الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
/1 ب/بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
[تتمة حرف الميم]
[تتمة ذكر من اسمه محمد]
[741]
محمَّد بن حيدر بن محمَّد بن زيد بن محمَّد بن محمَّد بن زيد بن أحمد بن محمَّد بن محمَّد بن عبد الله، أبو طاهر بن أبي الفتوح الحسينيُّ العلويُّ الموصليُّ.
وقد سبق نسبه بتمامه، عند ذكر والده.
تولى نقابة العلويين بالموصل ثلاث نوب في الدولة الأتابكية؛ ثم في الأيام البدرية.
كانت ولادته سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وأخبرني الأمير مبارز الدِّين أبو المفاخر بدران بن فتوح بن سلطان ..... بحلب؛ قال: توفي النقيب أبو طاهر محمد بن حيدر الحسيني بالموصل، يوم الأحد سلخ جمادى الأولى، ودفن يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة على والده بتربة كان والده أنشأها قبلي المدينة في سنة إحدى وأربعين وستمائة - رحمه الله تعالى-.
أنشدني لنفسه، يمدح بدر الدِّين لؤلؤ بن عبد الله - صاحب الموصل-:
[من الطويل]
رعى الله أكناف الحمى وسقاها
…
من المزن ماروى صدي رباها
ولا برحت [أ] يدي الصبا بربوعها
…
تحوك بهي الروض طول مداها
/2 أ/ مراتع غزلان من الإنس قد حوت
…
محاسن تصبي من تراه يراها
مواقف فيها للمحب مواقف
…
بها هجر الأجفان طيب كراها
دعاني بها داعي الصبا فأجبنه
…
إجابة من لم يعتلق بسواها
وقمت مقامًا لم يقمه متمم
…
على بعد من يهوى وطول نواها
وكم لمت قلبي لومًة بعد لومة
…
على ترك أسباب الهوى فأباها
وكيف يرى ترك التي هي شغله
…
ومن هي داء النفس ثم دواها
فحينئذ قال الوشاة وأكثروا
…
مقالتهم حتى استمس قلاها
وما أنًا ممَّن يدخل العذل قلبه
…
ولا أنا من يصغي لقول عداها
وما أنا ممَّن ينقض الهجر عهده
…
ولا أنا من أضحى يملُّ هواها
طبعت على حفظ الوداد وحب من
…
اياديه أعلاني سني علاها
مليك به طالت حياتي واعشبت
…
ربوعي بعد المحل حين سقاها
بسحب من الإكرام والبذل والحيا
…
افاض علينا جودها ونداها
دعاني ولائي فاستجبت مسارعًا
…
إلى خير داع للقلوب دعاها
لك الله من ملك تعالت صفاته
…
وجلت معاليه وزاد سناها
/2 ب/ لقد عَّز من والاه حقًا وذلَّ من
…
يناوي علاه غبطًة وسفاها
سمت بك بدر الدِّين همة مالك
…
بنى رتب العلياء ثمَّ رقاها
إليك انتهت آمالنا ورجاؤنًا
…
وكفك أولاها الغنى وكفاها
وكفك راعى حوزة الدِّين وانبرى
…
لها عزمك الماضي فعز حماها
فيا من به قد أسفر الصبح وانجلت
…
غيابة دنيانا وزاد ضياها
أهني بك النيروز يا خير مالك
…
به لذت الدنيا ولذَّ جناها
فدم وابق ما دام الضياء واقبل الـ
…
ـمساء وأولتنا السماء حياها
وأنشدني أيضًا يمدحه – ثبت الله دولته -: [من الطويل]
تحيَّة مهجور إلى خير هاجر
…
تهيجه الذكرى إلى غير ذاكر
على أنه لو شق قلبي وجدته
…
به ماثلًا أو في ضميري وخاطري
وكيف أرى السلوان عمَّن أعزَّني
…
بإنعامه الفياض عزَّة قادر
له من ثنائي ما استطبت سماعه
…
ومن مدحي ما حبرته خواطري
ومن دعواتي المستجابة في الدجى
…
وما باطني بالله إلا كظاهري
دعاني هواه فاستجبت مسارعًا
…
لأنِّي أراه من أجلِّ ذخائري
/3 أ/ لك الله من ملك به سمت العلا
…
وعم نداه كل باد وحاضر
علوت علو النجم مجدًا وسؤددًا
…
بما أنت قد أوليته من مفاخر
ودانت لك الدنيا وأصحب صعبها
…
ونلت الذي تهوى بأسعد طائر
ولولاك بدر الدِّين ما التذوارد
…
بورد ولا ساغت مصادر صادر
فلا زلت محمي الجناب من الردى
…
تبيد العدا بالمرهفات البواتر
وكذَّب ظن الحاسدين بعكس ما
…
أسروه من داء دخيل مخامر
وقام منار الدِّين واستوسق الهدى
…
بصحة ملك ما له من مناظر
لقد عزَّ من والاك عزًا مؤَّبدًا
…
وذلَّ الَّذي ناواك ذلَّ الأصاغر
بنفسي أقيه كلَّ أمرٍ يخافه
…
ومن عزَّ من قومي وجلَّ عشائري
وأنشدني أيضًا فيه يمدحه – أعز الله أنصاره -: [من الخفيف]
من لصبٍّ أضحى أسير الأماني
…
موثقًا في حبائل الهجران
كلَّما رام أن يبوء بعبء الـ
…
ـحب يومًا زلَّت به القدمان
كيف يرجو الوصال من خصمه المحـ
…
ـبوب أم من له بيوم التداني
كان لي في الهوى زمان مضى يذ
…
مم والآن قد حمدت زماني
/3 ب/ يا خليليَّ أسعداني على الحـ
…
ـبِّ وكفَّا الملام لا تعذلاني
وذراني وما أحب ومن أهو
…
ى وشان الغرام يومًا وشاني
إنَّ لي في الَّذي أروم حديثًا
…
فاق طيبًا على استماع الأغاني
غير أني لا أستلذ بحال
…
أصبح السر فيه كالإعلان
والذ الهوى وأطيب ما فيه
…
جحود يفضي إلى كتمان
يا أساة الغرام دائي الَّذي أسـ
…
ـقم جسمي علاجه أعياني
أين منِّي السلوهيهات يا صا
…
ح ودمعي يلج في الهملان
وفؤادي يكاد من شدَّة الشو
…
ق حصاه يذوب بالخفقان
يا ليالي الحمى فهلَاّ تعوديـ
…
ـن ويومي به أما لك ثاني
لنعيد السرور بدءًا كما كا
…
ن ونرمي الفراق بالحدثان
ويوالي ذكر الصِّبا ومغانيـ
…
ـه فيا حبَّذا بها من مغاني
كلَّما رمت أنثني عن هوى النفـ
…
ـس شاني قسرًا إليه عناني
لا أرى أنَّني أشق عصا اللَّذَّ
…
ة يومًا بالمنع والعصيان
مثل ما أوجب التُّقى طاعة الما
…
لك بدر الدِّين العظيم الشان
ملك أصبحت محاسنه تتـ
…
ـلى وتروى حقًا بكلِّ لسان
/4 أ/ همه في اقتناء ما يكسب الأجـ
…
ـر وجبر الكسر أو فكِّ عاني
جوده كالسحاب قد طبق الأر
…
ض وعم القاصي وخص الدَّاني
طالما أعجز الملوك من الملـ
…
ـك وأعيى بناؤه كلَّ باني
ملك قد سما علوًا وعزًّا
…
وعلا قدره على كيوان
من تراه يحصي مكارمه الغـ
…
ـرَّ وما فيه من بديع المعاني
فهو خصب الأنام إن أجدب العا
…
م وأمن من حادثات الزمان
مذ علا ما يزال متصل الإمـ
…
ـداد في كلِّ ساعة واقترن
ببقاء الملك الَّذي خصَّه اللـ
…
ـه وإبلاغه جميع الأماني
وقال يهنئه – أدام الله أيامه -: [من الطويل]
أهنِّي بك الشهر الَّذي جاء مقبلًا
…
هنًاء له الأسماع تزهى وتطرب
وأثني على الملك الَّذي أنت ربه
…
ثنائي الَّذي قد يستطاب ويعذب
أيا مالكًا أعيى الأنام ببذله
…
فلم يبق راجٍ في الورى يتعتب
ويا من رضاه بات أمنًا لآمن
…
ومن سخطه ما فيه منجى ومهرب
/4 ب/ إليك انتهت آمالنا ورجاؤنا
…
فأنت لنا كنز الحياة ومطلب
فلا زلت منصور اللِّواء مؤيَّد الـ
…
ـعلاء ومن سامي معاليك يطلب
وقال يمدحه – أعز الله نصره – من أبيات: [من الخفيف]
إنَّني مذعن بعجزي عن شكـ
…
ـر أياد أوليت من إحسان
كيف أحصي قطر السماء وماذا
…
ك بحاز في قدرة الإنسان
يا مليك الأنام يا أعظم الخل
…
ـق محلًا يعلو على كيوان
أنا راجٍ بأن تعيش مدى الدهـ .... ـر وتحيا في غبطةٍ وتهاني
ومنها قوله:
إن سلطاننا الَّذي خصَّه اللـ
…
ـه بفضلٍ يقوم بالبرهان
وبآي بصدقها انزل اللّـ
…
ـه قديمًا في محكم القرآن
كفَّ عنِّي ندى يديك فقد خفت .... ـت لإفراطه من الطغيان
وبأنِّي أقول ما قال من يعـ
…
بد عيسى في السِّرِّ والإعلان
يا ملاذ المخوف يا كعبة الآ
…
مال يا غاية المنى والأماني
سر براياتك الَّتي حفَّها اللّـ .. ـه بنصرٍ يعنو له الثَّقلان
/5/أوقال يمدحه، ويهنئه بشهر رجب:[من البسيط]
يا مالكًا جلَّ قدرًا واعتلى شرفًا
…
ففات بالمجد سبقًا سائر الأمم
وخصَّه الله بالفضل الَّذي اعترفت
…
به ملوك جميع العرب والعجم
أنت الّذي جادني من فيض راحته
…
سحبٌ بها عدت في أمر من العدم
لك الهناك بشهرٍ جاء يشفعه
…
بشراكم بدوام العزِّ والنِّعم
وقال يمدحه، ويهنئه بعيد الفطر:[من المتقارب]
أيا مالكًا في العلا أوحد
…
ومن جوده للورى مقصد
ألا لعن الله راجي سواك
…
وطرف بصيرته أرمد
ولو جاز في شرع خير الورى
…
بأنِّي سوى الله من يعبد
لكنت أميل بذكري لكم
…
وعند مديحي لكم أسجد
أيا من سحائب نعمائه
…
يروِّي الورى بحره المزبد
أهنِّي بكم فضل عيد الفطور
…
فإنَّ فضائله ترشد
ولازال سلطانكم دائمًا
…
مدى الدَّهر والدَّهر لا ينفد
/5/ب وأنشدني لنفسه، يصف سيفًا أهدي [إلى] الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين، أبي جعفر المنصور –رحمه الله:[من الخفيف]
أنا إن فلَّت القواضب في الهيـ
…
ـجاء يومًا فإنني لا أفلُّ
بين حدَّيّ من لظى إن تأمَّلـ
…
ـت ونوحٌ في فلكه مستقلُّ
وفخاري بأنَّني عدت في كـ
…
ـفِّ إمامٍ له الثُّريَّا محلُّ
ملكٌ ذلَّت البرايا لديه
…
وبحقٍّ لبأسه من يذلُّ
هو روح الزَّمان مستنصرٌ با
…
لله من عقد ملكه لا يحلُّ
وقال من أبيات: [من الكامل]
ما أنت أول مولع بغرامه
…
كلَاّ ولا علق الهوى بزمامه
فاصبر على مضض التَّلوُّو آملًا
…
ممَّن تحبُّ فإن يفي بذمامه
واقنع بليت وربما ولعلَّما
…
سمح الذي يقوى بقرب لمامه
إيَّاك أن تصغى لقول مفنِّد
…
واش ولا تك سامعًا لملامه
إنِّي عهدت أخا الهوى لا ينثني
…
عمَّا يروم ولو مني بحمامه
كيف الوصول إلى شحيحٍ ما يرى
…
نيل المحبِّ تعلُّلًا بكلامه
/6 أ/ ومما كتبه إلى الملك الرحيم بدر الدِّين –ضاعف الله اقتداره، وأعلى مساره-:[من المنسرح]
يا مالكًا اصبحت أنأمله
…
تفتح باب الرَّجاء للراجي
وظلُّه ملجأ المخوف ومنـ
…
ـجاةٌ لمن ظنَّ أنَّه ناجي
ما بال حظِّي عادت محاسنه الـ
…
ـبيض كليلٍ سواده داجي
وأنشدني قوله فيه: [من مجزوء الكامل]
إفتح دواتك بالسُّعو
…
د ووقِّع الدُّنيا عطايا
كم في يراعك للنُّفو
…
س من التَّمنِّي والمنايا
ولكم أشاد من البنا
…
ء بما أباد من السَّرايا
وإذا دحا ثمَّ انتحى
…
أبدى لك النّكت الخفايا
وقال فيه: [من الوافر]
صباحًا بالمسَّرة والتَّهاني
…
لملك ماله في الدَّهر ثاني
مليك سحب كفَّيه توالت
…
فروَّت للأباعد والأداني
فلا زالت له الأيَّام طوعًا
…
تدين له على مرِّ الزَّمان
ولا برحت له الأفلاك تجري
…
بإقبال يخلَّد غير فاني
/6 ب/ وقال فيه أيضًا: [من مجزوء الكامل]
يا من به وبعدله
…
وببذله كمل الزَّمان
ومن الذي لولا إيا
…
لته لما ظهر الأمان
يا مالكًا ملكت أيا
…
ديه المكرَّمة الحسان
رقَّ الأنام بأنعمٍ
…
عن شكرها قصر اللَّسان
وقال فيه أيضًا: [من مجزوء الكامل]
يا من طوالع جوده
…
هزمت جيوش الفقر طردا
يا ذا الذي اضحى ونا
…
ئله إلى العافين نقدًا
يا ذا الفضائل قد سبقـ
…
ـت ملوكها عنقًا وشدَّا
في حلبة المجد الأثيـ
…
ـل وفيهم قربًا وبعدًا
فليهنك الشهر الذي
…
أولاكم ظفرًا وسعدًا
لازال ملكك دائمًا
…
وحسود مجدك ليس يهدا
وقال فيه أيضًا: [من المنسرح]
يا مالكًا أخجلت سحابة جد
…
واه سحاب السَّماء إذا هطلا
فذاك يروي ظمآنه ظمًا
…
وهذه بالمطار حيَّ هلا
/7 أ/ يا واحدًا في العلاء منفردًا
…
ومن غدا بالفخار مشتملًا
كم نعمة قد أنعمت طائلة
…
عليَّ حتَّى جعلتني خجلًا
وكم لباسٍ ألبستني فعلًا
…
قدري فأصبحت في العلا مثلًا
لازلت في نعمةٍ مخلدةٍ
…
دائمةٍ تورث العدا نهلا
وله جواب كتاب: [من الطويل]
وقفت على مكتوبه فوجدته
…
كنور رياضٍ باكرته سواجمه
له أرجٌ أذكى من المسك نشره
…
لعرض أمين الدِّين صينت معالمه
وقال أيضًا: [من مجزوء الكامل]
لولا معالجة الصدو
…
دلما حلا أبدًا وصال
ممَّن غدت أجفانه
…
من هدبها ريش النِّبال
ومن الَّذي لولاه ما
…
عرف التَّقاطع والملال
يا من به داء الغرا
…
م فإنَّه الدَّاء العضال
وقال أيضًا، ابتداء كتاب إلى بعض الأكابر:[من الطويل]
/7/ب سلامٌ على من عطَّر الأفق نشره
…
وفاق جميع العاملين علاه
ومن بات محسود الفضائل واللُّهى
…
ومن ظلَّ مذموم الفعال سواه
ومن بتُّ أرجو قربه ودنوَّه
…
ومن بتُّ أخشى بعده ونواه
فللَّه ما تحوي الأضالع من جوى
…
دخيل وشوق لا يصاب دواه!
إلى الصَّدر شمس الدِّين ذي الفضل والنُّهى
…
ومن عمَّ جدواه وفاض نداه
وقال أيضًا: [من البسيط]
لولا لواعج أشواق تجاذبني
…
يومًا غليكم لما أصبحت مكتئبًا
ولا غدوت مريضًا لا شفاء له
…
حتَّى جعلت دموعي للشِّفا سببًا
وقال أيضًا: [من الخفيف]
لسن ممَّن يعدّ ما تذهب الأيَّـ
…
ـام من عمره بلا لقياكم
لا ولا يلتهي عن الحزن والبلـ
…
ـوى ونار الجوى بلا ذكراكم
فبحقِّ الوداد والسَّبب الأ
…
وَّل عودوا عن الجفا حاشاكم
وقال أيضًا: [من الكامل]
ما كنت في عيشٍ أسرُّ به
…
إلا عليَّ أصبح السَّببا
من بات بالعلياء مُتَّصفًا
…
وغدا إلى الإحسان مُنتسبا
/8 أ/ وقال أيضًا: [من البسيط]
يا أوحد الدِّين إِّني جدُّ منتظرٍ
…
لما وعدت وراج منك إنجازًا
ففز بما أنت توليه فخير فتَّى
…
يولي الجميل فأضحى بالعلا فازا
[742]
محمَّد بن الحسن بن عبد القاهر بن الحسن بن القاسم بن
المظفر بن عليٍّ، أبو السعادات بن أبي عليٍّ القاضي الشَّهرزوري الموصلُّي.
كان والده يتقلد القضاء بالموصل، وكاذلك كان عمّه وجدّه وأسلافه؛ وهم أهل بيت عريق في القضاء، أشهر من أن ينبَّه عليه، والقضاء يتردّد فيهم على قديم الزمان وحديثه.
وأبو السعادات أخبرني؛ أنَّه ولد في ليلة النصف من شعبان سنة تسع وثمانين وخمسمائة.
حفظ القرآن، وسمع جملة من الحديث، وقرأ فقه الإمام الشافعيّ –رضي الله عنه على الشيخ العلامة أبي المعالي موسى بن يونس بن منعة بن مالك الفقيه المدرس. وأخذ عنه علم الأصول والخلاف، وغير ذلك من العلوم الشرعية.
ثم تصدَّر للتدريس، فدرس بالمدرسة الكماليّة /8 ب/ بالموصل. وهو فقيه مدرّس، عالم مناظر، قيّم بعلم الأدب والنحو، شاعر مجيد، له اعتناء بكلام الصوفية من الحكماء، ومعرفة بوصف الخيل ونعوتها، واختلاف أجناسها.
أنشدني لنفسه، يمدح المولى المالك الرحيم بدر الدنيا والدين، عضد الإسلام والمسلمين، نصير أمير المؤمنين –خلّد الله دولته-:[من الطويل]
هو القدُّ يسبي المستهام رشيقه
…
ويصبيه منه عطفة ويروقه
ويهوى اعتناق السَّمهريَّ لأجله
…
ويطربه بان الحمى ويشوقه
ويقلق وجدًا كلَّما عنَّ عارضٌ
…
تذكِّره ثغر الحبيب بروقه
وتغريه إن هبت من الغور نفحةٌ
…
كأن بها حادي الغرام يسوقه
ولم ير زهر الرَّوض إلا وهاجه
…
وأبدى جواه ورده وشقيقه
كذا كلُّ عذريِّ الصَّبابة شأنه
…
وجزب الهوى من قلبه وفريقه
وربَّ خليِّ القلب أضحى معنِّفي
…
ويزعم أنِّي خلُّه وشقيقه
يجرِّ عني كأس السُّلوِّ وإنَّه
…
ليعلم أنِّي لست ممَّن يذوقه
ولو كان لي في سلوة الحبِّ مذهبٌ
…
سلوت ولكن سدَّ عنِّي طرقه
أبى الله إلاّ أن أبيت متيمًا
…
أخا زفرة يتلو الزَّفير شهيقه
/9 أ/ أقضِّي الدُّجى في سوء حظِّي تفكُّرًا
…
وقلبي قد استولى عليه خفوقه
يهدِّدني بالهجر من لا أصدُّه
…
ويظلمني في الحلم من لا أطيقه
وكيف احيالي والزَّمان معاندي
…
وقد كسدت فيه لذي الفضل سوقه
إذا رمت أمرًا كان عكسي مرامه
…
وإن سمته برِّي بدالي عقوقه
ولم يبق لي كهفٌ الوذ بظلِّه
…
جديرٌ بحمد للثَّناء خليقه
سوى ملك مازلت أدعى بعبده
…
على أنَّني من جور دهري عتيقه
وإن كنت بالإحسان منه مقيَّدًا
…
فإنِّي من صرف الخطوب طليقة
مليك إذا ما سابق العيس باسمه
…
حداها دنا من كلِّ نأيٍّ سحيقه
لأنَّ لها علمًا بذلك إنَّما
…
تصادفن من بحر السَّماء عميقه
وفي جودة فضل على البحر إنه
…
إذا فاض لم يخش الهلاك غريقه
متى حئته مسترفدا لنواله
…
حبا كبه من غير مطل يعوقه
ومازال تفريق الصِّلات صبوحه
…
وتأليف شمل المكرمات غبوقه
فمن لآمه في البذل فهو عدوُّه
…
ومن لم يلمه فيه فهو صديقه
وهذا من الأوصاف أعدل شاهد
…
يدلُّ على أنَّ السَّماح عشيقه
/9 ب/ عنا خيفةً من بأسه كلُّ ماردٍ
…
وذل له صعب الحران نزوقه
وعاد لها ما بعد ما كان مرهفًا
…
لدى عزمه ماضي الغرار ذليقه
أخو فتكات في العدا ليس تتَّقى
…
بردٍّ ومقدور القضاء رفيقه
وقورٌ إذا طاشت حلوم ذوي النُّهى
…
رعاه رصينٌ من حجاه وثيقه
يرنِّحه مرُّ الثَّناء بسمعه
…
كما رنَّحت حاسي السُّلاف رحيقه
ويعجبه في الرَّوع أن حسامه
…
يكون دماء المارقين خلوقه
ويلتذُّ إن عدَّت فضائل مجده
…
وإن كان لا تحصى بعد حقوقه
ودعوه ببدر الدِّين لمَّا تمكَّنت
…
يد الإفك بسطًا وادلهم غسوقه
وطال عماد الشِّرك واشتدَّ أزره
…
وعزَّ حماه واشرأب بسوقه
وزحزح عن دين الهدى كل غمَّة
…
بهمَّته العليا وفرَّج ضيقه
وعاد دجى الإيمان أبلج واضحًا
…
كذي البدر لا يبقى الظَّلام شروقه
أمولاي سمعًّا من عبيد لسانه
…
بشرك لا ينفك رهنًا صدوقه
أعيذك أن ترضى لغرس غرسته
…
بنعماك أن يظما وتذوى عروقه
وحاشاك من إهماله وهو مخلصٌ
…
يديم انتسابًا في الولاء عريقه
/10/ يبثُّ فنونًا من صفاتك شعره
…
ويسأل حرًّا من نداك رقيقه
وقد وفدت مولاي بنت قريحتي
…
بمدحٍ كنشر المسك فاح سحيقه
يهنِّيك بالنَّيروز يا خير مالك
…
هناءً حكى وشي الرِّياض أنيقه
سلمت مطاع الأمر ما هبَّت الصَّبا
…
وما ماس مخضر الأراك وريقه
وأنشدني أيضًا لنفسه يمدحه – أدام الله أيامه، وبلغه مرامه-:[من البسيط]
أشاقك البرق نجديًّا تألُّقه
…
وراقك الحزن لمَّا لاح أبرقه
وراع لبَّك ظبي الحيِّ ملتفتًا
…
يخاف من أعين الواشين ترمقه
أوفى على شرف يختال في صلفٍ
…
كالبدر في سدف لم يخف شرقه
وهز من قدِّه لدنًا ومقلته
…
غصبًا ومن طرفه سهمًا يفوِّقه
وكان من سوء حظِّ المستهام به
…
لمَّا تعرَّض فرط الوجد يقلقه
وقوس حاجبه بالوتر موترةٌ
…
فما تزال بنبل اللَّحظ ترشقه
حتَّى إذا استحكمت أسباب محنته
…
وشفه بيد البلوى تعلُّقه
وغرَّ ناظره بالسِّحر ناظرهٌ
…
وصار منكره علمًا يحقِّقه
ألقاه مضنى على فرش السِّقام فما
…
أبقى النُّحول له حقًّا يؤرِّقه
/10 ب/ يا سعد اصغ لقول من أخي ثة
…
يوليك نصحًا فخير القول أصدقه
إيَّاك ريم الحمى إن جزت واديه
…
فكم به من أسير ليس يطلقه
ومدنف ما دنا منه مخاطبه
…
إلَاّ وكاد من الأنفاس يحرقه
واحفظ فؤادك واحذر فهو ذو حيلٍ
…
خفيَّة المكر يدري كيف يسرقه
وصف لديه غرامي واشك ما لقيت
…
نفسي إليه عسى الشَّكى ترقِّقه
واذكر له يوم بان السَّفح كم سفحت
…
عيني من الدَّمع في خدِّي ترقرقه
وقد حدا بالنَّوى الحادي على مضض
…
منِّي وزمَّت لوشك البين أينقه
وقل إذا لان في استعطافه وبدًا
…
عند المقال له سمعٌ يصدِّقه
متى توفِّي ديون الوصل طالبها
…
من بعد ما شاب بالهجران مفرقه
وقد تقضَّت حياتي بالمنى سفهًا
…
وضاع عمري الَّذي قد كنت أنفقه
وما تدرَّعت ثوب الصَّبر في زمني
…
إلا وكفُّ عواديه تمزُّقه
وأنشدني لنفسه أيضًا: [من البسيط]
لا تقلقن إذا نالتك نائبةٌ
…
واصبر لمكروه ما أبدى لك القدر
فللَّيالي صروفٌ في تقلبها
…
عجائبٌ ليس يأتي مثلها بشر
وما صفت هذه الدُّنيا لصاحبها
…
إلاّ واعقب منها صفوها الكدر
فلا تكن جزعًا مما أصبت به
…
فربَّ عسر أتى من بعده يسر
/11 أ/ وربَّما أخفق السَّاعي بقدرته
…
فيما يروم ووافى العاجز الظَّفر
أنشدني القاضي أبو السعادات محمد بن الحسن الشهرزوري لنفسه، يمدح بدر الدِّين لؤلؤ صاحب الموصل:[من البسيط]
هو المحبُّ حليف الهمِّ والفكر
…
وما دهى قلبه شيءٌ سوى النَّظر
كم كان يحذر حتَّى حلَّ في شرك الـ
…
ـبلوى ولم تغن عنه شدَّة الحذر
وصار ذا ذلَّة من بعد عزَّته
…
دهرًا وبدِّل صفو العيش بالكدر
بالله يا هاجر المشتاق صل دنفًا
…
قد باع طيب كرى الأجفان بالسَّهر
واستبق مقلته كيما يراك بها
…
فلذة العين فيها غاية الوطر
وكل يوم جلت رؤياك ناظره
…
فيه فذلك محسوبٌ من العمر
ولا تطع قول اش ظل يحسده
…
عليك في حبِّه يا ضرَّة القمر
سلمت مما أقاسي من جوى وأسى
…
تبيت بينهما روحي على خطر
إلى متى أنا ظمآنٌ إليك وما
…
أروى بقربك في وردي وفي صدري
ألم يحط لك علمٌ أن لي وزرًا
…
به أمنت صروف الدَّهر والغير
حلف النَّدى الملك بدر الدِّين من وسمت
…
أيَّامه في جبين الدَّهر كالغرر
/11 ب/ قالوا: هو البحر إن عدَّ الكرام وهم
…
نهرٌ وكيف يقاس البحر بالنَّهر
عجبت منهم ومن تشبيه نائله
…
بالبحر والفرق باد غير مستتر
ذا راكب الأمل الرَّاجي نداه على
…
أمن وذاك عظيم الخوف والعرر
ثمَّ الغريب لديهم ذكر حاتمهم .. منهم بجود على العافين مشتهر
هلَاّ رأوا جوداك الهامي وقد بدرت
…
كفَّاك مولاي بدر الدِّين بالبدر
وشبَّهوك بليثٍ عند سطوته
…
وذاك منهم دليل العيِّ والحصر
لأنَّ أيسر عبدٍ من عبيدك لو
…
رآه ليث الشرى ولَّى من الخور
وقاس رأيك أقوامٌ بقيسهم
…
هيهات ليس رماح الخطِّ كالإبر
متى ادلهم ظلام الخطب في سبب
…
وحلَّه منك رأىٌ وهو لم ينر
واستعظموا أحنفًا في الحلم واعتقدوا
…
أن ليس مثلٌ له يأتي من البشر
وأنت احلم منه والَّذي نزلت
…
في حقِّه معجز الآيات والسُّور
مولاي يا ملكًا عمَّت مواهبه
…
طوائف النَّاس من بدو ومن حضر
منحتني بجواد لو أسابقه
…
بالريح لم تتعلَّق منه بالأثر
رحب اللَّبان أسيلُ الخدِّ منهرت الـ
…
ـشِّدقين حلو المحيَّا غير منبهر
ضافي السَّبيب كمين اللَّون محكمةٌ
…
أرساغه في وظيف محكمٍ عجز
/12 أ/ من فوق خضر كأمثال الزَّبرجد في
…
ألوانها وهي في الأجسام كالحجر
فحدتنا كزهر الرُّوض فوَّقه
…
كفَّ الحيا فبدا كالأنجم الزُّهر
من كلِّ معنىً لطيف رائق حسن
…
في نثر منتظمٍ أو نظم منتثر
عروس فكر إلى علياك أحملها
…
من فوقه من بديع القول بالدُّرر
لازال عزُّك محروسًا بأربعةٍ
…
بالسَّعد والنصر والإقبال والظَّفر
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من الرجز]
تاه على العاشق باحتشامه
…
واعتقد الصُّدود من إنعامه
وكلَّما طالعه بقصَّة
…
يذكر ما يلقاه من غرامه
وقَّع أعلاها له علامةً
…
دلَّت من الهجر على دوامه
يا قاتل الله الهوى كم دنف
…
به معنى القلب مستهامه
عوَّضه عن عزِّه بذلَّة
…
وبالهوان المحض عن إكرامه
من مبلغي إلى الحمى تحيةًّ
…
عنِّي وأشواقي إلى خيامه
معرضٌ بذكر ظبي جفنه
…
أعارني النحول من سقامه
إن جرَّد السَّيف فمن مقلته
…
أو سدَّد الرُّمح فمن قوامه
لم أنسه وافى بغير موعد
…
ليلًا وواشي القوم من نوَّامه
/12 ب/ فبتُّ طول ليلتي مرتشفًا
…
لريقه أشرب من مدامه
فقام والنُّعاس في أجفانه
…
أذياله تعلق في أقدامه
لو فهم العاذل ما فهمته
…
من حسنه أقصر عن ملامه
لاسيَّما إذا بدا مبتسمًا
…
فإنَّ هتك السِّتر في ابتسامه
وأنشدني لنفسه، يصف مجمرة الطيب:[من الطويل]
ومودعة كتمان سرٍّ وشت به
…
وأدته ما بين النَّدامى مفصَّلًا
توهَّمتها عند الحفاظ جميلةً
…
فألفيتها عند الإذاعة أجملا
تنمُّ بما فيها إذا كان ساكنًا
…
فؤادًا لها نارٌ وتكتم إن خلا
تزيل بريَّاها الهموم كأنَّها
…
سلوُّ محبٍّ لم يكن في الهوى سلا
وأنشدني لنفسه، وذكر أنه صنع ذلك بديهةً:[من الكامل]
كلَّمته فتكلَّلت وجناته
…
عرقًا ولم ينطق لفرط حيائه
فظننت أن الورد ذاك وفوقه
…
بعد الغمام بقيةٌ من مائه
وقال أيضًا، يمدح الملك الرحيم بدر الدِّين /13 أ/ أبا الفضائل صاحب الموصل –خلد الله سلطانه- ويهنئه فيها بشهر رجب وبالنيروز لاتفاقهما في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، موازنًا لقصيدة أبي عبادة البحتري –رحمه الله:[من الوافر]
(أكنت معنِّفي يوم الرَّحيل
…
وقد لجَّت دموعي في الهمول)
رويدك ربَّه الطَّرف الكحيل
…
فكم غادرت من دنفٍ نحيل
وحسبك ما ألاقي من غرامٍ
…
ووجدٍ لازمٍ وجوىً دخيل
ويكفي أنَّني لولا أنيني
…
خفيت عن العواذل من نحولي
هبي عيني الرُّقاد ولا تشحِّي .. بطيف منك يشفي من غليلي
فإن لم تفعلي فعدي جميلًا
…
ولا تستكثري نيل القليل
وممَّا صحَّ قولًا وهو حقٌّ:
…
جمال الوجه أليق بالجميل
فمنِّي وانظري حالي تريها
…
كحال ابن الملوح أو جميل
وأيسرها إذا فتَّشت عنها
…
وإن عظمت مداراة الملول
بحقِّك يا نسيم الرِّيح عرِّج
…
على تلك المعالم والطُّلول
وسلِّم إن مررت بآل سلمى
…
وحييِّ عقائل الحيِّ النُّزول
/13 ب/ وبلِّغ ظبية الوعساء شوقي
…
إذا سنحت ظباء بني عقيل
وما كلفتك الإبلاغ إلا
…
لأنِّي خفت من عذر الرَّسول
وسلها عن فؤاد ضلَّ منِّي
…
غداة البين في أثر الحمول
فما لي منه علمٌ منذ ولَّى
…
سوى عهدي به يوم الرَّحيل
وعرِّفها حنيني وارتياحي
…
إليها في الغدو وفي الأصيل
وأنِّي لست أسلو عن هواها
…
ولا أصغي إلى لوم العذول
وكيف ولم يزل عمري ولوعي
…
بذات الخال والخدِّ الأسيل
وتعجبني الشِّفاه اللُّعس ذهنًا
…
كأنَّ بها جني الزَّنجبيل
ويعذب لي نقيُّ الثَّغر يحكي
…
بريقته حباب السَّلسبيل
واهوى القدَّ ميَّاس التَّثنِّي
…
رشيق الملتوى حسن المميل
ومن أغراه حبًا بعض هذا
…
فليس إلى التَّسلِّي من سبيل
وليس بمنكر إن قيل عنِّي
…
صبا عشقًا ولا بالمستحيل
فكم لعب الهوى قبلي قديمًا
…
بألباب الرِّجال ذوي العقول
ولم أر مخلصًا لي منه إلَاّ
…
إذا ما عذت بالملك الجليل
/14 أ/ حليف الجود بدر الدِّين ملكٌ
…
تعالى عن شبيه أو عديل
وعزَّ عن المفاخر والمناوي
…
وجلَّ عن المباري والرَّسيل
وقصَّر عنه طوق الشُّكر لمَّا
…
سميت أوصافه عن كلِّ قيل
كريمٌ كلُّ من يدعى كريمًا
…
فنسبته إليه كالبخيل
إذا جادت يداه لنا غنينا
…
بجودهما عن الغيث الهطول
وإن سحَّت وشحَّ فما نبالي
…
بجذب العالم فينا والمحول
رزينٌ لو يوازنه ثبيرٌ
…
غدا وهو الخفيف عن الثقيل
حليم عن عظيم الذنب يعفو
…
ويصفح وهو ذو حدٍّ وبيل
وحزمٍ حارت الحكماء فيه
…
وعزم دونه حدُّ الصَّقيل
ورأىٍ لم يفارقه صوابٌ
…
وقلبٍ لم يقلَّب بالذُّحول
شجاعٌ ما تقاعد عن لقاء
…
ومقدامٌ على الأمر المهور
وطلقٌ والزمان به قطوبٌ
…
وماضٍ ليس يتعب بالكلول
ومبتسمٌ وغرب السَّيف يبكي
…
نجيعًا من مقارفة الفلول
ولم تسمع به الأبطال إلا
…
ونادت بالثُّبور وبالعويل
/14 ب/ وودَّع بعضهم بعضًا وقالوا
…
نجاةٌ ما إليها من وصول
يقينًا منهم أن ليس يبقى
…
عليهم غير نائحة ثكول
وأن سطاه مثل السَّيل سارت
…
صواعقه الرَّواسي بالسُّهول
وأضحى كلُّ جبَّارٍ عزيزٍ
…
لها في الحلم كالعبد الذَّليل
تأمَّل منه فردًا تلق جيشًا
…
وإنسانًا تعاين ليث غيل
وإن جاورته جاوت بحرًا
…
تقلُّ به مجاورة السُّيول
إذا ركبت به سفن الأماني
…
تجارت فيه أمنًا بالقبول
تحبُّ عقابه العقبان علمًا
…
بأن لم تخل حينًّا من قتيل
فتعشى الجوَّ أسرابًا تحاكي
…
رعيلًا يقتفي أثر الرَّعيل
وتتبعه سباع الوحش تبغي
…
قراها عنده كالمستنيل
فما ينفك من كرمٍ وبأسٍ
…
على حالي مقامٍ أو رحيل
وإن دعيت نزال سعى ولبَّى
…
وبادر مسرعًا سعي العجول
ويطرب إن جرى للبيض وقعٌ
…
على البيض استماعًا للصليل
وتصيبه الوغى شعفًا إذا ما
…
تجاوبت المذاكي بالصَّهيل
ومادت في سماء النَّقع شهبٌ
…
تلوح من الأسنَّة والنُّصول
/15 أ/ وليس تحرِّك الأيَّام منه
…
سوى يومي نزال أو نزيل
وركب نحوه حثُّوا ركابًا
…
تراوح بالرَّسيم وبالذَّميل
إذا غنَّوا به مالوا اشتياقًا
…
كأنَّهم سقوا صرف الشَّمول
أتوه والرَّجاء لهم شفيعٌ
…
فابوا منه بالنَّيل الجزيل
تحدِّث عنه نعمته عليهم
…
وذاك على النَّدى أقوى دليل
له نسبٌ إلى الحسنى عريقٌ
…
إذا ما عدَّ ذو النَّسب الأصيل
ونفسٌ عزُّها منها إذا ما انتـ
…
ـمى عزٌّ إلى شرف القبيل
وليس الفخر بالآباء فخرًا
…
فتتكل الفروع على الأصول
ولكن من حوى غرر المعالي
…
وكملها تمامًا بالخمول
وبالغ في شتات المال جمعًا
…
لشمل الحمد والمجد الأثيل
كما حاز المكارم بدر تمٍّ
…
تنزه عن محاق أو أفول
مليكٌ لا يضاهيه مليكٌ
…
عديم المثل مفقود العديل
ألا يا أيُّها السُّلطان حقًّا
…
ومن مازال للإحسان يولى
هذا الشَّهر واسعد
…
بنوروز بما تبغي كفيل
وسمعًا ............. محبٍّ
…
رماه الدَّهر منه بالخمول
/15 ب/ وأخَّر حقَّه عنه وأخفى
…
فضائله وقدَّم ذا الفضول
وحاشا عصر مثلك أن يساوى
…
غزير العلم فيه بالجهول
أقلي عثرتي مولاي يا من
…
سواه لم أجد لي من مقيل
فربعك لم يزل حجِّي إليه
…
ولم يبرح حماك به مقيلي
وعمر شبيبتي فيكم تقضى
…
وقد أصبحت أحسب بالكهول
وما لي غير بابك من ملاذٍ
…
وسابغ ظلِّ أنعمك الظَّليل
فهبني نظرةً اقتراحي
…
وخوِّلني رضاك فذاك سولي
وعش كهفًا لملهوف وأبشر
…
فداك النَّاس بالعمر الطَّويل
ودم متملكًا ما لاح برقٌ
…
وما ناح الحمام على الهديل
[743]
محمَّد بن نصر لله بن محمَّد بن القاسم بن نصر الله بن محمَّد بن
أبي القاسم بن عبد الله الأنصاريُّ المعروف بابن النابلسيِّ،
أبو بكر بن أبي الفتح الدمشقيُّ
كان مولده بدمشق سنة أربع وثمانين وخمسمائة.
وهو شاعر ذو قدرة على نظم الشعر، كثير القول، /16 أ/ صاحب بديهة وارتجال. قصد ملوك الشام بشعره، من بني أيوب وغيرهم من الوزراء والأماثل، وربما أنشأ القصيدة من غير فكرة، ولم يضع لها سوداء، ولا يراجع نظره فيها، لتنقيح ألفاظها ومعانيها، وذلك لقوة قريحته.
شاهدته بمدينة الموصل وإربل عدّة مرات؛ فأنشدني لنفسه، يمدح المولى المالك الملك الرحيم، بدر الدنيا والدين، عضد الإسلام والمسلمين، سند الملّة، ملك أمر الشرق والغرب .... أتابك طغر لتكين بلكا أبا الفضائل نصير أمير المؤمنين – ضاعف الله قدرته، وأدام تمكينه ونصرته-:[من الطويل]
مكارم بدر الدِّين يشرقن في العلا
…
كما أشرقت في اللَّيل زهر الكواكب
وقد حاز من دون الملوك مناقبًا
…
أنافت على عد النُّجوم الثَّواقب
وإنَّ ابن عبد الله أشرف مالك
…
من الصيد مشهور العلا والمناقب
فراجيه من دون البرية ظافرٌ
…
بما يرتجيه من جزيل المواهب
يرى أقبح الأشياء أوبة آمل
…
كسته يد المأمول حلَّة خائب
يؤمِّل نعماه العفاة ويرتجي
…
إليه البرايا من جميع المذاهب
/16 ب/ غدا كعبةً للقاصدين فلا ونت
…
تخبُّ إليها تامكات الغوارب
تراه إذا ما جئته طالب النَّدى
…
جميل المحيَّا باسمًا غير قاطب
فملَّكه الله البلاد بأسرها
…
مشارقها موصولةٌ بالمغارب
فما غيره في الصِّيد من يستحقُّها
…
وليس سواه يرتجي في النوائب
فلا زال منصور اللِّواء مؤيّدًا
…
وشاني علاه عرضةٌ للمصائب
وأنشدني أيضًا لنفسه فيه –خلد الله ملكه-: [من الكامل]
مازلت امتدح الأنام فأنثني
…
عنهم بصفقة خاسر مغبون
حتى امتدحت أبا الفضائل ذا الندى
…
فظفرت منه بلؤلؤ مكنون
أغنى افتقاري جوده لمَّا غدا
…
بنداه لي في الدهر خير معين
فلأثنين عليه خيرًا في الورى
…
ما عشت مدة اشهري وسنيني
ولأمنحن علاه شكرًا دائمًا
…
إني بذاك عليه غير ضنين
ولا سألنَّ الله أن سيمدُّه
…
طول المدى بالعزِّ والتَّمكين
والله أكرم أن يردَّ دعاء من
…
يدعو بصالحةٍ لبدر الدِّين
وأنشدني لنفسه فيه أيضًا – أعز الله نصره-: [من الكامل]
/17 أ/ الصِّيد من شبه وبدر الدِّين في
…
حال التَّناسب عسجد ونضار
وإذا الَّلآلئ واليرامع قِّومت
…
لابدَّ أن تتباين الأسعار
وأنشدني فيه أيضًا لنفسه – أوضح الله برهانه-: [من الكامل]
بأبي الفضائل عذت في زمني فها
…
أنا قد آمنت لديه كلَّ مخوف
فكأن بدر الدِّين أهلٌ في العلا
…
لإغاثة المكروب والملهوف
يا أفخر الدُّر الثَّمين ومن به
…
أضحى افتخار قلائد وشنوف
هل يفخر الإكليل وهو مجوهرٌ
…
يومًا بمثل اللُّؤلؤ المرصوف
وأنشدني لنفسه فيه أيضًا – أدام الله سلطانه- من جملة أبيات: [من الطويل]
مدائح بدر الدِّين فرضٌ على الورى
…
فمن لم يفه بالمدح فيه فملحد
فهذا نبيُّ المكرمات وقبله
…
أتانا نبيُّ البيِّنات محمَّد
"صلى الله عليه وسلم".
وأنشدني لنفسه فيه أيضًا، وعمل ذلك بديهًا، يوم الميلاد:[من الكامل]
/17 ب/ لأبي الفضائل لا عدته سعادةٌ
…
في كلِّ يوم فرحةٌ وسرور
ملكٌ على أيام دولة ملكه
…
لا دكن ساطعة عليها نور
وأنشدني لنفسه فيه أيضًا- ثبّت الله دولته-: [من البسيط]
أبو الفضائل بدر الدِّين أشرف من
…
سعى على الأرض من حافٍ ومنتعل
يممته آملًا منه عوارفه
…
فنلت منه ندىً أربى على أملي
فمن لشكري فيه أن يقوم بما
…
أولى وإن كنت بالشُّكر الجميل ملي
فيا له من مليك ساد سائر أمـ
…
ـلاك البريَّة في قول وفي عمل
فالله يحرسه من كلِّ حادثةٍ
…
ما غردت في الضُّحى ورقاء في الأصل
وأنشدني لنفسه يمدح الصاحب الوزير شرف الدِّين أبا البركات المبارك بن أحمد المستوفي –رحمه الله تعالى-: [من البسيط]
أنكرت ما بي ولكن دمعي اعترفا
…
إذ خان صبري وطرفي بالدُّموع وفى
فرحت إذا ظهرت سرِّي الدُّموع أخا
…
تهتُّك في الهوى مستهترًا كلفا
إني لاستعذب التَّعذيب من قمرٍ
…
لم يعره النَّقص في حسن ولا انكسفا
/18 أ/ ريمٌ رنا فرمى عن قوس حاجبه
…
سهمًا فصادف أحشائي لها هدفا
فيا له يوسفي الحسن حاز من الـ
…
ـجمال أنواعه واستكمل الطرُّفا
لدن المعاطف مثل الغصن قامته
…
لكن على عاشقيه قلَّما انعطفا
عذب الرُّضاب شهيُّ الرِّيق يحسبه
…
الصَّهباء والشَّهد طعما من له رشفا
قويم قدٍّ إذا ما ماس من هيفٍ
…
يعلَّم اللُّدن الخطِّيَّة الهيفا
أنكرته ما ألاقي من محبته
…
فقال: أنكرت من بالحال قد عرفا
ستقرع السنَّ إذا انكرت حبَّك لي
…
على الَّذي أنت راج في الهوى أسفا
وسوف تصبح إذا رمت الشَّفاء من الـ
…
ـغرام بي بعد ذا الإنكار حلف شفا
فقلت أترك حبًا أنت تملكني
…
به وأمدح خير العالم الشَّرفا
أعني أبا البركات الأريحيَّ ومن
…
بجوده الغمر كلٌّ راح مغترفا
خير الورى الماجد المأمول والنَّدس الَّـ
…
ذي حوى العزَّ في الأيَّام و ....
ممجَّدًا من أناس في العلا لزموا
…
لغامر الجود في بذل النَّدى السَّرفا
إذا نزلت بهم يومًا لحادثة
…
عرتك ألفيت منهم سادةً رؤفا
قومٌ مناقبهم مثل النُّجوم وقد
…
حباهم الله منه الفخر والأنفا
إذا جرى ذكرهم في محفل فغم الـ
…
ـعبير أدخلت فيه روضةً أنفا
/18 ب/ تبارك الله ما أجراهم سبقاً
…
إلى المعالي إذا ما غيرهم وقفا
هم أنجمٌ وابن موهوب سهيلهم الَّـ
…
ـذي لناظر شانيهم قد اختطفا
كريم قومٍ إذا عدَّ الكرام غدا
…
أممهم إثره كلٌّ تلا وقفا
فيه يجمع ما في النَّاس مفترقٌ
…
فأيُّ وصفٍ جميلٍ ما به وصفا
وأنشدني قوله يهجو أمراء إربل: [من الكامل]
أمراء إربل كلُّهم نسقٌ
…
ما فيه من عنده كرم
قصرت به عمَّا يطول إلى
…
كسب الثَّناء بمثله الهمم
وتكاد لو قطعت أناملهم
…
من شحِّها أن لا يشحَّ دم
وأنشدني لنفسه في الأمير عز الدين محمد بن بدر الحميدي الكردي:
[من البسيط]
من مبلغٌ لابن بدر غير مكترث
…
عنِّي مقالة مشهور من الدُّول
أنفقت من عمري في غير فائدةٍ
…
يوماً ببابكم واخيبة الأمل
وأنشدني قوله: [من البسيط]
إنَّ ابن آدم إن أضحى وليس له
…
قوتٌ وأمسى ضعيف البطش والجلد
للموت خيرٌ له إذ عيشه نكدٌ
…
من الحياة ولو دامت مع الأبد
/19 أ/ وأنشدني من شعره لنفسه: [من الخفيف]
يا مليكاً له نواله ينشر العا
…
مي وقد كان قبل عظماً رفاتاً
شرف الدِّين بحر نعماك أضحى
…
لجميع الورَّاد عذباً فراتاً
أنا ميتٌ وأنت عيسى ومن معـ
…
ـجز عيسى أن يحيي الأمواتا
وأنشدني لنفسه ملغزاً، في فص النرد:[من البسيط]
وأسمر الجسم غرَّار يهام به
…
مسدَّس الشَّكل فيه النَّفع والضَّرر
أفعاله قدريَّاتٌ فصاحبه
…
لم ينجه منه في تصريفه القدر
وأنشدني لنفسه أيضاً: [من البسيط]
وقائل قم إلى رزق تحصِّله
…
فقلت دعني فإنَّ الرِّزق مقسوم
ما كان لي سوف يأتيني فما لي والـ
…
ـحرض الَّذي هو عند النَّاس مذموم
[744]
محمَّد بن يحيى بن الفضل بن يحيى بن عبد الله بن القاسم بن
المظفر بن عليٍّ، أبو حامد بن أبي طاهرٍ الشهرزوريُّ الموصليُّ.
أخبرني أنه؛ ولد ثامن عشر شهر رمضان /19 ب/ سنة تسعين وخمسمائة. من أبناء القضاة المشهورين. وكان والده قاضي الجزيرة العمرية.
وهم أهل بيت أشهر من أن ينبه على محله في الجلالة والمكانة في العلم والجاه، وانتشر ذكرهم في الأقطار.
وأبو حامد تفقّه على مذهب الإمام الشافعي –رضي الله عنه بالموصل وبغداد، ونظم شعراً كثيراً، فأجاد وأحسن. مدح الرؤساء والأمراء والملوك، وهو شاب جميل له رواء ومنظر، يتزيا بزيّ الجند؛ فيه لطافة، لقيته بمدينة السلام، متوجهاً [إلى] بيت الله الحرام- حرسه الله تعالى- سنة اثنتين وعشرين وستمائة.
أنشدني لنفسه، ما كتبه إلى المولى الرحيم، بدر الدنيا والدين، عضد الإسلام والمسلمين، نصير أمير المؤمنين –أدام الله سلطانه-:[من الوافر].
ألا يا مالكاً عمر البرايا
…
بسيب نواله الجمِّ الغفير
أتيتك مستجيراً بعد ضرٍّ
…
فهل لك في إجارة مستجير
عددتك للنوائب خير ذخرٍ
…
وها أنا في يديها كالأسير
فلا تشمت بي الأعداء إنِّي
…
على أعداك كاللَّيث الهصور
/20 أ/ وسوف أصدِّق الدَّعوى بيومٍ
…
عبوس في الكريهة قمطرير
وليس يطول للإنسان ذيلٌ
…
إذا ما خاف من أجلٍ قصير
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من الوافر]
وليلة أقبلت كالبذر نشوى
…
يميِّل عطفها مرُّ الرِّياح
تعاطيني كؤوس الثَّغر لمَّا
…
حماها الثَّغر بالبيض الصِّفاح
فأرشف من مراشفها الحُميَّا
…
والثم من ملثَّمها الأقاحي
وجيش اللَّيل مهزومٌ وأيدي
…
كواكبه تطرِّق للصباح
يقوم الدِّيك كالنشوان فيها
…
ليوقظنا بتصفيق الجناح
ينادي للصباح إذا غفلنا
…
عن الأقداح: حيَّ على الفلاح
فنبتكر السُّلاف بكفِّ بكرٍ
…
مهفهفةٍ معاطفها رداح
على وردٍ من الوجنات غضٍّ
…
وريحان به تعي وراحي
ونشر من كمال الدِّين هبَّت
…
به كالمسك أنفاس الرِّياح
أبي الكرم الَّذي لولا نداه
…
لما ظفر العفاة بمستباح
محمَّد الرَّسول إلى البرايا
…
بآيات المكارم والسَّماح
[745]
محمَّد بن عبد اللطيف /20 ب/ بن أبي الفتح بن أبي نصرٍ،
أبو عبد الله التبريزيُّ
ويكتب في نسبته النثري؛ لتعاطيه نوع المنثور، دون المنظوم.
أخبرني، أنه ولد سنة أربع وسبعين وخمسمائة، بتبريز. وشدا طرفاً من العلم في
صباه، واعتنى بصناعة النثر، وتعاطي الكلام المسجوع والقرائن، وكان يتبع الكلمة بما وازنها ويلحقها بأختها، تشبهاً بطريقة وطواط الكاتب، فيما ينشئه، غير أنَّه يبين فيه تكلّف وركاكة، للزومه الأسلوب الذي يتوخّاه.
وله شعر بارد، وكان ذا هوسٍ شديد في الطِّلَّسمات والنجوم، ونزل الموصل، وسكنها مدة طويلة، وانضاف إلى خدمة المولى المالك، الملك الرحيم بدر الدين أبي الفضائل –ضاعف الله جلاله- وصار أحد ندمائه، وأجرى عليه رزقاً.
ثم سافر إلى بلاد الشام، وعاود الموصل، فمكث بها أشهراً، وتوفي في ربيع الأول سنة ثماني وعشرين وستمائة.
أنشدني لنفسه، يمدح المولى المالك، الملك الرحيم، بدر الدنيا والدين، عضد الإسلام والمسلمين، نصير أمير المؤمنين- أعز الله أنصاره-:[من الطويل]
نسيم الصَّبا عج بالخيام رسولا
…
تجد عندها برد الحياة رسولا
/21 أ/ وحيِّ مليك الأرض تحظ بقربه
…
تنل غرراً من جوده وحجولا
تأنَّ إذا بادرت نحو جنابه
…
وعرِّج برفق لا يراك عجولا
فإنَّك إن لم تعتضد بجلاله
…
أفادك شوب الحادثات ذبولا
وجانب ملك الأرض عند لقائه
…
فأخلاقه للمكرمات هيولى
تر العدل والإحسان والعزَّ والعلا
…
جائبه في سيره وخيولا
مليكٌ إذا ما جئت تطلب رفده
…
أفاض من النُّعمى عليك سيولا
من النَّفر البيض الَّذين برأيهم
…
يجرُّون فوق الكائنات ذويلا
هو البدر والعلياء تحوي منازلاً
…
وجثته فيها تحلُّ حلولا
أرى الدهر لمَّا أن ارانا بعاده
…
أحلَّ بنا ريب الزَّمان غلولا
فصرنا فروعاً لا بقاء لذاتنا
…
لقضبان بان قد فقدن أصولا
الا بح بأشواقي وكرِّر مدائحي
…
وبلِّغ دعائي دائماً ونصولا
فلو سامح الدَّهر الخؤون بنظرة
…
وصلت إلى ذاك الجناب وصولا
وهنَّيت مولى العالمين مبشَّراً
…
بفتحٍ جديدٍ أو لكنت أصولا
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من السريع]
مالك لا تبكي بدمعٍ هتون
…
قد كسر الموت متون المنون
/21 ب/ إذ قال جبريلٌ وهم صامتون
…
إنَّك ميتٌ وهم ميِّتون
[746]
محمدبن يوسف بن مسعود بن بركة بن سالم بن عبد الله بن
جساس بن قيس بن مسعود بن محمد بن خالد بن محمد بن
خالد بن يزيد بن خريد بن زائدة بن مطر بن شريك بن عمرو بن
قيس بن شراحيل بن همام بن مرّة بن ذهل بن شيبان، أبو عبد
الله بن أبي المحاسن الشيبانيُّ التَّلعفريُّ الموصليُّ.
أخبرني، أنه ولد في خامس عشري جمادى الآخرة، سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة بالموصل. وكان أبوه شاعراً من أهل تلعفر.
ومحمد هذا، شاب أسمر لطيف الخلقة مكتنز، بذيء اللسان، بهيّ الشعر، مدّاح هجاء. له هجاء شنيع، لم يسلم منه أحد، وله في كل صنف من المنظوم: كالموشح، والدوبيت، والمواليا، والرجز، والمزدوج، وكان وكان؛ وغير ذلك، إلَاّ أنَّه غير مرضي الطريقة؛ بتبذله وانهماكه في الشرب، والتظاهر بالخلاعة، والتهتك والفسق والقمار والسرقة، وأشياء مما تقارب هذه الأشياء المنكرة التي لا تليق بذوي
الفضل والأدب فهي التي /22 أ/ أهبطته وأسقطته في أعين الناس.
أنشدني لنفسه يمدح المولى المالك العالم العادل المؤيد الملك الرحيم، بدر الدنيا والدين، عضد الإسلام والمسلمين أتابك طغرل تكين أبا الفضل غرس أمير المؤمنين- خلد الله دولته- وأنشه إياها بظاهر الموصل، في الجوسق المعمور ببستانه، وذلك في سنة تسع وعشرين وستمائة:[من الخفيف]
لا تلمه على الهوى فافتضاحه
…
صونه فيه والفساد صلاحه
كلكم معشر العواذل في نهـ
…
ـج على العاشقين ضاق انفساحه
خنتم المستهام ظلماً وجرتم
…
وزعمتم بأنَّكم نصّاحه
عذبت طيبة مطارحة العشـ
…
ـق فصعبٌ على المحبِّ اطِّراحه
وقليلٌ إلى مواسمه بالـ
…
ـعين منه غدوُّه ورواحه
يا خليي سر بي متى ما تبدَّت
…
لمعٌ منه هان لي إيضاحه
سل نسيم الصَّبا إذا ريض في مسـ
…
ـكيِّ روض الحمى الأريض جماحه
ألريَّا هذا الذي فيه من ريَّـ
…
ـا أم الزَّهر فتَّحته رياحه
جاده طيَّبٌ من المزن يحكي
…
صوبه دمع مقلتي وانسفاحه
ورعى الله عهد ذات جمالٍ
…
جال في كشحها الهضيم وشاحه
/22 ب/ غادةٌ خال خدِّها أين لثمي
…
منه في خدِّها وأين امِّساحه
شعرها والظَّلام منه كسى جسـ
…
ـمي سقاماً أم وجهها وصباحه
ربَّة المبسم الذي راحة الأر
…
واح في أن تريحها منه راحه
هبك بالوصل تبخلين وشرط الـ
…
ـحبِّ أن تهجر السَّماح ملاحه
أجناحٌ على الخيال إذا ما
…
زار وهناً واللَّيل وحفٌ جناحه
أرسليه فوانعطافك لاريـ .... ـع برعبٍ ومقلتاك سلاحه
واسأليه يجبك كيف رقادي
…
فلقد طال عن جفوني انتزاحه
حسب قلبي بأنَّه بالأسى قد
…
أعجزت فيك كلَّ آس جراحه
وفؤادي بأنه جدَّ فيه الـ
…
ـوجد لمَّا جناه منه مزاحه
لك منِّي الهوى الذي راق حسناً
…
ولبدر الدِّين الرَّحيم امتداحه
ملكٌ فاتكٌ جوادٌ لمن زا
…
غ ومن زار بأسه وسماحه
بالمعالي ارتداؤه فله اللّـ
…
ـه نصيرٌ وبالفخار اتِّشاحه
ضمنت كفُّه الأماني وقالت
…
للبرايا: العافي عليَّ نجاحه
أيُّ باب للرزق أغلقه الدَّهـ
…
ر وما كان عنده مفتاحه
كلَّما قلَّ ماله بالعطايا
…
زاد من صدره الرَّحيب انشراحه
/23 أ/ ولعمري أبو الفضائل ما يذخر
…
مالاً صان العلا مستباحه
غيث جذب يسدي الأيادي نداه
…
ليث حرب يردي الأعادي كفاحه
ما دجا ليل عثير النَّقيع إلاّ
…
وأضاءت سيوفه ورماحه
نشر الجود عنه نشر ثناء
…
أرج الأرض بالشَّذا نقَّاحه
فاللَّيالي والإنس والجنُّ والطَّيـ
…
ر مع الوحش كلُّهم مدَّاحه
لم يدبر تدبيره الملك لا منـ .... ـصوره قبله ولا سفَّاحه
مستهامٌ بالبرِّ ما ألفت غيـ .... ـر شتات الكنوز بالبذل راحه
فإذا لامه على الرِّفد لاح
…
زاد في بذله اللُّهى إلحاحه
مكرماتٌ قلب المآثر والمجـ .... ـد بها اليوم جمةٌ أفراحه
ملك الأرض دعوةً من وليٍّ
…
لاح لمَّا إليك مال فلاحه
فو رأى الجوهريُّ أشعاره فيـ
…
ـك لكانت قد أودعتها صحاحه
علَّمتني صفاتك الشِّعر حتَّى
…
عذبت راحه وراق قراحه
فرفضت العلا ولا كنت يوم الـ
…
ـفضل ممَّن يبينه فصَّاحه
إن حبست الثَّناء عنك إلى حـ
…
ـين أرى جسمي الرَّدى يجتاحه
جدت لي بالنَّوال عفواً وإحسا
…
نك كم عمَّ آملاً سحَّاحه
/23 ب/ دمت للملك ما تغنَّت من الطَّيـ
…
ـتر على الدَّوح عجمه وفصاحه
في سرورٍ قد قارنت غراراً تشـ
…
ـرق منه طول المدى أوضاحه
وأنشدني لنفسه أيضاً، يمدح الصاحب الوزير شرف الدين أبا البركات المستوفي بإربل –رحمه الله تعالى-:[من الكامل]
لو كان طيفك زائري يا هاجري
…
ما أسبلت صوب الدُّموع محاجري
لكن غرامي طال فيك وإنَّه
…
لمَّا رأيتك رب طرفٍ قاصر
يا مالكاً رقَّ القلوب وباسطاً
…
فيها ظلامة حاجبٍ أو ناظر
عجبي لقدِّك كيف أصبح عادلاً
…
من تحت طرفك وهو أفتك جائر
من للمقيَّد في هواك ووجده
…
مترادفٌ من هجرك المتواتر
لو لم تته عجباً بحسن كامل
…
ما بتُّ فيك حليف حزن نافر
أنت المعزُّ لمن تشاء وها أنا الـ
…
ـمشغوف منك بحاكمٍ وبآمر
أرسلت صدغك آيةً ثعبانه
…
في فترة الجفن الأغنِّ السَّاحر
صوِّرت لي صنماً فزاد ضلالتي
…
لمَّا عكفت عليه لهو السَّامري
لو لم أرح وأنا المطيع للوعةٍ
…
أضرمتها لأخذت أخذ القادر
/24 أ/ ورضاب ثغرك وهي أيُّ أليةً
…
ميني بها وأعوذ منه ضائري
إن الذي عاهدته وعهدته
…
منِّي لذو صدقٍ وسقمٍ ظاهر
أتهمت إذا اتهمت قلبي بالقلى
…
فهدمت منه أخاً الغرام العامري
أيجوز عندك نهر سائل مدمعي
…
جار على رسم الخدود الدَّاثر
حتَّى م تصبح في وصالي زاهداً
…
وأبيت في وله لعيني فاجر
أصبو إلى ريق بثغرك باردٍ
…
وأخاف من لحظً بطرفك فاتر
ومن البليَّة لوم ذي لؤم لحاً
…
..... وعذار خدِّك عاذري
ماذا عليه وقد رآني راضياً
…
بالعذر منك ومنه شيب غدائري
يا ساكباً منِّي السَّواد وهادماً
…
ركني أتئذ إن ابن أحمد ناصري
شرف الورى والدِّين والباني العلا
…
المطرى بجود كالسحاب الماطر
صدرٌ يحدِّث مورداً سير العلا
…
والمجد عنه واردٌ عن صادر
غيث النَّدىِّ لكلِّ عاتق غارمٍ
…
هو معتقٌ بندى يديه الغامر
يا باغي العلم المصون وخائفاً
…
باغي العدا من كلِّ ضار ضائر
يمِّم أبا البركات تظفر عنده
…
بالفضل بل بمضاء جدًّ قاهر
لولاه كان الدَّهر أفرغ فارغٍ
…
لكن غدا بثناه أفغر فاغر
/24 ب/ ومن الفريضة شكر اهجر هاجر
…
لخناً وبالإحسان أجهر جاهر
ما روضةٌ ضحكت ثغور أقاحها
…
أصلاً بدمع بكا السَّحاب الباكر
وشَّى الرَّبيع لها مفوَّف حلّة
…
قد رصِّعت من حليه بجواهر
وغدت تلامح زهرها شمس الضُّحى
…
من خلف سجف الغيم بين ستائر
حتَّى إذا ما اليوم رقَّ رداؤه
…
وأنهار جرف نهاره المتقاصر
باتت خدود شقيقها محميَّةً
…
من عين نرجسها بطرفٍ ساهر
وجرى النَّسيم بها تجرُّ عليله
…
ذيلاً ويخطو فيه خطو العاثر
متحمِّلاً في برده من عرفها
…
أرجاً ينمُّ على شذاها العاطر
كثنا ابن أحمد ذي المكارم والعلا
…
نشراً وقف نسمع حديث النَّاشر
عن ذي جبين بالبشاشة سافرٍ
…
طلق الضِّياء لكلِّ ذنبٍ غافر
متبرِّع متورِّع فاعجب له
…
من ذاكر من لم يسله وشاكر
حاز الصِّفات فما يشقُّ غباره
…
من فاق من آت ولامن غابر
يسمو به في كلِّ يوم تشاجرٍ
…
قلمٌ يطول على القنا المتشاجر
يسطو إذا ما ثار نقع مسائلٍ
…
قد أشكلت بشباه سطوه ثائر
قلمٌ لجوهر كلِّ مجدٍ حارزٍ
…
فالدَّهر منه مدير لحظ خازر
/25 أ/ يجريه حكم أغنَّ سام داره
…
عمرت على فلك السَّماء الدَّائر
سار إلى سرِّ الفخار وآسر
…
ما ندَّ من مثل العلاء السَّائر
قل للمثير عجاج عجز خلفه
…
ويروم معجزة بغير مآثر
أينال ما قد نال أصلع حاسرٌ
…
عن ساعديه وأنت اطلع حاسر
شرف المعالي اسمع ثناءً لم يكن
…
لولاك يجري خاطراً في خاطري
قد كنت صنت قصائدي في خدرها
…
فأبانها مدح الهزبر الخادر
إليك أشكو جور دهرٍ زائغٍ
…
بأذاه عن غير فكم هو زائري
فعساك تنجد ربَّ صبرٍ عابرٍ
…
ممَّا يكابده ودمع غائر
اجبر بصنعك سؤر ما أبقاه من
…
عمري زمانٌ كالعقاب الكاسر
واسعد بها يا ذا النَّدى رائيَّةً
…
آنست منها كلَّ معنى نافر
أتقنت محكمها بحذقٍ صناعة
…
من ذي ضميرٍ كالجواد الضَّامر
إن قال في هذي البريَّة شاعرٌ
…
أختاً لها فحشرت محشر كافر
زارت على بعد المزار وخلفها
…
من فرط شوقي أيُّ حاد زاجر
فانظر لنظرتها بناظر مرتضٍ
…
راضٍ لها نظر الصَّفوح العاذر
لازلت تبلغ ما ترنَّم طائرٌ
…
ما شئت من أملٍ بأيمن طائر
/25 ب/ وأنشدني أيضاً لنفسه، غزل ابتداء قصيدة:[من الكامل]
حتى م أرفل في هواك وتغفل
…
وإلى م أهزل من جفاك وتهزل
يا مضرماً بصدوده في مهجتي
…
حرقاً يكاد لهنَّ يذبل يذبل
القلب دل عليك أنَّك في الدُّجى
…
قمر السَّماء له لأنَّك منزل
هب أن خدَّك قد أصيب بعارضٍ
…
ما نال صدغك راح وهو مسلسل
قسماً بحاجبك الذي لم ينعقد
…
إلا أرانا السَّبي وهو محلَّل
وبماء ثغرك من سلافة ريقه
…
عذبت فقيل هو الرَّحيق السَّلسل
لولا مقبَّلك المنظَّم عقده
…
ما بات من يهواك وهو مقبَّل
حزني وحسنك إن لغا من لا مني
…
ونحوت هجري مجملٌ ومفصل
لو كنت في شرع المحبَّة عادلاً
…
يا ظالمي ما كنت عنِّي تعدل
ألحى عليك ولو درى بصبابتي
…
لأراحني من لومه من يعذل
أوما العجيب أنَّ دمعي معربٌ
…
عن سرِّ ما أخفيه وهو المهمل
أضحى ويا لك من بلاء هاتكاً
…
سرَّ الهوى وعليه أصبح يسبل
يا آمري بسلوِّه ليغرَّني
…
إنَّ السُّلوَّ كما نقول لأجمل
/26 أ/ لكن يعزُّ خلاص قلب متيَّمٍ
…
تركته أيدي الهجر وهو مبلبل
هيهات كلَاّ لا نجاة لمن غدا
…
من جسمه في كلِّ عضوٍ مقتل
وأنشدني لنفسه في الملك الأشرف مظفر الدين، وكان معه في الخيمة، بحباب التركمان بين حماة وحلب، عند رجوعه من جهاده، وقد لسعته عقرب في كفه، فأنشأ ارتجالاً:[من السريع]
يا ملك الأرض وكهف الورى
…
ومن إلى ساحته المهرب
ما لسعت كفَّك عن هفوة
…
أقسم منها هذه العقرب
لكن رأته وهو سمٌّ على
…
مالك لا يرقى ولا يذهب
فأقبلت تشتاق من بعضه
…
باللسع شيئاً علَّها .....
