2)

ذكره الشافعي في كتابه الأم (7/ 208)، وأخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (1/ 487)، وينظر: إيقاظ همم أولي الأبصار، الفُلَّاني (ص 104).

(3)

ذكره الشافعي في كتابه الأم (7/ 227)، والبيهقي في مناقب الشافعي (1/ 484).

(4)

ذكر بعض كلام الإمام أحمد رحمه الله أبو يعلى في طبقات الحنابلة (2/ 65).

ص: 236

بمشاهدتهم وما قصد له الكتاب، فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال جابر: ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل به من شيء عملنا به، ثم ساق الآيات الدالة على طاعة الرسول.

ثم ذكر أحمد الاحتجاج على إبطال قول من عارض السنن بظاهر القرآن وردها بذلك، وهذا فعل الذين يستمسكون بالمتشابه في ردِّ المحكم، فإن لم يجدوا لفظًا متشابهًا غير المحكم يردونه به استخرجوا من المحكم وصفًا متشابهًا وردّوه به، فلهم طريقان في ردِّ السنن:

أحدهما: ردُّها بالمتشابه من القرآن أو من السنن.

والثاني: جعلهم المحكمَ متشابهًا؛ ليعطلوا دلالته.

وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق فعكس هذه الطريق، وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوصُ بعضُها بعضًا، ويصدِّق بعضُها بعضًا، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره).

ص: 237

‌القاعدة الثلاثون: ينكر في مسائل الخلاف، ولا ينكر في مسائل الاجتهاد

ناقش الإمام ابن القيم رحمه الله قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف) التي اعتمدها بعض فقهاء المذاهب وبين عدم صحتها، وأن أغلب الأئمة والفقهاء لا يصححونها، وذكر كثيرًا من المسائل التي أنكرها الأئمة على أصحابها؛ مع أنها تعد من المسائل الخلافية، وذكر أن الصواب هو عدم الإنكار في مسائل الاجتهاد، وأوضح الفرق بين اللفظين، فقال رحمه الله أثناء حديثه عن الحيل

(1)

:

(وقد اتفق السلف على أنها بدعة محدثة؛ فلا يجوز تقليد من يفتي بها، ويجب نقض حكمه، ولا يجوز الدلالة للمقلد على من يفتي بها، وقد نصَّ الإمام أحمد على ذلك كله، ولا خلاف في ذلك بين الأئمة، كما أن المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرفِ والنبيذ

(2)

.

ولا يجوز تقليدُ بعض المدنيين في مسألة الحشوش وإتيان النساء في أدبارهن

(3)

، بل عند فقهاء الحديث أن من شرب النبيذ المختلف فيه حُدَّ، وهذا فوق الإنكار باللسان، بل عند فقهاء أهل المدينة يفسق، ولا تقبل شهادته، وهذا

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (5/ 241)، وينظر: الفتاوى الكبرى، ابن تيمية (6/ 96).

(2)

قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد (10/ 115): (وقد كان العلماء قديمًا وحديثًا يحذرون الناس من مذهب المكيين أصحاب ابن عباس ومن سلك سبيلهم في المتعة والصرف، ويحذرون الناس من مذهب الكوفيين أصحاب ابن مسعود ومن سلك سبيلهم في النبيذ الشديد، ويحذرون الناس من مذهب أهل المدينة في الغناء، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم نكاح المتعة مما قد ذكرناه ما فيه شفاء، وليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3)

مسألة الحشوش: هي مسألة إتيان النساء في أدبارهن، فالعطف للتفسير.

ص: 238

يردُّ قول من قال: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، وهذا خلاف إجماع الأئمة، ولا يعلم إمام من أئمة الإسلام قال ذلك.

وقد نصَّ الإمام أحمد على أن من تزوج ابنته من الزنا يقتل، والشافعي وأحمد ومالك لا يرون خلاف أبي حنيفة فيمن تزوج أمَّه وابنته أنه يُدرأ عنه الحدُّ بشبهة دارِءةٍ للحد، بل عند الإمام أحمد رضي الله عنه يقتل

(1)

، وعند الشافعي ومالك يحدُّ حدَّ الزنا في هذا، مع أن القائلين بالمتعة والصرف معهم سنة وإن كانت منسوخة، وأرباب الحيل ليس معهم سنة، ولا أثر عن صاحب، ولا قياس صحيح.

خطأ قول من قال لا إنكار في المسائل الخلافية:

وقولهم: إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا شائعا وجب إنكاره اتفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإن بيانَ ضعفِه ومخالفته للدليل إنكار مثله.

وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء.

وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ، لم يُنكر

(1)

جاء في مسائل الإمام أحمد وإسحاق، الكوسج (4/ 1541)، قال إسحاق بن منصور رحمه الله:(قُلْتُ: قيل له: -يعني: سفيان- رجلٌ تزوجَ امرأةً ذات محرمٍ وهو يعلمُ؟، قال: لا أرى عليه حدًّا، ولكن تعزيرًا، قال الإمام أحمد: قبَّح اللَّه تعالى هذا القول، قُلْتُ: أليس تقول: يقتل؟، قال: يقتل إذا كان على العمدِ، قال إسحاق: كما قال سواء).

ص: 239

على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا. وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.

والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبًا ظاهرًا، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها -إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به- الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها.

وليس في قول العالم: إن هذه المسألة قطعية أو يقينية، ولا يسوغ فيها الاجتهاد طعنٌ على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب

(1)

.

والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنَّا صحة أحد القولين فيها كثيرة، مثل كون الحامل تعتدُّ بوضع الحمل، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حِلِّها للأول، وأن الغسل يجبُ بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، وأن ربا الفضلِ حرام، وأن المتعةَ حرام

(2)

، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضرًا وسفرًا، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، وأن الوقت صحيح لازم، وأن ديةَ الأصابع سواء، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم، وأن الخاتم من حديد يجوز أن يكون صداقًا، وأن التيمم إلى الكوعين بضربة واحدة جائزٌ، وأن صيام الولي عن الميت يجزئُ عنه، وأن الحاجَّ يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن المحرم له

(1)

بل هذا رأيه واجتهاده، وقد يخالفه فيه غيره، والعبرة بالدليل.

(2)

يعني: زواج المتعة، وقد اتفق الأئمة على تحريمه.

ص: 240

استدامة الطيب دون ابتدائِه، وأن السنة أن يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله.

وأن خيار المجلس ثابت في البيع، وأن المصرَّاة يرد معها عوضَ اللبن صاعًا من تمر، وأن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وأن القضاء جائز بشاهد ويمين، إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل، ولهذا صرح الأئمة بنقض حكم من حكم بخلاف كثير من هذه المسائل، من غير طعن منهم على من قال بها

(1)

.

وعلى كل حال فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلد من نهاه عن تقليده

(2)

، وقال له: لا يحل لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وإذا صحَّ الحديث فلا تعبأ بقولي، وحتى لو لم يقل له ذلك، كان هذا هو الواجب عليه وجوبًا لا فسحةَ له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك، لم يسَعْه إلا اتباع الحجةِ، ولو لم يكن في هذا الباب شيءٌ من الأحاديث والآثار ألبتة).

(1)

لأن الطعن في الأئمة يوجب العداوة والبغضاء والتعصب الأعمى بين المسلمين وهي أمور محرمة، ولو أن كل عالم أخطأ طعن عليه لما بقي لنا أحد من الأئمة، لأنهم جميعًا غير معصومين.

(2)

وقد سبق كلام الإمام الشافعي رحمه الله في ذلك، وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله:(وأحمد بن حنبل نهى عن تقليده وتقليد غيره من العلماء في الفروع، وقال: لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا، وقال: لا تقلدني ولا مالكًا ولا الثوري ولا الشافعي؛ وقد جرى في ذلك على سنن غيره من الأئمة؛ فكلهم نهوا عن تقليدهم كما نهى الشافعي عن تقليده وتقليد غيره من العلماء، فكيف يقلد أحمد وغيره في أصول الدين؟ وأصحاب أحمد، مثل: أبي داود السجستاني، وإبراهيم الحربي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والبخاري ومسلم، وبقي بن مخلد، وأبي بكر الأثرم، وابنيه صالح وعبد الله، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ومحمد بن مسلم بن وارة، وغير هؤلاء الذين هم من أكابر أهل العلم والفقه والدين؛ لا يقبلون كلام أحمد ولا غيره إلا بحجة يبينها لهم، وقد سمعوا العلم كما سمعه هو، وشاركوه في كثير من شيوخه، ومن لم يلحقوه أخذوا عن أصحابه الذين هم نظراؤه، وهذه الأمور يعرفها من يعرف أحوال الإسلام وعلمائه). ينظر: مجموع الفتاوى (6/ 215).

ص: 241

‌القاعدة الحادية والثلاثون: الأصل في العقود والشروط الصحة وليس البطلان

لقد تميز مذهب الإمام أَحمد رحمه الله بأَن الأَصل في العقود والشروط هو الصحة، وهذا يفتح حرية المتعاقدين في إِبرام العقود والشروط بناء على هذا الأَصل، وتستمر في التوسع ما لم تصادم نَصًّا، وهذا تمسك ونزوع إلى الأَصل الشرعي: التيسير، ورفع الحرج

(1)

.

معنى هذه القاعدة ومدلولها

(2)

:

معنى الأصل: القاعدة المستمرة أو الصورة المقيس عليها.

والعقود: جمع: عقد، وهو ارتباط الإيجاب بالقبول.

والصحة: معناها: السلامة من المرض أو العيب أو الفساد.

فتدل هذه القاعدة على أن العقود التي يعقدها المكلفون أصلها ومبناها على الصحة والكمال، لا على الفساد والنقص، لأن المقصود من العقود تبادل الأملاك والمنافع ولا يحل منها شيء إلا بعقد صحيح.

فإذا وجد عقدين متعاقدين فإن المقصود الأهم هو غاية العقد، وحكمه المترتب عليه من حل العوضين أو البدلين.

من أمثلة هذه القاعدة ومسائلها:

إذا تعاقد شخصان عقد بيع، وقع العقد صحيحًا باستيفاء شروطه وزوال

(1)

ينظر: المدخل المفصل لمذهب أحمد، بكر أبو زيد (1/ 140).

(2)

ينظر: موسوعة القواعد الفقهية، آل بورنو (1/ 436).

ص: 242

موانعه وحلَّ لكل منهما الانتفاع بالبدل، البائع بالثمن والمشتري بالمبيع. وكذلك لو عقد رجل وامرأة عقد نكاح بشروطه وقع صحيحًا، وحلَّ للرجل الاستمتاع بالمرأة، ووجب عليه نفقتُها وأحكام العقد.

وقد خطأ ابن القيم رحمه الله من اعتقد أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانَه، فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل.

ثم قال

(1)

: (وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه.

وهذا القول هو الصحيح؛ فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تأثيم إلا ما أثَّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم به فاعله، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه. فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم.

والفرق بينهما: أن الله سبحانه لا يعبد الا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده، وحقُّه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه، وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفوٌ حتى يحرمَها.

ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين -وهو تحريم ما لم يحرمْه، والتقرب إليه بما لم يشرعه- وهو سبحانه لو سكت عن

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (1/ 259)، وينظر: القواعد النورانية، ابن تيمية (ص 153).

ص: 243

إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله، فإن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفوٌ.

فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها، فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه.

وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها، فقال تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]، وقال تعالى:{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، وقال تعالى:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]، وقال:{بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58].

وهذا كثير من القرآن.

وفي صحيح مسلم من حديث الأعمش، عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري برقم (2459)، ومسلم برقم (58).

ص: 244

وفيه من حديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من علامات المنافق ثلاث، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»

(1)

.

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان»

(2)

.

وفيهما من حديث عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج»

(3)

.

وفي سنن أبي داود، عن أبي رافع، قال: بعثني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته ألقي في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله، والله إني لا أرجع إليهم أبدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أخيس بالعهد

(4)

، ولا أحبس البُرُد

(5)

، ولكن ارجع إليهم، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع»

(6)

، قال: فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأسلمت.

(1)

أخرجه مسلم برقم (59).

(2)

أخرجه البخاري برقم (6177)، ومسلم برقم (1735).

(3)

أخرجه البخاري برقم (2721)، ومسلم برقم (1418).

(4)

لا أخيس بالعهد: أي: لا أنكثه، يقال: خاس به، يخيس به، ويخوس: إذا غدر به. ينظر: الميسر في شرح مصابيح السنة، التوريشتي (3/ 913).

(5)

البرد: على وزن كتب، جمع: بريد، وهو الرسول الوارد إليه من الجهات، والمراد: أن الأمرين ليس مما يفعلهما النبي صلى الله عليه وسلم كما يفعله ملوك الدنيا؛ لما في ذلك من الخلل العائد بالضرر على المسلمين، بتضمن عهد عدوهم من حبس الرسل، لأنه ينشأ عنه شر كثير، لأن الله تعالى قد أمر بإيفاء العهود. ينظر: التنوير شرح الجامع الصغير، الصنعاني (4/ 222).

(6)

أخرجه أبو داود برقم (2758)، وأحمد في المسند برقم (23857).

ص: 245

وفي صحيح مسلم، عن حذيفة، قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل فأخذنا كفار قريش؛ فقالوا: إنكم تريدون محمدًا؛ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة؛ فأخذوا منا عهد الله وميثاقَه لننصرِفَنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال:«انصرفا، نَفِي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم»

(1)

.

وفي سنن أبي داود، عن عبد الله بن عامر، قال: دعتني أمي يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها، فقالت: تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما أردت أن تعطيه؟» ؛ فقالت: أعطيه تمرًا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أما إنك لو لم تعطه شيئًا كتبت عليك كذبة»

(2)

.

وفي صحيح البخاري، من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره»

(3)

.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب أن يوفي بالنذر الذي نذره في الجاهلية من اعتكافه ليلة عند المسجد الحرام

(4)

، وهذا عقد كان قبل الشرع.

وفي السنن، من حديث كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، يرفعه:«المؤمنون عند شروطهم»

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم برقم (1787).

(2)

أخرجه أبو داود برقم (4991)، وأحمد في المسند برقم (15702).

(3)

أخرجه البخاري برقم (2227).

(4)

أخرجه البخاري برقم (2042).

(5)

أخرجه الترمذي برقم (1352)، ونص الحديث:«الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 246

وله شاهد من حديث محمد بن عبد الرحمن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، يرفعه:«الناس على شروطهم ما وافق الحق»

(1)

، وليست العمدة على هذين الحديثين، بل على ما تقدم.

أجوبة المانعين:

وأصحاب القول الآخر يجيبون عن هذه الحجج: تارة بنسخها، وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط، وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه، وتارة بمعارضتها بنصوص آخر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق»

(2)

.

وكقوله: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»

(3)

.

وكقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].

ونظائر هذه الآية.

قالوا: فصحَّ بهذه النصوص إبطالُ كلِّ عهد وعقد ووعد وشرط ليس في كتاب الله الأمر به أو النصُّ على إباحته.

(1)

أخرجه البزار برقم (5408)، وورد مرفوعًا عن عائشة رضي الله عنها بلفظ:«المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق» ، أخرجه الدارقطني في سننه برقم (2893)، والحاكم في المستدرك برقم (2310)، والبيهقي في السنن الكبرى (14822). وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى برقم (14823)، والدارقطني برقم (2894)، عن أنس رضي الله عنه. وأخرجه ابن الجارود في المنتقى برقم (637)، والبيهقي في السنن الصغير برقم (2105)، وفي السنن الكبرى برقم (14821)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري برقم (2155)، ومسلم برقم (1504).

(3)

أخرجه مسلم برقم (1718)، عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 247

قالوا: وكل شرط أو عقد ليس في النصوص إيجابه ولا الإذن فيه، فإنه لا يخلو من أحد وجوه أربعة:

1 -

إما أن يكون صاحبه قد التزم فيه إباحة ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

2 -

أو تحريم ما أباحه.

3 -

أو إسقاط ما أوجبه.

4 -

أو إيجاب ما أسقطه.

ولا خامس لهذه الأقسام ألبتة، فإن ملَّكتم المشترط والمُعاقد والمعاهد جميع ذلك انسلختم من الدين، وإن ملَّكتموه البعض دون البعض تناقضتم، وسألناكم ما الفرق بين ما يملكه من ذلك وما لا يملكه؟ ولن تجدوا إليه سبيلًا.

رد الجمهور على أجوبة المانعين:

قال الجمهور: أما دعواكم النسخ فإنها دعوى باطلة تتضمن أن هذه النصوص ليست من دين الله، ولا يحلُّ العمل بها، وتجب مخالفتُها، وليس معكم برهان قاطع بذلك، فلا تسمع دعواه، وأين التجاؤكم إلى الاستصحاب والتسبب به ما أمكنكم؟

وأما تخصيصها فلا وجه له، وهو يتضمن إبطال ما دلت عليه من العموم، وذلك غير جائز إلا ببرهان من الله ورسوله.

وأما ضعف بعضها من جهة السند فلا يقدح في سائرها، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة.

ص: 248

وأما معارضتها بما ذكرتم فليس بحمد الله بينها وبينه تعارض، وهذا إنما يعرف بعد معرفة المراد بكتاب الله في قوله:«ما كان من شرط ليس في كتاب الله» ، ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعًا، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن، بل علمت من السنة، فعلم أن المراد بكتاب الله حكمُه كقوله:{كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«كتاب الله القصاص»

(1)

في كسر السن، فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له فيكون باطلًا، فإذا كان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد حكم بأن الولاء للمعتق

(2)

، فشرط خلاف ذلك يكون شرطًا مخالفًا لحكم الله، ولكن أين في هذا أن ما سكت عن تحريمه من العقود والشروط يكون باطلًا حرامًا؟

وتعدي حدود الله هو تحريم ما أحله الله أو إباحة ما حرمه أو إسقاط ما أوجبه، لا إباحة ما سكت عنه وعفا عنه، بل تحريمه هو نفي تعدي حدوده.

وأما ما ذكرتم من تضمن الشرط لأحد تلك الأمور الأربعة ففاتكم قسم خامس وهو الحق، وهو ما أباح الله سبحانه للمكلف تنويع أحكامه بالأسباب التي ملَّكه إياها، فيباشر من الأسباب ما يحله له بعد أن كان حرامًا عليه، أو يحرمه عليه بعد أن كان حلالًا له، أو يوجبه بعد أن لم يكن واجبًا، أو يسقط

(1)

أخرجه البخاري برقم (2703)، ومسلم برقم (1675)، عن أنس رضي الله عنه.

(2)

يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها، أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق، وأراد مواليها أن يشترطوا ولاءها، فذكرت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«اشتريها فإنما الولاء لمن أعتق» . أخرجه البخاري برقم (1493)، ومسلم برقم (1504).

