المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل العدالة يقال: حَكَم عَدْل، وشَاهِد عَدْل، أي لا يخشى أن يميل - في أحكام الجرح والتعديل - ضمن «آثار المعلمي» - جـ ١٥

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ ‌فصل العدالة يقال: حَكَم عَدْل، وشَاهِد عَدْل، أي لا يخشى أن يميل

‌فصل

العدالة

يقال: حَكَم عَدْل، وشَاهِد عَدْل، أي لا يخشى أن يميل عن الحق، كما يقال: هو رضًا ومأمون، أي: يرضاه الناس ويأمنونه، لثقتهم بأنه لا يجور.

فالعدل في الرواية هو من يوثَق بأنه لا يكذب؛ لأنه مسلم معروف بالاستقامة في الدين، ولزوم ما يقتضيه، واجتناب ما ينافيه من الكذب وغيره.

وقال الله عز وجل في ما حكاه عن المنافقين، وردَّه عليهم:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 61].

كان هؤلاء يؤذون النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بألسنتهم بأشياء يقولونها، فتبلغ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فربما ذَكَر لهم ذلك، ووعظهم، فكانوا يجحدون ذلك، ثم يقولون لمن لقوه من المؤمنين: محمد أُذُن. يعنون: يقبل ما يُبَلِّغه الناس عنّا ويصدِّقه، مع أننا لم نقله، فردَّ الله عز وجل عليهم بقوله:{قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} . يظهر أن الخطاب هنا عام، أي أُذُن خيرٍ لكم أيها الناس، بقرينة قوله بعد ذلك:{وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} .

فإن كان خطابًا للمؤذين فقط، فوَجْه كون قبوله لما يَبْلُغه عنهم خيرًا لهم أنه يبعثه ذلك على أن يَعِظَهم وينصحهم، وفي ذلك خير لهم إن أرادوا الانتفاع به.

ص: 72

وقول: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} تنبيه على أن من أخبارهم التي تبلغه ما يأتيه به الوحي من عند الله، وهو مؤمن بالله، فكيف لا يصدّق ما يوحيه إليه؟

وقوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يصدِّقهم، كما اتفق عليه المفسرون.

فالمعنى: إن الأخبار التي تبلغه عنكم [ص 32] فيصدقها، ليست إلا من أحد هذين الوجهين:

الأول: الوحي.

الثاني: إخبار المؤمنين.

إما بمعنى: الذين آمنوه وغيره من أن يكذبوا.

وإما بمعنى: المؤمنين بالله ورسوله.

وإما بالمعنى الثاني مع الإشارة إلى المعنى الأول.

ويظهر أن هذا الأخير أرجح، فالمعنى: أنه يصدِّق المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله، وظهر للرسول وغيره بطول اختبارهم ما بان به صحةُ إيمانهم، وتحرّيهم ما يقتضيه الإيمان من الصدق وغيره، وتجنّبهم ما ينافيه، فبذلك جعلوا النبيّ وغيره ممن عَرَف حالَهم لا يخافون منهم أن يأتوا ما ينافي الإيمان الراسخ من الكذب وغيره، فكما آمنوا النبيَّ وغيرَه من أن يَكْذِبوا كان من الحق أن يؤمِنَهم من أن يكذِّبهم، بل كان من الحقّ أن يصدّقهم.

فحاصل المعنى أنه صلى الله عليه وآله وسلم إنَّما يصدق من الأخبار ما كان صدقًا، إما يقينًا وهو الوحي، وإما ظاهرًا شرعًا وعقلًا، وهو خبر من عرف إيمانه واستقامته.

ص: 73

وقد تقرر في الأصول أن تعليق الحكم بالمشتق يؤذِنُ بعِلّية ما منه الاشتقاق، فكأنه قيل: وإنما يصدقهم لإيمانهم، فيفهم منه أن من ليس بمؤمن لا يحقّ أن يصدَّق.

وقد تقدم أن المراد الإيمان مع الثبات على ما يقتضيه، بحيث يحصل لمن عرف صاحبه الوثوق به، والركون إليه. وعلى هذا فيخرج الكافر والفاسق، وقد قال الله عز وجل:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} فنصّ على أن خبر الفاسق لا يحق أن يصدَّق، بل ينبغي التبيّن فيه، فإن وُجِدت بيّنة على صدقه، وإلّا طُرِح. والكافرُ فاسقٌ وزيادة.