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من الكامل]
سل عن دمي ليلى إذا هي أقبلت
…
بين النِّساء وخدُّها كالعندم
ومتى أبت إلا الجحود وانكرت
…
فانظر على وجناتها أثر الدَّم
يا للرجال وإنَّها لعجيبةٌ
…
ما مثلها أبداً إليه مقسَّم
/26 ب/ أخشى قناة قوامها ومقاتلي
…
غرضٌ لما في لحظها من أسهم
وأهاب عقرب صدغها ويدي على
…
وما أرسلت من شعرها من أرقم
ما ذاك من سفه ولكن لا هو ى
…
ما لم يذر ربَّ البصيرة كالعمى
ومعنَّفي جهلاً على عشقي له
…
اذكى بمرِّ العذل نار تألُّمي
ناديته قسها إلى شمس الضُّحى
…
حسناً فإن هي لم ترد نوراً لم
وأنشدني لنفسه أيضاً، يهجو ابن عنين الشاعر:[من الطويل]
أرى أبن عنين لا كلا الله نفسه
…
أخاف الورى طرًّا بمرِّ هجائه
ولم يهملوه خشيةً منه إنَّما
…
رواه مهينًا ذمُّه كثنائه
وأنشدني أيضاً لنفسه من أبيات: [من الطويل]
تتيه على عشَّاقها كلَّما رأت
…
حديث صفات الحسن عن وجهها يروى
فتاةٌ لها في مذهب الحبِّ حاكمٌ
…
بقتل الورى أعطى لواحظها فتوى
يرنِّحها سكر الشَّباب فتنثني
…
بقدٍّ إذا ماست تكاد بأن تلوى
ولو لم يكن في ثغرها نبت كرمةٍ
…
لما أصبحت أعطاف قامتها نشوى
وأنشدني لنفسه، يمدح أهل البيت /27 أ/ صلوات الله عليهم وسلامه-:
[من الخفيف]
خلِّني من حديث زيد وعمرو
…
واسع بي يا نديم نحو العمر
واسقني قهوةً إذا ما تبدَّت
…
في الدُّجى خلتها عمود الفجر
بنت كرمٍ ما لي إذا بتُّ منها
…
صاحياً فرد ليلة من عذر
فأدر لي في جامد الفضَّة البيـ
…
ـضاء من كأسها مذاب التِّبر
ثمَّ قل للَّذي يلوم عليها
…
خلِّني أيُّخا العذول وزري
أإذا كنت ذا ضلال وإثمٍ
…
تغتدي أنت نائماً في قبري
قسماً لا ثنيت عنها إلى المو
…
ت عناني فدع ملامي وزجري
أنا راضٍ أن ألتقي الله فرداً
…
والحميَّا ما بين سحري ونحري
فأدرها في كأسها واسقنيها
…
ليلة القدر أو ليالي العشر
من يدي فاتر اللَّواحظ معسو
…
ل الثَّنايا أحوى دقيق الخصر
تحسب الكأس وهي في يده تشـ .... ـرق شمسًا تلوح في كفِّ بدر
لا حياةٌ لغير من لم يبت يحـ
…
ـيي الدَّياجي ما بين عود وزمر
في رياضٍ خضر يطوف بها البيـ
…
ـض مع السُّمر بالكؤوس الحمر
بين دوحٍ تميل منه غصوناً
…
مورقاتٍ ريح الصَّبا حين تسري
/27 ب/ كلَّما حركت أنامل شادٍ
…
وتراً جاوبته ألحان قمري
[747]
محمَّد بن العباس بن أبي الفضل بن أبي القاسم بن أبي محمَّدٍ،
أبو عبد الله الموصليُّ الحكم.
تولّى في الدولة البدرية الحكومة في الملاعب والحرف والصنائع، كصنعة المنافقة، والصرَّاع. وذوو الشطارة والسعادة، وأصحاب المعالجة، يرجعون إلى كلامه، ويقتدون بقوله، وإليه الحكم في ذلك. ويكتب خطاً حسناً، ويقول الشعر الرائق.
أنشدني لنفسه، يمدح المولى المالك الملك الرحيم بدر الدنيا والدين، وعضد الإسلام والمسلمين، تاج الملوك، شرف السلاطين أتابك طغرل تكين أبا الفضائل نصير أمير المؤمنين –خلد الله دولته- وكبت أعداءه وحسدته-:[من الكامل]
ألَاّ سألت الربع والأطلالا
…
فعسى المعالم أن يجبن سؤالا
هي وقفةٌ إمَّا لإدراك المنى
…
أو أن تضاعف عندك البلبالا
أمّا الخليط نأى بقلبك عاجلاً
…
وحنين قلبك زاده إعجالاً
جعلوا السُّها نصب المطيِّ وحجَّبوا
…
في كلِّ سجفٍ للحدوج هلالا
/28 أ/ فأذل دموعاً صنتها فلطالما
…
أذرفت قلبك مدمعاً هطالا
وأجنح لترجيع الحمام فطالما
…
بكت الهديل فأبكت الأطلالا
ما هذه في الربع أول وقفة
…
المشتاق تهمل دمعه إهمالا
فاعص العواذل ما استطعت فقلَّما
…
يدعى ملولاً من عصى العذَّالا
ومتى أضرَّبك الهوى فاجنح إلى
…
ملك تصادف عنده الإحلالا
ملكٍ لو ادَّعت السَّماء تطاولاً
…
بمكارمٍ لسما السَّماء وطالا
أسدٍ وما الأسد الهزبر وإنَّنا
…
لنجلُّه عن مثله إجلالا
وأنشدني لنفسه أيضاً، مبدأ قصيدة:[من الرجز]
أشاقك البرق بتيماء ومض
…
أم استباك السِّرب صبحًا إذ عرض
لا تبعثنَّ الطَّرف إثر غادر
…
فربَّ رامٍ سهمه أخطا الغرض
ما من وفى بعهده ووعده
…
دهراً لمن خان الحفاظ ونقض
وافه الوعد المطال فاستعر
…
صبراً وإن عزَّ عليك فافترض
يا بأبي الناشد قلباً بالحمى
…
ضلَّ ولمَّا يبغ عنه [من] عوض
كلَّفه حمل الهوى من كلف
…
النَّاشط من عقاله حين نهض
/28 ب/ بانوا فأي كبدٍ لم تستعر
…
ناراً وأيٌّ دمع عينٍ لم يفض
وأنشدني أيضاً لنفسه من أخرى: [من البسيط]
نعم نعمت صباحاً أيُّها الطَّلل
…
لأهلك الأهل إن حلُّو وإن رحلوا
سجيَّةٌ من كريم لا يغيِّره
…
نأى الأحبَّة إن جاروا وإن عدلوا
ما لاح برقٌ ولا ناحت مطوَّقةٌ
…
إلَاّ صدفت فلا ميلٌ ولا ملل
أعلِّل النَّفس والعذَّال تكثر من
…
لومي وأني يفيد اللَّوم والعذل
واكتم الوجد وهو الدَّمع يفضحه
…
كأن دمعي رقيبٌ حين ينهمل
يا صاحبيَّ أناةً بالمطيِّ ولو
…
لوث الأزار فبي عن وخدها شغل
هل شيَّع الركب من دعواه صادقةٌ
…
في الحبِّ أم كلُّهم للوجد منتحل
كلٌّ يلوم النَّوى يوم الفراق وما
…
يجني التَّباعد إلَاّ الخيل والإبل
كم ليلة بتُّها والنَّجم يلحظني
…
شزراً وجفني بالتَّسهيد مكتحل
حتَّى إذا رقد الواشي وأمكن من
…
ليلى المزار و .... بيننا السُّبل
زارت على وجل خوف الرَّقيب وما
…
أحلى الزِّيارة حيث الزَّائر الوجل
بيضاء تسفر عن بدر وتبسم عن
…
درٍّ يجيب ليلاً شعرها الوجل
في وجهها خفرٌ في طرفها حورٌ
…
في قدِّها خفَّةٌ في ردفها ثقل
/29 أ/ لها من الظَّبي جيدٌ والمها حدقٌ
…
والخيزرانة قدٌّ والنَّقا كفل
تمشي ودل الصِّبا يثني معاطفها
…
كأنها شاربٌ من ريقها ثمل
وتحمل الرِّيح ريَّاها إذا انبعثت
…
من خدرها فيضوع الحيُّ والكلل
وأنشدني لنفسه من قصيدة أخرى: [من الطويل]
هلا ليس ما دون الثَّنَّية منزل
…
وصبراً فهل غير الثَّويَّة منهل
أناق لئن قصَّرت عن غاية المدى
…
فعزمي أهدى ما امتطيت وأهمل
حرامٌ عليَّ النَّوم يا ميُّ بعدها
…
إذا لم أنل من هذه ما أؤمِّل
وبي فرط وجد حلَّ بين جوانحي
…
وصدري فلا ينأى ولا ينتقَّل
متى شمت من أطلال برقة بارقاً
…
دعاني هوى خلَّفته ثم أول
ومن ولهي بالربع لم أر منزلاً
…
بتيماء إلاّ قلت حيِّيت منزل
فلولا الهوى العذريُّ لم أدر ما الهوى
…
ولولا الحمى النَّجديُّ ما عجت أسأل
خليلي هلَاّ تعذران أخاكما
…
على دائه فالعذر بالحرِّ أجمل
أجدَّ كما أنِّي جليدٌ على الهوى
…
وما كلُّ من يستحمل الضَّيم يحمل
منعت جفوني من أن تطعم الكرى
…
كأنَّ سهاداً بالجفون موكل
وقلت ارتقب طيف الخيال وإنَّني
…
لفرط غرامي بالمنى اتعلَّل
/29 ب/ وأنشدني لنفسه: [من المنسرح]
صدَّ فليس الصُّدودمن شانه
…
ولجَّ في هجره وعدوانه
ريمٌ رماني عن قوس حاجبه
…
سهماً مراشاً بهذب أجفانه
عذَّب قلبي على العذيب فمن
…
ينصف قلبي من جور جيرانه
ولو لوى باللَّوى ثنيت على
…
تلك الثَّنايا صدور ركبانه
يا بأبي قدَّه الَّذي يفضح الـ
…
ـغصن إذا ماس فوق كثبانه
أنست منه النِّفار إذ كلُّ إنـ ..... ـسان له رائدٌ بإنسانه
يا سعد من يسعد المحبَّ وقد
…
أشقاه محبوبه بهجرانه
فانظر عياناً واضع استماعاً فما
…
قام دليلٌ إلَاّ ببرهانه
لو عدل القلب في الحكومة ما
…
شكوت قاضيه ظلم أعوانه
وأنشدني لنفسه: [من الطويل]
تناءت فلم يضمن لها القلب سلوةً
…
ولمَّا يزدها البعد إلَاّ تدانيا
وإنِّي وإيَّاها على القرب والنَّوى
…
صبوران إن موتاً وإمَّا تلاقيا
[748]
محمَّد بن سليمان بن كمشتكين /30 أ/ بن إسفنديار المجلّد،
أبو عبد الله الموصليُّ
كانت صنعته في ابتداء أمره تجليد الكتب والدفاتر، ثم تركها وصار يكتب القصص، ويقول الشعر، ويمدح به الرؤساء والأكابر؛ وله بديهة في النظم، وخط حسن. ولقي جماعة من الشعراء، وأخذ عنهم من أشعارهم.
وهو شيخ ممتَّع بإحدى عينيه، أبيض اللون، تعلوه صفرة. وتوفي بسنجار في سنة ستٍّ وثلاثين وستمائة، وقد نيّف على التسعين.
أنشدني لنفسه، في المولى المالك، الملك الرحيم، بدر الدنيا والدين، عضد الإسلام والمسلمين، قطب المعالي، ناصر الحق أتابك طغر لتكين بلكا، نصير أمير المؤمنين –أيد الله سلطانه- حين عمل القنطرة والشباك بالباب العمادي. وكان يجلس به يحكم بين الناس في قضاياهم:[من الكامل]
لو أنَّ كسرى في زمانك لم يكن
…
أذكى بسلسلة إلى الإيوان
شبَّاكنا في كلِّ عامودٍ له
…
يا سيٍّد الأملاك سلسلتان
وأنشدني لنفسه أيضاً: [من الخفيف]
من مجيري من طرفه النِّبال
…
ومعيني على صروف اللَّيالي
بدر تمٍّ حوى جميع المعاني
…
غصن بان يهتزُّ كالعسَّال
/30 ب/ حلَّل الهجر واستحلَّ دم
…
الصَّبِّ وهذا في الشَّرع غير حلال
أتمنَّى وصاله كلَّ عامٍ
…
وأرجِّي خياله في الخيال
ولقد كان قبل هذا التجنِّي
…
مستهاماً بزورتي ووصالي
في زمان يفوق كلَّ زمانٍ
…
وليال كأنهنَّ اللآلي
وجبينٍ كالبدر يحمل شمساً
…
من عقارٍ من غيره ما حلالي
وإذا أعوز المدام علينا
…
علَّني من رضابه السَّلسال
وأنشدني لنفسه: [من مخلع البسيط]
دبَّ على خدِّه عذارٌ
…
كأنَّه اللَّيل غير سار
فلم يزل واقفاً حيياً
…
يطلب إذناً من النَّهار
وأنشدني من شعره: [من مخلع البسيط]
كان وما في العذار نبتٌ
…
مواصلاً دائم الوداد
فمذ بدا الشَّعر في المحيَّا إز
…
داد في التِّيه والتَّمادي
فليت خدَّيه ما أريعت
…
ولا اكتست حلّة السَّواد
وأنشدني لنفسه أيضاً: [من الكامل]
إن كان نزعكم الجواب تقاطعاً
…
فأنا الودود مكاتبٌ ومواصل
/31 أ/ أو كنتم لم تسألوا عن حالنا
…
فأنا المحبُّ مخاطبٌ ومسائل
وأنشدني لنفسه في إنسان يعرف بالقوام بن حمدان: [من الخفيف]
يا قواماً للفسق لا للدين
…
ومحلاًّ للشكِّ لا لليقين
وأميناً قد كان يا ليت شعري
…
أخؤونٌ يدعى بعدل أمين
فلك العذر في فعالك هذا
…
ليس يرجى الوفاء من يقطين
أيُّ فضلٍ يعزى إليك وقد
…
أصبحت ياءً ما بين تاءٍ وسين
وحدثني، قال: بات محمد بن يوسف بن عراج الشاعر عندي ليلةً، فسرق مني كساء، وكان أبو محمد شاعراً أيضاً، فقلت فيه:[من المجتث]
لنجل عرّاج نجلٌ
…
من كلٍّ خير تعرَّى
لصٌّ كمثل أبيه
…
والإبن بالإرث أحرى
فالأب يسرق شعراً
…
والنجل يسرق تبرا
قال: فبلغت الأبيات إلى أبيه، فأنفذ الكساء.
[749]
محمَّد بن الحسين بن محمَّد بن الحسن بن الحسين، الإربليُّ
المولد والمنشأ.
وأصل آبائه من أهل همذان ويعرفون ببني بسريان، من يت دين وتصوف
وأبو عبد الله هذا؛ شاب فاضل، عنده أدب وسكون، حافظ للقرآن الكريم، يشدو شيئاً من فقه الإمام الشافعي –رضي الله عنه ويكتب خطاً رائقاً، ويقول الشعر الحسن في الزهديات.
انتقل هو وأهله إلى دنيسر حدثاً، ودرس الفقه بها على الشيخ الإمام أبي محمد حمد بن حميد بن محمود الدُّنيسري، الخطيب المدرس، فلمّا جاء الخوارزمية، وقصدوا البلاد، سافر إلى حلب في سنة ستٍّ وثلاثين وستمائة، فنزل في بعض مدارسها، يرتزق من جامكيها.
أنشدني لنفسه: [من البسيط]
يومٌ يمرُّ ويومٌ بعده يأتي
…
ينغِّصان حياتي ثمَّ لذَّاتي
والنَّفس في دعة ممَّا يراد بها
…
مشغولةٌ بأمانيٍّ وفرحات
فبينما الموت إذا حطَّت ركائبه
…
نحوي بغير احتشام أو تحيَّات
وقال حتَّى متى ترجو البقاء بها
…
أما علمت بأيامي وساعاتي
فاستنقذ الرُّوح ثمَّ اسكنني
…
في قعر لحدٍ بدارٍ عند أموات
/32 أ/ سلاهم الأهل والأحباب كلُّهم
…
كأنَّ ما عرَّفوهم بعض أوقات
[750]
محمَّد بن عليِّ بن محمَّد بن محمَّد بن الجارود، أبو عبد الله
المارانيُّ القاضي الكفر عزّيُّ
ولد بكفر عزّة، قرية من قرايا إربل، ونشأ بها، وقرأ فقه الإمام الشافعي –رضي الله عنه على الشيخ الإمام أبي الفضل يونس بن محمد بن منعة بن مالك الإربلي. وتقلّد القضاء بإربل في أيام الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري بن علي بن بكتكين –رضي الله عنه بعد القاضي أبي محمد جعفر بن محمد بن محمود الكفرعزي. وكان نائبه.
ولم يزل متولياً، إلى أن توفي ليلة السبت ثالث جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وستمائة، فجأة –رضي الله عنه وقد جاوز الثمانين بقليل. وكان من ظرفاء الحكام، ومحاسن الأنام، متحلياً بالنزاهة، معتلياً في ذروة النباهة؛ شيخاً لطيفاً كيساً، فكهاً رزيناً متواضعاً، بهي المنظر، دمث الأخلاق، فيه أدب وحسن عشرة، وطيب محاضرة وتودد.
أنشدني لنفسه، وأوائل هذه الأبيات /32 ب/ إذا جمعت تكون بيت شعرٍ، وهو:
[من المجتث]
إنَّ الصَّلاح مجيري
…
من نكبة الحدثان
وهي جواب أبيات كبتبها إليه الصّلاح أحمد بن عبد السيد بن شعبان الإربلي، وهما بالديار المصرية، فقال القاضي:[من المجتث]
إنِّي أحبُّ فتاةً
…
كأنَّها غصن بان
نمَّت بوجدي عليها
…
سحائب الأجفان
أهوى فريدة حسنٍ
…
هيفاء شتَّى المعاني
لمياء لو شفتاها
…
قبَّلتها شفتاني
صدَّت فبان اصطباري
…
بالبين والهجران
لا تلحني يا عذولي
…
فالبين قد اضناني
حسبي الَّذي أنا لاقٍ
…
من الوجوه الحسان
من البدور اللَّواتي
…
بهنَّ صبري فإني
جزعت منهن َّ جداً
…
ولأن صعب جناني
يهوين قتلي وأهوى
…
بهنَّ فرط هواني
رعى الإله زماناً
…
قضَّيت فيه الأماني
/23 أ/ يا من يسائل عنِّي
…
حالي عجيب البيان
من لي بخلٍّ أمينٍ
…
خليله في أمان
نبيل قدرٍ نبيه
…
صدرٍ عظيم الشَّان
نبني المدائح فيه
…
وجوده خير باني
كتبت سرًّا وجهراً
…
عنه فهلَاّ كناني
به أدافع ضرِّي
…
وشرَّ أهل زماني
هذا ولي من نداه
…
وفهمه بحران
أهواه طبعاً ولكن
…
لو أنَّه يهواني
لكنت في خفض عيش
…
ولذَّة وأمان
حتَّى يقول عذولي
…
ويلاه واحرماني
ديوان مدحي فيه
…
مذهَّب العنوان
ثمَّ الثَّناء عليه
…
كنغمة العيدان
الموت والبعد عنه
…
يا صاحبي سيَّان
نعم وفيه خصال
…
خفيفة الأوزان
إن الصلاح مجيري
…
من نكبة الحدثان
/33 ب/ وأنشدني لنفسه من قصيدة، يمدح بها بعض الرؤساء:[من الرجز]
لا تلح من حنَّ إلى أحبابه
…
وشفَّه الشَّوق إلى أترابه
وخلِّه يبكي إذا جنَّ الدُّجى
…
وارث له وكفَّ عن عتابه
ولا تحمِّله على أحزانه
…
حزناً فقد كفاه بعض ما به
أنَّي يلام مستهامٌ مدنفٌ
…
حلف أسى غرامه يغر به
انحله البين ولم يبن له
…
مساعدٌ على جوى إكتئابه
وأنشدني أيضاً قوله: [من مخلّع البسيط]
إن كنت خلِّي فخلِّ دمعي
…
يجري كحرِّ الفراق سكبا
ولا تلم مغرماً كئيباً
…
منِّي ببين الحبيب صبَّا
إذا دعاه الغرام سرًا
…
أجابه معلناً ولبَّى
وأنشدني له في الشيب والوعظ: [من المتقارب]
مشيبٌ أتى وشبابٌ رحل
…
أحلَّ العناء به حيث حل
وعمري تقضَّي بلا طاعةٍ
…
فويحك يا نفس ماذا الزَّلل؟
وذنبك جمٌّ ألا فارجعي
…
وعودي فقد حان وقت الأجل
/34 أ/ وديني الإله ولا تقصري
…
ولا يخدعنَّك طول الأمل
فما لك غير التُّقى مسعدٌ
…
ولا صاحبٌ غير حسن العمل
وأنشدني لنفسه من أبيات ابتداؤها: [من البسيط]
لا تكثر العي في عذلي وفي فندي
…
وقل عني فما أصغي إلى أحد
هلَاّ نهضت إلى عذلي وما قدحت
…
نار الصبابة بالأشواق في كبدي
أيَّام اغدو سليم القلب في دعةٍ
…
من الغرام وحلمي في الهوى بيدي
وشادن قدُّه كالغصن معتدل
…
من فوق متَّزر كالحقف منعقد
أحوى مريض بحاري اللحظ مقلته
…
تعلم النَّافثات السِّحر في العقد
يزورُّ عنِّي إذا ما جئت أعتبه
…
وليس يعلم ما عندي من الكمد
قد كنت قبل النَّوى والبين ذا جلد
…
فمذ نأى خانني بعد النَّوى جلدي
[751]
محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكرٍ، أبو عبد الله بن
أبي محمدٍ الإربلي الكفر عزيُّ
وقد سبق ذكر والده في موضعه.
أخبرني والده؛ أن ولادة محمد كانت سهرة يوم الاثنين ثاني صفر سنة إثنتين وستمائة.
وهو من فتيان /35 ب/ إربل، وأحد من إعتني بقول الشعر، تأدب على أبي عبد الله أحمد بن الحسين بن الخباز النحوي بالموصل. وأخذ طرفاً من فقه الإمام أبي حنيفة –رضي الله عنه.
وهو شاعر، طويل اللسان، ذو إحكام في قوله وإتقان، يجيد معانيه في الهجاء، ويتصرف فيهنّ كيف شاء، سمح الخاطر منقاده، ذكي الطبع وقاده.
أنشدني لنفسه في الوزير الصاحب شرف الدين أبي البركات المستوفي –رحمه الله: [من الكامل]
لا نال قلبي منكم ما أمَّلا
…
إن كان يوماً من محبَّتكم سلا
وحرمت ما أرجوه من لقياكم
…
إن حلَّ في قلبي سواكم أو حلا
أحبابنا عودوا إلى عهد الصِّبا
…
وعدو بوصلكم المحبَّ المبتلى
وإذا بخلتم بالوصال فحمِّلوا
…
ريَّاكم ريح الصَّبا والشَّمالا
حمَّلتم المشتاق أثقال الهوى
…
لمَّا تبدَّى ركبكم متحمِّلا
وسفحتم دم أدمعي لمَّا غدا
…
سفح الغوير لكم برغمي منزلا
من ذا يعيد ليالياً انفقتها
…
سرفاً وعهد صبًّا مضى وتبدَّلا
علِّقتكم طفلاً فشيَّب لمَّتي
…
طول التَّجنِّي والتَّجنُّب والقلى
/36 أ/ رقُّوا لرقِّ حليف وجد ما عصى
…
أمر الغرام ولا أطاع العذَّلا
واغنَّ معتدل القوام مهفهف
…
منعته نخوة حسنه أن يعدلا
فتن الورى بجمالٍ وجهٍ ما بدا
…
إلَاّ وكبَّرا من رآه وهلَّلا
وأغار غزلان الصَّريم تلفُّتاً
…
وأعار أغصان الأراك تفتُّلا
لمَّا بدا عاينت سنَّة وجهه
…
كالبدر في أفق الملابس يجتلى
ورأيت أنَّ الرُّشد في دين الهوى
…
لمَّا رأيت الصُّدع منه مرسلا
أضحى ضنيناً بالسَّلام وطالما
…
أمسى يعاطيني الرَّحيق السَّلسلا
في روضة حاك الرَّبيع لربعها
…
حبراً وحاكى النَّشر منها المندلا
فكأنَّما جود ابن موهوب غدا
…
دون السَّحاب بريَّها متكفِّلا
مولى إذا ما جئته تلقً امرءاً
…
يلقاك بارق بشره متهلِّلا
يقظان ما ينفكُّ يسدي نعمةً
…
ويكفُّ حادثة ويوضح مشكلا
مغرىً بحبِّ المكرمات فما يرى
…
إلَاّ بأبكارً العلا متغزِّلا
ما أمَّه يبغي نداه مؤمِّل
…
إلَاّ أعادته يداه مؤمَّلا
يجلو بطلعته الظَّلام إذا دجا
…
ويفوق نائله السَّحاب المسبلا
في كفِّه القلم الَّذي قد غادرت
…
حدَّاه حدَّ الحادثات مفلَّلا
/36 ب/ وإذا امتطى القرطاس وهو بكفِّه
…
راع الصَّوارم والرِّماح الذبلا
يحيى به العافي وقد ضنَّ الحيا
…
ويردُّ في يوم الهياج الجحفلا
يا أيُّها المولى الوزير ومن غدت
…
بنداه أخلاف الأماني حفَّلا
بك أصحب
…
الحرون وأحسن الدَّ
…
هر المسيء بنا وأصبح مجملا
ولديك أضحى مخصباً أملي وكم
…
أمسي وأصبح عند غيرك ممحلا
قد سرت فينا سيرةً عمريَّةً
…
كادت لها الآيات أن تتنزَّلا
وعممت مبتدئاً بنعماك الورى
…
فملكت أحرار الكلام تفضُّلا
حتى لقد ظنُّوا السُّؤال محرَّمًا
…
فيهم ومالك للعفاة محلَّلا
فاستجل من غرري غريزة خاطرٍ
…
عذراء يرجو ربها أن تقبلا
ويرى الثَّناء وكلَّ مدحٍ فاخرٍ
…
من دون أوصاف الوزير وإن علا
وأنشدني فيه أيضاً، يمدحه حيث تقلّد الوزارة للملك المعظم مظفر الدين أبي سعيد كوكبوري بن علي بن بكتكين –رضي الله عنه:[من الكامل]
أمَّا الزَّمان فقد وفى بوعوده
…
وذوى من العدوان مورق عوده
/37 أ/ وتردَّت الدُّنيا ملاءة بهجةً
…
والدَّهر قد نجمت نجوم سعوده
بعلا أبي البركات أصبح خالياً
…
من منصب العلياء عاطل جيده
شرفت بطلعته الوزارة مثلما
…
شرفت بنو أيَّامه بوجوده
أمسى حفيًّا بالرِّعيَّة فاغتدى
…
متتَّبَّعًا فيها رضا معبوده
خلق التَّواضع للوزير خليقةٌ
…
قسمًا وأضحى الدَّهر بعض عبيده
لقن الشَّجاعة والسَّماح يراعه
…
عن سيل واديه وبأس أسوده
وغدا مصيب الرَّأي في تحريفه
…
ومبيَّض الآمال في تسويده
يا أيُّها المولى الوزير ومن له
…
مجدٌ يغيض الدَّهر جفن حسوده
ما قال فيك وإن تناهى مادحٌ
…
إلَاّ وفضلك من أدل شهوده
هنِّئت بالعام الجديد ودمت ما
…
دام الزَّمان مبشّراً لخلوده
وسلمت محروس الجناب من الرَّدى
…
ما طرَّب القمريُّ في تغريده
وأنشدني لنفسه فيه أيضاً، ويلتمس منه فروة:[من مجزوء الكامل]
يا ماجداً لبَّى ندا
…
هـ المعتفي قبل النِّدا
ومن استرقَّ بجوده
…
ونواله حرَّ الثَّنا
/37 ب/ الله أدعو أن يزيـ
…
ـدك رفعةً فوق السَّما
لازلت محروس الجنا
…
ب ممتَّعًا طول البقا
البرد قد وافى يجرِّ
…
ر ذيل تيه واعتدى
وجيوشه قد أقبلت
…
فاستوعبت كلَّ الفضا
والصَّبر منذ راى بقا
…
ء البرد آذن بالفنا
فانعم عليَّ بفروةٍ
…
تعدى على برد الشِّتا
واسلم ودم في نعمةٍ
…
عمر الزَّمان بلا انقضا
وأنشدني أيضاً لنفسه، ما كتبه إليه، يطلب منه تحقيقه:[من السريع]
يا شرف الدِّين الجواد الَّذي
…
يمناه بالمعروف معروفه
ومن له نفسٌ على كلِّ أنـ
…
ـواع التُّقى والبرِّ موقوفه
عبدك لا شيء على رأسه
…
هامته في الحكم مكشوفه
وهو على كثرة تثقيله
…
يرجو من الإنعام تخفيفه
فاسمح بها واسمع ثناءً له
…
أجاد فيه الفكر تأليفه
واسلم ولازالت صروف الرَّدى
…
عنك مدى الأيَّام مصروفه
/38 أ/ وأنشدني له فيه من أبيات، حين وثب عليه ذلك الشخص وجرحه، وقتل شخصاً آخر، وكان اسم المقتول غزالاً:[من البسيط]
لئن فدى الله إسماعيل من كرمٍ
…
بالذّبح واستعظمته الإنس والجان
لقد فداك بإنسانٍ ولا عجبٌ
…
أن يفتدى بجميع الخلق إنسان
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من الطويل]
أحنُّ إلى بان العذيب واثله
…
واشتاق ريَّاه وكثبان رمله
واصبوا إلى آصاله وهجيره
…
وكذر لياليه وبارد ظلِّه
أأحبابنا عودوا وعودوا متيَّماً
…
بحبُّكم لا يستفيق لعذله
أضرَّ به إعراضكم عن وداده
…
وعجَّل صرف الدَّهر تشتيت شمله
وقد كان ذاعرٍّ منيعٍ فباعه
…
رجاء رضاكم في هواكم بذلِّه
صبورٌ على جور الهوى وعذابه
…
وقورٌ على حلم الزَّمان وجهله
ويحمل فيكم لا عدمتم فؤاده
…
غراماً يهدُّ الرَّاسيات بثقله
ولولاكم لم يسفح الحزن دمعه
…
على السَّفح من حزن الغوير وسهله
وكيف احتيالي في اللِّقاء وبيضكم
…
وسمرٌ كم كلٌّ يذاد بمثله
/38 ب/ حرامٌ على عيني أن تردا الكرى
…
إذا لم أفز ممَّن أحبُّ بوصله
وأغيد ممشوق القوام رشيقه
…
مليح التَّثنِّي وافر الرِّدف عبله
أحلَّ دمي من غير جرمٍ سوى الهوى
…
وقد كان قبل اليوم غير محلِّه
إذا جئت أشكو ما بقلبي يرقُّ لي
…
ويخلط لي جدَّ الحديث بهزله
ويطمعني حتَّى أقول ملكته
…
ويؤنسني من طوله طول مطله
وإن عقد الزُّنَّار حلَّ تصبُّري
…
ويعقد عن جفني الكرى عن حلِّه
وأنشدني لنفسه: [من الطويل]
فؤادٌ على مرِّ اللَّيالي يعذَّب
…
وقلبٌ على نار الأسى يتقلَّب
وأنت لحيني معرضٌ متجنِّبٌ
…
بنفسي وأهلي المعرض المتجنِّب
مر الوجد يفعل ما يشاء بمهجتي
…
فإنَّ عذابي في تجنِّيك يعذب
ولا تخش من قلبي سلوَّا عن الهدى
…
وأنت على ما كان منك محبَّب
إذا كان طرفي موردي منهل الرَّدى
…
فمن اشتكى أم من ألوم وأعتب
صددت فصفو العيش فيك مكدَّرٌ
…
وبنت فضوء الصَّبح بعدك غيهب
وإن عاد يوماً وجه ودِّك مقبلاً
…
تبسَّم لي وجه الزَّمان المقطَّب
سقيت الحيا الغوريَّ يا أربع الهوى
…
وجادك من دمع المحبِّين صيِّب
/39 أ/ وحيَّتك أنفاس النَّسيم عليلةً
…
تميل بها الأغصان نشوى وتطرب
وناحت بأعلى دوحتيك حمائمٌ
…
تهيِّج أشواق المحبِّ فيندب
ولا برحت فيك الرِّياض أنيقةً
…
فإنَّك ملهى للحبيب وملعب
عهدتك دهراً للبدور مطالعاً
…
وصرف الرَّدى عن ساحتيك منكِّب
فمذ رحلوا أضحى بك الدَّهر ناصباً
…
خيام عفاء بالرِّياح تطنَّب
رعى الله ليلات بمنعرج اللَّوى
…
تقضَّت وظلُّ العيش إذ ذاك مذهب
ليالي ترعى العهد لمياء في الهوى
…
وتصبو إلى وصلي سليمى وزينب
تقضَّت على رغمي قصاراً حميدةً
…
فبعداً لنفسٍ بعدها ليس تذهب
وأنشدني لنفسه: [من الطويل]
وظبي غرير غرَّني لين لفظه
…
وإجماله المشفوع لي بجماله
فهمت به مستعذباً مبدأ الهوى
…
وأنساك الشَّيطان ذكرً ماله
وما خلت أنَّ الحين في سيف لحظه
…
وخطِّ عذاريه ونقطة خاله
فلمَّا رآني واثقاً بحيائه
…
وأنَّ فؤادي موثقٌ بحباله
تجاهل عنِّي معرضاً فكأنَّني
…
من الدَّهر يوماً ما خطرت بباله
وخلفني لا آبساً من جفائه
…
ولا طامعاً في زور زور خياله
/39 ب/ أروح بقلبٍ خافق من صدوده
…
واغدو بظنٍّ مخفقٍ من وصاله
فيا حالياً بالحسن رفقاً بعاطلٍ
…
من الصَّبر عان في يد الشَّوق واله
ويا غصناً هاجت عليه بلابلي
…
وجار على ضعفي بحسن اعتداله
تعطَّف على قلبٍ يقلِّبه الأسى
…
وصل دنفاً أنت العليم بحاله
وأنشدني أيضاً من قيله: [من الطويل]
أأحبابنا إنِّي على ما عهدتم
…
وإن لم تزالوا هاجرين مقيم
وعندي فنونٌ من أسى وصبابة
…
وبي من هواكم مقعدٌ ومقيم
وقلبي الَّذي حدِّثتم عنه إنَّه
…
سليمٌ من الوجد القديم سليم
ودادي وجسمي من وفائي وغدركم
…
بعهدي صحيحٌ في الهوى وسقيم
أحنُّ إليكم كلَّما ذرَّ شارقٌ
…
وأصبو إذا هبَّت صباً ونسيم
وأحيا بذكراكم إذا ما ذكرتكم
…
ولو أنَّ عظمي في التُّراب رميم
فلا غرو وإن انكرت ما بي أو صبا
…
فؤادي وأضحى بالهموم يهيم
فقد يجهل الإنسان من ألم الهوى
…
ويصبو إلى الأحباب وهو حليم
وأنشدني لنفسه يهجو: [من السريع]
لا تعجبوا من جاهلٍ أحمقٍ
…
بدِّل دائماً عزُّه
/40 أ/ إن كان قد صدَّره عجزه
…
دهراً فقد أخره عجزه
وأنشدني لنفسه يهجو: [من المتقارب]
وبلدة سوءٍ لها حاكمٌ
…
طويل العناء لتقصيره
إذا أخطأ الشَّرع في حكمه
…
تداركه بمعاذيره
يزيد ثراءً على نقصه
…
كما زاد الاسم بتصغيره
وأنشدني لنفسه: [من الخفيف]
قد دفعنا إلى زمان لئيمٌ
…
لم ننل منه غير غلِّ الصُّدور
ومنينا من الورى بأناسٍ
…
جعلتهم أعجازهم في الصُّدور
وأنشدني لنفسه ما كتبه إلى بعض أصدقائه، يلتمس منه كتاب البديع، وهو الذي صنّفه أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم الجزري:[من السريع]
مولاي عزَّ الدِّين يا من له
…
مالٌ مذال وجنابٌ منيع
ومن أياديه وأخلاقه
…
يخجل منها جعفرٌ والرَّبيع
قاسم ما تملكه كفُّه
…
وللندى بين البرايا مشيع
عبدك مولاي به حاجةٌ
…
دعت إلى نسخ كتاب البديع
/40/ فجد به عاريةً واغتنم
…
ثناء عبد شاكر للصنيع
واسلم ولازلت مدى الدَّهر في
…
ظلٍّ ظليَّل ومحلٍّ رفيع
وقال أيضاً: [من الكامل]
لو أن طيفهم يزور لماماً
…
لشفى أخا لممٍ وبلَّ أواما
ولو أنَّهم رقُّوا لرقِّ سليمهم
…
بعثوا إليه مع النَّسيم سلاما
قومٌ لجارهم الأمان من الرَّدى
…
إلَاّ إذا كان الغريم غراما
من كلِّ قدٍّ أهيف وكحيلة
…
هزُّوا وسلُّوا ذابلاً وحسما
ساروا بدوراً في بروج هوادج
…
وكسى وجوههم الكسوف تماما
شاموا البروق من الحجاز لوامعاً
…
فغدوا لذلك هاجرين الشَّاما
بلغوا من الحرم المعظَّم منزلاً
…
ومن المقام مخيَّماً ومقاما
لا كان قلبي إن عصى في حبِّهم
…
أمر الصَّبابة أو أطاع ملاما
وقال أيضاً: [من الطويل]
ترى من لصبٍّ بان عنه سكونه
…
هواك وإن لم يحظ بالقرب دينه
مسهَّد جفن نام عنه سميره
…
ونمَّت عليه بالشؤون شؤونه
له جسد هو ميت خافٍ
…
على نظر العوَّاد لولا أنينه
/41 أ/ وداء الهوى باديه أيسره الضَّنى
…
واقتله للمستهام دفينه
غدا عنده عذباً أليم عذابه
…
وعزاً له إذ كان يرضيك هونه
وألفاك مطلوبًا لك القتل فاستوى
…
لديه مناه في الهوى ومنونه
وبي منك طرفٌ بابليٌّ فتوره
…
يزيد فؤادي صبوةً وفتونه
محاسن هذا الكون أنت مغيضها
…
ومورد بحر الحبِّ قلبي معينه
فشمس الضُّحى من نور وجهك نورها
…
وبان اللِّوى من لين عطفك لينه
فما شاهدٌ إلَاّ بحسنك شاهدٌ
…
ولا غائبٌ إلَاّ إليك حنينه
وقال أيضاً: [من الخفيف]
هل إلى ثغرك المنيع طريق
…
أم لطيف الخيال منك طروق
يا ابنة العامريِّ عهدي على النا
…
ي جديدٌ وعقد ودِّي وثيق
وفؤادي فداك عان أسيرٌ
…
مستهامٌ ومع عيني طليق
لك حسنٌ بالحبِّ يغري ولي و
…
دٌّ عن الصَّبر والسُّلو يعوق
هل ترى وقفةً بنهر المعلَّى
…
يلتقي شائقٌ بها ومشوق
فأبثَّ الوجد الَّذي هو للُّـ
…
ـبِّ رحيقٌ وفي الضُّلوع حريق
وأرى شاهداً بعين عياني
…
من ثناياك ما حكته البروق
/41 ب/ وبي الأهيف الَّذي لحظه والـ
…
ـقدُّ ذا راشقٌ وهذا رشيق
راح في حسنه غريباً وإن كا
…
ن شقيقاً لوجنتيه الشقيق
ثغره لؤلؤٌ وسافح دمعي
…
في ثرى السَّفح لؤلؤٌ وعقيق
كلُّ معنى من الجمال بديعٌ
…
من معاني جماله مسروق
فيه يهفو لبُّ الحكيم ويجفو
…
في هوى مثله الصَّديق الصَّدوق
وقال أيضاً: [من الطويل]
أرقت لبرق من دياركم عنَّا
…
ألمَّ فكم أضنى فؤاداً وكم عنَّى
بدا حاكياً تلك الثُّغور ابتسامه
…
وعاد نحيلاً حاكياً جسمي المضنى
وسلَّ كسيف الهند من غمد أفقه
…
اختلاساً لقتل الغمض في مقتلي وهنا
فلو لم يحل من دونه دم عبرتي
…
جعلت له جفني غراماً به جفنا
أأحبابنا قضَّيت فيكم شبيبتي
…
ولم تشفعوا يوماً بحسنكم حسنا
وما نلت من مأمول وصلكم منى
…
ولا ذقت من روعات هجركم أمنا
أسرتم وقيدتم فؤادي بحبِّكم
…
فها هو لا يرجو فداءً ولا منَّا
سلو داركم بالحزن كم من مدامعٍ
…
ومن مهج سالت لبينكم حزنا
وهل أبرق الحنَّان صوَّح نبته
…
بلوعة قلبٍ غير قلبي إذ حنَّا
/42 أ/ وقال أيضاً: [من الطويل]
عني فيكم المشتاق فرط عنائه
…
فرقُّوا لما يلقاه من برحائه
ومنُّوا بإهداء النَّسيم من الحمى
…
وإن كان يذكي الوجد برد هوائه
عريب الحمى إنَّ الأسود بربعكم
…
لقتلي ظبا ألحاظ عين ظبائه
أيطلق من أسر الصَّبابة مغرم ٌ
…
بعادكم والشَّوق من غرمائه
سقيكم ما احمرَّ إلَاّ بما سقى
…
به جفنه ترب الحمى من دمائه
لئن صوَّحت روضاته من زفيره
…
لقد روَّضت ساحاته من بكائه
أأحبابنا ما حال عهد مشوقكم
…
ولا حلَّ كفُّ الغدر عقد وفائه
وعبد هواكم من نواكم على شفا
…
بلى فتلاوا عبدكم لشفائه
وقال أيضاً: [من مجزوء الرجز]
هم المنى والغرض
…
إن أقبلوا وأعرضوا
وهم حلولٌ في الحشا
…
إن خيموا أو قوَّضوا
نهوا عن الحبِّ ولـ .... ـكن نهيهم يحرِّض
ليس لقلبي عنهم
…
وإن أساؤوا عوض
إن أعرضوا فللبلى
…
بمهجتي تعرُّض
/42 ب/ يسودُّ من سخطهم
…
وجه النَّهار الأبيض
وينجلي جنح الدُّجى
…
إن واصلوني ورضوا
صحَّة وجدي بهم
…
في القلب منهم مرض
أصار قتلي سنَّةً
…
هواهم المفترض
وقال أيضاً: [من الكامل]
أبدت لك الأيَّام أحسن منظرٍ
…
في ثوب روضٍ بالنَّبات مشهَّر
فالق الرَّبيع بطلق وجهك باسماً
…
واسحب إلى اللَّذات ذيل مشتمِّر
واستجل من جلب الكروم كريمةً
…
فيها تليق خلاعة المتوقِّر
في ليل صحو بالمدامة مشمشٍ
…
ونهار غيمٍ بالأزاهر مقمر
فالرَّوض بين مدَّبجٍ ومضرَّجٍ
…
والزَّهر بين مدرهمٍ ومدنَّر
والماء بين مصفَّق ومسدَّل
…
والتُّراب بين ممسك ومعنبر
وكأنَّ قدَّ السَّر وقدُّ مهفهف
…
نشوان من راح الصِّبا يتبختر
وكأنَّما النَّار نج في أوراقه
…
جمرات نار في رداء أخضر
وترى الحمامة فوق مزهر غصنها
…
تشدو مطرِّبةً كقينةً مزهر
والعندليب على الغصون مردِّد الـ
…
ـنَّغمات يخطب فوق أشرف منبر
/43 أ/ يا أيُّها الملك الَّذي أيَّامه
…
صفو الزَّمان وغرَّةٌ في الأعصر
. من كفَّيك إذا مطرتها
…
سحب النَّدى والجود عدة أنهر
ملئِّت قصر النَّيرب الموفي بإتـ
…
ـقان البناء على البناء الجعفري
لو كان في أيَّام كسرى قصَّرت
…
عنه أمانيه وهمَّة قيصر
هو جنَّة الدُّنيا .... كوثر
…
وتراه كالمسك السَّحيق الأذفر
فرياضه من سندسٍ وحياضه
…
من قرقفٍ ونسيمه من عنبر
وبه من الولدان حولك كلُّ فتَّـ .... ـان اللَّواحظ كالغزال الأحور
من آل يافث ربِّ خصر ناحلٍ
…
ومؤزَّرٍ فعمٍ وطرفٍ أخزر
يسطو على ليث العرين بأبيضٍ
…
من جفنه ومن القوام بأسمر
لازلت يا ملك الورى في نعمةٍ
…
تبقى بشاشتها بغير تغير
وقال أيضاً: [من الكامل]
يا ظبي كم تردى الأسود وأنت في
…
حرم الملاحة مستقرٌ آمن
لولا سهامفتور طرفك لم أخل
…
أنَّ الجفون الفاترات كنائن
هب أنَّ طرفي بان عنه رقاده
…
يا نوره إذا أنت عنه بائن
فعلام لا ينفكُّ قلبي خافقاً
…
شوقاً إليك وأنت فيه ساكن؟
/43 ب/ وقال أيضاً: [من الرجز]
كم بين سهل المنحنى وحزنه
…
من مطلق الدَّمع أسير حزنه
يصوِّح النَّبت بنار وجده
…
وتعشب الأرض بماء جفنه
ومن فؤاد خافقٍ مروَّع
…
بساكن الوجد ومطمئنِّه
وبي غريرٌ نهب ألباب الورى
…
غير بعيد من بديع حسنه
يغني فتور طرفه واللِّين من
…
قوامه عن ضربه وطعنه
فلحظه إذا رنا كعضبه
…
وقدُّه إذا انثنى كلدنه
يا باخلاً بوصله إن لم تجد
…
على المشوق بالمنى فمنِّه
يحسن سوء الظنِّ منك عنده
…
حبًا وإن خيَّبت حسن ظنِّه
لي دم دمعٍ ناب في سقيا الحمى
…
وأهله عن هاطلات مزنه
وقال أيضاً: [من الكامل]
غشُّ المفنِّد كامنٌ في نصحه
…
فأطل وقوفك بالغوير وسفحه
واخلع عذارك في محلٍّ ريُّه
…
بزذاذ دمع العاشقين وسحِّه
وإذا سرى سحراً طيلح نسيمه
…
مالت به سكراً ذوائب طلحه
/44 أ/ ما صادقٌ في الحبِّ من هو عالمٌ
…
فيه بحسن صنيعه أو قبحه
جهل الهوى قومٌ فراموا وصفه
…
خلِّ الهوى وجنابه عن شرحه
وبي الَّذي يغنيه فاتر طرفه
…
عن سيفه وقوامه عن رمحه
ظبيٌّ يؤنِّس بالغرام نفاره
…
ويجدُّ في نهب القلوب بمزحه
استعذب التَّعذيب في كلفي به
…
والحبُّ لذَّة طعمه في برحه
يا شاهراً من جفنه عضباً غدا
…
ماء المنيِّة بادياً في صفحه
ومعربداً في صحوه ومباعداً
…
في قربه ومحارباً في صلحه
نم لا جناح عليك في سهري وما
…
ألقاه في اللَّيل الطَّويل وجنحه
وسعى إليك بي العذول وإنني
…
لأخيب إن ظفر العذول بنجحه
طرفي وقلبي ذا يسيل دماً وذا
…
دون الورى أنت العليم بقرحه
وهما بحبَّك شاهدان وإنَّما
…
تعديل كلِّ منهما في جرحه
والقلب منزلك القديم فإن تجد
…
فيه سواك من الأنام فنحِّه
[752]
محمَّد بن محمَّد بن الحسن بن الفضل بن المطلب، أبو القاسم البغداديُّ
هكذا أملى /44 ب/ عليَّ نسبه لمّا سألته عنه، ويعرف بالنقّاش.
ورد هذا الشاعر الموصل من أرض الشام، سنة ثلاثين وستمائة، وسكنها ولقيته بها في التاريخ المذكور. وهل رجل طويل أشعر.
وأنشدني شعراً كبيرً في مدائح بني أيوب ملوك الشام، وادّعى أنه من إنشائه وعمله.
ولم يزل يتوصل إلى الأمراء والرؤساء، ويتقرب إليهم ويمدحهم بالشعر، لينفق سوق شعره حتى أوصلوه إلى حضرة المولى المالك، الملك الرحيم، بدر الدين- خلد الله ملكه- وزع أنَّه قد نظم في معاليه عدّة قصائد، أفردها في مجلدة، فلما سمع بها المولى المالك الملك الرحيم، خلع عليه خلعة سنية، وأثابه على مدحه له ستين ديناراً.
ثم رحل إلى مدينة السلام قاصداً مولانا وسيدنا الإمام أمير المؤمنين المستنصر بالله –أدام الله أيامه-. ثم إنَّني خبرت بعد رحيله إلى بغداد، أنَّه كان من أهل واسط، وأنَّ أباه كان جمالاً يكري الجمال، وأنَّه ظفر بأشعار نجم الدين يعقوب بن صابر المنجنيقي فأغار عليها، وانتحلها لنفسه، يقصد بها الناس ممتدحاً، فقيل له: إنَّك تسرق أشعار الناس /45 أ/ وتدّعيها. ثم امتحن في عمل قصيدة ومعنى، فبقي أياماً لم يجبه خاطره إلى المقترح عليه.
وكان يقول شعراً بارداً، ومما أشدني لنفسه، وزعم أنَّه له، هذه القصيدة التي أنا ذاكرها، يمدح بها الملك المعظم أبا الحسن عليّ بن الإمام الناصر لدين الله- رضي الله عنهما:[من الوافر]
غوادي المزن بالرَّاح امطرينا
…
وبالصِّرف الحميَّا باكرينا
وروِّينا من الصَّهباء إنَّا
…
إلى شرب المدامة قد ظمينا
وقد أخذت ليالي الصَّوم منَّا
…
مآخذها فرحنا مجد بينا
وكاد يميتنا بعذاب قرًّ
…
تطيب به لظّى للمصطلينا
فبتنا نستلذُّ النَّار فيه
…
على جمر المجامر راقدينا
يكاد القرُّ يعقرنا ظهوراً
…
ولذع الجمر يعقرنا بطونا
ولولا أنَّ خالقنا رحيمٌ
…
لكان البرد مثوى المجرمينا
فحيِّي الشَّاربين بكأس راحٍ
…
تطيب به نفوس الشَّماربينا
فقد طابت لشاربها الحميَّا
…
وهلَّ هلال عيد الصَّائمينا
وآذنت اللَّيالي من شباطٍ
…
بتقويضٍ وراء الظَّاعنينا
وبان الصِّنُّ والصِّنبر منه
…
بسبعٍ يقتفين الأربعينا
/45 ب/ وألبست الجمار الأرض وشياً
…
من المنثور منثوراً فتونا
وقد حميت محدَّبةً صعيداً
…
وقد بردت مقعَّرةً معينا
وجادتها السَّواري والغوادي
…
فطبَّقت الأباطح والحزونا
فقهقه راعدٌ وبكى غمامٌ
…
فخلنا الجوَّ مسروراً حزينا
وغنَّى بلبلٌ وشدا هزازٌ
…
فماس الدُّوح من طرب غصونا
وخلنا الأرض في الدِّيباج تجلى
…
عروساً من بنات المترفينا
مدعدعةً مرابيها سيولاً
…
مفجَّرة رواسيها عيونا
يعاف صعيدها إلَاّ اخضراراً
…
ويأبى الغصن إلَاّ أن يلينا
شاى منثورها الأزهار سبقاً
…
فحاز هناك سبق السَّابقينا
يقول تأهَّبوا للورد بعدي
…
فقد وافاكم والياسمينا
وثغر الزَّهر يبسم عن أقاحٍ
…
يهيج به غليل العاشقينا
ووجه الأرض وضَّاحٌ طليقٌ
…
لوجه فتى أمير المؤمنينا
فللملك المعظَّم نور وجهٍ
…
تقرُّ به عيون النَّاظرينا
إذا ما لاح عن قربٍ وبعدٍ
…
تخرُّ له الملائك ساجدينا
تُعفِّر دونه خدًّا وتدمى
…
على ترب المباسم لا ثمينا
/46 أ/ وأحرى أن تحفَّ به ركاباً
…
وأن تغدو عليه عاكفينا
وأن تدعو لدولته وتعنو
…
كما ندعو ونعنو مخلصينا
له المعروف معروفٌ لديهم
…
وهم فيه الكرام الكاتبونا
ولولا الله مجزيهم حساباً
…
تعالى الله خير الحاسبينا
يريك سماح راحته وجدوى
…
يديه كلَّ ذي كرمٍ ضنينا
تخال الغيث منهمراً شمالاً
…
له والبحر منسكباً يمينا
قتولاً عند سطوته سفوكاً
…
حليماً عند قدرته رصينا
رؤوفاً بالعباد لهم رحيماً
…
حفيظاً في رعايتهم أمينا
سميعاً حين ندعوه مجيباً .. مثيباً حين نسأله معينا
يرى ظلم اللُّهى بالجود عدلاً
…
وقتل الفقر بالنَّعماء دينا
يجود على العفاة بلا سؤالٍ
…
صيانة أوجهٍ للسائلينا
ويعصم من خطوب الدَّهر جاراً
…
ويرغم فيه أنف الحاسدينا
يطير إلى المريخ بغير درع
…
وأسد الغاب تدَّرع العرينا
ونطرد باسمه الشَّيطان عنَّا
…
غداة به نروح مسبِّحينا
وأقسم لو درى إبليس من في
…
تراب آدمٍ منه دفينا
/46 ب/ أطاع الله فيه وكان يوماً
…
إمام السَّاجدين الرَّاكعينا
ولم يقل اللَّعين خلقت ناراً
…
لآدم عزَّةً وخلقت طينا
به فخر الأئمَّة من قريشٍ
…
إذا افتخرت رجال بالبنينا
أليس سليل من ملك البرايا
…
وسادهم وأم المسلمينا
أبو العبَّاس مولى النَّاس طراً
…
له رقُّ الخلائق أجمعينا
أتمَّ الله نعمته عليه
…
وعاش معمراً في الخالدينا
[753]
محمَّد بن عثمان بن محمَّدٍ، أبو عبد الله النقجوانيُّ الملحن
نزيل الموصل.
حاذق في صنعة الغناء والألحان. كان متصلاً بخدمة بني أتابك أمراء الموصل منهم: عز الدين مسعود، ثم ولده نور الدين أرسلان شاه، ثم ولد الملك الظاهر عز الدين مسعود، ثم انقطع إلى حضرة المولى المالك الملك الرحيم بدر الدين أبي الفضائل – أعزّ الله أنصاره- وتقدّم لديه وقرّبه، وأنعم عليه إنعاماً وافراً، يعلِّم جواريه المجتمعة بمجلسه.
سألت أبا عبد الله عن ولادته، فقال: ولدت /47 أ/ خامس عشري المحرم سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وله نظم غثّ، مضطرب الوزن.
أنشدني لنفسه، يمدح أتابك نور الدين أرسلاه شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي –رضي الله عنه:[من الرمل]
يا مليكاً قد علا سلطانه
…
شاع في كلِّ الورى إحسانه
مالك الشَّرق وسلطان الورى
…
قد تعالى كلَّ يومٍ شانه
نور دين الله شمساً للعلا
…
ما ونى في خلقه ديَّانه
محكمٌ في رأيه ذو حجَّةٍ
…
متقنٌ قد زاده إتقانه
قد دعا الخلق إلى دين الهدى
…
دعوةً طرَّزها إيمانه
نور دعواه بيانٌ واضحٌ
…
مستنيرٌ ظاهرٌ برهانه
وهو في إيمانه مستيقنٌ
…
زاد في إيمانه إيقانه
أصبح الإيمان عرياناً فمذ
…
إتَّقى الله اكتسى عريانه
نيله في الدَّهر رايات العلا
…
ممكنٌ وافقه إمكانه
فهو طودٌ شامخٌ في ملكه
…
وهو دوحٌ قد علت أغصانه
مذ تولَّى الملك في إقليمه
…
لم تزل معمورةً بلدانه
[754]
محمَّد بن جعفر بن محمَّد بن محمود /47 ب/ بن هبه الله
أبو عبد الله بن القاضي أبي محمَّدٍ الكفر عزي الإربليّ
وقد تقدم شعر والده في مكانه.
أخبرني أنه ولد بإربل في شوال سنة أربع وثمانين وخمسمائة. تولّى كتابة الإنشاء في دولة الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري بن علي بن بكتكين –رضي الله عنه في شهر رمضان سنة تسع وعشرين وستمائة.
أنشدني لنفسه: [من البسيط]
يا من إذا جاد أغنى الخلق قاطبةً
…
ومن إذا رام حفظ المال لم يطق
أمطر عليَّ سحاباً من نداك وجد
…
إنَّني أخشى من الغرق
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من الطويل]
فهل أحدٌ في الخلق غيرك يرتجى
…
وهل أحدٌ إلَاّك في النَّاس يقصد
فإن كان فارشدنا إليه فلم نجد
…
سواك أمراً يثنى عليه ويحمد
وأنشدني قوله: [من الوافر]
له رأيٌ يفلُّ شبا الأعادي
…
وعزمٌ مثل ما انتضى الحسام
له قلمٌ بأرزاق البرايا
…
كفيلٌ واثقون به الأنام
وأنشدني أيضاً في الملك العزيز: يعقوب بن الملك العادل، /48 أ/ وكان مختصاً بخدمته، وقد آب من سفر:[من الطويل]
أضاءت بك الأيَّام بعد ظليلها
…
وعاد سرور الخلق بعد ذهابه
فأنت هلال الأرض يا خير مالكٍ
…
وبحر ندى طامٍ بفيض عبابه
أجرني مجير الدِّين من حبِّ شادنٍ
…
رماني بهجران وعظم مصابه
وكم لوعةٍ جرِّعتها بصدوده
…
وجرَّعني مرَّ الجفاء وصابه
أيا عاذلي لا تعذل الصَّبَّ في الهوى
…
كفاه مصاباً في الهوى بعض ما به
فلا دافعٌ عنِّي جفاه وجوره
…
سوى ملك مردي العدا باعتصابه
مليكٍ إذا رام الملوك تعزُّزاً
…
تقبَّل ذلاً نعله بثوابه
ومازلت أرخي ناقتي وأحثُّها
…
وأجهدها حتَّى وقفت ببابه
فبلَّغني كلَّ الأماني وزادني
…
اقتراباً وإنِّي راغبٌ في اقترابه
فقد قال في شعرٍ أبو الطَّيِّب الَّذي
…
يفوق بنظمٍ في الورى وانتسابه
يسير إلى إقطاعه بحسامه
…
على طرفه من داره في ثيابه
فلازال في عزٍّ ونصرٍ ورفعةٍ
…
وجدٍّ وتأييد ومجدٍ سما به
وأيَّده للنطق في كلِّ حالةٍ
…
وبلَّغه ما يرتجي في شهابه
وأنشدني لنفسه، ما كتبه إلى الملك الأشرف:[من الطويل]
/48 ب/ أيا عاذلي إنَّ الملامة تعرف
…
وإنَّ استماع العذل في الحبِّ متلف
ويا سائراً إن كنت طالب حاجةٍ
…
أنخها إلى كم ذا تسير وتعزف؟
فقال: إلى ملك الأنام وموئل
…
العفاة هداك الله إن كنت تعرف
ألا فاستمع يا أيُّها الملك قصَّتي
…
ففي شرحها السَّمع الشَّريف يشنَّف
فقال: إلى الضِّرغام في حومة الوغي
…
أبو الفتح موسى مالك الخلق الأشرف
وبي من هوى ظبي لواعج لوعةٍ
…
به الجسم يبلى والمدامع تذرف
فوالله ما أدري أأكشفه له
…
فيسخط أم أخفيه عنه فأتلف
ولكنني أخفيه عنه فإننَّي
…
وإن تلفت روحي من السُّخط أخوف
بخصر حكى جسمي نحولاً ودقَّةً
…
وقدَّ كغصن البان بل هو أهيف
ومن وجهه شمس النَّهار مضيئةٌ
…
ومن ريقه المعسول صهباء قرقف
فواحزني لو جاد يوماً بقبلةٍ
…
ووأسفي لو كان يغني التأسُّف
فقلبي لذكر البين يخفق دائماً
…
وقد طالما يدنو الوصال فيرجف
أقضِّي نهاري مع لياليَّ بالمنى
…
لعلِّي يرى ذلِّي يجود ويسعف
وكم يعتدي ظلماً بقتلي تعمداً
…
ومالي من يرثي لحالي وينصف
سوى ملك من آل أيوب صيغمٍ
…
يجود ويحنو ثمَّ يسطو ويعطف
[إليك مليك الخلق أجهدت ناقتي
…
....... الموالي والنَّدى والتلطُّف
وجئتك أشكو جور دهري الَّذي اعتدى
…
عليَّ وأنَّ الدَّهر بالحرِّ يجحف
فإنَّك أوفى الخلق خلقاً وخلقةً
…
وأنت أنوشروان بالعدل تخلف
وفي الحرب ضرغامٌ وفي الجود حاتمٌ
…
وفي الفضل سحبانٌ وفي الحلم أحنف
وفي الملك سلمانٌ وفي العلم مالكٌ
…
وفي الرَّأي هارونٌ وفي الحسن يوسف]
/49 أ/ وأنشدني أيضاً لنفسه بحلب، يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من جمادى الأولى، سنة خمس وثلاثين وستمائة، يهنئ بخلعة:[من الخفيف]
هذه خلعة الرِّضا والقبول
…
وهي عنوان قصدنا المأمول
منذ جاءتك دل حظُّك بالإقـ
…
ـبال يا غاية المنى والسُّول
فتمتَّع بها هنيًا مليًّا
…
ما تعاطى النُّدمان شرب الشَّمول
وأنشدني لنفسه في المعنى: [من مجزوء الكامل]
يا خلعةً إذ أرسلت
…
شرفت على إرسالها
مذ أقبلت ولبستها
…
دلَّت على إقبالها
وأنشدني لنفسه في صاحب له قد مرض، ثم أبّل من مرضه، وضمنها أبيات المتنبي:[من البسيط]
الجود عوفي لمَّا أن شفيت من الآ
…
لام والمجد والعلياء والكرم
وعمَّ منك جميع الأولياء فدى
…
والفضل والحلم والإحسان والنِّعم
فلا مرضت ولا زارتك حادثةٌ
…
(وزال عنك إلى أعدائك الألم)
/49 ب/ ما دمت في صحَّةٍ فالخلق في دعةٍ
…
إذا سلمت فكلَّ النَّاس قد سلموا
وأنشدني لنفسه في صاحب له، وقد تأملت رجله:[من المنسرح]
قالوا اشتكت رجله فقلت لهم
…
حاشاه أن تشتكي له رجل
لأنَّها لم تزل لمكرمةٍ
…
تسعى رهام العلا لها نعل
[755]
محمَّد بن أحمد بن سعيد بن المبارك بن ثابت بن عليٍّ الأزريُّ،
أبو عبد الله بن أبي العباس.
تقدم شعر والده المعروف بابن الدنيّة.
وهو من قرية تدعى أزر من قرى قوسان الأعلى من الأعمال العراقية، ويعرف بالموصلي بالباعشيقي؛ لأنه أقام بقرية من قرايا الموصل تسمى باعشيقا، برهة من الزمان فنسب إليها.
وهو شيخ مربوع مائل إلى السمرة، قدم الموصل، ولازم الإمام النقيب كمال الدين أبا الفتوح حيدر بن محمد بن زيد بن عبد الله الحسيني الموصلي –رحمه الله وصار من أخصّ تلاميذه عنده ونفاه الملك الرحيم بدر الدين –صاحب الموصل- حين بلغه أنه يعمل الكيمياء، /50 أ/ فخرج إلى إربل، ونزل بدار حديثها، وتردد إلى جماعة من أكابرها العراقيين، فنفقت سوقه. وهو شاعر عارف متشيّع حافظ للقرآن العزيز، وقد طالع أخبار الناس وأيامهم، ومن أهل المعرفة والأدب.
أنشدني لنفسه، في شهر جمادى الأولى، بمدينة إربل سنة ثماني وعشرين وستمائة، يمدح الصاحب الوزير شرف الدين أبا البركات المبارك بن أحمد المستوفي –رحمه الله:[من المنسرح]
أما الأسى اليوم فهو لي داب
…
إستحسن العاذلون أم عابوا
فلا تقولوا سلا فمثلي لا
…
يسلو ولافي هواه يرتاب
ولا تظنُّوا فارقتكم مللاً
…
كلُّ ملولٍ في الحبِّ كذّاب
تشهد لي عندكم ضمائركم
…
بأنكم للفؤاد أحباب
وأنَّنا حضر الجواهر والأعـ .... ـراض منَّا لا شكَّ غيَّاب
يا جيرتي حيث لا جوار وأصـ .... ـحابي وأنَّا للصبِّ أصحاب
رحلت عن ربعكم وللدمع في الـ .... خدِّ نزولٌ بادٍ وتسكاب
حتَّى لقد خلت أنَّ آذار أعداني وإن كان في .... آب
وذاك من بعد ما فرت .....