ص: 249

وجوبه بعد وجوبه، وليس في ذلك تغيير لأحكامه، بل كل ذلك من أحكامه، فهو الذي أحل وحرم وأوجب وأسقط، وإنما إلى العبد الأسباب المقتضية لتلك الأحكام ليس إلا، فكما أن شراء الأمة ونكاح المرأة يُحلُّ له ما كان حرامًا عليه قبله، وطلاقها وبيعها بالعكس؛ يحرمها عليه ويسقط عنه ما كان واجبًا عليه من حقوقها، كذلك التزامه بالعقد والعهد والنذر والشرط، فإذا ملك تغييرالحكم بالعقد ملكه بالشرط الذي هو تابع له، وقد قال تعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، فأباح التجارة التي تراضى بها المتبايعان، فإذا تراضيا على شرط لا يخالف حكم الله جاز لهما ذلك، ولا يجوز إلغاؤه وإلزامهما بما لم يلتزماه، ولا ألزمهما الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم به، ولا يجوز إلزامهما بما لم يلزمهما الله ورسوله صلى الله عليه وسلم به ولا هما التزماه، ولا إبطال ما شرطاه مما لم يحرم الله ورسوله عليهما شرطه.

ومحرم الحلال كمحلل الحرام، فهؤلاء ألغوا من شروط المتعاقدين ما لم يلغه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقابلهم آخرون من القياسيين فاعتبروا من شروط الواقفين ما ألغاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكلا القولين خطأ، بل الصواب إلغاء كل شرط خالف حكم الله، واعتبار كل شرط لم يحرمه الله ولم يمنع منه، وبالله التوفيق).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله

(1)

: (كذلك أيضًا في النّكاح: كما لو شكّ الإنسان في شاهدي النكاح هل هما ذوا عدل أم لا؟ فنقول: إذا كان الأمر قد تم وانتهى فقد انتهى على الصحة، ودع القلق لأن الأصل في العقود الصحة حتى يقوم دليل الفساد).

(1)

ينظر: شرح الأربعين النووية (ص 154).

ص: 250

‌القاعدة الثانية والثلاثون: الجزاء إنما يكون بحسب الجناية

معنى هذه القاعدة ومدلولها

(1)

:

معنى الجزاء في اللغة: القضاء. يقال: جزى الأمر يجزي جزاء، مثل قضى يقضي قضاءً. وزنًا ومعنى. ويكون بمعنى الإثابة.

وفي الاصطلاح: قال في أنيس الفقهاء: الجزاء: العوض والمستحق، والثواب والعقاب.

والجناية في اللغة: من جنى يجني جناية، أي: أَذنب ذنبًا يؤاخذ به.

وفي الاصطلاح: قال في التعريفات: الجناية: كل فعل محظور يتضمن ضررًا على النفس أو غيرها. وقال في أنيس الفقهاء: الجناية ما يجتنيه من شر -أي: يحدثه- تسمية -بالمصدر- من جنى عليه شرًّا، وهو عام إلا أنه خصَّ بما يَحرُم من الفعل.

فمفاد القاعدة: أَنْ العقوبة إِنما تكون بمقدار الفعل المحرم.

من أمثلة هذه القاعدة ومسائلها:

إذا استعمل المُحْرم الطيبَ في عضو كامل -كالرأس- فيلزمه الدم، وأَما إن استعمله في أقل من عضو، فعليه الصدقة أو حصته من الدم.

ومنها: إذا زنا فعليه الحدُّ كاملًا، واما إذا كان دون الزنا كالمفاخذة -والمباشرة- فعليه التعزير عقوبة، ولكن لا يُحَدُّ، لأَن الجناية ليست كاملة.

(1)

ينظر: موسوعة القواعد الفقهية، آل بورنو (3/ 11).

ص: 251

وقد تكلم الإمام ابن القيم بكلام ماتع على هذه القاعدة، بين فيه حكمة الرب تعالى في تفاوت العقوبات ومناسبة كل عقوبة للجرم الواقع، فقال

(1)

: (فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شَرَع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس من بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقَتْل والجرح والقذت والسرقة؛ فأحْكم سبحانه وجوهَ الزّجرِ الرادعةِ عن هذه الجنايات غايةَ الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع؛ فلم يشرع في الكذب قَطعَ اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السّرقةِ إعدام النفس.

وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائِه وصفاتِه من حكمتِه ورحمتِه ولُطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقنع كلُّ إنسان بما آتاه مالكُه وخالقه؛ فلا يطمع في استلابِ غير حقِّه.

تفاوت العقوبات بحسب تفاوت الجنايات هو العدل والحكمة:

ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك.

ومن المعلوم أن النظرةَ المحرَّمةَ لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب؛ ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم، فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بدٌّ من تفاوت مراتب

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (3/ 338 - 350) باختصار.

ص: 252

العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسًا ووصفًا وقدرًا، لذهبت بهم الآراءُ كُلَّ مَذْهَب، وتشعبت بهم الطُّرق كلَّ شِعب، ولعَظُمَ الخلاف واشتد الخَطْب، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنةَ ذلك، وأزال عنهم كُلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديرَه نوعًا وقدرًا، ورتَّب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النّكال.

ثم بلغ من سعةِ جوده ورحمته أن جعل تلك العقوباتِ كفاراتٍ لأهلها، وطُهْرةً تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة؛ فرحمهم بهذه العقوبات أنواعًا من الرحمة في الدنيا والآخرة، وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول: قتْل، وقطْع، وجلْد، ونفْي، وتغريم مال، وتعزير.

فأما القتل: فجعله عقوبة أعظم الجنايات، كالجناية على الأنفس؛ فكانت عقوبته من جنسه، وكالجناية على الدِّين بالطعن فيه والارتداد عنه.

وهذه الجناية أولى بالقتل وكَفِّ عدوان الجاني عليه من كل عقوبة؛ إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم، ولا خير يُرجى في بقائِه ولا مصلحة؛ فإذا حَبسَ شَرَّه وأمسكَ لسانَه، وكفَّ أذاه والتزم الذُّلَّ والصغار وجريان أحكام اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه وأداء الجزية، لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضررٌ عليهم.

والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين، وجعله أيضًا عقوبة الجناية على الفروج المحرمة؛ لما فيها من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب والفساد العام.

ص: 253

وأما القطع: فجعله عقوبةَ مثلِه عدلًا، وعقوبة السارق؛ فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد، ولم تبلغ جنايتُه حد العقوبة بالقتل؛ فكانت أليقَ العقوباتِ به إبانةُ العضو الذي جعله وسيلةً إلى أذى الناس، وأَخْذِ أموالهم.

ولما كان ضررُ المُحاربِ أشدَّ من ضرر السارق وعدوانه أعظم، ضَمّ إلى قطع يده قطع رجله؛ ليكف عدوانَه، وشر يده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها، وشرع أن يكون ذلك من خلاف

(1)

لئلا يُفوِّت عليه منفعة الشق بكماله، فكف ضرره وعدوانه، ورحمه بأن أبقى له يدًا من شقٍّ ورجلًا من شقٍّ.

وأما الجلد: فجعله عقوبةَ الجنايةِ على الأَعراض، وعلى العقول، وعلى الأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغًا يوجب القتل ولا إبانة الطرف، إلا الجناية على الأبضاع فإن مفسدتَها قد انتهضت سببًا لأشنع القتلات، ولكن عارضها في البكر شدة الداعي وعدم العوض، فانتهض ذلك المعارض سببًا لإسقاط القتل، ولم يكن الجلدُ وحده كافيًا في الزجر فغُلِّظ بالنفي والتغريب؛ ليذوق من ألم الغربة ومفارقة الوطن ومجانبة الأهل والخُلطاء ما يزجره عن المعاودة.

وأما الجناية على العقول بالسكر: فكانت مفسدتُها لا تتعدّى السكران غالبًا، ولهذا لم يُحرَّم السُّكر في أول الإسلام كما حرمت الفواحش والظلم والعدوان في كل ملة وعلى لسان كل نبي، وكانت عقوبة هذه الجناية غير مقدرة من الشارع، بل ضرب فيها بالأيدي والنِّعال وأطراف الثياب والجريد، وضرب فيها أربعين، فلما استخفَّ الناس بأمرها وتتابعوا في ارتكابها غلَّظها الخليفة

(1)

يعني: إذا قطع يده اليسرى واستحق قطع رجله، فإنه يقطع الرجل اليمنى.

ص: 254

الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أُمِرْنا بابتاع سنته

(1)

، وسنته من سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ فجعلها ثمانين بالسوط، ونَفَى فيها، وحَلَق الرَّأس، وهذا كله من فقه السنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الشارب في المرة الرابعة

(2)

، ولم يَنْسَخ ذلك، ولم يجعله حدًّا لا بد منه؛ فهو عقوبة ترجع إلى اجتهاد الإمام في المصلحة، فزيادة أربعين والنفي والحلق أسهل من القتل.

وأما تغريمُ المال -وهو العقوبة المالية-: فشرعها في مواضع: منها تحريقُ متاعِ الغالِّ من الغنيمة، ومنها حرمان سهمه، ومنها إضعافُ الغرم على سارق الثمار المعلقة، ومنها إضعافه على كاتم الضَّالةِ المُلْتَقطة، ومنها أخذُ شَطْر مال مانع الزكاة، ومنها عزمه صلى الله عليه وسلم على تحريق دور من لا يُصلي في الجماعة

(3)

، لولا ما منعه من إنفاذِ ما عَزمَ عليه من كَوْنِ الذرية والنساء فيها

(4)

(1)

يشير إلى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد، والنعال، ثم جلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين، فلما كان عمر رضي الله عنه، ودنا الناس من الريف والقرى، قال:«ما ترون في جلد الخمر؟» ، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:«أرى أن تجعلها كأخف الحدود» ، قال:«فجلد عمر ثمانين» ، أخرجه مسلم برقم (1706).

(2)

أخرجه أبو داود برقم (4484)، وابن ماجه برقم (2572)، وأحمد في المسند برقم (7662)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه عن معاوية رضي الله عنه الترمذي برقم (1444)، وأحمد في المسند برقم (16847)، وورد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم.

(3)

يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة، فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنار» . أخرجه البخاري بنحوه برقم (657)، ومسلم واللفظ له برقم (651).

(4)

يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا ما في البيوت من النساء والذرية، لأقمت الصلاة، صلاة العشاء، وأمرت فتياني يحرقون ما في البيوت بالنار» ، أخرجه أحمد في المسند برقم (8796).

ص: 255

فتتعدى العقوبة إلى غير الجاني، وذلك لا يجوز كما لا يجوز عقوبة الحامل، ومنها عقوبة من أساء على الأمير في الغزو بحرمان سلب القتيل لمن قَتَله، حيث شفع فيه هذا المسيء، وأمر الأمير بإعطائه، فحرم المشفوع له عقوبة للشافع الآمر.

وأما التعزير: ففي كل معصية لا حدَّ فيها ولا كفارة.

فإن المعاصي ثلاثة أنواع: نوعٌ فيه الحدُّ ولا كفارةَ فيه، ونوعٌ فيه الكفارة ولا حدَّ فيه، ونوع لا حدَّ فيه ولا كفارة:

فالأول: كالسرقة والشرب والزنا والقذف.

والثاني: كالوطء في نهار رمضان، والوطء في الإحرام.

والثالث: كوطء الأمة المُشتركة بينه وبين غيره، وقُبْلة الأجنبية، والخلوة بها، ودخول الحمام بغير مئزر، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، ونحو ذلك.

من حكمة اللَّه اشتراط الحجة لإيقاع العقوبة:

وكان من تمام حكمته ورحمته أن لم يأخذ الجُناة بغير حُجَّة كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم وهي الإقرار أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال، وهو أبلغُ وأصدقُ من إقرار اللسان، فإن من قامت عليه شواهدُ الحال بالجناية كرائحةِ الخمر وقيْئِها، وحَبَل مَنْ لا زوجَ لها ولا سيّد، ووجود المسروق في دار السارق وتحت ثيابه أولى بالعقوبة ممَّن قامت عليه شهادةُ إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب، وهذا متفق عليه بين الصحابة وإن نازع فيه بعض الفقهاء، وإما أن تكون الحجة مِنْ خارج عنهم وهي البيِّنةُ، واشتُرط فيها العدالة وعدم التهمة؛ فلا أحسن في

ص: 256

العقول والفطر في ذلك، ولو طُلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك ولا أوفق منه للمصلحة.

التسوية في العقوبات مع اختلاف الجرائم لا تليق بالحكمة:

ومن المعلوم ببدائِهِ العقول أن التسوية في العقوبات مع تفاوت الجرائم غير مستحسن، بل منافٍ للحكمة والمصلحة؛ فإنه إن ساوى بينها في أدنى العقوبات لم تحصل مصلحةُ الزجر، وإن ساوى بينها في أعظمها كان خلافَ الرحمة والحكمة؛ إذ لا يليق أن يُقتل بالنظرة والقُبْلة ويُقطع بسرقة الحبةِ والدينار، وكذلك التفاوت بين العقوبات مع استواء الجرائم قبيحٌ في الفِطرِ والعقول، وكلاهما تأباه حكمةُ الربِّ تعالى وعَدلُه وأحسانُه إلى خلقه، فأوقع العقوبةَ تارة بإتلاف النفس إذا انتهت الجناية في عظمِها إلى غاية القبح، كالجناية على النفس أو الدِّين أو الجناية التي ضَرَرُها عام؛ فالمفسدة التي في هذه العقوبة خاصة

(1)

، والمصلحة الحاصلة بها أضعافَ أضعاف تلك المفسدة، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]».

(1)

لأن العقوبة لا تتعدى صاحب الجناية.

ص: 257

‌القاعدة الثالثة والثلاثون: إذا اجتمع أمران من جنس واحد ولم يختلف مقصودهما دخل أحدهما في الآخر غالبًا

قال ابن رجب رحمه الله في القواعد

(1)

: (إذا اجتمعت عبادتان من جنس في وقت واحد، ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء، ولا على طريق التبعية للأخرى في الوقت، تداخلت أفعالُهما واكتفى فيهما بفعل واحد).

يقصد بهذه القاعدة: أنه إذا تعلق بذمة المكلف واجبان أو أكثر، أو لزمه حدّان أو أكثر، أو اجتمع في وقت واحد واجب ومندوب أو أكثر أو نحو ذلك، وكانت هذه الواجبات، أو الحدود ونحوها من جنس واحد، ومقصودها والمراد منها واحدًا، فإن أحدهما يدخل في الآخر غالبًا، فإن كانت رُتَبُها مختلفة دخل الأدنى منها في الأعلى وأغنى فعله عن فعل الأدنى، وإن كانت متساوية أغنى فعل أحدها عن غيره.

فمثال اجتماع الواجبين: أن يجب على المرأة غسل الجنابة وغسل الحيض، أو أن يجب على المكلف الغسل والوضوء.

ومثال اجتماع الحدين: أن يتكرر الزنا، أو القذف أو نحوهما من المكلف قبل إيقاع الحد عليه.

ومثال اجتماع الواجب مع المندوب: أن يدخل الإنسان المسجد وقد أقيمت الصلاة، فإنه يدخل في الصلاة وتغنيه عن تحية المسجد.

(1)

ينظر: القواعد لابن رجب (ص 23).

ص: 258

ويمكن الاستدلال لهذه القاعدة بما يلي:

أولًا: بما روي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال لعائشة رضي الله عنها وقد أحرمت قارنةً-:«يَسَعُك طوافُك لحجِّك وعمرتِك»

(1)

، وما ورد بمعناه، حيث أقام أحد الطوافين مقام الآخر، وكذلك السعي.

ثانيًا: النظر إلى التعليل؛ فإن الناظر فيما قيّد به الفقهاء حكم هذه القاعدة يَلْمَحُ مبناها، فقد قيدوا الأفعال التي تتداخل بأن تكون من جنس واحد، وأن يكون مقصودُها واحدًا.

وهذا يدل على أن سبب إغناء أحد الفعلين عن الآخر هو تحقق المصلحة المرادة بفعل أحدهما، وذلك أقرب إلى مقصود الشريعة وهو التيسير، ولذا فقد علل ابن قدامة دخول طواف العمرة في طواف الحج -بالنسبة للقارن- بأنه ناسك يكفيه حلق واحد ورمي واحد، وبأنهما عبادتان من جنس واحد فإذا اجتمعت دخلت الصغرى في الكبرى، وهذا يشعر بأن سبب التداخل هو حصول المقصود بفعل أحدهما، والله أعلم.

وقد ذهب عامة الفقهاء من المذاهب الأربعة إلى العمل بهذه القاعدة وإن اختلفوا في تطبيقها على بعض الفروع، فقد تقدم تصريح فقهاء المذاهب بها، ونقل ابن المنذر الإجماع على أنه إذا سرق السارق عدة مرات وقدم إلى الحاكم في آخر السرقات فإن قطع يده يجزئ عن ذلك كله.

وقد استثنى بعض الفقهاء من حكم هذه القاعدة صورًا، وسبب ذلك -في الغالب- عدم انطباق شروط وقيود القاعدة على تلك الصور.

(1)

أخرجه مسلم برقم (1211)، عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 259

من فروع القاعدة:

1 -

إذا اجتمع حدث أصغر وجنابة كفى الغسل عنهما.

2 -

إذا اجتمع موجبان للغسل فنواهما أجزأه عنهما.

3 -

لو صلى عقب الطواف فريضة أجزأت عن ركعتي الطواف على خلاف في ذلك)

(1)

.

(1)

ينظر: القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، العبد اللطيف (1/ 83 - 87) باختصار.

ص: 260

‌القاعدة الرابعة والثلاثون: من قدر على بعض العبادة وعجز عن باقيها

هل يلزمه الإتيان بما قدر عليه منها أم لا؟

هذه القاعدة ذكرها ابن رجب رحمه الله في القواعد

(1)

بصيغة الاستفهام لأن فيها تفصيلًا، فهناك صور يجب فيها الإتيان بما يقدر عليه، وصور أخري لا يلزم الإتيان بما يقدر عليه وقد شرح ذلك رحمه الله، فقال: (هذا أقسام:

أحدها: أن يكون المقدورُ عليه ليس مقصودًا في العبادة؛ بل هو وسيلة محضةٌ إليها؛ كتحريك اللسان في القراءة، وإمرار الموسى على الرأس في الحلق والختان، فهذا ليس بواجب، لأنه إنما وجب ضرورة القراءة والحلق والقطع، وقد سقط الأصل فسقط ما هو من ضرورته. وأوجبه القاضي في تحريك اللسان خاصةً وهو ضعيف جدًّا.

القسم الثاني: ما وجب تبعًا لغيره وهو نوعان:

أحدهما: ما كان وجوبه احتياطًا للعبادة ليتحقق حصولُها؛ كغسل المرفقين في الوضوء، فإذا قطعت اليد من المرفق، هل يجب غسل رأس المرفق الآخر أم لا؟ على وجهين: أشهرهما عند الأصحاب الوجوب، وهو ظاهر كلام أحمد.