فصل

جاء عن الإمام الشافعي وغيره: أنه ليس من شرط العدل أن لا يعصي الله عز وجل البتة، فإن هذا يؤدّي إلى أن لا تُقْبَل شهادة ولا رواية، ولا يُقام إمام ولا قاضٍ، إلى غير ذلك، ولكن المراد من كانت الطاعات أغلب عليه من المعاصي

(1)

.

أقول: وفي كلام الشافعي وغيره أنه لا تُقْبَل شهادة من شرب الخمر، أو زَنَى، إلى غير ذلك، إلا

(2)

من ظهر منه شيء من ذلك ثم ظهرت توبته.

فواجبٌ حَمْل النقل الأول على هذا، أي أنّ مَن كان الغالب عليه الطاعة، وإنما تقع المعصية منه زلة، ثم يتوب منها، ثم أخرى ثم يتوب منها، فإنه يقبل، يعني عند ظهور توبته مما سبق منه من المعاصي.

(1)

حكاه عنه المزني في "مختصره"(5/ 310 ط المعرفة).

(2)

في الأصل: "إلى" سبق قلم.

ص: 74

فأما من كان الغالب عليه المعصية، فإنه ما دام على ذلك لا تتحقق له توبة.

وفي كتب الفقه ما يوضّح هذا، وهو أن يشترط في قبول من ظهرت معصيته وتاب منها: أن تظهر توبته بأن تمضى مدةٌ يظهر منه فيها الندم على تلك المعصية، والامتناع عن العَوْد إليها، حتى يكون الظاهر أنه لن يعود.

أقول: والظاهر أنه يُغْتَفر لمن عُرِفت عدالته، وظهرت استقامته من الرواة ما قد يقع منه مما يكون الظاهر أنه وقع فلتة. فقد حكى وكيع قصةً لأبي حصين عثمان بن عاصم الأسدي مع الأعمش، وفيها: أن أبا حصين قذف الأعمش [فحلف] ليحدّنّه، فكلّمه فيه بنو أسد. القصة

(1)

.

والقذف كبيرة، ولاسيَّما لمثل الأعمش، ولكن لم يجرح أحدٌ أبا حصين بهذا، بل وثقوه، وأحسنوا الثناء عليه، فكأنهم حملوا هذا على أنه فلتة جرى على لسان الرجل عند الغضب. والظاهر أنه تاب في الحال؛ لما عُرِف من فضله وصلاحه قبل ذلك وبعد.

وجاء عن أبي داود الطيالسي عن شعبة: أنه سمع أبا الزبير محمد بن مسلم بن تَدْرُس غاضَبَه إنسانٌ، فافترى عليه. يريدُ: فَقَذَفه

(2)

.

لكن عندي في صحة هذا وقفة، فقد جاء عن أبي داود الطيالسي مثل

(1)

القصة في "تاريخ دمشق": (38/ 413)، و"السير":(5/ 415).

(2)

القصة في "تهذيب الكمال": (6/ 503) و"تهذيب التهذيب": (9/ 440). وانظر ما سلف (ص 41).

ص: 75

هذا في محمد بن الزبير التميمي الحنظلي

(1)

، فلعلّ محمد بن الزبير هو صاحب الواقعة، ووقع الوهم في جَعْلها لأبي الزبير محمد بن مسلم. والله أعلم.

فصل

وذكروا أن المعاصي الصغيرة لا تخلُّ بالعدالة إلا في صورتين:

الأولى: أن تدل على الخِسّة، كسرقة تمرة، وخيانة فلس.

الثانية: أن يصرّ صاحبها عليها.

* * * *

(1)

انظر "تهذيب التهذيب": (9/ 167). وانظر "الاستبصار في نقد الأخبار- ضمن هذا الكتاب"(ص 41) للمؤلف.

ص: 76

[ص 33] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

العدالة مباحثها مستوفاة في كتب الفقه ومصطلح الحديث، وقد نظرتُ في عدة من كتب الجرح والتعديل، فرأيتُ تصريحَ الأئمة بالجرح بالمعاصي قليلًا، وإنما أقصد في رسالتي هذه قَصْد ما تكثر الحاجة إليه، مع الحاجة إلى تحقيقه.