…
أظافرٌ عندكم وأنياب
/50 ب/ وكنت أرجو إصلاح حالي إلى
…
أن حال بالبعد ما بيننا الزَّاب
فرائق الماء في فمي كدرٌ
…
مرٌّ وحلو عيشتي صاب
لو لم ينهنه عنِّي الأسى شرف الـ
…
دِّين لكانت أحشاي تنجاب
هو الخصمُّ الَّذي عجائبه
…
لكلِّ عجب منهنَّ إعجاب
تنوَّعت للورى مكارمه
…
تنوُّعاً لا يناله عاب
لقاصديه منه سدىً وندىً
…
جمٌ وجاهٌ ضافٍ وآداب
ما أسبلت دونهم له حجبٌ
…
ولا ازدراهم لديه حجَّاب
كلُّ ثناءٍ على سواه يرى
…
نفياً ولكن عليه إيجاب
تأتيه من كلِّ وجهه مدحٌ
…
كأنَّه للمدح محراب
مباركٌ كاسمه مباركةٌ
…
أفعاله والأفعال أنساب
تزداد منه ألقابه شرفاً
…
إن شرَّف العالمين ألقاب
له يراعٌ يروع شانئه
…
مظفَّرٌ للعداة غلاب
إذا جرى فالأرزاق جاريةٌ
…
تستنُّ من خلفه وتنساب
وإن احسَّت وقوفه وقفت
…
كأنَّما في الطَّريق اعتاب
من معشرٍ إن دجا الزَّمن أضاء
…
ت منهم أوجهٌ واحساب
/51 أ/ علقت منهم بذيل ذي كرمٍ
…
له المعالي والمجد أتراب
يستصغر النَّائل الجزيل لمن
…
يغشاه فالذَّود عنده ناب
قد فرَّقت ماله مواهبه
…
إنَّ ابن موهوبنا لوهَّاب
مولاي عطفاً بالجاه منك على
…
من ماله غير بابكم باب
قد كان ألغى نظم القريض لأسـ .... ـباب أتت بعدهن أسباب
فإن وجدتم لحناً لديه ففي
…
سماعكم للملحون إعراب
والعجز بالاختصار ألزمه
…
لديكم والتطويل إسهاب
وأنشدني أيضاً لنفسه في إنسان، اسمه يوسف يُعرّض له بطلب ثوب:[من الطويل]
يقول لي الحسَّاد من حسد بهم
…
وأكبادهم غيظاً عليَّ تفور
وصلت إلى المولى الأمير بمدحةٍ
…
من الشِّعر حقًا أم كلامك زور
فأين أمارات الوصول وجوده
…
على كلِّ عافٍ في البلاد غزير
فقلت لهم: تالله ما أنا آسياً
…
وإنِّي على ما تلفظون صبور
عسى يوسفٌ يلقى إليَّ قميصه
…
فيرتدَّ أعمى الحظِّ وهو حسير
وأنشدني لنفسه في صديق، /51 ب/ وقد بلغه أنَّه مريض:[من البسيط]
قالوا: تمرَّض من تهوى فقلت لهم:
…
أنا المريض وأمَّا ذاك حاشاه!
لو أمكنتني الليالي من عيادته
…
وكيف أطمع فيما الدَّهر يأباه
خلعت منِّي على عطفيه عافيتي
…
حباً وألبست جسمي ثوب شكواه
وأنشدني لنفسه، يرثي الشيخ الإمام أبا حفص عمر بن أحمد النحوي –رضي الله عنه:[من الطويل]
ألا ما لنادي الفضل أصبح باكياً
…
وروض النُّهى في أرضه آض ذاويا
وعهدي به من قبل يبسم نيِّراً
…
فأوشك ما أمسى يعبِّس داجيا
وما ذاك إلَاّ أنَّ بدر سمائه
…
عراه خسوفٌ لن يرى بعد باديا
أمن بعد مجد الدِّين تحمد لامرئٍ
…
مساعٍ وإن أضحى إلى المجد ساعيا
مبيِّن أعلام العلومٍ ومظهرٍ
…
دقائق سبلٍ كنَّ قبل خوافيا
ألا قاتل الله الخطوب بفعلها
…
لقد هذبت طوداً من المجد عالياً
وبحر علومٍ غيضته وطالما
…
رأينا به ذكر البلاغة طافيا
حسبنا الرَّدى لم يق كأس مصابه
…
سوانا وما ذقنا أذاق المعاليا
/52 أ/ عقرنا عليه كلَّ لبٍّ وخاطرٍ
…
إذا نحن لم نعقر عليه النَّواجيا
وأبنا بحزِّ الشَّعر لا الشِّعر والحجى
…
عليه وحذَّقنا الذكا لا المذاكيا
وقائلةٍ ما بال دمعك جامداً
…
وكان لك الخلَّ الصَّدوق المصافيا
فقلت لها نار التَّلهُّف نشَّفت
…
بإيقادها منِّي الدُّموع الجواريا
كذلك شمس الإفك عند غروبها
…
يرى كلُّ نجمٍ في السَّماوات هاويا
أرى معشراً من بعد موتك جادلوا
…
ليرقوا من العلياء ما كنت راقيا
لعلمهم أن قد نأيت مفارقاً
…
ولو كنت فيهم ما رأيت مباريا
لئن نال أهل النَّقص منصبك الَّذي
…
غدا اليوم قفراً من جمالك خاليا
فغير عجيبٍ للثعالب وطؤها
…
حمى أسد حاميه أصبح نائيا
وأن تسكن البوم القصور مشيدةً
…
إذا لم تجد في ذروة الفخر بازيا
[756]
محمَّد بن حيدر بن مسعود بن دلف بن عليِّ بن أبي الحسن بن
أبي البقاء بن الدُّنبدار، أبو عبد الله الواسطيُّ.
أخبرني أنه ولد سنة خمسٍ وتسعين وخمسمائة، بالمضمار، وهي محلة بواسط. وقل ما تخلو له قصيدة /52 ب/ من ذكرها، ويصغرها للتحبيب.
وزعم أنَّ له نسباً متصلاً إلى ميثم التمار، غلام علي بن أبي طالب –صلوات الله عليه وسلامه-.
شاب أسمر، خفيف العارضين، قضيف البدن.
وهو شاعر مكثر مجيد مقتدر، متفنن في أقواله، لم أر أحداً من الذين ينتمون إلى هذه الصناعة، ويعزون إلى هذا الشأن؛ أقدر منه على إنشاء القوافي، وارتجال الأشعار.
وآخر عهدي به، بمحروسة إربل في رمضان سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. وأفاها مادحاً أميرها، والمستولي عليها يومئذ أبا الفضائل باتكين المستنصري، فألزم نفسه، في كل يوم إنشاء قصيدة على نظام حروف الهجاء، ما بين الخمسين والثلاثين، يمدح المستنصر بالله أبا جعفر –خلد الله دولته- إلَاّ أن شعره؛ ظاهر الكثافة، عارٍ من السهولة واللطافة، ذو قدرة على نحت القريض وارتجاله، مع معرفته بضروب آلاته، بالغ في
ذلك أقصى غاياته، طوّف قطعة من بلاد العجم، وحظي بقوله من ملوكها بأوفر القسم.
ثم هاجر إلى البلاد الشامية، ومنها إلى الديار المصرية، مستمطراً سحاب جود ملوكها وأمرائها، ومنتجعاً /53 أ/ بقوله ندى صدورها.
لقيته في شوال سنة خمس وعشرين وستمائة، بمحروسة إربل. وافاها صحبة فلك الدين بن المسيري، وهو متوجه معه نحو مدينة السلام، ثم لقيته مرة أخرى بإربل سنة ثلاث وثلاثين؛ فأنشدني لنفسه يمدح الصاحب شرف الدين أبا البركات المستوفي –رحمه الله:[من الكامل]
لا ترجني للَّهو واللَّذَّات
…
واستبقني وقفاً على الحسرات
الحبُّ أحكم في قلوب بني الهوى
…
بتقلُّب الحركات والسَّكنات
حكم التَّفرُّق أن أبيت مسهَّدًا
…
قرح الجفون مرقرق العبرات
يا شيم برق الشَّرق هجت لمهجتي
…
أسفاً ورعت جموعنا بشتات
أحدثت لي ظمأ الفؤاد وريًّه
…
من ماء دجلة أو من الدَّرجات
زدني بومضك جنَّةً أدنى بها
…
أمد الدُّمى وزيارة الدَّمنات
فلكم لنا في واسطٍ من مألفٍ
…
أمست معارف آيه نكرات
يا مجمع اللَّذَّات هل لزماننا
…
من رجعة يا مجمع اللَّذَّات
أيَّام يدعوني الهوى فيقودني
…
طوعاً إليه تعرُّض الظَّبيات
من كلِّ من لعب الصِّبا بقوامها
…
لعب الصَّبا بمهفهف البانات
/53 ب/ لولا مواثقها الَّتي أوثقتني
…
لم اغترب متقسِّم العزمات
ولما رأيت الفوز قطع مفاوزٍ
…
وارتحت بالرَّوحات والغداوات
إنَّ الَّتي نظرت إليك أظنُّها
…
رمت الفؤاد بأسهم النظرات
كحلت جفونك بالسُّهاد مراض أجـ
…
ـفان لها بالسِّحر مكتحلات
ريميَّة اللَّفتات في تركيَّة اللَّـ
…
ـحظات من عربيَّة النُّطقات
حجبت حواجبها كراك فنقَّطت
…
عيناك ما عرَّقن من نوبات
لم أنس يوم وداعها وتأمُّلي
…
مقلاً بماء جفونها شرقات
والبين يظهر ما تجنُّ صدورنا
…
من فيض أنفسنا على الوجنات
لا تنكروا تصفير لونٍ مقطِّرٍ
…
عبراته بتصعُّد الزَّفرات
إنَّ الهوى يقضي الهوان لأهله
…
وتغيُّر الألوان والحالات
يا دهركم من غصَّة جرَّعتني
…
بفتى جزعت لبينه وفتاة
أوهت سطاك تجلُّدي وفللن غر
…
ب مهنَّدي وحنت قويم قناتي
وتركنني رهن الصُّروف تنوشني
…
أحداثها لولا أبو البركات
الكافل الكافي بصيِّب راحة
…
مخلوقة للبرِّ والصَّدقات
كادت أنامله وقد جادت على الأ
…
حياء تحيي غابر الأموات
/54 أ/ وصلت صلات يمينه وأتى بها
…
موصولةٌ بالصَّوم والصَّلوات
وقفت قوافينا مناقبه وقد
…
وقف الثَّراء على ذوي الفاقات
لم تخب نار قرى تشبُّ ولا لها
…
قلبٌ له يومٌ عن الإحنات
من ناطقين عن العلاء بسرِّه
…
فمصدَّرٌ ماضٍ وآخرات
قومٌ إذا مطرت سحاب أكفِّهم
…
رفَّت من الآمال كلُّ رفات
يتسابقون إلى النَّدى فنديُّهم
…
أبداً يحجُّ إليه ذو الحاجات
إن انكروا فعلى العداة وإنَّهم
…
لا يعرفون المطل يوم عدات
وإذا الزَّمان ترادفت أزمانه
…
كفَّت أكفُّهم أذى الأزمات
حمدوا مساعي للمبارك لم تزل
…
محمودةً مرفوعة الدَّرجات
وهب ابن موهبٍ لنا من حلمه
…
ستراً لما يبدو من العوردات
إنَّ الكلام وإن أصاب مواقعاً
…
من سامعيه لمشبه العثرات
وإذا أتيت به المبارك فاستعن
…
بالصفح واجمع ما تشاء وهات
يا من كسى دست الوزارة رونقاً
…
غربت به الدُّنيا من التَّبعات
كنت المليَّ بحقِّها فوليتها
…
وبلغت منها غاية الغايات
ما هبت أمراً هيب يوم حكومةٍ
…
كلَاّ ولا هبناك يوم هبات
/54 ب/ ولقد عنيت بها وغيرك ما اعتنى
…
بسوى الكؤوس ورنَّة القينات
إن صغت تبر المدح فيك فإنَّني
…
رصَّعته بالدُّرِّ من لفظاتي
حكمٌ حكمن على القلوب ولم يمن
…
في نظمهنَّ مصدِّق اللَّهجات
ستر البديع عن الجهول جمالها
…
ستر البراقع أوجه الفتيات
جاءتك سوداء السُّطور وإنَّها
…
بيضاء مثل الدُّرِّ في الظُّلمات
نشرت صحائفها ففاح بذكركم
…
عرفٌ لها متأرِّج النَّفحات
أنهضتني لمَّا قعدت وطالما
…
انطقتني بالحمد بعد صمات
وفتحت باباً ما تبوأها أمرؤٌ
…
إلَاّ رآها معدن الخيرات
يأوي إليها السَّاغبون فتنثني
…
محفوفةً بأطايب الشَّهوات
فرَّقت فيها ما تجمَّع من لهى
…
وجمعت شمل المجد بعد شتات
فاليوم أغفر سيِّئات زماننا
…
وأعدُّ مدح علاك من حسناتي
وأنشدني لنفسه، يمدح فلك الدين المسيري:[من البسيط]
على ملاعب ألَاّ في وخلَاّني
…
تحيَّةٌ من فؤاد المدنف العاني
أرضاً با رضت قلباً لست أملكه
…
جهدي وحيَّيت من بالوصل أحياني
/55 أ/ أبيت فيها بلا واشٍ أحاذره
…
أجرُّ في اللُّهو أذيالي وأرداني
طوراً إلى فتيات الخدر ملتفتي
…
وتارةً حفظ ندماني بإدماني
تجلو عليَّ كؤوس الرَّح آنسةٌ
…
هيفاء لم تهف من قلبي بإنسان
الشَّمس من وجهها تبدو ومن يدها
…
تهدى إلى غير .... ولا واني
أمسى بسنجار أحبابي ولي وطنٌ
…
بواسطٍ ولباناتٌ بحرَّان
يا قصر حيَّاك من دمعي أوائله
…
فإنَّ آخر دمعي أحمرٌ قاني
ولا دنت منك أنفاسي فإنَّ بها
…
من السَّموم أماراتٌ لنيران
أأستلذُّ حياةً بعدما عدمت
…
عيناي منك دمى أدمين أجفاني
ويا فتاة
…
أسترجعي زمناً
…
ولَّى بميَّالة العطفين مذعان
بيضاء في اللَّيلة الظَّلماء تحسبها
…
بدر التَّمام على غصن من البان
تخال جامد درٍّ من مقبَّلها
…
يذوب في عسلٍ لم يجنه جاني
دعوتها فأجابتني بتلبيةٍ
…
جواب وافٍ بعهدي غير خوَّان
ولي رسولٌ إليها غير متَّهمٍ
…
يتلو عليها صباباتي وأشجاني
فأقبلت ينثني خمر الشباب بها
…
فاعجب لصاحبه في زيِّ سكرانٍ
أقول للَّيل لو يصغي إلىَّ وقد
…
زارت وكلُّ رقيبٍ نحونا راني
/55 ب/ يا أيُّها الليل طل إن رمت عازمةً
…
وأحسن لما يلتقي الحسنى بإحسان
إنَّ الَّتي صرمت حبلي وأحسبها
…
تخشى العدا واصلتني بعد هجران
الحزن والحسن مقسومان لي ولها
…
رزقاً ولابن المسيري رفعة الشَّان
الواهب المال يبتاع الثَّناء به
…
وصاحب المنهل الطَّامي لظمان
ومن بجمِّ أياديه وأنعمه
…
آنست مجمع أوطاري وأوطاني
بنى له رتبةً في المجد شاهقةً
…
شمَّاء لم يلفها من قبله باني
ما قطَّ قطُّ يراعاً ثمَّ خطَّ به
…
إلَاّ جرت منه للإحسان عينان
ولا امتطى واحدا ً يوماً ثلاثته
…
إلَاّ وأسقت له
…
وأسقاني
حبرٌ أحبِّر فيه كلَّ قافيةٍ
…
في راحتيه لمن يرجوه بحران
إذا نظرت إليه يوم نائلةٍ
…
رأيت مناخ برٍّ غير منَّان
يعطي ويعلم أنَّ الحمد مكتسبٌ
…
باقٍ وأنَّ هواه متجرٌ فاني
يجزي على الخير خيراً وهو معترفٌ
…
به ويغفر جرم المذنب الجاني
يا من أياديه عندي غير واحدةٍ
…
ومن أناديه في سرِّي وإعلاني
ومن إذا راعني دهري لحادثةٍ
…
أحدثت من برِّه لي خير أعوان
/56 أ/ إن تنأ دارك عن داري فإنَّ لناً
…
قلبين عند مزار عندها داني
ولو تمكَّنت من شوقٍ يؤرِّقني
…
إليك أودعت طيَّ الطِّرس جثماني
مالي أبيت من الآمال في شغلٍ
…
عنها وقرب مكاني منك إمكاني
ولي قصائد لو ألقى النَّبيَّ بها
…
لكنت أجدر أن أدعى بحسَّان
وعدتني منك مركوباً وإنَّ لنا
…
يوم الرَّحيل لتوديعاً بإرنان
فامنن بأدهم مثل اللَّيل ينظرني
…
في سرجه زمني في عين خزيان
أو أشهبٍ في ظلام النَّقع تحسبه
…
صبحاً يفرِّقه من خيل خاقان
أو أشقر من دم الأعداء صبغته
…
يدافع الخطب عنِّي منه ركنان
بغدان حنَّت إلى لقياك ثانيةً
…
فسر وصل بعد صرمٍ حبل بغدان
إبسط بها يد منٍّ منك قابضةً
…
ثناء من ماله في فنِّه ثاني
وألق الخليفة طلق الوجه مبتسماً
…
حتَّى يضيق بأفق الشَّرق بدران
واسدد برأيك أمراً لا سداد له
…
وافتح بنطقك فيه باب برهان
سيرفع الوزر عن بغداد مقدمنا
…
إذا استقلَّ على دستٍ وزيران
وأنشدني أيضاً فيه يمدحه: [من الطويل]
أتعلم ذات الخدر أيُّ مودع
…
أشارت إليه بالبنان المقمَّع
/56 ب/ وفيٌّ وكلٌّ بالمواثيق غادرٌ
…
وحافظ أسرار الحبيب المضيِّع
وهل أنكرت أنِّي على بعد دارها
…
أخو كبد حرَّى وقلبٍ موزع
بسنجار أحبابٌ له وبواسطٍ
…
صبابته لا بالعذيب ولعلع
يهيج له تذكار هاتين جنَّةً
…
ويطر به سجع الحمام المرجَّع
أبيت اجتناب العذل إن بتُّ ليلةً
…
ولم يمل من تذكار نطقك مسمعي
ولا مسَّ عيني نومها إن تمتَّعت
…
بغيرك يا ذات الحجاب الممنَّع
حننت إلى قصر الفتاة ودونه
…
مفاوز قفر موحش دون بقلع
إذا ظمئ الرُّواد فيها تعلَّلو
…
بها من تعالي آلهاً المترفِّع
أحبُّ بها طلق الأسرَّة إن أقل
…
يجبني وإن أشك الهوى يتوجَّع
وأين الَّذي إن قلت قال وإن أرع
…
يروَّع وإن ابثتته مؤلماً يعي
غدا نفسي تلك الرسوم فإنَّه
…
سمومٌ وسقتها سحائب ادمعي
منازل لا أمسي بعيش مكدَّر
…
مهينٍ ولا أضحي بسربٍ مروَّع
تغازلني الغزلان فيها وإنَّها
…
لخير ظباءٍ ظلن في خير مرتع
ولمَّا براني جورٌ كلِّ مقنَّعٍ
…
تقنَّعت عن كلٍّ بدر مقنَّع
تلفَّتُّ للتوديع خوف وشاتناً
…
تلفُّتها نحوي بقلبٍ مصدَّع
/57 أ/ فلم أر إلَاّ أدمعاً مثل أدمعي
…
وقلباً لقلبي من أسى وتفجُّع
يشيِّعني منها بنانٌ مخصَّبٌ
…
فقل في قتيل من
…
المشيِّع
تناسيت أهلي إن تناسيت ليلةً
…
رأيت بها شمس الضُّحى ملء مضجعي
ومنها:
سأركب ظهر الهول في متنٍ صافنٍ
…
من الخيل سبّاقٍ إلى القصد مسرع
أخوض به طوراً فجاجاً وتارةً
…
أسير به في واضح النَّهج مهيع
وانصب نفسي للهجير ولا أرى
…
...... لقومي ومربع
عسى كامنٌ كابن المسيريِّ يجتني
…
ثناي ويدني من أحبَّاي مرجعي
ومنها:
وليلٍ قطعنا فيه كلَّ تتوفةٍ
…
بكلِّ طويل الباع أشوس أروع
رأينا النُّجوم الزُّهر فيه كأنها
…
حبابٌ على كأس المدام المدعدع
أديرت عليه فيه من سأم السُّرى
…
كؤوساً حسوناها بإرخاء انسع
فلو كنت فينا خلت أنَّ رحالنا
…
محاريب قومٍ ساجدين وركع
سئمنا به التَّعريس حتَّى انجلى لنا
…
سنى صبحه من وجهك المتشعشع
وأنشدني لنفسه، وقد استدعاه /57 ب/ صديق له، إلى مجلس شراب ولم يمكنه الحضور فيه:[من البسيط]
إن قصَّرت قدمي والقلب في شغل
…
عنكم فلا حملت من فوقها قدمي
وإن جرى قلمي والقلب في شغلٍ
…
عنكم فلا قبضت كفِّي على قلمي
تصدُّني عنك أحوال لهيبتها
…
قلبي لها أذنٌ إن حدَّثت بفمي
فدونكم والحميَّا إنَّها مزجت
…
ولست حاضرها من حبِّكم بدمي
ما قصَّر الكأس عنِّي دونكم كسلٌ
…
إلَاّ وطال على ندمانكم ندمي
وأنشدني لنفسه في صديق مرض ولم يتمكن من عيادته لسبب ما: [من الوافر]
سمعت بأنَّ عبد الله يشكو
…
فضقت وقد سمعت بذاك ذرعا
وبتُّ وقد منعت سواك منِّي
…
لما خبِّرته بصراً وسمعا
وعزَّ عليَّ عزَّ الدِّين ألَاّ
…
أطيق أردُّ عنك الضُّر نفعا
ألست أخا اليد البيضاء عندي
…
أقرُّ بها ولا اسطيع دفعا
ومن عمَّت شمائله وطابت
…
لنا فزكا بها أصلاً وفرعا
وأقسم بالكؤوس مدعدعاتٍ
…
يحسِّيني بها وتراً وشفعا
/58 أ/ وبالنِّعم الَّتي قلَّدتنيها
…
ولست أرى لها ما عشت منعا
لقد صدع المخبِّر لي فؤاداً
…
جعلتك خير ثاو فيه صدعا
ولو مكِّنت من قلقٍ عراني
…
على رأسي لكنت إليك أسعى
وأنشدني قوله في صديق له، اسمه أبو بكر، كان كثير المكاتبة إليه ثم قطعها عنه:[من الطويل]
منحت أبا بكرٍ إخائي ومدحةً
…
لأوصافها مثل الجمان المبدَّد
وقد .... أبناء الزَّمان مودَّتي
…
وقلت لآمالي على مثله اعقدي
فمن سنَّ قطع الكتب بيني وبينه
…
أخان أبو بكر عهود محمَّد
وأنشدني لنفسه في فلك الدين بن المسيري، وقد نقم على أستاذ دارٍ له رباه صغيراً، فكان تركيًا اسمه "أقش":[من الكامل]
يا أيُّها الفلك المدِّبر ملـ .... ـك الشَّام وهو لدسته صدر
غلمانك التُّرك النُّجوم إذا
…
حضروا واقشٌ بينهم بدر
/58 ب/ ولقد مضى ليل السِّرار وما
…
للبدر بعد سراره ستر
أعززت جانيه وليس له
…
نابٌ به يفري ولا ظفر
وكفلته طفلاً فشبَّ كما
…
تهوى إليه النَّهيُّ والأمر
كذب الوشاة به وما كذبوا
…
إلَاّ ليصدق عندك الهجر
حاشاك لا تحنوا وقد
…
موَّلته وبنانه صفر
وأنشدني لنفسه، وقد عمل لفلك الدين بن المسيري، سماع بدمشق في دار حسنة البناء، وحضر جماعة من الشعراء، فامتدحوه ووصفوا الدار بحسن بنائها:
[من المنسرح]
لله يا دار من بناك فقد
…
سلكت نهجاً من قبل ما سلكا
أما كفاك الذي منحت به
…
حتى أطلت سقوفك الفلكا
وأنشدني لنفسه، وقد نادم في بستان جماعة، منهم رجل يلقب العفيف، وقد استحضر قينة يقال لها كوكب:[من السريع]
وجنَّة بتُّ بها اجتني
…
لذاذة المأكل والمشرب
/59 أ/ عاف عفيف الدين فيها التُّقى
…
بكوكبٍ واغترَّ بالملعب
فقلت في اللَّيلة يا قومنا
…
قد رجم الشَّيطان بالكوكب
قال: فقيل لي: أطلت الفكرة في المعنى، حتى أجدته. فارتجلت:
قالوا: عفيفٌ، فقلنا:
…
من التُّقى والأمانة
دانت لديه المخازي
…
لمَّا ابته الدِّيانه
مذبات فينا رجمنا
…
بكوكبٍ شيطانه
وأنشدني أيضاً لنفسه في العفيف، وقد سأل غلاماً اسمه أبو بكر، يريد به الفاحشة:[من الطويل]
سمعت لأهل السُّنَّة اليوم مأتماً
…
وخطباً جليلاً حاق بالعبد والحرِّ
يقولون: ما ارتدَّ العفيف وبدِّلت
…
عقيدته إلا بنسك أبي بكر
وأنشدني لنفسه في ابن دنينير الشاعر، وكان كثير الأذية للناس:[من السريع]
يا قوم ما لابن دنينير قد
…
شنَّ عليكم غارة الفتك
أتى مكانٌ لامرئٍ لم يزل
…
أبوه بين الصَّرف والصَّكِّ
/59 ب/ وأنشدني لنفسه فيه أيضاً: [من السريع]
يا ابن دنينيرٍ اطلت الأذى
…
للنَّاس في سرٍّ وإجهار
واسم أبيك الشَّيخ مستحقرٌ
…
فكيف لو كنت ابن دينار
وأنشدني قوله في مغنية اسمها قمر: [من الكامل]
لله ليلتنا وقد كسفت
…
قمر السَّماء بوجهها قمر
وترنَّمت فينا فمن طرب
…
كادت نجوم الأفق تنتشر
في فتية مثل الكواكب إن
…
جادوا فجود أكفِّهم بدر
فيهم لنور الدِّين مرتبةٌ
…
تنحطُّ منها الأنجم الزُّهر
ذاك الأمير ابن الأمير ومن
…
ببقائه الأيَّام تفتخر
وأنشدني لنفسه في غلام مشبب جميل الصورة: [من البسيط]
واسمر تخجل السَّمراء قامته
…
من طيب أنفاسه الأرواح تستلب
أمسى يشبِّب والشَّادي يرجِّع الـ
…
ـحاناً فلم يك إلا زيره الطَّرب
لو انصفوه لصاغوا الزِّير من ذهبٍ
…
وقد يقلُّ لهذا الأسمر الذَّهب
وأنشدني قوله في مغنٍ يعرف بشمس الدين بلبل: [من المتقارب]
/60 أ/ أرى الشَّمس قد بزغت في الدُّجى
…
تبيِّض من ليله الأليل
ولم أر شمساً لسمارها
…
تحدِّث من نغم البلبل
وأشدني لنفسه في أخوين مطربين، يعرف أحدهما بالشمس، والآخر بالقمر بمجلس الملك الناصر- صاحب حماة- وقد سئل ذلك، فقال ارتجالاً:[من الكامل]
وعصابة مثل الكواكب قد
…
جمعوا لدينا الشَّمس والقمرا
فترى القلوب لذا منازله
…
ويروح هذا السَّمع والبصرا
وأنشدني لنفسه في غلام، خلع عليه الملك الناصر جبة حمراء، وكان يحبه:[من الكامل]
ومترَّك الألحاظ هزَّ قوامه
…
تيه الصِّبا كالغصن هزَّته الصَّبا
عقر القلوب وقد تقمَّص أحمراً
…
فحسبته بدمائهنَّ تجلببا
وأنشدني أيضاً لنفسه في مشبب يعرف بابن سلطان: [من السريع]
إنَّ ابن سلطان وأنفاسه
…
يحيى بها من هو مقبور
/60 ب/ كأنَّه والزِّير في كفِّه
…
ينفخ إسرافيل والصُّور
وأنشدني أيضاً من شعره، في مطرب حسن الصوت والوجه:[من المنسرح]
يا مطرباً لحنه ونغمته
…
تحلُّ عقد العقول والمهج
إيَّاك والفتك في القلوب فما
…
أفتاك في سلبها بلا حرج.
أمسيت فينا فناب وجهك في اللَّيل مناب الشُّموع والسُّرج
وأنشدني له فيه أيضاً: [من المتقارب]
لنا مطربٌ من سنى وجهه
…
يبيَّض وجه الدُّجى المظلم
تكاد إذا ما شدا ترقص السَّـ .... ـماء وتنتثر الأنجم
يهيم الحليم بألحانه
…
ويفهم من لم يكن يفهم
وأنشدني لنفسه فيه أيضاً: [من الكامل]
ومطرب عذبت لنا ألفاظه
…
تهتزُّ من ألحانه الجدران
ودَّت عيون النَّاظرين جماله
…
من نطقها لو أنَّها آذان
وأنشدني لنفسه، وقد حضر مجلساً في جوسق بدمشق /61 أ/ مع أميرين، يلقب أحدهما بدر الدين، والآخر بهاء الدين، وهنالك غلام حسن الصورة، يقال له: سعدون، فسأله الأمير: أن يشبّه محاسنه بشيء من أزهار الجوسق، فقال ارتجالاً:
[من السريع]
وجوسقٍ مرَّت لنا نزهةٌ
…
فيه بأنواع الرَّياحين
لم أر شيئاً فيه إلَاّ وبي
…
مثاله من وجه سعدون
من وجنةٍ كالورد محمرةٍ
…
وحاجبٍ كالآس مقرون
وسايره الأميران المقدم ذكرهما في البستان حتى وقفوا على ماء يترقرق على الحصى، فقال بديهة:[من السريع]
وربَّ ماءٍ .... وهو من .... فوق الحصى مندفقٌ يجري
لو أنه مال لشبهته
…
يد البها أو راحة البدر
وسأله راجح الحلي الشاعر: أشربت الخمر قبل اليوم؟ فأنكر، وأنشد بديهة:
[من البسيط]
/61 ب/ يا راجح القول في سرٍّ وفي علن
…
وواحد النَّاس من أنثى ومن ذكر
هذي المدامة من أخلاقك اعتصرت
…
حتَّى تصابي إليها أوقر البشر
وأنشدني لنفسه، وقد اجتاز برأسٍ عين سنة عشرين وستمائة، وجرى بينه وبين قاضيها كلام، ونهض من عنده مغضباً، فلقيه فيما بعد القاضي راكباً على بغلة،
فاستوقفه، وأنشده ارتجالاً:[من البسيط]
عاتبت بغلة قاضينا وقلت لها
…
إلى متى أنت من مولاك في دأب
قالت: فقد جاء في القرآن ملتزمٌ
…
بالوالدين ومالي أن أعقَّ أبي
فشكاه القاضي، إلى شاعر هناك، يقال له برهان الدين عثمان بن عطية، فلما عتبه، أنشده ارتجالاً لنفسه:[من الطويل]
أعثمان إن كان القريض فضيلةً
…
يقربها في كلِّ مجتمعٍ تروى
فممَّ بمرأى إدَّعيت اجتنابه
…
ومالك فيه حجَّةٌ تثبت الدعوى
وإن كان نظم الشعر غير فضيلةٍ
…
فإنِّي وإياك اتفقنا فلم أزوي
/62 أ/ وأنشدني لنفسه أيضاً، وقد حضر مع راجح الحلي الشاعر، مجلس شراب، فمد له قدحاً يشربه، فقبله، وأنشده ارتجالاً:[من الوافر]
كأن الرَّاح في كفَّيك تبرٌ
…
يجود بها بلا من علينا
فلا شكرٌ يغرُّ يديك منَّا
…
كما إحسانها يترى إلينا
وأنشدني أيضاً لنفسه، يمدح الإمام المستنصر بالله أبا جعفر المنصور أمير المؤمنين، خليفة الله في العالمين –رحمه الله ويحرضه على أعدائه، وأخذ بلادهم:
[من السريع]
في صهوات الشُّزَّب الضُّمَّر
…
مطَّلب النَّصر لمستبصر
وفي الرُّدينيات نيل المنى
…
ومنشأ العزَّة والمفخر
لا تغترر بالخدع من صاحبٍ
…
من يغر بالعلياء لا يغرر
إن معطاه كؤوس السُّرى
…
تسرُّ قلب الخاطر المخطر
وخوض هول الأرض لا يرتضى
…
إلَاّ لجرَّار القنا مجتري
الدَّهر وآراؤه
…
محمودة المورد والمصدر
/62 ب/ لله كم من مهمهٍ جئته
…
بهمَّةٍ تهزأ بالأنسر
تؤنسني الوحدة في منزلٍ
…
والرفق ما في البلد المقفر
وجنح ليلٍ جنحت رفقتي
…
فيه إلى الأزهار والمزهر
بتنا على اللَّذات أسرارنا
…
مسروروٌ بالخمر والميسر
تقدِّح الأقداح من لهونا
…
شرار حقد الكبد الموغر
وضجَّة الأوتار ما بيننا
…
وأنزه الصَّاحي من المسكر
ليل حميدٌ ما زجرنا به
…
مهرَّيةً في المهمه الأغبر
ولا اصطحبنا منه في غارةٍ
…
غازين بالأبيض والأسمر
مارسني الدَّهر ومارسته
…
والحرُّمين يحمد في المخبر
أقصى قصاراي به عزمةٌ
…
حكيت الملك على قيصر
ما أنا ممَّن همُّه بلغةٌ
…
يبلغ منها إرب المقتر
إذا نبا بي موردٌ عافه .. خلقي ولو كان من الكوثر
لا أحمد النَّهضة إلَاّ إلى
…
خليفة الله أبي جعفر
الآمر الأمَّة بالعرف والـ
…
ـمعروف والنَّاهي عن المنكر
والصائم القائم والعالم الـ .... ـحاكم في الغيَّب والحضَّر
/63 أ/ وعاقد الرَّايات سوداً يقرِّ
…
بن العدا من موتها الأحمر
في جحفلٍ جبريل من جنده
…
يموز بالنَّصر ولا يمتري
لوامع البيض وبيض الظُّبا
…
فيه كبرق العارض الممطر
كأنَّ فتح الطير من فوقه
…
مخلوقةٌ من ذلك العسكر
كأن غرثي الوحش سرَّت به
…
سرب قطاً بالماء مستبشر
كأن فيه الخيل جوَّالةً
…
ضراغمٌ ثرن فلم تثأر
تهتزُّ فيه كلُّ خطيَّة
…
سمراء هزَّ الغصن الأخضر
شنَّ به المنصور نصراً لمن
…
يعدُّ دعواه ولم يغدر
لا غرو أن ...... بطش من
…
أعراقه تغلق بالمئزر
مبتهج الوجه إذا أمَّه
…
ذو أملٍ مرتفع العنصر
زرناه بالزَّوراء فاستبشرت
…
آمالنا بالنَّائل الأوفر
وأصبح المعروف من تيهه
…
يعلو على المشئم والممصر
فيا أمير المؤمنين الَّذي
…
جبينه كالقمر المسفر
************
ورأييه في فضل ........
…
يزهر مثل الكوكب النيِّر
/63 ب/ عز لبلاد الله من حاكم
…
بالجور فيها لحكم مستنكر
وأجبر بعدل منك كيس امرئ
…
لولاك لم يؤس ولم يجبر
يا ملكاً أنمل راحاته
…
سحائبٌ أنشئن من أبحر
رع كل باغ ما بي إذا
…
صال فمثل الأسد القسور
ليثٌ على السرج له غرَّةٌ
…
كالبدر في دائرة المغفرة
فالأرض إرثٌ لك من دوننا
…
يا ابن الصَّفا والرُّكن والمشعر
من لي بأن أنظر راياتكم
…
مرفوعة تنشر في شيزر
في فيلق تجري كرجل الدَّبى
…
معتصماً بالعدد الأكثر
تحتل من أرض حماة الحمى
…
حلول حام غير مستنكر
ويلتقي حمص بملمومةٍ
…
تدمِّر الأعداء عي تدمر
ضراغمٌ تطلب من جلِّق
…
عرين ثاوٍ غير مستنفر
وترجم القصرين من بعدها
…
عزائمٌ طالت فلم تقصر
تجتذب النيل إلى دجلة
…
كما مضى في سالف الأعصر
لوارث البردة من أحمد
…
...... للسيف والمنبر
/64 أ/ ومنقذ الأمَّة من غيِّهم
…
ومنصف الأعمى من المبصر
هناك ينجو الشَّرق من مشرقٍ
…
ويبرأ الغرب من البربر
[757]
محمد بن سعيد بن يحيى بن عليِّ بن الحجّاج بن محمد بن الحجاج، أبو عبد الله بن ابي المعالي الدبيثيُّ الواسطيُّ.
وجده الأعلى كان من دبيثا؛ قرية الحجّاج من طريق الجبل، بينها وبين واسط عشرة فراسخ.
شيخ صالح فاضل، عدل ثقة من مشاهير أصحاب الحديث وعلمائهم وأعيانهم وحفاظهم، قد جمع عدّة كتب منه: تأريخاً ذيّل به على تاريخ السمعاني المذيل على تاريخ الخطيب؛ وقرئ عليه، وكتب به عدة نسخ.
وكانت ولادة أبي عبد الله يوم الاثنين سادس عشري رجب سنة ثماني وخمسين وخمسمائة، بواسط. وتوفي ببغداد يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وستمائة.
وسمع الحديث الكثير على مشايخ واسط، وبغداد، والحجاز، وطلبه بنفسه، وسمع بواسط أبا طالب محمد ابن علي الكتاني، وأبا العباس هبة الله بن نصر الله بن مخلّد /64 ب/ وجماعة آخرين. وبالحجاز من عبد المنعم بن عبد الله الفراوي، وببغداد من أبي السعادات نصر الله بن عبد الرحمن القزاز وغيرهم؛ وألّف التاريخ.
وهو شيخ ثقة حافظ ذو معرفة، وضبط وعلم بالتواريخ والوقائع، واسع الرؤية، له أشعار متضمنة الزهد، والوعظ، وما يتصل بهذه الأنواع.
أنشدني لنفسه: [من الطويل]
سبيلك يا نفسي إذا رمت مخلصا
…
وراحة سرَّ أن تقلّي من الطمع
وأن تقنعي بالقصد في كل حاجة
…
ولا تيأسي في الحادثات إذا تقع
وإن مس دهرٌ بالمساءة فاصبري
…
وزيدي خضوعاً للإله فقد نفع
ولا تظهري الشَّكوى لخلق فلن تري
…
لأمر قضاه الله من دافعٍ دفع
فما العسر باقٍ مثلما اليسر لم يدم
…
ولا المرء يبقى فاتركي الحرص والخدع
وأنشدني لنفسه أيضاً: [من الطويل]
سيذري دماً بعد الدُّموع كآبةً
…
على خوضه في اللَّهو من كان لاهيا
ويندم من قد كان يسعى لنفسه
…
بأهوائها إذ بان في النار هاويا
ويعلم عقبى حاله كلُّ خالعٍ
…
عذار الحيا يوم الحساب الملاقيا
فقل لمجدٍّ في الحرام مسارعٍ
…
ترفَّق قليلاً سوف ترحل ....
/65 أ/ وأنشدني من شعره أيضاً: [من الطويل]
يغر الفتى طول السَّلامة لاهياً
…
وينسى هجوم الموت مع ظلمة القبر
وأهوال ما يلقى ويوم حسابه
…
إذا برز الجبَّار للفصل والأمر
وصيحة أهل النار في النار والبكا
…
إذا عاينوا أهل المفازة والغفر
فيا ربِّ وفِّفنا لخير طريقةٍ
…
ومنِّ بما يرضيك يا عالم السِّرِّ
وأنشدني لنفسه أيضاً: [من الكامل]
إني نظرت مفكراً في مبدأي
…
وتنقُّلي في الخلق والأحوال
حتى عقلت وصرت أعلم أنه
…
لابد لي من منتهى ومال
وكأن ما قد كان لم يك صائراً
…
فيما مضى متحقِّقاً لزوال
أيقنت أنِّي لا محالة ذاهبٌ
…
متحلِّل التَّركيب غير محال
ومن شعره، يمدح المستنصر بالله:[من الطويل]
إمام هدى أحيا به الله خلقه
…
وأغناهم بالبرِّ منه وبالفضل
وأعطاهم فوق الذي كان ظنَّهم
…
من الطول والإحسان والأمن والعدل
به ازدانت الدنيا وزاد جمالها
…
وظلَّ بنوها من أياديه في ظل
فلا زال في ملك عقيم ونعمةٍ
…
تدوم وفي عمر مديد وفي بذل
/65 ب/ وبلَّغنا فيه الذي نرتجي له
…
من النَّصر والتمكين رب له يعلي
وله: [من الطويل]
خليليَّ إن جار الزَّمان أو اعتدى
…
فلوذا بحسن الصَّبر فيه وسالما
فمن سالم الأيَّام نال مرامه
…
وكان من المكروه .... وسالما
وقال: [من الطويل]
عليك بحسن الصَّبر في كل حالةٍ
…
وإن كان طعم الصَّبر في حمله صبرا
فلن يعدم الإنسان نيل مرامه
…
إذا قطع الأيام مستعملاً صبرا
وعدِّ عن الأطماع وأقنع بدونها
…
فكم أهلكت حرصاً وكم قتلت صبراً
وقال: [من الطويل]
خبرت بني الأيام طرّاً فلم أجد
صديقاً صدوقاً مسعداً في النَّوائب
وأصفيتهم منِّي الوداد فقابلوا
…
صفاء ودادي بالقذى والشَّوائب
وما اخترت منهم صاحباً وارتضيته
…
فاحمدته في فعله والعواقب
وقال: [من البسيط]
يا من يكاثر بالإ خوان معتقداً
…
أن المودَّة من أسباب قوَّته
لا تغترر ببني الأيام معتمداً
…
على مودَّة من تغري بصحبته
/66 أ/ وكن على حذر ممن تعاشره
…
فالدَّهر أنكد أن تصفو لعشرته
كم من خليلين طال الودُّ بينهما
…
عادا عدوَّين كلُّ حلف جفوته
[758]
محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر بن عليِّ بن عبد السلام، أبو نصرٍ البصريُّ.
لقيته بمدينة السلام سنة أربع وعشرين وستمائة؛ وهو كهل طويل. وذكر لي أنه قرأ القرآن العزيز بالروايات العشر والسبع والشواذ.
وهو تاجر يسافر [إلى] البلاد، وينتقل في طلب المعاش والتجارة، وله شعر قصره على فن التغزل والنسيب؛ ولم يمدح أحداً ولا هجاه إلَاّ بقول الشعر تأدباً،
الألحان. وهو
أنشدني لنفسه: [من الكامل]
حتَّى م أعذل في الهوى وأعنَّف
…
تالله إنَّ عواذلي قد أسرفوا
قالوا: اصطبر واسل الحبيب تكلُّفاً
…
وأبى الهوى أن يقتضيه تكلُّف
أنَّى وكيف لي السُّلوُّ وها أنا
…
في الحب مسلوب الحشاشة مدنف
أخفى الغرام تستراً من كاشح
…
فتذيعه عنِّي جفونٌ وكف
/66 ب/ يا للرجال سبى فؤادى شادنٌ
…
غنج اللَّحاظ رخيم دل أهيف
خنث الشَّمائل عذبةٌ أخلاقه
…
من خدِّه ورد الشَّقائق يقطف
ملك القلوب بحسن لطف خلاله
…
فكأنَّه ربُّ الملاحة يوسف
جاوزت في حبيبه كل نهايةً
…
فصبابتي أنهى حديث يوصف
أشكوا غليه لعلَّه أن يرعوي
…
لسكايتي وأودُّلوا يتعطَّف
وبليَّتي ونحول جسمي أنَّه
…
في وصل مثلي زاهدٌ متعفِّف
وحياته قسماً وحسبي أنني
…
بحياتي في الحب براً أحلف
لا خنته جهدي ولا عن حكمه
…
أبداً ولو ذقت الرَّدى اتخلَّف
وأنشدني لنفسه في الغزل: [من مجزوء الرمل]
غفل الواشي فزارا
…
لابس الليل إزارا
بدر تمَّ لو رآه الـ
…
ـبدر إجلالاً توارى
في الدُّجى يسري فخلت الليل إذا وافى نهارا
فاتر الطَّرف كساه السِّـ
…
ـحر غنجاً وأحورارا
قلت: أهلاً ب حبيبٍ
…
لا أرى عنه اصطبارا
/67 أ/ مالكي تفديك روحي
…
ذبت شوقاً وانتظارا
فسقاني من رضاب
…
خلته صرفاً عقارا
عطل الكاسات لمَّا
…
خمر عينيه أدارا
وانتقلنا اللَّثم حتى خالنا الصَّاحي سكارى
يا لها فرصة عمرٍ
…
ليتها عادت مراراً
ليلةٌ ضاهيت فيها
…
ليلة القدر افتخارا
[759]
محمد بن أحمد بن أبي بكرٍ، أبو حامدٍ الجرباذقانيُّ.
وجرباذقان بليدة بين أصفهان وهمذان.
ففيه شافعي، جيد المعرفة في المذهب، فاضل في علم الأصول والخلاف، وله شعر يقصر عن معرفته وعلمه. وسألته عن ولادته، فقال: ولدت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة.
أنشدني لنفسه من قصيدة أولها: [من البسيط]
أحبابنا بالحمى بالله ما الخبر
…
هل يعتريكم سلامٌ فائحٌ عطر
أم أنتم ذهَّلٌ عن فحصكم أثري
…
وما لودَّ إلينا بالرِّضا نظر
ما هكذا الودُّ للخلَاّان منعقدٌ
…
بالله صحبي أروني كيف أصطبر
/67 ب/ ومنها:
ثغر المودّة للأحباب مبتسمٌ
…
لكنَّ عيني بكاها مسَّه الأثر
على فؤادي فنون الجور من زمنٍ
…
بأن دمي في عهده هدر
ومنها:
ابيت في ترحةٍ والقلب منصدعٌ
…
والدَّهر هيهات لا يبقى ولا يذر
ومن مديحها:
غوث البريَّة دستور الممالك من
…
ذا عنده للندى عظمٌ ولا خطر
عين المعالي حليف العزِّ مصطنع
…
سيَّان عند نداه العين والمدر
[760]
محمد بن عبد الواحد بن محمد بن الحسين، أبو عبد الله الموصلي.
تفقه على مذهب الإمام الشافعي، وقرأ طرفاً من علم النحو والعربية على جماعة من أدباء الموصل.
وكان شاباً خفيف العارضين، نحيفاً، أبيض اللون، تعلوه صفرة. وكان ترامى إلى العلوم الرياضية، ويدّعي معرفتها. وكان فيه ذكاء حسن، وكان بيني وبينه عشرة وصحبة. وكان في خلواته بارعاً
…
/68 أ/ جاد خاطره بشيء من النظم، في غرض يقع لا بأس به.
كانت ولادته ليلة عرفة سنة تسع وثمانين وخمسمائة. وتوفي آخر النهار يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة سنة ثماني عشرة وستمائة بالموصل.
أنشدني لنفسه، ما خلا البيت الأول وهو للأمير أبي العباس عبد الله بن المعتز:
من معيني على السَّهر
…
وعلى الهممِّ والفكر
فنظم أبو عبد الله على الوزن والقافية: [من مجزوء الخفيف]
من غزالٍ قد اشتهر
…
حسنه واسمه عمر
قد براني في ضرر
…
من هواه على خطر
فكم الحسن قد سطر
…
حاجبيه وما اقتصر
ليس في خدِّه شعر
…
نوره يقمر القمر
ليته زار في السَّحر
…
والكرى يفهم الخبر
[761]
محمد بن عليِّ بن عبد الله بن سليمان بن عليِّ بن عبد الحميد بن أبي العافية، أبو عبد الله البلنسيُّ العمريُّ.
من أولاد عمر بن الخطَّاب – رضي الله عنه.
رأيته شاباً طويلاً، أشقر /68 ب/ أزرق العينين، بمدينة إربل، في أوائل رجب سنة ثماني وعشرين وستمائة. وهو من أهل القرآن والمعرفة بالنحو والأدب. وذكر أنه قرأ العربية على أبي الحجاج يوسف بن محمد الأندي. وعلى ذهنه قطعة صالحة من أشعار الندلسيين.
وله تصانيف في الأدب، عدّد لي أسماءها منها: كتاب "النكت الغريبة في شرح الجزولية"، وكتاب "الشافعي في علم العروض والقوافي"، وكتاب "الروض الممطور في أوصاف الخمور"، وما يتعلق بها في الشذوذ".
وله شعر مليح، وقول عذب. وسألته عن مولده، فقال: ولدت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
أنشدني لنفسه: [من الكامل]
ومهفهف سفك الدِّماء بلحظه
…
جارت على كلفي به فتكاته
رقَّت محاسن وجهه فكأنَّما
…
ماء الحياء غذيت به وجناته
رشاً إذا أهدى السَّلام بمقلة
…
ولَّى وقد عبثت بنا لحظاته
نمَّ العذار على مورِّد خدِّه
…
ولوت بعقرب صدغه نوناته
نشوان لكن من خمار خفونه
…
من أين للقلب العميد نجاته!
/69 أ/ أنت الكمال وغصن قدِّك ناعمٌ
…
لا تبخلنَّ فقد زهت ثمراته
الحسن مالٌ والزَّكاة فريضةٌ
…
لا يزك مالٌ لم تؤدَّ زكاته
وأنشدني لنفسه أيضاً: [من الكامل]
يا سيداً ساد الورى قسماً بمن
…
خلق الهوى إنِّي إليك متيِّم
جرحت ظبا ألحاظ جفنك مهجتي
…
فعساك تأسوا ما جرحت وترحم
وأنشدني لنفسه أيضاً، وكان قد أهدى إليه بعض العلماء شربة ماء:[من البسيط]
يا خير من كتبت يمناه بالقلم
…
وخير من قد غدا يمشي على قدم
تغضي العيون حياءً من مهابته
…
بحر العلوم وبحر الجود والكرم
أهديت لي شربة ماء إن شربت بها
…
ماء سوى حبِّك المفروض في الأمم
شرَّفتني بالَّتي تحيا النُّفوس بها
…
يسقيك من كل عذب بارد شبم
بالورد قد طيبت لكن نوافجها
…
طيَّبتها منك بالأخلاق والشِّيم
لا زلت في نعمةٍ تترى مجدَّدةٍ
…
عليك ما لاح بدرٌ في دجى الظُّلم
[762]
محمَّد بن عليِّ بن أحمد /69 ب/ بن عبد الله بن عليِّ بن أبي طالب بن أبي الفرج بن مخلد بن كرمٍ، أبو عبد الله الخزرجي الأنباري.
كانت ولادته بمدينة السلام، سابع عشري رجب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، بجانبها الغربيّ، في جوار محمد بن بشار بالقرية.
وهو رجل صالح عفيف، نشأ في طاعة الله تعالى وحفظ القرآن المجيد، وسمع الحديث الكثير على جماعة من مشايخ بغداد الثقات؛ كأبي الفرج بن الجوزي، وأبي القاسم يحيى بن أسعد بن بوش البغدادي، ومكيّ الغراد، وعبد الرحمن بن عيسى البغدادي، وأبي علي عمر بن علي بن عمر الحربي الواعظ وغيرهم، مما ينيِّف على خمسين شيخاً.
اجتمعت بأبي بعد الله بمدينة إربل، وهو مقيم بها، فانتظمت بيني وبينه مودة.
أنشدني لنفسه أشعاراً في أغراضه، فمن ذلك قوله:[من المديد]
يا خليَّ البال عن كمدي
…
بأبي السُّبطين خذ بيدي
أنا في داء أعالجه
…
لا أرى الشكوى إلى أحد
مغرمٌ قد قلَّ ناصره
…
مستهامٌ ناحل الجسد
ربَّ ليلٍ بتُّ ساهره
…
عن غرامٍ حلَّ في كبدي
/70 أ/ وأنشدني أيضاً: [من المنسرح]
يدَّبر الله ما يشاء وفي
…
تدبيره للعباد إحسان
يقيم أرزاق خلقه وله
…
في كل وقتٍ من أمره شان
[763]
محمد بن عمر بن محمد بن علي بن محمد بن المبارك بن محمد المهتدي بالله بن الواثق بن المعتصم بن الرشيد بن المهديِّ بن المنصور بن محمد بن عليِّ بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، أبو عبد الله بن أبي حفصٍ العباسيُّ.
هكذا نسب لي نفسه.
شيخ رأيته بمدينة إربل في جمادى الأولى، سنة سبع وعشرين وستمائة. وذكر لي، أنَّه كان بالموصل معلّم صبيّة لكتب العامة، ثم ترك صنعة التعليم، وعاد إلى وطنه بغداد، فصار بها يؤدّب أولاد أمرائها بالخط.
أنشدني لنفسه، يمدح القاضي شهاب الدين أبا المناقب محمود بن أحمد بن بختيار الزنجاني:[من البسيط]
علوُّ مجدك أجرى السَّعد في الأفق
…
فأبشر بيمن وإقبال على نسق
واسعد به يا شهاب الدين وابق لنا
…
يا أبيض الوجه والإحسان والخلق
لأنت مولى إذا عدَّت مناقبه
…
فبلَّجتك ضياء الصُّبح في الفلق
سامي المناقب محسود المراتب محـ
…
ـمود العواقب محمولٌ على الحدق
/70 ب/ إن قال أو صال أو سالت عوارفه
…
لدى المرا والوغى والنائل الغدق
كالغيث .... كالعضب مندلق
…
واللَّيث منطلق والغيث مندفق
أغنت عوارفه فقرى وعاش بها
…
أهلي ومات بها ضدِّي من الفرق
فما اصطبحت بكأس من عوارفه
…
إلَاّ وقد بثَّ في جلباب مندفق
كم نلت ما رمت من إنعام راحته
…
فنال أقصى المنى في ملكه وبقي
في ظل مالكنا رقاً وموسعنا
…
رزقاً ومنذنا .... من العلق
النَّاصر الملك الدَّاعي إلى الرَّشد النَّاهي عن الفند الهادي إلى الطرق
خليفة الله ظل الله ناصر ديـ
…
ـن الله أحمد كهف الواهن الفرق
لا زال عصمة ملهوفٍ وكعبة معـ
…
ـروف يحجُّ إليها كل مرتزق
[764]
محمد بن عليِّ بن شمَّاس بن هبة الله، أبو عبد الله بن أبي الحسن الإربيليُّ.
وقد تقدم شعر والده، وشعر أخيه.
أخبرني أنه؛ ولد في شهر ذي الحجّة سنة تسع وثمانين وخمسمائة. وهو الأكبر من أولاد الوزير أبي الحسن علي بن شماس. وهو حسن المذاكرة بأيام الناس وأخبارهم، وقال أشعاراً غير أنَّها ذهبت، ولم يظهر لي منها شيء.
ومن شعره، يهجو علي بن /71 أ/ النفيس. كان من أولاد نصارى رومايا، قرية من بلد قلعة ألقى من أعمال الموصل.
وكان قديماً من الجزيرة العمرية. وكان هذا المهجو بإربل قد استولى على مملكة سلطانها الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري بن علي بن بكتكين – رضي الله عنه – وحكم فيها، واستفحل أمره، وظلم الناس ظلماً فاحشاً حتى غلب على السلطان مظفر الدين، وانقاد له في جميع ما يأمره وينهاه، وحصل أموالاً جمّة، ومات على أقبح موتة، وأراح الله المسلمين من ظلمه. فأنشدني أو عبد الله فيه لنفسه:[من الخفيف]
قد كرهت الولاء لمّا تسمَّى
…
بعليٍّ هذا الوضيع الرَّذيل
إنَّ يوماً يكون فيه رفيعاً
…
عند هذا الورى ليوم ثقيل
إنَّ ملكاً يكون فيه مشيراً
…
مثله في الأنام ملكٌ علي
ما احتيال ............... ..........................
وأنشدني لنفسه: [من الوافر]
بكت عيني حذار البين حتَّى
…
جرت بعد الدُّموع لها الدِّماء
وعوِّدت التئام الشَّمل جهدي
…
وليس لصحبةٍ أبداً بقاء
[765]
/71 ب/ محمَّد بن عليِّ بن يحيى بن محمد بن الحسن بن يوسف بن عبيد الله، ابو عبد الله بن أبي الحسن الشلمانيُّ.
كان ولده من قرية من قرايا فنك، تدعى شلما، من عمل الجزيرة العمرية. وقد سبق شعره أبيه في موضعه.
وأبو عبد الله ذو طبع في الشعر، إلا أن شعره ضعيف؛ لكونه لم يشتغل بالعربية. نزل إربل، وتولّى بها عملاً، ثم حبس، وطالت مدته في الحبس.
أنشدني لنفسه، ما كتبه إلى الوزير الصاحب شرف الدين أبي البركات المستوفى من الحبس، يشكو حاله، وما يلاقي من الضائقة والفاقة:[من الخفيف]
شرف الدين لا برحت بإحسا
…
نك تحيي من كان ميتاً كسيرا
أنت بحرٌ والبحر يمنح ما يأ
…
تيه درّاً ولؤلؤاً منثورا
إن أكن في الحديد أصبحت فرداً
…
عاري الجسم جائعاً مكسورا
فلي الله ثمَّ أنت ومن كنـ
…
ـت له مسعداً فعزَّ ظهيرا
قيَّدتني أطواق إحسانك لمَّا
…
ضنَّ من كنت أرتجيه نصيرا
وملكت القياد منِّي فأصبحـ
…
ـت بجدواك منعماً محصورا
قست ما كان من زماني فلم أحـ
…
ـظ ..... منكم هباً منثوراً
[766]
/72 أ/ محمَّد بن عليِّ بن الحسن بن عليِّ بن الحسن بن عليِّ بن ثابت بن مزاحم بن عياش بن وديعة، أبو عبد الله الموصليُّ.
تقدّم شعر أبيه، وكان من النيل.
وكانت ولادة محمد بالموصل، في منتصف ذي القعدة يوم الاثنين ضاحي نهار سنة ثمانين وخمسمائة.
شاب ضعيف العينين، وقد وخطه الشيب، مربوع. سمّى نفسه شاعر أهل البيت. يلحن في إنشاده.
وحكى أنه وقف على منجم طرقي، فأراد أن يعبث به، فقال: نجّم لي، وذكر غير اسمه، واسم أمّه.
فقال له المنجم: قل الصحيح.
فقال: فقلت له، اسمي الحقيقي.
فقال: أنت تكون تجمع ألواح الصبيان، وتصر معلماً.
قال: فكنت بعد ذلك بمدّةٍ طويلة كما قال.
وكان يؤدّب الصبيان بالموصل.
وهو شاعر غزير الشعر، طبعه مجيب في النظم، مدح أهل البيت – صلوات الله عليهم – بقصائد شتى، اشتهرت عنه، وترك التأديب، ثم اشتغل بالتنجيم، وعرف منه طرفاً جيداً وكتب التقاويم الحسنة.
أنشدني لنفسه من قصيدة، يمدح بها مولانا وسيدنا الإمام المفترض الطاعة على كافة الأنام المستنصر بالله أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور – رحمه الله تعالى -.
/72 ب/ يقول فيها: [من السريع]
وربَّ عنس صرت في ظهرها
…
جائلة في مهمه الأنهر
لا تشتكي فرط وجى لا ولا
…
ترعى من الحوذان والعرعر
جاريه كالطَّير في جوِّها
…
لغامها من طحلب أخضر
تؤمُّ بي نحو إمام النَّدى
…
خليفة الله أبي جعفر
الظَّاهر الأنساب من هاشمٍ
…
رب الجبين الواضح الأزهر
هو الإمام النَّبويُّ الذي
…
عنصره من أشرف العنصر
وإلى أمور الدين عن جدِّه
…
العبَّاس بل عن أحمد المنذر
حامي حمى البطحاء والرُّكن والـ
…
ـحطيم والكعبة والمشعر
واللَاّبس البردة والحامل الـ
…
ـقضيب والرَّاقي على المنبر
ذو التاج والمغفر لا ....
…
..... بربِّ التاج والمغفر
من في فناه مهبط الوحي والتَّبجيل والتَّفضيل والمفخر
من نور رب العرش أنواره
…
كذاك لا تخفى على المبصر
مالك أعناق ملوك الورى
…
منشي زمام الرِّمم الدُّثَّر
ذو الجحفل الجرَّار والعسكر الساري من الأملاك في عسكر
/73 أ/ تخفق في الآفاق راياته
…
باسم منصور ومستنصر
إذا جرت في معرك خليه
…
بغير هام الشُّوس لم تعثر
توسم في الأرض المحاريب فالثغور باللَّثم لها تمتري
يظل من فوق الثَّرى دونها
…
يسجد وجه الملك الأصفر
سيوفه مذ لم تزل والقنا
…
بالدَّم غن يدع بها يقطر
وبيضه حمرٌ وأرماحه
…
سمرٌ بغير الهام لم تثمر
حاز على عشر بحار وفي كل الورى سبع من الأبحر
وحيث جادت كفُّنه بالحيا
…
فالعارض الهتَّان لم يذكر
يغني بعيد الدار بالوابل الـ
…
ـمدرار من مثر ومن مقتر
يعلم ما في السرِّ وحياً من اللـ
…
ـه وقد يخبر بالمضمر
أضحت به بغداد كالخلد للسَّاكن والدِّجلة كالكوثر
فنشرها أذكى من المسك للنَّاشق والكافور والعنبر
خليفة الله الذي حبُّه
…
في اليوم ينجيني وفي المحشر
من لا يواليك غداً في لظى
…
يكبُّه الله على المنخر
فقت على كيوان في رتبة الـ
…
ـفخر وجاوزت مدى المشتري
/73 ب/ وأصبح المرِّيخ في هوَّةٍ
…
منك على الأعداء كالقسور
فارق وطل واسعد وسد وابتهل
…
وعش ودم واسم وجد وافخر
وأنشدني لنفسه، وقد أهدى إلى الصاحب شرف الدين أبي البركات المستوفى، تقويماً، وكتب على ظهره:[من الطويل]
ولما رأيت الشعر ليس ببالغ
…
علاك وأهل الأرض أنت رئيسها
منحتك بالأفلاك تجري سعودها
…
إليك وتجري في الأعادي نحوسها
وأنشدني لنفسه فيه أيضاً، وقد لسعته عقرب في قدمه:[من السريع]
يا شرف الدين الذي لم يزل
…
يجوده يوجد أهل العدم
قد فاقت العقرب فخراً كما
…
قد فاق من قبل منك القدم
وأنشدني لنفسه، مبدأ قصيدة:[من مجزوء الكامل]
يا مائساً تحت الغلائل
…
أمن الشَّمول هي الشَّمائل
أزرت لحاظك بالسيو
…
ف ولين قدِّك بالذَّوابل
إن شئت قتلي في هوا
…
ك فحبذا ما أنت فاعل
/74 أ/ شفَّيت بي منك الحوا
…
سد واللَّوائم والعواذل
يا أيُّها الرِّيم الذي مرعاه قلبي لا الخمائل
لا حبذا واش غدا
…
عنِّي إليك الزُّور ناقل
كم ذا أميل إليك من
…
وجد وعنِّي أنت مائل
لا تحملن سيفاً فلحـ
…
ـظك ناب عمَّا أنت حامل
لك من خفونك والحشا
…
طول المدى رامٍ ونابل
حازت لحاظك ما وعى
…
الملكان من سحرٍ ببابل
ويح النَّسيم لو أنَّه
…
أدَّى إليك لي الرسائل
لبعثت في طيَّاته
…
منِّي إلى الحبِّ الرَّسائل
وأنشدني لنفسه: [من المتقارب]
مدحتك لا طعاماً في نداك
…
وفي جود مثلك من يطمع
ولكن بشحِّك لمَّا سمعت
…
أردت أحقِّق ما أسمع
وأنشدني أيضاً لنفسه، في غلام لابس أحمر:[من الكامل]
ومهفهف كالغصن قامته
…
بخصره ما بي من السَّقم
/74 ب/ لم أنسه لمّا بدا قمراً
…
يختال في ثوب من العنم
وحواسدي حولي وقد بهتوا
…
من حسنه في ذلك الصَّنم
فأجبتهم والدَّمع يكسب من
…
جفنيَّ في خدَّيَّ كالدِّيم
لم يكف أن دمي بوجنته
…
حتَّى تسربل كلُّه بدمي
[767]
محمد بن المبارك بن يحيى بن عبد الله بن القاسم بن المظفر، أبو سعد بن أبي الفتح الشهر زوريُّ الموصليُّ.
من أبناء القضاة الشهرزوريين.
أخبرني أنه ولد بالموصل، في سلخ جمادى الآخرة سنة ستٍّ وثمانين وخمسمائة.
تفقه على مذهب الإمام الشافعي – رضي الله عنه – وحفظ فصولاً في الوعظ، وقال أشعاراً مختارة، ووعظ الناس بالمسجد الجامع برهةً من الزمان. وكان يحصر مجلسه عالم كثرٌ من الرؤساء، والفقهاء، وأكابر البلد. وكان حسن الصوت في إنشاد الشعر، ذا قبول تام عند الناس؛ فبقي مدة يسعد المنبر، ويتكلم على الناس، ويعظهم، ويظهر التدين والنسك على سيرة مرضية، وطريقة حميدة؛ فعند ذلك جذبه المولى الملك الرحيم إلى خدمته، واختاره لمنادمته، وأنعم [عليه]، /75 أ/ وقربه إليه، وصار أحد ندمائه، ومخصوصاً من بين جلسائه، وتزيّا بزي الأجناد.
أنشدني لنفسه، يمدح المولى المالك الملك الرحيم بدر الدين، عضد الإسلام والمسلمين، تاج الملوك شرف السلاطين، غياث الملهوفين، ملك أمراء الشرق والغرب بهلوان جهان خسروا إيران اج أرسلان إينانج قتلغ بك أتابك صغرك تكين بلكا، أبا الفضائل نصير أمير المؤمنين – ثبت الله أركان دولته – وأسبغ عليه ظل نعمته، ويهنئه بالنيروز:[من البسيط].
لمَّا تبدَّى الكثيب الفرد والعلم
…
أهدى السَّلام فماد البان والسلم
وظلَّ يلثم خدَّ الأرض معترفا
…
بسكر ما أسلفت أيَّامها القدم
أيَّام لهو تقضَّت وهي حافلةٌ
…
بالوصل لا سامٌ فيها ولا ندم
ونحن في صفو عيش ما به رمقٌ
…
الدَّار دانيةٌ والشمل ملتئم
لله كم من لبانات قضيت بها
…
أيَّام لم يهتضمني الشيب والهرم
فاليوم لا عثرتي فيها تقال ولا
…
يرعى لديَّ بها إلٌ ولا ذمم
لا درَّ درُّ الغواني كم حشا تركوا
…
مقتروحةً حشوها من جورهم ألم
يوفون بالعهد ما دام الشَّباب لنا
…
غضّاً وما مسَّنا الإملاق والعدم
/75 ب/ صحوت يا صاح من سكر الشَّباب وقد
…
أضاء صبح مشيب ليس ينكتم
وعدت أدأب في نيل الفخار ولي
…
عزمٌ يقصِّر عنه الصارم الخدم
أرى المعالي مراماً ليس يدركه
…
إلا فتى بذيول العزم يلتزم
باتت تعنفني في الحرص لائمتي
…
تقول ما الحرص يجدي إذ جرى القلم
فقلت أرجوا زماني أن يبلِّغني
…
مراتباً ليس تسموا نحوها الهمم
وكيف لا أترجَّى الخير في زمن
…
أبو الفضائل في العادل الحكم
ملكٌ سما في سماء المجد مرتدياً
…
ثوباً له العدل سلكٌ واحلجا علم
وفي مدائح بدر الدين مالكنا
…
تحير اللَّوذعيُّ المصقع الفهم
إن قيل ليثٌ، فليث الغاب في وجلٍ
…
أو قيل غيثٌ فليست تمرع الدِّيم
يا أيُّها الملك المرجوُّ نائلة
…
ومن تخاف سطاه العرب والعجم
فضحت حاتم طيَّ بالنَّدى فغدا
…
إليك ينتسب الإحسان والكرم
لله أنت فكم شيَّدت من رتب
…
ومن جنان نعيم دونها إرم
أما وحقِّ أياديك التي ملكت
…
رقَّ الأنام وحسبي ذلك القسم!