واختيار القاضي في كتاب الحج من خلافه أنه يستحب، وحَمَل كلام أحمد على الاستحباب. هذا إذا بقي شيءٌ من العبادة كما في وضوء الأقطع، أما إذا لم يبق شيء بالكلية سقط التبعُ؛ كإمساك جزء من الليل في الصوم، فلا يلزم من أبيح له الفطر بالاتفاق.

والثاني: ما وجب تبعا لغيره على وجه التكميل واللواحق؛ مثل رمي

(1)

ينظر: قواعد ابن رجب (ص 10).

ص: 261

الجمار، والمبيت بمنى لمن لم يدرك الحج، فالمشهور أنه لا يلزمه، لأن ذلك كله من توابع الوقوف بعرفة، فلا يلزم من لم يقف بها.

وحكى ابن أبي موسى رواية أخرى بلزومها، لأنها عبادات في نفسها مستقلة. ومن أمثلة ذلك: المريض إذا عجز في الصلاة عن وضع وجهه على الأرض، وقدر على وضع بقية أعضاء السجود، فإنه لا يلزمه ذلك على الصحيح، لأن السجود على بقية الأعضاء إنما وجب تبعًا للسجود على الوجه وتكميلًا له.

والقسم الثالث: ما هو جزء من العبادة وليس بعبادة في نفسه بانفراده، أو هو غير مأمور به لضرورة.

فالأول: كصوم بعض اليوم لمن قدر عليه وعجز عن إتمامه، فلا يلزمه بغير خلاف.

والثاني: كعتق بعض الرقبة في الكفارة، فلا يلزم القادر عليه إذا عجز عن التكميل، لأن الشارع قصده تكميل العتق مهما أمكن، ولهذا شرع السرايةَ

(1)

والسعايةَ

(2)

، وقال «ليس لله شريك»

(3)

، فلا يشرع عتق بعض الرقبة.

(1)

السراية: هي شمول حكم الجزء للكل بالقوة، فإذا أعتق نصف العبد سرى العتق إلى جميعه بالقوة حتى وإن لم يرده، فلو أن إنسانًا عنده عبد فقال: عشرك حر، يعتق كله، أو: إصبعك حر، يسري العتق إليه كله، فلا يتبعض العتق، بل لو أن الرجل أعتق نصيبه من عبد وله شركاء سرى إلى نصيب شركائه، مع أنه لا يملكه، لكن يسري بالقوة ويعطي شركاءه قيمة أنصبائهم، ينظر: الشرح الممتع، ابن عثيمين (11/ 331).

(2)

السعاية: هي سعي المملوك الذي أعتق بعضه، وإلزامه بالاكتساب ليفك بقية رقبته من الرق. ينظر: إرشاد الساري، القتيبي (4/ 306)، والكواكب الدراري، الكرماني (11/ 80).

(3)

يشير إلى ما رواه قتادة رضي الله عنه، عن أبي المليح، قال أبو الوليد: عن أبيه، أن رجلًا أعتق شِقْصًا له من غلام، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«ليس لله شريك» ، أخرجه أبو داود برقم (3933)، وأحمد في المسند برقم (20709)، والشقص: النصيب أو الجزء من الشيء.

ص: 262

القسم الرابع: ما هو جزء من العبادة وهو عبادة مشروعة في نفسه، فيجب فعله عند تعذر فعل الجميع بغير خلاف، وعليه مسائل كثيرة:

منها: العاجز عن القراءة يلزمه القيام، لأنه وإن كان مقصوده الأعظم القراءة، لكنه أيضًا مقصود في نفسه، وهو عبادة منفردة.

ومنها: من عجز عن بعض الفاتحة لزمه الإتيان بالباقي.

ومنها: من عجز عن بعض غسل الجنابة لزمه الإتيان بما قدر منه، لأن تخفيف الجنابة مشروع ولو بغسل أعضاء الوضوء، كما يشرع للجنب إذا أراد النوم أو الوطء أو الأكل، ويستبيح به اللبثَ في المسجد عندنا، ووقع التردد في مسائل أخر.

ومنها: المحدِثُ إذا وجد ما يكفي بعض أعضائه، ففي وجوب استعماله وجهان، ومأخذ من لا يراه واجبًا؛ إما أن الحدث الأصغر لا يتبعض رفعُه فلا يحصل به مقصود، أو أنه يتبعض لكنه يبطل بالإخلال بالموالاة فلا يبقى له فائدة، أو أن غسل بعض أعضاء المحدث غير مشروع بخلاف غسل بعض أعضاء الجنب كما تقدم.

ومنها: إذا قدر على بعض صاع في صدقة الفطر، فهل يلزمه إخراجه؟ على روايتين، ومأخذ عدم الوجوب أنه كفارة بالمال فلا يتبعَّض، كما لو قدر على التكفير بإطعام بعض المساكين، والصحيح الوجوب، والفرق بينه وبين الكفارة من وجهين:

أحدهما: أن الكفارة بالمال تسقط إلى بدل هو الصوم بخلاف الفطرة.

والثاني: أن الكفارة لا بد من تكميلها، والمقصود من التكفير بالمال تحصيل إحدى المصالح الثلاث على وجهها؛ وهي العتق والإطعام والكسوة، وبالتلفيق يفوت ذلك، فلا تبرأ الذمة من الوجوب إلا بالإتيان بإحدى الخصال بكمالها أو بالصيام، وفي الفطرة لا تبرأ الذمة منها بدون إخراج الموجود).

ص: 263

‌القاعدة الخامسة والثلاثون: أحكام التكاليف تتفاوت بحسب التمكن من العلم والقدرة

هذه القاعدة من القواعد الكبار التي تتدخل في أكثر الأحكام الشرعية، وهي تشبه قاعدة سابقة وهي:(لا واجب مع عجز، ولا محرم مع ضرورة)، وغيرها من القواعد.

وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه القاعدة، وذكر تطبيقاتها وضوابطها فقال

(1)

: (والأمر والنهي الذي يسميه بعض العلماء التكليف الشرعي هو مشروط بالممكن من العلم والقدرة، فلا تجب الشريعة على من لا يمكنه العلم كالمجنون والطفل، ولا تجب على من يعجز كالأعمى والأعرج والمريض في الجهاد.

وكما لا تجب الطهارة بالماء والصلاة قائمًا والصوم وغير ذلك على من يعجز عنه، سواء قيل: يجوز تكليف ما لا يطاق أو لم يجز؛ فإنه لا خلاف أن تكليف العاجز الذي لا قدرة له على الفعل بحال غير واقع في الشريعة، بل قد تُسقط الشريعة التكليفَ عمن لم تكمُل فيه أداة العلم والقدرة تخفيفًا عنه، وضبطًا لمناط التكليف وإن كان تكليفه ممكنًا، كما رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم

(2)

، وإن كان له فهم وتمييز؛ لكن ذاك لأنه لم يتم فهمه؛ ولأن العقل يظهر في الناس شيئًا فشيئًا؛ وهم يختلفون فيه، فلما كانت الحكمة خفية ومنتشرة قيدت بالبلوغ.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (10/ 344 - 348).

(2)

كما في حديث علي رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«رُفِعَ القلم عن ثلاثةٍ: عن النَّائم حتى يستيقظَ، وعن الصَّبىِّ حتى يَحتَلِمَ، وعن المجنونِ حتى يَعقِلَ» . أخرجه أبو داود برقم (4403)، وأخرجه أحمد في المسند برقم (24694)، عن عائشة رضي الله عنها.

ص: 264

وكما لا يجب الحج إلا على من ملك زادًا وراحلة عند جمهور العلماء؛ مع إمكان المشي لما فيه من المشقة، وكما لا يجب الصوم على المسافر مع إمكانه منه تخفيفًا عليه، وكما تسقط الواجبات بالمرض الذي يخاف معه زيادة المرض وتأخر البُرءِ وإن كان فعلها ممكنًا.

لكن هذه المواضع هي مما تختلف فيها الشرائع؛ فقد يوجب الله في شريعة ما يشق، ويُحَرِّم ما يشق تحريمه: كالآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل، وقد يخفف في شريعة أخرى، كما قال المؤمنون:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]، وكما قال الله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال تعالى:{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].

وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في قصة الأعرابي: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى:«يسِّرا ولا تعسِّرا»

(2)

، وقال:«إن هذا الدين يسرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه»

(3)

.

وقال: «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن أقوامًا شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات؛ رهبانية

(1)

أخرجه البخاري برقم (220)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري برقم (3038)، ومسلم برقم (1733).

(3)

أخرجه البخاري برقم (39).

ص: 265

ابتدعوها ما كتبناها عليهم»

(1)

، وقال:«لا رهبانية في الإسلام»

(2)

، وقال «لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني»

(3)

، وقال:«إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته»

(4)

، وروي عنه أنه قال:«بعثت بالحنيفية السمحة»

(5)

.

وأما كون الإنسان مريدًا لما أُمر به أو كارهًا له، فهذا لا تلتفت إليه الشرائع، بل ولا أيُّ عاقل، بل الإنسان مأمور بمخالفة هواه.

والإرادة هي الفارقة بين أهل الجنة وأهل النار، كما قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18 - 19]، وقال تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]، وقال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15]، الآية، وقال تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، ونظائره كثيرة.

(1)

أخرجه أبو داود برقم (4904).

(2)

قال الحافظ رحمه الله في الفتح (9/ 111): (وأما حديث: «لا رهبانية في الإسلام»؛ فلم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عند الطبراني: «إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة»، وعن ابن عباس رضي الله عنه رفعه: «لا صرورة في الإسلام»، أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم)، وقال البغوي رحمه الله في شرح السنة (2/ 371):(ويروى: «لا رهبانية في الإسلام»، وذلك مثل الاختصاء، واعتناق السلاسل، وما أشبه ذلك مما كانت الرهبانية تتكلفه وتبتدعه، وُضعت عن هذه الأمة).

(3)

أخرجه البخاري برقم (5063)، ومسلم برقم (1401)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(4)

أخرجه أحمد في المسند برقم (5866) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

(5)

أخرجه أحمد في المسند برقم (2107)، والبخاري في الأدب المفرد برقم (287)، وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة برقم (881).

ص: 266

فإن هذه الأصول ممهَّدة في الكتاب والسنة وكلام العلماء والعارفين وليس الغرض هنا تقريرها؛ وإنما الغرض شيء آخر، وهو أنه إذا كان التكليف مشروطًا بالتمكن من العلم الذي أصله العقل، وبالقدرة على الفعل فنقول: كلٌّ من هذين قد يزول بأسباب محظورة وبأسباب غير محظورة، فإذا أزال عقله بشرب الخمر أو البنج ونحوهما، لم يزل عليه بذلك إثم ما يتركه من الواجبات ويفعله من المحرمات، إذا كان السُّكر يقتضي ذلك؛ بخلاف ما إذا زال بسبب غير محرم كالإغماء لمرض أو خوف، أو سكِر بشرب غير محرم مثل أن يجرع الخمر مكرهًا، فإن هذا لا إثم عليه.

وأما قضاء الصلاة عليه عند أحمد وعند من يقول: يقضي صلاة يوم وليلة، فذاك نظير وجوب قضائها على النائم والناسي ولا إثم عليهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس في النوم تفريط وإنما التفريط في اليقظة»

(1)

، وقال:«من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها؛ فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك»

(2)

.

وكذلك قدرة العبد، فإنه لو فرط بعد وجوب الحج عليه حتى ضيع ماله بقي الحج في ذمته، وكذلك في استحلال المحرمات، قال الله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].

فالضرورة بسبب محظور لا تستباح بها المحرمات؛ بخلاف الضرورة التي هي بسبب غير محظور).

(1)

أخرجه مسلم بنحوه برقم (681)، وأخرجه بلفظه أبو داود برقم (441)، والترمذي برقم (177)، والنسائي برقم (615)، وابن ماجه برقم (698)، عن أبي قتادة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري برقم (597)، ومسلم برقم (684)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ولفظ البخاري:«من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» ، ولفظ مسلم:«من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها» .

ص: 267

‌القاعدة السادسة والثلاثون: جاءت الشريعة بالتسوية بين المتماثلين وإلحاق النظير بنظيره، واعتبار الشيء بمثله، والتفرقة بين المختلفين وعدم تسوية أحدهما بالآخر

فنظام الشريعة يدل على ذلك، ويأبى غيره، لأن هذا هو الحقُّ والعدل الذي يتناسب مع هذه الشريعة الغراء، وهي منزهة عن ضد ذلك من التسوية بين المختلفين والتفرقة بين المتماثلين.

قال ابن القيم رحمه الله

(1)

: (وأما أحكامُه الأمرية الشرعية فكلُّها هكذا، تجدها مشتملةً على التسوية بين المتماثلين، وإلحاق النظير بنظيره، واعتبار الشيء بمثله، والتفريق بين المختلفين، وعدم تسوية أحدهما بالآخر.

وشريعته سبحانه مُنَزَّهة أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه، ثم تُبيح ما هو مشتملٌ على تلك المفسدة أو مثلها أو أزيدَ منها، فمن جَوَّز ذلك على الشريعة فما عرفها حقَّ معرفتها؛ ولا قدَّرها حَقَّ قدرها.

وكيف يُظَنُّ بالشريعة أنها تبيح شيئًا لحاجة المكلف إليه ومصلحته، ثم تحرِّم ما هو أحوج إليه، والمصلحة في إباحته أظهر، وهذا من أمْحَل المحال.

لا يشرع اللَّه الحيل التي تسقط الواجب وتبيح المحرم:

ولذلك كان من المستحيل أن يَشْرَعَ اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم من الحِيَل ما يُسْقِط به ما أوجبه، أو يبيح به ما حَرَّمه، ولَعَنَ فاعله، وآذنه بحربه وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم، وشَدّد فيه الوعيد؛ لما تضمنه من المفسدة في الدنيا والدين، ثم

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (2/ 330 - 333).

ص: 268

بعد ذلك يسوغ التوصل إليه بأدنى حيلة، ولو أن المريض اعتمد هذا فيما يحميه منه الطبيب ويمنعه منه لكان مُعينًا على نفسه، ساعيًا في ضرره، وعُدَّ سفيهًا مفرِّطًا.

التسوية بين المتماثلين فطرة في النفس:

وقد فطر اللَّه سبحانه عباده على أنَّ حكم النظير حكم نظيره، وحكمَ الشيء حكم مثله، وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين، وعلى إنكار الجمع بين المختلفين، والعقل والميزان الذي أنزله اللَّه شرعًا وقدرًا يأبى ذلك.

الجزاء من جنس العمل:

ولذلك كان الجزاء مماثلًا للعمل من جنسه في الخير والشر:

فمن ستر مسلمًا ستره اللَّه

(1)

، ومن يَسَّر على معسر يَسَّر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة

(2)

، ومن نَفَّس عن مؤمن كربة من كُرَب الدنيا، نَفّس اللَّه عنه كربة من كُرب يوم القيامة

(3)

، ومن أقال نادمًا أقاله اللَّه عَثْرَته يوم القيامة

(4)

.

(1)

لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» . أخرجه البخاري برقم (2442)، ومسلم برقم (2580).

(2)

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» . أخرجه مسلم برقم (2699).

(3)

للحديث السابق.

(4)

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أقال نادمًا بيعته، أقاله الله عز وجل عثرته يوم القيامة» ، أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار برقم (5391)، والبزار برقم (8967).

ص: 269

ومن تَتَبعَ عَوْرة أخيه تتبع اللَّه عورته

(1)

، ومن ضارَّ مسلمًا ضارَّ اللَّه به، ومن شاقَّ مسلمًا شاق اللَّه عليه

(2)

، ومن خَذَل مسلمًا في موضع يحب نُصْرَته فيه، خَذَله اللَّه في موضع يحب نصرته فيه

(3)

، ومن سمَّع سمَّع اللَّه به

(4)

، والراحمون يرحمهم الرحمن

(5)

، وإنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء

(6)

.

(1)

لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع، فقال:«يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» ، أخرجه الترمذي برقم (2032)، وأبو يعلى في مسنده برقم (1675)، والبغوي في شرح السنة برقم (3526).

(2)

لحديث أبي صرمة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من ضارَّ ضار الله به، ومن شاقَّ شق الله عليه» ، أخرجه الترمذي برقم (1940)، وأبو داود برقم (3635)، والطبراني في الكبير برقم (830)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق برقم (583). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

(3)

لحديث جابرَ بنَ عبد الله وأبي طلحة بنَ سهلٍ الأنصاري رضي الله عنهما قالا: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئٍ يخذُلُ امرًا مسلمًا في موضعِ تُنتهَكُ فيه حرمتُهُ، ويُنتقَصُ فيه من عِرْضِهِ، إلا خذلَهُ الله في موطِنٍ يُحبُّ فيه نُصرَتَهُ، وما من امرئٍ ينصُرُ مُسلِمًا في موضعِ يُنْتَقَصُ فيه مِنْ عِرْضِهِ، ويُنتهَكُ فيهِ من حُرمتِه إلا نصرَهُ الله عز وجل في موطنٍ يُحِبُّ فيه نُصرتَه» ، أخرجه أبو داود برقم (4884)، والبغوي في شرح السنة برقم (3532).

(4)

لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به» ، أخرجه مسلم برقم (2986).

(5)

لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» ، أخرجه أبو داود برقم (4941)، والترمذي برقم (1942)، وأحمد في المسند برقم (6494)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(6)

لحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه، وتخبره أن صبيًّا لها، أو ابنًا لها في الموت، فقال للرسول:«ارجع إليها، فأخبرها: أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب» ، فعاد الرسول، فقال: إنها قد أقسمت لتأتينها، قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وقام معه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وانطلقت معهم، فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة، ففاضت عيناه، فقال له سعد: ما هذا؟ يا رسول الله قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» . أخرجه البخاري برقم (1284) ومسلم برقم (923).

ص: 270

ومن أنفق أنْفَقَ عليه

(1)

، ومن أوعى

(2)

أُوعي عليه

(3)

، ومن عفا عن حقه عفا اللَّه له عن حقه، ومن تجاوز تجاوز اللَّه عنه

(4)

، ومن استقصى استقصى اللَّه عليه.

أصل الشرع الحاق النظير بالنظير والقرآن يعلل الأحكام:

فهذا شرع اللَّه وقدرُه، ووحيه وثوابه وعقابه، كلُّه قائمٌ بهذا الأصل، وهو إلحاق النظير بالنظير، واعتبار المثل بالمثل، ولهذا يَذْكر الشارع العلل والأوصاف المؤثرة والمعاني المعتبرة في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية، ليدلَّ بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت، واقتضائها لأحكامها، وعدم تخلُّفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ويُوجبُ تخلف آثارها عنها، كقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13].

وقوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 12]، {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الجاثية: 35]، {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [محمد: 26]، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23]).

(1)

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: يا ابن آدم، أنفق أنفق عليك» ، أخرجه البخاري برقم (4684)، ومسلم برقم (993).

(2)

أوعى: أمسك عن الإنفاق.

(3)

لحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«لا توعي فيوعي الله عليك، ارضخي ما استطعت» . أخرجه البخاري برقم (1434)، ومسلم برقم (1029).

(4)

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه» . أخرجه البخاري برقم (2078)، ومسلم برقم (1562).

ص: 271

‌القاعدة السابعة والثلاثون: الأسباب الفعلية أقوى من الأسباب القولية

قال الإمام ابن القيم رحمه الله

(1)

: (ولهذا تصحُّ الفعلية من المحجور عليه دون القولية؛ فلو استولد ثبت استيلادُه، ولو عتق كان لغوًا، ولو تملك مالا بالشراء كان لغوًا، ولو تملكه باصطياد أو احتطاب ونحوه ملَكه، وكذلك لو أحياه ملَكه بالإحياء.

ثم قيل: الفرق بينهما احتياجه إلى الفعل دون القول؛ فإنا لو منعناه من وطئه أمتَه أضررنا بها، ولا حاجة به إلى عتقها، وهذا غير طائل، فإنه قد يحتاج إلى القول أيضًا كالشراء والنكاح والإقرار.

ولكن الفرق أن أقواله يمكن إلغاؤها، فإنها مجرد كلام لا يترتب عليه شيء، وأما الأفعال فإذا وقعت لا يمكن إلغاؤها، فلا يمكن أن يقال: إنه لم يسرق ولم يقتل ولم يستولد ولم يتلف، وقد وُجدت منه هذه الأفعال، فجرى مجرى المكره في إلغاء أقواله، ومجرى المأذون له في صحة أفعاله والله اعلم).

(1)

ينظر: بدائع الفوائد (3/ 255).

ص: 272

‌القاعدة الثامنة والثلاثون: الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا

وهذه أيضًا من القواعد الفقهية المهمة، وقد ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله وبين أن الشريعة مبنية عليها، وذكر أمثلة عديدة تدل عليها، وبين كذلك أثر النية في الحكم، فقال

(1)

: (ولهذا إذا علق الشارع حكمًا بسبب أو علة زال ذلك الحكم بزوالها، كالخمر علق بها حكم التنجيس وجوب الحدِّ لوصف الإسكار، فإذا زال عنها وصارت خلًّا زال الحكم.

وكذلك وصف الفسق علق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية، فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علَّق عليه.

وكذلك السَّفه والصغر والجنون والإغماء تزول الأحكام المعلقة عليها بزوالها، والشريعة مبنية على هذه القاعدة.

حكم الحالف على أمر لا يفعله فزال السبب:

فهكذا الحالف إذا حلف على أمر لا يفعله لسبب فزال السبب لم يحنث بفعله؛ لأن يمينه تعلَّقت به لذلك الوصف، فإذا زال الوصف زال تعلق اليمين.

فإذا دُعي إلى شراب مسكر ليشربه فحلف ألا يشربه، فانقلب خلًّا فشربه لم يحنث، فإنَّ منْعَ نفسِه منه نظير منع الشارع، فإذا زال منع الشارع بانقلابه خلًّا، وجب أن يزول منعُ نفسه بذلك، والتفريق بين الأمرين تحكّم محضٌ لا وجه له؛ فإذا كان التحريم والتنجيس ووجوب الإراقة ووجوب الحد وثبوت الفسق قد زال بزوال سببه، فما الموجب لبقاء المنع في صورة اليمين وقد زال سببه؟

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (5/ 528 - 535).

ص: 273

وهل يقتضي محض الفقه إلا زوال حكم اليمين؟

يوضحه أن الحالف يعلم من نفسه أنه لم يمنعْها من شرب غير المسكر، ولم يخطر بباله، فإلزامه ببقاء حكم اليمين وقد زال سببها إلزامٌ له بما لم يلتزمه هو، ولا ألزمه به الشارع.

وكذلك لو حلف على رجل ألّا يقبل له قولًا ولا شهادة لما يعلم من فسقه، ثم تاب وصار من خيار الناس؛ فإنه يزول حكم المنع باليمين كما يزول حكم المنع من ذلك بالشرع.

وكذلك إذا حلف ألّا يأكل هذا الطعام، أو لا يلبس هذا الثوب، أو لا يكلِّم هذه المرأة ولا يطأها، لكونه لا يحلُّ له ذلك، فمَلَك الطعام والثوب وتزوج المرأة، فأكل الطعام ولبس الثوب ووطئ المرأة لم يحنث؛ لأن المنع بيمينه كالمنع بمنع الشارع، ومنع الشارع يزول بزوال الأسباب التي ترتب عليها المنع؛ فكذلك منع الحالف.

وكذلك إذا حَلَف: لا دَخلتُ هذه الدار، وكان سبب يمينه أنها تُعمل فيها المعاصي، وتشرب الخمر؛ فزال ذلك وعادت مجمعًا للصالحين وقراءة القرآن والحديث.

أو قال: لا أدخل هذا المكان؛ لأجل ما رأى فيه من المنكر، فصار بيتًا من بيوت اللَّه تعالى تُقام فيه الصلوات لم يحنث بدخوله.

وكذلك إذا حلف لا يأكل لفلان طعامًا، وكان سبب اليمين أنه يأكل الربا، ويأكل أموال الناس بالباطل؛ فتاب وخرج من المظالم، وصار طعامه من كسب يده أو تجارة مباحة لم يحنث بأكل طعامه، ويزول حكم منع اليمين كما يزول حكم منع الشارع.

ص: 274

وكذلك لو حلف لا بايعتُ فلانًا وسبب يمينه كونه مفلسًا أو سفيهًا؛ فزال الإفلاس والسفه؛ فبايعه لم يحنث، وأضعاف أضعاف هذه المسائل.

كما إذا اتُّهم بصحبة مُريب فحلف لا أصاحبه، فزالت الريبة وخلفها ضدُّها فصاحبه لم يحنث.

وكذلك لو حلف المريض لا يأكل لحمًا أو طعامًا، وسبب يمينه كونه يزيد في مرضه، فصحَّ وصار الطعام نافعًا له لم يحنث بأكله، وقد صرح الفقهاء بمسائل من هذا الجنس.

فمنها: لو حلف لوالٍ ألّا أفارق البلد إلا بإذنك، فعُزل ففارق البلد بغير إذنه لم يحنث.

ومنها: لو حلف على زوجته لا تخرجين من بيتي إلا بإذني، أو على عبده لا يخرج إلا بإذنه، ثم طلَّق الزوجة وأعتق العبد فخرجا بغير إذنه لم يحنث، ذكره أصحاب الإمام أحمد. قال صاحب المغني

(1)

: لأن قرينةَ الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها، وهو إنما يملك منع الزوجة والعبد مع ولايته عليهما؛ فكأنه قال: ما دُمْتما في ملكي، ولأن السبب يدل على النية في الخصوص كدلالته عليها في العموم.

وكذلك لو حلف لقاض ألّا أرى منكرًا إلا رفعته إليك، فعزل لم يحنث بعدم الرفع إليه بعد العزل.

وكذلك إذا حلف لامرأته ألا أبيتُ خارج بيتك أو خارج هذه الدار فماتت أو طلقها، لم يحنث إذا بات خارجها.

(1)

ينظر: المغني، ابن قدامة (9/ 567).

ص: 275

وكذلك إذا حلف على ابنه ألا يبيت خارج البيت لخوفه عليه من الفُسَّاق، لكونه أمرد، فالتحى وصار شيخًا لم يحنث بمبيته خارج الدار.

تأثير النية في الأيمان تخصيصًا وتعميمًا وإطلاقًا وتقييدًا:

وهذا كله مذهب مالك وأحمد؛ فإنهما يعتبران النية في الأيمان ومناط اليمين وسببها وما هيَّجها؛ فيحملان اليمين على ذلك

(1)

. وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الأيمان من كتابه: الكافي في مذهب مالك: والأصل في هذا الباب مراعاة ما نواه الحالف؛ فإن لم يكن له نية نظر إلى بساط قصته، وما أثاره على الحلف، ثم حكم عليه بالأغلب من ذلك في نفوس أهل وقته. وقال صاحب الجواهر

(2)

: المقتضيات للبر والحنث أمور:

الأول: النية إذا كانت مما يصلح أن يراد اللفظ بها، سواء كانت مطابقة له، أو زائدة فيه، أو ناقصة عنه؛ بتقييد مطلقه وتخصيص عامه.

الثاني: السبب المثير لليمين ليتعرف منه، ويعبر عنه بالبساط أيضًا، وذلك أن القاصد لليمين لا بد أن تكون له نية، وإنما يذكرها في بعض الأوقات وينساها في بعضها؛ فيكون المحرِّك على اليمين وهو البساط -دليلًا عليها لكن قد يظهر مقتضى المحرك ظهورًا لا إشكال فيه، وقد يخفى في بعض الحالات، وقد يكون ظهوره وخفاؤه بالإضافة

(3)

.

(1)

ينظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد (12/ 534)، (13/ 161).

(2)

ينظر: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، الجذامي (2/ 348).

(3)

وزاد صاحب عقد الجواهر، الجذامي (2/ 348):(الثالث: العرف: أعني: ما عرف من مقاصد الناس في أيمانهم، الرابع: مقتضى اللفظ لغة ووضعًا، والمشهور: أن هذه الأمور على ما ذكرناه من الترتيب).

ص: 276

وكذلك أصحاب الإمام أحمد صرَّحوا باعتبار النية وحمل اليمين على مقتضاها، فإن عدمت رجع إلى سبب اليمين وما هيجها، فحمل اللفظ عليه؛ لأنه دليل على النية.

حتى صرح أصحاب مالك فيمن دفن مالًا ونسي مكانه فبحث عنه فلم يجده، فحلف على زوجته أنها هي التي أخذته، ثم وجده لم يحنث، قالوا: لأن قصده ونيته إنما هو إن كان المال قد ذهب فأنت التي أخذتيه؛ فتأمل كيف جعلوا القصد والنية في قوة الشرط، وهذا هو محض الفقه

(1)

.

ونظير هذا: ما لو دُعي إلى طعام فظنه حرامًا فحلف لا أطعمه، ثم ظهر أنه حلال لا شبهة فيه، فإنه لا يحنث بأكله؛ لأن يمينه إنما تعلقت به إن كان حرامًا وذلك قصده.

ومثله: لو مرَّ به رجل فسلم عليه فحلف لا يردُّ عليه السلام؛ لظنِّه أنه مبتدع أو ظالم أو فاجر، فظهر أنه غير ذلك الذي ظنه لم يحنث بالردِّ عليه.

ومثله: لو قدمت له دابة ليركبها فظنَّها قطوفًا

(2)

أو جموحًا أو متعسرة الركوب، فحلف لا يركبها، فظهرت له بخلاف ذلك لم يحنث بركوبها.

وقال أبو القاسم الخِرَقي في مختصره: ويرجع في الأيمان إلى النية؛ فإن لم ينو شيئًا رجع إلى سبب اليمين وما هيَّجها

(3)

. وقال أصحاب الإمام أحمد: إذا دُعي

(1)

ينظر: التبصرة للخمي (4/ 1749)، وجامع الأمهات، ابن الحاجب (ص 236)، والتاج والإكليل، الغرناطي (4/ 481).

(2)

دابة قطوف: أي بطيئة متقاربة الخطى في البطء.

(3)

ينظر: مختصر الخرقي (ص 151)، والمغني، ابن قدامة (9/ 564)، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي (7/ 155).

ص: 277

إلى غداء فحلف ألّا يتغدى أو قيل له: اقعد فحلف ألّا يقعد اختصت يمينه بذلك الغداء وبالقعود في ذلك الوقت؛ لأن عاقلًا لا يقصد ألّا يتغدى أبدًا ولا يقعد أبدًا. ثم قال صاحب المغني

(1)

: (إن كان له نيَّة فيمينه على ما نوى، فإن لم تكن له نية؛ فكلام أحمد يقتضي روايتين: إحداهما: أن اليمين محمولة على العموم؛ لأن أحمد سئل عن رجل حلف ألّا يدخل بلدًا لظلم رآه فيه فزال الظلم، قال أحمد: النَّذر يوفي به يعني: لا يدخله، ووجه ذلك أن لفظ الشارع إذا كان عامًا لسبب خاصٍّ وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب، كذلك يمين الحالف.

ونازعه في ذلك شيخنا، فقال: إنما منعه أحمد من دخول البلد بعد زوال الظلم؛ لأنه نذر للَّه ألّا يدخلها، وأكد نذره باليمين، والنذر قربة، فقد نذر التقرب إلى اللَّه بهجران ذلك البلد؛ فلزمه الوفاء بما نذره.

هذا هو الذي فهمه الإمام أحمد، وأجاب به السائل حيث قال: النذر يوفى به؛ ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد قضاء نسكهم فوق ثلاثة أيام؛ لأنهم تركوا ديارهم للَّه تعالى، فلم يكن لهم العَوْدُ فيها وإن زال السبب الذي تركوها لأجله، وذلك نظير مسألة ترك البلد للظلم والفواحش التي فيه إذا نذره الناذر؛ فهذا سرُّ جوابه، وإلا فمذهبه الذي عليه نصوصُه وأصوله اعتبار النية والسبب في اليمين وحمل كلام الحالف على ذلك، وهذا في نصوصه أكثر من أن يذكر فلينظر فيها).

عند الحنفية:

وأما مذهب أصحاب أبي حنيفة فقال في كتاب الذخائر في كتاب الأيمان: الفصل السادس في تقييد الأيمان المطلقة بالدلالة: إذا أرادت المرأة الخروج من

(1)

ينظر: المغني، ابن قدامة (9/ 567).

ص: 278

الدار فقال الزوج: إنْ خَرَجْتِ من الدار فأنت طالق، فجلست ساعة ثم خرجت لا تطلق.

وكذلك لو أراد رجل أن يضربَه فحلف آخر ألّا يضربه، فهذا على تلك الضربة، حتى لو مكث ساعة ثم ضربه لا يحنث، ويُسمَّى هذا يمين الفور

(1)

، وهذا لأن الخرجة التي قصد والضربة التي قصد هي المقصودة بالمنع منها عرفًا وعادة، فيتعيَّن ذلك بالعرف والعادة.

فإذا دخل الرجل على رجل يتغدَّى فقال: تعال تغدَّ معي، فقال: واللَّه لا أتغدَّى، فذهب إلى بيته وتغدَّى مع جميع أهله لا يحنث، وكذلك إذا قال الرجل لغيره: كل مع فلان، فقال: واللَّه لا آكل، ثم ذكر تقرير ذلك بأنه جواب لقول الآمر له، والجواب كالمعاد في السؤال؛ فإنه يتضمن ما فيه، قال: وليس كابتداء اليمين؛ لأن كلامه لم يخرج جوابًا لتقييد، بل خرج ابتداءً، هو مطلق عن القيد فينصرف إلى كل غداء، قال: وإذا قال لغيره: كلِّم لي زيدًا اليوم في كذا، فقال: واللَّه لا أكلِّمه، فهذا يختص باليوم؛ لأنه خرج جوابًا عن الكلام السابق، وعلى هذا إذا قال له: إيتني اليوم، فقال: امرأته طالق إنْ أتاك.

وقد صرح أصحاب أبي حنيفة بأن النية تعمل في اللفظ لتعيين ما احتمله اللفظ

(2)

، فإذا تعين باللفظ ولم يكن اللفظ محتملًا لما نوى لم تؤثر النية فيه؛ فإنه حينئذ يكون الاعتبار بمجرد النية، ومجرد النية لا أثر لها في إثبات الحكم؛ فإذا احتملها اللفظ فعيَّنت بعض محتملاته أثَّرت حينئذ، قالوا: ولهذا لو قال: إن لبستُ ثوبًا أو أكلتُ طعامًا أو شربتُ شرابًا أو كلمتُ امرأة فامرأتي طالقٌ، ونوى

(1)

فعلى هذا: لو أن أحد الوالدين حلف أنه لا يعطي ابنه مالًا، فلو أعطاه بعد ساعة لا يحنث لأن هذا هو يمين الفور، فلا يقصد الوالد ألا يعطي ابنه أبدًا.

(2)

ينظر: المحيط البرهاني في الفقه النعماني (4/ 222).

ص: 279

ثوبًا أو طعامًا أو شرابًا أو امرأةً معينًا دُيِّنَ فيما بينه وبين اللَّه، وقبلت نيته بغير خلاف، ولو حذف المفعول واقتصر على الفعل؛ فكذلك عند أبي يوسف في رواية عنه والخصاف، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.

السبب يقوم مقام النية في اليمين:

والمقصود أن النية تؤثر في اليمين تخصيصًا وتعميمًا وإطلاقًا وتقييدًا والسبب يقوم مقامها عند عدمها ويدل عليها فيؤثر ما يؤثره، وهذا هو الذي يتعين الإفتاء به، ولا يحمل الناس على ما يقطع أنهم لم يريدوه بأيمانهم، فكيف إذا علم قطعًا أنهم أرادوا خلافه؟ واللَّه أعلم.

التعليل يجري مجرى الشرط:

والتعليل يجري مجرى الشرط، فإذا قال:(أنت طالق لأجل خروجك من الدار) فبان أنَّها لم تخرج لم تطلق قطعًا، صرح به صاحب الإرشاد فقال:(وإن قال: (أنت طالق أن دخلت الدار) بنصب الألف والحالف من أهل اللسان، ولم يتقدم لها دخول قبل اليمين بحال، لم تطلق، ولم يذكر فيه خلافًا).

وقد قال الأصحاب وغيرهم: إنه إذا قال: (أنت طالق)، وقال أردت الشرطَ دِينَ؛ فكذلك إذا قال:(لأجل كلامك زيدًا أو خروجك من داري بغير إذني) فإنه يُديَّن، ثم إن تبين أنها لم تفعل لم يقع الطلاق، ومن أفتى بغير هذا فقد وهم على المذهب، واللَّه أعلم).

ص: 280

‌القاعدة التاسعة والثلاثون: الاستدامة أقوى من الابتداء

قال الشيخ عبد الله البسام رحمه الله في درسه في الحرم المكي بتاريخ: 27/ 11/ 1417 هـ

(1)

: (إن الاستدامة أقوى وألزم من الابتداء عند الفقهاء، ولذلك حُرِّمَ عقد النكاح والإنسان مُحْرِم، وأجازوا الرجعة للمطلقة؛ لأن الرجعة استدامة لعقد سابق).