فمن ذلك: البدع التي لا يُحْكَم بكفر أصحابها؛ فقيل: جرح مطلقًا.

وقيل: جرح إذا كان صاحبها داعيةً، يدعوا الناسَ إلى بدعته.

وقيل: ليست بجرح مطلقًا، ولكن لا يقبل من صاحبها ما يرويه مما يوافق بدعته لمكان التهمة.

وقيل: ليست بجرح، ويقبل من صاحبها ما رواه، وإن وافق هواه.

أقول: [الذي]

(1)

ينبغي اختياره أن المدار على قوَّة التهمة، فالرواة على طبقات:

الأولى: من اشتهر بالثقة والصدق والأمانة، وكثر ثناء أهل العلم عليه.

فهذا ينبغي أن يُقْبل منه كلّ ما روى، وإن كان له هوًى يدعو إليه، وروى ما يوافقه، وذلك أن الذي يغلب على الظن في مثله

(2)

أنه إنما يدعو لاعتقاده أنه يدعو إلى حقّ، وأنه صادق فيما رواه مما يوافق هواه، وهو من جملة ما أداه إلى ذلك الهوى.

(1)

زيادة يستقيم بها السياق.

(2)

الأصل: "مثل" سهو.

ص: 77

الطبقة الثانية: مَنْ لم يبلغ تلك الدرجة، وقد وثَّقه بعض الأئمة.

فهذا ينبغي التوقُّف عما يرويه موافقًا لهواه، ولاسيما إن كان داعية، فإن الداعية تكثر منه الخصومة، والخصومة توقع في اللجاج، واللجاج مظنة المجازفة.

فقد يتأوّل أحدهم إذا لج أنه لا حَرَج عليه في أن يكذب لنصرة ما هو الحق عنده، وقد لا يشمل الكذب، ولكن يورِّي تورية خفيَّة، ويدلِّس تدليسًا خفيًّا، وإن كان ممن يتقي التدليس في غير ذلك.

فأما الطبقة الأولى فلا يُعْرَف أحد منهم كان يخاصم ويلجّ.

الثالثة: من لم يوثق.

فهذا أولى بالاتهام، فإن كان ممن يصلح للمتابعة في الجملة، فالصالح من حديثه للمتابعة هو ما لا يُتَّهم فيه.

وبهذا أجبتُ لمَّا حُكِي لي عن بعض المتأخرين ــ ممن كان يُظهر التشيع بلا غلوّ شديد ــ أنه ناظر بعضَ العلماء من أهل السنة، واحتج بأحاديث.

فأجابه السنِّي: أنها ضعيفة؛ لأن في أسانيدها مَنْ ضعَّفه الأئمة.

فقال: إنما ضعفوه بأنه كان يتشيّع، فلي الحق أن أردّ الأحاديث التي تحتجّون بها؛ لأن في رواتها من كان يُظهر النصب، فإن ما تسميه أنت تشيعًا، أقول أنا: هو السنة في الحقيقة، وما تسميه أنت مذهب أهل السنة، أسميه أنا: نصبًا، وأقول: هو البدعة في الحقيقة.

ص: 78

قال: فقال ذلك العالم السني: إذن يسقط الاحتجاج بالأحاديث من الجانبين. هذا معنى الحكاية.

وعلى ما قدمتُه لا تسقط الأحاديث بحمد الله عز وجل، ولكن الإنصاف أن لا يحتج على المتشيع بأحاديث الطبقة الثانية ممن عرفوا بالسنة ولا يحتج هو بأحاديث الطبقة الثانية ممن عرفوا بالتشيُّع.

فإذا وافق على هذا، وكان الإنصاف، فما أسرع ما يكون الاتفاق، وإن أبى فقد سقطت شبهتُه، وظهرَ عنادُه.

وقد ذكرتُ هذا لبعض أهل العلم، فقال: وكيف يكون الرجل عدلًا في شيء، وغير عدل في شيء؟

والجواب: أن العدالة تتفاوت قوة وضعفًا، كما لا يخفى.