إني على قدم الإخلاص قد علقت
…
كفِّي بعروة أمن ليس تنفصم
جعلتها لي ملاذاً أستجير به
…
من الحوادث أنَّى زلَّت القدم
/76 أ/ لا زال ربعك أمن المستجير به
…
تؤمُّه من أقاصي أرضها الأمم
تسعى إلى بابك الميمون كل ضحى
…
تطوف سبعاً بركنيه وتستلم
يكبرون إذا لاحت بشائره
…
كأنه بينهم في الحرمة الحرم
تهنَّ واسعد بذا النَّيروز حين أتى
…
مبشراً بسعود ليس تنصرم
ودم على رغم من يشناك في نعمٍ
…
العدا في إثرها نعم
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من مجزوء الرمل]
يا رعى الله أناساً
…
ما رعوا عقد ذمامي
فرَّقوا بالهجر ما
…
بين جفوني والمنام
وكسوا جسمي سقاماً
…
فوق ما بي من سقامٍ
ومنها:
يا فتاة الحيِّ حيَّا
…
أرضكم صوت الغمام
كم قتيل لك أمسى بين أطناب الخيام
راعها الشيب وقد لا
…
ح بفودي كالثَّغام
فأجابت عبراتي
…
وهي تهمني بانسجام
لم .... غير
…
هجرانك عاماً بعد عام
/76 ب/ ومنها:
باكر الرَّاح سحيراً
…
قبل تغريد الحمام
واله بالكأس وذرما
…
قيل فيها من أثام
فعروس الكرم لا تجـ
…
ـلى على غير الكرام
سكنت في الدَّنِّ حتَّى
…
سئمت طول المقام
ثمَّ جاءت تورد الأنـ
…
ـباء عن سامٍ وحام
وأنشدني لنفسه، يمدح بعض الأمراء، ويعتذر إليه من أمرٍ جرى له:
[من السريع]
دم نافذ الأحكام والأمر
…
في دولة مشدودة الأزر
ورتبه بالسعد مقرونه
…
تسمو على العيُّوق والنسر
ونحن في ظل حماك الذي
…
نلقى به غائلة الدهر
نرتع من قربك في روضة
…
أزهارها أبهى من الزَّهر
يطربنا ذكرك فوق الَّذي
…
يبلغ منَّا طرب الخمر
ينشر من وصفك بين الورى
…
حسن ثناء طيِّب النَّشر
/77 أ/ إنَّ أياديك التي طوَّقت
…
أجيادنا جلَّت عن الحصر
ما سمع الناس ولا أبصروا
…
مثلك في بدوٍ ولا حضر
تقني وتفني للندى والعدا
…
فأنت للنفع وللضر
أضحى عماد الدين كنز لنا
…
نرجوه في عسر وفي يسر
يقضي له الخطِّيُّ يوم الوغى
…
على العدا بالجدِّ والنَّصر
إن عبس الفتيان يوم الرَّدى
…
رأيته مبتسم الثغر
يا واهب الجرد العتاق استمع
…
شكواي لمَّا خانني صبري
لله ما بتُّ رهيناً به
…
من شدَّة الشَّوق إلى الصَّقر
أضحت مواعيدك عندي بلا
…
شكٍّ يماريها ولا عذر
فأجمع به شملي على حالة
…
ترضيك بالحمد وبالشكر
وكنت الهو برشيق غداً
…
يسطو على العنقاء والنَّسر
رجوته كيما أسلي به
…
طول هموم أحرجت صدري
فما دنا لي الدَّهر في قربه
…
فأبتزه منِّي بالقهر
غادرني باليأس لمَّا غدا
…
عند بهاء الدِّين في الأسر
وليس يسلي الهمَّ من بعده
…
شيءٌ سوى إحسانك الغمر
/77 ب/ لم يك تأخيري لغير الذي
…
أبديه يا مولاي من عذري
وذاك أنَّ الكأس لمَّا رمى
…
منِّي بالصَّدِّ وبالهجر
جنى على رجليَّ لمَّا جنت
…
عليه بالدَّوس وبالكسر
لا زلت في عزٍّ منيع الحمى
…
ما غرَّد الصَّادح في الفجر
[768]
محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن الحسين بن يحيى بن الحسين بن أحمد بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. الشريف أبو الغنائم بن أبي الفتح الحائري، المعروف بابن الجعفرية.
من مشهد الحسين بن علي – صلوات الله عليهما وسلامه -.
وهو شاعر مطيل، كثير الأشعار، متبجح لسنٌ، هدار ذو مديح وهجاء، وصاف
لنفسه. يفد إلى بغداد يجتدي وجوه الحضرة بها، ويمدحهم.
لقته بمدينة السلام، سنة أربع وعشرين وستمائة؛ وهو شيخ كبير السن، طويل أسمر، ذو جسم عبل. وخبرت أنه ولد سنة أربع أو ثلاث وسبعين وخمسمائة؛ وذكر أن والده كان فيهاً /78 أ/ على مذهب الإمامية، وكان جده نقيباً علاّمة وقته في الأدب، وعلم العربية والفقه.
أنشدني لنفسه يفتخر: [من الطويل]
مرامي قريضي لا تطيش نبالها
…
وأسياف فهمي مرهفات نصالها
ولي خاطرٌ كالعضب أخطر من ظباً
…
مهنَّدة بتر حديد صقالها
تطأطئ دوني رأس كل معاندٍ
…
وعيل بعزمي من عداه احتيالها
ومنها:
وإنِّي لأبكار القوافي لمالكٌ
…
،مذهب غيري نقصها وانتحالها
سأدعى فريد العصر فضلاً وحكمةً
…
أقلِّد خصمي عثرةً لا يقالها
فلوذوا بسلمى تسلموا من خواطري
…
وإلا دهاكم بالهجاء عضالها
سلوا شعراء الملك عنِّي فإنَّني
…
إذا أنسيت يوم الفجار تخالها
أنا ابن علي والبتول وحبذا
…
فخارٌ إذا الأعياض قام سجالها
أبي خير خلق الله بعد محمَّد
…
لقد حلَّ من أنساب قومي جلالها
فإن تنسبوني تخبروا لي أرومةً
…
كثيراً معانيها قلالاً مالها
بسبق أبي قامت شريعة دينكم
…
فباد لدينا حرمها وحلالها
/78 ب/ وما زال طلَاّع الثنايا وموقع الـ
…
ـمنايا باحران شديد ضلالها
لنا يوم خمٍّ والعهود عليكم
…
بحب أبينا لا تجدُّ حبالها
ونحن ورب البيت أكرم أسرةٍ
…
تسود علاً نسوانها ورجالها
وأنشدني لنفسه: [من الكامل]
ما عن أجرع رملةٍ وعقيق
…
إلا ولؤلؤ مقلتيَّ عقيق
أوهزَّ خفَّاق النسيم أراكةً
…
إلا عرا منِّي الغرام خفوق
إنِّي وإن عنف الوشاة وراش لي
…
بالصَّدِّ سهم سلوِّه المعشوق
لمتيَّمٌ بهوى الأحبَّة وآلهٌ
…
إلى العقيق وساكنيه مشرق
يا أهل رامة إن جفا عرصاتكم
…
ودق الغمام وصوبه المدفوق
فأنا الوفيُّ فلا لديَّ عهودكم
…
رممٌ ولا ودِّي لكم ممذوق
كم في بيوتكم جداية ربرب يصبي الحليم جمالها الموموق
في عطفها هيفٌ وفي الحاظها
…
سحرٌ بألباب الرجال علوق
الثَّغر عن خصر الرُّضاب منضدٌ
…
فالدُّرُّ ثغرٌ والسُّلافة ريق
[769]
محمد بن محمد بن إبراهيم /79 أ/ بن الحسين بن سراقة، أبو القاسم بن أبي عبد الله الأنصاري الشاطبيُّ.
كانت ولادته فيما أخبرني – من لفظه – بشاطبة، في شهر الله رجب سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. وهو شاب طويل، أبيض اللون، تعلوه صفرة، خفيف العارضين، نحيف البدن.
ذكر لي أنه من أبناء القضاة الفقهاء، حفظ القرآن الكريم، وتفقه على مذهب الإمام مالك بن أنس – رضي الله عنه – رحل إلى مدينة السلام في طلب الحديث، فلقي بها جماعة من مشايخها العلماء؛ كأبي حفص عمر بن كرم بن الحسن
الدينوري، وأبي علي الحسن بن المبارك بن محمد الزبيدي، وأبي الفضل عبد السلام بن عبد الله بن أحمد بن بكران الداهري، وغيرهم من هذه الطبقة.
قدم إربل، ونزل بدار حديثها، وقرأ على شيخنا أبي الخير بدل بن أبي المعمر بن إسماعيل التبريزي، كتباً كثيرة من الأحاديث والتفسير.
شاهدته بها في ربيع الأول سنة ستٍّ وعشرين وستمائة؛ فوجدته رجلاً فاضلاً، متنسكاً عاقلاً، مسالماً ذا دين وعفاف وبشر، ووقار على منهاج المتقدمين من العلماء، مواظباً على الاشتغال بالعلم وتلاوة وقراءة القرآن /79 ب/ ثم إنَّه جيّد المعرفة بمعاني الشعر، صالح الفكر في حل التراجم، له شعر حسن.
أنشدني لنفسه: [من الطويل]
إلى كم أمنِّي النَّفس ما لا تناله
…
فيذهب عمري والأماني لا تقضى؟
وقد مرَّ لي خمسٌ وعشرون حجَّةً
…
ولم أرض فيها عيشتي فمتى أرضى؟
وأعلم أنِّي والثَّلاثون مدَّتي
…
حر بمغاني اللَّهو أوسعها رفضا
فماذا عسى في هذه الخمس أرتجي
…
ووجدي إلى أوب من العشر قد أفضى؟
فيا ربِّ عجِّل لي حياةً لذيذةً
…
وإلَاّ فبادر بي إلى العمل الأرضي
وأنشدني لنفسه، ما كتبه إلى بعض ملوك المغرب:[من الطويل]
لقاؤك عيدٌ بالنَّجاح بشير
…
وتقبيل يمنى راحتيك حبور
بهاؤك في لحظ المواسم موسمٌ
…
ونشرك في ريَّا العبير عبير
وما عادنا من عيدنا غير وافد
…
يحول عليه الحول ثم يزور
له أملٌ في لثم لقياك مدركٌ
…
وطرفٌ بها يرنو إليك قرير
سرى نحوكم مذ عام أول جاهداً
…
يجوب عراص البيد وهي شهور
فبشراه وفي النفس ملء فؤادها
…
سروراً وإن أعيت وطال ميسر
/80 أ/ وناجيت نفسي والهوى يبعث الهوى
…
وطال بي التسويف وهو غرور
أأترك موسى ليس بيني وبينه
…
سوى ليلة إنِّي إذن لصبور!
فملت بودِّي وأنحياشي وهمَّتي
…
إليك وفيها عن سواك نفور
وأيقنت أني إن أخذت بحبلكم
…
على ريب دهري من الثَّناء أجير
هما منثنى الأعناق نحو علائه
…
كمالٌ بأهواء النُّفوس جدير
ومنها:
ينوب عن الدُّر النَّفيس كلامه
…
وما ناب عن جدوى يديه بحور
إذا صفرت أيدي السَّحاب فكفُّه
…
سحابٌ بآفاق السَّماح درور
[770]
محمد بن يوسف بن أبي سعد بن يونس بن فيروز، أبو عبد الله التلعفريُّ الفرّاء.
أخبرني أنه ولد بتلعفر، بمحلة بني سعد، في المحرم سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، وتوفي بالموصل في العشر الآخرة من شعبان سنة اثنتين وعشرين وستمائة. ودفن خارج البلد غربيه، بمقبرة المعافى بن عمران الزاهد، تجاه باب الميدان – رحمه الله تعالى-.
كان مقامه بالموصل، يتردد إلى فضلائها، ويختلف إلى أدبائها لطلب الإفادات.
/80 ب/ وكان يحفظ مقطعات من الشعر، ويذاكر بها ويشعر، وله طبع يساعده في المنظوم، ومدح جماعة من أهل الموصل. وكان يخلط في شعره ألفاظاً عاميّة، ويستعملها كثيراً في أثناء كلامه؛ فتأتي لائقة في مواضعها، وربّما تكلّف لنفسه يداعب رجلاً يعرف بالحكيم الفقاعي، يبيع الفقاء. وكان يتدين، وإذا سمع موعظةً بكى وتواجد، ويظهر خوفاً وخشية من الله – عز وجل – رحمه الله تعالى:[من المنسرح]
لم يبك هذا الحكيم مستمعاً
…
إلا أقمنا له معاذيرا
لأنَّه من كرام معشره
…
حاز التُّقى والسَّداد والخيرا
ما فيه من خصلة يعاب بها
…
وعرضة لن يزال مستورا
قالوا: نراه يبكي إذا عرضت
…
موعظةٌ ما تظنُّه زورا
فقلت: هذا البكاء متفقٌ
…
عليه قد قدَّروه تقديرا
يبكي فلوس الفقَّاع منتحباً
…
إذ لم تكن كلُّها دنانيرا
وأنشدني أيضاً لنفسه، في رجل يلقب بزنباط، وكان من أخل الخير /80 أ/ والديانة. وكان يكثر الصياح في الصلاة تواجداً. وكان من أبغض الناس صياحاً، وربما كان في الصلاة، فيقرأ الإمام آيةً من القرآن، فيزعق زعقات متوالية، فيشوش على الناس صلاتهم لكثرة صياحه، ومقت صوته. وكان الحكيم الفقاعي – رحمهما الله تعالى – يحتذي بحذوه في التواجد:[من المنسرح]
كم صاح زنباط في الصلاة وكم
…
خر صريعاً ما بين صفَّين
واليوم قد أصبح الحكيم لنا
…
يحطُّه في السَّماع رخَّين
وأنشدني أيضاً لنفسه في زنباط – رحمه الله تعالى -: [من البسيط]
وقفت يوماً أصلِّي والصَّلاة بها
…
يمحِّص الله ذنب المجرم الخاطي
ثم انثنيت إلى الصف الأخير على
…
أن ليس ذلك من عزمي وأشراطي
فقيل أول صفٍّ لم تركت وقد
…
علمت فيه ثواباً غير منحاط
فقلت زنباط فيه وهو مستمعٌ
…
وإنني أتخشى صوت زنباط
وأنشدني قوله من أبيات، يرثي بها طير حمام، ويستعير لها ألفاظاً، /81 ب/ من
ألفاظ المطيرين، واصطلاحاتهم، مبدأها:[من الخفيف]
عين سحِّي بدمع جفن هتون
…
واسعدي عبد بالبكا والحنين
واندبي طيره الذي قطُّ لا يعـ
…
ـرف إلا بالسَّابق المجنون
كان أوفى الحمام في العلم الا
…
ول سبقاً بفوتها كل حين
كان لون خفَّق المناصف ما
…
احتاج إلى حمل وغدا مكين
كان سهل التسريح ما خطر الترحيل يوماً له كدس الظنون
وأنشدني أيضاً لنفسه، في إنسان يعمل الخل، يعرف بالمؤذن، فقال له رجل: ما بال خلك يا مؤذن ما له طعم؟ فسئل محمد بن يوسف الفراء أن ينظم في ذلك شيئاً، فصنع هذه الأبيات:[من الكامل]
نصح المؤذِّن من له عزم
…
وثواب كل نصيحة غنم
في حال ذوق الخل قال له:
…
ما بال خلك ما له طعم؟
لا توهمنَّ الناس إنَّك قد
…
أصلحته ما ينفع الوهم
الخل أدمٌ أي فائدة
…
فيه إذا لم يصلح الأدم؟
/82 أ/ وشروه منك بغير تجربةً
…
خطأٌ ولم يحدث بذا رسم
يا عاذلي في شرح قصّته
…
خفض عليك فحربه سلم
قل للمؤذِّن لا يغرُّك أن
…
حمدوك قومٌ حمدهم ذمُّ
يكفيك فعلك بالزبيب فقد
…
أحسدت ما قد أصلح الكرم
درياقنا عنب الكروم وما
…
دبرت منه كأنَّه سمُّ
لا تعزلنَّ نقيع أوَّله
…
فعليك إن أعزلته إثم
فاقبل نصيحتنا تبترَّ وإن
…
خالفت مالك في السما نجم
وأنشدني لنفسه من قصيدة، يقول فيها من أبيات:[من الخفيف]
وعلى جيرة نعمت زماناً
…
بهم من خليلة وخليل
كل بيضاء لدنه القدِّ تحكي
…
الغصن في لينه وفي التعديل
ذات ثغرٍ كالأقحوان كأنَّ الـ
…
ـخمر فيه قد شيب بالزنجبيل.
يخجل الغصن قدها كلَّما ما
…
ست دلالاً عن فوق ردف ثقيل
حجلها صامتٌ ونطق نطاق الـ
…
ـخصر منها ما بين قال وقيل
ما بدت في الظلام إلا وقلنا
…
طلعة البدر ما لها من أفول
/82 ب/ بي غرامٌ وحرُّ شوق إلى
…
رشف لمى من رضابها المعسول
فيه إن أعوز الدَّواء شفاءٌ
…
من سقام المضنى الكئيب العليل
واصلت وهي جارة الجنب حتى
…
ما نبا الربع آذنت بالرحيل
وأبى طيفها يزور لأنِّي
…
لم أذق لذَّة الكرى في مقيل
يا آخلَاّي هل على كثرة اللَّوَّام من عثرة الهوى من مقيل
غدرت فاعتمدت بالصَّادق الوعـ
…
د زعيم الجيوش إسماعيل
الأمير المهذَّب الأصيد الذَّر
…
ب الذَّكي النَّدب الكريم النبيل
جئته أشتكي من العلم لمَّا
…
شاع في الناس ذكره بالجميل.
وأنشدني لنفسه يهنئ بعض الرؤساء بولده: [من الوافر]
سعدت بطلعة الولد السعيد
…
وعشت الدهر في عيش رغيد
تأمَّل أن تعيش بلا نظيرٍ
…
يفوق كما يفوق على الوجود
ومنها:
فأنتم أكمل الرؤساء منكم
…
يحقَّق سبق وعد من وعيد
إذا ما الخطب أضحى مدلهمّاً
…
يضيء بحسن رأيكم السَّديد
/83 أ/ وقد عرف الملوك بأن فيكم
…
نصائح ما عليها من مزيد
عتبت على الرئيس حسن لمَّا
…
تباعدت وهو أقرب من وريد
عتبت عليه لمَّا صدَّ عنِّي
…
وما عوِّدت منه بالصُّدود
ومن شيم المحبِّ إذا تمادى
…
به المحبوب تذكار العهود
تهنَّ بطلعة الولد المفدَّى
…
سعدت به وبالشَّهر الجديد
وقال أيضاً: [من الخفيف]
شغل الحزم بالعنوة عنَّا
…
كل ريم إذا مشى يتثنَّى
بدر تم بنوره يخجل البد
…
ر ويخجل الشمس حسنا
سحر عينيه علَّمت بابل السحـ
…
ـر وقد أشبه الغزال الأغنَّا
من فنون الجمال فيه ويزدا
…
د من الحسن كلَّما ماس فنَّا
عوَّدونها الوصال منهم فأضحوا
…
بعد إقبالهم يولُّون عنَّا
أوقع الحزم بيننا بعد قرب
…
نار حرب ضرامها ليس يفنى
ويك ما جرم من أباحك في
…
المراد نقيتم ولم تخض منَّا
وشيوخ الفتيان قالوا جميعاً
…
لا يعنّى من ليس يقنص دفنا
ويك هلَاّ استأذنت في ذاك طرخا
…
ن والأشيخ الفتوة يمنا
/83 ب/ جعل الخزم ذا الفتوَّة صيداً .. ليس يخفي مقاصد الخزم عنا
وادَّعى أنها صيانة عرضٍ
…
ينطوي في بلوغه ما تمنَّى
خيروه وليس يخفى عليه
…
حال علق إذا عليه تجنّي
كلَّما شدَّ امرداً بسراويـ
…
ـل نهارا نجلُّه نحن وهنا
قد تعجبَّبت حيث مالوا إليه
…
وهو منَّا أشدُّ فسقاً وأزنى
قل لمن رامه رفيقاً لعمري
…
عن قليل محبة المرد تفنى
فقصارى ما نلت يا صاحب منهم
…
فهو نصف اسم كل شيء مثنَّى
إنما أنت فاعلٌ والمفاعيل
…
كثيرٌ والخزم حرف لمعنى
[771]
محمد بن يوسف بن مكارم بن منصور بن عبد الله بن منصور بن علويٍّ، أبو عبد الله الشيباني الموصلي المؤدب.
شاب أسمر قصير، نزل في عارضيه الشيب. كان يؤدّب الصبيان في المكتب بالموصل، ثم ارتبطه الأمير أمين الدين أبو المكارم لؤلؤ بن عبد الله البدري، لتأديب ولده الأصغر.
وهو شاعر فطن مجيد، ذو فكرة نادرة، وبديهة في الشعر حاذرة. كان النظم طلوع يديه، والقوافي /84 أ/ مسلمة أزمتها إليه، يتصرف في القريض، كيف ما أراد من غير فكرٍ ولا استعداد. مدح جماعة من رؤساء مدينته وأمرائها.
أنشدني لنفسه، يمدح المولى المالك الملك الرحيم بدر الدنيا والدين، عضد
الإسلام والمسلمين، محي العدل في العالمين، جلال الملوك والسلاطين بهلوان جهان طغر لبك مكا أتابك أبا الفضل غرس أمير المؤمنين – خلّد الله دولته – ويذكر القنطرة والشباك، بالباب العمادي. وكان في الحكومات بين الناس:[من الوافر]
ألا يا أيها الملك الرَّحيم
…
بعدلك ذا الصراط المستقيم
بثثت العدل فالعنقاء تلفى
…
ولا يلفى لمخلوق ظلوم
وجدت فلا نرى إلا غنياً .. ز فمنذ وجدت قد عدم العديم
بنورك .... دين الله ضاءت
…
دياجي الظُّلم والليل البهيم
سليل الجود أنت فليس يأتي
…
بمثلك بعدها الدَّهر العقيم
فدمت أبا الفضائل لا رأينا
…
يتيماً في الفصائل يا يتيم
طويت حديث طيٍّ في العطايا
…
وقال كريمهم هذا كريم
كسرت نصيحةً في العدل كسرى
…
كما سفَّهت أحنف يا حليم
/84 ب/ تهاب الأسد بأسك خادراتٍ
…
في الأرحام يقدمها الوجوم
وتخشاك الهوام بكلِّ أرض
…
فلو أكلت لما ضرَّ السموم
ولو ملكٌ توهَّمك احتوته
…
همومٌ جمَّةٌ وعراه لوم
سلوفك لا تفارقها الغواشي
…
وبأسك في الوغى عنها يقوم
فلو جرَّدت عضباً يوم حرب
…
إذن عمَّ الورى موتٌ عميم
ودهرٌ كلُّه يومان بؤسٌ
…
لمن عادى وللراجي نعيم
وكل الناس في يوميك إمَّا
…
سليمٌ بالمنيَّة أو سليم
وأنشدني لنفسه يمدح: [من الرجز]
بين أراك المنحنى وضاله
…
مهفهفٌ كالغصن في اعتداله
بدر دجى إذا بدا مقرطقاً
…
يخجل بدر التمِّ من جماله
تخال كثبان النقا إذا انتشى
…
معتدلاً ترتج في سرباله
حاز جميع الحسن فهو كاملٌ
…
أعيذه بالله من كماله
يتشاقه قلبي وطرفي فإذا
…
رأيته أطرقت من صلاله
ميل الصدغين .... لم يفق
…
في حبه قلبي من بلباله
/85 أ/ لا يعرف العطف على عشَّاقه
…
بل الجفا والصدُّ من خصاله
يغضب طوراً ويصدُّ تارةً
…
ظلماً فكم يعمه في ضلاله
رضيت يا قوم بأنِّي عاشقٌ
…
له بما يرضاه من فعاله
يا ليت شعري هل تعود ليلةٌ
…
قضيتها بالسفح في وصاله
إذ بتُّ أدني الورد من خدوده
…
غضا وأسقى الورد من سلساله
وكنت لا أرضى الوصال عفَّةً
…
واليوم أشتاق إلى خياله
لم أنس إذ زار بغير موعد
…
والنسر قد أطلق من عقاله
فلم نزل في غبطة حتى انقضى
…
الليل ولاح الصباح في خلاله
كوجه تاج الدين والمولى الذي عم جميع الخلق من نواله
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من الرجز]
ما سنحت ببابل نعاجه
…
إلا أبان ....................
ولا تذكرت ظباء عالجٍ
…
إلا وأبدى كمدي اعتلاجه
من كل معسول الرُّضاب أشنب
…
الذُّ في مخِّ الطلى مجاجه
أهيف ممشوق القوام مائل الـ
…
ـعطف يزين ردفه ارتجاجه
مرنانه حاجبه ونبله
…
لحاظه ومهجتي اماجه
/85 ب/ يلجُّ في هجري فإن عاتبته
…
زاد على تعتبي لجاجة
بدرٌ له قلوبنا منازلٌ
…
وحبرات عبقر أبراجه
أعزَّه الحسن كدين أحمدٍ
…
أعزَّه المولى الحسين تاجه
وأنشدني أيضاً من شعره، فلا غلام اسمه حسن، وقد قال له: هل عشقت أحسن مني؟ فأنشده بديهة: [من الخفيف]
بأبي شادنٌ أغنُّ غضيض الـ
…
ـطرف لدن القوام حلو التثنِّي
عربيُّ الألفاظ من آل خا .... قان سما حسنه على كل حسن
بابليُّ الألحاظ معجز هارو
…
ت بسحر الجفون في كل فنِّ
يتجنَّى عليَّ من غير جرمٍ
…
فهو عذب الجنى ومرُّ التجنَّي
ليست أنساه قائلاً: بحياتي
…
هل تعشقت قطُّ أحسن مني
قلت: دع ما مضى فلست أرى مثـ
…
ـلك حسناً يا غاية المتمنِّي
[772]
محمَّد بن فضلون بن أبي بكر الحسين بن محمد بن وهب بن صالح بن يوسف بن عمر بن عبد الله /86 أ/ بن عاصم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الله العقريُّ.
من أبناء الأكراد، والعقر قلعة حصينة مشهورة، يقال لها: عقر الحميديَّة جيل من الأكراد، ببلد الموصل.
شاب طويل أحول، مائل إلى الشقرة، ضئيل البدن نحيفه.
أخبرني أنه ولد بها في جمادى الأولى سنة ستٍّ وثمانين وخمسمائة. وبلغني أنه كان مريضاً بالموصل، فتوجه نحو أهله إلى العقر، فأدركته منيته بموضع يعرف برأس النا عور؛ فدفن هنالك، وقبره به على تلعة من الأرض؛ وذلك في أواخر ذي الحجة سنة أربع وعشرين وستمائة – تغمده الله برحمته ورضوانه إنه جواد كريم-.
وكان من الفضلاء في كل علم، فقيهاً شافعياً، مناظراً، أديباً، نحوياً، شاعراً، متفنناً، لقي علماء الأدب والفقه، وأخذ عنهم، وسمع عليهم الحديث، وصنّف كتباً منها: كتاب "الرموز الشرقية على الكنوز الخفية" في علم الأصول. وكتاب في الفرائض، وغير ذلك.
أنشدني لنفسه: [من الكامل]
بي من فراقك وحشةٌ وصبابةٌ
…
ابين لجنبي أن يلائم مضجعاً
وغضضت من بصري ففيه تورعٌ
…
عن رؤية الدُّنيا إلى أن يرجعا
/86 ب/ ولقد ذممت الصَّبر قبل دفاعه
…
والشوق قد قرع الفؤاد فأوجعا
وحمدت بعدك إذ أعاتب أدمعي
…
فمر المعين فقد نزفت الأدمعا
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من الكامل]
وصل الكتاب فكان عند وروده
…
روحاً تردد في حشاشة هالك
فطفقت أنشد في الجوانح كلها
…
لا يعدم المملوك جود الممالك
وأنشدني من شعره: [من الوافر]
أبثُّك أن من شيم اللَّيالي الـ
…
ـعنيفة أن تجور على اللهيف
كمثل الخلط أقوى ما تراه
…
يصب أذاه العضو الضعيف
وأنشدني قوله: [من الطويل]
تمكن الحب من قلبي يعذبني
…
ولا محالة أن الحب تعذيب
فهل كمثلي محبٌّ لا يفيق هوى
…
أم هل كمحبوبي الفتَّان محبوب
هويت من لو رآه العاذلون أمـ
…
ـضَّني فيهم عذلٌ وتأنيب
/87 أ/ كأنَّما قدُّوه والتِّيه يعطفه
…
رمحٌ قد اضطربت منه الأنابيب
وفي لواحظه سفيان لو شهرا
…
على .... لأضحى وهو مغلوب
وأنشدني قوله: [من الطويل]
وفيت بوعدي والموانع جمَّةٌ
…
واختلفت منك الوعد من غير مانع
وما ذاك إلا أن عندك نفرةً
…
وعندي هوىً كالنَّار بين الأضالع
فكن كيف ما تهوى جفاءً ورقَّةً
…
فإنك عندي في أعزِّ المواضع
متى تجن ذنباً يقتضي عنك سلوةً
…
ففي وجهك المحبوب أكرم شافع
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من المتقارب]
قرأت كتابك فازداد بي
…
إليك اشتياقي وهاج التياعي
عسى من رمانا ببعد الديار
…
يمنُّ علينا بقرب اجتماع
وأنشدني من شعره: [من الطويل]
ولو أنني حمَّلت كتبي بعض ما
…
يلاقيه قلبي من فراقك والصَّدِّ
لما وصلت إلا وفي صفحاتها
…
ندوبٌ من الهمِّ المبرِّح والوجد
وأنشدني لنفسه، ما كتب به إلى صديق له في صدر رقعة، يشفع فيها لبعض الشعراء:[من الكامل]
/87 ب/ كرمت طباعك كالخلائق روضةً
…
والكف غيثٌ دائمٌ الهطلان
وتناقل المدَّاح وصفك بينهم
…
لا زلت ممدوحاً بكل لسان
وأنشدني لنفسه ما كتبه إلى بعض الرؤساء عتاباً: [من الطويل]
أليس عجيباً أنني لك شاكرٌ
…
محبٌ وأمسي موغر الصدر باكيا
وكانت ظنوني في علاك جميلةً
…
فغادرتها والله يعلم ما هيا
أتعمر جسراً باطِّراحك جانبي
…
وتهدم بي قصراً من الذكر عاليا
وترقد عنِّي ملء جفنيك ملغياً
…
حقوقي وقد نبَّهت فيك القوافيا
وجدت لساني عن كلام يسؤكم
…
كليلاً وإن كان الحسام اليمانيا
وجاء أذاكم مرةً بعد مرةٍ
…
فصادف مني صابراً متغاضيا
فلا تحوجوني اقتفي غير مذهبي
…
وأنوي لكم غير الذي كنت ناويا
وما ضرَّكم أن تستديموا مودَّتي
…
عليكم وأن تشروا بمال ثنائيا
وأنشدني أيضاً لنفسه في المعنى: [من الطويل]
إذا زدت شكراً زدتموني أذيَّةً
…
فبت ولي قلبٌ يقلَّب في العتب
وما زلَّتي فيما أرى غير حبكم
…
فهل عندكم أن تغفروا زلَّة الحب
/88 أ/.
/88 ب/ وأنشدني لنفسه يصف الثلج: [من الطويل]
عدمت رواء الثلج أن بياضه
…
سوادٌ إذا النيران لم تتضرم
كأني وقد أرعدت عند وقوعه
…
فؤاد جبانٍ خاف من وقع لهذم
هو المشتري المذموم في كل شتوةٍ
…
ولكنه في الصيف غير مذمم
[773]
محمد بن عمر بن عليِّ بن سعد الله بن يوسف بن إسماعيل، أبو حامدٍ المعروف بابن الحديثي.
شيخ ربعة، نقي الشيبة، ضعيف العينين جداً.
أخبرني أنه ولد بحديثة الموصل – وهي بليدة على دجلة، بالجانب الشرقي قرب الزاب الأعلى – وقيل إنها كانت .... ولاية الموصل، منتصف شوال سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.
ونشأ بإربل، وحفظ القرآن الكريم، وتوجه إلى الموصل، فقرأ تجويداً على الشيخ أبي الحرم مكي بن ريّان النحوي، ثم عاود إربل، وختم عليه القرآن خلق كثير. وكان يتولى بإربل لسطانها الملك المعظم مظفر الدين –رضي الله عنه – الوقوف والحشرية وارتفاع الخاص، والنظر في /89 أ/ أملاكه، ولم يكن له شعر طائل.
أنشدني لنفسه ما كتبه إلى الأثير أبي محمد الحسن الموصلي العمراني، وهو يومئذ يتولى الإشراف بديوان إربل:[من الكامل]
قل للأثير بن الأثير ومن له
…
بين الورى الإجلال والإعظام
بعلاك يا ابن عليٍّ الشرف الذي
…
يعلو ويقصر دونه بهرام
إن ضاع حقِّي عند غيرك لم يضع
…
للمسلمين بحوزتيك ذمام
.. بك يا محمد التقى
…
والفضل والقرآن والإسلام
[774]
محمد بن ثروان بن سلطان بن حسّان المعروف بهياسٍ، يكنّى أبا عليٍّ.
رجل عبل اليدين، متكهل أسمر اللون، ضعيف البصر. وكان يخضب لحيته، ثم
ترك الخضاب، ولم يستعمله؛ كان أبوه من أهل هيت.
وأبو علي ولد بالموصل سنة ثماني وسبعين وخمسائة. وكانت صنعته في ابتداء أمره الحياكة، ثم مال إلى الشعر، وأحبّه من صغره، وصحب أدباء وقته من أهل الموصل، وامتدح بها جماعة.
نزل إربل، وأقام بها برهة /89 ب/ من الزمان يتكسّب بشعره الوزراء والأمراء؛ ولما رأى من لؤم أهل هذا الزمان، ورفضهم الفضائل والآداب، وتقاعسهم عن المكرمات، وكساد سوق القريض، غسل ديوان شعرهن واعتنى بحفظ الحكايات والملح والمحاضرات، وأخبار الناس والتواريخ، وحين مات مظفر الدين كوكبوري بن علي بن بكتكين – رضي الله عنه – وجاءت الدولة المستنصرية، فارق إربل، ورحل إلى بلاد الشام؛ فنزل محروسة حلب في أيام الملك العزيز غياث الدين، فامتدحه، فأجازه وجعله أحد شعراء دولته، وقرر له جراية وجامكية، تصل إليه في رأس كل شهر.
ولما توفي الملك العزيز، وتولى السلطان الملك الناصر صلاح الدين بن يوسف – خلد الله ملكه – لم يغير عليه شيئاً، ومدحه وأنعم عليه:
أنشدني لنفسه، يمدح الملك المنصور عماد الدين زنكي بن أرسلان شاه:[من الطويل]
لقد هاج لي رند الحجاز بنشره
…
جوىً خلت حرَّ النار من دون حره
واذكرني عهداً بنعمان سالفاً
…
على أنني ما زلت مغرىً بذكره
خذوا من حديثي ما لكم فيه عبرةٌ
…
لمعتاد أوجاع الهوى مستمره
/90 أ/ ولا تطلبوا من مغرم القلب سلوةً
…
فميقات ما تبغونه يوم حشره
كفى قلبي المحزون كثرة وجده
…
غداة استقلوا عند قلَّة صبره
ألفت الغضا مما أبثُّ له الجوى
…
كألفة ودٍّ بين قلبي وجمره
وطال على الليل حتى ظننته
…
سميري من الأحزان من فقد فجره
وأهيف معسول الشمائل طرفه
…
يفيض على هاروت تيّار سحره
يحار ضياء الصبح من صبح وجهه
…
ويغرق جنح الليل في ليل شعره
رضيت بما يرضاه في السُّخط والرِّضا
…
واعترضت عن زيد الملام وعمره
أيا قاتل المشتاق من غير زلَّة
…
لك الله ما أغناك عن حمل وزره
لئن خمت عهدي أن غدرت بذمَّتي
…
وكل أخي حسن يدل بعذره
وساعدك الدهر الخؤون معانداً
…
وكل أخي فضل شكا صرف دهره
فلي ولصرف الدهر والدهر وقفةٌ
…
لدى الملك المنصور علماً بنصره
فتى تعجز الأسماع عن حدِّ مدحه
…
وتعيى ذوو الأفهام عن بثِّ شكره
يميت ويحيي سيفه وبنانه
…
كأن الرجا والبؤس يأتي بأمره
إذا ما لجا عافٍ إلى يسر كفه
…
بمتربةٍ أنساه أيام عسره
أنشدني لنفسه يمدح: [من المديد]
/90 ب/ يا نديمي هزَّني الفرح
…
ودعاني للهوى المرح
فاسقني خمراً إذا مزجت
…
خلت منها النار تنقدح
سترت في الدَّنِّ فاحتجبت
…
وهي في الكاسات تفتضح
مذ أتى المنثور منتظماً
…
نبذت ما بيننا السُّبح
وغذا القنديل منكسفا
…
وتلالا خلفه القدح
ومن مديحها، يقول:
يا مليكاً عن تفضُّله
…
تقصر الأوصاف والمدح
والذي بالعدل مغتبقٌ
…
وهو بالإحسان مصطبح
ذهب .... وقد
…
جاءت اللذَّات والملح
بك نلقى العيد تهنئةً
…
أنت عيد الناس والفرح
وأنشدني لنفسه، يمدح السلطان الملك الناص صلاح الدين أبا المظفر يوسف بن محمد – صاحب حلب المحروسة أدام الله أيامه – ويهنئه بعيد النحر:
من لي بإيناس نومي النافر
…
وبالحبيب المفارق الهاجر
/91 أ/ وبالوصال الذي نعمت به
…
نهباً كظلٍّ أتى به طائر
يا غادراً غادر المحب لقىً
…
وراقداً عن أسيره الساهر
لا تسل الناس ما منيت به
…
وسل بحالي خيالك الزائر
قدك قد حير الرماح وقد .... أعجز هاروت طرفك الساحر
كم يجحد الحق عند سفك دمي .... وفوق خديك شاهد حاضر
افعل بقلبي الذي تشاء فما
…
زال جليدا على الأذى صابر
ظبي من الترك تاركي مثلًا
…
معتدل عند حكمه جائر
اسمر من صده غلا سمرًا
…
حديث وجدي والحزن لي سامر
يعذر من جن في محبته
…
وماله في سلوه عاذر
يا روضة بالحمى [
…
]
…
بين صريم النقا إلى حاجز
لا تحزني إن وعدتك غادية
…
فسوف يكفيك جفني الماطر
أو نائل المالك الذي نصر الإ
…
سلام حقا فسمي الناصر
صلاح دين الإله والمورد العذب
…
لبادي العفاة والحاضر
يسمو بجودٍ وسؤددٍ وندى
…
كفٍّ وأصل مؤثل طاهر
أبلج ماضي الجنان يعتمد الإ
…
حسان والعدل واهبٌ غافر
/91 ب/ أصبح يحكي المسيح نائله
…
وأصبح الناس كلُّهم عازر
يا ظاهر الفضل في الملوك لقد
…
أحييت ذكر العزيز والظاهر
يا ضاحك الوجه والخلال إذا
…
جاء زماني بوجهه الباسر
أصبحت للملك جبهةً وغدا
…
الأملاك عند القياس كالحافر
جوذك كالبحر عند زخرته
…
ليس له عائمٌ ولا جازر
سيفك قد مهَّد البلاد وقد
…
طهرها من معاند غافر
ما خالف القول عند مدحك بيـ
…
ـن الناس لا صادقٌ ولا فاجر
عنترةٌ في اللقاء دونك والـ
…
ـطائي عمَّا ترومه قاصر
يا بحر يا ليث يا مقدم
…
في الملك وإن كان عصره آخر
ويا جوازاً أضحى بحليته
…
كل جواز مقصِّراً عاثر
تهنَّ بالعيد شاكراً أنعم الله إله لخلقه فاطر
وصلِّ وانحر كما أمرت فلا
…
زلت على الخالق ناهياً آمر
فأنت عيد الأنام والفرحة الـ
…
ـكبرى فدم سالماً إلى حاشر
لا زلت تلقى مناك في السلم والـ
…
حرب سليماً مؤيداً ظافر
وأنشدني لنفسه، في غلام له شامتان في شفته، إذا أطبقهما انظمتا، فتصيران كأنهما واحدة، وإذا تبسم انقسمتا:[من المنسرح]
يا صنماً بات للورى صنما
…
وجائراً بالمحبِّ إذ حكما
ومن له مقلةٌ صوارمها
…
تقل عمداً وما تريق دما
وورد خد يزيده وعك التـ
…
ـقبيل حسني نضارة ونما
وليل خال على مقبَّله
…
كأنَّما ثغره به ختما
يشبعه صمته ويقسمه
…
برق ثناياه كلَّما ابتسما
وأنشدني أيضاً لنفسه، ما كتبه إلى كمال الدين بن مهاجر الموصلي:[من الطويل]
ألا يا كمال الدين نفعك حاضر
…
وغيرك يأتي نفعه بعد ضره
تجود بأموال سعيت لكسبها
…
وغيرك يعطي من مكاسب غيره
وأنشدني أيضاً لنفسه في قصيدة: [من الخفيف]
ألا يا كمال الدين نفعك حاضر
…
وغيرك يأتي نفعه بعد ضره
تجود بأموال سعيت لكسبها
…
وغيرك يعطي من مكاسب غيره
وأنشدني أيضاً لنفسه من قصيدة: [من الخفيف]
خوِّلوا جفنه القريح رقاده
…
فعسى طيفكم يزور وساده
واقنعوا منه بالذي فعل الهجـ
…
ـر فقد أمرض الصدور فؤاده
/92 ب/ كأن حظي الشقاء منكم على الو
…
د وغيري بكم ينال السعاده
فارحموا عاشقاً بكم ذا اعتقادٍ
…
أفسد الحب دينه واعتقاده
قد لقيتم مرادكم منه بالهجر
…
متى بالوصال يلقى مراده
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من البسيط]
أبيت في لجج التذكار منك وبي
…
حالان مختلفان: اليأس والأمل
لا يهتديني طيفٌ مذ هجرت ولا يزورني المبينان الكتب والرسل
أسائل الدار من وجد عليك فلم
…
يجبني المقفران الربع والطلل
قد كنت في دعة قبل الغرام وقد
…
ضاقت بي الأقصيان السهل والجبل
تصادمٌ كلما سلَّت لواحظه
…
لم يعمل القاتلان البيض والأسل
وإن بدا ريقه في كأس ساربه
…
لم يحمد الأطيبان الخمر والعسل
مهفهفٌ من بني الأتراك معتدلٌ
…
لديه يختصمان الخصر والكفل
أخفى هواه ويخفى لوعتي حرقٌ
…
يهيجه المزعجان اللَّوم والعذل
عندي له عقدودٍ لا انفصام له
…
وعنده الأقبحان الغدر والملل
وأنشدني من شعره: [من الطويل]
ألم يكفكم ذلِّي بفقد حبيبي
…
وشاهد أسقامي وفرط شحوبي
/93 أ/ إلى أن أطلتم في الملام فليتكم
…
عذلتم .... القلب غير كئيب
أجيراننا ما كنت في حفظ عهدكم
…
خؤوناً ولا في ذكركم غريب
نزحتم دموعي إذ نزحتم فلم أفز
…
لدعوة ضرِّي بعدكم بمجيب
فهلَاّ تركتم بعد صبري ذخيرةً
…
لساعة بين أو لعين رقيب
فواعجباً يشتاق قلبي لحاظكم
…
وما برؤه من جرحها بقريب
ليعجب أرباب الهوى كيف يدَّني
…
فؤاد مصاب من سهام مصيب
أقول وقد مالت بقلبي صبابةٌ
…
تؤجِّج وجدي أو تزيد لهيب
سقى الله أرض الغائبين غمامةً
…
وردَّ إلى الأوطان كل غريب
[775]
محمد بن فاخر بن شجير بن أبي الهيج، أبو عبد الله البغدادي.
شاب أشقر، أبيض اللون، مشرب بحمرة، من شباب مدينة السلام؛ فيه دماثة وطلاقة، ويترامى إلى قرض الأشعار، والتحفظ منها، ويتشبه بشعراء مصره، ويسلك نهجهم في سهولة الألفاظ، وخفّة أرواح المعاني، وتارة يسلك مذهب العرب في أقوالهم وجزالتهم.
سألته عن ولادته، فقال: ولدت في
…
سنة اثنتني وتسعين وخمسمائة، واستئنشدته من شعره، فأنشدني /93 ب/ لنفسه مبدأ قصيدة:[من الطويل]
خليليَّ عوجا بالمطيِّ على الحمى
…
لنقضي لبانات لنا ونسلِّما
وميلا إلى الشِّعب التِّهاميِّ سحرةً
…
فالبشعب قد أصبحت صباً متيَّما
وما كنت أدري أن شعب تهامة
…
يصير ثراه لي مزاراً ومثلما
فلا تعذلاني في هواي جهالةً
…
فلو بكما بعض الذي بي عذرتما
رجوتكما أن تسعداني على الهوى
…
فخاب الذي قد كنت أرجوه منكما
وإن كنتما أغريتما بملامتي
…
ذراني ووجدي واذهبا حيث شئتما
فإني رأيت الصبر عني ظاعناً
…
ووجدي بليلي في جانبي مخيِّما
فتاةٌ قضيب البان يحسد قدَّها
…
ودعص النقا من دونها قد تظلَّما
لها مبسمٌ عذبٌ تخال رضابه
…
مجاجة نحل أو رحيقاً مختَّما
وبي ظمأٌ يذكي المياه ضرامه
…
ويطفي برشف الظلم من ذلك اللُّما
ولولا وشاة الحي لا درَّ درُّهم
…
نزلت وسرَّحت المطيَّ المخرَّما
وإني لأجفوا لادار لا عن ملالة
…
ولكنني أخشى الرَّقيب المذمَّما
إلى م قعودي لست أنهض للعلا
…
تعلَّل آمالي بليت وعلَّما
وحتى م لا أسعى لها سعي ماجد
…
بعزم يفلُّ المشرفيَّ المصمَّما
/94 أ/ عصبت على الآمال إلا ارتياحةً
…
تنازعني للمجد قلباً مقسما
ولا حملتني الخيل إن لم أردَّها
…
سواهم قد أودى بنا وبها الظَّما
ولا رفعت ناري لتجلب طارقاً
…
ولا حملت كفِّي الوشيج المقوَّما
ولا أخذت عنِّي الرُّواة قصائداً
…
ولا شمت في يوم الكريهة مخذما
إذا أنا لم أبلغ من المجد غايةً
…
يقصر عن إدراكها كل من سما
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من مجوء الكامل]
ارح المطيَّ من الرسيم
…
وذر التعلُّل بالرُّسوم
وانزل بحانات المطيرة
…
خاطباً بنت الكروم
واستجل بكراً شتِّتت
…
يوماً بها شمل الهموم
صفراء في كاساتها
…
حمراء في كفِّ النَّديم
يملي عليك هديرها
…
ما كان في الزَّمن القديم
نصبت شباك مواقعٍ
…
صادت بها عقل الحليم
من كفِّ معتدل القوام
…
بوجهه ماء النَّعيم
مثل الصباح جبينه
…
والفرع كالليل البهيم
برعت ماحسنه فليـ
…
ـس تحدُّ بالشِّعر النَّظم
/94 ب/ والرَّوض يكسره النَّدى
…
ويفيقه مر النسيم
والزَّهر يضحك شامتاً
…
لبكاء أجفان الغيوم
[776]
محمد بن قرطايا بن عبد الله، أبو العباس بن أبي الوفاء الإربليُّ.
كانت ولادته في شهر رمضان، سنة ستٍّ وستمائة.
وقد تقدم شعر أخيه.
وهو أمير ذو منظر ورواء وجمال رائع وبهاء. ولم يزل يتولع بصناعة القريض، ويصرف همّته إلى إنشائه، حتى صدر عن خاطره ما استحسن معناه، واستجلى مغزاه.
لقيته بإربل، وكان يومئذ في خدمة سلطانها مظفر الدين كوكبوري بن علي بن بكتكين – رحمه الله تعالى– فلما مات مظفر الدين، سافر أبو العباس إلى حلب، وخدم مليكها الملك العزيز غياث الدين محمد بن غازي – رحمه الله تعالى – وتقدم لديه، ونادمه وأنعم عليه إنعاماً وافراً، فحينئذ توفي الملك، أقرّ على ما هو عليه.
اجتمعت به بحلب بمنزلة بالحاضر السليماني في سنة أربع وثلاثين وستمائة، وترددت إليه ثلاث مرات، فآخر مرة كنت عنده جالساً؛ وذلك يوم الاثنين في رجب سابع عشر. فتشكى من كسل اعترضه، وثقل في جسمه، فأشاروا عليه بالفصد، ففصد من ساعته، ونهضت من عنده، ودعوت به بالسلامة، فأعقب ذلك الفصد /95 أ/
مرض انصبّ علين، من إسهال وحمى، وعولج ولم يزل يعالجه الأطباء، وأحواله تتناقص، إلى أن توفي يوم الأحد الثالث والعشرين من التاريخ، في الشهر المذكور. ودفن يوم الاثنين قبلي البلد بالمقابر المعروفة بالمقام – رحمه الله تعالى-.
لقد كان شاباً كيّساً ساكناً، ومما أنشدني لنفسه:[من الطويل]
أما واشتياقي عند خطرة ذكركم
…
وذا قسمٌ لو تعلمون عظيم
لأنتم وإن عذبتموني بهجركم
…
على كل حال جنَّةٌ ونعيم
سلمتم من الوجد الذي بي عليكم
…
ومن مهجة فيها أسىً وكلوم
ولا ذقتم ما ذقت منكم فلي بكم
…
رسيس غرامٍ مقعدٌ ومقيم
وأنشدني لنفسه: [من الطويل]
أقدُّك هذا أم هو الغصن الرَّطب
…
وطرفك هذا أم هو الصَّارم العضب
أيا بدر تم فيك للعين نزهةٌ
…
وللقلب تعذيبٌ ولكنَّه عذب
خف الله في قتل الكئيب وعده
…
بالوصال عسى نارٌ بمهجته تخبو
ولا تجهلن ما بي وإن تك جاهلاً
…
سقاني به الجوزاء والأنجم الشُّهب
وأنشدني أيضاً من شعره: [من المنسرح]
/95 ب/ بورد خدَّيك إنه قسم
…
صلني فقد شفَّ جسمي السَّقم
يا صنما ضلَّ فيه عابده
…
كم من دم قد أرقت يا صنم
منحتني بالخيال مختلساً
…
يا ليت عمري بأسره حلم
لله من غادر محاسنه
…
شتى من العاشقين تنتقم
يقول قومٌ كأنَّه غصنٌ
…
من أين للغصن ريقه الشَّبم
أفديه نشوان فوق وجنته
…
نورٌ ونارٌ في القلب تضطرم
يا لائمي فيه خلِّ ويحك عن
…
عذلي فلومي في حبِّه ألم
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من الرجز]
قد أزف البين وآن السُّرى
…
تباً لجفني إن دنا الكرى
وكيف يأتي النوم جفن امرئ
…
لولا حنينٌ في الحشا لن يرى
يا حاوي الظَّعن رويداً فقد
…
روَّيت من دمعي يبيس الثرى
كأنَّما العيس أنيخت على
…
جفني فلمَّا أن أثيرت جرى
رفقاً بصبَّ هجركم قاصمٌ
…
من صبره الواهي عقود العرى
فما يخون العهد فيكم ولا يغادر الحبَّ لخطبٍ عرا
ومنها يقول:
لله قومٌ قد أراقوا دمي
…
بكل طرف فاتر أحورا!
أودعتني سقماً وحمَّلتني
…
في الحبِّ ما يعجز عنه حرا
آهاً لعيشٍ كان لي بالغضا
…
غضاً وعودي بالحمى مثمرا
وأنشدني لنفسه أيضاً: [من الكامل]
يا أيها الشَّاكي السلاح وطرفه
…
عن سهمه وحسامه يغنيه
الضَّبُّ أولى أن يكون مدرَّعاً
…
لسهام مقلتك التي ترميه
[777]
محمد بن غازي بن علي بن محمد بن أبي سعدٍ، أبو بكرٍ الموصليُّ المعروف بالفقاعيِّ.
أخبرني أنه ولد بالموصل سنة تسع وخمسين وخمسمائة، في محلة شاطئ النهر، وتوفي بدمشق في رجب سنة تسع وعشرين وستمائة.
رأيته شيخاً كبيراً، أسمر أبيض اللحية، فقيهاً، يتعلّق بخدمة الملكة خاتون بنت أيوب بن شاذي، بإربل. وكان شربدارها.
أنشدني لنفسه، يمدح الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شاذي؛ من جملة أبيات أولها:[من الكامل]
/96 ب/ يا صاحبي بين الأراك ولعلع
…
أرح المطيَّ به وذرها ترتعي
إن المسافة والدِّيار بعيدةٌ
…
أين الأراك من اللوى والأجرع؟
وإذا اكتفيت من رعيها ورأيتها
…
قد اتفقت من وردها في المشرع
أقصد بها نحو الغدير لأنني
…
يوم الفراق ملأته من ادمعي
كم قد سفحت مدامعي في أربع
…
عبثت بها أيدي الرياح الأربع
ومن العجائب أنني أسقي الحيا
…
من مدمعي ولظى الجحيم بأضلعي
وحمامة سجعت على بان الحمى
…
سحراً فقلت لها كذلك فاسمعي
حزني لحزنك في الهوى يا هذه
…
لو كان يجدي في الرُّسوم تخضُّعي
والله ما هجعت جفوني بعدهم
…
فكأنَّما شوك القتاد بمضجعي
ما ذاك إلا أن يوم وداعنا
…
قالت أميمة لي بقلبٍ موجع
لا تنس صحبتنا بعيد فراقنا
…
فاجبتها: لا والبطين الأنزع
ويقول في مديحها: /
يا أيها الملك المغيث أنا الذي
…
أثنى ولست عن الثَّناء بمقلع
ووعدتني بالخير يا خير الورى
…
وطعمت فيه فلا تخيِّب مطمعي
وأنشدني أنها قوله من أخرى: [من البسيط]
/97 أ/ قفا قليلاً بربع الدار من أضم
…
كيما أبث إلى ذات اللُّما ألمي
قد رقَّ لي حاسدي ممَّا بليت به
…
وعاذلي قد رثى لمَّا رأى سقمي
كيف الخلاص من البلوى وقد تلفت
…
روحي وقد صار خصمي في الهوى حكمي
يا نازلين بأرض الخيف عبدكم
…
من بعد بعدكم عيناه لم تنم
يهيم شوقاً ووجداً كلما صدحت
…
بالجا ..... ورقاءٌ على علم
ما هبَّت الرِّيح يوماً من دياركم
…
إلا ذكرت ليالينا بذي سلم
أين العهود التي بيني وبينكم
…
أيام حبل التَّداني غير منصرم
أطمعتموني إلى أني هويتكم
…
فما حصلت على شيءٍ سوى ندمي
وأنشدني لنفسه، يهجو بعض القضاة:[مجزوء الكامل]
قاض يقول لضيفه
…
الخبر في بيتي وديعه
والماء أصبح عندنا
…
مالا تجوِّزه الشَّريعه
فاحتل لنفسك في قرىً
…
فالأرض مخصبةٌ وسيعه
[778]
محمد بن شعيف بن عبيد بن المجلّى بن عبد الله التميميُّ البصريُّ، أبو عبد الله.
شاب/97 ب/ قصير، أسمر اللون، تعلو لونه صفرة.
ورد من إربل إلى مدينة الموصل، في أواخر ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وستمائة؛ وأقام بها أشهراً. وكان مدة مقامه يستنسخ بها كتاب:"المثل السائر"، ويتردد إلى مصنِّفه أبي الفتح نصر الله بن محمد بن عبد الكريم الكاتب الجزري. يقرأه عليه، فحين فرغ من نسخه وقراءته، سافر إلى إربل في شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وستمائة.
وكان شاباً ذكياً، شاعراً خبيرا ًبالشعر، بصيراً بمعانيه، حافظاً للقرآن العظيم، شدا طرفاً صالحاً من الأدب واللغة. وكان عاقلاً ديناً، ذا سكون وصلاح، وحسن صحبة. سألته عن ولادته، فقال: ولدت في جمادى الآخرة بالبصرة سنة اثنتين وستمائة.
أنشدني لنفسه، يمدح بهاء الدين أرغش .... ، وأنشده إياها بالبصرة:[من المنسرح]
دارت على دار ميَّة الدِّيم
…
تسحُّ طوراً بها وتنسجم
وكلما ناح غيمها وبكى
…
بدت ثغور الرِّياض تبتسم
دارٌ أديرت على كؤوس الـ
…
ـلَّهو دهراً والشَّمل ملتئم
/98 أ/ من كل فتَّانة إذا برزت
…
توهَّم القوم أنَّها صنم
يا منية القلب في تودُّدها
…
وطرفها في الوفاء متهم
ينجاب ستر الدُّجى إذا سفرت
…
عن وجهها والظَّلام مرتكم
لا يدرك الواصفون بهجتها
…
وصفاً ووصَّاف حسنها الأمم
مضى الزمان الذي نعمت به
…
كما يرى فيه المنام محتلم
كأنما الدَّهر كان يحسدني
…
عليه إذ ذاك فهو ينتقم
أصار حظِّي إلى الحضيض فما
…
ينفعني إن تسامت الهمم
. الفتى كاملاً ويسعد من
…
ليس له في فضيلة قلم
وددت لو كانت الحظوظ على
…
أقدار فضل الأنام تنقسم
تالله لولا رجاء خيرٍ فتى
…
أضحت ترجِّيه العرب والعجم
ملكٌ أضاءت لنا بدولته الدُّ
…
نيا وقد أحدقت بها الظُّلم
ما كنت ذا مطمعٍ بأ، يصبح الدَّ
…
هر وبيني وبينه ذمم
فلست أخشى من حادث وبها الدِّ
…
ين لي ملجاً ومعتصم
ما لامرئٍ أصبحت تعانده الأ
…
يَّام إلا ج نابه حرم
ومنها:
/98 ب/ يا من غدوا بأعلى الزمان به
…
لمَّا غزتنا أحداثه الحطم
أحييت بيت القريض فابتدرت
…
قالته حيث أنت تزدحم
علمت أن الأموال يذهبها الدَّ
…
هر ويبقى عليه ما نظموا
تكرم للمدح ما مدحت إذا
…
ما راح قومٌ له وقد لؤموا
من لم ير المدح عنده شرفاً
…
فذاك عندي وجوده عدم
ألم ير الشعر في الذين مضوا
…
ينشر من فضلهم وهم رمم
ما كان لولا القريض في سالف الدهر زهيرٌ يعني به هرم
كان متى ما رآه جاد له
…
حتى أبى الجود وهو يغتنم
وأين من أرغش النَّدى هرمٌ
…
وهل تساوى الملوك والخدم
يمنح فوق الذي نؤمِّله
…
وينهب المال وهو مبتسم
كأن أخلاقه لسائله
…
ماءٌ أذالته مزنةٌ شبم
قد ألف البذل منذ قام به
…
فنفسه لا يمسُّها سأم
ومنها:
يا واحد المجد والعلاء ومن
…
يعزى إليه السَّماح والكرم
/99 أ/ إليك يهدى قلائداً نظمت
…
لجيد علياك شاعرٌ فهم
مؤيَّدٌ بالصَّواب منطقه
…
فكل قول يقوله حكم
يرجو بها عندك الغناء فقد
…
أودى به مذ أصابه العدم
وأمرك اليوم بالنَّوال له
…
كالبرء وافى من غاله السقم
لازلت ذا عزَّة يذلُّ لها
…
كل عزيز بأنفه شمم
مقتدراً ما بقي الزمان على
…
الأعداء تعفو عنهم وتنتقم
وأنشدني لنفسه، ما كتبه إلى الشرف عبد الصمد بن محمد بن المجلّى النصيبي:[من البسيط]
لله ما شرفت الدِّين [الذين] شرفت
…
أفعاله فهو حال بالثَّنا كاسي
ما إن رأيت على إفراط تجربتي
…
للناس أكرم طبعاً منه في الناس
فأجابه عبد الصمد بن محمد، عنها في الحال بديهة:[من البسيط]
سوى مكارم شمس الدِّين من ظهرت
…
أنواره فهي فينا ضوء مقباس
ومن غدا نظمه من لطف صنعته
…
أشهى إلى الرُّوح من مشمولة الكاس
وأنشدني لنفسه في طلوع /99 ب/ القمر على دجلة: [من المنسرح]
كأنما دجلةٌ لناظرها
…
إذ رفع الليل ثوبه الأسود
ثوب لجينٍ معرَّكٌ رقم الـ
…
ـبدر طرازاً له من العسجد
وأنشدني لنفسه، يهجو الصدر علي بن أبي الفرج الواسطي:[من المتقارب]
أعن عزمةٍ ما الدِّيار الدِّيار
…
ولا الأهل أهلٌ ولا الجار جار
وسقها تتابع أرسالها
…
كما ريع بالقفر وحشٌ مثار
فقد أدرك البين ثاراته
…
ولم يدرك العام للشِّعر ثار
وإن تقلقلها قد يفيد سروراً إذا لم يسرَّ القرار
أرتك صروف النَّوى بالشِّام
…
نوائب لم يغن منها حذار
فإن سهادك فيها كثيرٌ
…
وإن رقادك فيها غرار
وما إن حصلت على طائلٍ
…
مقيم التَّثبُّط والاصطبار
فلا صاحب صاحبٌ حافظٌ للعهود
…
ولا من يقال لديه العثار
وكلب تعرَّض لي نابحاً
…
وإنَّ دواء الكلاب الحجار
طغى أن صبرت على شرِّه
…
وصبري هوانٌ به واحتقار
/100 أ/ ولو كان ذا شهرة في الورى
…
لعاجله من يديَّ البوار
هممت به ثم الفيته
…
حقيراً ففاء إليَّ الوقار
متى ما يجازي الشَّريف الوضيع
…
في الأمر حاكى النِّجار النِّجار
على أنني من أناس هم
…
لدى السِّلم ماءٌ وفي الحرب نار
فيا ابن اللئيمة ما قدر ما
…
يغالب عصف الرِّياح الغبار
فهل أنت إلا الصُّدير الذي له العار في واسط الشَّنار
خدمت المغنِّين حتى كبرت
…
وكان شعارك بئس الشعار
وها أنت ذو أبنة لا يزال
…
يكون بها حيث كنت الفجار
وهل كنت في جمع قوم ولا
…
يكون الجراب عليهم يدار
فصار نصيبك مما يدقُّ
…
فذلك من غير خمر خمار
عجبت لع مري لتفضيل قومٍ
…
مقامك فيهم على القوم عار
قمرت بإفكك البهائم
…
وداؤك منذ نشأت القمار
فظنوا بينهم صالحاً
…
وأنت حليف المخازي قدار
ونلت بجهلك في بلدة تساوى الرَّصاص بها والنَّضار
إلى أن دعيت بنحويِّهاً
…
وأولى بذا الاسم منك الحمار
/100 ب/ وقال فيه أيضاً يهجوه: [من البسيط]
حوى الَّلآمة ثوبٌ أنت لابسه
…
وباء بالعار مخلوقٌ تجالسه
صدير أنت الذي لو قيس من شبه
…
لما تعدَّى حماراً من يقايسه
سمع القفا لا يردُّ السَّائلين وإن
…
يركب على الأير يوماً فهو فارسه
يذل جبناً فإن
…
من درِّه ذل عنه من يمارسه
ما إن يلام على فحشاء يفعلها
…
بطيب فرعٍ إذا طابت مغارسه
وقال فيه أيضاً، وهو يرقص:[من الرجز]
انظر إلى فعل الصُّدير الذي
…
بفعله دل على نقصه
لمَّا تثنَّى بيننا راقصاً
…
ذكرت فعل الدُّب في رقصه
فلا نرى أعظم من حمقه
…
ولا نرى أحقر من شخصه
وقال فيه يهجوه: [من الكامل]
ما لي غفلت عن الصُّدير فلم يزر
…
نعلي قفا الكلب اللئيم خلائقه
حسب الخمول يكفُّني عن صفعه
…
وهوانه فسرت إليَّ بوائقه
ما إن تسلِّمه حقارة قدره
…
منِّي وما للكلب إلى خانقه
إني أمرؤٌ يخشى إذا ما زمجرت
…
سحب الحقائد رعده وبوارقه
/101 أ/ وقال فيه أيضاً: [من الكامل]
من يبلغ الملك المعظم بعد إبـ
…
ـلاغ إليه تحيَّةً وسلاما
من عبده وربيب نعمته الذي
…
ملأ العراق بمدحه والشَّاما
إن الصُّدير إذا سألت وجدته
…
يلغي الجميل ولكفر الإنعاما
ففعاله ينبي بأن جدوده
…
وأبوه كانوا في الفعال لئاما
قد أطلق الجهل المضلُّ لسانه
…
في الإفك حتى ما يفيق
…
أبداً يرى من نحو إربل ذاكراً
…
أشياء تحدث للفتى أوهاما
[779]
محمَّد بن عبد الرحيم بن عليِّ بن أبي منصور بن جعفر بن أحمد بن علي بن الحسين بن الحسن الهيتي الأنصاري.
شاب قصير، أحمر اللون. زعم أنه ولد قيس بن سعد بن عبادة.
وكانت ولادته بهيت في الثاني والعشرين من شعبان سنة ستمائة، ونشأ بالشام، وأصله من ديار مصر، يشعر ويقصد الناس بشعره.
أنشدني لنفسه من قصيدة: [من الخفيف]
لهو قلبي أين الصَّديق الصَّدوق
…
ليوالي أو الشقيق الشفيق
خانني فيهما الزمان فخالفـ
…
ـت انفرادي لمَّا دها التَّفريق
/101 ب/ فذر اللوم يا عذولي على الوحـ
…
ـدة قد دلَّني لها التَّوفيق
كل خل نراه لمع سراب
…
يتراءى للعين منه بروق
إن يكن يرتجيك فهو مصاف
…
أو تكن ترتجيه فهو مذوق
خبث الدهر فاجتنبه وأهليـ
…
ـه فما عندهم لخيرٍ طريق
ومن مديحها يقول:
.. من أبي السَّعادات سعداً
…
لم يشبه مدى الزَّمان حريق
ماجدٌ إن عراك خطبٌ يكن عو
…
نك في كشفه وأنت ......
وجوادٌ يجري براحته بحـ
…
ـر نوالٍ فيه الأنام غريق
[780]
محمد بن ياقوت بن أبي نصر بقن المقلّد بن الحارث، أبو محمدٍ.
زعم أنهم يرجعون في النسب إلى عبد القيس. وكان والده من المحرزة، أخذ أبوه وعمه وعمته نهباً، ووردوا الحلة المزيدية، بسقي الفرات، فأخذهم أبو الفضائل محمد بن خشرم ورباهم، فسمى والده ياقوتاً، وسمى عمّه لؤلؤاً، وسمّى عمته خيزراناً.
وكان مولد محمد هذا بالعامرين من أرض العراق، بعد السبعين وخمسمائة، ونشأ بإربل، واعتنى بسماع حديث /102 أ/ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع كثيراً منه على المشايخ، الذين قدموا إربل.
أنشدني لنفسه: [من المتقارب]
وقالوا: مرارة هذا الغراب
…
خضابٌ وهيهات رجع الشَّباب
يعود إذا رجع القارظان
…
وما لهما أبداً من إياب
وأعجب ممن يحبُّ الحياة
…
ومن دونها كلُّ صعبٍ وصاب
وفي عصرنا لا أرى من يلذ
…
بطيب الطعام وبرد الشراب
[781]
محمد بن مكارم بن ابي العلاء بن علي بن أبي العلاء بن محمدٍ أبو عبد الله.
زعم أن جده أبا العلاء من قرية بدجيل، تدعى:"الداودية"، وانتقل إلى نواحي إربل، وسكن قرية فيها، تعرف باللهثيَّة، فولد محمد بها، ونشأ وترامى إلى نظم القريض، وقصد نهج الشعراء، فيما يتوخونه، ومدح .... ناحيته والمقدمين بها، ولم يكن يمتاح أحداً لرفده. وهو يتحرى من اللحن، ويعرف مواقع الخطأ في كلامه، ويقيم أوزان شعره.