وقد ذكر ابن رجب رحمه الله هذه القاعدة وضرب لها مثلًا في باب النكاح فقال

(2)

: (فأما في النكاح؛ فإن طرأ ما يقتضي تحريم إحدى المرأتين بعينها؛ كرِدَّة أو رضاع؛ اختصت بانفساخ النكاح وحدها بغير خلاف، وإن طرأ ما يقتضي تحريم الجمع بينهما؛ فإن لم يكن لإحداهما مزية على الأخرى، بأن صارتا أختين بإرضاع امرأة واحدة لهما انفسخ نكاحهما، وإن كان لإحداهما مزية؛ بأن صارتا أمًّا وبنتًا بالارتضاع؛ فروايتان، أصحهما: يختص الانفساخ بالأم وحدها إذا لم يدخل بهما؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء؛ فهو كمن أسلم على أم وبنت لم يدخل بهما؛ فإنه يثبت نكاح البنت دون الأم، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم).

أما الإمام ابن القيم رحمه الله فقد قرر هذه القاعدة وذكر شيئًا من تطبيقاتها فقال

(3)

: (وأيضًا فإن الأمر بإتمام الصلاة، وقد طلعت الشمس فيها أمر بإتمام لا

(1)

سمعت ذلك منه أثناء حضوري دروسه.

(2)

ينظر: قواعد ابن رجب (ص 424).

(3)

ينظر: إعلام الموقعين (2/ 246).

ص: 281

ابتداء، والنهي عن الصلاة في ذلك الوقت نهيٌ عن ابتدائها لا عن استدامتها؛ فإنه لم يقل: لا تتمّوا الصلاة في هذا الوقت، وإنما قال: لا تصلّوا.

فرق بين الابتداء والدوام:

وأين أحكام الابتداء من الدوام، وقد فرَّق النص والإجماع والقياس بينهما؟ فلا تؤخذ أحكامُ الدَّوام من أحكام الابتداء ولا أحكام الابتداء من أحكام الدوام في عامة مسائل الشريعة.

فالإحرام يُنافي ابتداء النكاح والطيب دون استدامتهما، والنكاح ينافي قيام العدة والردة دون استدامتهما، والحدث يُنافي ابتداء المسح على الخفين دون استدامته.

وزوال خوف العنت ينافي ابتداء النكاح على الأمة دون استدامته عند الجمهور.

والزنا من المرأة ينافي ابتداء عقد النكاح دون استدامته عند الإمام أحمد ومن وافقه.

والذهول عن نية العبادة ينافي ابتداءها دون استدامتها وفقد الكفاءة ينافي لزوم النكاح في الابتداء دون الدوام.

وحصول الغنى ينافي جواز الأخذ من الزكاة ابتداء ولا ينافيه دون دوامه. وحصول الحجرِ بالسفه والجنون ينافي ابتداء العقد من المحجور عليه ولا ينافي دوامه.

وطَرَءانِ ما يمنع الشهادة من الفسق والكفر والعداوة بعد الحكم بها لا يمنع العمل بها على الدوام ويمنعه في الابتداء.

ص: 282

والقدرة على التكفير بالمال تمنع التكفير بالصوم ابتداء لا دوامًا.

والقدرة على هدي التمتع تمنع الانتقال إلى الصوم ابتداء لا دوامًا.

والقدرة على الماء تمنع ابتداء التيمّم اتفاقًا، وفي منعه لاستدامة الصلاة بالتيمّم خلاف بين أهل العلم.

ولا تجوز إجارة العين المغصوبة ممن لا يقدر على تخليصها، ولو غصبها بعد العقد من لا يقدر المستأجر على تخليصها منه لم تنفسخ الإجارة، وخُيّر المستأجر بين فسخ العقد وإمضائه.

ويمنع أهل الذمة من ابتداء إحداث كنيسة في دار الإسلام ولا يمنعون من استدامتها.

ولو حلف لا يتزوج أو لا يتطيّب أو لا يتطهّر فاستدام ذلك لم يحنث، وإن ابتدأه حنث، وأضعاف أضعاف ذلك من الأحكام التي يُفرَّق فيها بين الابتداء والدوام؛ فيحتاج في ابتدائها إلى ما لا يحتاج إليه في دوامها، وذلك لقوة الدوام وثبوته واستقرار حكمه.

وأيضًا فهو مستصحب بالأصل، وأيضًا فالدفع أسهل من الرفع، وأيضًا فأحكام التَّبَع يثبت فيها ما لا يثبت في المتبوعات، والمُستدام تابع لأصله الثابت؛ فلو لم يكن في المسألة نصٌّ لكان القياس يقتضي صحة ما ورد به النص، فكيف وقد توارد عليه النص والقياس؟

عدم تعارض شيئين في هذه المسألة:

فقد تبيَّن أنه لم يتعارض في هذه المسألة عامٌّ وخاصٌّ ولا نصٌّ وقياس، بل النصُّ فيها والقياس متفقان، والنصُّ العام لا يتناول مورد الخاص ولا هو داخل

ص: 283

تحت لفظه، ولو قُدّر صلاحية لفظه له فالخاصُّ بيان لعدم إرادته، فلا يجوز تعطيل حكمه وإبطاله، بل يتعين إعماله واعتباره، ولا تضرب أحاديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض، وهذه القاعدة أولى من القاعدة التي تتضمن إبطال إحدى السُّنتين وإلغاء أحد الدليلين، واللَّه الموفق).

ص: 284

‌القاعدة الأربعون: المحرم لعينه والمحرم لكسبه

قال الشيخ عبد الله البسام رحمه الله في درسه في الحرم المكي

(1)

: (ما حُرِّم لعينه فهو حرام مطلقًا، وما حُرِّم لكسبه فهو حرام على الكاسب؛ لا على غيره)، ومثَّل لذلك بأموال المورِّث بالنسبة لورثته، وأموال المضيفِ بالنسبة لضيوفِه.

قلت: المحرم لذاته؛ كالشرك، والزنى، والسرقة، وشرب الخمر، والمحرم لغيره؛ هو الذي حرم على قوم دون قوم، كما في الأمثلة التي ذكرها الشيخ البسام رحمه الله؛ فقد يكون صاحب التركة في أمواله شيء من الربا والحرام، فهذا المال حرام عليه اقتناؤه، إلا أنه بعد وفاته يحلُّ المال لورثته، لأنه حرم بسبب كسبه هو، ولذلك قال بعض السلف، وقد وقف على قبر مرابي: الآن حلَّ ماله.

وكذلك إذا قدم الرجل طعامًا لضيوفه، وكان ماله مختلطًا، فيه الحلال والحرام، حرم عليه ما كان فيه من حرام، وجاز لهم تناول هذا الطعام، لأن المال محرم لغيره.

قال المزني رحمه الله في المختصر

(2)

: (الصيد محرم لغيره، وهو الإحرام، ومباح لغير محرِم، والميتة محرمة لعينها لا لغيرها، على كل حلال وحرام؛ فهي أغلظ تحريمًا).

وقد أشار الإمام ابن القيم رحمه الله إلى هذه القاعدة

(3)

عند حديثه عن

(1)

سمعت ذلك أثناء حضوري الدرس.

(2)

ينظر: مختصر المزني (8/ 394).

(3)

ينظر: بدائع الفوائد (3/ 257).

ص: 285

المسائل التي يتعلق بها الاحتياط الواجب وترك ما لا بأس به حذرًا مما به البأس، وذكر أن مدارها على ثلاثة قواعد:

الأولى: قاعدة اختلاط المباح بالمحظور حسًّا.

والثانية: قاعدة في اشتباه أحدهما بالآخر والتباسه به على المكلف.

والثالثة: قاعدة في الشك في العين الواحدة هل هي قسم من المباح أم قسم من المحظور، فهذه القواعد الثلاث هي معاقد هذا الباب.

ثم قال رحمه الله: (فأما القاعدة الأولى وهي اختلاط المباح بالمحظور حسًّا فهي قسمان:

أحدهما: أن يكون المحظور محرمًا لعينه كالدم والبول والخمر والميتة.

والثاني: أن يكون محرمًا لكسبه لا أنه حرام في عينه كالدرهم المغصوب مثلا، فهذا القسم الثاني لا يوجب اجتناب الحلال ولا تحريمه ألبتة، بل إذا خالط ماله درهمٌ حرام أو أكثر منه أخرج مقدار الحرام وحلَّ له الباقي بلا كراهة، سواء كان المخرج عين الحرام أو نظيره، لأن التحريم لم يتعلق بذات الدرهم وجوهره، وإنما تعلق بجهة الكسب فيه، فإذا خرج نظيره من كل وجه لم يبق لتحريم ما عداه معنى، هذا هو الصحيح في هذا النوع، ولا تقوم مصالح الخلق إلا به.

وأما القسم الأول: وهو الحرام لعينه كالدم والخمر ونحوهما فهذا إذا خالط حلالا وظهر أثره فيه حرُم تناول الحلال ولا نقول أنه صير الحلال حرامًا، فإن الحلال لا ينقلب حرامًا ألبتة ما دام وصفه باقيًا، وإنما حرم تناوله لأنه ما تعذر الوصول إليه إلا بتناول الحرام، فلم يجز تناوله، وهذه العلة بعينها

ص: 286

منصوصة للإمام أحمد، وقد سئل بأي شيء يحرم الماء إذا ظهرت فيه النجاسة؟ فأجاب بهذا، وقال: حرم الله تعالى الميتة والدم ولحم الخنزير فإذا خالطت هذه الماء فمتناوله كأنه قد تناول هذه الأشياء، هذا معنى كلامه.

هذا إذا ظهر أثر المخالط، فلو استهلك ولم يظهر أثره، فهنا معترك النزال وتلاطم أمواج الأقوال، وهي مسألة الماء والمائع إذا خالطته النجاسة فاستهلكت ولم يظهر لها فيه أثر البتة، والمذاهب فيها لا تزيد على اثني عشر مذهبا، نذكرها في غير هذا الموضع إن شاء الله، أصحُّها مذهب الطهارة مطلقًا، مائعًا كان ما خالطته أو جامدًا، ماء أو غيره، قليلًا أو كثيرًا، لبراهين كثيرة قطعية أو تكاد، تذكر هناك إن شاء الله، وعلى هذا فإذا وقعت قطرة من لبن في ماء فاستهلكت وشربه الرضيع لم تنتشر الحرمة، ولو كانت قطرة خمر فاستهلكت في الماء البتة لم يُحَد بشربه، ولو كانت قطرة بول لم يغير ويشربه، وهذا لأن الحقيقة لما استهلكت امتنع ثبوت الاسم الخاص بها، فنفى الاسم، والحقيقة للغالب، فيتعين ثبوت أحكامه، لأن الأحكام تتبع الحقائق والاسماء، وهذا أحد البراهين في المسألة).

ص: 287

‌القاعدة الحادية والأربعون: إذا اشتبه المباح بالمحظور: فإن كان له بدل لا اشتباه فيه انتقل إليه وتركه وإن لم يكن له بدل ودعت الضرورة إليه، اجتهد في معرفة المباح منهما

قال الإمام ابن القيم رحمه الله

(1)

: (وأما القاعدة الثانية: وهي اشتباه المباح بالمحظور، إن كان له بدل لا اشتباه فيه، انتقل إليه وتركهما، وإن لم يكن له بدل ودعت الضرورة إليه، اجتهد في المباح واتقى الله ما استطاع.

فإذا اشتبه الماء الطاهر بالنجس انتقل إلى بدله وهو التيمم، ولو اشتبها عليه في الشرب اجتهد في أحدهما وشربه.

وكذلك لو اشتبهت ميتة بمُذكَّاة انتقل إلى غيرهما ولم يتحرَّ فيهما، فإن تعذر عليه الانتقال ودعته الحاجة اجتهد.

ولو اشتبهت أخته بأجنبية انتقل إلى نساء لم يشتبه فيهن، فإن كان بلدًا كبيرًا تحرى ونكح.

ولو اشتبه ثوب طاهر بنجس انتقل إلى غيرهما، فإن لم يجد، فقيل: يصلي في كل ثوب صلاةً ليؤدي الفرض في ثوب متيقن الطهارة، وقيل: بل يجتهد في أحد الثوبين ويصلي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية قال: لأن اجتناب النجاسة من باب الترك ولهذا لا تشترط له النية.

ولو صلى في ثوب لا يعلم نجاسته ثم علمها بعد الصلاة لم يُعد، فإن اجتهد فقد صلى في ثوب يغلب على ظنِّه طهارته، وهذا هو الواجب عليه لا غير.

(1)

ينظر: إعلام الموقعين، ابن القيم (3/ 358 - 361).

ص: 288

قلت: وهذا كما لو اشترى ثوبًا لا يعلم حاله، جاز له أن يصلي فيه اعتمادًا على غلَبةِ ظنه وإن كان نجسًا في نفس الأمر، فكذلك إذا أداه اجتهاده إلى طهارة أحد الثوبين وغلب على ظنه، جاز أن يصلي فيه وإن كان نجسًا في نفس الأمر، فالمؤثر في بطلان الصلاة العلم بنجاسة الثوب لا نجاسته المجهولة، بدليل ما لو جهلها في الصلاة ثم علمها بعد الصلاة لم يعد الصلاة، فهذا القول ظاهر جدًّا وهو قياس المذهب.

وقيل يراعى في ذلك جانب المشقة، فإذا كثرت الثياب اجتهد في أحدها، وإن قلَّت صلى بعدد الثياب النجسة وزاد صلاة، وهو اختيار ابن عقيل.

ومن هذا الباب ما لو استيقظ فرأى في ثوبه بللًا واشتبه عليه أمني هو أم مذي ففي هذه المسألة قولان في كل مذهب من المذاهب الأربعة، إلا أن أصحاب الإمام أحمد رضي الله عنه قالوا: إن سبق منه سبب يمكن إحالة كونه مذيًا عليه، مثل القبلة والملاعبة والفكر مع الانتشار فهو مذي، إذ الظاهر أن الذكر بعد ذلك إنما انكسر به فهو المتيقن، وما زاد عليه فمشكوك فيه، فلا يجب عليه غُسلٌ بالشك.

وإن لم يتقدم منه شيء من ذلك فهو مني في الحكم، إذ هو الغالب على النائم، ولم يتقدم سبب يعارضه، والنوم فيه مَظِنة الاحتلام، وقد قام شاهد المَظنة ظاهر القياس بموجب شهادته، وقوة هذا المسلك مما لا يخفي على منصف.

ومن هذا الباب إذا اشتبهت عليه جهة القبلة ففيها ثلاثة أقوال:

أحدها: يجتهد ويصلي صلاة واحدة، هذا أصح الأقوال في المذاهب الأربعة وهو المشهور.

ص: 289

الثاني: أنه يصلي أربع صلوات إلى أربع جهات ليؤدي مسيتقنًا كما قالوا في الثياب النجسة، وكما قالوا فيمن فاتته صلاة من يوم لا يعلم عينها، صلى خمس صلوات.

والقول الثالث: أنه قد سقط عنه فرض الاستقبال في هذه الحال فيصلي حيث شاء، وهذا مذهب أبي محمد بن حزم.

واحتج بأن الله إنما فرض الاستقبال على العالم بجهة الكعبة القادر على التوجه إليها، فأما العاجز عنها فلم يفرض الله عليه التوجه إليها قط، فلا يجوز أن يلزم بما لا يلزمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم به.

وإذا لم يكن التوجه واجبًا عليه لأن وجوبه مشروط بالقدرة، صلى إلى أي جهة شاء كالمسافر المتطوع، والزَّمِنِ الذي لا يمكنه التوجه إلى جهة القبلة.

قلت: وهذا القول أرجحُ وأصح من القول بوجوب أربع صلوات عليه، فإنه إيجاب ما لم يوجبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نظير له في إيجابات الشارع ألبتة، ولم يعرف في الشريعة موضع واحد أوجب الله على العبد فيه أن يوقع الصلاة ثم يعيدها مرة أخرى، إلا لتفريط في فعلها أولا، كتارك الطمأنينة والمصلي بلا وضوء ونحوه، وأما أن يأمره بصلاة فيصليها بأمره، ثم يأمره بإعادتها بعينها، فهذا لم يقع قط، وأصول الشريعة تردُّه.

ومن هذا الباب لو طلق إحدى امرأتيه بعينها ثم اشتبهت عليه بالأخرى فقيل: يجب عليه اعتزالهما، ويوقف الأمر حتى يتبين الحال وعليه نفقتهما، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وهي اختيار صاحب المغني.

ص: 290

وقيل يقرع بينهما كما لو أبهم الطلاق في واحدة لا بعينها، وهذا هو المشهور في المذهب، وهذا اختيار عامة أصحاب أحمد، ونصَّ عليه الخرقي في المختصر، فقال

(1)

: ولو طلق واحدة من نسائه ونسيها أُخرجت بالقرعة).

(1)

ينظر: مختصر الخرقي (ص 112).

ص: 291

‌القاعدة الثانية والأربعون: ليس في الشريعة شيءٌ مشكوكٌ فيه

قال الإمام ابن القيم رحمه الله

(1)

: (وأما القاعدة الثالثة وهي قاعدةُ الشك، ينبغي أن يعلم أنه ليس في الشريعة شيء مشكوكٌ فيه ألبتة، وإنما يَعْرض الشكُّ للمكلَّف بتعارض أمارتين فصاعدًا عنده، فتصير المسألة مشكوكًا فيها بالنسبة إليه، فهي شَكيَّة عنده، وربما تكون ظنيةً لغيره، أو له في وقت آخر، وتكون قطعية عند آخرين؛ فكون المسألة شكيَّة أو ظنيَّة أو قطعيَّة ليس وصفًا ثابتًا لها، بل هو أمر يعرض لها عند إضافتها إلى حكم المكلَّف.

وإذا عرف هذا فالشك الواقع في المسائل نوعان:

أحدهما: شكٌّ سببه تعارضُ الأدلة والأمارات، كقولهم في سؤر البغل والحمار: مشكوك فيه فيُتوَضَّأ به ويُتيمم، فهذا الشك لتعارض دليلي الطهارة والنجاسة، وإن كان دليل النجاسة لا يقاوم دليل الطهارة، فإنه لم يقم على تنجيس سؤرهما دليل، وغاية ما احتُج به لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية:«إنها رجس»

(2)

، والرجس: هو النَّجَس.

وهذا لا دليل فيه، لأنه إنما نهاهم عن لحومها وقال:«إنها رجس» ، ولا ريب أن شحومها ميتة لا تعمل الذكاة فيها فهي رجس، ولكن من أين يلزم أن تكون نجسة في حياتها حتى يكون سؤرها نجسًا، وليس هذا موضع هذه المسألة.

(1)

ينظر: بدائع الفوائد (3/ 371 - 375).

(2)

أخرجه البخاري برقم (4198)، ومسلم برقم (1940)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 292

ومن هذا قولهم للدم الذي تراه المرأة بين الخمسين سنة إلى الستين: إنه مشكوك فيه، فتصوم وتصلي وتقضي فرض الصوم لتعارض دليلي الصحة والفساد، وإن كان الصحيح أنه حيضٌ، ولا معارضَ لدليل كونه حيضًا أصلًا، لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع ولا معقول، فليس هذا مشكوكًا فيه والمقصود التمثيل.