[ص 34] وقد جاء عن شريك أن رجلًا ادّعى على آخر عنده بمائة ألف دينار، فأقر، فقال: أما إنه لو أنكر لم أقبل عليه شهادة أحدٍ بالكوفة إلا شهادة وكيع وعبد الله بن نُمير

(1)

.

يعنى أن المال عظيمًا

(2)

، فلا تنتفي تهمة الشاهد فيه حتى يكون عظيم

(1)

القصة في "تاريخ بغداد": (13/ 499). وقد حكم عليها المؤلف بالانقطاع، وأجاب عنها بأنها "لو ثبتت لوجب حملها على أن مراده القبول الذي تطمئن إليه نفسه، فإن القاضي قد لا يكون خبيرًا بعدالة الشاهدين وضبطهما وتيقظهما وإنما عدّلهما غيره، فإذا كان المال كثيرًا جدًّا بقي في نفسه ريبة

". انظر "التنكيل": (1/ 69) و"تعزيز الطليعة" (ص 132 - 133) للمؤلف.

(2)

كذا والوجه "عظيم".

ص: 79

العدالة، ولو كان ألف دينار فقط لكان بالكوفة يومئذٍ ألف عدل أو أكثر ممن تنتفي التهمة بشهادة رجلين منهم فيه.

وذكر الشافعي في "الأم" أنه ينبغي للقاضي إذا سأل عن الشهود مَنْ يطلب منه بيان حالهم أن يبين للمسؤول مقدار ما شهدوا فيه، قال: " فإن المسؤول عن الرجل قد يعرف ما لا يعرف الحاكم من أن يكون الشاهد

وتطيب نفسه على تعديله في اليسير، ويقف في الكثير " الأم (6/ 309)

(1)

.

وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75].

يعني أن منهم من هو عظيم الأمانة حتى لو ائتمن على قنطار لأداه، ومنهم من هو ضعيف الأمانة حتى لو ائتمن على دينار واحد لخان فيه. والقنطار المال العظيم، جاء عن الحسن البصري: أنه ملء مَسْك ثورٍ ذهبًا

(2)

.

وغالبُ المسلمين تطيب أنفسُهم ببذل الزكاة المفروضة، والسفر للحج، والقتال في سبيل الله عند رجاء السلامة، ولو كُلِّفوا أعظم من هذا ما فعله إلا قليل.

قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا

(1)

(7/ 508).

(2)

ذكر القول في "تفسير الطبري": (5/ 259) و"تفسير ابن المنذر": (1/ 259) لكن منسوبًا إلى أبي نضرة العبدي.

ص: 80

وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [القتال: 36 - 37].

يعنى ــ والله أعلم ــ لا يسألكم أموالكم كلها فرضًا محتومًا.

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66].

وقد تقرر في الشهادة أنه لا تقبل شهادة الرجل لنفسه، ولا حيث يجرّ لنفسه نفعًا، إلى غير مما هو معروف في الفقه بدون تفرقة بين الناس، حتى لو كان الرجل بغاية العدالة لما خرج عن ذلك، وعللوه بالتهمة.

وتقرر في الشريعة قبول إقرار الرجل على نفسه، وإن كان غاية في الكفر، أو الفجور، وإنما ذلك لبعد التهمة. والله أعلم.

ص: 81

(1)

[ص 25 ب] هذا، وضبط الخبر وإتقانة يحتاج إلى التيقُّظ في ثلاثة مواضع:

الأول: عند تلقّي الخبر، فيجب على المتلقّي أن يتثبّت في حال المخبِر أنه فلان بن فلان، وفي إخباره بالخبر أنه أخبر به من لفظه جازمًا به، أو قُرئ عليه وهو منصت لا يخفى عليه من القراءة شيء حتى أقرَّ به، أو عُرض عليه مكتوبًا فتأمله حقّ التأمل، وهكذا في سائر أنواع التحمّل، كلٌّ بحسبه.

ثم يتثبّت في أخذه للخبر، فإن كتبه بإملاء الشيخ، تثبَّت في كتابته حتى يثق بأنه كتبه كما تلقَّاه، لم يزد ولم ينقص ولم يغير. ويدخل في ذلك نَقْط ما يحتاج إلى النقط، وضَبْط ما يحتاج إلى ضبط.