أنشدني لنفسه، يمدح الصاحب شرف الدين أبا البركات المستوفي رحمه الله:[من المنسرح]
/102 ب/ رفقاً فهذي الرُّسوم والطَّلل
…
تخبر أن الأحباب قد رحلوا
وقف معي بالدِّيار تندبها
…
لعلَّ بالنَّوح تذهب العلل
أما ترى الدَّار وهي خاليةٌ
…
وقد نأت عن عراصها الحلل
والبين قد شتَّ شمل ساكنها
…
وللردى في ربوعها عمل
فالصبر مذ حيث فارقوا رحلت
…
جيوشه ثم خيَّب الأمل
فبعدهم لا سقى العقيق حياً
…
ولا جرى فيه وابلٌ هطل
بانوا فمن بعد بينهم هجرت
…
طيب الكرى إذ باعدوا المقل
تالله لو بعض ما حملت من الـ
…
ـوجد برضوى تضعضع الجبل
من قيس ليلى، من بشر هند، ومن
…
عروة، من بدر، نعم ما فعلوا
أنا الذي في الغرام هان علـ
…
ـيَّ الموت إن قاطعوا وإن وصلوا
ويقول في مديحها:
وغير جود المولى اللَّبيب فلا
…
يحسن فيه المديح والغزل
الفاضل المنعم السَّموح ومن
…
عطاء معنٍ في جوده وشل
والاريحيِّ الذي مكارمه
…
يفرق منهنَّ السَّهل والجبل
والكامل الماجد الخلائق
…
والإحسان ما شاب جوده بخل
/103 أ/ عمَّت عطاياه كل ناحيةٍ
…
وسار في جوده له المثل
إمام هذا الأنام في أدب
…
أوفرهم نائلاً إذا بذلوا
مولاي يا أوحد الزَّمان ندىً
…
ويا جواداً باهت به الدُّول
يا شرف الدين منتهى أملي
…
دم في سرورٍ ما سارت الإبل
وأنشدني لنفسه يتغزل: [من الرجز]
يا قمراً أراق دمعي ودمي
…
ظلماً بسلسال الرُّضاب الشَّبم
ويا غزالاً ناظراه سلِّطا
…
على تلاف المغرم المتيَّم
لحظم أمضى في القلوب فتكه
…
تالله من حدِّ الحسام المخذم
يا من بمعسول اللما من ريقه
…
أسكرني وزاد في تألُّمي
لولاك ما عرفت ما طعم الهوى
…
يا قاتلي ومتلفي ومسقمي
أفديك من بدر دجا تكاملت
…
أنواره من لجب ليل مظلم
على قوامٍ كالقضيب أهيفٍ
…
ريَّان من ماءٍ الصِّبا منعَّم
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من المنسرح]
مفهفٌ كالقضيب معتدلٌ
…
في وجهه لمحةٌ من الحور
كأنَّما الخال فوق وجينته
…
نقطة مسكٍ من فوق كافور
/103 ب/ لما أنشدني أبو عبد الله هذين البيتين، قلت له: أخذت البيت الثاني من قطعة لشاعر، يعرف بابن الستري، من شعراء واسط، ويلقب بالخفّ، ثم أنشدته الأبيات، وهي:
الجور منسوبٌ إلى الحور
…
عذاره أفنى معاذيري
الجور من حكم فتى جائرٍ
…
منتسب الجدِّ إلى جور
ذي طرَّةٍ طيِّر عقلي بهاً
…
وشارب أخضر مطرور
كأنما الخال على خدِّه
…
نقطة مسكٍ فوق كافور
فلما سمع هذه الأبيات، أقسم بالله أنَّه لما يسمعها أبداً، فعجبت من اتفاق
خاطريهما على المعنى.
[782]
محمد بن منصور بن دبيس بن أحمد بن درعٍ، أبو عبد الله بن أبي المنى المعروف بابن الحداد.
شاب خفيف اللحية لم تستتم، يعلو لونه صفرة.
أخبرني أنه ولد سنة ثلاثة وستمائة، صحب أبا إسحاق إبراهيم بن المظفر بن البرني الواعظ /104 أ/ وسمع عليه الأحاديث، وأخذ عنه شيئاً من الفصول الوعظيّة. وهو شاب ينسخ ويعظ ويشعرن.
أنشدني لنفسه، يمدح مولانا المالك الملك الرحيم بدر الدنيا والدين، عضد الإسلام والمسلمين، شهريار الشام، بهلوان جهان ألب قتلغ طغرلتكين بلكا أتابك أبا الفضائل نصير أمير المؤمنين – ثبت الله دولته بمحمد وآله أجمعين-:[من البسيط]
بدرٌ متى قابلته الشَّمس تنكسف
…
وغصن بان له من قدِّه هيف
ريمٌ رمى لحظه عن قوس حاجبه
…
سهماً يصيب الحشا قلبي له هدف
فالورد من خدِّه باللَّحظ يقتطف
…
والخمر من ريقه المعسول نرتشف
مولاي كل جمال الناس متصفٌ
…
إلا جمالك ممَّا ليس يتصف
كأن وجهك يا من لا شبيه له
…
في الحسن صبحٌ تبدَّى فوقه سدف
ما بال جيدك عنِّي اليوم منعطفاً
…
الخصر منك بمرِّ الرِّيح ينعطف
تهوى الصُّدود وأهوى الوصل يا أملي
…
فنحن مؤتلفٌ فيه ومختلف
يا حاضراً في الحشا مذ غبت عن بصري
…
وجدي مقيمٌ وصبري عنك منصرف
أخفي هواك وفرط الوجد يظهره
…
وأنكر الحب والآماق تعترف
لجَّ العواذل في عذلي ولو وجدوا
…
لبعض وجدي عليه في الهوى تلفوا
/104 ب/ لاموا وقد علموا تركي ملامتهم
…
كأنهم جهلوا بالعدل ما عرفوا
يا من كلفت به طفلاً فشيبني
…
منه الصدود ومنِّي الوجد والكلف
يا ممرضي بالجفا أنت الطبيب فعد
…
وداوني بوصالي إنني دنف
أفنيت فيك حياةً ما بلغت بها
…
منك المنى وزماناً ما له خلف
يا منية القلب كم أدنوا وتبعدني
…
حتى متى تنثني عنِّي وتنحرف
أسرفت في الهجر إفراطاً كراحة بد
…
ر الدين من شأنها في بذلها السَّرف
ملكٌ سجيته بذل النَّدى أبداً
…
فكل جود تعدَّى جوده كلف
عمَّ الورى جوده الظَّامي فما أحدٌ
…
إلا بجود ندى كفَّيه معترف
فكل دان له من رفده طرفٌ
…
وكل قاصٍ له من جوده تحف
بحرٌ خضمٌّ جميع الناس وارده
…
فكلُّهم صادرٌ عنه ومغترف
إن قايسوه بعمرو في شجاعته
…
أو حاتم في الندى ضلُّوا بما وصفوا
كأن كف المنايا طوعه فلذا
…
عدَّت لأرواح من عاداه تختطف
يا من له ذلَّت الأبطال صاغرةً
…
والأقوياء لديه هيبةً ضعفوا
يا مالكاً طاعة الرحمن طاعته
…
فينا نقر به طوعاً ونعترف
لله سرٌ لطيفٌ فيك أودعه
…
ما فيه شكُّ ولا ريبٌ ولا خلف
/105 أ/ يا من تعمُّ على الدنيا مواهبه
…
ومن مناقبه تملى بها الصُّحف
يا درَّة غرَّة الأيَّام فاخرةٌ
…
بها فكل الورى من دونها صدف
جلت صفاتك عن حصر الأنام فعن
…
إدراك بعض معاني كنهها صدفوا
لا زلت ترقى بجدٍ في صعود علاً
…
ما دامت النيرات السبع تختلف
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من مجزوء الخفيف]
يا وصولي ومصرمي
…
ومصحِّي ومسقمي
هل تريحنَّ من جفا
…
ك كصبٍّ متيِّم
مزج الحب في هوا
…
ك بلحمي وأعظمي
لا أطيع العذول فيـ
…
ـك وأصغي للوَّمي
فتكت مقلتاك بالـ
…
ـقلب فتك ابن ملجم
لست من بعد فتكها
…
في الهوى بالمسلِّم
ومنها:
هل مهيني بهجره
…
وهو بالوصل مكرمي
بان صبري بينه
…
وهو بالصَّبر ملزمي
/105 ب/ أنت بالهجر قاتلٌ
…
لامرئٍ غير مجرم
أي قاضٍ قضى وأفـ
…
ـتاك في قتل مسلم
أو نبيٍّ مشرِّعٍ
…
حل في شرعه دمي
أيسر الوجد في هوا
…
ك من الوجد معدمي
يا قليل البكا على كثير التبسم
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من الطويل]
جنى وتجنَّى في الهوى من ألفته
…
وأعرض عني ليته ما عرفته
جفا فجفا جفني لذيذ رقاده
…
حبيبٌ فقدت الصبر لمَّا فقدته
وأفرد في هجرانه وملاله
…
بلا سبب منِّي وجرم فعلته
وأسلمني للنَّائبات وللأسى
…
وقاطعني في الحب لمَّا وصلته
فلمَّا رأى وجدي به وصبابتي
…
وصحَّة صدق الودِّ فيما زعمته
أتى زائراً من غير سابق موعدٍ
…
فأهلاً به من زائر ل عدمته
فباعد عن قلبي الهموم بقربه
…
وبلغني بالوصل ما كنت رمته
وأنشدني أيضاً لنفسه من أبيات: [من الخفيف]
/106 أ/ هاج ما عنده من الأشواق
…
لسنى لاح من .... العراق
مرَّ وهناً ولم يلمَّ بصب
…
مستهام متيَّم مشتاق
مدنف فارق الأحبَّة كرهاً
…
فهو من بعد بعدهم في سياق كلَّما فرَّ وجده عاودته
…
برحٌ من لواعج الأشواق
قد بكاني العذول مما أقاسي
…
ورثى لي الحسود مما ألاقي
كمدي فيكم قديمٌ وودِّي
…
لكم دائمٌ على العهد باقي
وأنشدني لنفسه، يعتذر عن الوداع:[من الطويل]
تؤنبني لما تركت وداعها
…
وتنكر ما أبديته من تتجلُّدي
تقول بدمع العين توديع ذي هوىً
…
على زعمه حلف الصَّبابة مكمد
فقلت لها: إني جزعت فلم أطق
…
وداعاً له تمتدُّ عند النَّوى يدي
ولم أدر من جدٍ وفرد صبابةٍ .. .أفي يومنا هذا التَّفرُّق أم غد
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من الوافر]
رمتني حين صدَّت بالدواهي
…
فتاة أمرضتني والدواهي
فتاةٌ تخجل الأغصان قدّاً
…
تقل بطلعة ....
لها نغمٌ ينوب عن المثاني
…
ويغني السَّمع عن صوت الملاهي
/106 ب/ فلو نادت به ميتاً رميماً
…
اجاب كما يجيب ندا الإله
تخال الشَّمس إذا سفرت لميل
…
علينا طالعاً في نون كاهي
تقوِّق أسهماً تصمي الحشاياً
…
فليس لرميها أبداً تناهي
قتيلٌ لا يقاد بها قتيلٌ
…
فبالقتلى وكثرتهم تباهي
لهوت بها حياتي وهي عنِّي
…
بفرط الهجر والإعراب لاهي
تعاهدني فلم تف لي بعدٍ
…
أنا الوافي لها بالعهد لاهي
أقابل عزَّها منِّي بذل
…
كما ذلِّي تقابله بجاه
إذا ما استحسنت عيناي مرأى
…
رأيت خيالها فيه تجاهي
فركن الودِّ من قلبي مشيدٌ
…
لها أبداً وركن الصبر واهي
تصد وتدَّعي السلوان منِّي
…
فكيف ولي عن السلوان ناهي
وكم لجَّ العواذل في هواها
…
ولاموا بالزَّواجر والنواهي
وكيف الصبر عنها والتَّسلي
…
وقد ملكت قيادي والمنى هي
ألا هي ليس لي عنها اصطبارٌ
…
إليك المشتكى منها إلهي
وأنشدني لنفسه مبدأ قصيدة: [من الكامل]
لو أن طيفك كان من عوَّاده
…
ما كان قد أودى الهوى بفؤاده
/107 أ/ أنت الطبيب فداو من أمرضته
…
واعطف عساه ينال بعض مراده
يا أيها الرَّشا الذي أصفيته
…
ودِّي ولم يسمح ببعض وداده
أنت الذي شهرت لواحظ طرفه
…
غضباً حداد البيض دون حداده
وجعلتني حلف اشتياق ينقضي
…
عمري ولا يأتي على إنقاده
من منصفي من ظالمٍ وجوارحي
…
أنصاره والقلب من أجناده
يذكي غراماً كل نار أججت
…
بين الضلوع فتلك قدح زناده
طيب الحياة بقربه ووصاله
…
والموت من هجرانه وبعاده
غصنٌ وما للغصن مثل قوامه
…
يزري على مياده
وأنشدني أيضاً قوله، من جملة أبيات أولها:[من البسيط]
ته كيف شئت فما لي عنك مصطبر
…
فصفو عيشي مذ فارقتني كدر
عنيت بالهجر عن وصلي فذبت أسى
…
صلني فإني إلى لقياك مفتقر
أنت الذي تخجل الأغصان قامته
…
وإن تبدَّى لبدر التَّم يستتر
سلبتني النَّوم فاردده عليَّ عسى
…
يسري الخيال على كسري فينجبر
[783]
محمد بن يحيىُّ بن معَّنَّصر /107 ب/ بن أبي مضر بن يكساس بن علي بن أبي عليٍّ، أبو عبد الله المغربي القسنطينيُّ.
هو من قسنطينة الهوى، من بلاد المغرب.
شاهدته شاباً أسمر اللون، لطيف الخلقة، بمدينة إربل، في صفر سنة ثمان وعشرين وستمائة، متفقهاً وفيه ديانة وصلاح.
أنشدني لنفسه: [من الكامل]
إن جزت بالعرصات من يبرين
…
فاشرح غراماً كاد أن يبريني
لأهيل ذاك الحي وابثث عندهم
…
وجدي وبعض صبابتي وأنيني
وقل الميتيَّم عن هواكم ما سلا
…
دنفٌ وبالعبرات غير ضنين
يحني جوانحه على جمر الغضا
…
ويئن أنه عاشقٍ محزون
مذحل بالحدباء قد علق الضَّنى
…
بفؤاده وأسيغ كأس منون
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من الكامل]
لو كنت تعلم ما يجنُّ فؤادي
…
لأخذت في وصلي وترك عنادي
لكنَّ قلبك من ألمَّ به الهوى
…
فجهلت ما يلقاه قلبي الصَّادي
[784]
محمد بن محمد بن يوسف /108 أ/ بن قليج بن تكين خان بن محمود خان، أبو عبد الله الموصليُّ، المعروف بابن آيدغدي.
وقد تقدم شعر أخيه:
كانت ولادته، فيما أخبرني – من لفظه – يوم الثلاثاء سابع عشر ذي القعدة سنة تسع وخمسين وخمسمائة. وتوفي بالموصل يوم ....... سنة ثلاثين وستمائة.
وكان جندياً مدة، ثم ترك الجنديّة، ولبس الفوط، ولزم الأثر، وسلك طريق التصوف، وتنقل في الأمصار، ومال إلى مصاحبة أصحاب الأحوال والدين. وكان شيخاً، أشقر نقي الشيبة، عرضها ملء بدنه، مربوعاً.
أنشدني لنفسه: [من مجزوء الوافر]
سقى الوسميُّ إذ وكفا
…
زمان سبيبة وكفى
مضى ومضى لذيذ العمـ
…
ـر فيه وخلَّف الأسفا
فكم باكرت فيه الحا
…
ن رقَّ سلافها وصفا
مدامٌ تستبيح حمى الـ
…
ـهموم وتسعد الدنفا
أطال الواصفان لها
…
فكانت فوق ما وصفا
[785]
محمد بن يونس بن أبي البركات /108 ب/ بن إبراهيم بن أبي القاسم، أبو عبد الله الموصلي.
عنده طرف صالح من علم العربية، ويحفظ صدراً جيداً من الشعر الحسن، ويشعر. أقام بإربل مدة، يمدح أهلها ويرتزقهم، فسئموه لكثرة إلحاحه وسؤاله إياهم.
وكان شاباً أسمر اللون، مقرون الحاجبين، رقيق الحال، مجازفاً صعلوكاً، وسخ الثياب، زري الهيأة، لا دين له، كثير الهذيان؛ وأكثر ما كان يحصل له من نفقة يخرجه على الصبيان. لقبه أهل إربل خمارويه، فبسط لسانه فيهم، وتناول بالتقطع أعراضهم؛ فبغضوه بغضاً شديداً، وكانت سيرته معهم سيرة غير جميلة.
أنشدني لنفسه، يمدح الصاحب شرف الدين أبا البركات المستوفي – أيده الله – ويذكر إنعامه عليه، بكسوة:[من الطويل]
ألا أيهذا الصَّاحب المنعم الذي
…
تجمَّع فيه الفضل وهو مفرَّق
لقد نلت من عزِّ المعالي مكانةً
…
تسامت فأدنى شلوها ليس يلحق
وأحييت ميت الجود بعد مماته
…
وكسنه لحدٌ من الحزن ضيق
فها هو باق ما بقيت وإنه
…
لحيٌّ على مرِّ الأهلَّة يرزق
علاً .... لقد غدا
…
كأن لم يكن منٌّ [من] الدهر يخلق
/109 أ/ وعطَّرت نشراً كل طيب يحدُّه
…
ويحصره غربٌ فسيحٌ ومشرق
فما الظن بالرَّوض الأنيق مباكراً
…
بقطر غ مامات وبالمسك يسحق
وحل حلولاً في عروقك كلِّها
…
دمٌ وندىً فيه الرَّجاء مصدِّق
وإجماع من ضمَّ الوجود ومن حوى
…
بأن الندى من ذلك الدم أسبق
متى أمَّه القوم العفاة فعيشه
…
على أرض آمال لهم تتدفَّق
أمولاي .... أوليتني من مضيعة
…
بأطواقها جيدي المبين مطوَّق
ومن بعضها هذا الذي أنا لابسٌ
…
أينكر ضوء الصُّ بح والصُّبح مشرق!
الا إنه ثوبٌ .... وجوده
…
عليَّ بما شرَّفتني منك ينطق
تطرِّز طرزاً من علاك جميلةً
…
لمنظرها الأوفى بهاءٌ ورونق
ولم يرني إلَاّك مذ كنت عارياً
…
وثوبي على مرِّ الدُّهور ممزَّق
فما وفِّقوا أن يفعلوا ما فعلته
…
لأنك من دون الجميع موفَّق
قدم لابساً ثوب البقاء مطرَّزاً
…
بطرزتنا ما تعفى مطوَّق
وأنشدني لنفسه: [من مجزوء الكامل]
قسماً بصبح جبينه
…
وبليل طرَّة شعره
وبطرفه السَّاجي الكحيـ
…
ـل وما حوى من سحره
/109 ب/ وبخدِّه الضَّرج الأسيـ
…
ـل وسالفيه ونحره
وبريقه العذب الشهـ
…
ـيِّ وعقد لؤلؤ ثغره
وبلين غصن قوامه الـ
…
ـغضِّ الرَّشيق وخصره
إني قتيلٌ في هوا
…
هـ بسيف مؤلم هجره
ما ضرَّه لو رقَّ لي
…
أو فكَّني من أسره
حاز القلوب هوىً كما
…
حاز الجمال بأسره
وأنشدني أيضاً قوله: [من المديد]
مالكي يا غوث مشبهه
…
عزَّ عن كونٍ فلم يكن
غنجٌ في طيِّ ناظره
…
سرُّ سحر شيب بالفتن
جل عن علم يحيط به
…
لغبيٍّ كان أو فطن
أبداً ما زال ناظره
…
ذاك وسناناً بلا وسن
فتنت بالحسن صورته
…
كل مخلوقٍ مدى الزَّمن
حسنه أعدى ولا عجبٌ
…
كل ظبيٍ غيره حسن
كل عقَّارٍ له وثنٌ
…
وهو في دين الهوى وثني
[786]
محمد بن مكيِّ بن عبد الملك /110 أ/ بن أبي حرب بن حمدان أبو عبد الله الإربليُّ.
شاب أسمر، قصير، نزل الشيب بعارضيه.
أخبرني أنه ولد في أوائل سنة ثمان وتسعين وخمسمائة.
اعتني بسماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرحل في طلبه إلى بغداد سنة ثلاث عشرة وستمائة. وسمع رجال الحديث بها، وكتب عنهم.
ولقي في رحلته أصحاب أبي الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموتي، وأصحاب أبي بكر محمد بن عبيد الله بن نصر بن الزّاغوني، وأصحاب أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري – قاضي البيمارستان – وأصحاب أبي عبد الله محمد بن محمد بن أحمد السلال الوراق، وغيرهم من هذه الطبقة بمدينة السلام.
وهو يسلك طريق التصوف، ويخالط المتصوفة والفقراء، ولم يكن أحد من أبناء جنسه يشابه حسن خطه. وله أشعار في مديح، وغزل، وهجاء، وغير ذلك.
أنشدني لنفسه في قصيدة أولها: [من الخفيف]
غير مجد إن عنَّف العذَّال
…
أقصروا في ملامهم أو أطالوا
أنا لا أسمع الملام ولا يو
…
جد عندي في حبِّ حبِّي ملاك
ومحالٌ أن يسمع الهجر في الهجـ
…
ـر محبٌّ فلا عليه الوصال
/110 ب/ يا عذولي نكب هديت فعندي
…
قد تساوى فيه الهدى والضلال
غير أني التذُّ ذكراه شوقاً
…
فلقلبي لذكره بلبال
مذ جفاني جفا الرُّفاد جفوني
…
فاللَّيالي القصار فيه طوال
لم تدر قط سلوةٌ في ضميري
…
وليت ذاك ينال
وقلاني دمعي كوجنته الحمـ
…
ـراء قان سحابه هطال
بأبي ثم بي وأهلي وصحبي
…
أهيفٌ لحظ طرفه بتَّال
ذو قوامٍ لدن وجفن سقيم
…
ذا اعتدال به وهذا اعتلال
مخطف الخصر أهيفٌ حصر الريـ
…
ـق سلال بذا وذا سلسال
ومن مديحها قوله:
فهو مالٌ لمن يروم نداه
…
وهو للذخر والطريد مال
وهو رب العرض المصون ولكن
…
عرض المال من يديه يذال
وأنشدني لنفسه من أخرى: [من الكامل]
أغرى ملامك مستهاماً مغرماً
…
لما ذكرت حديث سكَّان الحمى
وقدحت من زند الملام ..... ناراً تزيد مدى الزمان تضرُّما
ومنها قوله:
/111 أ/ يا شاكي اللحظات دونك أعزلاً
…
من صبره لمَّا جفوت متيَّما
يجد الحياة بغير قربك مغرماً
…
والقتل منك لدى التوصل مغنما
قطَّعت بالهجران حبَّة قلبه
…
فعسى يصير لي التَّداني مرهما
وأنشدني لنفسه، ما كتبه إلى النقيب محيى الدين أبي طاهر حيدر الحسيني الموصلي – أدام الله إقباله -:[من السريع]
مولاي محيي الدين يا ماجداً
…
فاق جميع الخلق إحسانا
ومن إذا ما فاه من طقه
…
يعجز بالتِّبيان سحبانا
أخلاقك الغرُّ التي قد صفت
…
عن كدر الشُّبهة إيمانا
لم قبلت مذق كذوب سعى
…
زوراً وتحريفاً وبهاتانا
مولاي إن الدَّهر قد حطَّ من قدري فساداً لي وعدوانا
مال لجاجاكي يذل الألى ...........................
وقال قولاً أنت من أهله
…
وأسأل الرَّحمن غرفانا
وهو بضدِّ العقل يغري الذي
…
يبدي إلى الحلم وقد مانا
فهذه حال أمرئ خانه
…
زمانه سراً وإعلانا
/111 ب/ أفرده بالرغم عن صحبه
…
وعن ذويه الزُّهر طغيانا
والآن وفَّيت [إلى] صاحب
…
بصرف صرف الدَّهر إذ خانا
وقد تخيَّلت نجاحي به
…
إذ أنت أولى عنه من صانا
فاسلم ودم في غبطة لا تني
…
ما غرَّد القمريُّ ألحانا
وقال أيضاً: [من الكامل]
أرج النَّسيم سرى بعرف البان
…
فأثار وجدي نشره وسجاني
أهدى السرور شذاه لمَّا أن سرى
…
وانى الخطى سحراً لقلبي العاني
وروى حديث الرَّوض يسند ربَّه
…
متواتراً عن مرسل الهتَّان
وافى معنبره الذَّكيُّ مقدِّماً
…
جيش الربيع مبشراً بأمان
وترنَّمت عجم الطُّيور فأفصحت
…
بغرائب الألحان في الأغصان
والظل ينثر درَّه في دوحها
…
فبكل فرعٍ منه عقد جمان
فحدائق الأزهار من نوَّارها
…
قد أحدقت بغرائب الألوان
من أخضر خضل وأصفر فاقعٍ
…
في أبيض يقق وأحمر قاني
والنَّرجس الغضُّ المضعَّف ناظرٌ
…
نحو البنفسج لطيره الولهان
والجدول الموَّار يرعد خيفةً
…
مذ سلَّ فيه البرق عضب يماني
/112 أ/ خفَّت حواشيه بوشي جواهر الـ
…
ـمنثور في قطع [من] الريحان
وله: [من الكامل]
هل للمتيَّم والمطيُّ تساق
…
من راحم أم للقاء وفاق؟
ظعن الفريق فما البقاء بنافعٍ
…
من بعدهم ..... براه فراق
سفحت نجيعاً من جفوني إذ سروا
…
في سفح رامة دمعها الآماق
لما استقل بها الحداة تنصُّها
…
أودى بها الوخدان والإعناق
عرض الوجيف لحومها بمدى السُّرى
…
فدماؤها بيد الذَّميل تراق
فكأنَّما الأرسان من جذب البرى
…
مخبوءةٌ في مثلها الأعناق
فغدت تميل من الكلال نحافةً
…
إذ حمِّلت ما لا يكاد يطاق
وبأيمن العلم المطلِّ على الحمى
…
رشأله حبُّ القلوب نطاق
كالبدر إلا أنه في تمِّه
…
لا يعتريه لدى الكمال محاق
بهر الدجى فرعاً وأزرى بالضحى
…
من نور بهجة وجهه إشراق
حاز القلوب له الجمال فما لها
…
من أسره طول المدى إطلاق
وله: [من الطويل]
أراق دمي بين الرُّبى والمعالم
…
تذَّكر أيَّام مضت كالمواسم
/112 ب/ تقضَّت حميدات بصحبة معشر
…
شذا ذكرهم بين الورى كاللَّطائم
أسكان نجدٍ إن مضناكم غداً
…
بكم مفرداً ما إن له من مساهم
توحَّد فيكم حبَّه عن مشارك ................. ومزاحم
إذا هبَّ من تلقائكم نشر نسمةً
…
جرت عبراتي كالغيوث السواجم
ويخفق قلبي إن سرى البرق خافقاً
…
وما ذاك إلا أنه كالمياسم
هبوا الصَّبَّ رشداً من صباح لقاكم
…
فقد ظلَّ في ليل من البعد عاتم
وقد أخذت منه التَّنائف حقَّها
…
بوخذ المهارى والمطيِّ الرَّواسم
فعهد الصِّبا ولَّى وعهد وصالكم
…
كأنَّما كانا كأحلام نائم
وأنَّهما كانا ألذ من المنى
…
وأحلى من التهويم في جفن نائم
وله: [من مجزوء الكامل]
عرف النَّسيم عساك تسرح
…
خبري بلطف حين تسرح
وتبلِّغ الأشواق في
…
ضمن السلام لهم وتنضح
فل ذاك مضناكم غدا
…
بالوجد والبرحاء مطرح
وإليكم إنسانه
…
ما زال باللَّحظات يطمح
يأبى خلائق حاله
…
فإلى م بالهجران تسمح
/113 أ/ منحته الصَّد المذيـ
…
ـب ومن سواه الوصل تمنح
ويجدَّ فيك غرامه
…
وبه طوال الدَّهر تمزح
يا عاذلاً فيه قبحـ
…
ـت ووجه عذلك منه أقبح
اللَّوم ينجح في فتى
…
بحر الغرام عليه يطفح
ولئن تجنَّى أو جنى
…
فالقلب عنه ليس يبرح
ما زلت أكتم جمرة الـ
…
ـبرحاء في صدري وتلفح
حتى تبدى فيه العذا
…
ر على صفا الخدِّ الملوَّح
فأذعت تبريحي وقد
…
برح الخفاء به وبرَّح
طرفي غداة ترحُّلي
…
لا زال بالعبرات يسفح
[787]
محمد بن الحسين بن أبي بكر بن الحسين بن أحمد، أبو الحسين الشروبيُّ النتاج الموصليُّ.
المعروف بشاعر الصحابة؛ لأنه استفرغ معظم أشعاره في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت ولادته في سنة تسع وسبعين وخمسمائة.
وهو شاعر أميّ لم يعرف الخط /113 ب/ ولا القراءة، وله شعر كثير في الصحابة وأهل البيت – صلوات الله عليهم وسلامه – يقوله بصحة طبعه، وسلامة غريزته، وأنشأ مقامةً سمّاها:"روضة المناظل ورياضة الخاطر"، أودعها نكتاً لطفية، وملحاً طريقة.
أنشدني لنفسه، يمدح صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم أجمعين -:[من الكامل]
يا دمنتين لرزينب ورباب
…
أسقيتما صاباً فؤادي الصَّابي
كم لي أبثُّ الوجد في ظليكما
…
فعساكم أن تأذنا بجوابي
أنكرتما حالي وقد عاينتما
…
منِّي المشيب مبرقعاً بخضاب
هيهات بالتعليل تبرأ علَّتي
…
ويعود لي زمن الصِّبا بتصابي
نزلا بقلبي المفجعان كلاهما
…
فقد الشباب وفرقة الأحباب
يا صاحبي إن لم تكن عونا على
…
حكم الهوى ما أنت من أصحابي
ذرني وما ضمَّت عليه جوانحي
…
وترائبي إن كنت من أترابي
كم ذا تجرِّعني الملام أما كفى
…
ما احمرَّ من ماء الجفون شرابي
طالت ليالي الهجر بعد فراقهم
…
فكأنَّما أضحين كالأحقاب
وترى الخيال وقال عند رحيلهم
…
قولاً أنست به الغداة عتابي
/114 أ/ أسقيك من ماء الجفون لعلَّة
…
تبديه من فرحٍ ليوم غياب
من كل فاتنة بطرف فاترٍ
…
قتلت بسيف اللحظ في الأعراب
قطعوا القفار فأقفرت من بعدهم
…
من الدِّيار وقطِّعت أنيابي
وتيمَّموا شيح العذيب وما دروا
…
أن العذيب موَّكلٌ بعذابي
وفلى الفلاة بكل حرف جسرةٍ
…
تطوى لها البيداء طيَّ كتاب
يبغون خير الناس بعد محمد
…
مولى دخرت ولاءه لحسابي
مولىً إذا الجهَّال عافوا فضلةً
…
نطقت بسؤدده ذوو الألباب
لزم النبي بكفِّه بين الملا
…
وأقامه للناس في المحراب
سمَّاه صدِّيقاً وأعمل رأيه .. ز يوم التقى الجمعان بالأحزاب
خلقا جميعاً من ترابٍ واحد
…
وتلحَّفا موتا بفرد تراب
هذا الفرات العذب ..... من الظما
…
....... لمع سراب
واخطب غداً دار النَّعيم مخلَّداً
…
فيها بحب سلالة الخطَّاب
مولى تجلب بالتُّقى دون الورى
…
فجعلت عقد ولائه جلبابي
وله الفضيلة بالحجاب لنسوة الـ
…
ـمختار حتى ..........
إن كان دأب الملحدين هجاؤه
…
فلقد جعلت له المدائح دابي
/114 ب/ ولأصحبن الرَّكب حسن تيحَّة
…
تنجو بها عند الصِّراط ركابي
لقباب عثمان الشهيد لأنه
…
نورٌ تبرقع عنهم بقباب
قصدوه بالسهم المميت جهالةً
…
وتأوَّلوا عنه بغير صواب
جادت أنامله بما ضنّوا به
…
حتى دعي بالماجد الوهَّاب
ولقد ذخرت مدائحاً في حيدر
…
تنفى الظُّنون بها عن المرتاب
بابٌ لدار العلم يا طوبى لمن
…
علقت يداه بحبِّ ذاك الباب
أعطاه ربُّ العرض منه فضيلةً
…
قصرت لكتبتها يد الكتَّاب
خطبٌ يخاف الموت من سطواته
…
في يوم معتركٍ ويوم خطاب
وله اتصالا نسبه وولادةٍ
…
بأعزِّ منتقلٍ من الأصلاب
نسبٌ بمولده العريق وولده
…
نسبٌ يفوق به على الأنساب
وبحبهم يرجوا الأديب تخلصاً
…
في عصره من سيء كذاب
طالت به أيدي الضَّلال كما بها
…
قصرت يد الأزلام والأنصاب
وأنشدني لنفسه، يمدح الصاحب شرف الدين أبا البركات المستوفى – أيده الله:[من الكامل]
ربعٌ كسته يد الغمام ربيعا
…
ودعا فلبَّاه النَّسيم مطيعا
/115 أ/ وسرت إليه من الجنوب جنائبٌ
…
نشَّرن رايات الرِّياض جميعا
وتنفَّست سحراً رباه فعلَّمت
…
نشر الربيع وغيره التَّضويعا
وهمت عليه من الجار سحائبٌ
…
من كل جوهرة تسحُّ دموعا
ورأى البنفسج ضوء برق خاله
…
عضباً بأذيال السَّحاب لموعا
خاف .... بالحسام فصاع من
…
قضب الزَّبرجد للقاء دروعا
ومنها في المديح:
ولقد طفقت مسائلاً من بعد ما
…
جرِّعت سمَّ الحادثات نقيعا
عن زاخر عذب الورود وشامخٍ
…
أضحى عن اللَاّاجي إليه منيعا
أو كعبة للقاصدين فلم أجد
…
إلا ابن موهوب لتلك جموعا
ودعاه أهل الرشد لمَّا عاينوا
…
شرفاً به .... مريعا
من يشتري طيب الثناء بماله
…
وسواه ظل بضدِّ ذاك مبيعا
لله كم ميتٍ ثوى من فاقةٍ
…
دهر فأحياه نداه سريعا
وكتب إليه أيضاً: [من المنسرح]
يا شرف الدين إنني رجلٌ
…
ما دار في خاطري ولا حسي
أنك يا عدَّتي ويا أملي
…
تجعلني كالمقيم في الحبس
/115 ب/ أظلُّ أشكو إليك من نفر
…
كل مريدٍ في صورة الإنس
إن عيالي أتوا على أثري
…
وأصبحوا في طريقهم عرسي
على دينٌ وليس لي ذهبٌ
…
كلاّ ولا قدرتي على فلس
فكان هذا جزاء مدحكم
…
أصبح بالذل مثلما أمسى
أو كيف ..... فيمن فضائله
…
أشرف شيء يحلُّ في طرس
حرام بختي فلو ضربت به
…
بحراً شكا قعره من اليبس
وكتب إليه أيضاً: [من الطويل]
أيا شرف الدِّين المحبب عزّ النَّدى
…
فإن النَّدى من جود كفَّيك يستجدي
وأتيتك أشكو صرف دهرٍ وعيلةً
…
وصالهم عندي أمرُّ من الصَّدِّ
كأنَّهم .... في منىً
…
عراةٌ بلا إحرام فضلاً عن الوفد
وقد مسَّهم بردٌ شديدٌ وليس لي
…
يضمُّهم إلا حصيرٌ من البردي
وقال يمدح عماد الدين أبا القاسم عبد الرحمن بن محمود بن بلدجي الفقيه الحنفي المدرس /116 أ/ الموصلي: [من الكامل]
لو شام بارق رامةٍ حادي السرى
…
ما مال بالعيس الشام وعوَّرا
أو لو تفهَّمت السَّحاب وصوبها
…
بندى عماد الدِّين ما مطر الثَّرى
يغني عن المزن البالد بنيله
…
وعن الصَّباح بوجهه أن يسفرا
وتكلَّف الشُّعراء فاضل جوده
…
شكراً يجل عن الثنا أن يحصرا
متعوِّدُ بذل اللُّهى لعفاته
…
قبل السؤال معوِّدي لبس الفرا
فعليه دفع القرِّ عنِّي في الشِّتا
…
وعليَّ بثُّ صنيعه بين الورى
وأنشدني في إنسان، يلقب غرس الدين، أصابه سهم:[من الخفيف]
لا تظنُّوا .... بمولاي غرص الـ
…
ـدِّين إذ لم يردَّ سهماً تعدَّى
إنما السهم قاصدٌ وهو قد عا
…
هد قدماً أن لا يخيِّب قصدا
[788]
محمد بن سعيد بن هاشم بن عبد الواحد بن أحمد بن هاشمٍ؛ أبو المعالي بن أبي البركات الأسدي، المعروف بابن الخطيب.
من أبناء الخطباء، وبيت الخطابة /116 ب/ بحلب المحروسة.
كانت ولادته فيما أخبرني من لفظه سنة سبع وتسعين وخمسمائة.
وهو شاب ذو رواء ومنظر لطيف الشكل، جميل الخلقة، يعاني الكتابة الإنشائية ويتزيّا بزيّ الجند.
رأيته متعلقاً بخدمة الأمير نصرة الدين أبي منصور مروان بن صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان بحلب، كاتب إنشاء؛ وربما نظم شيئاً من الشعر
على سبيل الولع.
أنشدني بنفسه، وكتب لي بخط يده، في النقيب أبي الفتوح المرتضى الحسيني، حين ردّت النقابة إليه، وكان قبل ذلك معزولاً:[من الرجز]
يا سيِّداً في المجد يقتدى به
…
ويستفاد العلم من آدابه
ومن هو الظَّاهر في إحسانه
…
إليَّ والطَّاهر في أحسابه
هنأك الله بها نقابةً
…
تقضي على الحاسد با كتئابه
سيادةٌ عادت إلى معدنها
…
وسؤددٌ صار إلى أربابه
تبسَّم الدَّهر لها طلاقةً
…
ومال بالعجب على إعجابه
والدَّهر قد أنشد مسروراً بها
…
قول امرئ أحسن في خطابه:
قد رجع الحق إلى نصابه
…
وأنت من دون الورى أولى به
[789]
محمد بن عليِّ بن حامد بن إبراهيم بن الحسن بن عليٍّ، أبو بكرٍ المعروف بابن الماشطة الإربليُّ.
كانت ولادته بإربل، سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، كذلك أخبرني من لفظه. له شعر صالح في الغزل، والمعاتبة، والمدح، والهجاء، ومعظمه في الألغاز والأحاجي. وكان يتولى بإربل في عهد الملك المعظم مظفر الدين كوكبوري بن علي بن بكتكين – رضي الله عنه – أعمالاً شتى.
أنشدني لنفسه: [من الطويل]
لحا الله حماماً أرتني صروفها
…
بعيني فيها ضدَّ ما أتمنَّاه
أرتني من لا قدرةٌ لي بأن أرى .... ما بين الأنام محيّاه
وأنشدني لنفسه في حكيم يلقب "الشمس ختن الرحبى" وكان طبيباً حاذقاً في صنعته. وكان قد كثر الموت بدمشق: [من الخفيف]
قيل لي زاد في فناء جلِّق المو
…
ت فعيشٌ بربعها لا يطيب
قلت هذا لغظ أيوجد ميتٌ
…
في فناها والشمس فيها طبيب
/117 ب/ وأنشدني لنفسه، يهجو طبيباً ذميّاً اسمه معافى كان بدمشق:[من الكامل]
من شاء ينظر في الورى ضد اسمه
…
فينظرنَّ إلى معافى يكتفي
طبٌّ إذا عاد المريض تزايدت
…
أمراضه وإذا تجنَّبه شفي
[790]
محمد بن منير بن البطريق بن منير بن عسكر بن أحمد بن يحيى بن الحسن، أبو بكر بن أبي النجم العجليُّ.
زعم أنه من بني عجل بن لجيم، وكتب نسبه بخط يده. وجدت فيه خللاً، يجب إصلاحه، فلذلك لم أربع فيه شيئاً أكثر من ذلك من أجداده.
وكانت ولادته ومنشؤه بالجزيرة العمرية، وخرج عنها حدثاً، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وقدم الموصل، وجعل نفسه سائقاً لصبيان المكتب. وتولّع بالأدب، وقول الشعر، وتردد إلى الشيخ أبي الحرم؛ فقرأ عليه أدباً وشعراً.
ثم اشتغل بالتأديب، وصار معلّماً، ورزقه الله قريحة في القريض؛ فقال منه كثيراً، ثم ترك التعليم، واستأجر دكاناً في الصفارين، فبقي فيها مدة، ثم عاد وفتح حانوتاً /118 أ/ في قيسارية البّز، وصار بزازاً، ومع ذلك لم يترك صنعة الشعر طلباً لحطام الدنيا، وشدّه حرصه عليه، والاستجداء به، والاستماحة والارتزاق؛ فحصل رزقاً صالحاً.
وكان يجمع بين التجارة والاستجداء بالشعر للملوك والأمراء والصدور والوزراء، ونفقت سوقه، ومشت أحواله.
وهو شاعر يضرب في الأرض ببنات أفكاره، ويركب آماله إلى إدراك أوطاره، أشعر من ذلك في وقته، ذو قدرة على إنشاء الكلام ونحته؛ حسن الشعر صنعة، تنقاد له القوافي الشرّد وتطيعه. وكان كثيراً ما يصف أشعاره إذا أنشدها، ويطرب لها إذا أوردها، متفنن في أنواع القريض وضروبه، لم يجر أحد معه من الشعراء في أسلوبه، يفوقهم في قوله لفظاً ومعنىً، ويبر عليهم فصاحة وحسناً.
وكان رجلاً قد طبعت طبيعته على الأخذ، وجبلت طينته على الشحذ، من أشرس الناس خلقاً، وأدناهم نفساً، سيء العشرة، ضيق العطن، كثير اللجاج، وكانت طباعه فيها جفاءٌ، وأخلاقه فيها شراسة.
ثم تاب عن قول الشعر، والاستجداء به، وحجّ إلى بيت الله الحرام، سنة ثلاثين وستمائة /118 ب/ قصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ونظم قصيدة في النبي عليه السلام، وتوقف عالم عظيم لسماعها. ثم قال بعد أن فرغ من إنشادها على قبره صلى الله عليه وسلم وذلك في أوائل المحرم من سنة إحدى وثلاثين: يا رسول الله! لكل ضيف قرى، ولكل مادح ثواب، ولكل قاصد حرمة. وقد قصدتك، ومدحتك ووصفتك؛ فأسألك أن يكون قراي شفاعتك على الله الجنة والمغفرة وبعدها لم يسترفد بالشعر.
ثم قدم الموصل فمكث بها قليلاً، وخرج منها في تجارة متوجهاً إلى بلاد الشام، فطلع عليه التتر الملاعين، فاستأصلوا ما كان يملكه، ثم رجع إلى سنجار، فأنعم عليه كمال الدين بن مهاجر بفروة، كانت على جسمه، ورحل إلى حلب، فنزل في بعض مدارسها مرتزقاً جامكية تصل إليه، وأدّب جماعة من أولاد أمرائها.
ثم عنّ له السفر إلى دمشق، فسكنها، وكتب بها الشروط، ومات بها في أواخر جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وست مائة في المدرسة العادلية.
ولو حلفت بالله تعالى، إنني سمعت ديوانه من لفظه، إلَاّ القليل منه لم أكن حانثاً في يميني، لكثرة ما كان /119 أ/ ينشدني فكان قد استعرت منه ديوان شعره، فعلقت منه ما يصلح إثباته في الكتاب من المقطعات. وأنشدته ثم طلبه بعد ذلك، فأعطيته إياه، فلما طلبته ما طلني به، وسافر إلى دمشق، ولم يعده إليّ، فبقي عندي الشيء اليسير من شعره، فأثبته ورحل إلى دمشق، فما عدت رأيته بعد ذلك. وكان إذا أنشد
شعره يتعجب، ويكثر التعجب، لكثرة ما كنت أستنشده من أشعاره ويبالغ في وصف شعره غاية المبالغة، ويمدح.
وكانت ولادته تخميناً سنة خمس أو ست وسبعين وخمسمائة، فاستوفى إحدى وستين سنة. فمن شعره:[من الوافر]
بزاهر آس خدِّك بالشَّقيق
…
ودائر كأس ثغرك بالرَّحيق
عميد هوى قضيت عليه عمداً
…
يهزُّ قضيب بانتك بالرَّشيق
نأيت مع الغريق فبان شوقاً
…
يغرِّق نفسه إثر الغريق
ورجَّح بالأغاني في المغاني
…
وبكَّى بالعقيق كالعقيق
وطاف على الرُّقاد عساه يحظى
…
بزور زيارة الطَّيف الطَّروق
فصلت عليك بظهر سرجي
…
ولست لشرط ذلك بالمطيق
لأن جليل ما بي منك يبدو
…
بمرأى ذلك الفرق الدقيق
/119 ب/ وأنشدني لنفسه، يهجو ابن صباح الشاعر:[من المنسرح]
يا ابن صباح وتلك عنزٌ
…
تدور حول القمدِّ دورا
كان قياساً لو جئت جديّاً
…
بل كنت بغلاً فجئت ثورا
وقال أيضاً فيه يهجوه: [من مخلّع البسيط]
قالوا: رأينا فتى صباحٍ
…
يمشي وفي رأسه قرون!
فقلت: كفُّوا، فتلك عنزٌ
…
ونصلها هكذا يكون
وقال في فخر الدين عثمان – مقدم الدولة السلطانية بمصر -: [من الطويل]
أعثمان مت قتلاً بسيف محمدٍ
…
وتحقيق هذا أنه ابن أبي بكر
مدحناك لا نرجو نداك وإنما
…
حجىً لامرئ يرجو ندىً من صفا صخر
ولكن تصدَّقنا عليك بشكرنا
…
لأن بك الفقر المكبَّ إلى الشكر
وكنَّا سمعنا المال تعطى زكاته
…
بمصرٍ فأعطينا الزكاة على الشِّعر
وأنشدني لنفسه، يمدح المولى المالك الرحيم، بدر الدنيا والدين، وعضد الإسلام /120 أ/ والمسلمين، تاج الملوك شرف السلاطين، قامع الكفرة والمتمردين، أبا الفضائل غرس أمير المؤمنين – أسعد الله جدّه، وقصم عدوه وضدّه، بمحمد وآله الطاهرين -:[من الطويل]
قليلٌ على إثر الحبيب المودِّع
…
إذا كان من قاني دمي سيل أدمعي
رأى جزعي يوم الفراق فلامني
…
خليلي ومن يعرض له البين يجزع
وليس بصبٍّ من نأى عنه حبُّه
…
إذا فرَّ وآوى اللبيب لمضجع
وإني للمفجوع بالبين بغتةً
…
وإن لم أزل أحيا بقلب مفجَّع
ولي في حمول الظّعن ريمٌ إذا نأى
…
أقام هواه من فؤادي بمرتع
يذاد الكرى عن مقلتي بعد بعده
…
فيرجع قلبي للحنين المرجَّع
ويلويه فرط الوجد في كل ما لوى
…
فأجرع سيل الدَّمع في كل أجرع
ولائمةٍ تلحى وتعلم أنني
…
أمينٌ النُّهى لا يدخل العذل مسمعي
ترغِّبني في الاغتراب لعلَّها
…
تمتَّع من كسبي بوفر مجمَّع
فقلت لها واستعجلتها أمينة
…
تخبِّر عن قلبٍ من الدهر موجع
/120 ب/ إليك فما عقلي لمثلك لعبةٌ
…
وغير [ي] بدمع العين والشَّجو فاخدعي
أرى بائعاً من ماء وجهي وشارباً
…
رضاك بوصف السائل المتضرِّع
قنعت فنلت العزَّ من غير مانعٍ
…
ومن يطلب العزَّ الممنَّع يقنع
وإني حلبت أشطر الدهر يافعاً
…
وأصبحت شرَّاباً عليه بأنقع
ولست بسال النَّوال سوى فتىً
…
يفوت سؤال جوده وتضرُّعي
سأصنع خير الشِّعر في كل ساعةٍ
…
لوصف صنيف منه غير مصنَّع
لبدرٍ يرى في كل وقت مكمّلاً
…
إذ البدر بدر بعد عشرٍ وأربع
فتى سفرت بين اسمه غرَّة العلا
…
وأفعاله الحسنى بتاجٍ مرصَّع
طويل نجاد السيف للخطب والندى
…
محل قرى منه بباعٍ موسَّع
فتى شاع ذكراً في السَّماحة والوغى
…
بجود يدٍ تهمي وقلبٍ مشيَّع
إذا أورد الأمر المهرول لم يفت
…
بديهة عزمٍ منه لم تنبع
يقضِّي أقاضي ليلة غير هاجعٍ
…
لينظر في أحوال قاصين هجَّع
عليمٌ بخافي السِّر حتى تخاله
…
تطلعه جهراً ولم يتطلَّع
حليمٌ إذا ما الطِّيش زعزع يذبلاً
…
أطاف بطود منه لم يتزعزع
تقاصر أعناق الكرام إذا بدا
…
لهم عن مهيب أريحيٍّ سميدع
/121 أ/ يراعون فكر في الندى ساعة الندى
…
لندب بديهيِّ السَّماحة أروع
لقد منيت منه الخطوب بباسلٍ
…
شجاعٍ متى يبرز له الخطب يصرع
يخوض الوغى فرداً بوجه كأنه
…
سنى قمر في رأس ليث مقنَّع
يحاذر يلقى الذَّمِّ إلا مدرَّعاً
…
وقد يرد الهيجاء غير مدرَّع
بصير بصيد القرن غير مخادعٍ
…
خبيرٍ بوضع السَّيف في كل أخدع
مليك قلى أحوال أملاك عصره
…
فردَّ لنا أيام كسرى وتبَّع
ملوكٌ تفدَّى كفُّهم بأكفِّهم
…
وما هامهم منها فداءٌ لإصبع
حوى قصبات السَّبق في الفصل دونهم
…
...... على أعقاب حسرى وظلَّع
ملوكٌ رأوا الدينار رباً فأجمعوا على سجَّد منهم لديه وركَّع
أضاعوا حدود الله فاعتصموا الورى
…
وولُّوا عليهم كل ..... مجدَّع
حووا صدقات الناس قسراً وزاحموا
…
عليها وصدُّوا دونها كل مدقع
وكفَّوا عن الميراث كل يتيمة
…
وعمُّوا بظلم منهم كل مرضع
لك الله! يا معطي الرَّغائب دونهم
…
ومن دونه المظلوم غير مدفَّع
فعش أبداً واستخدم القهر مالكاً
…
متى تدعه يسمع مجيباً ويسرع
ولا زالت الأعياد ترهى أهلةً
…
بنور هلال بين عينيك مطلع
/121 ب/ تملَّ العلا واستجل منها غريبةً
…
تغور بصافي الورد في كل مشرع
لها نسبٌ مني عريق نجاره
…
إذا الشِّعر أخزى نسبةً كل مدَّعي
وإني كثير العجب من كل ناقص
…
يزاحم أهل الفضل في كل مجمع
يرى بارزاً فيهم بشعر مبرقعٍ
…
ووجه بالاستحياء غير مبرقع
يسابق حظِّي جهله فيفوته
…
فليس يرى بعدي بجاء ولا معي
إذا كنت في فضلي عليه مقدَّماً
…
فما حزني إن أخَّر الحظُّ موضعي
وما كان مثلي في جنابك مائلاً
…
به الشعراء في المكان المرفَّع
وغير جهول منبر الحمد أنني
…
أجلُّ خطيبٍ في معالكي مصقع
وحاشى نداك الفائض الغمر أن يرى
…
وفي قسمه مثلي بحظٍ مضيَّع
وقال أيضاً، يمدحه – خلّد الله سلطانه -:[من الطويل]
نفديك بالآباء يا من صفاته
…
تشابه معنىً لاسمه وتشاكل
وننظمها في الشعر علماً بأنَّها
…
عقودٌ لأعناق ........ ومراسل
إليك تشكَّى أن تصير أواخراً
…
حساني وهنَّ السَّابقات الأوائل
فضائل يحبوها أبوها بصدِّه
…
ويصرفها عن حقِّها وهو عادل
/122 أ/ وليس بعدل موحشاتٌ نوافرٌ
…
تؤخَّر عنها آنساتٌ أواهل
عواطل يكسوها حلّياً بسمعه
…
وأثنى ومنه حالياتي عواطل
وهنَّ الجواري المنشآت وإن يكن
…
لأعلامها بحرٌ فإنَّك ساحل
وقال أيضاً، على طرز ابن الحجاج في الخلاعة والسُّخف:[من المجتث]
قد جاءنا رمضان
…
وقد مضى شعبان
وقد علت نار قلبي
…
وما ببيتي دخان
وقد مضى لمغيبي
…
عن عيبتي إحسان
بان الكرى عن جفوني
…
لمّا عن العين إحسان
كأنه من عيالي
…
إذ كان لي حيث كانوا
عقلي بأمِّ عيالي
…
مدلَّةُ ولهان
وهي التي قتلتني
…
بالشَّوق لا الولدان
أيرى طوال الليالي
…
كناظرٍ يقظان
يراقب الشخص منه
…
كأنَّه ديدبان
/122 ب/ لا يرتضي بسواها
…
فدهره غضبان
كأنَّما عنده من
…
عهودها أيمان
أروى قدوداً تثَّنى
…
كأنَّها أغصان
فتلك جنَّة عدن
…
وهنَّ حورٌ حسان
إذا حواهنَّ يوماً
…
لنرزهة بستان
تبسمت عن ثغور
…
كأنَّها الأقحوان
ينفرن منِّي وعنديّ
…
من الصِّبا عنفوان
يرين شخصي لفقري
…
كأنه شيطان
فإن أشارت إليهـ
…
ـنَّ من يميني بنان
صدفن عنها كأنَّ الإ
…
عدام فيها سنان
يا رب .... سؤلها
…
..... الخلافة شان
مازحتها فأجابت:
…
تنحَّ يا صفعان
مانيك مثلي إذا ما
…
مجنت بي مجَّان
فليس ينفق عندي
…
من رأسك الهذيان
فقلت
…
عندي من فطنتي ....
/123 أ/ ومن مصاغ القريض الرَّ
…
قيق لي ديوان
فقالت: أقصد بلالاً
…
بالشِّعر يا غيلان
وأم أكرة رأسي
…
من رجلها الصَّولجان
فقمت أقصد ربعاً
…
فيه المنى والأمان
فصانني من أذاها
…
فعرض مثلي يصان
[791]
محمد بن محمود بن المبارك بن جبريل، المؤدّب الإبربليُّ.
أنشدني لنفسه، ما كتبه إلى بعض أصدقائه، يشفع له، أن يوصل قصيدةً، نظمها في الصاحب شرف الدين أبي البركات، إليه:[من المنسرح]
يا أيها السيد الكمال ومن
…
جود أياديه يخجل المطرا
ومن يظل اليراع مفتخراً
…
به على غيره إذا سطرا
إني أرجيك أن توصِّل لي
…
قصيدةً قد نظمتها دررا
في شرف الدَّين والعلاء ومن
…
نواله للعفاة قد غمرا
واسلم ودم لا برحت في نعمٍ
…
ما جنَّ جنح الظَّلام واعتكرا
[792]
محمَّد بن عمر بن محمَّد بن عليِّ / 123 ب/ بن موهوب بن إسماعيل، المعروف بابن زبيدة أبو بكرٍ الجزريُّ القيسي الواعظ الفقيه الشافعيُّ المدرّس.
عالم فاضل، متفنن مناظر أصولي.
أخبرني؛ أنه ولد في ربيع الأوّل سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، بالجزيرة العمرية، وانتقل إلى الموصل، وهو بها مقيم.
أنشدني لنفسه: [من مخلَّع البسيط]
يحسدني كلُّ من رآني
…
اركب في موكب الأمير
وليس يدري بأنَّ بغلي
…
يبيت شهرًا بلا شعير
[793]
محمَّد بن أحمد بن عبد الصّمد بن بدران بن حامد بن حمدان بن عليٍّ الغيداويُّ السّلميُّ البوازيجيُّ، أبو أحمد.
شيخ أسمر اللون، ربعة من الرجال، من أهل البوازيج.
لقيته بمدينة إربل، يوم الاثنين العشرين من شعبان من سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، بدار حديثها المظفرية؛ ذكر أنه حفظ كتاب الله تعالى وأقام بنظامية بغداد اثني عشر عامًا، يتفقه على مذهب الإمام الشافعي – رضي الله عنه = /124 أ/ ويقول أشعارًا سخيفة، وربّما وقع له فيها أبيات لا بأس بها.
وأخبرني، أنه ولد بالبوازيج ثالث عشر رجب سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.
أنشدني لنفسه: [من الطويل]
وزهَّدني في صحبة النَّاس خائن
…
قليل الحياجم الخنا والمعائب
يعرِّض عرضي للِّئام سفاهًة
…
ويوقعني من جهله في المعاطب
ويؤيسني من كلِّ حرٍّ طلبته
…
ويطمعني في نيل أحمق كاذب
دعوني أروض النفَّس في ذمِّ معشر
…
هم اللُّؤم محض مذ غدو بالمثالب
فما علقت كفِّي بخلٍّ يسرُّني
…
مباديه إلَاّ ساءني في العواقب
وأنشدني أيضًا قوله: [من البسيط]
مولاي لا تتعبن قلبي بهجرك لي
…
فالهجر يظهر ما يخفى على النَّاس
والصدُّ مرُّ وشكواى أمرُّ إلى
…
من لا يرقُّ لذلٍّ قلبه القاسي
وأنشدني لنفسه، صدر كتاب:[من الكامل]
وافى كتابك فابتهجت له
…
وشكرت ما أوليت من نعم
وطفقت الثم عند رؤيته
…
شوقًا إليك مواقع القلم
وأنشدني لنفسه، يهجو جماعة /124 ب/ ببغداد، إذ شرعوا في أذاه، وذكر أنَّهم كانوا يتعاشرون، وصدر منهم أشياء لا تليق في حقّه، منهم: ابن الأبله الشاعر، وابن ورد كاتب السلّة، وابن البيّع، والزهري المحدّث:[من السريع]
قل لفتى البيّع ما هكذا
…
أوصاك لمَّا درج الوالد
أن تعشق المرد ولا ينتهي
…
عن الخنا شيطانك المارد
إن دمت يا ثكل أبيه كذا
…
سيذهب الطَّارف والتَّالد
ولابن ورد خبر مطرف
…
يعلمه الغائب والشَّارد
فيه من الوصلة ما إنَّه
…
يطيعه الشَّارد والوارد
ونحوه كيف تأمَّلته
…
ونجوه بين الورى واحد
والحجَّة المغرور كنز البغا
…
فقد دهانا شعره البارد
ثلاثة رابعهم كلبهم
…
قد لعن السَّائق والقائد
[794]
محمَّد بن الحسن بن جامع بن عليِّ بن أبي كامل /125 أ/ بن أبي طالبٍ، أبو عبد الله الإربلي.
وقد سبق شعر عمّه أبي الفضل الياس بن جامع – في الجزء الأول من الكتاب -.
وأبو عبد الله رجل حافظ للقرآن العزيز، ضعيف العينين، نزل في عارضيه البياض.
رأيته بمدينة إربل سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وسألته عن ولادته، فلم يتحققها، غير أنه قال: لي الآن خمسون سنة. وكان سؤالي له في التاريخ الذي مرِّ ذكره.
أنشدني لنفسه، ما كتبه إلى الصاحب شرف الدين أبي البركات المستوفي – رحمه الله تعالى-:[من الطويل]
شكوت الَّذي لاقيت من نوب الدَّهر
…
وما نالني بعد الثَّراء من الفقر
إلى بعض إخواني الَّذين أودُّهم
…
كشفت له حالي وأظهرته سرِّي
فجاوبني جذلان من غير غمَّة
…
لك الخير بارد .... الصَّدر
إلى شرف الدِّين الوزير فإنَّه
…
قدير على إصراف عسرك باليسر
أبي البركات الأريحي الَّذي سما
…
بمعروفه قدرًا على الأنجم الزُّهر
هو الصَّاحب المغرى بتفريق ماله
…
على الطَّارق الملهوف في السر والجهر
جواد إذا ضنَّ الغمام بقطره
…
فجود ندى كفَّيه يغني عن القطر
وزير فريد بالعفاف وبالتقى
…
وبالحلم والعلم الغزير وبالبر
/125 ب/ له همَّة فوق الثُّريَّا يحلُّها
…
وآراؤه أمضى من البيض والسُّمر
[795]
محمَّد بن بدر بن الحسين بن مقبل بن السمين، أبو الفرج بن أبي النجم الليليُّ البصريُّ.
من أبناء المتصرّفين، ومن بيت رئاسة.
ذكر لي، أنه ولد سنة أربع وثمانين وخمسمائة، بقرية تدعى قرية فاطمة، وهي في مستغرق أجم ومياه، فوق قرية تسمى الشُّرطة من أعمال واسط. ونشأ بالعقر، قرية بنواحي البصرة.
شاهدته بإربل رجلاً قد وخطه الشيب، طويلاً، أزرق العينين، عبل البدن، في رمضان سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، يتولى التصرف في نواحي الخاص. وسألته على من اشتغل؟ زعم أنه لم يشتغل بشيء من العلوم، وإذا أنشد قلَّ أن يلحن في إنشاده؛ ومما أنشدني لنفسه ما كتبه إلى مخدومه وهو إذ ذاك زعيم البصرة:[من البسيط]
لم يبق شأنك في عيني لذي خطر
…
شأنًا ولا رفعًة تسمو لمرتفع
من أين للنَّجم نور البدر حين بدًا
…
وللوحوش جميعًا هيبة السَّبع
/126 أ/ فكلُّ من يدَّعي العلياء غيرك في
…
لبس ومن يتبنَّى المجد فهو دعي
فاسلم على رغم من يشناك في دعة
…
من الحوادث يا ذا الحلم والورع
وأنشدني لنفسه، ما كتبه إلى بعض الصدور، وقد انقطع عنه، فبلغه عنه عتب:
[من البسيط]
إن غبت عنك فإنِّي بالدُّعا لهج
…
وبالثناء على علياك معكوف
وإن حضرت فما أزداد تبصرًة
…
لأنَّ قلبي إلى تلقاك مصروف
ألفت حبَّك إذ أوليتني نعمًا
…
كثرًا ومن ولي الإحسان مألوف
وأنشدني لنفسه إلى بعض أصدقائه: [من البسيط]
لئن كفرت أياديك الجسام وما
…
أوليتنيه من الإحسان والنِّعم
فلا جرى لي في طرس العلا قلم
…
ولا سعت لي إلى كسب الثَّنا قدمي
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من الخفيف]
يا مليح الصُّدود يا حسن الإعـ
…
ـراض والهجر يا جميل التَّثنِّي
كم أعاني الغرام فيك وكم أحـ
…
ـمل عبء الهوى بضعف ووهن
أترى السُّقم ما اشتفى من نحو لي
…
والجفاء الممض ما نال منِّي
وأنشدني له، وكتب بها إلى بعض الأمراء جوابًا:[من الطويل]
/126 ب/ ومن أين لي عمر يقوم بمدح ما
…
تعهَّدتني فيه من الطَّول والبرِّ
ولو كان عمري عمر نوحٍ لضاق بي
…
وقصَّر عن شكري صنائعك الغرِّ
فحسبي من نعماك ما قد منحتني
…
وحسبك منِّي ما يضوع وما يسري
وأنشدني لنفسه، ما كتبه إلى بعض أقاربه جوابًا عن شيء كاتبه به، وعاتبه عليه:
[من الكامل]
شرخ الشَّباب مضى وريعان الصِّبا
…
ولَّى وما ظفرت يداي بطائل
والغانيات صددن حيث رأينني
…
غرض الحوادث والزَّمان المائل
والأقربون تفرَّقت آراؤهم
…
عنِّي وصدَّ معاشري ومواصلي
فعلام أجزع للخطوب وصرفها
…
ولأيِّما حالٍ تهيج بلابلي
وأنشدني أيضًا لنفسه، ما كتبه إلى بعض أودائه، وقد سأله أمرًا في ضمن توليةٍ تقدّمت له في حقّه إلى بعض الصدور:[من الطويل]
صرفت هواي عنك حيث قذفتني
…
إلى لجَّة التَّيار والأسد الورد
وقابلت مدحي والثناء بضدِّه
…
وجازيت ودِّي بالجفاء وبالصَّدِّ
وألفيت عنِّي غير ما أنا فاعل
…
ولم ترع لي حقَّ الولاء ولا الودِّ
/127 أ/ وما كنت لولا فرط حبِّيك عاجزًا
…
عن القول والعذر المبيِّن والرَّدِّ
وأنشدني لنفسه ما كتبه إلى بعض أصدقائه: [من المديد]
يا جلاء العين إن مرهت
…
ودواء القلب إن مرضا
ما الِّذي أثنى هواك ومن
…
لو كيد العهد قد نقضا
أدلال منك يا سكني
…
أم جفاء فيك قد عرضا
أم صدود قد ثناك وما
…
خلت حبل الودِّ منقرضا
لم ألم دهري على مضض
…
كلَّه ما زال لي مضضا
كم سقاني من حوادثه
…
غصصًا مأهولًة جرضا
فابق في شهر الصِّيام ودم
…
واقضه .... ومفترضا
بسعود دائم وعلاء
…
ومجد بالمنى نهضا
ثمَّ عش لي ما بدا فلق
…
بحواشي الجوِّ معترضا
[796]
محمَّد بن عبد الله بن عمر بن سعد بن العجليِّ الموصليّ.
سألته عن ولادته، فقال: ولدت سنة ثماني وستمائة في ذي القعدة بالموصل.
أنشدنا /127 ب/ لنفسه: [من الكامل]
وافى يهزّ قوامه سكر الصِّبا
…
كالغصن إذ مرَّت به سحرًا الصِّبا
فالنَّمل عارض لقلبي فاطر
…
والنور مبسمه وحاجبه سبا
وأنشدنا أيضًا لنفسه: [من الكامل]
أفديه من قمر فتنت بحسنه
…
ولقد أبى أن يعرف الإحسانا
فجننت حتَّى صادني في حبِّه
…
ممَّا لقيت من الهوى سرطانا
وأنشدنا أيضًا له: [من الرجز]
أمير حسن رمحه قوامه
…
وطرفه يغني عن البواتر
وخدُّه وصدغه وطرفه
…
عن عاملٍ ومشرفٍ وناظر
[797]
محمَّد بن هاشم بن أحمد بن عبد الواحد بن هاشمٍ، أبو عبد الرحمن بن أبي طاهر الأسديُّ الحلبيُّ الخطيب.
من بيت خطابة وعلم. وكان والده [انتهت] إليه خطابة المسجد الجامع بحلب.
وتولّى أبو عبد الرحمن مكانه في الخطابة، والصلوات الخمس. شاهدت الخطيب هذا بمدينة حلب، بمسجدها الجامع ثامن جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وستمائة.
وسألته عن مولده، فقال: ولدت في رجب سنة ستين وخمسمائة.
وتوفي بحلب عصر يوم الاثنين السادس من ربيع الأول /128 ب/ [ودفن] في يوم الثلاثاء بمقبرة الجبيل، شمال البلد – رحمه الله تعالى، وتغمده برحمته ورضوانه – في سنة إحدى وأربعين وستمائة.