القسم الثاني: الشك العارض للمكلف بسبب اشتباه أسباب الحكم عليه وخفائها لنسيانه وذهوله، أو لعدم معرفته بالسبب القاطع للشك، فهذا الحكم واقع كثيرًا في العيان والأفعال، وهو المقصود لذكر القاعدة التي تضبط أنواعه.

والضابط فيه: أنه إن كان للمشكوك فيه حال قبل الشك، استصحبها المكلف وبني عليها حتى يتيقن الانتقال عنها هذا ضابط مسائله، فمن ذلك:

الأولى: إذا شكَّ في الماء هل أصابته نجاسة أم لا؟ بنى على يقين الطهارة.

الثانية: ولو تيقن نجاسته ثم شكَّ هل زالت أم لا؟ بنى على يقين النجاسة.

الثالثة: إذا أحدث ثم شكَّ هل توضأ أم لا؟ بنى على يقين الحدث.

ولو توضأ وشكَّ في الحدث بنى على يقين الطهارة.

وفروع المسألة مبنية على هذا الأصل

(1)

.

الرابعة: إذا شكَّ الصائم في غروب الشمس! لم يجز له الفطر

(2)

، ولو أكل أفطر، ولو شك في طلوع الفجر جاز له الأكل، ولو أكل لم يفطر

(3)

.

(1)

وهو: أن اليقين لا يزول بالشك.

(2)

لأن الأصل بقاء النهار حتى يتيقن غروب الشمس.

(3)

لأن الأصل بقاء الليل حتى يتيقن طلوع الفجر.

ص: 293

الخامسة: لو شك هل صلى ثلاثة أو أربعًا وهو منفرد؟! بنى على اليقين إذ الأصل بقاء الصلاة في ذمته، وإن كان إمامًا فعلى غالب ظنه، لأن المأموم ينبهه، فقد عارض الأصل هنا ظهور تنبيه المأموم على الصواب، وقال الشافعي ومالك: يبني على اليقين مطلقًا لأنه الأصل.

السادسة: إذا رمى صيدًا فوقع في ماء، فشك هل كان موته بالجرح أو بالماء؟ لم يأكله؛ لأن الأصلَ تحريمُه، وقد شك في السبب المبيح.

وكذلك لو خالط كلابًا أخرى ولم يدر أصاده كلبُه أو غيره! لم يأكله لأنه لم يتيقن شروطَ الحِلِّ في غير كلبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنك إنما سميت على كلبكً ولم تسم على غيره»

(1)

.

السابعة: إذا شك هل طاف ستًّا أو سبعًا أو رمى ست حصيات أو سبعًا؟ بنى على اليقين.

الثامنة: إذا شك هل عم الماءُ بدنه وهو جنبٌ أم لا؟ لزمه يقينُ تعميمِه ما لم يكن ذلك وسواسًا.

التاسعة: إذا اشترى ثوبًا جديدًا أو لبيسًا، وشك هل هو طاهر أو نجس؟ فيبني الأمر على الطهارة، ولم يلزمه غسلُه

(2)

.

العاشرة: إذا أصابه بلل ولم يدر ما هو؟ لم يجب عليه أن يبحث عنه ولا يسأل من أصابه به، ولو سأله لم يجب عليه أجابته على الصحيح، وعلى هذا لو أصاب ذيله رطوبة بالليل أو بالنهار لم يجب عليه شمُّها ولا تعرفُها، فإذا تيقنها عمل بموجب يقينه.

(1)

أخرجه البخاري برقم (5486)، ومسلم برقم (1929)، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.

(2)

لأن الأصل في الأعيان الطهارة إلا ما دل الدليل على نجاسته.

ص: 294

الحادية عشرة: إذا كان عليه حق لله عز وجل من صلاة أو زكاة أو كفارة أو عتق أو صيام، وشك هل أتى به أم لا؟ لزمه الإتيان به.

الثانية عشرة: إذا شك هل مات مورِّثه فيحل له ماله أو لم يمت؟ لم يحل له المال حتى يتيقن موته.

الثالثة عشرة: إذا شك في الشاهد هل هو عدل أو لا؟ لم يحكم بشهادته لأن الغالب في الناس عدم العدالة.

وقول من قال: (الأصل في الناس العدالة) كلام مستدرَك، بل العدالة طارئة متجددة، والأصل عدمُها، فإن خلاف العدالة مستنده جهل الإنسان وظلمه، والإنسان خلق جهولًا ظلومًا، فالمؤمن يكمل بالعلم والعدل وهما جماع الخير، وغيره يبقى على الأصل، أي: فليس الأصل في الناس العدالة ولا الغالب

(1)

.

الرابعة عشرة: إذا شك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا؟ بنى على اليقين وألغى المشكوك فيه، واستثني من هذا موضعين:

أحدهما: أن يقع الشك بعد الفراغ من الصلاة لم يلتفت إليه.

الثاني: أن يكون إمامًا فيبني على غالب ظنه.

(1)

وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ، قال أبو حيان الأندلسي رحمه الله في البحر المحيط (2/ 13):(وفي هذه الآية دلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة، وهو مذهب أبي حنيفة، واستدل بقوله: {أُمَّةً وَسَطًا}، أي: عدولًا خيارًا، وقال بقية العلماء: العدالة وصف عارض لا يثبت إلا ببينة، وقد اختار المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة ما عليه الجمهور، لتغير أحوال الناس، ولما غلب عليهم في هذا الوقت، وهذا الخلاف في غير الحدود والقصاص).

ص: 295

فأما الموضع الأول فهو مبني على قاعدة الشك في العبادة بعد الفراغ منها، فإنه لا يؤثر شيئًا، وفي الوضوء خلاف، فمن ألحقه بهذه القاعدة نظر إلى أنه قد انقضى بالفراغ منه، ومن نظر إلى بقاء حكمه وعمله، وأنه لم يفعل المقصود به، ألحقه بالشك في العبادة قبل انقطاعها والفراغ منها

(1)

.

وأما الموضع الثاني: فإنما استثني لظهور قطع الشك، والرجوع إلى الصواب بتنبيه المأموم له، فسكوتهم وإقرارهم دليل على الصواب، هذا ظاهر المذهب عند الإمام أحمد.

ومذهب الشافعي أنه يبني على اليقين مطلقًا إمامًا كان أو منفردًا، ولا يلتفت إلى قول غيره.

ومذهب مالك أنه يبني على اليقين، إلا أن يكون مستنكِحًا بالشك

(2)

فلا يلتفت إليه، ويَلهى عنه، فإن لم يمكنه أن يَلهى عنه، بنى على أوَّلِ خواطره.

ومذهب أبي حنيفة أنه إن عرض له ذلك في أول صلاته أعادها، وإن عرض له فيما بعدها بنى على اليقين.

الخامسة عشرة: إذا شك هل دخل وقت الصلاة أو لا؟ لم يصل حتى يتيقن دخوله، فإن صلى مع الشك، ثم بان له أنه صلى في الوقت فقد قالوا: إنه يعيد صلاته.

(1)

قال ابن حجر رحمه الله في الفتح (1/ 234): (ويستثنى من ذلك ما لو علم أنه بقي من العضو شيء لم يصبه الماء في المرات أو بعضها فإنه يغسل موضعه فقط، وأما مع الشك الطارئ بعد الفراغ فلا؛ لئلا يؤول به الحال إلى الوسواس المذموم).

(2)

المستنكح بالشك، مصطلح يستعمله فقهاء المالكية لمن كثر منه الشك، بأن كان يعتريه ولو مرة في اليوم.

ص: 296

وعلى هذا إذا صلى وهو يشك هل هو محدث أو متطهر، ثم تيقن أنه كان متطهرا؟ فإنه يعيدها أيضًا. وكذلك إذا صلَّى إلى جهة وشك هل هي القبلة أو غيرها، ثم تبين له أنها جهة القبلة.

وكذلك إذ شك في طهارة الثوب والبدن والمكان، فصلى فيه ثم تيقن أن ذلك كان طاهرًا، لأن الأصل هنا الطهارة، وقد تيقنه آخرًا، فتوسط الشك بين الأصل واليقين لا يؤثر بخلاف المسائل الأولى، لأن الأصل فيها عدم الشك، فالشك فيها مستند إلى أصل يوجب عليه حكمًا لم يأت به.

والذي يقتضيه أصول الشرع وقواعد الفقه في ذلك هو التفرقة بين المعذور والقادر، فالمعذور لا يجب عليه الإعادة إذا لم ينسب إلى تفريط، وقد فعل ما

أداه إليه اجتهاده وأصاب، فهو كالمجتهد المصيب.

وعلى هذا فإذا تحرى الأسير وفعل جهده وصام شهرًا يظنه رمضان، وهو يشك فيه فبان رمضان أو ما بعده، أجزأه مع كونه شاكًّا فيه

(1)

.

وكذلك المصلِّي إذا كان معذورًا محتاجًا إلى تعجيل الصلاة في أول الوقت؛ إما لسفر لا يمكنه النزول في الوقت ولا الوقوف، أو لمرض يغمى عليه فيه، أو لغير ذلك من الأعذار، فتحرى الوقت وصلى فيه مع شكِّه، ثم تبين له أنه أوقع الصلاة في الوقت، لم يجب عليه الإعادةُ.

بل الذي يقوم عليه الدليل في مسألة الأسير؛ أنه لو وافق شعبان لم يجب عليه الإعادة، وهو قول الشافعي، لأنه فعل مقدورَه ومأمورَه، والواجب على

(1)

ينظر: المغني، ابن قدامة (3/ 167)، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، المرداوي (3/ 279)، والمبدع في شرح المقنع، ابن مفلح (3/ 10)، والشرح الكبير، ابن قدامة المقدسي (7/ 351).

ص: 297

مثله صوم شهر يظنُّه من رمضان وإن لم يكُنْه، و-هذا هو- الفرق بين الواجب على القادر المتمكن والعاجز.

فإن قيل: فما تقولون في مسألة الصلاة إذا بان أنه صلاها قبل الوقت؟

قيل: الفرق بين المسألتين أن الصوم قابل لإيقاعه في غير الوقت للعذر، كالمريض أو المسافر والمرضع والحبلى، فإن هؤلاء يَسُوغ لهم تأخيره ونقله إلى زمن آخر نظرًا لمصلحتهم، ولم يُسَوِّغ لأحد منهم تأخير الصلاة عن وقتها ألبتة

(1)

.

فإن قيل: فقد يَسُوغ تأخيرها للمسافر والمريض والممطور من وقت إحداهما إلى وقت الأخرى.

قيل: ليس بتأخير من وقت إلى وقت، وإنما جعل الشارع وقت العبادتين في حقِّ المعذور وقتًا واحدًا، فهو يصلي الصلاة في وقتها المشروع الذي جعله الشارع وقتًا لها بالنسبة إلى أهل الأعذار، فهو كالنائم والناسي إذا استيقظ وذكر، فإنه يصلي الصلاة حينئذ لكون ذلك وقتها بالنسبة إليهما، وإن لم يكن وقتًا بالنسبة إلى الذاكر المستيقظ، على أن للشافعي قولين في المسألتين، والله أعلم).

(1)

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (2/ 96): (وسبقَ أن الصَّلاة قبل الوقت لا تصحُّ بالإجماع، وهل تصحُّ بعد الوقت؟ نقول: إن كان الإنسان معذورًا فإنها تصحُّ بالنصِّ والإجماع).

ص: 298

‌فهرس المصادر والمراجع

أولاً: القرآن الكريم.

ثانيًا: المصادر والمراجع الأخرى:

1 -

إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام، ابن دقيق العيد، مطبعة السنة المحمدية

2 -

الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم الظاهري، تحقيق: أحمد محمد شاكر دار الآفاق الجديدة، بيروت.

3 -

الإحكام في أصول الأحكام، أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي، المحقق: عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، لبنان.

4 -

آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، المحقق: بسام عبد الوهاب الجابي، دار الفكر - دمشق، ط 1، 1408 هـ.

5 -

الآداب للبيهقي، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، تحقيق: أبو عبد الله السعيد المندوه، مؤسسة الكتب الثقافية،

6 -

أدب الدنيا والدين، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي، دار مكتبة الحياة، 1986 م.

7 -

الأدب المفرد، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 3، 1409 هـ - 1989 م.

ص: 299

8 -

إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري، أبو العباس، شهاب الدين، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، ط 7، 1323 هـ.

9 -

إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، إشراف: زهير الشاويش، ط 2، 1405 هـ - 1985 م.

10 -

الاستذكار، ابن عبد البر، تحقيق: سالم محمد عطا، محمد علي معوض، دار الكتب العلمية، بيروت.

11 -

الاستقامة، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، المحقق: د. محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود، المدينة المنورة، ط 1، 1403 هـ.

12 -

الْأَشْبَاهُ وَالنَّظَائِرُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِيْ حَنِيْفَةَ النُّعْمَانِ، زين الدين بن إبراهيم بن محمد، المعروف بابن نجيم المصري، وضع حواشيه وخرج أحاديثه: الشيخ زكريا عميرات، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1419 هـ - 1999 م.

13 -

الأشباه والنظائر، تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1411 هـ - 1991 م.

14 -

الأشباه والنظائر، عبد الرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1411 هـ - 1990 م.

ص: 300

15 -

أصُولُ الِفقهِ الذي لا يَسَعُ الفَقِيهِ جَهلَهُ، عياض بن نامي بن عوض السلمي، دار التدمرية، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1426 هـ - 2005 م.

16 -

أصول الفقه، محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، أبو عبد الله، شمس الدين المقدسي الرامينى ثم الصالحي الحنبلي، حققه وعلق عليه وقدم له: الدكتور فهد بن محمد السَّدَحَان، مكتبة العبيكان، ط 1، 1420 هـ - 1999 م.

17 -

الأصول من علم الأصول، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، دار ابن الجوزي، طبعة عام 1426 هـ.

18 -

الاعتصام، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، دار ابن عفان، السعودية، ط 1، 1412 هـ - 1992 م.

19 -

إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد عبد السلام، دار الكتب العلمية، بيروت 1411 هـ.

20 -

اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، المحقق: ناصر عبد الكريم العقل، دار عالم الكتب، بيروت، لبنان، ط 6، 1419 هـ - 1999 م.

21 -

الأم، الشافعي، دار المعرفة، بيروت 1410 هـ.

ص: 301

22 -

الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد، علاء الدين علي بن سليمان المرداوي الحنبلي، تحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.

23 -

أيام من حياة الشيخ محمد بن صالح الشاوي، إعداد الشيخ صالح بن محمد الشاوي، مخطوط لم يطبع.

24 -

إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار، صالح بن محمد بن نوح بن عبد الله العَمْري المعروف بالفُلَّاني المالكي، دار المعرفة، بيروت.

25 -

البحر المحيط في أصول الفقه، بدر الدين الزركشي، دار الكتبي، 1414 هـ.

26 -

البحر المحيط في التفسير، أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي، المحقق: صدقي محمد جميل، دار الفكر، بيروت، 1420 هـ.

27 -

البداية والنهاية، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقيق: الدكتور أحمد أبو ملحم، والدكتور علي نجيب عطوي، والأستاذ فؤاد السيد، والأستاذ مهدي ناصر الدين، والأستاذ علي عبد الساتر، مصر، القاهرة، دار الريان، ط 1، 1408 هـ - 1988 م.

28 -

بدائع الفوائد، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

29 -

بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار، أبو

ص: 302

عبد الله، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط 4، 1423 هـ.

30 -

تاج العروس من جواهر القاموس، أبو الفيض، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني، الملقّب بمرتضى الزَّبيدي، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج وآخرين، الكويت، وزارة الإعلام، 1984 م.

31 -

التاج والإكليل لمختصر خليل، محمد بن يوسف بن أبي القاسم بن يوسف العبدري الغرناطي، أبو عبد الله المواق المالكي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1416 هـ-1994 م

32 -

تاريخ أصبهان = أخبار أصبهان، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني، المحقق: سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410 هـ - 1990 م.

33 -

تاريخ دمشق، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر، المحقق: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عام النشر: 1415 هـ - 1995 م.

34 -

تاريخ مدينة دمشق، علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الشافعي، دار الفكر، ط 1، 1419 هـ.

35 -

التبصرة، علي بن محمد الربعي، أبو الحسن، المعروف باللخمي، دراسة وتحقيق: الدكتور أحمد عبد الكريم نجيب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط 1، 1432 هـ - 2011 م.

ص: 303

36 -

التحبير شرح التحرير في أصول الفقه، علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي الدمشقي الصالحي الحنبلي، المحقق: د. عبد الرحمن الجبرين، د. عوض القرني، د. أحمد السراح، مكتبة الرشد، السعودية، الرياض، ط 1، 1421 هـ - 2000 م.

37 -

التَّحبير لإيضَاح مَعَاني التَّيسير، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير، حققه: محَمَّد صُبْحي بن حَسَن حَلّاق أبو مصعب، مَكتَبَةُ الرُّشد، الرياض، السعودية، ط 1، 1433 هـ - 2012 م.

38 -

التحرير شرح الدليل (شرح دليل الطالب)، كتاب الطهارة، أبو المنذر محمود بن محمد بن مصطفى بن عبد اللطيف المنياوي، المكتبة الشاملة، مصر، ط 1، 1432 هـ - 2011 م.

39 -

تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، أبو العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفورى، دار الكتب العلمية، بيروت.

40 -

تراجم علماء الشاوي، محمد بن صالح الشاوي، مخطوط لم يطبع.

41 -

تشنيف المسامع بجمع الجوامع لتاج الدين السبكي، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي الشافعي، دراسة وتحقيق: د سيد عبد العزيز، د عبد الله ربيع، المدرسان بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر، مكتبة قرطبة للبحث العلمي وإحياء التراث، توزيع المكتبة المكية، ط 1، 1418 هـ - 1998 م.

42 -

تصحيح الفصيح وشرحه، أَبُو محمد، عبد الله بن جعفر بن محمد بن

ص: 304

دُرُسْتَوَيْه ابن المرزبان، المحقق: د. محمد بدوي المختون، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1419 هـ - 1998 م.

43 -

التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني، تحقيق وضبط وتصحيح: جماعة من العلماء بإشراف الناشر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1403 هـ -1983 م.

44 -

تفسير ابن أبي حاتم = تفسير القرآن العظيم، ابن أبي حاتم، تحقيق: د. أحمد عبد الله العماري الزهراني، والدكتور حكمت بشير ياسين، مكتبة الدار بالمدينة المنورة، ودار طيبة بالرياض، ودار ابن القيم بالدمام، ط 1، 1419 هـ - 1997 م.

45 -

تفسير ابن عطية: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي، المحقق: عبد السلام عبد الشافي محمد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1422 هـ.