وإن كَتَبه مما قُرئ على الشيخ تثبَّت في المنقول عنه أنه مكتوب كما قُرئ على الشيخ، ثم في المنقول أنه كُتِب كما في المنقول عنه.

وإن حَفِظه راجع نفسه حتى يثق بأنه حفظه كما يجب، وإن اقتصر على فهمه راجع نفسه حتى يثق بأنه فهمه كما يجب، وقس على هذا.

الموضع الثاني: بين التحمّل والأداء، فإن كان مسموعه في كتاب احتاط لحفظ الكتاب، فلا يزيد فيه ولا ينقص ولا يغير، ولا يُمَكِّن منه مَن يُحْتَمل أن يصنع ذلك.

وإن كان حَفِظَه أو فَهِمَه تعاهَد حِفْظه أو فَهْمه، [ص 26] وذاكر الحفَّاظ،

(1)

أخرنا من هذا الموضع [ص 25 ب- 29] إلى آخر الرسالة مع تقدمه في الترقيم؛ ليتناسب مع ترتيب موضوعات الرسالة.

ص: 82

وتفطّن لمظان الاشتباه والالتباس، فاحترز منها.

الموضع الثالث: عند الأداء، فأولًا: يمرّ بفكْرِه على الموضعين الأولين ليستحضر هل تثبَّت فيهما كما يجب، ثم يتثبَّت في الإلقاء بحيث يثق بأنه ألقاه كما تلقاه.

ومن اختبر الناسَ، وعرفَ أحوالَهم، عرف أن من المؤمنين الصالحين [من]

(1)

تغلب عليه الغفلة، وقلّة التيقّظ، كأن ترى في زمن سفيان بن عيينة رجلًا، فيقول لك هو: أنا سفيان بن عيينة، أو يقول لك آخر لا تعرفه: هذا سفيان بن عيينة، ثم يخبرك بخبر، فتذهب فتقول: أخبرني سفيان بن عيينة.

هذا مع أنه لم يقم عندك دليلٌ يحقق أن الذي أخبرك سفيان بن عيينة حقًّا.

والضابطُ المتيقِّظ يقول في مثل هذا: لقيتُ رجلًا لا أعرفه زعم، أو قال لي رجل آخر لا أعرفه: إنه سفيان بن عيينة، فأخبرني.

هذه صورة من صور الغفلة، وصورها كثيرة، فقد تغلب الغفلة على الرجل حتى إن من يعر ف حاله لا يثق بخبره ألبته، فيصير حينئذٍ في الحال

(2)

.

ومن اختبر أحوال الناس وجدهم يتباينون في الضبط والإتقان، فقد تكون مؤمنًا صالحًا، فيلقاك رجل لا تعرفه، فيقول لك: أنا فلان بن فلان، ويخبرك بخبر، فتذهب فتقول: أخبرني فلان بن فلان.

(1)

الأصل: "مع" سهو.

(2)

كذا، وتقدير باقي الكلام "بحيث لا تُقبل روايته" وقد كرر المؤلف هذا المعنى في الفقرة التالية.

ص: 83

ولو تيقظت لكنت تقول: لقيت رجلًا لا أعرفه، فزعم لي أنه فلان بن فلان، وأخبرني.

وقد ترى رجلًا يقرأ ورقةً على شيخ، فتذهب فتنسخ تلك الورقة، وتقول: أخبرنا الشيخ.

ولو كنت يقظًا لكنت أولًا تتفقّد حالَ الشيخ عند القراءة عليه، فلعلّه يكون ساهيًا، أو ناسيًا، ثم تتفقّد حالَ القراءة، فلعلها أن تكون فيها خلاف المقروء.

في صور كثيرة أمثال هذه يتفاوت الناس في الاحتراز منها؛ فرُبَّ مؤمن صالح لا يتهمه العارف به بكذب، ولكنه لا يثق بكثير من أخباره. فخبر هذا لعدم ضبطه في معنى خبر الفاسق الذي لا يوثق بخبره لفسقه.

وقد يكون الرجل مؤمنًا صالحًا ضابطًا، ولكن يتفق في بعض أخباره أن يكون مظنّة للغلط، وتقوم قرينة على الغلط، فيكون خبره في هذا الموضع في معنى خبر الفاسق أو أضعف منه.