وهو من عدولها المتميزين؛ شيخ حسن فاضل، دمث الأخلاق، حافظ للقرآن الكريم. ذكر لي أنه سمع جملة من الحديث النبوي. روى عن والده وغيره، واستجزته فأجازني جميع مروياته، وله أشعار، أنشدني منها من الملك الظاهر غياث الدين
غازي بن يوسف، صاحب حلب – رحمه الله تعالى-:[من البسيط]
حيَّت سليمى فاحيت مغرمًا دنفا
…
ثمَّ استقلَّت فأفنت قلبه أسفا
وغادرته غريمًا للغرام بها
…
وعوَّصته صدودًا زائدًا وجفا
ها قد وهى صبره يا ظاعنين وقد
…
أمسى لنا بكم بالسُّقم ملتحفا
وانهلَّ من وابل الأجفان زاخره
…
شوقًا إليكم خبايا دمعه نزفا
أحبابنا بان صبري يوم بينكم
…
لهفًا على طيب عيش لي بكم سلفا
لله أيَّامنا والشَّمل مشتمل
…
وحادث الدَّهر عنَّا صرفه صرفا
يا آمري الصَّبر إنِّي بعد بعدهم
…
والله استعذب التعذيب والتَّلفا
ويا مكلِّفي السُّلوان حسبك بي
…
يكفيك ما حلَّ بي من فقدهم وكفى
/129 أ/ وحقِّ سالف عيش مرَّ لي بهم
…
ما لذَّ عيش ولا ورد الحياة صفا
يا قاتل الله يوم البين كم كبد
…
ذابت وكم مدمع فيه دمًا ذرفا
دعني بوجدي على فقد الفريق وإن
…
أعيى وبرَّح بي التبريح واعتسفا
يا صاح يا صاح من وجدي ومن حرقي
…
وكنه حال على التحقيق ما عرفا
هذي منازل من أهوى فدع عذلي
…
لا عذر إن لم أمت في رسمها شعفا
داء لقلب المعنَّى الصَّبِّ ليس له
…
سوى مديح غياث الدِّين قطُّ
…
يعطي رغائب آمال إليه سرت
…
غرائب الجود حتَّى يوهم السرفا
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من الهزج]
بنفسي معرض عنَّا
…
وكم من عاشق غنَّى
ولم يعطف على صبٍّ
…
صبا شوقًا ولا عنَّا
أأحبابي لئن غبتم
…
فقلببي لكم مغنى
فلا أبصرت أحلى منـ
…
ـكم لفظًا ولا معنى
فكم يبكي معنَّا كم
…
إذا ما ليله جنَّا
ويبدي فرط وجد من
…
رآه قال: قد جنَّا
يناديكم بناديكم
…
وإن واش وشى كنَّى
/129 ب/ ترى يجتمع الشَّمل
…
بمن يهوى كما كنَّا
وأنشدني أيضَا لنفسه في غلام اسمه لؤلؤ: [من الرمل]
يا لقومي من غريرٍ
…
جعل الإعراض ثغره
بدر تمٍّ فوق غصنٍ
…
إسمه يشبه ثغره
[798]
محمَّد بن محمَّد بن عبد الله بن علوان بن أبي بكرٍ، المعروف والده بالأستاذ، أبو المكارم الأسديُّ الحلبيُّ.
هو ابن عم القاضي زين الدين أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الأسدي، قاضي حلب.
أبو المكارم فقيه شافعي المذهب، مترسل مدرس، يدرس الفقه بالمدرسة الأسدية، ثم أضيف إليه النظر في التركات الحشرية. وهو رجل فاضل عالم بالعربية والأدب، شاعر مجيد، حسن الشعر، مليح الكلام في نظمه ونثره، جليل القدر.
لقيته بحلب يوم السبت خامس رجب سنة أربع وثلاثين وستمائة، وأخبرني أنَّه ولد يوم السبت خامس عشر من ذي القعدة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
وأنشدني لنفسه يمدح القاضي أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن الحلبي، /131 أ/ ويهنِّيه بولاية القضاء مدينة حلب. وكتب بالولاية منشور، ولاّه ذلك الملك
…
غياث الدين محمد بن غازي – رحمه الله تعالى – واتفق يوم ذلك .... ثلج كثير، وأعقبه غيث متدفق، فقال:[من الكامل]
يا حاكم الدّنيا وواحد عصره
…
دم للزمان فأنت مالك أمره
أيَّام مجدك كلُّها أعياده
…
وكذا لياليه ليالي قدره
لحظات عدلك لا يقوم بشكرها
…
نظم الشَّكور ونظمه في عمره
ألبست أكرم ملبسٍ لكنَّه
…
بك عاد يرفل في ملابس فخره
ثوب حكى الفلك المسخَّر لونه
…
وحكت ضياءك فيه طلعة بدره
وأتاك تقليد القضاء .... بعقود .... لا هيًا عن درِّه
وركبت مركوبًا تودُّ الرِّيح لو
…
كانت تنوب بمرِّها عن مرِّه
وطلبت للتدريس في مغنًى شكا
…
ظلمًا عرته فكنت غرَّة فجره
اليوم عاد أبو المحاسن حاكم الـ
…
ـحكام غير مروَّع في قبره
وغدت عيون الحكم وهي قريرة
…
والدَّست وهو مسلَّم من ذعره
أكرم يذا اليوم الَّذي قد عمَّنا
…
برًّا فحقَّ لنا القيام بشكره
/131 ب/ كنَّا نذرنا صومه لكنَّه
…
عيد فليس يصام فيه بنذره
زين البريَّه يا أجلَّ محكَّم
…
أضحى العلاء بأسره في يسره
يا من إذا ما المشكلات استكلفت
…
أبدت كواكبها دياجي حبره
طلت البريَّة بالنساء والسَّنى
…
فلك الفخار بحدِّه وبقصره
يا ثالث العمرين والقمرين في
…
إنصافه بين الأنام وقدره
…
موافق ومخالف
…
وموحِّد ومبالغ في كفره
وأفادك الإجماع ما قلِّدته
…
يا معلمًا بالسِّرِّ .... جهره
وسخا الغياث على الورى بك حاكمًا
…
فسخا الغمام على الأنام بقطره
وكسا النِّثار الجوَّ عريان الثَّرى
…
حلل البياض وكان فاقد طمره
فتساوق الغيثان في شأويهما
…
وأطاب بشرى الخافقين بنشره
وأجاد ذكر مناقب القاضي الَّذي
…
قد صغِّر الخبر العظيم بخبره
أبقى الإله لنا العزيز محمَّدًا
…
ملك الزَّمان ونور ناظر دهره
فلقد كسا الإنصاف ثوبًا معلمًا
…
يبقى على حدث الزَّمان بذكره
/132 أ/ وسعى لنظم الملك سعي جدوده
…
وأبيه والملك العزيز بمصره
ورعى رعيَّته ولم ينزلهم
…
هملاً بما بذل أمرؤ من تبره
أرضى الخلائق والإله بحكم من
…
يرضي الإله بنهيه وبأمره
وحبا القضاء بمن غدا أولى به
…
فحباه رب العالمين بنصره
وأعاد ملك الأرض طوع يمينه
…
والحادثات قصيرًة عن قصره
وجزاه خير جزائه فلقد سمت
…
نعماه عن نظم الثَّناء ونثره
/132/ب.
/133 أ/.
[799]
محمَّد بن إياس بن عبد الله، أبو عبد الله الحرَّانيُّ.
كان والده مولى هبة الله بن .... .
كان شابًا كيسًا، دمثًا حسن المعاشرة، يميل إلى الفضل والأدب، ويعاني حفظ الأشعار الرائقة، ورّبما نظم منه شيئًا. وكان حافظًا للقرآن العزيز، كثير التلاوة له، خير الطباع، ذا تودد إلى الناس، وله ثروة من الدنيا.
كان سافر البلاد تاجرًا، سافر قطعة من بلاد العجم. إلى بلاد العراق إلى الديار المصرية؛ فهجم الخوارزمية على حرّان، فأخذوا الموجود من ماله، فقلّ ما بيده، ونزل حلب فصار يضارب للناس، وساءت حاله؛ ثم مرض في أثناء ذلك ونقل إلى البيمارستان، فأقام به مدّيدة. وتوفي به في يوم الجمعة رابع عشر صفر، ودفن ظاهر المدينة، بتربة بني العجمي شمالي البلد في سنة اثنتين وأربعين وستمائة.
أنشدني لنفسه: [من البسيط]
يا ساكني مصر في قلبي لبعدكم
…
نار اشتياق بفيض الدَّمع تتَّقد
ما إن ذكرت ليالينا الَّتي سلفت
…
إلَاّ تبادر دمع العين يطرد
ولست أشكو فقد السَّقام بكم
…
لأنَّه كان لمَّا كان لي جسد
/134 أ/ أخذه من قول أبي الطيب المتنبي:
(وشكيَّتي فقد السَّقام لأنَّه
…
قد كان لمَّا كان لي أعضاء)
[800]
محمَّد بن عبد الله بن عبد الله بن مالكٍ، أبو عبد الله الطائيُّ.
من أهل جيّان، مدينة من مدن المغرب.
استوطن محروسة حلب؛ شاب فاضل، حافظ للقرآن الكريم، يشدو طرفًا من علم العربية.
أنشدني لنفسه ملغزًا باسم وهو سلمان: [من البسيط]
بغير ذكر اسم من أهوى بلفظ سل
…
فيطمع الضَّبُّ في المأمول مرتقبا
ويعقب اليأس باقي اللَّفظ منه كما
…
يقول .... حدثت النفس أي كذبا
وأنشدني لنفسه ملغزًا في الشكر: [من الكامل]
ما اسم بإجماع البريَّة واجب
…
وإذا يخف مصحَّفا فحرام
وإذا تثقِّله لدى تصحيفه
…
فهو الحلال الحلو كيف يرام
وأنشدني أيضًا له يلغز بالمال: [من الخفيف]
إسم هذا الَّذي ألفت هواه
…
فعل قلبي يسمى إذا هو فعل
/134 ب/ كلُّه في آخر أحرفه باد
…
وإذا ما عكسته حين تتلو
وإذا صار أوَّلاً منه ثان
…
فهو معنى ما آمل عنه يسلو
وإذا أوال تأخَّر منه
…
فهو وصف لكلِّ من عنه ضلُّوا
وأنشدني أيضًا لنفسه في امرأة اسمها عين، يلغز بها:[من الطويل]
عجبت للفظ في اكتمال حروفه
…
يبين معنًى ثلثه عنه يعرب
وفي الثُّلث الثَّاني دلالات أربع
…
وفي الثُّلث الباقي دليلان فاعجبوا
وأنشدني لنفسه، ما كتبه إلى نجم الدين أبي الفضل الياس بن الياس الإربلي، الفقيه الشافعي:[من المجتث]
وفتية صدقت فيـ
…
ـهم الأماني ظنونا
وناولتهم يداها
…
من الأيادي فنونا
وحاولوا أن ينالوا
…
وجه التَّهاني المصونا
لكن لإدراك هذا
…
بالنَّجم هم يهتدونا
ففض ختم رضاهم
…
لكي يقرُّوا عيونا
[801]
محمَّد بن عليِّ بن محمَّد بن عليِّ بن يحيى /135 أ/ بن طاهر بن محمَّد بن عبد الرحيم بن محمَّد بن إسماعيل بن نباتة، أبو الفتح بن أبي الحسن القرشيُّ العبسي.
وجدّه الخطيب عبد الرحيم بن محمد، هو المشهور بالخطابة، وبيت العلم والفضل بميافارقين.
وأبو الفضل رجل نبيه القدر من ذوي الهيات الكبراء الأماثل، حفظ القرآن الكريم، ونظر في شيء من الأدب، وله نظم ونثر، لم يقصر في إنشائهما.
تقدّم في دولة الملك الأشرف شاه أرمن أبي الفتح موسى بن أبي بكر بن أيوب بخلاط، سنة تسع وستمائة، وميّزه على نظرائه حتى كاد يجري مجرى الوزراء عنده، وسار معه إلى حرّان، ومنها إلى دمشق، وبقي في خدمته إلى أن مات الملك الأشرف.
نزل مدينة حلب في سنة خمس وثلاثين وستمائة قاصدًا ديار بكر، فلقيته بها في شهر صفر سنة ستٍّ وثلاثين، فألفيته شيخًا حسنًا كيسًا، نقي الشيبة. وذكر لي أنَّه ولد في ربيع الأول بماردين سنة إحدى وسبعين وخمسمائة.
أنشدني لنفسه، ما كتبه في ضمن شكايته إلى ولده أبي عبد الله معاذ:
[من الطويل]
وما روضة فاحت مجامر نورها
…
سحيرًا وقد بات السَّحاب يجوده
/272/ تبسَّم في أقطارها الزَّهر بعد أن
…
بكتها بروق ساعدتها رعودها
بأحسن عندي من كتاب سطوره
…
يضاهي عقود الغانيات نضيدها
إذا ما قرأناه يود جليسنا
…
لما قد حوت ألفاظه لو نعيدها
معاذ لقد أقررت عيني بشمه
…
.... السَّبق طرًّا حميدها
وصدقت لي فيك المخيلة فاغتدت
…
وقد سال واديها وأورق عودها
وأنشدني لنفسه إليه أيضًا: [من الطويل]
أتاني كتاب منك لمَّا فضضته
…
تضوَّعت الآفاق من نشره عرفا
وأقرأني عنك السَّلام كأنَّما
…
حباني به نعمى وخوَّلني عرفا
كأنَّ به قسًا يقصُّ بلاغًة
…
غدت لبديع القول بين الورى صحفا
فما الأمن بعد الخوف أعقبه الغنى
…
لذي فاقة مذ كان كان لها حلفا
وإطلاق مأسور وأوبة غائب
…
ويرشفا الموصوب من بعد ما أشفى
واسعاف دهر بالسعادة لامرئ
…
بلاه بصرفٍ لا يطيق له صرفا
بأحسن عندي .... من وقوعه
…
.........................
فأنهلني من درِّ معناه قرقفًا
…
وشنَّفني من درِّ ألفاظه سنفا
فألصقته بالقلب أنعى سقاه
…
وأرشف بالتَّقبيل أسطره رشفا
/136 أ/ فأطفأ نارًا كنت أحسب أنَّها
…
بغير التَّلاقي ليس تخبو ولا تطفا
وأنشدني أيضًا لنفسه، في الملك الأشرف:[من الكامل]
موسى الكريم حكى الكليم بخلَّة
…
هي للمحامد والـ .... يؤلّف
فعصا الكليم غدت تلقَّف سحرهم
…
وندى الكريم لفقرنا يتلقف
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من المنسرح]
الملك الأشرف الَّذي بهرت
…
صفاته النَّيِّرين إشراقا
سما سماء العلا لمحتده
…
وراق خلقًا وراق أخلاقا
أخطأ من قاس جوده بحيًا
…
هيهات قد بذَّه وقد فاقا
ذاك تسحُّ المياه مزنته
…
وكتب هذا تسحُّ أرزاقا
وأنشدني ما كتبه إلى ولده المذكور: [من الطويل]
كتابك وافاني ودمعي مطلق
…
وقلبي أسير في يدي البين موثق
ولي زفرات ما تني في أتقادها
…
تكاد لنيران البسيطة تحرق
فأطلق من أسري وأخمد لوعتي
…
وعاد به صفوًا شرابي المرنَّق
فأفديه من طرسٍ كأنَّ سطوره
…
جمان ومعناه سلاف معتَّق
/136 ب/ سما فوق ألفاظ البريَّة لفظه
…
فمن أفقه شمس البلاغة تشرق
كتاب به رعت الكتابة واغتدى
…
به فرقي من فرقة الحب يفرق
فأقسم بالقوم الألى بولائهم
…
غدًا لذوي السَّبق المخفِّين أسبق
لذكرك أحلى من جنى النَّحل في فمي
…
ونشرك من عرف اللَّطيمة أعبق
[802]
محمَّد بن عيِّاش بن صباوة بن أبي بكر بن عبد العزيز بن رضوان بن عياش بن رضوان بن منصور بن دويد بن صالح بن زيد بن عمرو بن الزبّار بن جابر بن كعب بن عليم بن جناب، أبو الفضل بن أبي البقاء النحوي الأديب العرَّمانيُّ.
وعرَّمان قرية كبيرة من أشهر قرى صرخد من عمل حوران من نواحي دمشق.
كان والده يتولّى قضاء الثغور الشامية؛ وولده هذا درس علم النحو والعربية على الشيخ أبي البقاء يعيش بن علي بن يعيش النحوي، وأتقن معرفة هذا الشأن، وتمهَّر فيه على أبناء زمانه، وتفقه على مذهب الإمام الشافعي – رضي الله عنه. وأخذ منه جملة وافرة، إلَاّ أنَّه غلب عليه علم الأدب والإعتناء به.
لقيته بحلب المحروسة، وهو ساكن /137 أ/ بالمدرسة النوريّة المنسوبة إلى بني عصرون. وتأكدت بيننا صحبة؛ وهو شاب فاضل كيّس، بارع في فنّه، حسن الذكاء، جميل المناظرة، واسع الحفظ لأشعار المحدثين، وغيرها من أشعار العرب، كثير الدعابة والهزل، مائل إلى المزاح بكليته، فيه سماحة، وله نفس؛ وهو مع ذلك يجيد قول الشعر، ويحكم معانيه.
وأنشدني منه كثيرًا له، ومما أنشدني لنفسه، يمدح موسى بن محمد بن موسى القمراوي:[من البسيط]
أصبحت علَاّمة الدُّنيا بأجمعها
…
تشدُّ نحوك من أقطارها النُّجب
بان على كبد الجوزاء منزلًة
…
تحفُّها من خلال حولها الشُّهب
ما نال ما نلت من فضل ومن شرف
…
سراة قوم وإن جدٌّوا وإن طلبوا
وأنشدني لنفسه: [من الطويل]
ولما اكتسى بالشَّعر توريد خدِّه
…
وما خاله ألَاّ يزول إلى حال
وقفت عليه ثمَّ قلت مسلِّمًا:
…
(ألا أنعم صباحًا أيُّها الطلل البالي)
وأنشدني لنفسه: [من مجزوء الكامل]
وجه صفا ماء الجما
…
ل به وشبَّت فيه ناره
/137 ب/ وكأنَّ خطَّ أبن العديـ
…
ـم على حواشيه عذاره
وأنشدني لنفسه أيضًا: [من مجزوء الكامل]
قد زخرفت في وجهه
…
للنَّاس جنَّات النَّعيم
وكأنَّ خطَّ عذاره الـ
…
ـمنسوب خطُّ ابن العديم
وأنشدني أيضًا من قوله [أتمَّ به] البيت الأول: [من الطويل]
وسمراء رود حجَّبوها بأسمر
…
يماثلها في اللَّون واللِّين والقدٍّ
جفت فجفا جفني الكرى بجفائها
…
كأنَّهما كانا لهجري على وعد
وأنشدني أيضًا له: [من الطويل]
خميس كمثل البحر عبَّ عبابه
…
أوائله ليست لهنَّ أواخر
له تحت أطباق الأراضي زلازل
…
ومن فوق أفلاك النُّجوم زماجر
وأنشدني أيضًا له: [من مجزوء الرجز]
يا مالكي أمسيت من
…
وجدي به متيَّما
سقام جفنيك الَّذي
…
أغرى بجسمي السَّقما
ونار حدَّيك بها
…
وقعت في جهنَّما
من منصفي من شادن
…
مهفهف عذب اللَّما
[حكَّمته في مهجتي
…
فجار لما حكِّما
كأنَّ عقد لؤلؤ
…
في ثغره قد نظما
قد رقم الحسن له
…
في عارضيه أرقما
نمَّ بسرِّ حسنه
…
حين بدا منمنما
وسلَّ من جفونه
…
من اللِّحاظ مخذما
وفوق الهدب بقو
…
سي حاجبيه أسهما
وهزَّ لدنًا ذابلاً
…
من قدَّه مقوَّما
فاعترضت من دونه
…
يمنعه أن يلثما
تحميه ممَّن رامه
…
وحقَّ للثغر الحمى]
/138 أ/ وأنشدني لنفسه يصف الشمس: [من البسيط]
والشَّمس مصفرَّة في الغرب قد نشرت
…
شعاعها في تفاريق من السُّحب
كأنَّما السُّحب أعلام مورَّدة
…
والشَّمس من تحتها ترس من الذَّهب
وأنشدني لنفسه: [من مجزوء الرجز]
وشادن شاد هو الشَّـ
…
ـمس ضحًى بل أحسن
قد جمعت في خلقه
…
لناظريه الفتن
يودُّ جسمي أنَّه
…
حين يغنِّي أذن
في مجلس فيه لنا
…
أحسن ما يستحسن
ما تشتهيه الأنفس
…
وما تلذُّ الأعين
وقال أيضًا: [من مجزوء الكامل]
يا صاحٍ دع عذل العوا
…
ذل في معتَّقة الرَّحيق
صرفًا تلهّب في الكؤو
…
س كأنَّها لهب الحريق
ممَّا تخيَّرها المسيـ
…
ـح ذخيرًة للجاثليق
وكأنَّها ذوب من الـ
…
ـياقوت لا ذوب العقيق
يسعى عليك بها غزا
…
ل كالغزالة في الشروق
/138 ب/ رشا رشيق قوامه
…
أحلى من الغصن الرَّشيق
جلَّت بدائع حسنه
…
عن وصف ذي الذِّهن الدَّقيق
لك كلَّما نادمته
…
سكران من خمر وريق
أو ما ترى وشي الرُّبى
…
أربى على الوشي الأنيق
كم فيه من زهر يرو
…
ق الطَّرف في غصن وريق
لما تخلَّله النسيـ
…
ـم ومسَّه مسَّ الشَّفيق
لثمت ثغور للأقا
…
ح به خدودًا للشقيق
وكأنَّ نرجسه مدا
…
هن من لجين للخلوق
وكأنَّ زهر بهاره الـ
…
تعقيان أو خدُّ المشوق
والجوُّ في سلك مطـ
…
ـرَّزة بمذهبة البروق
فاشرب وصل منها صبو
…
حك وكلَّ يوم بالغبوق
وتسلَّ عن كلِّ الأنا
…
م فليس فيهم من صديق
وله أيضًا: [من الخفيف]
إدَّعى مفتي الأنام رئيس الـ
…
ـشَّام زين الإسلام قاضي القضاة
أنَّ ذا الصاحب الوزير ابن حرب
…
ذا المعالي والأنعم السَّابقات
/139 أ/ ناشر العدل في الرَّعية طاوي الـ
…
ـظُّلم عنها موفَّق العزمات
ثابت القلب واثب في لظى الحر
…
ب مخوف الثَّبات والوثبات
خاضب الأبيض المهنَّد والأسـ
…
ـمر في الرَّوع من نجيع الكماة
والشُّهود العدول عدل وفضل
…
ونوال كالأبحر الزَّاخرات
وعجيب أن أدَّعي ما أرى النَّا
…
س أقرُّوا به وبالبيٍّنات
وقال أيضًا: [من السريع]
أنشد عزُّ الدِّين أشعاره
…
فما شككنا أنَّها درُّ
وما عجبنا أنَّها مخرج
…
للدِّر منه وهو البحر
وأنَّ أوصاف الوزير الَّذي
…
يفرق من صولته الدَّهر
قد أكسبت أشعارّه بهجًة
…
يخجل منها الشمس والبدر
وقال أيضًا: [من الوافر]
وما لي لا أحيِّي دار ليلى
…
وأحبس في معالمها ركابي
واعتنق التراب لعلَّ قلبي
…
يسكِّن حرَّه برد التراب
وقد سلفت لنا فيها بليلى
…
ليال مثل ريعان الشَّباب
[803]
محمَّد بن عليِّ بن محمَّد بن أحمد /139 ب/ العربيُّ، أبو عبد الله، الشيخ العارف الحاتمي الطائيُّ من ذرية عبد الله بن حاتم الطائيِّ.
كانت ولادته بمدينة مرسية، في أيام الأمير أبي عبد الله محمد بن سعد بن مردنيس، سنة ستين وخمسمائة. وكانت وفاته يوم الثاني والعشرين من ربيع الآخر
بدمشق، ودفن بجبل قاسيون بتربة القاضي ركن الدين، وذلك في سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
سمع الحديث على أبي عبد الله محمد بن عبيد الله الحجري، وأبي عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون، وأبي الحسين يحيي بن الضائع السَّبتي، ومحمد بن قاسم بن عبد الكريم
…
، وجماعة سواهم. وكان أهله أجنادًا في خدمة المستولين على البلاد، وبقي مدّة جنديًا، ثم رجع عن الجندّية في سنة ثمانين وخمسمائة.
وحدثني من لفظه، قال: كان سبب انتقالي عن الجندية، وبنذي لها وسلوكي هذه الطريقة، وميلي إليها، أنني خرجت صحبة مخدومي الأمير أبي بكر يوسف بن عبد المؤمن بن عليّ بقرطبة، قاصدين المسجد الجامع، فنظرته في ركوع وسجود وخشوع، كثير الابتهال إلى الله – عز وجل – فخطر لي خاطر، أن قلت في نفسي: إذا كان هذا ملك البلاد خاضعًا /140 أ/ متذللاً، يضع هذا بين يدي الله تعالى – عز وجل – فما الدنيا بشيء، ففارقته من ذلك اليوم، وما عدت رأيته أبدًا؛ ثم لزمت هذه الطريقة.
وهو رجل له قدم في الرياضة والمجاهدة، وكلام على لسان أهل التصُّوف، موصوف بالتقدّم والمكانة عند جماعة من أهل هذا الشأن، وله أصحاب مريدون وتلامذة، وصنّف تصانيف كثرة، وتواليف جمًّة، سكن بلاد الروم؛ ملطية، وقونية، وطاف البلاد، ودخل بغداد، ثم سكن بأخرةٍ دمشق. وله كلام حسن في الحقيقة يأتيه من غير اشتغال بالعلم.
وقد رزقه الله تعالى خاطرًا متوقدًا، فانثال عليه هذا الكلام إنثيالاً، ووفق في إستنباطه توفيقًا عجيبًا، ما حير العقول عند سماعه، وسلب القلوب في إيراده.
شاهدته بمحروسة حلب، في يوم الأربعاء سادس ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وستمائة؛ شيخًا يخضّب، وقرأت عليه جميع ما تضمنته هذه الأوراق وأنشدنيها؛ فمن شعره على طريق العارفين:[من الطويل]
ألا يا حمامات الأراكة والبان
…
ترفّقن لا تندبن بالنَّوح أشجاني
/140 ب/ ترفَّقن لا تندبن بالنَّوح والبكا
…
خفيَّ صباباتي ومؤلم أحزاني
ومن عجب الأشياء ظبي مبرقع
…
يشير بعنُّاب ويومي بأجفان
ومرعاه ما بين الترائب وفي الحشا
…
فيا عجبًا من روضة وسط نيران
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة
…
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيتًا لأصنام وكعبة طائف
…
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحبِّ أنَّى توجَّهت
…
ركائبه فالحب ديني وإيماني
وأنشدني لنفسه: [من البسيط]
قالت: عجبت لصبٍّ من محاسنه
…
يختال ما بين أزهار ببستان
فقلت: لا تعجبي ممَّا ترين فقد
…
أبصرت نفسك في مرآة إنسان
ومن نظمه في المقامات من الفتوحات المكية في التوبة، وأنشدنيه:
الإعتراف متاب كلِّ محقِّق
…
وبه إله الحقِّ يشرح صدره
رضي الإله عن المخالف مثلمًا
…
رضي الإله عن الموافق أمره
ماذا .... ينال مناله
…
لاسيَّما إن كنت تعرف سره
من عين منتبه ينال مخالف
…
ما ناله من كنت تجهل قدره
/141 أ/ وقال أيضًا، وأنشدنيه:[من الطويل]
هبوط مكان لا هبوط مكانة
…
لتلقى به حورًا وملكًا مخلَّدا
كما قال من أغواه صدقًا لكونه
…
رآه كلامًا من إله مسدَّدا
وقال في الخلوة، فأنشدنيه:[من الطويل]
خلوت بمن أهوى فلم يك غيرنا
…
ولو كان غيري لم يصحَّ وجودها
إذا أحكمت نفس شرط انفرادها
…
فإن نفوس الخلق طرًّا عبيدها
ولو لم تكن في نفسها غير نفسها
…
لجادت بها جودًا على من يجيدها
وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن العربي، قال: كنت أطوف بالبيت، فطار قلبي، وهزَّني حال أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس، وطفت على الرمل، وذلك بالليل، فحضرتني أبيات، فأنشدتها، أسمع بها نفسي ومن يليني، ولو كان هناك أحد، وهي:[من مشطور المديد]
ليت شعري هل دروا
…
أيَّ قلب ملكوا؟
/141 ب/ وفؤادي لو درى
…
أيَّ شعب سلكوا
أتراهم سلموا
…
أم تراهم هلكوا؟
حار أرباب الهوى
…
في الهوى وارتبكوا!
فلم أشعر إلاّ بضربة بين كتفيّ بكفٍّ ألين من الخز، فالتفت فإذا بجارية من بنات الروم، لم أر أحسن وجهًا، ولا أعذب منطقًا، ولا أرق حاشية، ولا ألطف معنًى، ولا أدق إشارة، ولا أظرف محاورة منها، قد فاقت زمانها ظرفًا وأدبًا، وجمالاً ومعرفة، فقالت: يا سيدي! كيف قلت؟ فقلت:
ليت شعري هل دروا
…
أيّ قلبٍ ملكوا؟
فقالت: عجبًا منك، وأنت عارف زمانك، تقول مثل هذا! . ليس كل مملوك معروف، وهل يصح الملك إلاّ بعد المعرفة، وتمنّي الشعور يؤذن بعدمها، والطريق لسان صدق، فكيف يتجوز مثلك؟ قل يا سيدي، فماذا قلت بعده؟ فقلت:
وفؤادي لو درى
…
أيّ شعبٍ سلكوا
فقالت: يا سيّدي! الشعب الذي بين الشعاب والفؤاد، وهو المانع / 142 أ/ له من المعرفة به، فكيف يتمنّى مثلك ما لا يمكن الوصول إليه؟ والطريق لسان صدق،
فكيف يتجوز مثلك يا سيدي؟ فماذا قلت بعده؟ فقلت:
أتراهم سلموا
…
أم تراهم هلكوا؟
قالت: أما هم فسلموا، ولكن عنك يبقى أن تسأل نفسك، هل سلمت أم هلكت يا سيدي؟ فما قلت بعده؟ فقلت:
حار أرباب الهوى
…
في الهوى وارتبكوا
فصاحب، وقالت: واعجبًا كيف تبقى للمشغوف فضلة، يحار بها والهوى شأنه التعميم، يحذر الحواس، ويذهب العقول، ويدهش الخواطر، ويذهب بصاحبه في الذاهبين، فأين الحيرة هنا، أو من هنا باق فيجاور الطريق لسان صدق، والتجوز من مثلك غير لائق، قلت: يا ابنة الخالة ما اسمك؟ قالت: قرّة العين، فقلت: لي، ثم سلّمت وانصرفت؛ ثم إنّي عرفتها بعد ذلك، وعاشرتها، فرأيت لها من لطائف المعارف، ما لا يصفه واصف.
وحدثني بمدينة حلب في يوم الأربعاء سادس ربيع الأول سنة خمس وثلاثين /142 ب/ قال: كنت مجاورًا بمكّة سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فرأيت في منامي رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا على الدكمة التي تلي باب أجياد الأقرب إلى باب الحزورة، ووجهه مستقبل الركن اليماني، ورجل يقرأ عليه كتاب البخاري، وهو محمد بن خالد الصدفي التلمساني، وأنا قاعد بين يديه صلى الله عليه وسلم قد ضربت بذقني على ركبته صلى الله عليه وسلم أتطلع في وجهه، فقلت له: يا رسول الله! المطلقة ثلاثًا في مجلس واحد، هل يرجع طلاقها إلى واحدة، أو هي ثلاث كما قال؟ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي ثلاث كما قال، لا تحلّ حتى تنكح زوجًا غيره، فقلت له: يا رسول الله إنَّ بعض العلماء يردّها إلى واحدة، فقال لي صلى الله عليه وسلم: هؤلئك حكموا بما وصل إليهم، وأصابوا. قلت له: يا رسول الله: ما أريد في هذه المسألة إلا ما تدين الله تعالى أنت به، ما لو وقع منك، فعلت به. فقال لي: هي ثلاث كما قال لا تحلّ له، حتى تنكح زوجًا غيره، يرددها ثلاثًا، ثم بسط يديه، ودعا بهذه الكلمات: اللهم أسمعنا خيرًا، وأطلعنا خيرًا /143 أ/ ورزقنا الله العافية، وأدامها لنا، وجمع الله قلوبنا على التقوى، ووفّقنا لما يحبّه ويرضاه، .... ، واستيقظت.
وحدثني أيضًا أبو عبد الله بن العربي، قال: رأيته صلى الله عليه وسلم في هذا التاريخ، فقلت له:
يا رسول الله، الله تعالى يقول: } والمطلقات يتربَّصبن بأنفسهنَّ ثلاثة قروء {والقرء عند العرب من الأضداد، يطلقونه على الحيض وعلى الطهر، وأنت أعرف بما أنزل عليك، فما أراد الله بالقرء هنا؟ فقال لي صلى الله عليه وسلم: إذا فرغ قرؤها فأفرغوا عليها الماء وكلوا مما رزقكم الله قلت: يا رسول الله، فإذًا هو الحيض، فتبسم وقال لي: إذا فرغ قرؤها فأفرغوا عليها الماء، وكلوا مما رزقكم الله فعاودت عليه، فإذًا هو الحيض يا رسول الله؟ فأعاد علي وهو يبتسم: إذا فرغ قرؤها فأفرغوا عليها وكلوا مما رزقكم الله، واستيقظت.
أنشدني أبو عبد الله محمد بن العربي لنفسه: [من الطويل]
خليليَّ عوجا بالكثيب وعرِّجا
…
على لعلع واطلب مياه يلملم
/143 ب/ فإنَّ بها من قد علمت ومن لهم
…
صيامي وحجِّي واعتماري وموسمي
محصَّبهم قلبي لرمي جمارهم
…
ومنحرهم نفسي ومشربهم دمي
فيا حادي الأجمال إن جئت حاجرًا
…
فقف بالمطايا ساعًة ثمَّ سلِّم
وناد القباب الحمر من جانب الحمى
…
تحيَّة مشتاق إليكم متيَّم
فإن سلَّموا فاهد السَّلام مع الصَّبا
…
وإن سكتوا فارحل بها وتقدّم
إلى نهر عيسى حيث حلّت ركابهم
…
وحيث الخيام البيض من جانب الفم
وكاد بدعد والرَّباب [وزينب]
…
وهند وسلمى ثمَّ لبنى وزمزم
وسلهنَّ هل بالحلبة الغادة الَّتي
…
تريك سنى البيضاء عند التَّبسُّم
وأنشدني أبو عبد الله لنفسه: [من الطويل]
سلام على سلمى ومن حلَّ بالحمى
…
وحقَّ لمثلي رقَّة أن يسلِّما
وماذا عليها أن تردَّ تحيَّة
…
علينا ولكن لا احتكام على الدّمى
سروا وظلام اللَّيل أرخى سدوله
…
فقلت لها صبًا غريبًا متيَّيما
أحاطب به الأشواق شوقًا وأرصدت
…
له راشقات النَّبل أيًّان يمَّما
فأبدت ثناياها وأومض بارق
…
ولم أدر من شقَّ الحنادس منهما
وقالت أما يكفيه أنِّي بقلبه
…
يشاهدني في كلِّ وقتٍ أما أما
/144 أ/ وأنشدني أيضًا لنفسه: [من الطويل]
وزاحمني عند استلامي أوانس
…
أتين إلى التطواف معتجرات
حسرن عني أنوار الشُّموس وقلن لي:
…
تورَّع فموت النَّفس في اللَّحظات
فكم قد قتلنا بالمحصب من منى .... نفوسًا أبيّات لدى الجمرات
وفي سرحة الوادي وأعلام رامة
…
وجمع وعند النفر من عرفات
ألم تر أن الحسن يسلب من له
…
عفاف فيدعى سالب الحسنات
فموعدنا بعد الطواف بزمزم
…
لدى القبة الوسطى لدى الصَّخرات
هنالك من قد شفَّه الوجد يشتفي
…
بما شاءه من نسوة عطرات
إذا خفن أسدلن الشُّعور فهنَّ من
…
غدائرها في ألحف الظُّلمات
وأخبرني إبن العربي، قال: أنشدني بعض الفقراء، بيتًا مفردًا، لا يعرف أخًا، وهو:
[من الكامل]
كلُّ الَّذي يرجو نوالك أمطروا
…
ما كان برقك خلَّبًا إلَاّ معي
فأعجبني مغزاه، وقفوت معناه، فعملت أبياتًا، جعلته واحدًا منها:
[من الكامل]
قف بالطُّلول الدَّارسات بلعلع
…
واندب أحبَّتنا بذاك البلقع
/144 ب/ قف بالدِّيار ونادها متعجبًا
…
منها بحسن تلطّف بتفجُّع
عهدي بمثلي عند بانك قاطفًا
…
ثمر القدود وود روض أينع
كلُّ الَّذي يرجو نوالك أمطروا
…
ما كان برقك خلَّبًا إلَاّ معي
قالت: نعم! قد كان ذاك المتلقى
…
في ظلِّ أفناني بأخصب موضع
إذ كان برقي من بروق مباسم
…
واليوم برقي لمع هذا اليرمع
فاعتب زمانًا مالنا من حيلًة
…
في دفعه ما ذنب منزل لعلع
فعذرتها لمَّا سمعت جوابها
…
تشكو كما أشكو بقلب موجع
وسألتها لمَّا رأيت ربوعها
…
مسرى الرِّياح الذَّاريات الأربعاء
هل أخبرتك رياحهم بمقيلهم؟
…
قالت: نعم، قالوا: بذات الأجرع
حيث الخيام البيض تشرق للَّذي
…
تحويه من تلك الشُّموس الطُّلَّع
وأنشدني لنفسه أيضًا: [من مجزوء الرجز]
بين النَّقا ولعلع
…
ظباء ذات الأجرع
ترعى بها في خمر
…
خمائلاً وترتعي
ما طلعت أهلَّةً
…
بأفق ذاك المطلع
إلَاّ وددت أنَّها
…
من حذر لم تطلع
/145 أ/ ولا بدت لامعًة
…
من برق ذاك اليرمع
إلَاّ اشتهيت أنَّها
…
لما بنا لم تلمع
يا دمعتي وانسكبي
…
يا مقلتي لا تقلعي
وأنت يا حادي أتَّئد
…
فالنَّار بين أضلعي
قد فنيت ممَّا جرى
…
خوف الفراق أدمعي
فارحل إلى وادي اللِّوى
…
مربعهم ومصرعي
إنَّ به أحبَّتي
…
عند مياه الأجرع
ونادهم: من لفتًى
…
ذي لوعة مودِّع
رمت به أشجانه
…
بهماء رسم بلقع
يا قمرًا تحت دجى
…
خذ منه شيئًا ودع
وزوِّديه نظرًة
…
من خلف ذاك البرقع
أو علِّليه بالمنى
…
عساه يحيى ويعي
ما هو إلَاّ ميِّت
…
بين النَّقا ولعلع
فمت يأسًا وأسى
…
كما أنا في موضعي
ما صدقت ريح الصَّبا
…
حين أتت بالخدع
/145 ب/ قد تكذب الرِّيح إذا تسمع ما لم تسمع
وأنشدني أيضًا: [من الوافر]
أطارح كلَّ هاتفة بأيك
…
على فنن بأفنان الشُّجون
فتبكي إلفها من غير دمع
…
ودمع الحزن يهمل من جفوني
أقول لها وقد سمحت جفوني
…
بأدمعها تخبِّر عن شؤوني:
أعيذك بالَّذي أهواه علم
…
وهل قالوا: بأفياء الغصون
وقال، وأنشدنيه:[من الكامل]
عند الكثيب من جبال زرود
…
صيد وأسد من لحاظ الغيد
صرعى وهم أبناء ملحمة الوغى
…
أين الأسود من العيون السُّود
قتلت بهم لحظاتهنَّ وحبَّذا
…
تلك الملاحظ من بنات الصِّيد
وقال وأنشدنيه: [من الطويل]
ثلاث بدور لم يزنَّ بريبة
…
خرجن إلى التَّنعيم معتجرات
حسرن عن أمثال الشُّموس إضاءًة
…
وليس بالإهلال معتمرات
وأقبلن يمشين الرُّويدا كمثل ما
…
تمشي القطا في الحف الحبرات
وقال، وأنشدنيه:[من البسيط]
/146 أ/ نفسي الفداء لبيض خرَّد عرب
…
لعبن بي عند لثم الرُّكن والحجر
ما تستدُّل إذا ما تهت خلفهم
…
إلَاّ بريحهم من طيِّب الأثر
ولا دجى بي ليل ما به قمر
…
إلَاّ ذكرتهم فصرت في القمر
وإنَّما حين أمشي في ركابهم
…
فاللَّيل عندي مثل الشَّمس في البكر
غالزت من غزلي منهنَّ واحدًة
…
حسناء ليس لها أخت من البشر
إن أسفرت عن محيَّاها أرتك سنًى
…
مثل الغزالة إشراقًا بلا غر
الشَّمس غرَّتها واللَّيل طرَّتها
…
شمس وليل معًا من أعجب الصُّور
فنحن في اللَّيل في ضوء النَّهار به
…
ونحن في الظُّهر في ليل من الشَّعر
وقال وأنشدنيه: [من البسيط]
بين الحشا والعيون النُّجل حرب هوى
…
والقلب من أجل ذاك الحرب في حرب
لمياء لعساء معسول مقبَّلها
…
شهادة النَّحل ما تلقي من الضَّرب
ريَّا المخلخل ديجور على قمر
…
في خدِّها شفق غصن على كثب
حسناء حالية ليست بغانية
…
تفترُّ عن برد ظلم وعن شنب
تصدُّ جدًّا وتلهو بالهوى لعبًا
…
والموت ما بين ذاك الجدِّ واللَّعب
ما عسعس اللَّيل إلَاّ جاء يعقبه
…
تنفُّس الصُّبح معلومٌ من الحقب
/146 ب/ ولا تمرُّ على روض رياح صبًا
…
يحوي على كاعبات خرَّد كعب
إلَاّ أمالت ونمَّت في تنسمها
…
بما حملن من الأزهار والقضب
سألت ريح الصَّبا عنهم لتخبرني
…
قالت: وما لك في الأخبار من أرب
في الأبرقين وفي برك الغماد وفي
…
برك الغميم نزلت الحيَّ عن كثب
لا تستقلُّ بهم أرض فقلت لها
…
أين المفر وخيل الشَّوق في الطَّلب
هيهات ليس لهم معنًى سوى خلدي
…
فحيث كنت يكون البدر فارتقب
أليس مطلعها وهمي ومغربها
…
قلبي فقد زال شؤم البان والغرب
ما للغراب نعيق في منازلنا
…
وما له في نظام الشَّمل من ندب
وقال، وأنشدنيه:[من السريع]
حمامة البان بذات الغضا
…
ضاق لما حمَّلتنيه الفضا
من ذا الذي يحمل شجو الهوى
…
من ذا الَّذي يجرع مرَّ القضا
أقول من وجد ومن لوعة:
…
يا ليت من أمرضني مرَّضا
مرَّ بباب الدَّار مستهزئًا
…
مستخفيًا معتجزًا معرضا
ما ضرني تعجيره إنَّما
…
أضرّ بي من كونه أعرضا
وقال وأنشدنيه: [من الرجز]
/147 أ/ يا حادي العيس بسلع عرِّج
…
وقف على البانة بالمدرَّج
ونادهم مستعطفًا مستلطفا
…
يا سادتي هل عندكم من فرج
برامة بين النَّقار وحاجر
…
جارية مقصورة في هودج
يا حسنها من طفلة غرَّتها
…
تضيء للطارق مثل السرج
لؤلؤة مكنونة في صدف
…
من شعر مثل سواد السَّبج
كأنَّها شمس ضحًى في محمل
…
قاطعة أقصى معالي الدَّرج
إن حسرت برقعها أو سفرت
…
أزرت بأنوار الصَّباح الأبلج
ناديتها بين الحمى ورامة
…
من لفتى حلًّ بسلع يرتجي
من لفتًى متيَّه في مهمه
…
مولًّه مدلَّه العقل شجي
من لفتى دمعته مغرقة
…
أسكره خمر بذاك الفلج
من لفتًى زفرته محرقة
…
تيَّمه جمال ذاك البلج
قد لعبت أيدي الهوى بقلبه
…
فما عليه في الَّذي من حرج
وقال وأنشدنيه: [من الطويل]
ألا يا نسيم الرِّيح بلِّغ مها نجد
…
بأنِّي على ما يعلمون من العهد
/147 ب/ وقل لفتاة الحيِّ موعدنا الحمى
…
غديَّة يوم السَّبت عند ربي نجد
على الرَّبوة الحمراء من جانب الضُّوى
…
وعن أيمن الأفلاج والعلم الفرد
فإن كان حقًّا ما تقول وعندها
…
إلىَّ من الشَّوق المبرِّح ما عندي
إليها ففي حرِّ الظهَّيرة نلتقي
…
بخيمتها سرًّا على أصدق الوعد
فتلقي ونلقي ما نلاقي من الهوى
…
ومن شدَّة البلوى ومن ألم الوجد
أأضغاث أحلام أبشرى منامة
…
أنطق زمان كان في نطقه سعدي
لعلَّ الَّذي ساق الأماني يسوقها
…
عيانًا فيهدى روضها لي جنى الورد
وقال وأنشدنيه: [من الطويل]
ألا هل إلى الزُّهر الحسان سبيل
…
وهل لي على آثارهنَّ دليل
وهل لي بخيمات اللِّوى من معرَّس
…
وهل لي إلى ظلِّ الأثيل مقيل
فقال لسان الحال يخبر أنّها
…
تقول تمنَّ ما إليه سبيل
ودادي صحيح فيك يا غاية المنى
…
وقلبي من ذاك الصَّحيح عليل
تعاليت من بدر على القلب طالع
…
وليس له بعد الطُّلوع أفول
فديتك يا من عزَّ حسنًا ونخوًة
…
فليس له بين الحسان عديل
فروضك مطلول ووردك يانع
…
وحسنك معشوق عليه قبول
/148 أ/ وزهرك بسَّام وغصنك ناعم
…
تميل له الأرواح حيث يميل
وظرفك فتَّان وطرفك صارم
…
به فارس البلوى عليَّ يصول
وقال وأنشدنيه: [من المتقارب]
لظبية ظبى صارم
…
تجرِّد من طرفها السَّاحر
وفي عرفات عرفت الَّذي
…
تريد فكم أك بالصَّابر
وليلة جمع جمعنا بها
…
كما جاء في المثل السَّائر
يمين الفتاة يمين فلا
…
تكن تطمئنُّ إلى غادر
منى بمنى نلتها ليتها
…
تدوم إلى الزَّمن الآخر
تولَّعت في لعلعٍ بالَّتي
…
تريك سنى القمر الزَّاهر
رمت رامًة وصبت بالصَّبا
…
وحجَّرت الحجر بالحاجر
وشامت بريقًا على بارقٍ
…
بأسرع من خطرة الخاطر
وغاضت مياه الغضا من غضى
…
بأضلعه من هوى ساحر
وبانت ببان النَّقا فانتقت
…
لآلي مكنونه الفاخر
وآضت بذات الأضا القهقري
…
حذارًا من الأسد الخادر
بذي سلم أسلمت مهجتي
…
إلى لحظها الفاتك الفاتر
/148 ب/ حمت بالحمى ولوت باللِّوى
…
كعطفة جارحها الكاسر
وفي عالج عالجت أمرها
…
لتفلت من مخلب الطَّائر
خورنقها خارق للسَّما
…
فيسمو اعتلاًء على النَّاظر
[804]
محمَّد بن عليِّ بن [محمد بن] يوسف بن قليج بن تكين خان بن محمود خان بن إيل خان، أبو عبد الله بن أبي الحسن الموصليُّ.
من مولّدي الترك، وقد قدّمت شعر والده وعمّه في مكانهما، كان في زمن أبيه ذا نعمة وافرة، وجاه بسيط، متعلقًا بخدمة الملك العادل نور الدين أبي الحارث أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي، المستولي على الموصل.
وكان أميرًا جليلاً، مذكورًا في زمانه، يخالط أهل الأدب والحديث، ويغشاه جماعة من الفضلاء.
أخبرني، أنه ولد بالموصل، يوم الخميس سادس عشر رجب سنة خمس وسبعين وخمسمائة، فلما توفي والده؛ تناقصت أحواله، وضعف أمره، وترك ما كان عليه،
وصار فقيرًا، يلبس الصوف، وينتقل في البلاد ويخترقها.
شاهدته /149 أ/ بمدينة حلب؛ وهو شيخ، والفقر مؤثّر عليه، والحاجة قد مسَّته، والدَّهر قد أناخ عليه بكلكله، وله عيال، وهو على أشدّ ما يكون من الفقر والفاقة؛ وربما استجدى بأشعاره، وارتزق بها كبراء حلب، ويقنع منهم بالنزر الطفيف.
ورأيته من المدعين في معرفة الحديث وسماعه، ويقول المقطعات من الشعر، تلجئه إلى ذلك الحاجة والضرورة.
أنشدني لنفسه، وقد عمل أربعين حديثًا، وأهداها إلى بعض الملوك من بني أيوب:
[من الطويل]
وإنِّي في حملي كتابًا وضعته
…
وأودعته النَّثر المفصَّل والشِّعرا
إلى ملك في العلم واحد عصره
…
كمهد إلى شمس النَّهار سنى الشِّعرى
وأنشدني لنفسه، وقد اقترح عليه في هذا الرويّ والقافية، فعمل ذلك ارتجالاً:
[من الكامل]
أفديهم من نازحين وحبُّهم
…
دان على مرِّ الزَّمان مخيِّم
إن لاح برق هاج لي تذكارهم
…
فكأن نارًا في فؤادي أضرموا
أو هبَّت النسمات من واديهم
…
وجَّهت وجهي نحوهم فأسلِّم
/149 ب/ يا مرسلين على البعاد تحيَّةً
…
أحيوا بها ميت الجوى حييتم
من لي بليلات قصار باللِّوى
…
ولَّت وسماري الأعزَّة أنتم
قسمًا بعقد عهودكم وودادكم
…
ولقد محضت الصِّدق فيما أقسم
ما راق طرفي غيركم ومسامعي
…
إلَاّ حديثكم إذا ما قلتم
ومن العجائب أنَّني أشتاقكم
…
ومن العيان إلى الضَّمير نقلتم
وعلى دياركم تحيَّة ذاكر
…
عصر الصِّبا الماضي بها وعليكم
وأنشدني لنفسه يمدح: [من الطويل]
ولمَّا أتى من نحو أرضكم الرَّكب
…
ولم يأتني منكم سلام ولا كتب
ولا مبلغ في الوفد عنكم رسالًة
…
يداوي بذكراها تباريحه الصَّبُّ
بكيت وما يجدي البكاء مع النَّوى
…
إلى أن جرى في الشَّرق من عبرتي غرب
وأنشدني لنفسه يمدح: [من الكامل]
ملك يجلُّ عن المديح كما علا
…
قدماه نسرًا في الفخار وفرقدا
عمَّ البسيطة خيره ونواله
…
للمعتفين وبأسه قهر العدا
لم يبق في الدُّنيا نداه معدمًا
…
يبغي النَّوال ولا سطاه ملحدا
والله ثمَّ إليه اشهد صادقًا
…
وكفى على قول امرئ أن يشهدا
/150 أ/ ما أبصرت في الحرب عين مثله
…
بل لا ولا رتب الممالك سيِّدا
تفديه أرواح الملوك وحسبها
…
شرفًا بذلك أن تكون له فدا
هذا الَّذي بالزُّهر من أيَّامه
…
أضحى الزَّمان متوَّجًا ومقلّدًا
إنزل بناديه وناد فلم يخب
…
والله من نادى المليك محمَّدا
أنا ضامن إن زرته لك منحًة
…
ترضي الوليَّ بها وتردي الحسَّدا
وأنشدني أيضًا من شعره: [من الطويل]
بكيت كما يبكي الغريب صبابًة
…
على وطن أقوى وغابت شموسه
وناجيت نفسي بالعتاب فلم تصخ
…
وقد سئمت ربعًا تولَّى أنيسه
وأنشدني لنفسه: [من الطويل]
وفي مصر للآداب سوق تجارة
…
لدى أهلها الغرِّ الكرام كرام
إذا استعرضوا نظم الكلام ونثره
…
يهون عليهم للعقود نظام
وأنشدني لنفسه، يمدح شرف الدين أبا البركات المستوفي – رضي الله عنه – بإربل:[من الخفيف]
قال لي قائل وقد رمت أهجو
…
إربلاً لازلت هجَّاًء سخيفا
كيف تهجو مصرًا حوى شرف الديـ
…
ـ ـن الوزير البرَّ التَّقيَّ العفيفا
/150 ب/ قلت أهجو غير الصَّديق عنادًا
…
قال: ما أرتضيك تهجو الكنيفا
وأنشدني أيضًا لنفسه في غلام أعمى: [من الوافر]
يقول عواذلي أعشقت أعمى؟
…
وأغريت اللَّوائم والعواذل
فقلت: عشقت منه كل معنًى
…
يخبِّر إذ وعاه كلُّ عاقل
رأى جفنيه قد فتن البرايا
…
بسحرهما وأعيت سحر بابل
فأرسل مرسل الصُّدغين منه
…
فأبطل سحرها والسِّحر باطل
وأنشدني لنفسه، وكان محبوسًا بقلعة إربل:[من الطويل]
كأنِّي في سجني وضيق فنائه
…
وقد تركوني فيه مرتهنًا وحدي
دفين جفاه أهله وحميمه
…
وغادره الحفَّار في ظلمة اللَّحد
وأنشدني لنفسه في حمام: [من السريع]
ضدَّان في حمَّامكم هذه
…
سكَّانها بينهما قد شقوا
كأنَها قلبي في حرِّه
…
وماءها قلب الَّذي أعشق
وأنشدني أيضًا لنفسه في أوائل شهر ربيع الأوّل، بمحروسة حلب سنة خمس وثلاثين وستمائة:[من الكامل]
/151 أ/ عد عن ملام المستهام وزجره
…
فمتى يفيق من الغرام وسكره
أو ما ترى الحدق المراض وسحرها
…
جاءت تقيم لديك واضح عذره
إن شئت لم أولاً ...... بقلبه
…
أودى الفريق مع الفراق وصبره
وإذا بدا برق فليس وميضه
…
إلَاّ زناد قادح في صدره
أو هبَّ من نجد نسيم بارد .... أذكى بذاك البرد خامد جمره
صاح يميل من الدَّلال كأنَّه
…
ثمل برقَّة ريقه وبخمره
وعلى العقيق ممنَّع يوم النَّوى
…
فضحت مدامعه قلائد نحره
لو لم يكن من ريقه ثملاً لما
…
بالصَّدِّ عربد ظالمًا وبهجره
كم أطلق الدَّمع المصون وقد غدا
…
قلب المحبِّ مقيَّدًا في أسره
أفديك من مذك سعيرًا بالحشا
…
عند الوداع ببارد من ثغره
آهًا لساعات التواصل بالنَّقا
…
ولطيب أيام الشَّباب وعصره
أيَّام أسحب في مراتع رامة
…
ذلَّ المذلِّ بنهيه وبأمره
كم متُّ من شوقي على روض الحمى
…
فيعود ينشرني النسيم بنشره
يا سعد حدِّث عن منى أو ركبه
…
فالنَّوم نفرَّه بصارخ نفره
وإذا وصلت الشِّعب ناد بأهله
…
..... راسخ صخره
من ذا يحرِّم وصل مضطرِّ الهوى
…
..... محرم هجره
/151 ب/ الذي يجازي كل حافظ عهده
…
أم شيمة الحبِّ الجزاء لعذره
يا صاح قبل الحبِّ حلوًا كنت لم
…
أحفل بمن غمرته لجَّة بحره
ما زلت أولع بالهوى متعرِّضًا
…
حتَّى بليت بحلوه وبمرِّه
وأنشدني أيضًا من شعره قوله: [من الطويل]
أما مخبر اين استقلُّوا ويمَّموا
…
وفي أيِّ دار بعد نعمان خيَّموا
وكم حلَّلوا قتلي على الخيف وانثنوا
…
عن العهد والوصل المحلَّل حرَّموا
وقد ذبحوا في عيني النَّوم بعدهم
…
فمن ذاك في أجفانها يسفح الدَّم
أيا جيرة الوادي إلى م أعاتب الطُّـ
…
ـلول وصمُّ الصَّخر لا يتكلَّم
نقضتم على الرَّمل العهود ومن بنا
…
على الرَّمل أمسى كيف لا يتهدَّم
وأرضيتم الواشي وأسخطت عذَّلي
…
وخالفت ........
وحقِّ ليالينا القصار بوصلكم
…
وعهد حفظناه لكم وأضعتم
إذا بارق من أرضكم لاح خلته
…
لهيب سعير بين جنبي يضرم
وإن نسمة هبَّت من الشِّعب سحرًة
…
توحَّمت طوعًا نحوها فأسلَّم
ويطربني عذل العذول ومن نأى
…
محبًا لذكرى حبِّه يتألَّم
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من البسيط]
/152 أ/ لا أوحش الله من كتب إذا وردت
…
كأنَّما نشرت من طيها الفرجا
أكرم بها ومبهديها وحاملها
…
فقرَّة العين لي فيها وألف رجا
وأنشدني لنفسه، ما كتبه إلى القاضي الإمام بهاء الدين أبي محمد الحسن بن إبراهيم بن الخشاب – أيده الله تعالى-:[من المنسرح]
يا سيِّدًا لم تزل مراكبه
…
راكبًة فوق منكب الشِّعرى
علوت قدرًا على المدائح بل
…
..... بوصفك الشِّعرا
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من البسيط]
لو كنت شاهدت يوم البين موقفنا
…
أبصرت منِّي ما أبدى لك العجبا
روحي مضت وبقي الجثمان بعدهم
…
لقًى يقلِّبه بين الثِّياب هبا
وكلَّما صعدت ..... الضلوع
…
............ صغته ذهبا
وأنشدني لنفسه، ما كتبه إلى أخيه، بعد تهاجر كان بينهما:[من الكامل]
قدِّمت قبلك وافتديت بمهجتي
…
يا ذا الَّذي من غير جرم يعتب
أولست تعلم أنَّ عتبك ظالمًا
…
ممَّا جناه النَّحل عندي أعذب
/152 ب/ وأنشدني لنفسه، يلغز باسم:[من السريع]
لو صحَّ لي من منيتي زورة
…
تسخن منها عين واشيه
كنت أسمه من بعد عكس إذا
…
صار أخير الإسم ثانيه
هذا اسم من أهواه لكنَّني
…
خوفا عليه لا أسمِّيه
وأنشدني لنفسه: [من البسيط]
كأنَّما الرَّاح في الإبريق كامنة
…
وقد بدا نورها للكأس فانصدعا
وأنشـ ....... [من المجتث]
إن سرَّ بالعيد قوم
…
فما سررت بعيدي
وكيف يفرح عان
…
مهدَّد بوعيد
يودُّ أن ينظر الأهـ
…
ـل نظرًة من بعيد
وليس يعطي مناه
…
من كان غير سعيد
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من الطويل]
إذا نسمة هبَّت لنا من دياركم
…
بكيت وإن برق من الغور أو مضا
ومنَّيت نفسي رجعًة لوصالكم
…
وهيهات أن يدني من العيش ما مضى
/153 أ/ وكان دمًا دمعي ولكنَّ عبرتي
…
يصعِّدها حزني فينهلُّ أبيضا
[805]
محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن عبد الله بن سجمان البكري – من بكر بن وائل – الشريشي الأندلسي.
كان مولده تقديرًا في سنة ستمائة؛ سمع الحديث الكثير بالأندلس، وديار مصر، والحجاز، والشام، وبغداد. واستظهر القرآن الكريم، وقرأ علم الأدب والعربية على جماعة. ترَّبى بالأندلس، وقرأ فقه الإمام مالك – رضي الله عنه.
أنشدني لنفسه، يلتمس من إنسان كتاب "التلقين" على مذهب الإمام مالك بن أنس – رضي الله عنه – فمنعه، وكان قبل ذلك قد أعاره إياه، ثم كتب له رقعة يعتذر إليه في المنع:[من البسيط]
ما إن وجدت أطال الله عمرك لي
…
وللمكارم توليها وتنشرها
من منعكم منِّي التَّلقين موجدًة
…
عليك في النَّفس أطويها وأسطرها
قد طال ما كان عندي وانتفعت به
…
وكم لكم من أياد لست أحصرها
وفي الضَّمير لكم ودُّ ومنزلة
…
منع الحوائج ممَّا لا يغيِّرها
/153 ب/ إذ الصداقة صحَّت من أخي ثقة
…
على صفاء فما شيء يكدِّرها
وأنشدني أيضًا لنفسه من قصيدة: [من الطويل]
لقد سار فينا سيرًة عمريَّةً
…
وأذهب عنَّا الجور فالعد قائم
إذا ما انتضى للخطب يقظان عزمه
…
غدت عزمات الدَّهر وهي نوائم
ففي الحرب للأعداء بالقهر قاصم
…
وفي السِّلم للأموال بالرِّفق قاسم
لكلِّ بيوت الله بالعلم عامر
…
وكلِّ بيوت الشِّرك والجهل هادم
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من الكامل]
هلَاّ عليك كما كلفت جميلا
…
إن تولي الصَّبَّ المشوق جميلا
يا واصلي بالهجر إنَّك قاتلي
…
هلَاّ بوصلك أن يكون وصولا
أيحلُّ قتل الصَّبِّ في شرع الهوى
…
لا والَّذي قد أنزل التَّنزيلا
حزني من الجفن العليل فإنَّه
…
قد صيَّر الجسم الصَّحيح عليلا
يا مالكًا رقَّ الأنام بحسنه
…
ما بال طرفك للعبيد قتولا
أو ما ترقُّ لمدنف ومتيَّم
…
أضحى بحبِّك هائمًا مخبولا
أضناه طول الشَّوق حتَّى إنَّه
…
ما إن يبين لمبصريه نحولا
ألف السُّهاد مع الضَّنى فجفونه
…
ما إن تذوق من المنام قليلا
/154 أ/ يرعى النجوم إلى الصَّباح وينثني
…
حتَّى المساء بذكركم مشغولا
فوحقِّ حسنك والصَّبابة إنَّني
…
ما خفت موتي بالهوى مقتولا
لكن أخاف عليك إن أتلفتني
…
إذ كان شخصك في الفؤاد نزيلا
هذا دمي لك يا ظلوم أبحته
…
أو ما تخاف لدى الحساب جليلا
أقسمت أنَّك في جمالك واحد
…
ما إن أرى لك في الملاح مثيلا
[806]
محمَّد بن عبد القاهر بن هبة الله بن عبد القاهر بن عبد الواحد بن يوسف ابن النصيبيِّ، العدل الأمين، أبو عبد الله بن أبي المعالي.
أخبرني أنه ولد ليلة الجمعة الثالث والعشرين من شوال سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
سمع الحديث النبوي كثيرًا؛ بحلب، ودمشق، ومصر، وبغداد. وهو من بيت مذكور بحلب معروف، وهو عدل من عدولها وقبره بها، وتولى عدّة أعمال منها؛ خزن مال الأيتام والنظر فيه، وغير ذلك، وأفادني كثيرًا من رواياته.
رأيته شيخًا حسنًا صحيح الرواية، جيّد المعرفة، أنشدني لنفسه يوم الجمعة ثالث جمادى الآخرة /154 ب/ بحلب المحروسة، بجامعها سنة خمس وثلاثين وستمائة، قال: أنشدنا قاضي القضاة أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن شداد – رضي الله عنه – قال: أنشدني القاضي الفاضل لبعضهم على صعد: [من مجزوء الرمل]
قلت للزلمة جودي
…
لا تمرِّي بلهاتي
وبخفي خلِّ حلقي
…
فهو دهليز حياتي
وأنشدني لنفسه: [من الطويل]
نظرت إلى الدُّنيا الغرور بعَّزة
…
وغفلة مشغول بها يتجاهل
وكيف أرى دارًا لذيذ نعيمها
…
وأطمع أن أحظى به غير زائل
وضيعت دارًا للخلود معدَّةً
…
بلذَّات دار أكملت للرذائل
ولمَّا رأيت الأقدمين تقدَّموا
…
ولم يحصوا إلَاّ على غير طائل
رجعت إلى النَّفس اللَّجوج ألومها
…
وقلت لقد ضيَّعت حقًّا بباطل
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من الرمل]
كم عدٍّو لي من ظهري وكم
…
من حميم لم تلده لي أمِّي
وكذا الخال وبال قاله
…
قبل هذا كلُّ ذي فهم وعلم
فاحذر الأخوة والإبن وكن
…
من بني الأعمام في همٍّ وغم
/155 أ/ وأنشدني لنفسه: [من الخفيف]
إنَّ حمَّامنا الحمام لمن را
…
م نعيمًا من غير ضرٍّ وبؤس
هي مثل الموت المنغِّص للَّذا
…
ت بين بردٍ ويبس
[807]
محمَّد بن يحيي بن محمَّد بن هبة الله بن أبي جرادة أبو المفاخر بن أبي الفتح العقيليُّ.
من أهل حلب وأبناء أجلتها وقضاتها وأكابرها، فضلاً وعلمًا.
سمع الكثير من الحديث النبوي، وتفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة – رضي الله عنه – وأتقن صدرًا جيدًا منه، وناظر وتكلم مع الفقهاء، وقرأ أنموذجًا صالحًا من علم العربية، على الشيخ الفاضل موفق الدين أبي البقاء يعيش بن علي بن يعيش النحوي، وأتقنه معرفة.
وهو شاب كيس دمث الأخلاق، جميل الخطاب، حلو المحاضرة، وربما جادت قريحته بشيء من الشعر على سبيل الرياضة فيجيد فيما يأتي به.
أنشدني لنفسه، كتبها إلى يونس بن المرتضى الشاعر:[من الطويل]
/155 ب/ ولابد أن يعلو بك الفضل رتبًة
…
يجلُّ عن التَّحديد في الطُّول والعرض
وأتلو على رغم الزَّمان وكيده
…
} كذلك مكَّنَّنا ليوسف في الأرض {
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من الطويل]
وردت خباها والرَّقيب مهوِّم
…
فهبَّت سريعًا قبَّح الله نعله
تعرَّف حالي فانصرفت
…
... ولي مصدر .... أضمر الفعل قبله
وأنشدني أيضًا من شعره: [من البسيط]
قالت: طرقت بيوت الحيِّ في غسق
…
ثمَّ اهتديت إلينا، قلت: بالقمر
تبسَّمت فأضاء الخدر فاستترت
…
عن النَّواظر في سحب من الشَّعر
وأنشدني أيضًا قوله: [من الكامل]
سرَّحت طرفي في رياض محاسنٍ
…
عرف النَّسيم بنشرها متأرج
فالقدُّ غصن، واللَّواحظ نرجس
…
والخدُّ ورد، والعذار بنفسج
[808]
محمَّد بن محمَّد بن حنين بن عمر بن أبي سعيد العربيُّ، البصريُّ المولد، الواسطي المنشأ، النحويُّ.
أخبرني أنَّه ولد في سنة إثنتين وستمائة.
شاب ألحى، ربع القامة، ذو فنون من العلم والأدب، حفظ القرآن المجيد، /156 أ/ وتفقه على مذهب الشافعي، وأخذ علم النحو عن أبي الفتح محمد بن أبي الفتح الواسطي، وأبي الحسن علي بن عدلان بن علي النحوي الموصلي، بمدينة السلام، وغيرها وعلى خاطره من النكت الأدبية، وعنده كيس ولطافة، ودماثة أخلاق.
ولمّا انحدرت صحبة الأمير الكبير العادل ركن الدين، إلى بلد البطائح، واستقر بها المقام، أبلغ أنَّ بواسط رجلاً فاضلاً، وأنَّه قد انحدر إلى قرية تدعى:"بأم عبيدة"؛ فأرسل في استدعائه، فأقبل إليه، فرآه كاملاً في كل فضل، فندبه على تأديب ولده الأمير شهاب الدين أبي الفضل عيسى – بلّغه الله تعالى فيه ما يتمناه – وقررّ له جامكية، ورتب له جاريًا يكفيه ويفضل عنه، في رأس كل شهر، وأصعد صحبته إلى مدينة السلام، وقربه وأدناه، وأنعم عليه.
أنشدني لنفسه، ليلة الجمعة الثانية عشر [ة] من شعبان، ببلد البطائح من الأعمال الواسطية، سنة تسع وثلاثين وستمائة، من قصيدة منها:[من الخفيف]
دمت ما دامت الفواعل أسما
…
ًء صراحًا واشتدَّ جرس الطَّاء
وتمكَّنت ما تمكَّنت الألـ
…
ـفاظ حال الإعراب لا في البناء
. ما ارتفع الفا
…
عل أو ضمَّ خالد في النِّداء
/156 ب/ ثمَّ لازلت في دسوتك منصو
…
بًا كزيد في حالة الإغراء
وأميلت رقاب شانيك بالفعـ
…
ـل خلا من حروف الاستعلاء
لأمدَّن في مديحك صوتي
…
مثل مدِّ الكوفيِّ في هؤلاء
وأنشدني أيضًا لنفسه من قصيدة: [من الكامل]
ما ضر من بر
…
عليها هتن
…
لو أنها جادت لصبٍّ .....