46 -

تفسير ابن كثير = تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط 2، 1420 هـ - 1999 م.

47 -

تفسير البغوي = معالم التنزيل في تفسير القرآن، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، المحقق: حققه وخرج أحاديثه محمد عبد الله النمر، عثمان جمعة ضميرية، سليمان مسلم الحرش، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط 4، 1417 هـ - 1997 م.

ص: 305

48 -

تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي، المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1420 هـ -2000 م.

49 -

تفسير الطبري = جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات الإسلامية بدار هجر الدكتور عبد السند حسن يمامة، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، ط 1، 1422 هـ - 2001 م.

50 -

تفسير الفاتحة والبقرة، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1423 هـ.

51 -

تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط 2، 1384 هـ - 1964 م.

52 -

تفسير المنار، محمد رشيد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1990 م.

53 -

التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، د وهبة بن مصطفى الزحيلي، دار الفكر المعاصر، دمشق، ط 2، 1418 هـ.

54 -

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، مصطفى بن أحمد

ص: 306

العلوي محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 1387 هـ.

55 -

التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة، أبو عبد الله، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي، دار طيبة، الرياض، ط 1، 1414 هـ.

56 -

التَّنويرُ شَرْحُ الجَامِع الصَّغِيرِ، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير، تحقيق: د. محمَّد إسحاق محمَّد إبراهيم، مكتبة دار السلام، الرياض، ط 1، 1432 هـ - 2011 م.

57 -

تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور، المحقق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 2001 م.

58 -

التهذيب في اختصار المدونة، خلف بن أبي القاسم محمد، الأزدي القيرواني، أبو سعيد ابن البراذعي المالكي، دراسة وتحقيق: الدكتور محمد الأمين ولد محمد سالم بن الشيخ، دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبي، ط 1، 1423 هـ - 2002 م.

59 -

التوضيح لشرح الجامع الصحيح، ابن الملقن سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن أحمد الشافعي المصري، تحقيق: دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، دار النوادر، دمشق، سوريا، ط 1، 1429 هـ - 2008 م.

ص: 307

60 -

تيسير العلام شرح عمدة الأحكام، أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح بن حمد بن محمد بن حمد البسام، حققه: محمد صبحي بن حسن حلاق، مكتبة الصحابة، الأمارات، مكتبة التابعين، القاهرة، ط 10، 1426 هـ - 2006 م.

61 -

تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، أبو عبد الله، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1422 هـ.

62 -

جامع الأمهات، عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو جمال الدين ابن الحاجب الكردي المالكي، المحقق: أبو عبد الرحمن الأخضر الأخضري، اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع، ط 2، 1421 هـ - 2000 م.

63 -

جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، المحقق: شعيب الأرناؤوط، إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 7، 1422 هـ - 2001 م.

64 -

جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر، تحقيق: أبو الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، الدمام، 1414 هـ.

65 -

الجامع لعلوم الإمام أحمد، أبو عبد الله أحمد بن حنبل، بمشاركة الباحثين بدار الفلاح، دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، الفيوم، جمهورية مصر العربية، ط 1، 1430 هـ - 2009 م.

ص: 308

66 -

جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية، أبو عبد الله شمس الدين بن محمد بن أشرف بن قيصر الأفغاني، دار الصميعي، أصل هذا الكتاب رسالة دكتوراة من الجامعة الإسلامية، ط 1، 1416 هـ - 1996 م.

67 -

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، تحقيق: علي بن حسن، عبد العزيز بن إبراهيم، حمدان بن محمد، دار العاصمة، السعودية، ط 2، 1419 هـ - 1999 م.

68 -

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني، السعادة، بجوار محافظة مصر، 1394 هـ - 1974 م، ثم صورتها عدة دور منها:

1 -

دار الكتاب العربي، بيروت.

2 -

دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت.

3 -

دار الكتب العلمية، بيروت (طبعة 1409 هـ بدون تحقيق).

69 -

حياة الحيوان الكبرى، محمد بن موسى بن عيسى بن علي الدميري، أبو البقاء، كمال الدين الشافعي دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1424 هـ.

70 -

درر الحكام في شرح مجلة الأحكام، علي حيدر خواجه أمين أفندي، تعريب: فهمي الحسيني، دار الجيل، ط 1، 1411 هـ - 1991 م.

71 -

ذم الكلام وأهله، أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي، تحقيق: عبد الرحمن عبد العزيز الشبل، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 1، 1418 هـ -1998 م.

ص: 309

72 -

رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة، أبو عبد الله، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد آل سعدي، قيدها واعتنى بأصلها: أبو الحارث نادر بن سعيد آل مبارك التعمري، راجعها وقدم لها: الشيخ مشهور حسن آل سلمان، الشيخ سليم بن عيد الهلالي، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1، 1418 هـ - 1997 م.

73 -

الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة، محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، دار الكتب العلمية، بيروت، 1395 هـ - 1975 م.

74 -

زاد المسير في علم التفسير، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المحقق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1422 هـ.

75 -

زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي، مؤسسة الرسالة، ط 8، 1405 هـ.

76 -

سبل السلام، محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، أبو إبراهيم، عز الدين، المعروف كأسلافه بالأمير، دار الحديث.

77 -

سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1.

78 -

سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، أبو

ص: 310

عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الممكلة العربية السعودية، ط 1، 1412 هـ - 1992 م.

79 -

السنة، أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخَلَّال البغدادي الحنبلي، المحقق: د. عطية الزهراني، دار الراية، الرياض، ط 1، 1410 هـ - 1989 م.

80 -

السنة، أبو بكر بن أبي عاصم وهو أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني، المحقق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1400 هـ.

81 -

السنة، أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، المحقق: د. محمد بن سعيد بن سالم القحطاني، دار ابن القيم، الدمام، ط 1، 1406 هـ - 1986 م.

82 -

السنة، أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج المَرْوَزِي، المحقق: سالم أحمد السلفي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط 1، 1408 هـ.

83 -

سنن ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه يزيد، المحقق: شعيب الأرنؤوط، عادل مرشد، محمَّد كامل قره بللي، عبد اللّطيف حرز الله، دار الرسالة العالمية، ط 1، 1430 هـ - 2009 م.

84 -

سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني، المحقق: شعَيب الأرنؤوط، محَمَّد كامِل قره بللي، دار الرسالة العالمية، ط 1، 1430 هـ - 2009 م.

ص: 311

85 -

سنن الترمذي = الجامع الصحيح محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر ج 1، 2، ومحمد فؤاد عبد الباقي ج 3، وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف ج 4، 5، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط 2، 1395 هـ - 1975 م.

86 -

سنن الدارقطني، أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان بن دينار البغدادي الدارقطني، حققه وضبط نصه وعلق عليه: شعيب الارنؤوط، حسن عبد المنعم شلبي، عبد اللطيف حرز الله، أحمد برهوم، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط 1، 1424 هـ - 2004 م.

87 -

سنن الدارمي، للإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدرامي السمرقندي، تحقيق فواز أحمد زمرلي وخالد السَّبع العليمي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأولى، 1407 هـ - 1987 م.

88 -

السنن الصغير للبيهقي، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، المحقق: عبد المعطي أمين قلعجي، دار النشر: جامعة الدراسات الإسلامية، كراتشي باكستان، ط 1، 1410 هـ - 1989 م.

89 -

السنن الكبرى، أبو بكر أحمد بن الحُسَين بن عليٍّ البيهقي، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية (الدكتور عبد السند حسن يمامة)، ط 1، 1432 هـ - 2011 م.

ص: 312

90 -

السنن الكبرى، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني النسائي، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي، إشراف: شعيب الأرناؤوط، تقديم: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2001 م.

91 -

سنن النسائي = المجتبى من السنن، للإمام المحدث أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن سنان الخراساني النسائي، تحقيق: مكتب التراث الإسلامي، دار المعرفة، بيروت، ط 2، 1412 هـ - 1992 م.

92 -

سنن سعيد بن منصور، تحقيق: الدكتور سعد بن عبد الله الحميد، دار الصميعي، الرياض، ط 1، 1414 هـ - 1993 م.

93 -

سير أعلام النبلاء، الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 9، 1413 هـ - 1993 م.

94 -

الشَّافِي فيْ شَرْح مُسْنَد الشَّافِعي لابْنِ الأثِيرْ، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير، المحقق: أحمد بن سليمان، أبي تميم يَاسر بن إبراهيم، مَكتَبةَ الرُّشْدِ، الرياض، ط 1، 1426 هـ - 2005 م.

95 -

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم، أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي، تحقيق: الدكتور أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي، دار طيبة، ط 4، 1423 هـ.

ص: 313

96 -

شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة النبوية، تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، المعروف بابن دقيق العيد، مؤسسة الريان، ط 6، 1424 هـ - 2003 م.

97 -

شرح الأربعين النووية، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، دار الثريا للنشر.

98 -

شرح الأصول الستة، خالد بن عبد الله بن محمد المصلح، مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، الكتاب مرقم آليا، رقم الجزء هو رقم الدرس، 6 دروس. www.islamweb.net.

99 -

شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المصري الأزهري، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ط 1، 1424 هـ - 2003 م.

100 -

شرح الزركشي على مختصر الخرقي، لشمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي المصري الحنبلي، تحقيق العلامة عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، دار أولي النهى، ط 2، 1414 هـ - 1993 م.

101 -

شرح السنة، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، محمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، دمشق، بيروت، ط 2، 1403 هـ - 1983 م.

102 -

شرح العمدة في الفقه، كتاب الطهارة، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية

ص: 314

الحراني الحنبلي الدمشقي، المحقق: د. سعود بن صالح العطيشان، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 1، 1412 هـ.

103 -

شرح القواعد السعدية، عبد المحسن بن عبد الله بن عبد الكريم الزامل، اعتنى بها وخرج أحاديثها: عبد الرحمن بن سليمان العبيد، أيمن بن سعود العنقري، دار أطلس الخضراء للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1422 هـ - 2001 م.

104 -

شرح القواعد الفقهية للسعدي لفضيلة الشيخ أحمد بن حمد بن عبد العزيز الونيس، بحث منشور في موقع جامع شيخ الإسلام ابن تيمية. index.taimiah.org

105 -

شرح القواعد الفقهية، أحمد بن الشيخ محمد الزرقا، صححه وعلق عليه: مصطفى أحمد الزرقا، دار القلم، دمشق، سوريا، ط 2، 1409 هـ - 1989 م.

106 -

شرح القواعد الفقهية، الشيخ خالد المشيقح، على شبكة الإنترنت. www.moswarat.com

107 -

الشرح الكبير على المقنع، شمس الدين عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، دار الهجرة، القاهرة، ط 1، 1415 هـ - 1995 م.

108 -

الشرح الكبير لمختصر الأصول من علم الأصول، أبو المنذر محمود بن محمد بن مصطفى بن عبد اللطيف المنياوي، المكتبة الشاملة، مصر، ط 1، 1432 هـ - 2011 م.

109 -

الشرح الممتع على زاد المستقنع، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، دار ابن الجوزي، ط 1، 1422 - 1428 هـ.

ص: 315

110 -

شرح الموطأ، مؤلف الأصل: مالك بن أنس الأصبحي المدني، الشارح: عبد الكريم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن حمد الخضير، دروس مفرغة من موقع الشيخ الخضير، الكتاب مرقم آليا، رقم الجزء هو رقم الدرس، 187 درسًا.

111 -

شرح النووي على مسلم = المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1392 هـ.

112 -

شرح النووي على مسلم = المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، يحي بن شرف بن مري النووي، طبعة بيت الأفكار.

113 -

شرح الورقات في أصول الفقه، جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم المحلي الشافعي، قدَّم له وحققه وعلَّق عليه: الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة، صف وتنسيق: حذيفة بن حسام الدين عفانة، جامعة القدس، فلسطين، ط 1، 1420 هـ - 1999 م.

114 -

شرح سنن أبي داود، عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمد العباد البدر، مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، الكتاب مرقم آليا، رقم الجزء هو رقم الدرس، 598 درسًا. www.islamweb.net.

115 -

شرح مختصر الروضة، سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي، الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين، المحقق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1407 هـ - 1987 م.

ص: 316

116 -

شرح مشكل الآثار، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي الحجري المصري المعروف بالطحاوي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1415 هـ، 1494 م.

117 -

الشريعة، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي، المحقق: الدكتور عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، دار الوطن، الرياض، السعودية، ط 2، 1420 هـ - 1999 م.

118 -

شعب الإيمان، أحمد بن الحسين بن علي بن موسى الخُسْرَوْجِردي الخراساني، أبو بكر البيهقي، تحقيق: الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، وإشراف: مختار أحمد الندوي، صاحب الدار السلفية ببومباي، الهند، مكتبة الرشد، الرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند، ط 1، 1423 هـ - 2003 م.

119 -

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1407 هـ - 1987 م.

120 -

صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي، المحقق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1414 هـ - 1993 م.

121 -

صحيح ابن خزيمة، محمد بن إسحاق بن خزيمة أبو بكر السلمي النيسابوري، تحقيق: الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، 1400 هـ.

ص: 317

122 -

صحيح أبي داود، أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين، بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني، مؤسسة غراس، الكويت، ط 1، 1423 هـ - 2002 م.

123 -

صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، دار الصديق، ط 4، 1418 هـ - 1997 م.

124 -

صحيح البخاري = الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ط 1، 1422 هـ.

125 -

صحيح الترغيب والترهيب، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط 5، 1421 هـ.

126 -

صحيح الجامع الصغير وزيادته = الفتح الكبير، محمد ناصر الدين الألباني، إشراف زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1408 هـ - 1988 م.

127 -

صحيح مسلم = المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

ص: 318

128 -

صحيح وضعيف سنن ابن ماجة، محمد ناصر الدين الألباني، مصدر برنامج منظومة التحقيقات الحديثية، المجاني، من إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية.

129 -

صحيح وضعيف سنن أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني، مصدر الكتاب: برنامج منظومة التحقيقات الحديثية، المجاني، من إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية.

130 -

صحيح وضعيف سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، مصدر برنامج منظومة التحقيقات الحديثية، المجاني، من إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية.

131 -

صحيح وضعيف سنن النسائي، محمد ناصر الدين الألباني، مصدر الكتاب: برنامج منظومة التحقيقات الحديثية، المجاني، من إنتاج مركز نور الإسلام لأبحاث القرآن والسنة بالإسكندرية.

132 -

ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية، أبو عبد الرحمن عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم، دار المنار للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1414 هـ.

133 -

ضعيف الترغيب والترهيب، محمد ناصر الدّين الألباني، مكتَبة المَعارف لِلنَشْرِ والتوزيْع، الرياض، السعودية، ط 1، 1421 هـ - 2000 م

134 -

ضعيف الجامع الصغير وزيادته، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1410 هـ - 1990 م.

135 -

ضعيف سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، إشراف: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1410 هـ - 1991 م.

ص: 319

136 -

طبقات الحنابلة، أبو الحسين ابن أبي يعلى، محمد بن محمد، المحقق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت.

137 -

الطبقات الكبرى، أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الهاشمي بالولاء، البصري، البغدادي المعروف بابن سعد، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1410 هـ - 1990 م.

138 -

طرح التثريب في شرح التقريب (المقصود بالتقريب: تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد)، أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي، وأكمله ابنه: أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين الكردي الرازياني ثم المصري، أبو زرعة ولي الدين، ابن العراقي، الطبعة المصرية القديمة، وصورتها دور عدة منها (دار إحياء التراث العربي، ومؤسسة التاريخ العربي، ودار الفكر العربي).

139 -

الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، المحقق: نايف بن أحمد الحمد، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1428 هـ.

140 -

العدة شرح العمدة، عبد الرحمن بن إبراهيم بن أحمد، أبو محمد بهاء الدين المقدسي، دار الحديث، القاهرة، بدون طبعة، 1424 هـ - 2003 م.

141 -

عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، أبو محمد جلال الدين عبد الله بن نجم بن شاس بن نزار الجذامي السعدي المالكي، دراسة وتحقيق: أ. د. حميد بن محمد لحمر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، ط 1، 1423 هـ - 2003 م.

ص: 320

142 -

علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف، مكتبة الدعوة، شباب الأزهر، عن الطبعة الثامنة لدار القلم.

143 -

علماء البُكَيْريَّة خلال ثلاثة قرون، أ. د عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الفريح، عضو هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مكتبة العبيكان، السعودية، الرياض، ط 1، 1440 هـ - 2019 م.

144 -

العناية شرح الهداية، محمد بن محمد بن محمود، أكمل الدين أبو عبد الله ابن الشيخ شمس الدين ابن الشيخ جمال الدين الرومي البابرتي، دار الفكر.

145 -

عون المعبود شرح سنن أبي داود، ومعه حاشية ابن القيم: تهذيب سنن أبي داود وإيضاح علله ومشكلاته، محمد أشرف بن أمير بن علي بن حيدر، أبو عبد الرحمن، شرف الحق، الصديقي، العظيم آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1415 هـ

146 -

عيار الشعر، محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم طباطبا، الحسني العلوي، أبو الحسن، تحقيق: عبد العزيز بن ناصر المانع، مكتبة الخانجي، القاهرة.

147 -

العين، أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.

148 -

غريب الحديث، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المحقق: د. عبد الله الجبوري، مطبعة العاني، بغداد، ط 1، 1397 هـ.

149 -

غريب الحديث، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد

ص: 321

الجوزي، تحقيق: الدكتور عبد المعطي أمين القلعجي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1405 هـ - 1985 م.

150 -

غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر، أحمد بن محمد مكي، أبو العباس، شهاب الدين الحسيني الحموي الحنفي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1405 هـ - 1985 م.

151 -

الغيث الهامع شرح جمع الجوامع، ولي الدين أبي زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي، المحقق: محمد تامر حجازي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1425 هـ - 2004 م.

152 -

الفتاوى الكبرى، ابن تيمية تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشق، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط 1، 1408 هـ - 1987 م.

153 -

فتاوى نور على الدرب، ابن عثيمين، على موقع الشيخ الرسمي على الشبكة العنكبوتية. www.ibnothaimeen.com

154 -

فتاوى نور على الدرب، عبد العزيز بن عبد الله بن باز، جمعها: الدكتور محمد بن سعد الشويعر، قدم لها: عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ.

155 -

فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، محب الدين الخطيب، وعلق على أجزائه الثالث الأولى: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، المعرفة، بيروت، 1379 هـ.