وذلك أن من قضية الإيمان أن تؤمِّن الناسَ من أن تأتي إليهم ما لا يحل لك، كما في الحديث المشهور:"المؤمن مَن أمِنَه الناسُ على دمائهم وأموالهم"

(1)

.

ومما لا يحل: الكذب، فإذا أمنت الناس من الكذب كان عليهم أن يؤمِّنوك من التكذيب.

(1)

سبق تخريجه (ص 69).

ص: 84

والفاسق قد أخاف الناسَ فهو خارج عن

(1)

نص الآية وكما هو خارج من الحديث، فخبر المؤمن بيِّن بنفسه، فلا يحتاج إلى تبين، بخلاف الفاسق. وفي هذا كالإيماء إلى أن المدار على الأمن والبيان.

وعلى هذا فإذا لم يحصل الأمن والبيان بخبر المؤمن الذي ليس بفاسق، كأنْ كان مغفّلًا يكثر وهمه وجب التبين في خبره.

[ص 27] وكذلك المؤمن الذي [ليس]

(2)

بفاسق ولا مغفّل إذا عرض في بعض أخباره ما يَريبُ فيه، كأن يكون مظنة خطأٍ وهناك قرينة على الخطأ، فيجب التبين في ذلك الخبر وأشباهه.

فلا سبيل إلى معرفة ما يجب قبوله من المنقول من غيره إلا بمعرفة أحوال الناقلين، ثم بمعرفة ما يوقف على مظان الخطأ وقرائنه

(3)

.

وإذا كانت الآية مفتقرة إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان على علمائها أن يعرفوا أحوال الرواة؛ ليعرفوا من يجب قبول روايته من غيره.

وإذا كان المخبر مؤمنًا غير فاسق ولا مغفّل أو في معناه، ولم يكن هناك مظنة خطأ، ولا دلالة عليه، فخبره بيّن بنفسه، يجب قبوله منه وتصديقه فيه.

فأدى الصحابةُ رضي الله عنهم ما تحمّلوه بعضهم إلى بعض، وإلى

(1)

تحتمل قراءتها: "من".

(2)

زيادة يستقيم بها السياق.

(3)

ضرب المؤلف على أكثر الصفحة وبقي قوله: "هذا وإذا كثرت الوسائط فالمأمور به" ثم انقطع الكلام فالظاهر أنه كلام تابع للمضروب عليه أيضًا.

ص: 85

التابعين، وأدى التابعون بعضهم إلى بعض، وإلى أتباعهم، وهكذا.

وصار في وسع المتأخّر أن يعرف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتلقي ممن قبله، إلا أن المنقول اختلط فيه الحق بالباطل، والصحيح بالسقيم، فلم يكن بُدٌّ للعلماء من تمييز ذلك.

وقد أرشد الكتاب والسنة إلى طريق التمييز، وتلقّى الأئمةُ ذلك فشرحوه، وعملوا به، كلٌّ بقدر وُسْعه.

وملخص ذلك: أن المحتجّ به من الأخبار ثلاثة:

الأول: المقطوع بصحته، كالمتواتر.

الثاني: ما جمع ثلاث شرائط: أن يكون راويه عدلًا ضابطًا، وأن يكون متصلًا، وأن لا يكون شاذًّا ولا معللًا.

الثالث: ما قصر عن هذه الدرجة إذا وُجِد ما يعضده، بحيث يحصل بالمجموع ظنّ قويّ، كالحاصل بخبر من اجتمعت فيه الشرائط.

[ص 28] ومعرفة أحوال الرواة في العدالة والضبط مفتقرٌ إليها في الأضْرُب الثلاثة، أما في الثاني والثالث فواضح، وأما في المقطوع به فلأن معظم الموجود منه في الأحاديث هو ما يفيد القطع بمعونة القرائن، والعدالةُ والضبط من أعظم القرائن.

وكما يفتقر إلى معرفة ثبوت العدالة والضبط أو انتفائهما، أو أحدهما، فإنه يفتقر إلى معرفة درجة الراوي في ذلك.