علقت شرار الحبِّ في أحشائها
…
وتضرَّمت مثل اضطرام جهنَّم
وافلته المأسور وازفراته
…
ما في الرِّفاق مساعد لمتيَّم
وأنشدني أيضًا لنفسه، يخاطب بها بعض من كان يتردد إليه، ويستفيد عليه بشيء من الأدب:[من الطويل]
أبا القاسم اذكر عهدنا واستعن بنا
…
تجدنا ولا تحلل عهود المواثق
وكن عالمًا أنَّ اللَّذاذة تنقضي
…
ورَّبك بالمرصاد من كلِّ ناطق
[809]
محمَّد بن عمر بن الحسين بن محمَّد بن منصور البغدادي الفارقي.
من أهل ميَّا فارقين ولادًة /157 أ/ ومنشأ.
أخبرني أنه ولد سنة إحدى وستمائة.
وهو شاب له طبع موات في نظم الشعر، وقريحة جيدة في استنباط المعاني.
أنشدني لنفسه في سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وذلك حين افتتح المسلمون قلعة بالروم، وليلة فتحها احترقت بأجمعها، فتطيّر رب الدولة من ذلك، فقال:"والقلعة هي زينجا ببلد دايت": [من البسيط]
لا تحسب القلعة الميمون طائرها
…
خربتها يا أبا الهيجاء من عار
لكنَّها أشركت بالله مذ ....
…
فطهَّر الله ذاك الشِّرك بالنَّار
وله: [من الطويل]
فواعجبًا إنِّي ظللت بصدغه
…
على قرَّة من جفنه وهو مرسل
وأعجب من ذا أنَّ بي منه عارضًا
…
أصبت به والصدغ منه مسلسل
وقال أيضًا: [من مجزوء الكامل]
بين المثقَّفة الطِّوا
…
ل السُّمر والبيض القصار
رشا أطعت صابتي
…
فيه وعاصيت اصطباري
وسنان يجلو طرفه
…
كأس الصَّبابة والعقار
لا غرو أن لبس العذا
…
ربأن خلعت له عذاري
/157 ب/ لله ليلة زارني
…
واللَّيل مسدول الأزار
فحبا يدي بعقاره
…
وأعضته عنها وقاري
ولثمته فوردت في
…
ماء النَّعيم لهيب نار
ولربَّ ليل كالغدا
…
ف هلاله تحت السِّرار
أطلعت شمس رجاي فيـ
…
ـه فعاد لي مثل النَّهار
ومن مديحها:
فشعاره النُّعمي علـ
…
ـيَّ وشكره أبدًا شعاري
يهني بيمنى راحتيـ
…
ـه حيث باليسرى يساري
ولتصنع الأيَّام ما
…
شاءت فإنَّ به انتصاري
إنِّي أخاف الحادثات
…
وجورها ونداه جاري
وله: [من الطويل]
وأسمر منه القدُّ أسمر ذابل
…
فؤادي عليه ناصر لي وخاذلي
إذا ما أتى أثنت عليه عواذلي
…
أيا حسن من تثني عليه العواذل
من السُّمر أودى بالنُّفوس قوامه
…
سجيَّة نفس كلِّ أسمر قاتل
له رامح من قدِّه غير راحم
…
وغير شفيق في المحاجر بابلي
/158 أ/ رماني فما أخطت فؤادي سهامه
…
وهب أخطأت قلبي فكلِّي مقاتل
وزار وقد مالت به نشوة الصبا
…
وعنق الثُّريَّا في المجرَّة مائل
فقبَّلت ما أبداه لي برق ثغره
…
وعانقت ما أخفته عنِّي الغلائل
بنفسي وما لي تلك ليلة وصله
…
لقد كان فيها للصباح شمائل
نعمت به فليصنع الدَّهر بعدها
…
مشيئته بي ولتغلني الغوائل
وقال يمدح رشيد الدين عمر بن القصّار الفارقي – أسعده الله-: [من البسيط]
إن كان عنِّي رشيد الدِّين مستترًا
…
ما جود كفَّيه عنِّي الدَّهر مستور
فهو الرَّشيد به أمسيت معتصمًا
…
من الخطوب ورأيي فيه منصور
وقال وكتبها إلى صديق: [من البسيط]
يقبِّل الأرض عبد من عبيدك لو
…
يسطيع شوقًا إلى تلك العلا طارا
لكن كما تعلم الأيَّام مقعدة
…
فقد أقامت له الأيَّام أمدارا
وقال أيضًا: [من الكامل]
ما نام لي حتَّى بدا
…
في خدِّه ليل العذار
واليوم سهل في الدُّجى
…
من حيث يعسر في النَّهار
/158 ب/ وقال أيضًا: [من مجزوء الرمل]
زار واللَّيل بهيم
…
أبلج الوجه رخيم
من بني الرُّوم رشيق
…
فاتر المقلة ريم
وعلى كفَّيه شمس
…
طلعت فيها النُّجوم
من بنات الكرم بكر
…
كفؤها الندب الكريم
وقال أيضًا: [من الطويل]
سلام كأيَّام الشَّبيبة والصِّبا
…
عليك ومثل الرُّوض هبَّت به الصَّبا
سلام امرئ إن جاز في ليل فكره
…
أرته به آراؤه فيك كوكبا
تغرَّب عنكم غير أنَّ فؤاده
…
لديكم فيا لله ما إن تغرَّبا
تذكرَّ لو أجدى عليه ادكاره
…
زمانًا بكم كان الرَّبيع واطيبا
سأركب في إدراكه اللَّيل أدهمًا
…
وأجنب في تلقائه الصُّبح أشهبا
عساي وعلِّي ما اجتليت
…
... من العيش أجنيه بقربك مذهبا
وله: [من مجزوء الكامل]
جمعت مسرَّات الزَّما
…
ن لنا كما جمع الكمال
تاريخه يأتي إليـ
…
ـته يسرُّ في الصِّدق الرِّجال
/159 أ/ ..... أخَّرنه فكأنَّه
…
في وجنة الأيَّام خال
[810]
محمَّد بن عبد الوهاب بن محمَّد بن ظاهر بن حمزة، أبو بكر بن أبي محمَّد القرشيُّ، المعروف بابن البراذعيِّ.
نجم الكتّاب، من أهل دمشق، وأبناء أماثلها في الفضل والكتابة.
رأيته بحلب، في سنة إحدى وأربعين وستمائة، أخبرني أنه ولد بدمشق في سنة ستٍّ وسبعين وخمسمائة؛ شيخ أزرق العينين، نقي الشيبة، قد أصابه داء الفالج، فتلجلج لسانه، وثقل. يتعاطى مذهب الحريري – صاحب المقامات – في أقواله، يكتب خطًا حسنًا، وينشئ نظمًا ونثرًا، لم يكن على ذلك طلاوة، ويظهر عليه تكلّف.
لازم الشيخ أبا اليمن زيد بن الحسن الكندي، مدة طويلة، وقرأ عليه شيئًا من الأدب، وصحب أبا المحاسن محمد بن نصر بن عنين الشاعر، وروى عنه معظم أشعاره.
أنشدني لنفسه بحلب المحروسة يوم الخميس السادس من شهر شوال سنة إحدى وأربعين وستمائة يقتضي وعدًا: [من الكامل]
سرَّ الحسود بما جرى وبما بدا
…
من وعد مولانا الوزير بنفعه
/159 ب/ قد نال هذا بالسَّماع فهل أرى
…
في عينه ما قد جرى ف سمعه
وأنشدني أيضًا، وقد رأى في منامه، وهو ينشد بيتًا، فعمل أبياتًا، والبيت المذكور آخر الآبيات:[من البسيط]
لم ينتفع عالم يومًا بحكمته
…
إن لم يقدِّم عليها حسن نيَّته
ويترك العرض الفاني ويرفضه
…
ويطلب الجوهر الباقي بأوبته
وما انتفاع أخي الدّنيا بزخرفها
…
إذا ثوى في الثَّرى يومًا بوحدته
إنِّي امرؤ لست أبغى في الزَّمان سوى
…
عفو الإله وأن يجري .....
وقد لهجت بقول لا أغيِّره
…
عمري ولا حلت دهري عن مودَّته
إنَّ الذي منَّ في الدُّنيا بنعمته
…
إنِّي لأرجوه في الأخرى لرحمته
وأنشدني أيضًا لنفسه يقتضي وعدًا: [من الطويل]
ألا أيُّها المولى الَّذي عم رفده
…
وكلُّ وزير في البريَّة عبده
أيجمل أنِّي تحت ظلِّك ضائع
…
وأنت الَّذي في الدَّهر قد قلَّ مجده
وقد مسَّني ضرُّ ودين وفاقة
…
ويزداد هذا ما تأخَّر وعده
وأنشدني لنفسه، يمدح الشيخ العلاّمة /160 أ/ علم الدين السخاوي:
[من الكامل]
يا خابط الظّلماء ي بيدائه
…
أو ما سلمت من السرى وعنائه
عرِّج على الشَّام الشَّريف ولذ به
…
تلتذُّ منه بظلِّه وبمائه
لا تنزلنَّ إلى الغوير ولا تزر
…
جيرانه فالجور في أرجائه
وارجع إلى الرَّأي السَّديد وعدِّ عن
…
ذكر الهوى ونعيمه وشقائه
وانزل على الجبل المنيف بجلِّق
…
فالصًّالحون بسفحه وفنائه
واقبل إلى العلم الكبير المجتبى
…
تلق المنى واليمن عند لقائه
العالم الصَّدر الإمام المرتضى
…
مهدى الهدى من نوره وبهائه
ما زال أوحد دهره علمًا وقد
…
رضي الزَّمان به على أبنائه
هذا السَّخاوي الَّذي ما مثله
…
بين الورى في علمه وسخائه
يتلى كتاب الله حول يمينه
…
وشماله وأمامه وورائه
متواضعًا لله جلَّ علاؤه
…
متورِّعًا خوفًا على عليائه
شاد المعالي بالتَّواضع فارتقت
…
وتنَّزهت فاعجب بحسن بنائه
وهو الَّذي غمر الوجود جميعه
…
من فضل أنعمه وفيض عطائه
ولطالما نفع الأنام بعلمه
…
وصواب منطقه وصائب رأيه
/160 ب/ دامت لنا أيَّامه وبقاؤه
…
والله ينفعنًا بطول بقائه
وأنشدني لنفسه، في غلام يرقص:[من الطويل]
وظبيٍ حكى نور الغزالة وجهه
…
وقد شدَّ بندًا عندما قام يرقص
من الرِّيم لكن فيه حسن التفاته
…
وفي الرِّيم لفتات من يقنص
فهذا بما فيه من الحسن قانص
…
وتلك بما فيها من الحسن تقنص
وقد صاد قلبًا عزَّ منه خلاصه
…
ومن ذا الَّذي من أسره اليوم يخلص
وأنشدني لنفسه، في غلام معه خدّام يحفظونه:[من الكامل]
نفسي الفداء لمن أقام قيامتي
…
بقوامه ونحافة في خصره
حرسوه بالخدَّام خيفة عاشق
…
قد حار من حرِّ الهوى في أمره
كم خادم من حسنه في وجهه
…
يغنى به عن خادم في عمره
ريحان سالفه وعنبر خاله
…
يتعايران وجوهر في ثغره
وأنشدني لنفسه في المعكوس: [من مجزوء الرجز]
أسمر راجٍ نكبًة
…
تبكن جار رمسا
أسرَّنا لقاؤه
…
وهو أقلُّ إن رسا
/161 أ/ وأنشد لنفسه، حرف سقط، وحرف مهمل:[من الوافر]
بربك قلت: أنا يا جميلاً
…
فإنَّك تستلذُّ وتستميح
وقل يا جابري هذا بلاء
…
فلا تهجر فإنَّك تستريح
وأنشدني لنفسه، يلغز وعملها على لسان شخص يلتمس من السلطان قباء وعده به:
[من السريع]
يا مالكًا فاق جميع الورى
…
وعمَّ في العالم تشريفه
ابق متى ألبس متى ألبس
…
معكوسها كل بأعدائك تصحيفه
وأنشدني لنفسه، وهي أبيات خالية من الإعجام:[من الكامل]
إسمع كلام مسلِّم ومسالم
…
وموادع ومودّد ومواصل
وله وداد لامرًا ولا ادعا
…
ما ود صرام لود الواصل
حمد الإله محمِّدًا ولآله
…
آل المروة والسماح الكامل
أهل الإمامة والعدالة والعلا
…
وهم المراد لعالم ولعامل
وهم عماد مؤمِّل ومعوِّل
…
ومداه كلُّ مردِّد ومطاول
/161 ب/ هم عمدة الإسلام ما دام الولا
…
وسلاح كلِّ محاور ومحاول
وهم مهاد للكرام وعدّة
…
ولصادر ولوارد ولآمل
ما للرواة سواهم وهم كما
…
ماء السَّماء لكلِّ عامٍ ما حل
لا أحمد الهمَّ الملمَّ وما لهم
…
..... أو الملح الهاطل
لا حرَّم الله الورود ولا هم ..... وهو الدَّواء لكلِّ صدر آهل
[811]
محمَّد بن عليِّ بن أبي الحسن عليِّ بن أبي القاسم هبة الله بن أبي العساكر سعد بن محمَّد بن الحسن بن أحمد بن عليِّ بن الفضل بن بشرويه، أبو عبد الله بن أبي القاسم الهماميُّ.
هكذا أملى عليّ نسبه لما سألته عنه، وذكر لي أن أصله يرجع إلى قوم من الفرس.
كان مولده في سلخ جمادى الآخرة سنة ستٍّ وتسعين وخمسمائة، بالهمّامية قرية كبيرة تحت واسط، من أعمالها وأشهر قراياها، نسبت إلى رجل، كان ينعت بهمام الدين من بني أسد، وكانت من جملة أقطاعه. وكان أجداد ابن بشرويه .... ومقدميها، ولهم بها .... يتوارثونها بها /162 أ/ وهي بأيديهم إلى يومنا هذا.
وهو رجل أسمر، خالطه الشيب قليلاً، يتولّى التّصرف في الأعمال الديوانية، من قبل الديوان الخليفيّ المستنصري. يعاني صناعتي النظم والنثر، وهو ذو طبع سليم في إنشائهما، ويكتب خطًّا حسنًا، ولم يكن ممن يبغي أجرًا على المدح، فإنَّ نفسه ترفعه أن يمدح أحدًا مستميحًا، يفد على مدينة السلام في كل وقت، ويمدح أرباب الحضرة الشريفة بها، وربما امتدح أمير المؤمنين المستنصر بالله – خلّد الله ملكه – ثم يعود إلى قريته.
ولما توجَّه انحدر في جمادى الآخرة من سنة تسع وثلاثين وستمائة، صحبة الأمير الكبير العادل ركن الدين أبي شجاع أحمد بن قرطايا – أسبغ الله ظلاله – إلى أملاكه التي أقطعه إياها أمير المؤمنين من أعمال واسط، لاستيفاء أنفاعها، وقبض
المغل الذي يحصل له من الخراج، اجتزنا بالهمامية، وكان ابن بشروية غائبًا عنها، لأشغال عرضت له من قبل الديوان العزيز، ولم يتفق للأمير الاجتماع به؛ فلما قدم ابن بشرويه من غيبته، أشعر بمقدم الأمير، فشق ذلك عليه، كيف لم يحظ بخدمته! ، فعند ذلك صنع رسالة وأعقبها أبياتاً، وأنفذها/ 162 ب/ إلى مخيمه المحروس مديحاً، يعتذر فيها من تأخره عن خدمته المولوية؛ وبعد ذلك انحدر إلى خدمته قاصداً زيارته، وقاضيًا حقه، وذلك في أوائل شعبان من السنة المذكورة، فاجتمعت به بالمخيم المحروس، وأنشدنا صدرًا متوفرًا من أشعاره، وعلقت عنه القصيدة التي امتدح بها الأمير- حرس الله مدته، وبلغه أمنيته- فأنعم عليه بجائزة سنية كعادته على الذين يردون عليه من أهل العلم والفضل.
أنشدنا إبن بشرويه، يمدح الأمير الكبير العالم العادل الفاضل ركن الدين أبا شجاع أحمد بن قرطايا- أدام الله إقباله وحرس جلاله بمحمد وآله أجمعين: -
[من الرجز]
أهلاً عديد الرَّمل من جلاجل
…
ومن زرود وأكام عاقل
والمرو من سلمى ومن متالع
…
ومن شمًام وهضاب حائل
بأحمد من قادم أمست به
…
بشائري شافيةً بلابلي
ومرحبًا من بعد ما سهل به
…
من ملك ندب ند حلاحل
مهذَّب الأخلاق ذي فضائل
…
مصونة الأطراف بالفواضل
أغرَّ كالشَّمس سنى جبينه
…
يجلود جى الحوادث النَّوازل
/163 أ/ ما انفكَّ حصنًا مانعًا لخائف
…
ونجعًة لسائل وآمًل
وافى كساري المزن أضحى ناشرًا
…
كل ما حل
تحفُّه صيد وغًى من يافث
…
كأنجم حفَّت ببدر كامل
فاهتزَّت الأرض به مسرًّةً
…
سرورهًا بالسُّحب الهواطل
وأنبتت من كلِّ زوجٍ ناضرٍ
…
أضحت به بهيجة الخمائل
وفاح طيبًا كالخزامى تربها
…
جاءت .... صبا الآصائل
وراح للبشر ينادي أهلها
…
أهلاً بهذا الآريحيِّ الفاضل
أهلًا به من مستفيد خالد
…
من خالص الجهد ببذل زائل
أهلاً به من غيث خصب قاتل
…
للجدب واللأواء أيِّ قاتل
أهلاً به من ليث حرب خيسه
…
من الرِّماح الشُّرَّع الذَّوابل
صيوده أسد الشَّرى يوم يرى
…
فيه الضُّحى ليلًا من القساطل
يخاله الجحفل من إقدامه
…
على زؤام الموت في حجافل
فلست أدري للَّذي قد حازه
…
من كرم الأخلاق والشَّمائل
ومن ..................
…
تهفو وبأس في الهياج صائل
أطرقه بالبحر أم بيذبل
…
.... أم بليث غاب باسل
/163 ب/ أعزز علىَّ غيبتي عن بلد
…
مرَّ به رهواً على منازلي
تلك لعمري حسرةٌ رحت لهًا
…
أخا حشًا من الهموم آهل
ضاهت سروري بتداني خطَّتي
…
من ظلِّ علياه الظَّليل الشَّامل
إسمع أبا شجاع خير مدحة
…
لها أريجٌ المسك في محافل
هديًة من خادم بحمده
…
لمجده السَّامي الذَّرى مواصل
سمع لعلياك بها ذًي ضنَّة
…
بمثلها على سواك باخل
ما جيًد من أضحت له قلادةٌ
…
من حلية المجد بجيد عاطل
تهزُّ أعطاف الرُّواة نشوة
…
كأنَّها شيبت بخمور بابل
يا أحمد المحمود يا خير فتًى
…
يرجى ليومي شدَّة ونائل
أنا الَّذي أصبح منه جارياً
…
هواك مجرى الدَّم في المفاصل
فلو يحول بذبلٌ لم ألف عن
…
ودِّك يا رٌكن العلا بحائل
لا تنقمن منِّي تعدَّاك الرَّدَّى
…
سوء ثنائي عنك أو رسائلي
فذاك عن غير قلًي لكنَّه
…
عن شغل لي في الخطوب شاغل
قد جشَّمتني حمل ما أحقره
…
يوهي قوي رضوى فكيف كاهلي
وغادرتني راضيًا أحداثها
…
بالضَّيم عن رغم من الأرذال
/164 أ/ثم/ أرتني كيف يسطو سفًا
…
بغاث ذا الدَّهر على الآجادل
وكنت قسَّ الحلم أدعى قبلها
…
فصرت أدعى حصراً بباقل
وآض سهل الشِّعر عند نظمه
…
أصعب من عضِّي على الجنادل
ولو جرى المقدار لي بنيل ما
…
عن نيله أصبح ظلمًا خاذلي
لم تلقني يوماً لناديك ولا
…
لوجهك الميمون بالمزايل
الوذ في القلب وكم مواصلٌ
…
يكتبه للودِّ شرُّ فاصل
وكم فتًى مقاطع يكتبه
…
وهو بصفو الودِّ خير واصل
وما لأشواقي إليك غايةٌ
…
لكنَّها بحرٌ بغير ساحل
ولو أروم وصفها كنت كمن
…
حاول عد الشُّهب والجراول
ولو تمكَّنت لقد الفيتني
…
مكان ما خطَّت إذا أناملي
وزرت سعيًا ربعك الرَّحب وما
…
للزائر الرَّاكب فضل الرًّاجل
وأنشدني لنفسه يوم الأربعاء، ثالث شعبان سنة تسع وثلاثين وستمائة، ما كتبه إلى علاء الدين هاشم بن علي بن الأمير السيد العلوي، وكان قد أسدى إلى والده /164 ب/ حسنى حين كان ناظراً بواسط:[من الطويل]
على بابك الميمون من كنت موئلاً
…
لوالده ممَّن يخاف ويحذر
أتاك بما أوليته من صنيعة
…
وعارفة يثني عليك ويشكر
لأن الثَّناء يا ابن بنت محمد
…
أجلُّ جزاء المنعمين وأكبر
فهل من سبيل لي إليك فإنَّني
…
إلى نظرة من نور وجهك مقتر
وتقبيل يمناك التي من بنانها
…
عيون ينابيع النًّدى تتفجر
فأنت الجواد أبن الجواد الَّذي به
…
تغاث الورى في الممحلات وتعصر
أرى أكرم الأشياء عندك ساعة
…
بأنَّك فيها مستجيزٌ ومعسر
ويصبح هذا في جوارك آمنًا
…
ويصدر من مغناك ذا وهو موسر
ولله بيتٌ قاله ذو فصاحة
…
به أنت يا ابن الهاشميين أجدر:
"كريمٌ له عينان عينٌ عن الخنًا
…
تغضُّ وأخرى في العواقب تنظر"
وأنشدني لنفسه، ما كتبه إلى مجد الدين يوسف بن الوقي. كان وزيراً بخوزستان. (من الكامل]
يا أيها الملك المنيع حجابه
…
إلا عن العافين والسُّؤال
/165 أ/ يا كاشف الكربات وهي قوادحٌ
…
ومفرِّج الغمَّاء والأهوال
يا من نؤمِّله لإدراك المنى
…
وبلوغ أقصى غاية الآمال
أإليك من نهج لعبد مخلص
…
بولائه جم الثَّناء موالي
غرضٌ إلي تقبيل راحتك الَّتي
…
هي للعفاة أبٌ وأمُّ عيال
والإبتهاج بنور طلعتك الَّتي
…
نسقى الغمام بها لدى الإمحال
جاب الحزون إليك علمًا أنَّه
…
سينال عندك راحة الإسهال
ولكم غدا إخلاصه مستشهداً
…
لما إليه شكا وجا الإرقال
أحوامل الأثقال أنك في غد
…
بفناء أحمل منك بالأثقال
فاسلم لنا يا يوسف أبن محمد
…
وزراً نلوذ به من الأوجال
فلأنت أكرم من بوافر سيبه
…
لفحت لنا الآمال بعد حيال
وأنشدني لنفسه، يرثي علي بن أحمد بن هزدي. وكان صديقاً له:[من الطويل]
سقى جدثًا وارى علىَّ بن أحمد
…
هزيم حيًا أحوى الرَّباب دفوق
ملثٌ إذا يومًا أربَّ لماحل
…
غدا وهو بالرَّوض الأنيق أنيق
فتًى حاز منه التُّرب ترب فواضل
…
بأيسرها كان الفضاء يضيق
/165 ب/ مضى فمضى المعروف والبأس واغتدى
…
فشيب رداء الحلم وهو سحيق
فما ساءني من بعده فقد صاحب
…
ولا سرَّني في الأصدقاء صديق
ولم أر شيئًا مذ تضمَّنه الثَّرى
…
يلذُّ لعيني شخصه ويروق
فيا كبدي أنت الأسيرة للأسى
…
عليه ودمعي الدَّهر أنت طليق
وأنشدني لنفسه في بعض أغراضه: [من الطويل]
هجرتك يا دار الأحبَّة راغمًا
…
وودُّك ما حالت لديَّ به الحال
ولولا وشاة الحيِّ يا دار لم يكن
…
يحلُّ ركابي فيك ما عشت ترحال
وأنشدني لنفسه، ما كتبه إلى الصاحب فخر الدين أبي سعيد المبارك بن يحيى- صاحب ديوان الزمام، وكان قد أنفذ له شيئاً من المال، فم يمكن رده عليه- بقصيدة منها هذه الأبيات:[من الطويل]
أمولاي فخر الدِّين دعوة ناظم
…
مدائحه عقداً لسؤددك النَّهد
لك الخير رفقًا بعض سيبك إنَّه
…
جسيمٌ فكيف الجمُّ من طولك العدِّ
لقد جدت لي منه بما رحت مالكًا
…
به رقَّ شكري في دنوٍّ وفي بعد
/166 أ/ فوالله ما أحرزته عن ضرورة
…
إليك ولا عن فاقه لي إلى الرِّفد
ولست بنكس آنست عين دهره
…
له قطُّ في خوض المطامع من وردِّ
ولا شاعر يهدي مديحًا فيجتني
…
له ثمراً عند الكرام سوى الودِّ
ولكنَّني أجللت برَّك ليتني
…
أكدِّر ما أصفيت له منه بالرَّد
وحاولت أن تضحي بحسن قبوله
…
لديك لي الآمال محكمة العقد
فأحرزته إحراز حر ثناؤه
…
عليك جزاء الله خيراً ثنا عبد
ولو أنَّه من عند غيرك جاءني
…
وكان عديد الرَّمل والمرو من لحد
لما وأبيك الخير همت بأخذه
…
يميني ولو همت لفارقها زندي
زكنت أرى ذياك لؤم سجيَّة
…
تأنَّقها منِّي أخو خلق وغد
وأيسر من حملي لغيرك منَّهً
…
وإن سهلت حملي لثهلان أو أحد
وأحسن ما قد قيل في مثل هذا الصـ
…
صنيعة من نثر يروق ومن نضد
ثلاثة أبيات بخفض نحورها
…
عفت أربع الحلَاّت للأربع الملد
(وما كنت ذا فقر إلى صلب ماله
…
وما كان حفصٌ بالفقير إلى حمدي)
(ولكن رأى شكري قلادة سؤدد
…
فصاغ لها سلكًا بهَّيًا من الرِّفد)
(فما فاتني ما عنده من حبائًه
…
ولا فاته من فاته من فاخر الشِّعر ما عندي)
/166 ب/ الثلاثة الأبيات الأخيرة لأبي تمام.
وأنشدني لنفسه، وكان قد تصاحب هو ورجل علوي في بلاد خوزستان، فرأى منه ما يكره. وكان من جانب مجد الدين ابن البوقي- رحمة الله- ثم انفصل مجد الدين، وتولى بعده ظهير الدين الحسن بن عبد الله، فانفصل هو والعلوي عن العمل الذي كانا به، وطلب دستورًا ليعود إلى أهله، فلم يمكنه ظهير الدين، وكثر مقامه عنده، ثم أشار إليه أن يخدمه في موضع يعرف بمعاملة القروج، وكان عاملها قاضي الحويزة، وهو جعفر بن الحسن العلوي، فأبى أن يخدم بالعمل المذكور كرهًا له؛ لأنه
استقله فلم يقبل ظهير الدين عذره، وألزمه الخدمة؛ فكتب إليه هذه الأبيات، وعرضها عليه سعد الدين الحسن بن محمد الحاجب، وهي:[من البسيط]
/167 أ/ أعوذ بالله ربِّ النَّاس كلِّهم
…
وبالفتى حسن ذي المنظر الحسن
بأن يراني إنسان له بصرٌ
…
مصاحبًا علويًا آخر الزَّمن
فقد لقيت من الكوفي معضلًة
…
لو لابست .......
حتَّى لقد كدت لو لم تقض فرقتنا .... وشكًا أحبُّ أبن هند مظهر الفتن
فلا تعدني ظهير الدِّين ثانيًة
…
إلى مكابدة الأهوال والمحن
فليس يلسع من جحر حوى رقمًا
…
طورين إلا أمرؤٌ خال من الفطن
وإن يكن ضاق عن مثلي جنابك أو
…
أنِّي لما منك أرجو لست بالقمن
فما أذمُّ سوى حظِّي لديك ومن
…
بغير حظٍّ يرد نيل المرام يني
وله: [من البسيط]
تجمَّعت خمسةٌ من
…
مكرمة
…
في أحمد بن قراطايا هي الشِّيم
وجهٌ مليحٌ وأخلاقٌ مهذبةٌ
…
ومنطق ذربٌ ..... ]
محمد بن محمد بن محمد محمد بن عمرك بن أبي سعيد عبد الله بن الحسن بن القاسم بن علقمة بن النضر بن معاذ بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق صاحب رسول الله صلى الله عليه البكري التيمي القرشي الدمشقي، أبو الفضل بن عبد الله.
أخو الشيخ الحافظ صدر الدين أبي علي الحسن بن محمد البكري.
وأبو الفضل هذا، رأيته شيخًا بدمش / 167 ب/ وأخبرني أنه ولد سنة تسعين وخمسمائة، وكان يتصرف في الأعمال والولايات وتحت يده أوقاف الصدقات. يشدو شيئًا من فقه الإمام الشافعي- رضي الله عنه ويقول الشعر طبعًا، ويزنه ويذوقه ويفهم مواضع الخطأ منه، وقد نظمه في الأغراض التي يقصدها، وذكر لي أنه لم يشتغل قط بشيء من العربية، ولا قرأ منها لفظة، وينظم نظمًا متزنًا صحيحًا، وربما جاء في شعره لحن قريب، لكونه لم يتعلم شيئًا من الأدب.
أنشدني لنفسه، يمدح النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في أواخر سنة تسع وثلاثين وستمائة:
[من الكامل]
لي في مديحي للرسول غرام
…
فعلى الرَّسول تحيةٌ وسلام
المصطفى المختار من دون الورى الـ
…
ـمدَّثر المطَّهر الصَّوام
الهاشميُّ الأبطحيُّ ومن به
…
تتفاخر الأيَّام والأعوام
كالبدر وضَّاح الحبين مهذَّب الأ
…
خلاق حاز المجد وهو غلام
حسبي بمدحيه افتخارًا أنَّه
…
في الحشر ممَّا أتَّقيه ذمام
فمديحه يشفي السَّقام وذكره
…
ينفي الأوام وحبُّه معصام
كم غصت في بحر المعاني مخرجًا
…
درر المدائح زانهنَّ نظام
/168 أ/ في خاتم الرُّسل الكرام ومن به
…
للأنبياء المرسلين ختام
سبحان من أسرى به في ليلة
…
فانجاب عنها غيهب وظلام
وعلا على ظهر البراق وجاوز السَّـ ـبع الطباق فعمَّه الإنعام
خفَّت به الأملاك تعظيمًا له
…
فهم لحضرة قدسه خدَّام
ودناً فكا كقاب قوسين كما
…
قد جاءت الآيات والأحكام
ورأى فما كذب الفؤاد لما رأى
…
من رِّبه فتبارك العلَّام
يا خيرة الله الذي بك قد سما
…
التوحيد والإيمان والإسلام
بلغت يا خير الأنام رسالة
…
تهدى بها الأعراب والأعجام
لولا رسالتك التي بلَّغتها
…
ضلَّت قريش ودينها الأصنام
أرسلت فينا شاهدًا ومبشِّرًا
…
يا قدوة للمتًّقين إمام
يا من إذا ما قطَّبت عداؤه
…
في الرَّوع صال وثغره بسام
يا من بحضرته الغزالة سلَّمت
…
ولبدر طلعته أظلَّ غمام
وإليه حنَّ الجذع من شوق كما
…
حنًّ البعير
…
أقدام
وله الأيادي البيض والمنن التي
…
تحيا بها الفقراء والأيتام
تالله إني في مديحك صادقٌ
…
ولئن أطلت المدح لست الأم
/168 ب/ لو قلت مهما قلت إني عاجز
…
عن كنه حصر صفاته تمتام
ماذا يقول المادحون بمدحه
…
ولرِّبه في مدحه أحكام
أثنى عليه الله- جل جلاله
…
مدحًا يقصِّر دونها الأفهام
يكفيه معجزة الكتاب ولم تكن
…
بيمينه قد خطَّت الأقلام
أوليس أقسم رُّبه بحياته
…
قسمٌا به تتحمَّل الأقسام
وتزعزع الإيوان في ميلاده
…
وخمود نار الفرس وهي ضرام
وتضاعف الزَّاد القليل لصحبه
…
من بعد ما قد مسَّهم إعدام
من إصبعيك الماء فاض ينابعًا
…
سحًا فروَّى الجيش وهو لهام
يا من تعاظم في النُّفوس مهابًة
…
والرُّعب يقدمه فليس يرام
ورمى بكف من تراب أعين الـ .... ـكفَّار فاغشوشت بذاك وهاموا
نكصوا على أعقابهم إذا قوبلوا
…
فكأنَّما إقدامهم إحجام
ناجاك ربُّك صلِّ وأسعد واقترب
…
فلشانئيك الذٌّل والإرغام
أعطاك ربُّك كوثرًا لكرامة
…
لك عنده فليهنك الإكرام
ولك الشفاعة إذ غدوت مشفَّعاً
…
دون الورى والنقض والإبرام
يا سيِّد السَّادات يا خير الورى
…
والماجد الطَّعان والمطعام
/196 أ/ لولا المسير إلى زيارتك الَّتي
…
خفت بها الأرواح والأجسام
ما طاب ذكر الجزع أو ذات النقا
…
أبداً ولا ضربت بهنَّ خيام
كم بثَّ بالحرم الشَّريف مجاور الـ
…
ـقبر المنيف فما ألمَّ سنام
مرَّت لييلاتٌ وأيامٌ به
…
نعم اللَّيالي كنَّ والأيَّام
يا كنز كلِّ مؤمِّل ذي فاقة
…
قد مسَّه الإقلال والإعدام
نسخت شريعتك الشرائع فاغتدى
…
لكلامها في المشركين كلام
[813]
محمد بن عبد السلام بن المطهر بن عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهر ابن أبي عصرون، أبو عبد الله بن أبي العباس التميمي.
كانت ولادته بحلب، في أوائل المحرم سنة عشر وستمائة.
من أبناء القضاة المعتبرين، والعلماء المدرسين، ومن بيت علم مشهور، وفضل مذكور.
وهو شاب جميل، حصل من الفقه صدراً صالحا< يرجع إلى ورع وتقى، وخير وسداد، وحسن طريقة، واستقامة سيرة، ويحفظ جملة من الأشعار النادرة، ويقول شعراً لطيفًا /169 ب/ أنشدني لنفسه يتغزل:[من الوافر]
وظبى تسترقُّ له
…
قلوب النَّاس الحاظه
كأنَّ العقد مبسمه
…
ونثر الدُّر ألفاظه
وأنشدني أيضاً لنفسه: [من الخفيف]
حلبٌ جنَّة النَّعيم فزرها
…
تلق فيها ما تشتهية النُّفوس
من هلال يرنو بعيني غزال
…
وقضيب على كثيب يميس
ورياض كأنَّها بنظيم الـ
…
ـنَّور من حسن نبتها طاووس
[814]
محمد بن عبد المنعم بن نصر الله، أبو عبد الله، [المعروف بابن شقير الدمشقي التنوخي].
أنشدني لنفسه: [من الطويل]
أشاقك برقٌ بالحمى يتألَّق
…
له بالنَّقا عهدٌ عليك وموثق؟
أم البان هزَّته الصَّبا فتأرَّجت
…
سحيرًا فمن أنفاسها المسك يعبق
أم اقتنصت أرام رامة قلبك الـ
…
ـمشوق فأضخى وهو لهفان يخفق
بعيشك حدِّثني عن البان والحمى
…
فإنِّي إلى أهل الحمى أتشوَّق
أما وليالينا بمنعرج اللِّوى
…
وغصن الصِّبا واللَّهو ريَّان مورق
/170 أ/ لقد أغري الجفن المسًّهد بالبكا
…
فكا أسًى في لجَّة الدَّمع يغرق
إذا أنا لم أبك العقيق بمثله
…
فما أنا صبٌّ لا ولا أنا شيِّق
ومنها:
علي عيون المزن تبكي تأسُّفًا
…
ومن حزني ناح الحمام المطوَّق
عدمت الكرى والطَّيف طيف خيالكم
…
فلا النَّوم يغشاني ولا الطَّيف يطرق
وقد وعد الصَّبر الجميل تجلُّدًا
…
ومن لي بأنَّ الصَّبر في الوعد يصدق
عقرت لضيف الطَّيف إنسان مقتلي
…
فدمعي دمٌ في سفح خدِّي يهرق
وأنفقت كنز الدمع في سوق بينكم
…
وفي مثله كنز المدامع ينفق
وبي ربُّ حسن بات قلبي كليمه
…
إذا ما تجلَّى كدت بالشَّوق أصعق
وإن هو ناجاني على طور حسنه
…
تراني من الإجلال أغضي وأطرق
ضللت بليل من ذوائب شعره
…
كما ضلَّ سار في الدُّجنَّة معنق
فانست نارًا أضرمت بين أضلعي
…
لها قبسٌ يهدي لمن ضلًّ يشرق
خدمت بديوان المحبَّة ناظرًا
…
ولي في الهوى جار من العين مطلق
وجسمي ضناه عاجلٌ وهو مشرفٌ
…
على تلف أضحى لحيني يحقِّق
وقد حاسب التَّبريح جسمي فلم تكن
…
بواقيه إلَّا أضلعٌ تتحرَّق
/170 ب/ ولو إنكسار الصًّبر في جهة الهوى
…
لما كان قلبي بالحبيب يعلَّق
رفعت له مع حاجب الغمض قصَّتي
…
بأنِّي عان في هواه وموثق
فوقَّع لي سلطان خطِّ عذاره:
…
أسير الأسى من حبِّنا ليس يطلق
وإن يك بالهجرة انقضت مدًّة الجفا
…
فباقي الهوى بالرَّوح منه يغلَّق
لي الله من غصن وريق ومبسم
…
وريق به جفني قريحٌ مؤرَّق
بهاء محيَّاه وأملود قدِّه
…
من البدر أبهى أو من الغصن أرشق
يصول على عشاَّقه بجماله
…
دلالًا ولا يحنو ولا يترفًّق
وقد تمَّ ما فوق النِّصاب ملاحًة
…
فهلَّا على مسكينه يتصدَّق
ومنها:
فللَّه ليلاتٌ تقضَّت حميدًة
…
بجلِّق الفيحاء والعيش مونق
وأيَّامنا بالنَّيربين ونورها
…
منيرٌ وأحداق الزُّهور تحدِّق
ينمُّ بها النَّمام من حسد لها
…
ومن طرب حيث الشَّقيق يشقَّق
ومنها:
لقد أصبحت ذات العماد بملكها الـ
…
ـعماد يمينًا مثلها ليس يخلق
ومنها:
/171 أ/ وما أسدٌ خفَّان باسلٌ
…
شديد السُّطا عبل الذِّراعين أشدق
طواه الطَّوى حتى استمرَّ مريره
…
وسيف المنايا بين عينيه يبرق
بواد تحاماه الأسود مخافةً
…
إذا مرَّ في أرجائه الموت يفرق
بأعظم منه سطوةً ومهابةً
…
وأثبت جأشًا والكتائب تقلق
أمدَّ عليها صافيًا من ظلاله
…
فأضحت به من نهجة تتألَّق
رأينا بها الولدان والحور رتَّعًا
…
فقلنا يقينًا: جنَّة الخلًد جلِّق
تزوَّج منها بالسُّرور نفوسنا
…
على أنَّنا منها الهموم نطلِّق
فكم راقنا مستنزهٌ في ظلالها
…
وكم شاقنا قصرٌ مشيدٌ وجوسق
فلم أنس أنسي في ميادينها الَّتي
…
لها نضرةٌ تحيي النُّفوس ورونق
يخيط بخيط المزن ثوب ربيعها الـ
…
ـنسيم وأكمام النَّبات تفتَّق
تراكض في أرجائها اللَّهو والصِّبا
…
فجالت بها خيلٌ إلى الأنس سبَّق
فكم من غزال سانح في رياضها
…
حكى أخته في حسنها حين يبرق
وكم لاح بدرٌ فوق غصن أراكة
…
رشيق قوام بالعيون ممنطق
وكم كوثر يجري إلى جنب كوثر
…
وكم أعين نضَّاخة تترقرق
لقد صبَّت الغدران عند مديرهًا
…
فسلسل فيهًا ماؤها وهو مطلق
/171 ب/ جنان نعيم ليس يشقى نزيلها
…
يحلى بها جيد المنى ويطوَّق
كلاها كمال الدِّين منه بعينه
…
فمن جوده أمواهها تتدفَّق
فلا غرو إن رقَّت وراقت لأنَّها
…
بأخلاقه الحسنى غدت تتخلَّق
ومنها:
يكاد ذكاء عند إعمال فكره
…
متى شاء عمَّا في المغيَّب ينطق
له قلمٌ فيه المنَّية والمنى
…
يجاور بحراً ماله ليس يورق
وأعجب منه أنَّني جار ظلِّه الـ
…
ـرَّحيب لراجيه ورزقي ضيِّق
ومنها:
أبثُّك حالي حال عمَّا عهدته
…
وشكوى لها صمُّ الصَّفا يترقَّق
فقد مسَّني فقرٌ وحاشا أمرءاً غدا
…
لجودك جاراً أن يرى وهو مملق
فعطفًا وإشفاقًا على ذي فضيلة
…
ألست على أهل الفضائل تشفق
أعيذك أن أنسى بظلِّك ظاميًا
…
وغيث ندى كفَّيك بالجود مغدق
وهذا قريضي يخجل الدُّر نظمه
…
إلى حسنه الجوزاء ترنو وترمق
فخذ مدحة فاقت على كلِّ مدحة
…
غدت وعليها من ضيائك رونق
فدونك معنٌ في السَّماح وحاتمٌ
…
ومن دون شعري جرولٌ والفرزدق
/172 أ/ صورة ما كتب الشيخ علم الدين السخاوي، يمدح هذه القصيدة:
[من الطويل]
وقفت على هذا الفريض الَّذي له
…
ضياءٌ وأنوارٌ وحسنٌ ورونق
تضمَّن أوصافًا بها كلُّ سامع
…
إذا ما تلاها شاهدٌ ومصدِّق
وأبرز أنواعا من الدُّر بحرها
…
أن لا يجيد النظم من در مغرق
ولا عجبٌ ممَّا جرى من جواهر
…
ففي التَّاج أنوار الفرائد تشرق
له قصبات السَّبق في كلِّ وجهة
…
فمن ذا يجاري سابقًا ليس يلحق
يقول علي بن محمد السخاوي: "إنني تدبرت هذا النظم البديع، والبحر الوسيع، فرأيته مالكًا لعنان البلاغة والإحسان وافيًا بصناعة الشعر في الإجادة والإتقان، مع عذوبة ألفاظه، وسهولة مسالكه
…
والرقة لمن يهجن المعاني بأغلاطه، فكم فيه من درة حسنها مع جسمها، وضعها في موضعها، ومن مطربة تثني على منشدها ومسمعها، وما هي إلا ساعدة من نظم فيه، نسأله الله حفظه فيما /172 ب/ يأتيه". وكتب علي بن محمد السخاوي؛ متشرفًا بهذه الفوائد، ومبتهجًا برؤية هذه الفرائد، إن شاء الله تعالى، وذلك في ثالث عشر شهر الله الأصم سنة تسع وثلاثين وستمائة.
وله في قاضي القضاة رفيع الدين حامد بن العزيز بن عبد الواحد بن [عبد] الحميد: [من الطويل]
أمثلي في أرض الشَّام يضيع
…
ولي فيك مدحٌ كالعبير يضوع
وحسن معان راق للنَّاس حسنها
…
ولفظٌ هو السِّحر الحلال بديع
لمن أتصدَّى غير مجدك مادحًا
…
وأنت فمغرًى بالسَّماح ولوع
ومن ذا الَّذي أدعو سواك من الورى
…
وأنت مجيبٌ للدعاء سميع
أما وأحاديث السَّماح الَّتي غدت
…
غرائبها عن راحتيك تشيع
لأنت الَّذي ما زلت تولي عوارفًا
…
بها عمرت للمكر مات ربوع
وصلت بكفٍ ظلّ
…
إلى النَّدى
…
وصلت للضَّلال يريع
ترى منك يا خير العطايا محرَّماً
…
لأنَّ بها كلَّ الشُّهور ربيع
ومنها:
طويل وعيد بل قصير مواعد
…
مديد نوال للعطاء سريع
/173 أ/ (تواضع كالنَّجم استبان لناظر
…
على صفحات الماء وهو رفيع)
(ومن دونه يسمو إلى الجوِّ صاعداً
…
سموَّ دخان النَّار وهو منيع)
البيتان مضمنان لابن التلميذ
وكتب إليه بهذه الأبيات أيضاً: [من الخفيف]
أيُّها الحاكم الذي عمر النَّا
…
س جميعاً بفضله الفيَّاض
أفتنا في قضيَّة أنت فيها الـ
…
ـخصم لي في العلا وأنت القاضي
بعت للفضل منك خالد حمدي
…
وافترقنا عن غبطة وتراضي
لم تدحى نصب لتمييز حال
…
حلَّ من بعد رفعة في انخفاض
وغلامًا نداك خال ووعدي
…
منك
…
وأمرك ماضي
إن تقل عاف ذاك ترًك التقاضي
…
لست يا ابن الكرام بالقول راضي
وإذا الجود كان عوني على المر
…
ء تقاضيته بترك التَّقاضي
وله إليه: [من الطويل]
بديع مديحي فيك شرقًا ومغربًا
…
سرى كندى كفَّيك في البرَّ والبحر
ومعروفاك المعروف موجب أنًّنا
…
لك الله ندعو بالزِّيادة في العمر
فإنا رأينا من أياديك فوق ما
…
سمعناه عن معن السَّماح وعن عمرو
/173 ب/ نسخت بما أوليته ذكر حاتم
…
فأصبح في سوق الثنا كاسد الذَّكر
أعيذك ان أمسي بظلكِّ خاملًا
…
وحالي بعد اليسر حالت إلى العسر
ولم يبق منِّي الدًّهر إلا صبابةً
…
وإلَّا كما أبقى نداك من الفقر
فهل تشتري منَّي بما هو ذاهبٌ
…
ثناءً ومدحًا فيك يبقى على الدَّهر
فيقبح بي أن أرتجى من سواكم
…
نوالاً وأن يعزى إلى غيركم شكري
وله: [من الطويل]
لسان غرامي في هواك المهذَّب
…
وتنبيه وجدي ماله عنك مذهب
وجلَّاب أشواقي إليك صبابتي
…
ونافع صبري ليس لي عنه مذهب
أمالك رقِّي ما لأحمد سلوتي
…
على زهده في مثل حسنك يرغب
أبى خدُّه أن لا يرى وهو شافعي
…
وقال إلى النُّعمى أعزًّى وأنسب
وناظرني في صيغة الحبِّ والهوى
…
وكم مرَّة نازعت فيها وأغلب
أسائله يا مقتفي نص هجره
…
فيسهب من ذكر القياس ويطنب
ويوضح وجه الصَّدِّ منه بفرقة
…
فيعطفني إعراضه والتَّحنُّب
حبِّي له وصبابتي هما نتجاً
…
أن ليس لي عنه مهرب
وحاوي فضول الشَّوق ليس بحاذق
…
وإلَّا فمنها كيف لا يتطيَّب
/174 أ/ أعلِّل قلبي في هواه بعلَّما
…
وليت وقلبي في هواه المعذَّب
ألم يك مبنيًا على الكسر جفنه
…
فما بال أمسي وهو بالسِّحر معرب
وقائلة لمًّا رأتني لمًّا رأتني خاملًا
…
وروض ربيع الحظَّ مَّني مجدب
تنبَّه تفز من فضلك الجمَّ بالغني
…
فأنت لإدراك الغني تتطلبَّ
وإن قلت كنز الجود عزّ فباطلٌ
…
وكنز رفيع الدَّين للنَّاس ....
[815]
محمد بن أبي الحسن بن هبة الله بن عمر بن أبي بكر، الشيخ أبو عبد الله الراكبدار الواسطي والدًا وأصلًا، البغًدادي داراً ومنشأ.
كانت ولادته ببغداد في المحرم سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. كذا ذكر لي لما سألته عنه.
حافظ للقرآن العظيم، عني بسماع الحديث، فأكثر منه، وصاحب أهل الدين، وخالط الصالحين.
ثم تعلم صنعة الركبدارية، فصار طبقة منها، مشهوراً بها، واتصل بالإمام الظاهر – رضى الله عنه- وهو ولي عهد، وخدم معه ركبدار؛ ولما أفضت الخلافة إليه، قربه وأدناه، وحظي عنده حيث رآه ماهراً في صنعته، مشكوراً في طريقته /174 ب/ ولما انقضت مدة إمامته، ونقله الله تعالى إلى مستقر رحمته، وما أعد له من فضله وكرامته، ومن على العالم بقيام من شملهم بعدله ورأفته، وعمرهم بعميم عطاياه ووافر صدقته؛ وهو الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين، أقرَّ محمداً هذا على ما كان عليه، وأجراه على ما أهل له، وفوّض إليه، وعمّه بالأنعام، وعمره بالعطاء الوافر الأقسام.
وهو رجل آدم، شديد سمرة اللون، شيخ نقي الشيبة، كبير النفس، عالي الهمة، قد أخذ بأطراف الفضائل على اختلافها؛ قرانًا، وحديثًا، وفقهًا، وأدبًا، وشعرًا، وجودًا، وسماحة، وإيثاراً.
وشعره رائق سهل الألفاظ، وهو القائل يمدح المستنصر بالله- رحمة الله- وأنشدنيه بمدينة السلام، بجانبها الشرقي يوم الأربعاء ثاني عشر رمضان سنة تسع وثلاثين وستمائة:[من الوافر]
أدرها باليمين أو الشَّمال
…
فلو كانت حلالًا ما حلا لي
ولا تطفي توقُّدها بماء
…
ففي ياقوتها نور الَّلالي
وصرَّف صرفها بغناء شادً
…
مليح الوجه معشوق الدَّلال
....... .... يزيد هوًى ويطمع في الوصال
ولا تخش الهموم على سرور
…
ولا تجزع لحادثة اللَّيالي
/175 أ/ إذا المستنصر المنصور دامتً
…
له النعماء لم تضرع لحال
وصلنا صولة الأسد الضَّواري
…
على ريب الزَّمان ولم نبال
وباهينا ملوك الأرض جوداً
…
وعدلاً جلًّ عدلك عن مثال
وقلنا ذا إمامُ أو نبنيٌّ
…
كفاه ذا العلا عين الكمال
يبخل بالعطاء السحب كفّاً
…
أفاض على الورى سحب الَّنوال
يعفو عن عظيم الذَّنب حلمًا
…
ويفصح
…
الموالي
أيا مولى الأنام فدتك نفسي
…
وزادك ذو الجلال من الجلال
ولازالت جيوش النصر تسري
…
أمامك في حلول وارتحال
ولا برحت صلاتك كفالات
…
بارزاق العباد بلا زوال
وأنت الغيث إن جدب عزلها
…
وأنت اللَّيث في يوم النَّزال
فعش ما شئت أن تبقى سعيداً
…
تعم بفضل عدلك والنَّوال
وتفني المارقين بحدَّ عزمٍ
…
وتغني المعتفين عن السؤال
[816]
محمد بن محمد بن عبد الخالق بن المبارك بن عيسى بن الحسين، أبو عبد الله بن أبي الفضل / 175 ب/ المعروف بابن الأبريَّ البغداديُّ الحنفيُّ مذهباً.
فقيه فاضل، صحيح الذهن، جيد الإيراد، حاضر الخاطر، حسن الكلام في المناظرة، تولى القضاء بواسطة، وسار سيرة حسنة مرضية، واعتمد أموراً موافقةً للشريعة المحمديّة، وهو أحد المعيدين بالمدرسة المستنصرية على الطائفة الحنفية.
سألته عن مولده فذكر أنّه ولد في خامس ذي الحجة سنة خمس وثمانين وخمسمائة.
له فضل، وأدب، وحسن خلق، ودماثة.
أنشدني لنفسه يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من رمضان بالمدرسة المستنصرية، سنة تسع وثلاثين وستمائة، من قصيدة يمدح الخدمة الشريفة المقدسة النبوية الإمامية المستنصرية، ويذكر فيها الدراهم المنعم بها على العالم حفظًا لأديانهم، وصيانة لأموالهم، وتنزيهًا لهم عن الشبهات، بترك تلك المحظورات:[من الكامل]
أبدت لنا قمراً من السَّجف
…
وتكلَّمت بإشارة الطَّرف
وتستَّرت بمحاسن كشفت
…
عنها فكان السَّتر في الكشف
ومنها:
يا من عرفنا في عوارفهم
…
علميةً معلومة الوصف
/176 أ/ لكم التَّمكُّن في سموَّكم
…
ولنا عليكم عادة العطف
أعلامكم مرفوعةٌ أبداً
…
وعدوُّكم ينجرُّ بالحرف
أبداً وتفَّرق كلَّ ما جمعوا
…
وتصغَّر الآلاف في الألف
وقال أيضًا: [من الطويل]
تعرَّض للأعراض عن عاشق صبَّ
…
وجار بحكم الحسن عن سنن الحبَّ
فصارت ضروب الَّصَّد تخظى بوصله .. إذا ملَّ ضربَّا منه مال إلى ضرب
أذكرته عهد الهوى وحقوقه
…
وما كنت ألقى فيه بالعذل من صحبي
وأنَّي لمَّا كنت قانص سربه
…
تعلَّقت منه قانصًا قانص السَّرب
وإن فاق أيَّام الصَّبأ في وصاله
…
على نفسه منه وأصباه ما يصبي
فعاد بعطف ثم قال معاتبًا
…
فقلت له: لا تفسد العطف بالحبَّ
ودعني من عتب يكدَّر مسربي
…
علىَّ فحسبي بالرَّضا عاتبًا حسبي
[817]
محمد بن علي بن غازي القاضي، أبو عبد الله الحموي الفقيه الحنفيُّ.
شاب ذو فضائل جمّة، كثير المحفوظ. وكان من جملة محفوظة صحيح مسلم بأسانيده ومتونه، /176 ب/ وكتاب المفصل للزمخشري، مع مواظبة على تلاوة القرآن المجيد؛ وهو أحد المعيدين بالمدرسة الشريفة المستنصرية، وتولى قضاء واسط، ثم عزل عنها.
وله في المستنصر بالله يمدحه: [من البسيط]
دار السَّلام لها من يمن طلعته
…
سلامةٌ عطبت من دونها الغير
ذو سيرة كسرت كسرى وذا يزن
…
وعن مدى طولها في قصير قصر
ويلٌ لأعدائه من بأسه أبداً
…
لا ملجاٌ منه ينجيهم ولا وزر
عليه أنار وحي الله شاهدها إلا
…
جماع والنَّصُّ والمعقول والأثر
يستعظم النَّاس أخباراً لهيبته
…
وعند رؤيته يستصغر الخبر
سطا وأعطى فشمل الشُّكر منتظمٌ
…
له وشمل العدا والمال منتثر
ماذا عسى يستطيع الشَّعر يمدحه
…
وفي مدائحه الآيات والسُّور
يا ثالث العمرين الرَّاشدين ومن
…
على أياديه يثني البدو والحضر
أنت الحقيقة للإسلام حقّ هدًى
…
وما سواك مجارٌ ليس يعتبر
جنَّت إليك أقاليم البلاد وقد
…
أطاعك القادران: السَّعد والقدر
فروَّ من علق الأعداء لاعجها
…
فأنت هادي الورى للفتح منتظر
لازلت مستنصراً بالله منتصراً
…
للدين يا خير من للدين ينتصر
/177 أ/ وقوله وقد أوردها بالمدرسة المستنصرية عقيب مرض عرض له:
[من الكامل]
من كان مفتتحًا بحمد إمامه
…
فلقد أجاد وجاد عقد نظامه
ومن اقتدى بهدى الفتى المستنصر الـ ـمنصور فليبشر بنجح مرامه
فالصَّدق في أقواله والحقُّ في
…
أفعاله والرَّزق من أقلامه
والبأس جدوُّ البأس من عزماته
…
والنَّاس كلُّ النَّاس من أقوامه
والفضل من أحاسبه والفضل من
…
أنسابه والرُّشد من إلهامه
والصَّيد والآساد من أجناده
…
وأفاضل الأملاك من خدَّامه
ما ملك ذي يزن ومن ذا قيصرٌ
…
ما عدل كسرى العدل في أحكامه
من قيس آراء وقسُّ فصاحة
…
من حاتم الإنعام في إنعامه
حرُّ الملوك رقيق حدَّ حدَّ رقيقهً
…
وبروق سطوته بريق حسامه
يا سيد الخلفاء دعوة شاكر
…
شاك إليكم من أليم سقامه
لولا تداويه بيمن ولائكمّْ
…
ما طال عنه حمام يوم حمامه
وافى من الوطن البعيد مهاجراً
…
فسما ووفَّى اللَّيل في إكرامه
من فضلكم حاز الفوائد والعلا
…
وبفضلكم يرجو بلوغ مرامه
/177 ب/ ومنها:
إن كان عاصيه يشوق فؤاده
…
فمطيع دجله آخذٌ بزمامه
لازال يخفض بالسَّيوف عداته
…
ويديم رفع الَّدين في أعلامه
وقال أيضًا يمدحه: [من الكامل]
كم مهمة قفر ومرت فدفد
…
جبناه بالنُّوق الكرام الوخَّد
مع رفقةً هجروا لإدراك العلًا
…
شامًا بمعرق سيرهم والمنجد
وتيمموا داًر السَّلام وسلَّموا
…
وتباشروا بهدى أبن عمِّ محمَّد
المقتدي بالمصطفى خير الورى
…
في الهدى نعم المقتدى والمقتدي
إنَّ الإمام الظَّاهر بن النَّاصر بـ
…
ـن المستضيء الماجد المستنجد
التَّائبين العابدين الحامديـ
…
ـن السَّائحين الرَّاكعين السُّجًّد
من دوحة نبويَّة قرشَّة
…
أكرم به فرعًا لأكرم محتد
لمَّا غدوا إنسان إنسًان العلًا
…
لبسوا سواد عيون كلَّ موحَّد
فهم الغصون المثمرات لمجتد
…
وهم البحور الزَّاخرات لمجتدي
ومنها:
يلقى الحروب بلا حقي سابق
…
لمع البروق وأعوجًّ أجرد
/178 أ/ فتراه ليثًا في الوقائع بلاسلًا
…
بل طود حلم فوق بحر مزبد
حكمت مواضيه على أعدائه
…
بهلاكهم ودمارهم وكأن قد
ومنها:
يا سيَّد الخلفاء دعوة شاكر
…
داع موال مخلص متودَّد
هجر العشيرة والعشير مهاجرًا
…
لأداء فرض في الجنًان مخلَّد
وافيت من وطني حماة بتحفة
…
ومفصَّل من مدحكم ومنضَّد
ووسيلتي إحسانكم وولاؤكم
…
وبضاعتي حفظ الصَّحيح المسند
إن كان يمنعني الشَّباب مطالبي
…
ياليته يبقى وإن صفرت يدي
[818]
محمد بن يحيى بن أبي دلف بن خشرمٍ، أبو عبد الله الواعظ البغدادي.
صحب الفقراء، وخالط الصالحين، وتشاغل بالوعظ، وفتح عليه قبة؛ فكان يجلس في كل جمعة بجامع ابن المطلب، وتحضره الخلق الكثير، وحصل له قبول تام، واستمر بذلك، وصار معروفًا به، ووحظى عند الإمام الظاهر بأمر الله- رضي الله عنه وأمره بالجلوس ببابب بدر وأنعم عليه بشيء وافر، وتحمل ظاهر ورتَّبه شيخًا بالرباط المجاور لعين ومعين بمشرعة الكرخ، ومقدمًا على من مرّ به.
ولمّا مرض المرضة التي توفي فيها- رضي الله عنه وصَّى أن يغسله، فأحضر وشرف بمباشرة غسله؛ ثم أقرَّ في الأيام المستنصرية على الجلوس في باب بدر، وأجري عليه من البرّ المتقبل في رجب قدر وافر، يصل إليه في كل رجب.
وهو رجل خيَّر جيد الكلام، حسن العبارة، عذب الإيراد، حاضر الاستشهاد.
/179 ب/ وهو القائل في الإمام المستنصر بالله، يمدحه- رحمه الله: -
[من الوافر]
سبى عقلي سنى البرق التَّهامي
…
وأجب عند عذَّالي التهامي
أضاء على فضاء الجزع وهنًا
…
فخرَّق جيب جلباب الظَّلام
وأسهرني وأسعر نار شوقي
…
وأجرى دمع عيني بابتسام
أيا حادي الرَّفاق دع المطايا
…
تسير إلى العراق بلا زمام
فحادي الشَّوق قلبك قد حداها
…
وهدَّاها إلى دار السَّلام
إلى حرم الخلافة زاد عّزًا
…
فللَّاجي به كلًّ المقام
منادي جوده في كلَّ ناد
…
ينادي أمَّموا ظلَّ الإمام
بنو العبَّاس في الدُّنيا شموسٌ
…
مطالعها من البيت الحرام
بجدَّهم نغاث كما سقينا
…
بجدَّهم شابيب الغمام
وللمستنصر المنصور مجدٌ
…
عريقٌ ثابت الآساس سامي
تلفَّع بردة المختار فخرًا
…
وأيَّد بالقضيب وبالحسام
ويسبق رأيه الرَّايات عزمًا
…
ويقتل روعه قبل السَّهام
فللدُّنيا وللدَّين ابتهاجٌ
…
بدولته المنوطة بالدَّوام
وجودك يا إمام العصر عزٌ
…
وجودك كالخضمَّ العذب طامي
/180 أ/ أمين الله قد فرضت علينا
…
مديحك منَّه النَّعم الجسام
وما أنا شاعرٌ يقفو القوافي
…
ولكنَّي بحَّبك يا إمامي
أصاب صواب وصفك صفو فكري
…
فكانت روميةً من غير رامي
[819]
محمد بن هبة الله بن حيدر البغداديُّ، أبو عبد الله، يعرف بابن المليحة.
أحد شعراء الديوان العزيز المستنصري- مجّده الله تعالى-، شاعر جيد حسن المقاصد، متصرف، خدم عن خدم سواداً وحضرة؛ وهو وكيل أحد السادة الأمراء، أولا الظاهر بأمر الله- رضي الله عنه.
وهو القائل في مدح الخدمة المستنصرية، زادها الله عزاً وشرفاً، وأوردها بالقرب الشريفة، بالرصافة في موسم رجب:[من الكامل]
ما زاره الطَّيف الملهمُّ مسلَّمًا
…
إلَاّ وودَّعه كراه وسلَّما
ولطالما هجر الكرى لكنَّه
…
جعل الرُّقاد إلى الزَّيارة سلَّما
صبٌ براه الشَّوق حتَّى لم يدع
…
في جسمه لحمًا يبين ولا دمًا
لو تستطيع دموعه كانت له
…
من طول ما يبكي المنازل لوَّما
/180 ب/ يصبو إلى الوطن القديم برامة
…
متأسَّفًا ويشوقه ذكر الحمى
لم يبق فيه معلمًا إلَاّ وقدً
…
وشَّاه ثوبًا بالمدامع معلما
حتَّى غدا قد عاودته يد النَّوى
…
عينًا مسهَّدةً وقلبًا مغرما
كم عاذل ظنَّ الملام يفيده
…
عتباً فأقسم لا يفيق متَّيمًا
أتراه رام به سلوَّاً بعدما
…
أخذ الهوى بعنانة فاستسلما
كلَاّ وزمزم والحطيم ومن سعى
…
بالبيت مستلمًا ولبَّى محرما
وندى أمير المؤمنين فإنَّه
…
قسمٌ يراه فريضةً من أقسما
خير الخلائف من سلالة هاشمٍ
…
ينتابه خلف الغيوم السُّجما
مستنصر بالله نور جبينه نور جبينه
…
يجلو ظلام الخطب أتَّى أظلما!
كم فكَّ مأسورًا وآمن خائفًا
…
وأجاب مضطرّاً وأغنى معدما
وأجار من جور اللَّيالي عدله
…
من آداه صرف الزَّمان وحطَّما
يدنو حباه للعفاة ولم يزل
…
يعفو عن الجاني المقرَّ تكرُّما
جودٌ يقلُّ له السَّحاب يزينه
…
حلمٌ يصغَّر يذبلاً ويلملما
ويومي يوم ندًى فلو أنَّ الحيا
…
يحكيه عمَّ العالمين إذا هما
يدنو حباه للعفاة ولم يزل
…
يعفو عن الجاني المقرَّ تكرَّما
جودٌ يقلُّ السَّحاب يزينه
…
حلمٌ يصغَّر يذبلًا ويلملما
ويومي يوم ندًى فلو أنَّ الحيا
…
يحكيه عمَّ العالمين إذا هما
من معشر ورثوا المشاعر والصَّفا
…
والرُّكن والبيت الحرام وزمزما
/181 أ/ وعليهم نزل الكتاب ومنهم
…
عرف الصَّواب وكان قدمًا مبهما
وبهم يرجَّي في المعاد شفاعًة
…
من جاء من زلَاّته متندَّما
والحوض حوضهم الَّذي استسقى به
…
من خاف يوم الحشر من حرَّ الظَّما
فلهم على الدَّارين حكمٌ نافذٌ
…
أمضى الإله نفوذه فاستحكما
حتى لقد أحيا الخليفة ذكرهم
…
جودًا وعدلًا في البريَّة قد نما
أيَّامه الغرُّ الحسان مواسمٌ
…
فلذاك ما خصَّ التَّهاني موسما
والدَّهر يكشر فعله فلو أنَّه
…
يسطيع نطقًا همَّ أن يتكلَّما
فاسلم أمير المؤمنين معمرًا
…
أبداً كما تهوى البقاء مسلَّما
وتنهَّ بالشَّهر الأصمَّ مؤيَّدًا
…
فالله نسأل أن تعيش وتسلما
المواسم والشهور ممتَّعًا
…
ملكًا على هام النُّجوم مخيَّما
لازلت منصور الجيوش مظفَّرًا
…
يجري بما تهوى القضاء المبرما
وقال أيضًا يمدحه، ويهنّيه بشهر رمضان:[من الكامل]
ما لامني فيك العذول مفنَّداً
…
إلَاّ وأتهم في هواك وأنجدا
وأثار بين جوانحي بملامه
…
ناراً يبيت لهيبها متوقَّدا
/181 ب/ يا مفردًا في حسنه وجماله
…
أصبحت من ولهي بحبَّك مفردا
ته كيف شئت ونم هنيئًا إنني
…
أمسيت ذا وجد عليك مسَّدا
ته كيف شئت ونم هنيئًا إنَّني
…
أمسيت ذا وجد عليك مسهَّدا
لي فيك قلبٌ لا يزال متيَّمًا
…
أبدًا ونومٌ لا يزال مشرَّدا
حتَّى م توليني جفاك فكلَّما
…
أبديت لي هجراً بذلت توددا
وإلى م أظلما في هواك وقد غدت
…
من فرط شوقي أدمعي لك موردا
ما بال قلبك كلَّما رقَّت له
…
في حسنها خدَّاك أضحى جلمدا
وعلى م لحظك قاتلٌ بفتوره
…
في جفنه والسَّيف ينبو مغمدا
وجفون عيني ما تحدَّر دمعها
…
إلَاّ تلقَّاه الأسى مستصعدا
فاضت شابيب السَّحّاب كأنَّما
…
مدَّ الخليفة من نداه لها مدى
خير الخلائف من سلالة هاشم
…
وأجلُّهم قدرًا وأعلى محتدا
مستنصرٌ بالله منصورٌ به
…
عذب الرَّضا حلو الجنى داني النَّدى
أعطى فبخَّل جوده صوب الحيا
…
وسطا فأردى بأسه صرف الرَّدى
وأجار من جور اللَّيالي عدله
…
فالشَّاة لا تخشى الهزبر الملبدا
خيفت مهابته وآمن جوده
…
من خاف من جور الزَّمان إذا اعتدى
ما شام بارق بشره باغي ندًى
…
إلَاّ تهلَّل للندى نور الهدى
/182 أ/ وبدت له سييما النَّبيِّ محمد
…
فكأنَّما ألقى النَّبيَّ محمَّدا
هذا الخليفة في البريَّة رحمةٌ
…
تركت فسوَّت بالقريب الأبعدا
فالله يحرسه ويحرس ملكه
…
أبدًا على مرَّ الزَّمان مخلَّدا
حتَّى تمتَّع بالبقاء فدهرنا
…
ندعو الإله بأن يعيش مؤَّبدا
والله يسعده بشهر الصَّوم فالدُّ
…
نيا وأهليها به قد أسعدا
وإذا حى أجر الصَّيام مضاعفًا
…
باليمن فالإكمال فيه عبَّدا
أبدًا على مرَّ اللَّيالي لابسًا
…
ثوب البقاء مدى الدُّهور مجدَّدا
[820]
محمد بن فاخر بن شجير البغداديُّ، أبو عبد الله
شاب فاضل، نشأ مشتغلًا بالنحو، حصل منه طرفًا جيدًا، ويقول شعرًا حسنًا. ومن شعره في مدح المستنصر بالله- صلوات الله [عليه]- ويعرض بذكر زلزلة عرضت ببغداد، عند زيارة الركاب الشريف بعض الأماكن المحترمة، فقال وأنشدنيه في أواخر
شهر رمضان سنة تسع وثلاثين وستمائة، بمدينة السلام، بجانبها الشرقي:[من الكامل]
/182 ب/ حتَّى م في سفه وفي إغفاء
…
والورد يدعونا إلى الصَّهباء
والجوُّ من عبق النَّسيًم ممسَّكٌ
…
والأفق منه معنبر الأرجاء
أفما ترى الأغصان مسن نضارًة
…
في حلَّة من سندس خضراء
من صنعة القطن الَّذي لم ينتسب
…
تفويف صنتها إلى صنعاء
فاشرب على زهر الرَّبيع سلافةً
…
لطفت عن الإدراك والإيماء
راقت ورقَّ نسيمها فللطفها
…
تسري مسير الرُّوح في الأعضاء
بكرًا على فرع المزاج مسنُّةً
…
عجبًا لها من ثيَّب عذراء
لم يغنها درع الحباب وقد غدت
…
مقتولًة عمدًا بسيًف الماء
ما العيش إلَّا شربها في روضة
…
قد كلَّلت بلالئ الأنداء
مذكورة الأنهار نام ظلُّهًا
…
أزهارها تحكي نجوم سماء
نشوانًة أغصانها قبًل الصَّبا
…
أهدت لها كأسًا من الصَّهباء
أو أنَّها غارت فمالت نشوًة
…
لمدائحي في سيَّد الخلفاء
مولًى يذل له الزَّمان المعتدي
…
ذلَّ العبيد لعزَّة الأمراء
أغنى العباد عن الجهاد بنائل
…
ومواهب غمرتهم وعطاء
ولقد أقول وما نطقت بباطًل
…
والحقُّ متَّضحٌ بغير خفاء
/183 أ/ ما زلزت بغداد بل من عدلًه
…
طربت فقد رقصت من السرَّاء
إذا كان ما زعموا فغير ملومة
…
شوقًا إلى ذي العزَّة القعساء
هذا الجمال فكيف بالمهج التي
…
أحييتها بالأمن والنَّعماء
فاسلم على الإسلام وابق مخلَّداً
…
ماكراَّ إصباحٌ وراء مساء
[821]
محمد بن إبراهيم بن أميّة بن عليَّ بن خلف، أبو عبد الله العبدريُّ
من أهل ميورقة من بلاد الأندلس
شاب أشقر قصير، من حفّاظ القرآن العزيز، زعم أنَّه درس صدراً من علم العربية وأتقنه. نزل حلب واستوطنها يسترزق من الوراقة والنسخ؛ وذكر أنَّه ولد سنة عشر وستمائة، ويقول الشعر.