ص: 322

156 -

فتح الباري شرح صحيح البخاري، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، تحقيق: محمود بن شعبان بن عبد المقصود، مجدي بن عبد الخالق الشافعي، إبراهيم بن إسماعيل القاضي، السيد عزت المرسي، محمد بن عوض المنقوش، صلاح بن سالم المصراتي، علاء بن مصطفى بن همام، صبري بن عبد الخالق الشافعي، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة النبوية، الحقوق: مكتب تحقيق دار الحرمين - القاهرة، ط 1، 1417 هـ - 1996 م.

157 -

فتح القدير، كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بابن الهمام، دار الفكر.

158 -

فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام، محمد بن صالح العثيمين، تحقيق وتعليق: صبحي بن محمد رمضان، أم إسراء بنت عرفة بيومي، المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع، ط 1، 1427 هـ - 2006 م.

159 -

الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي، عالم الكتب.

160 -

الفقيه والمتفقه، الخطيب البغدادي، تحقيق: عادل عزازي، دار ابن الجوزي، الدمام، 1421 هـ.

161 -

الفوائد في اختصار المقاصد، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، الملقب بسلطان العلماء، المحقق: إياد خالد الطباع، دار الفكر المعاصر، دار الفكر، دمشق، ط 1، 1416 هـ.

ص: 323

162 -

فيض القدير في شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف بن تاج العارفين بن نورالدين علي بن زين العابدين الحدادي المناوي القاهري الشافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1415 هـ - 1994 م.

163 -

قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، المحقق: ربيع بن هادي عمير المدخلي، مكتبة الفرقان، عجمان، ط 1، (لمكتبة الفرقان) 1422 هـ - 2001 هـ.

164 -

القاموس المحيط، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، تحقيق: مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة، محمد نعيم العرقسُوسي، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط 8، 1426 هـ - 2005 م.

165 -

قواعد ابن رجب = تقرير القواعد وتحرير الفوائد، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1419 هـ

166 -

قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، الملقب بسلطان العلماء، راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، (وصورتها دور عدة مثل: دار الكتب العلمية، بيروت، ودار أم القرى، القاهرة)، طبعة: جديدة مضبوطة منقحة، 1414 هـ - 1991 م.

ص: 324

167 -

القواعد الأصولية والفقهية المتعلقة بالمسلم غير المجتهد، الدكتو سعد بن ناصر بن عبد العزيز الشثري، دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط 2، 1432 هـ - 2011 م.

168 -

القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، د. محمد مصطفى الزحيلي، عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة الشارقة، دار الفكر، دمشق، ط 1، 1427 هـ - 2006 م.

169 -

القواعد النورانية الفقهية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، حققه وخرج أحاديثه: د أحمد بن محمد الخليل، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1422 هـ.

170 -

القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1423 هـ - 2003 م.

171 -

القواعد والفوائد الأصولية ومايتبعها من الأحكام الفرعية، ابن اللحام، علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي، الدمشقي الحنبلي، المحقق: عبد الكريم الفضيلي، المكتبة العصرية، الطبعة: 1420 هـ - 1999 م.

172 -

الكافي في فقه الإمام أحمد، أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1414 هـ - 1994 م.

ص: 325

173 -

الكافي في فقه أهل المدينة، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، تحقيق: محمد محمد أحيد ولد ماديك الموريتاني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط 2، 1400 هـ - 1980 م.

174 -

الكامل في ضعفاء الرجال، أبي أحمد ابن عدي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، علي معوض، دار الكتب العلمية بيروت 1418 هـ.

175 -

كشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس بن صلاح الدين ابن حسن بن إدريس البهوتى الحنبلى، دار الكتب العلمية.

176 -

كشف اللثام شرح عمدة الأحكام، شمس الدين، أبو العون محمد بن أحمد بن سالم السفاريني الحنبلي، تحقيق: نور الدين طالب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، دار النوادر، سوريا، ط 1، 1428 هـ - 2007 م.

177 -

كشف المشكل من حديث الصحيحين، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، المحقق: علي حسين البواب، دار الوطن، الرياض.

178 -

الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي، تحقيق: عدنان درويش، محمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت.

179 -

الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، محمد بن يوسف بن علي بن سعيد، شمس الدين الكرماني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 1، 1356 هـ - 1937 م، ط 2، 1401 هـ - 1981 م.

ص: 326

180 -

الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم = الكوكب الوهَّاج والرَّوض البَهَّاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، جمع وتأليف: محمد الأمين بن عبد الله الأُرَمي العَلَوي الهَرَري الشافعي، نزيل مكة المكرمة والمجاور بها، مراجعة: لجنة من العلماء برئاسة البرفسور هاشم محمد علي مهدي، المستشار برابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، دار المنهاج، دار طوق النجاة، ط 1، 1430 هـ - 2009 م.

181 -

اللباب في علوم الكتاب، أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1419 هـ -1998 م.

182 -

لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي الأمازيغي المصري، تحقيق: عبد الله علي الكبير، وأحمد حسب الله، وهاشم الشاذلي، القاهرة، دار الكتاب المصري، لبنان، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1989 م.

183 -

المبادئ الفقهية، أبي الوفاء محمد درويش، اعتنى بنشرها رمزي سعد الدين دمشقية، دار البشائر الإسلامية، ط 2، 1416 هـ - 1995 م.

184 -

المبدع في شرح المقنع، إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن مفلح، أبو إسحاق، برهان الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1418 هـ - 1997 م.

185 -

متن الخرقى على مذهب ابي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني، أبو

ص: 327

القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي، دار الصحابة للتراث، 1413 هـ - 1993 م.

186 -

مجالات إعمال العرف، د. وليد بن علي الحسين، وكيل كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم، والأستاذ المشارك بقسم أصول القه. والكتاب موجود على شبكة الإنترنت.

187 -

مجموع الفتاوى، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، السعودية، 1416 هـ - 1995 م.

188 -

مجموعة الفوائد البهية على منظومة القواعد الفقهية، أبو مُحمَّدٍ، صالحُ بنُ مُحمَّدٍ بنِ حسنٍ آلُ عُمَيِّرٍ، الأسمريُّ، القحْطانيُّ، اعتنى بإخراجها: متعب بن مسعود الجعيد، دار الصميعي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1420 هـ - 2000 م.

189 -

المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، إعداد مركز صالح بن صالح الثقافي بعنيزة، ط 1، 1411 هـ - 1990 م.

190 -

المحكم والمحيط الأعظم، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2000 م.

191 -

المحلى بالآثار، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري دار الفكر، بيروت، الطبعة: بدون طبعة وبدون تاريخ.

ص: 328

192 -

المحيط البرهاني في الفقه النعماني فقه الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، أبو المعالي برهان الدين محمود بن أحمد بن عبد العزيز بن عمر بن مَازَةَ البخاري الحنفي، المحقق: عبد الكريم سامي الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1424 هـ - 2004 م.

193 -

مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، تحقيق: محمود خاطر، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1415 هـ - 1995 هـ.

194 -

مختصر التحرير شرح الكوكب المنير، تقي الدين أبو البقاء محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن علي الفتوحي المعروف بابن النجار الحنبلي، المحقق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكتبة العبيكان، ط 2، 1418 هـ - 1997 م.

195 -

مختصر المزني، (مطبوع ملحقًا بالأم للشافعي)، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل، أبو إبراهيم المزني، دار المعرفة، بيروت، 1410 هـ - 1990 م.

196 -

مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول، أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة، المحقق: صلاح الدين مقبول أحمد، مكتبة الصحوة الإسلامية، الكويت، سنة النشر: 1403 هـ.

197 -

مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الانصاري الرويفعى الإفريقى، تحقيق: روحية النحاس، رياض عبد الحميد مراد، محمد مطيع، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، دمشق، سوريا، ط 1، 1402 هـ - 1984 م.

ص: 329

198 -

المختصر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ابن اللحام، علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي الدمشقي الحنبلي، المحقق: د. محمد مظهر بقا، جامعة الملك عبد العزيز، مكة المكرمة.

199 -

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي لبنان، بيروت، دار الكتاب العربي، ط 2، 1393 هـ - 1973 م.

200 -

المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب، بكر بن عبد الله أبو زيد بن محمد بن عبد الله بن بكر بن عثمان بن يحيى بن غيهب بن محمد، دار العاصمة، مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي بجدة، ط 1، 1417 هـ.

201 -

المدخل إلى السنن، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، اعتنى به وخرَّجَ نقُولَه: محمد عوامة، دار اليسر للنشر والتوزيع، القاهرة، جمهورية مصر العربية، دار المنهاج للنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط 1، 1437 هـ - 2017 م.

202 -

المدخل إلى دراسة المذاهب الفقهية، علي جمعة محمد عبد الوهاب، دار السلام، القاهرة، الطبعة: الثانية 1422 هـ - 2001 م.

203 -

المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، عبد القادر بن أحمد بن مصطفى بن عبد الرحيم بن محمد بدران، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 2، 1401 هـ.

ص: 330

204 -

المدخل، أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج، دار التراث، بدون طبعة وبدون تاريخ.

205 -

مذكرة في أصول الفقه، محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 5، 2001 م.

206 -

مساجد البُكَيْريَّة تاريخها وأئمتها، أ. د عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الفريح، عضو هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مكتبة العبيكان، السعودية، الرياض، ط 1، 1440 هـ - 2019 م.

207 -

مساوئ الأخلاق ومذمومها، أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد بن سهل بن شاكر الخرائطي السامري، حققه وخرج نصوصه وعلق عليه: مصطفى بن أبو النصر الشلبي، مكتبة السوادي للتوزيع، جدة، ط 1، 1413 هـ - 1993 م.

208 -

مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، إسحاق بن منصور بن بهرام، أبو يعقوب المروزي، المعروف بالكوسج، عمادة البحث العلمي، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1425 هـ - 2002 م.

209 -

المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين، القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف المعروف بابن الفراء، تحقيق: د. عبد الكريم بن محمد اللاحم، مكتبة المعارف، الرياض، ط 1، 1405 هـ - 1985 م.

ص: 331

210 -

مستدرك الحاكم = المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1411 هـ - 1990 م.

211 -

المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، جمعه ورتبه وطبعه على نفقته: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، ط 1، 1418 هـ.

212 -

مسند أبي يعلى، أبو يعلى أحمد بن علي بن المثُنى بن يحيى بن عيسى بن هلال التميمي، الموصلي، المحقق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، ط 1، 1404 هـ - 1984 م.

213 -

مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، المحقق: شعيب الأرنؤوط، عادل مرشد، وآخرون، إشراف: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1421 هـ - 2001 م.

214 -

مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، المحقق: أحمد محمد شاكر، دار الحديث، القاهرة، ط 1، 1416 هـ - 1995 م.

215 -

مسند البزار = البحر الزخار، أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق بن خلاد بن عبيد الله العتكي المعروف بالبزار، المحقق: محفوظ الرحمن زين الله، وعادل بن سعد، وصبري عبد الخالق الشافعي، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط 1، 2009 م.

ص: 332

216 -

مسند الشاميين، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني، المحقق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1405 - 1984 م.

217 -

المسند، الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبد المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي المكي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، صححت هذه النسخة على النسخة المطبوعة في مطبعة بولاق الأميرية والنسخة المطبوعة في بلاد الهند، 1400 هـ.

218 -

مشكل الحديث وبيانه، محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، أبو بكر، المحقق: موسى محمد علي، عالم الكتب، بيروت، ط 2، 1985 م.

219 -

مصنف ابن أبي شيبة = المصنف في الأحاديث والآثار، أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفي، تحقيق: محمد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1416 هـ - 1995 م.

220 -

مصنف عبد الرزاق، أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وملحق به الجامع، لمعمر بن راشد في آخر المجلد العاشر والحادي عشر، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1403 هـ.

221 -

معالم السنن، شرح سنن أبي داود، أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي المعروف بالخطابي، المطبعة العلمية، حلب، ط 1، 1351 هـ - 1932 م.

222 -

المعجم الأوسط، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير

ص: 333

اللَّخمي الشامي الطبراني، تحقيق: طارق عوض الله، وعبد المحسن الحسيني، دار الحرمين، القاهرة، 1415 هـ - 1995 م.

223 -

معجم الشيوخ، ثقة الدين، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر، المحقق: الدكتورة وفاء تقي الدين، دار البشائر، دمشق، ط 1، 1421 هـ - 2000 م.

224 -

المعجم الصغير = الروض الداني، سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني، المحقق: محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي، دار عمار، بيروت، ط 1، 1405 هـ - 1985 م.

225 -

معجم الفروق اللغوية، ابي هلال العسكري، تحقيق مؤسسة النشر الاسلامي، ط 1، شوال المكرم 1412 هـ.

226 -

المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللَّخمي الشامي الطبراني، مكتبة العلوم والحكمة، ط 2، 1404 هـ.

227 -

معجم اللغة العربية المعاصرة، د أحمد مختار عبد الحميد عمر، بمساعدة فريق عمل، عالم الكتب، ط 1، 1429 هـ - 2008 م.

228 -

المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى، وأحمد الزيات، وحامد عبد القادر، ومحمد النجار، تحقيق: مجمع اللغة العربية، دار الدعوة، القاهرة، ط 3، 1405 هـ - 1985 م.

229 -

معجم متن اللغة (موسوعة لغوية حديثة)، أحمد رضا (عضو المجمع العلمي العربي بدمشق)، دار مكتبة الحياة، بيروت.

ص: 334

230 -

معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، الشهير بابن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399 هـ - 1979 م.

231 -

معرفة السنن والآثار، للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي، دار الوعي، حلب والقاهرة، ودار قتيبة، دمشق وبيروت.

232 -

المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1405 هـ.

233 -

مفتاح دار السعادة، ومنشور ولاية العلم والإرادة، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية، المحقق: عبد الرحمن بن حسن بن قائد وفق المنهج المعتمد من بكر بن عبد الله أبو زيد، راجعه: مُحَمَّدْ أَجْمَل الإصْلاحِي، سليمان بن عبد الله العمير، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، ط 1، 1432 هـ.

234 -

المقصور والممدود، أبو علي القالي إسماعيل بن القاسم، المحقق: د. أحمد عبد المجيد هريدي (أبو نهلة)، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 1، 1419 هـ - 1999 م.

235 -

مناقب الشافعي، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، المحقق: السيد أحمد صقر، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط 1، 1390 هـ - 1970 م.

236 -

المنتقى شرح الموطإ، أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي، مطبعة السعادة، القاهرة، ط 1، 1332 هـ.

ص: 335

237 -

المنتقى من السنن المسندة، أبو محمد عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري المجاور بمكة، المحقق: عبد الله عمر البارودي، مؤسسة الكتاب الثقافية، بيروت، ط 1، 1408 هـ - 1988 م.

238 -

المنثور في القواعد الفقهية، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، وزارة الأوقاف الكويتية، ط 2، 1405 هـ - 1985 م.

239 -

منظومة القواعد الفقهية كاملة، مع تعليقات الشيخ السعدي عليها، تأليف: الشيخ العلامة، عبد الرحمن بن ناصر عبد الله السعدي.

240 -

منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، المحقق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط 1، 1406 هـ - 1986 م.

241 -

منهج التشريع الإسلامي وحكمته، ضمن المحاضرات المطبوعة ب (آثار الشنقيطي)، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية، ط 1، 1426 هـ.

242 -

الموافقات، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، ط 1، 1417 هـ - 1997 م.

243 -

مُوْسُوعَة القَواعِدُ الفِقْهِيَّة، محمد صدقي بن أحمد بن محمد آل بورنو أبو الحارث الغزي، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، ط 1، 1424 هـ - 2003 م.

ص: 336

244 -

الموطأ، الإمام مالك بن أنس الأصبحي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، المكتبة الثقافية، بيروت، 1408 هـ - 1988 م.

245 -

الموطأ، مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني، المحقق: محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية، أبو ظبي، الإمارات، ط 1، 1425 هـ - 2004 م.

246 -

الميسر في شرح مصابيح السنة، فضل الله بن حسن بن حسين بن يوسف أبو عبد الله، شهاب الدين التُّورِبِشْتِي، المحقق: د. عبد الحميد هنداوي، مكتبة نزار مصطفى الباز، ط 2، 1429 هـ - 2008 م.

247 -

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي، دار الكتاب الإسلامي، القاهرة

248 -

النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى، محمود محمد الطناح، المكتبة العلمية، بيروت، 1399 هـ - 1979 م.

249 -

نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخبار صلى الله عليه وسلم، محمد بن علي بن محمد الشوكاني، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، ومصطفى محمد الهواري، مصر، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية.

250 -

الهداية على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، محفوظ بن أحمد بن الحسن، أبو الخطاب الكلوذاني،

ص: 337

المحقق: عبد اللطيف هميم، ماهر ياسين الفحل، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، ط 1، 1425 هـ - 2004 م.

251 -

الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، د. محمد صدقي البورنو، مؤسسة الرسالة، الرياض، 1416 هـ.

ثالثًا: مصادر الشبكة العنكبوتية:

1 -

موقع: الإسلام سؤال وجواب.

2 -

موقع: المسلم اليوم.

3 -

موقع: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الرسمي

4 -

موقع: سماحة الشيخ عبد الله بن جبرين الرسمي.

5 -

موقع: سماحة الشيخ محمد بن عثيمين الرسمي، فتاوى نور على الدرب.

6 -

مادة صوتية للشيخ محمد بن صالح العثيمين على اليوتيوب.

www.youtube.com

7 -

شرح الحموية لابن تيمية، عبد العزيز بن عبد الله الراجحي، مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.

www.islamweb.net

8 -

شرح مختصر التحرير للفتوحي، أبو عبد الله، أحمد بن عمر بن مساعد الحازمي، مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشيخ الحازمي.

www.alhazme.net

ص: 338

9 -

شرح زاد المستقنع، محمد بن محمد المختار الشنقيطي، مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.

www.islamweb.net

10 -

لقاء الباب المفتوح، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، لقاءات كان يعقدها الشيخ بمنزله كل خميس، بدأت في أواخر شوال 1412 هـ، وانتهت في الخميس 14 صفر عام 1421 هـ، مصدر دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.

www.islamweb.net

11 -

اللقاء الشهري، محمد بن صالح بن محمد العثيمين، مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.

www.islamweb.net

12 -

فتاوى الشبكة الإسلامية، لجنة الفتوى بالشبكة الإسلامية، تم نسخه من الإنترنت: في 1 ذو الحجة 1430 هـ، 18 نوفمبر، 2009 م، هذا الملف هو أرشيف لجميع الفتاوى العربية بالموقع حتى تاريخ نسخه، وعددها 90751، وتجد رقم الفتوى في خانة الرقم، ورابطها أسفل يسار الشاشة.

www.islamweb.net

13 -

دروس صوتية للشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، على موقع الشبكة الإسلامية على الإنترنت، قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية.

ص: 339