أما في الضرب الأول: فلأن العدالة التامة والضبط التام أقوى مما

ص: 86

دونهما، فقد يفيد القطع خبر الثلاثة إذا كانوا تامي العدالة والضبط، ولا يفيده خبر الأربعة أو الخمسة من العدول الضابطين دون درجة أولئك.

وأما في الثاني: فليعرف الراجح، فيقدّم عند التعارض.

وأما في الثالث: فليعرف ما يصلح للشواهد والعواضد والمتابعات، ومقدار صلاحيته لذلك، فقد يصدق على ثلاثة أنهم ليسو امن أهل العدالة والضبط، بحيث لو تابعه آخر مثله لصار الخبر صالحًا للحجة.

ودرجة الثاني متوسطة بحيث لو تابعه آخر مثله لم يبلغ ذلك، بل يحتاج إلى متابعة اثنين أو ثلاثة مثلًا، وهكذا.

ودرجة الثالث بعيدة بحيث لو تابعه عشرة مثله لم يغن شيئًا، بل يقال: كأنهم تواطؤوا أو سرقه بعضُهم من بعض، أو وضعه بعضُ الدجّالين على هؤلاء فلقَّنهم، أو نحو ذلك.

وكذلك معرفة الاتصال، ومعرفة الشذود والعلة، يُحْتَاج إليها في الأضرب الثلاثة، كما يعلم بالتأمل.

وقد بلغ هذا العلم أوْجَه في القرون الأولى، ثم تباعد الناس عنه في القرون الوسطى؛ لاستغناء جمهورهم عن الاتباع بالتقليد، ومن احتاج إلى السنة من المقلدين إنما همّه نُصرة مذهبه، فينظر إلى الأحاديث المروية، فيرى منها ما يوافق مذهبه ومنها ما يخالفه، فيجتهد في تقوية ما يوافقه، وتضعيف ما يخالفه، فإذا وجد في الأصول المختلف فيها ما يساعده التزمه ونَصَره، وسعى في توهين ما يخالفه، وإن لم يجد أصلًا يساعده على هواه اخترع أصلًا وسعى في تثبيته بين أهل مذهبه على الأقل، ولهذا يكثر

ص: 87

تناقضهم حتى في الأصول.

والمقصود: أن مرتبة التحقيق في هذا الفن عزَّ وجودُها في القرون الوسطى، إلا الواحد بعد الواحد.

فأما القرون المتأخرة فصار هذا العلم نسيًا منسيًّا؛ لأن كلَّ فرقةٍ قنعت بما عندها في كتب مذهبها، وأقرت مخالفيها على ما عندهم في كتب مذهبهم. وضَعُف العلمُ جملةً، بل هُجِرت كتب السنة نفسها، فكم من كتاب من كتبها لا يوجد في مكاتب العالم منه إلا نسخة أو نسختان، ومنها ما فُقِد ألبته، إلا أنّ الاعتناء بالسنة في الجملة بقيت منه بقيّة في اليمن والهند، ثم في هذا القرن بدأ الناس يتراجعون إلى الاعتبار بالسنة شيئًا فشيئًا. ولله الحمد.

والناظرون في هذا الفن من أهل العصر فريقان:

فريق ليسوا من المعتنين بالسنة أصلًا، وإنما يضطرّ أحدُهم إلى تثبيت حديث أورده، فيتعاطى الكلام عليه.

وهؤلاء لا يُعْبأ بهم، ولا بغلطهم.

وفريق لهم عناية بالسنة في الجملة، وأكثرهم من يرى أنه إذا طالع بعضَ كتب المصطلح كـ"شرح ألفية العراقي"، و"شرح تدريب النواوي"، ثم حَصَلت له نسخةٌ من "تهذيب التهذيب"، ونسخة من "لسان الميزان" فقد أخذ بناصية الفن!

وهيهات هيهات العقيقُ وأهلُه

وهيهاتَ خِلٌّ بالعقيق نُحاوله

(1)

(1)

البيت لجرير في "ديوانه"(ص 385). وفيه:

فأيهات أيهات العقيقُ ومَن به

وأيهات وصلٌ بالعقيق تواصله

وبسياق المؤلف في "الصحاح": (6/ 2258)، و"اللسان":(13/ 552).

ص: 88