أنشدني لنفسه بحلب، وكتبه لي بخطه في سنة أربعين وستمائة:[من الكامل]
عج بالكثيب المستهام وسر به
…
متيمَّمًا نحو العقيق وسربه
وانشد فؤادًا ضلَّ فيه وقل لهم
…
ليس المتيَّم آمنًا في سربه
واسفح بسفح الأبرقين وتربه
…
سحب الدُّموع على تشتُّت تربه
183 ب/ فلعلَّه يقضي لبانة نفسه
…
من قبل أن يقضي بلوعه حبَّه
يا مدنفًا عبث السَّقام بجسمه
…
ومتيَّا لعب الغرام بلبَّه
وطوى السُّرور لبينهم يوم النَّوى
…
طيَّ الأديب اللَّوذعيَّ لكتبه
خفَّض فديتك زفرةً أبديتها
…
وتلاف جفنك من إساله غربه
كي لا يقال من الصبابة قد صبا
…
وتضرَّمت حرق الجوى في خلبه
ومهفهف ملك القلوب بحسنه
…
وسبى العقول بغنجه وبعجبه
لدن المعاطف كالقضيب إذا انثنى
…
حلو المراشف والمقبل عذبه
سلس المقال من اللَّطافة سهلة
…
عسر الوصال من القطيعة صعبه
يقري المعنَّى من سلوةً وتجهُّمًا
…
ويظلُّ يعمل فكره في خلبه
أخدى السَّقام لجسمه ولطرفه
…
فرط السُّهاد وصدَّه عن قربه
يا لائم الصَّبَّ الشَّجي بحبَّه
…
أقصر بليت بدائه من عتبه
شتَّان بينكما تبيت منعَّمًا
…
ويبيت ملتهب الحشا من كربه
وقال أيضًا: [من الطويل]
سلامٌ يباري المسك والمندل الرَّطبا
…
ونشر نسيم الرَّوض عن
…
هبَّا
عليكم يبثُّ الشَّوق منَّي إليكم
…
ويمنحكم محض المودَّة والقربا
/184 أ/ تحية نائي الدَّار فالأهل ما قضى
…
له وطراً لكن قضى نحبه نحبا
يحنُّ إذا هبَّ النَّسيم صبابًة
…
إليكم وسلَّ البرق من ومضه عضبا
ويستنجد الصبر الجميل إذا جرى
…
حديثكم يومًا فهاج له كربا
لعمري ما تأخيري كتبي عن قلى
…
ولا ملل منَّي فأستوجب العتبا
ولكن ريب الدَّهر يا صاح مولعٌ
…
بتشتيت شمل المرء تبَّا له تبّا
تطوَّحه أيدي النوى عن
…
.... فترمي به شرقًا وطوراً به غربا
لحا الله من لا يقبل العذر من أخ
…
ويوسعه عفواً وإن قارف الذَّنبا
عليكم سلام الله ما جنَّ غاسقٌ
…
وما جنَّ شوقاً عاشقٌ أو رعى الشهُّبا
وما شرَّقت شمس النَّهار وأشرقت
…
وما صدَّ أحوى الطَّرف عن مدنف عجبا
وله أيضًا: [من الطويل]
أثمَّ محيًّا نجتلي وجه أغيد
…
وأحلى حديث لا يملُّ عتابه
وأحسن زهر يجتنى ورد خدَّه
…
وأعذب ورد يستلدُّ رضابه
وله أيضًا: [من الطويل]
خليلي لوما في الهوى الصَّب أو دعا
…
فليس وإن عنَّفتما عنه مقلعا
وهل يرعوي في الحبَّ حرَّان قد غدا
…
من الوجد لا يصغى إلى العذل مسمعا
/184 ب/ وهل يستطيع الواله الصَّبُّ سلوةً
…
وقدبان من يهواه عنه وودَّعا
وأودع ما بين الجوانح جذوةً
…
فضرَّمها داعي التَّفرق إذا دعا
وقلقل أحشاء المتيَّم لوعةً
…
فأصبح مذعوراً الفؤاد مفجَّعا
يهيم
…
العذيب إذا سرى
…
نسيمٌ عليك منهم فتضوَّعا
تمازجه أنفاسهم فكانَّما
…
تحمَّل مسكًا أذفرًا فيه مودعا
[822]
محمد بن سالم بن مطر بن حمد بن سالم بن مطر بن مسلم بن أبو عبد الله القبيضي الموصلي.
من أهل القبيصة، وهي قريٌة من قرايا الموصل شرقيَّها
نزل حلب، وسكن بعض مدارسها، متفقهًا وجاد خاطره بالشعر، وقال منه كثيرًا وسلك فيه مذهبًا حسناً في صناعته.
أنشدني منه جملة وافرة، ومما أنشدني قوله بحلب سنة أربعين وستمائة:
[من الكامل]
لو كان في جفنٌ يلمُّ به الكرى
…
لرجوت أن ألقى الخيال إذا سرى
لكن قضى من لا أعرَّض خيفة الـ
…
ـواشي بذكر جماله أن اسهرا
رضاٌ يصول من الجفون بأبيض
…
ويهزُّ من لدن المعاطف أسمرا
/185 أ/ نزلت باية حسنة سور الجوًى
…
تتلى بألفاظ الغرام على الورى
لي فيه جفنٌ ما تألق بارقٌ
…
للبين من مغناه إلَّا أمطرا
أضحى لمنصور الجمال يدٌ على
…
سفَّاحة فلذلك يغدق جعفرا
لولا ......
…
يا عاذلي منَّي الطُّلول كما ترى
ولما أباح لي الولوع من الأسى
…
في مذهب الوجد النَّصيب الأوفرا
وسفحت في سفح اللَّوى دمعًا متى
…
حرقاً جرى ذكر العقيق له جرى
وإذا شككت فخذ حديث كابتي
…
من عبرتي فحديثها لا يفترى
أغريب ذاك الحيَّ برح صبابتي
…
بكم أنزَّه سرَّه أن ينشرا
أيضام قلب الصَّبَّ وهو نزيلكم
…
ويصد عنه وشمية العرب القرى
أحبابنا حاشى حفاظ مودَّتي
…
لكم بطول البعد أن يتغيَّرا
أحسنت ظنَّي في الهوى بجمالكم
…
فسواء جرتم أو عدلتم لا أرى
وإلى سواكم لا شكوت صبابتي
…
في الدَّهر طوَّل عاذلي أو قصَّرا
وأنشدني أيضًا لنفسه، من قصيدة يمدح بها الملك الصالح أحمد بن الملك الظاهر /185 ب/ غياث الدين غازي بن يوسف:[من الرجز]
لو صقت بوعده وعوده
…
لما وفى بهجره وعيده
بدر دجًى فتَّر عن مؤشَّر
…
شفاء داء صبَّه بروده
للغصن من أعطافه شمائلٌ
…
وللغزال طرفه وجيده
يشرق صبح الحسن من جبينه
…
إذا بدا ويجتلي عموده
له بديع مهجتي خميلةٌ
…
وفي فؤادي لوعتي زروده
لولا فتور لحظة ما خضعت
…
يومًا لآرام النَّقا أسوده
برَّح بي في حبه رقيبه
…
وصدَّ عن جفني الكرى عتيده
أضحى لطرفيَّ بروق هجره
…
سحائب يحسنها رعوده
وكيف يرجى قربه وللنوى
…
حوادثٌ عن قربه تذوده
عليَّ من عروض بحر حبَّه
…
دائرةٌ أسبابها صدوره
فوافر الصَّبر الَّذي أدخرته
…
لهجرة قطعه مديده
يا كعبة الحسن الَّذي للحظه
…
مهنَّدٌ شاهده شهيده
وحَّدك القلب فدار لوعًة
…
بغير معناك ولا سجوده
وقلب صبَّ كلَّما نازعه
…
العاذل في سلوَّه يزيده
/186 أ/ كالملك الصالح ما عذلته
…
على النَّدى إلَّا وزاد جوده
ملكٌ سجاياه على مكانة
…
إذا ادَّعى فضيلةً شهوده
يحمي حمى مجلسه طارفًه
…
ويتَّقي عنه الرَّدى تليده
فالنَّصر حيث تبتلى جيوشه
…
والعزُّ حيث تجتلى بنوده
إكسيره للكيمياء ذكره
…
والجود من راحته تصعيده
وأنشدني لنفسه، يمدح المولى الصاحب الوزير العالم مؤيد الدين أبا نصر إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم الشيباني- أدم الله توفيقه وتسديده-:[من الخفيف]
أيُّها الصَّاحب الَّذي فضله البا
…
هر بين الأنام لا يستطاع
والَّذي لم يزل بذكر مساعيـ
…
ـه جلالًا تشنف الأسماع
لتباطيك المنيع نوال
…
ليس فيه عن العفاة امتناع
جمع المجد بشره بالعطايا
…
فعلى سعد نشره الإجماع
أروعٌ ينثر
…
بنظم الجزم
…
إذ لدنه القويم اليراع
ولكم ..... .... القراع الرقاع
/186 ب/ فمساعيه ليس فيها إذا نو
…
زع في المكرمات قومٌ نزاع
ولعمري لولا نداك لما قا
…
مَّ لشرع السَّماح يومًا شراع
أيُّها الصَّاحب الوزير ومن يصـ
…
ـرف بالعدل كلَّ خطب يطاع
والَّذي لم يزل به لجناب الـ
…
ـملك عزٌ مذ ساسه وارتفاع
بي إلى لثم ثغر ظلَّك شوق
…
أبدًا تستفزُّ الأطماع
حرمٌ حجُّة على أربي فز
…
ضٌ وسعيي إليه فيه انتفاع
ومديحي إن ضغت عقد ثنائي
…
لسوى جيده الأثيل الضَّياع
وأنشدني لنفسه فيه أيضاً يمدحه: [من مجزوء الكامل]
يا غائباً وخياله .. في القلب منَّى حاضر
ومهفهفًا أنسي به
…
وهو الغزال النَّافر
أشكو إليك هوًى به
…
ربع التَّجلد داثر
وجوى أقام بمهجتي
…
وله فؤادي طائر
وأما وخد ورده
…
يحميه طرفٌ ساحر
وبنظم ثغر درُّه
…
لعقيق دمعي ناثر
إنَّ الغرام كما عهد
…
ت وفوق ما أنا ذاكر
/187 أ/ وعلي عامل قدَّك الـ
…
ـلَّدن المثقَّف ناظر
يا هاجري رفقًا بمن
…
هو في حماك مهاجر
لجمال وجهك في النَّوى
…
سلطان حسن قاهر
ما للصبابة أوَّل
…
اليوم هجرك آخر
ونهى العذول وكيف والـ
…
ـوجد المبرَّح آمر
يا راقداً لي ناظرٌ
…
ساه لبعدك ساهر
صبٌ جواه وصبره
…
واف عليك وغادر
يا من شمائله على
…
قتًل المحبَّ تظافر
ليلي مديدٌ مذ هجر
…
ت وفرط شوقي وافر
أنا لا أخاف إذا
…
ألمُّ بحادث وأحاذر
ومؤيَّد الدَّين الوزيـ
…
ـر لكسر قلبي جابر
مولًى سحاب نواله
…
هامي الماثر هامر
من بشره في كلَّ وجـ
…
ـه للمقاصد ظاهر
وبه أطارحً في السَّما
…
ح ذوي العلا وأناظر
ولمجده في كلَّ نا
…
حية حديثٌ سائر
/187 ب/ وأنشدني لنفسه، في رجل شيعي المذهب، غال في التشيع، من أهل الحلة المزيدية، ورد حلف، وأقبلوا عليه الشيعة، وتعصبوا له، فظهر يومًا منه في حق الصحابة كلام قبيح، فأخذه صاحب الأمر يومئذ، فشهره وأركبه حمارًا، وصفعه وطيف به في المدينة، فقال في ذلك أبو عبد الله محمد بن سالم:[من السريع]
قل لذوي الرَّفض وأشياعهم
…
يا ذا العلا قول فتًى مثلي
لا تظهروا في حلب فتنةً
…
ويحكم عودوا عن الجهل
وميِّزوا الأمر بطرف النهى
…
ففرع ذا الأمر بلا أصل
وإن أبوا من بعد ذا نصحهم
…
قد سمعوا ما حلَّ بالحلِّي
وأنشدني لنفسه أيضًا من غزل قصيدة أولها: [من الرمل]
خذ أحاديث الهوى العذري عنَّي
…
فلوجدي فيه يروى كلُّ فنِّ
وإذا كرَّر أنَّات الأسى
…
بلسان الدَّمع جفني لا تلمني
/188 أ/ إن ثناك العذل عن برح الجوى
…
يا فؤادي سلوًة ما أن منِّي
أيُّها اللَاّئمي نصحًا في الهوى
…
أنا لا أقبل نصح اللَّوم دعني
وإذا كنت معيني رحمًة
…
فعلى الأطلال بالدَّمع أعنِّي
بي جوًى يا حبَّذا فيه الضَّنى
…
والهوى أعذبه ما كان يضني
أوما هاتيك أعلام النَّقا
…
فإذا لم أبكها ما عذر جفني
يا غزال الجزع من سفح اللَّوى
…
هات حدَّثنا عن الظبي الأغنِّ
واحكه لحظًا وإن فاتك من قدِّه معتدلًا ذاك التَّثني
أيُّها الشَّاكي تجنِّي إلفه
…
في الهوى أهون ما عندي التَّجنِّي
كلَّما زاد جمالًا قاتلي
…
قلت: يا باعث فرط الشُّوق زدني!
وعلى البان حمامٌ كلَّما
…
بات يدعو إلفه، جدَّد حزني
يدعي ما أدَّعي واعجبًا
…
منه إذ أبكي غرامًا ويغنَّي!
وأنشدني أيضًا لنفسه، في صبىّ يعرف بالماء ورد؛ فحضر عند صديق، وأنفذ خلفه، وقال: قم إلى الماء ورد فهو يستدعيك؛ فعمل أبو عبد الله بديهة مع الرسول هذه الأبيات: [من المديد]
/188 أ/ أيُّها المولى الشِّهاب ومن
…
ذكره بين الورى ساري
والَّذي لولا مكارمه ما
…
حلت في الدَّهر أشعاري
أخرج الماورد عنك فما
…
تصطلي يا ذا العلا ناري
واغتنم شكري علاك ففي
…
ترك شكري غاية العار
لا يرى الماورد في بلدٍ
…
قطُّ إلَاّ عند عطَّار
وأنشدني أيضًا لنفسه، في غلام خيّاط، كان يعشقه شخص، وكان أبو عبد الله يطبّب العاشق:[من مجزوء الرمل]
أيُّها الغائب عنِّي
…
وهو في دارة قلبي
والَّذي لا أتمنَّى
…
غير أن يحييه رِّبي
لك مني خير خلِّ
…
راح في بعد وقرب
واقفًا في كل حالٍ
…
كيف ما تدعًو يلبِّي
والًّذي أنصح مولاي به
…
من دون صحبي
إنَّ عندي لك ما
…
يغنيك عن أكل وشرب
غصن بان بدرتمًّ
…
طالعٌ من تحت شرب
/189 أ/ أنت ذو جسم عليل
…
وفؤاد فيه صبِّ
وأنا يا غايتي القصـ
…
ـوى كمًا تعرف طبِّي
وسوى ذا أنَّ من تهـ
…
ـواه عندي وبجنبي
وأنشدني من شعره، يمدح القاضي كمال الدين أبا بكر أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الأسدي، قاضي حلب:[من مخلّع البسيط]
مولاي قاضي القضاة يا من
…
خدمته أشرف المعالي
ومن نداه بكلِّ حالٍ
…
وجاهه دائمًا معًا لي
أنظر فداك الأنام طرّاً
…
من جور دهري في أمر حالي
عساه يمسي ياذا المعالي
…
بعقد [هذا] السَّماح حالي
يا ما جداً لم يدر يمينًا
…
بمدحة غيره ببالي
أرف بنعماك ثوب صبر
…
منَّي على النَّائبات بالي
[وفز بحمد كالمسك عرفًا
…
من عبدك الشَّاكر المولى]
وهكذا لم تزل لعلمي
…
تقصد ساداتها الموالي
يا من نداه في كلِّ يوم
…
يشير نحوي على التَّوالي
لو شئت ألوى الزَّمان عنِّي
…
بكفِّ نعماك لا لتوى لي
/189 ب/ أصبح من عدلك البرايا
…
دام لك العزُّ في ظلال
وليس يخشى من راح يهدى
…
بأحمد وقفة الضَّلال
حسبي أنَّي أتيت أرجو كمال حظِّي من الكمال
وراجيًا أن يموت غيظًا حاسد فضلي أسًى كمالي
وأنعم على بهذه الأبيات، قالها حين سمع إنني قد أنزلته في كتابي هذا، وأثنيت عليه، فسيرها إلىّ:[من الخفيف]
يافلاًن الدِّين الَّذي ساد إذا شا د لأهل القريض رٌكن المعالي
والَّذي شاع ذكره العذب إذ صا غ لهم ما غدا به الفضل حالي
أيُّ نحر خلا لغادة بحر من معان قلَّدته كاللآلي
بمساع قد أعجزت كل ساعً
…
ومعال من دونها كلُّ عالي
غبَّرتً حين حبِّرت حلل الًا
…
داب في أوجه العصور الخوالي
يا أجلَّ الأنام طرّاً محلًا
…
وأجلَّ الأنام في الإجلال
كان ثغر القريض لولاك تنغور
…
المباني وبال بانيه بالي
ولعمري ما الروض راضته أيدي الـ
…
ـمزن جودًا بالوابل الهطًّال
/190 أ/ بين دوح عليه للورق نوحٌ
…
وظلال مشفوعة بظلال
ونسيم الصَّبا يهزُّ قدود الـ
…
ـبان تيه الصَّبا بكفًّ الدَّلال
يرقص الدَّوح كلَّما صقَّق الـ
…
ـماء بها في الغدوِّ والآصال
كطروس رقَّمتها بسطور الـ
…
ـحمد في وجنة العلا للجمال
من كتاب جمعت فيه من الآ
…
داب روح الألباب لبَّ المقال
نصبته نعًماك كعبة ذكر
…
للمًعالي على ممرِّ اللَّيالي
فعليه صلاة كلِّ صلاة
…
وإليه توجه الآمال
وله تسجد التَّصانيف من مذ
…
هب أهل القريض في كل حال
سيَّما كلَّما تلا النَّاس آيا
…
ت معانيه في مجال جدال
ولعمري .... للأرواع الأبـ
…
ـرع يومًا إليه شدُّ الرِّحال
وقريبٌ كماله في معانيـ
…
ـه إذا كان نشو ذكر الكمال
[823]
محمد بن عبد الكافي بن الياس بن محمود بن عبد الملك، أبو عبد الله البغداديُّ.
قال الوزير الصاحب أبو البركات المستوفي- رحمة الله تعالى-: كان أبوه خازن دار الكتب ببغداد، وعزل عنها. ورد إربل في صفر سنة ثمان وعشرين وستمائة؛ /190 ب/ شاب ربعة يعظ. سألته عن مولده، فقال: ولدت في يوم الخميس ثامن صفر سنة ثلاث وستمائة.
ثم قال أنشدني لنفسه يتغزل: [من الخفيف]
صاد قلبي وزاد في بلواه
…
وجفاني مهفهفٌ أهواه
خنث الدَّل أهيف القدِّميَّا
…
سٌ بديع الجمال عذبٌ لماه
ساحر الطَّرف لا يرق لصبًّ
…
فتنته بحسنها عيناه
ومريض يحبُّه كلُّ آسيه
…
وفي آس عارضيه شفاه
قدُّ الذَّبل الرَّشيق وعينا
…
هـ سهامٌ تصمي الَّذي يهواه
يتثنَّى، فينثني عزم سلوا
…
ني ويأبى إلاّله ورضاه
عقد سحر الجفون حلَّ اصطباري
…
عن سلوِّى فلم أحل عن هواه
خان عهدي فواصلت عبراتي
…
آه من هجره وطول جفاه
فدوائي لثم المراشف منه
…
وشفائي فيما حوت شفتاه
[824]
محمد بن عبد اللطيف بن أبي الفتح بن أبي نصر، أبو عبد الله التبريزيُّ.
ويكتب في نسبته: "النثري ذو البيانين" لتعاطيه نوع المنثور دون المنظوم.
أخبرني أنه ولد بتبريز /191 أ/ سنة أربع وسبعين وخمسمائة. وشدا طرفًا من العلم في صباه، واعتنى بصناعة النثر، وتعاطي الكلام المسجوع والقرائن. وكان يتبع الكلمة بما وازنها ويلحقها بأختها، تشبهًا بطريقة وطواط الكاتب، فيما كان ينشئه؛ غير أنه يبين فيما يعمله تكلُّفٌ وركاكة؛ للزومه الأسلوب الذي يتوخاه، وله شعر بارد، وكان ذا هوس شديد في الطلسمات والنجوم.
نزل الموصل وسكنها مدة طويلة، وانضاف إلى خدمة بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله، وأجرى عليه رزقًا، وصار أحد ندمائه وجلسائه؛ ثم فارق خدمته وسافر إلى بلاد الشام، ونزل حلب، وأقام بها مديدة، وعاد إلى الموصل، فمكث بها شهوراً، وتوفي في ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وستمائة.
وكان رجلاً مفَّوهًا بالكلام، ذا فصاحة في لسانه، هدّاراً لسنًا، حسن المنطق، عذب الإيراد، يتشدق في إنشاده. وكان مليح الشكل، نظيف البَّزة، جميل الهيأة.
من شعره ما أنشدني لنفسه بالموصل، يمدح بدر الدين أبا الفضائل لؤلؤ بن عبد الله- صاحب الموصل-:[من الطويل]
نسيم الصَّباعج بالخيام رسولاً
…
تجد عندها برد الحياة وسولا
/191 ب/ وحيَّي مليك الأرض تحظ بقربه
…
تنل غرراً من جوده وحجولاً
تأنَّ إذا بادرت نحو جنابه
…
وعرَّج برفق لا يراك عجولاً
وإنَّك إن لم تعتضد بجلاله
…
أفادك شوب الحادثات ذبولاً
وجانب ملوك الأرض عند لقائه
…
فأخلاقه للمكرمات هيولى
تر العدل والإحسان والعزَّ والعلا
…
جنائبه في سيره وخيولًا
مليكٌ إذا ما جئت تطلب رفده
…
أفاض من النُّعمى عليك سيولا
من النَّفر البيض الَّذين برأيهم
…
يجرُّون فوق الكائنات ذيولًا
هو البدر والعلياء تحوي منازلًا
…
وحشمته فيها تحلُّ حلولًا
أرى الدَّهر لمَّا أن أرانا بعاده
…
أحلَّ بناريب الزَّمان غلولًا
فصرنا فروعًا لأبقاء لذاتنا
…
كقضبان بان قد فقدن أصولًا
ألا بح بأشواقي وكرر مدائحي
…
وبلِّلغ دعائي دائمًا وفضولًا
فلو سامح الدًّهر [الخؤون] بنظرة
…
وصلت إلى ذاك الجناب وصولًا
وهنَّئت مولى العالمين مبشَّراً
…
بفتح جديد أو لكنت أصولًا
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من السريع]
مالك لا تبكي بدمع هتون
…
قد كسَّر الموت متون المتون
/192 أ/ إذ قال جبريل وهم صامتون
…
إنَّك ميِّتٌ وهم ميِّتون
وأنشدني كثيراً من اشعاره، وعلقت منها جملة، إلاّ أنني استبردتها، وهذه نبذ من نثره الذي كان يستعمله، ما كتبه إلى شهاب الدين طغكين بحلب.
"عبد ولائه، عند بلائه، وهجير لاوائه، يستجير بلوائه، وينتمي إلى كره الغامر، ويحتمي بحرمه العامر، شاطراً سننه، ذاكرًا سننه. ويشتهي أن ينتهي بالصعود إلى السعود، بالارتقاء إلى اللقاء، وبالحركة إلى البركة، ويفوه بما ألفوه من الثناء في الأثناء، على علا خلاله وجلاله- صانه الله كما زانه الإله-، معرّضًا عن التثقيل، متعرّضًا بما قيل:
[من الطويل]
خذوني رخيصًا باحتياجي إليكم
…
ويرخص عند الإحتياج مبيع
وما أنا إلا المسك ضاع فعندكم
…
يضوع وعند الأرذلين يضيع
لا زال لهزال الآمال بالمال مسمّنًا، وفي النزال للرجال عن الآجال مؤمنًا، والسلام".
وله إلى المهذب نائب المستوفي بالرّوم:
/192 ب/ "الخادم القادم، ينادم الولاء، ويصادم البلاء، بقدومه على علا مخدومه، مع أنه جمع أنه، لائذٌ بحرمه، عائذٌ بكرمه، متكفلٌ لولائه، متطفلٌ على عليائه، ناشرٌ سناه، ناثٌر ثناه، ذاكرٌ نجده، شاكرٌ مجده، حافظٌ على الدعاء، لاقطٌ للإدعاء، جائٌل في الأرجاء، قائٌل بالرجاء:
[من المتقارب]
إذا أمَّني حادثٌ كارثٌ
…
فليس ملاذي سوى بابه
وذاك لأنَّ المعالي إذا
…
أتيحت حللن بألبابه
لا زال لهزال الآمال، كعبة الأعمال، على الإجمال، بمحمد وآله خير الآل".
وله يرثي بعض الجهات:
"أما ترى إلى هذه الرزيَّة المكدرة، وما جرى لهذه الرضيَّة المخدَّرة، رجعت القهقرى، وأضجعت في الثرى، ..... واحجبت بالتُّراب عن الأتراب"
وله في فصل طويل يقول منه:
"يا ثمال الفصحاء، ويا جمال النصحاء، حيّاكم الله، وبيّاكم الإله! . قد تقرر في الأذهان، وتحررّ بالبرهان؛ أن الطول والعلا، والحول والاستيلاء، للعلي
…
الأزلي، يفيد ويبيد ويعيد، ويفعل /193 أ/ الله ما يشاء ويحكم ما يريد".
يقول منه:
"الملك المعظم، والأتابك الأعظم، الملك القاهر، والفلك الزاهر؛ عز الدين، وكنز الخدين، الليث الحامي، والغيث الهامي، والنور اللامع، والسور الجامع، كورة الفطنة، وباكورة السلطنة، سليل السيادة، وأكليل السعادة، نور سيما جبين اللآلي، مهَّد الله قواعد دولته، وتعهد الإله
سواعد صولته، ما نثر مقول، وبعثر معقول، وعسعس الديجور، وتنفس المهجور".
وله كثيرٌ من هذا الجنس.
[825]
محمد بن عبد المحسن بن محمد بن عبد الله القرشيُّ، أبو عبد الله.
من أهل مصر.
كانت ولادته بها، في سنة ثلاث وستمائة تقريبًا.
قرأ القرآن العزيز على جماعة من المشايخ بالقدس، وجوّد القرارات بدمشق، ويلزم نفسه بالرياضة والمجاهدة، ويسلك مسلك أولى المعارف، وذوي الأحوال، ويسافر على قدم التجريد، ويؤثر العزلة عن الناس، /193 ب/ والإنفراد بنفسه والخلوة، لا يختار مخالطتهم ومعاشرتهم، وفي معظم أوقاته يرى منقبضًا منهم، متجنبًا عن لقائهم، يبقى الخمسة والستة الأيام، لا يتناول فيها طعامًا ولا شرابًا البتة؛ وهو قائم بذات نفسه، ويروِّضها بالجوع، ومنع الشهوات، وخشونة الملبس. ولم يزل تلك الأيام في صلاة وفي تسبيح، وذكر لله تعالى، فاكتسب بهذه الرياضة؛ ضيق العطن، وإساءة الخلق، وجفاءٌ الطبع، وفراغ الرأس.
ويخطر له خاطر في الشعر؛ فينظم منه عدّة مقطعات، ثم يتراءى له في تلك الحال، فيأخذه فيمزقه ويغسله، ولم يظهر منه شيئًا أصلًا؛ لكوهنة تعتريه، وسوداء تغلب عليه.
شاهدته بحلب في محرم سنة خمس وخمسمائة، وسألته أن يملي علىّ شيئًا من أشعاره، فامتنع ساعًة، وأملى على منها، وكتبته عنه، فمن ذلك ما أنشدني لنفسه:
[من الكامل]
نحوي سرت كلُّ المسرَّة فاعملوا
…
من واصل المحبوب فهو منعَّم
عندي أقام الحبُّ أجمع كلُّه
…
فله بصدري منزلٌ ومخيَّم
ومناولاتٌ عندهن مظاهرٌ
…
فيها مقاماتٌ تجلُّ وتكرم
/194 أ/ أصبحت ما بين الأنام منكَّرًا
…
متخفَّيًا متجلببًا لا أفهم
واصلتهم فقطعتهم وعرفتهم
…
فحجبتهم عنِّي ومثلي يكتم
مال الزُّهد والتَّسبيح فقرٌ خالصٌ
…
كلَاّ ولا عريٌ كأنَّك محرم
ما الفقر قول لا ولا هو صورةٌ
…
بل ذاك أعلى أن يحدَّ وأعظم
سرٌّ أرقُّ من النَّسيم لطاقةً
…
حرفٌ على كلَّ البريَّة يعجم
كم عابد متقشِّف ومسهَّدٍ
…
وهم الأجانب ما إليه تقدَّموا
وأنشدني لنفسه في ذم الهوى: [من الطويل]
أرى الحبَّ لا يحلو مذاقاً ولا يجدي
…
وغير العنا للواله الصَّبِّ لا يبدي
ألا لا راعى الله الهوى ولكم هوًى
…
بصبٍّ صحيح الودِّ متَّصل العهد
وناصر دين الحدبِّ بالمدح إنَّه
…
ليهذي ولا يهدي إلى سبل الرُّشد
أمن بات مفتونًا وأصبح والهًا
…
وعاش حزينًا في الرَّخاء عن الجهد
فيا مادحًا عيش المجِّبين إنًّما
…
تغرُّ وإلِّا ذقة تظفر بما يردي
فليت الهوى لم تجر في فيه سنَّةٌ
…
فلم أجن غير الضُّر والصِّ والكدِّ
أبيت على جمر الغضا متقلقلًا
…
وأصبح من نار الصَّبابه في وقد
فمن نوحي الورقاء أبدت ناحيًة
…
ومن زفراتي أودع النَّار في الزَّند
/194 ب/ ولكنَّ ذا معنى وذلك صورةٌ
…
فمن أجل ذا يخفي وشاهده عندي
حنينٌ أنينٌ حرقةٌ زفرةٌ جوًى
…
غرامٌ شجونٌ زاد عن غاية الحدِّ
فأخبار وصل الحبِّ لا أعلم لي بها
…
وإقراء صحف الهجر بالشَّدِّ والمدِّ
ولا ذنب للمحبوب في ذاك كلِّه
…
بل الحكم للأقدار تجري علي عمد
تذلُّ عزيزاً تأنف الذُّل نفسه
…
وتترك حرَّ القوم يخضع كالعبد
ألا فرجٌ يرجى، ألا سلوةٌ ترى
…
إلى كم كذا مالي وللهجر والصَّدًّ
ومما قاله أيضًا: [من الخفيف]
عفِّر الخدَّ بالتُّراب ذليلًا
…
إن ترد للوصال حقّاً وصولا
واله باللَّهو عن ملاهي أناس
…
نبذوا العهد واستحبُّوا البديلا
وتجاف الجفا لخلِّ التَّخلِّي
…
عن سوى ساحة الغرام مقيلا
واشرب الكأس من يدي من يعاطيـ
…
ـك سلافًا – تنزهان تحولا
مَّ خذها صرفًا بغير مزاجٍ
…
واقبل النُّضح قد وجدت الدَّليلا
واغتبقها ثمَّ اصطبحها وباكر
…
قبل داعي الفلاح ارحًا شمولا
ثمًّ جل في فنون حبِّك فردًا
…
لا تصافي مفنِّدًا أو عذولا
واقر عمَّا تراه ممَّا سيفني
…
وتأمل تر الورى مستحيلا
/195 أ/ هوِّن الهون واطَّرح طمح النَّفـ
…
ـس إلى عزِّها لتدعى خليلا
لا تخف أن ذللت في الحبِّ واصبر
…
إنَّما العزُّ أن تراك ذليلا
وتهتَّك بحبِّ كم أنت مغرى
…
بهواه عساه يشفى الغليلا
دع دواعي السُّلو إن طال هجرٌ
…
لست بالصَّبِّ إن أردت بديلا
مت معنًّى وعش فقيرًا حقيرًا
…
من سوى عثرة الهوى مستقيلا
وقال أيضًا: [من الرمل]
قلت النَّفس: أنا عاشقةٌ
…
قلت: من؟ قالت: لمن أسقمني
قلت: فالمسقم من يعشقه؟
…
ليس بالمحبوب من المني
قالت: السُّم رضائي لذَّلي
…
ارتضيه حبَّذا من سكن
قلت: تختاري البلى طالعًة؟
…
ليس ذا من فعل أهل الفطن
فأجابت: يا معنَّى إنَّني
…
أنا أدرى بالَّذي تيَّمني
لا أطيق الصَّبر دعني والهوى
…
يشتفي منِّي ويضني بدني
كم إلى كم نتمَّنى راحة
…
من عناء الحبِّ والعمر فني
مستحيلٌ أن ترى في راحة
…
مستريح البال من ذا الشَّجن
واسل عن سلوة قلب مغرمٌ
…
صادق في حبِّه مؤتمن
/195 ب/ أنا لا أسلوه مذ نادمني
…
وسقاني ما به أسكرني
خلِّني من ذكر أخبار الألى
…
واتل آيات الهوى في أذني
وإذا ما شئت أن تطربني
…
ردِّد اللَّحن بيجان مني
فهو جاني وجناني والمنى
…
جان يا رست من يارمني
[826]
محمد بن عبد الملك بن عيسى بن درباس، أبو حامد المارنيُّ.
كان والده يتولّى القضاء بالديار المصرية، وقاضي قضاتها، يكني أبا القاسم. وكانت ولادته بالمروح من إربل.
وابنه هذا أبو حامد مصري المولد والمنشأ؛ فقيه عالم أديب شاعر. وكان شابًا ضريرًا، مليح الشعر، حسن الغزل، ومنه قوله:[من الطويل]
أقدُّك أم غصنٌ من البان يختال
…
وردفك أم دعصٌ من الرَّمل ينهال
وثغرك أم درٌ تنظَّم سلكه
…
يجول عليه من رضابك سلسال
وليل دجًى أم فاحم الشَّعر مسبلٌ
…
ووجهك أم بدرٌ له الدَّهر إكمال
وطابع مسك في توقُّد وجنة
…
يلوح لعيني منك في الخدِّ أم خال
شغلت بتعذيًب القلوب صبابًة
…
فأشغلها من فرط حبِّك أشغال
/196 أ/ تدلُّك أنفاسي على أنَّ في الحشا
…
لنار غرامي والصَّبابة إشعال
فلا تحسبوا أنَّ العذار بخدِّه
…
ولكنَّه من حاكم الحسن اشتغال
يعنِّفني من ليس يجدي ملامه
…
ويعذلني في مؤلم الوجد عذَّال
لقد كثَّروا لي في الملام وطوَّلوا
…
وقالوا ولكن لست أقبل ما قالوا
وكيف استماع العذل في قمر الدُّجى
…
ومن يترضي منه .......
فلا يطمع العذّال إذا مرضى الهوى
…
ببرء، فما يرجًى من الحبِّ إبلال
[827]
محمد بن عبد المنعم بن محمد، أبو عبد الله الخيميُّ.
من أهل مصر.
أنشدني الإمام أبو القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة الفقيه الحنفي المدرس- أسعده الله تعالى- قال: أنشدني أبو عبد الله بن عبد المنعم الخيمي لنفسه.
[من الكامل]
من مبلغٌ عنِّي كريم تحيَّتي
…
قومي بجرعاء العذيب وجيرتي
الذَّاهبين ولا اعتراض عليهم
…
بحشاشتي والمذهبين بقيَّتي
قومٌ طوال الدَّهر أشهدهم معي
…
وهم بأعلى حاجر واحيرتي
أصبو لغزِّ جمالهم وإلى لذيـ
…
ـذ وصالهم يا بعد مرمى صبوتي
وأصدُّ عنهم حيث كان مرادهم
…
بعدي وكلِّي نظرة المتلفِّت
/196 ب/ قالوا دلالًا حين قلت من الجفا:
…
قدمتُّ: مت فحييت إذ قالوا: مت
من لي بهم والدَّار غير بعيدة
…
من دارهم والشًّمل غير مشتَّت
أمطالبي بالصَّبر والسُّلوان ماً
…
ت لك البقا صبري الجميل وسلوتي
إنِّي مليٌّ بالغرام وليس لي
…
بالصَّبر عن أحبابنا من ذمَّة
إعلم بأنِّي في محبتَّهم فتُى
…
ما حال عن عهد الغرام وما فتي
وبأنَّ وجدي ذلك الوجد الَّذي
…
تدرونه وصبابتي تلك الَّتي
ما خانهم كلفي القديم ولا وفى
…
صبري ولم تتعدَّهم أمنيَّتي
إن شئت تعرف صنعة الحبِّ الَّتي
…
صحَّت به حالي وحالت صحًّتي
فانظر لأحمد أدمعي ولأصفر
…
من وجنتي ولأبيض في لمَّتي
واعلم علوم الوجد من حالي وخًذ
…
خبر الغرام وأهله من سيرتي
فيقلُّ إن نسبوا إلىَّ كثِّير [اً]
…
وتذُّل عَّزة أن تقاس بعزَّتي
[828]
محمد بن عبد الوهّاب بن أحمد بن عربيٍّ، أبو عبد الله الأديب النحويُّ.
من أهل دمشق.
كان عارفًا بالعربية ولآداب، شاعرًا له أشعار مستجادة في الحكم والمواعظ وغيرها من هذه الفنون.
أنشدني أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد /197 أ/ البرزالي الأشبيلي بحلب – رحمة الله تعالى- من لفظه، قال: أنشدني الأديب أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب لنفسه: [من الكامل]
اخفض جناحك للزمان إذا سطا
…
واقعد له في البؤس عند قيامه
وإذا سقاك الدَّهر كاسًا مرَّةٌ
…
فاصبر على الضَّراَّء من أحكامه
بينا يكون المرء فيه محيَّرًا
…
يشكو الَّذي يلقاه من آلامه
إذ جاءه فرج الإله معجَّلًا
…
فأراه ما يرجوه من أيَّامه
وأنشدني، قال: أنشدني محمد بن عبد الوهاب الدمشقي قوله: [من البسيط]
لا تندمنَّ على أمر أردت به
…
نجاح مسعاك إنَّ الأمر مقدور
ولا تلومنَّ في تأخيًره بشرًا
…
فالأمر لله والإنسان مأمور
وأنشدني، قال: أنشدني أبو عبد الله من شعره: [من البسيط]
على أبن آدم أن يسعى لراحته
…
وما عليه بأن يجري به القدر
كم من فتًى لم ينم ما نال مطلبه
…
نائمٍ نال ما يرجو وينتظر
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الطويل]
/197 ب/ علىَّ بأن أعسى لكي أدرك العلا
…
وما علىَّ إذا لم ينجح الطلَّب
كم من فتًى نائمٍ تقضى مآربه
…
وساهرٍ بات لا يقضى له أرب
[829]
محمد بن علىٍّ أبو عبد الله النحويُّ المزدغيُّ الفاسيُّ
ينسب إلى مزدغة، وهي قبيلةٌ من البربر
كان أديبًا نحويًا فاضلًا، عارفًا بالأدب والعربية. قرأ على أبي ذر مصعب بن محمد الجيّاني، وأخذ علم الأصول عن ابي عبد الله بن الكتّاني الفاسي، وقرأ علم النحو على أبي القاسم بن زانيف، وتميّز في العلوم، وتصدّر لإفادتها، وكانت له يد طولى في علم التفسير والقرارات ولآداب وغير ذلك.
وله شعر حسن، ومنه ما أنشدني الصاحب الإمام أبو القاسم عمر بن أحمد بن هبه الله بن أبي جرادة الفقيه الحنفي- أيده الله تعالى- قال: أنشدين عبيد الله بن يوسف المراكشي بسيواش، قال: أنشدني أبو عبد الله بن علي المزدغي لنفسه، في أخوين؛ أحدهما جميل الصورة، والآخر أحدب طويل الساقين، كانا يحضران معنا الحلقة عنده:[من الكامل]
في أبني عليٍّ أن نظرت عائبٌ
…
أخوان ظبيٌّ أحورٌ وحوار
فمن الجمال بوجه ذاك محاسنٌ
…
ومن الجمال بظهر ذا آثار
[830]
/198 أ/ محمد بن عليِّ بن عبد الله بن عمر، أبو عبد الله الأنصاريُّ.
من أهل الإسكندرية
ذكره الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي- رحمة الله تعالى- في تاريخه،
وقال: شاب أسمر، قدم إربل في شوال سنة إحدى وعشرين وستمائة؛ وذكر لي أنَّه سمع الحديث بأخرة
وأنشدني لنفسه في المعمّى: [من المقتضب]
تيَّم القلب شادنٌ
…
محنتي فيه زائده
قلت: صلني، فقال لي:
…
ضدُّ عكس أبن زائده
قال: وأنشدني أيضًا لنفسه: ما كتبه إلى: [من الوافر]
عسأ عيسى عليَّ ومال عنِّي
…
وما طلني بترك وهو يسني
ومالي بعد هذا اليوم مكثٌ
…
بإربل والسَّلام عليك منِّي
[831]
محمد بن عليِّ بن أحمد بن محمد أبو عبد التميميُّ الشَّقَّانيُّ.
من أهل حلب.
حدثني الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي- رحمة الله تعالى- وقال: إمام عالم مشهور، يغشى الأكابر، ويميل إلى القول بعلوم الأوائل، أغري بالكيمياء، /198 ب/ وأنفق عليه جميع ما حصل له، ولم يصل منه إلى طائل، عنده فضل وأدب وشعر. اجتمع بعلماء الموصل، وطلب أن يناظر من بها من أهل النحو، فاجتمعوا في حضرة الأتابك أبي الحارث أرسلان شاه بن مسعود صاحبها- رحمة الله- فلم يكن عنده ما يثبت دعواه. رأيته ولم آخذ عنه لكونه منسوبًا إلى قلّة الدين
…
هذا آخر كلامه.
وأخبرني الصاحب الإمام أبو القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله الفقيه الحنفي المدرس بحلب- أيده الله تعالى- قال: القاضي أبو عبد الله الشاقاني كان فاضلًا عارفًا بالفقه واللغة والنحو، وغير ذلك من العلوم، وسمع الحديث. وكانت ولادته بحلب
سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وتوفي بسيواش في صفر سنة إحدى وعشرين وستمائة وكان وحيهًا عند السلطان ملك الروم، وولي قضاء أقشهر، ثم قضاء سيواش.
ثم أنشدني، قال: أنبأني أبو عمرو عثمان بن الشاقاني، قال: أنشدني خالي أبو عبد الله الشاقاني لنفسه: [من الخفيف]
لا تلن للخطوب واطلب فمن لا
…
ن توالى عليه قرع الخطوب
/199 أ/ إنَّ ضرب الحديد ما كان إلَّا
…
حيث أبدى لينًا بحرِّ اللَّهيب
وقال أبو البركات المستوفي: نقلت من خطّ أبي عبد الله، وأجازني روايته أبياتًا، مدح بها الفقير إلى الله أبا سعيد كوكبوري بن علي بن بكتكين- رحمة الله تعالى-:
[من البسيط]
يقول صحبي وجاء الزَّهرير لهم
…
في ليلة من جمادي حلَّة الحضر
قد كان يبلغنا عن سيرة الملك الـ
…
ـمعظَّم الشًّرف الأعلى من السِّير
فما وعينا حديثًا من مكارمه
…
بالسَّمع إلَّا وعاينَّاه بالبصر
قال: وهي أبيات أكثر من ذلك.
ثم قال: ومن شعره، ما كتبه إلى أبي الحسين موسى بن الحسين بن موسى الكاتب الإربلي، يستشفع به إلى الفقير إلى الله تعالى، مظفر الدين أبي سعيد كوكبوري بن علي بن بكتكين- رحمة الله تعالى-:[من الخفيف]
/199 ب/ أنت موسى الكليم رب اليد البيـ
…
ـضاء في الإصطناع للنَّاس جمعا
فإذا ما حصلت في طور سينا
…
فاتَّخذ لي عنه المناجاة صنعا
فالفتى إن أراد نفع صديق
…
فهو يدري في شأنه كيف يسعى
قال: ثم أعقبها بكلام منثور، تركته خوف الإطالة.
[832]
محمد بن عليِّ بن أبي بكرٍ، أبو عبد الله الجمَّال القارئ البغداديُّ المعروف بالنطوعيِّ.
أخبرني الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي الإربلي بها- رضي الله عنه-
قال: ورد إربل في شوال سنة عشرين وستمائة، استظهر كتاب الله الكريم، وكان يقرأه صحيحًا قراءة مرضية، ثم تخبط عليه كما ذكر. وأخبر أنَّ جدّه كان جمّالًا في طريق مكّة وعرفوا به، وكان لحانًا.
ثم أنشدني من شعره هذه القصيدة: [من مجزوء الكامل]
أفللصبابة والشُّجون
…
نوح الحمام على الغصون
أم للصباح وللصِّبا
…
طربًا يغرِّد بالفنون
والدِّيك يهتف للصبوح
…
مصفِّقًا بعد السُّكون
/200 أ/ ويقول: حيَّ على السُّرو
…
ربغرَّة الصُّبح المبين
ومنها يقول:
فأغن أخاك على المدا
…
مة والخلاعة والمجون
وتناول الأقداح منـ
…
ـه بالشِّمال وباليمين
واشرب على ضوء الصَّبا
…
ح المستنير المستبين
حمراء كالمصباح يمـ
…
ـحو نورها ظلم الدُّجون
تسبي العقول بشربها
…
والسُّكر أشبه بالجنون
أوما ترى الرًّاووق يبـ
…
ـكيها بمدمعه الهتون
سهران كالصَّبِّ الكئيـ
…
ـب بعيد ما بين الجفون
قد الجأته إلى الصَّليـ
…
ـب فدينه أبدًا كديني
ومنها قوله:
ظبيٌ أرأق دمي بسهـ
…
ـم لواحظ كاللَّيل جون
عذر العواذل فيه حتَّى
…
لو سلوًت لعنَّفوني
بتنا يعاطيني المدا
…
م فأشتكيه ويشتكيني
/200 ب/ فكأنَّه برضابه
…
مزجت بكأس من معين
وتبسمت عن ثغره
…
حببًا وعن درٍّ ثمين
وحكته خدّاً كالشَّقيـ
…
ـق الغضِّ في ترف ولين
قل للمدام الصِّرف: ديـ
…
ـني للخلاعه واستكيني
ما السُّكر إلَاّ للثغو
…
رو للخدود وللعيون
[833]
محمد بن عليِّ بن بختيار الأمير، أبو الفضل الشربدار الموصليُّ.
كان قريبًا من أتابك نور الدين أبي الحارث أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، صاحب الموصل، ولّا الدزداريّة بقلعتها.
وكان رجلًا كافيًا جلدًا ماهرًا متيقظًا صارمًا على الفسّاق والمفسدين، يظفر بالمفسد فيبطش به في الحال، ولا يبقيه. وكان ذا شهامة ونظر في الولاية وبعضٌ مان كان يرضى سيرته، وينسبه إلى الظلم الفاحش، وما في ذيً الحجة سنة خمس وستمائة بالموصل، ودفن بها تجاه باب الميدان غربي المدينة ظاهرها.
صار إلىَّ/
أ/ من شعره، يمدح الأتابك نور الدين أرسلان شاه بن مسعود، ويهنيّه بالنيروز وذلك في سنة خمس وتسعين وخمسمائة:[من الخفيف]
قصر اللَّ حين طال النَّهار
…
وأتانا بجيشه آذار
وبكت مقلة السَّحاب عليه
…
فتغنَّت عجبًا بها الأطيار
وكأنَّ الزَّمان مدَّ على الرَّو
…
ضة ثوبًا طرازه الأنهار
نسَّجته الأنواء فاتَّضحت فيـ
…
ـه معان أطمارها الأمطار
فهو مثل العروس بالزَّهر للدهـ
…
ـر عليه تفتضُّها الأبصار
لا زورديَّة الثِّياب وشي فـ
…
ـيها إصفرارٌ مدنَّر واحمرار
كلَّما هينم النَّسيم عليها
…
نمَّ بالطِّيب شيحها والعرا
وكأنِّي بالجوِّ إذ هلَّ بالطَّـ
…
ـلِّ إليها يقول: هذا نثار
وكأنَّ الحوذان قال لعود الرَّ
…
ند في كلِّ نفحة عطًّار
فتتباكى الأنواء فيها وما تضـ
…
ـحك إلَاّ لأنَّها أبكار
وكأنَّ القمريَّ قطَّب إذ طرَّ
…
ب شوقًا على الغصون الهزار
/201 ب/ ياليالي الوصال جادك
…
من صيِّب جدواك واكفٌ مدرار
هل لما فات عودةٌ خبِّرينا
…
أم رداء الشَّباب ثوبٌ معار
وحبيب مضرَّج الخدِّ ساجي الـ
…
ـطَّرف جارت منه عليه العقار
ريقة خمرةٌ، وصدغاه ريحا
…
نٌ وورد الخدود ماءٌ ونار
قام يسعى فعلَّم الغصن حسنًا
…
بمحل وكيف تجنى الثِّمار
علَّمته اجفانه سحر هارو
…
ت وإنِّي عليه منها أغار
قيل لي: كيف نمت بعد تجافيـ
…
ـه ونوم العشَّاق في الحبِّ عار
قلت: لا والوفاء لكن تناعسـ
…
ـت لطيف إذ عزَّ منه المزار
[834]
محمد بن عليِّ بن أبي شجاع، أبو عبد الله الجامديُّ
ينسب إلى الجامدة من أعمال واسط. كان شيخها.
أنشدني أبو الحسن علي بن أبي منصور بن علي بن جرير الرُّصافي الواسطي بالموصل، قال: أنشدني أبو عبد الله الله الجامدي لنفسه: [من المتدارك]
دمنٌ من رامة فالقلب
…
فجديلة فلخه فالكثب
فالنعف فكاظمة فالجزع
…
فوادي الفتّة فالهضب
/202 أ/ يعتضن بريم البيد
…
عن ريم كنَّس في الطنب
غيد هيف خمص نزف
…
بيض ترف عرب ترب
دعًج الأحداق سود الآماًق
…
بيضً الأعناًق حمرً الأهب
إن مسن فصحن غصون البان
…
أو ملن ضحكن عن الشَّنب
فكأنَّ مباسمهنَّ نظمن
…
قلائدهنَّ من الشُّهب
وكأنَّ مراشفهنَّ مدامٌ
…
شيب وأمزج بالضَّرب
[835]
محمد بن عليِّ بن أبي الفتوح بن عمر، أبو الفتح الحكيم القرشيُّ.
من أهل دمشق
أخبرني الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي- رضي الله عنه في تاريخه من لفظه- قال: أثنى عليه المواصلة فيما كتبوا إلىّ، وقالوا: إنَّه من السادة الأكابر الفضلاء الرؤساء العلماء، مشهور بالفضائل والفنون، قريب عند السلاطين والملوك، محترم لديهم، مسموع الكلمة.
ورد الموصل، فمدح بها الملك القاهر عّز الدين مسعود بن أرسلان شاه- رحمة الله- فأحسن جائزته وشرّفه، ثم قال: هذا لفظ ما كتب إليّ من الموصل على يديه، ولم /202 ب/ يقدّر لي الاجتماع به، إلّا أنّي رأيته مجتازاً، فعرفته بما سبق عندي من صفته وهو شاب حسن الصورة والشمائل.
ورد إربل في العشر والوسطى من شهر رمضان من سنة ثمان وستمائة، ولم يقيَّض له المثول بخدمة الملك المعظَّم أبي سعيد كوكبوري بن علي بن بكتكين- رحمة الله تعالى- وسافر في رابع عشريه، إلى بلد العقر إلى الملك المنصور زنكي بن أرسلان شاه أتابك –صاحب الموصل- ولم يقع إلي من شعره سوى أبيات، سأله عملها إنسان موصلي فكتبها إلىّ بخطّه على لسان الموصلي- وهو خطّ حسن- وهي:[من الطويل]
أيا شرف الدَّين الَّذي شرفت به الـ
…
ـمناقب فانقادت إليه المدائح
ومن ظهرت أعراقه فتأرَّجت
…
لقصَّاده أخلاقه والمنائح
شربت كؤوسًا من هواك لذيذة
…
فقلبي سكرانٌ بحبِّك طافح
فأصبحت لا أثني ثنائي إلى إمرئ
…
سواك يقينًا إنَّ زندي قادح
وأقسم لو حاولت أكتم بعض ما
…
تجود به نمَّت علىَّ الجوانح
وإنِّي غاد عن جنابك شاكرٌ .. أياديك يا خير الأنام ورائح
/203 أ/ أبثُّ الَّذي أوليتني من فواصل
…
لأنعمها لسان حمدي مادح
فإن تحيي الرَّسم بالرَّسم تجن من
…
عصون الثَّنا ما ثمَّرته القرائح
[836]
محمد بن عليِّ بن يوسف بن خمارتكين، أبو عبد الله الحلبي، المعروف بابن المحتسب.
لأنه تولّى بحلب الحسبة مدَّة.
ذكر لي، أنَّه ولد سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة. وخمارتكين جدُّه، كان حاجب الملك أبي المظفر رضوان بن تتش بن ألب أرسلان- سلطان حلب- ومن أخصّ حجابه؛ وأبو عبد الله يتولّى التصرف. وقد تولّى عمل غير عملٍ سلطاني، ويقول الشعر طبعًا.
أنشدني لنفسه مبدأ قصيد: [من الكامل]
ما ضرَّه لو زارنًي متكتِّمًا
…
في حندس اللَّيل البهيم على ظما
رشا تحاكي السَّمهرية قدَّه
…
ولحاظ عينيه تباري الأسهما
بدرٌ يعير الليل طرَّه شعره
…
ويغير ضوء جبينه بدر السَّما
في خدِّه ورضابه خمرٌ لها
…
إن نقَّصت فعل المدامة تمَّما
حلفت لواحظة بأن لا تنثني
…
عن قتلتي أفدي بروحي المقسما
أضني وظنَّ بأنَّني أسلو وقد
…
أضحى السُّلوُّ على المحبِّ محرَّما
وجنى علىَّ فجنَّ وجدي من جنى
…
شفتيه أو ألم إلى ذاك اللَّما
/203 ب/ وأنشدني لنفسه، حين قدم المولى الصاحب الوزير الصدر الكبير العالم السعيد مؤيد الدين أبو نصر إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم الشيباني- أدام الله علاه- من ميا فارقين:[من البسيط]
عاد المؤيَّد بالتأييد والظَّفر
…
وجاءه النَّصر يسعى سعي منتصر
وأقبلت دوحة الإقبال يانعة
…
تومي إليه بأكمام من الثَّمر
وأصبحت روضة العلياء مذ هطل الـ
…
ـحياء من وجهه تختال بالَّزهر
وأمست الدُّولة الغرَّاء في حلب
…
بقربه تزدهي في ثوبها النَّضر
من بعد ما عريت دهرًا محاسنهًا
…
وشابها بعده نوعٌ من الضَّرر
طال اغتراب بنيها في ديارهم
…
وأصبحوا بعد يسر منه في عسر
ظلُّوا بع زمنًا في ظلِّ أنعمه
…
وجود راحته المغني عن المطر
ممتِّعين بما قد خوِّلوا فهم
…
في خلد جنَّته العليا على سرر
مقابلي رجل يزهي على زحل
…
في رتبة الشَّمس مستول على القمر
له عزيمة رأي ليس يسبقهًا
…
ريب الزًّمان فما يخشي من القدر
/204 أ/ حبر يخبِّر عمَّا في غد فغدا مستقبل الفعل ماض غير منتظر
لولا مخافةً ربِّ العرش، قلت له: يا عالم السِّر منِّي قلَّ مصطبري
أبسط بفضلك آمالًا قد انقبضت فأمرك اليوم مقدورٌ على القدر
ولا تلكني إلى ما في غد فغدٌ يأتي بما ليس نهواه من الغير
لا تستقلَّ قليل الخير تفعله ففاعل الخير مشكورٌ مدى العصر
نبني الزَّمان ويبقى حسن سمعته ويذهب النَّاس والدُّنيا على الأثر
وأنشدني أيضًا لنفسه إملاًء: [من البسيط]
يا جانحًا عن طريق المكرمات أفق من سكرة العب واحذر زلَّة القدم
بينا ترى المرء في عزِّ الولاية منـ ـقادًا إليه أمور العرب والعجم
حتَّى يوافيه ذلُّ العزل يصلحه حينًا لإخوانه بالفقر والعدم
فالعزُّ يصلح أخلاق اللَّئيم كما تبدي الولاية حتفًا من أخي الكرم
[837]
محمد بن عليِّ بن محمد بن محمود بن عبد الرحيم، أبو عبد الله ابن أبي الحسن التميميُّ.
من إنشاء حلب وأبناء رؤسائها، والنبهاء بها، وبيت الأدب والفضل.
وأبو عبد الله تأدّب وقرأ من علم العربية ما يحتاج إليه، وساعدته قريحته في قول
الشعر، وأنجب فيه، /204 ب/ وأحسن وأجاد، وفاق أقرانه نظمًا، وبذّهم في أنواع القريض وأجناسه تمكنًا ما شهد له أرباب هذا الشأن بالتقدّم فيه والاقتدار على ما يتوخّاه من المقاصد التي يرومها، والمحاسن التي يأتي بها.
شاهدته بحلب شابًا ذكيًا متيقظًا عاقلًا، أريبًا عفيفًا، نزهًا سريًا، جميلًا عارفًا بأقدار الناس، يتدين بمذهب الشيعة، من أحسن الناس عشرة، وأوفاهم توددًا ومروؤةً، وأسمحهم نفسًا. يخدم متصرفًا في الأعمال السلطانية. وسألته عن ولادته، فقال: ولدت في عاشر المحرم سنة إحدى عشرة وستمائة.
أنشدني لنفسه، وقد جاءه من العفيف أبي طالب بن صقر أبيات:[من الخفيف]
أنت في العلم فوق كلِّ عليهم
…
يا ابن صقر من أبن عبد الرَّحيم
قد شأوت الفحول في حلبة الفضل
…
وأنسيت ذكر كلِّ قديم
لك شعرٌ قد سار في سائر الا
…
فاق ما الشَّام ما بلاد الرَّوم
لا تقس دعبلًا إليك ولا الطا
…
ئيًّ والبحتريَّ وابن الرُّومي
أين منكً الرِّجال ما لهم مثـ
…
ـلك نظمٌ كالجوهر المنظوم
/205 أ/ لو تقدَّمت في الزَّمان لقال الـ
…
ـقوم هذا أحقُّ بالتًّقديم
وأقرُّوا لدى جدالك بالعجز
…
وفرُّوا منه إلى التَّسليم
أيُّها الفاضل الأديب عفيفة
…
الدِّين والماجد الكريم الخيم
سفرت لي شمس النَّباهة في أر
…
جاء ليل من الخمول بهيم
حين نوًّهت في قريضك باسمي
…
وعلا منصبي وقدري وخيمي
أنت شرَّفتني بنظم قريض
…
بت منه في مقعد ومقيم
خيفة الرَّدِّ والتَّردُّد فيه
…
مفعمًا مقلتي من التَّهويم
يا أبا طالب تطلَّبت ما لم
…
يك في خاطري ولا معلومي
لا تسمني ردًّ الجواب فما خا
…
طر فيه سوى الخطير العظيم
درَّ درُّ الصَّدر النَّبيل شهاب الدِّ
…
ين عمرو الإقدام غمر العلوم
إن تجرَّا على جوابك في الشِّعـ
…
ـر لقد قام في مقام عظيم
أنا لولا خوفي وعيدك ما فهـ
…
ـت بحرف على رويًّ الميم
لا تخف أن يعيب شعرك خلقٌ
…
لن يعيب الصًّحيح غير السَّقيم
والزنامي أليًة برَّةً ما أعـ
…
ـتلَّ إلَاّ على العتلِّ الزَّنيم
قسمٌ كلُّ من تجراَّ عليه
…
كان عند الأنام غير أثيم
/250 ب/ لا وحبِّي علاك خالصة من
…
غير لغو فيها ولا تأثيم
لم يعب في الأنام شعرك من يفـ
…
ـرق بين المجهول والمعلوم
ضاع طيبًا فخلته جاء يروي
…
خبر البان عن لسان النَّسيم
شيَّد السًّيِّد الشًّريف جمال الدِّ
…
ين ذكرًا يسير في الإقليم
بات يرويه عنك ثمَّ يودِّيه
…
كما قلته بطبع سليم
بالجنان الثَّبت القويِّ على إي
…
يراده عنك واللِّسان القويم
قال لي إذ سألت: خبرك يغني
…
عن مديحي له وعن تفخيمي
ليس بالرَّحبة الصَّغيرة من يس
…
قط منه على خبير عليم
غير ذا السَّيِّد المقيم على حبِّ
…
ك لا زال في نعيم مقيم
يا مفيدي من الإخاء بما غاد
…
رعيشي إلىَّ غير ذميم
أنت أبرزت وجه عرضي باطرا
…
ئك يا ذي احتشام صافي الأديم
أنت اغليت سعر شعري بما أم
…
ليته في كتابك المرقوم
فأخي اليوم حاسدي بعد ما كان
…
عدوِّي على الخمول رحيمي
وكستني علاك غرَّ صفات
…
غادرتني من دارم في الصَّميم
ولهذا أجرُّ ذيلًا من الفخر
…
على كلِّ منتم لتميم
/206 أ/ أنا أولى بأن أقبلِّل كفَّي
…
ـك على فضلك العميم الجسيم
أنا حبِّي لكم صلاةٌ وسعيي
…
لا يتمُّ الصلاة بالتَّسليم
لست بدراً وإنَّما أنت في أهـ
…
ـليك كالبد بين زهر النُّجوم
سادة كلُّهم تقيٌّ نفيُّ الـ
…
ـعرض ضافي النِّجار زاكي الأروم
يشتري باقي الثَّناء ويشري
…
فإني المال فعل كلِّ كريم
سيَّما الكامل الفضائل نجم الدين
…
ربِّ العلا الأثير الزَّعيم
ذي الجفان المكلَّلات من الشِّيـ
…
ـزى طعامًا إلى محلِّ الشَّكيم
والفتى المشتري المحامد ذي
…
المحيَّا الطَّلق البهيِّ الوسيم
من حباني من نصب باب مزاعا
…
بنصيب المشيمس المعدوم
وتراني غدًا إلى طلَّه البارد
…
أولى من حرِّ نار السَّموم
إنَّ لي في جنينة الحلبة الفيـ
…
ـحاء ورداً من قرية أبن العديم
ونصوبًا تخال أثمارها حسـ
…
ـنًا وطيبًا تسقى بماء النَّعيم
سوف أدعوك يا عفيف إليها
…
بعد آيَّار وانقشاع الغيوم
لست أرضى قسم الحياة إذا لم
…
أرخلِّي على حياتي قسيمي
وكذا لا أرى السُّرور بها حتَّ
…
ـى أراه على السُّرور نديمي
/206 ب/ دمت سامي العلا كريمًا وعوفيـ
…
ـت وورِّثت عمر كلِّ لئيم
ما أشتكت أينها الرَّسوم في البيـ
…
ـد ومدَّت أعناقها للرسيم
وأنشدني لنفسه، ما كتبه إليه أيضًاً [من الخفيف]
دمت تصفي مودَّة الأولياء
…
وجزاك الإله خير جزاء
يا عفيف الدِّين الَّذي بشَّر لا
…
باء منه بأنجب الأبناء
يا ابن صقر يا من نداه إذا ما أنـ
…
ـهلًّ أزرى بصيِّب الأنواء
يا فتًى سًاد بيت مجدبه أحـ
…
ـرز مجد الأجداد والآباء
ليس خلف الميعاد شيمة مثلي
…
هو عندي من أقبح الأشياء
غير أنِّي عزنت من قتل نيسا
…
ن على جوسق رفيع البناء
قلت: أبنيه بالجنينة من أجـ
…
ـلك في الصَّيف زائرًا والشِّتاء
فتصدَّى من الورى لعنادي
…
وتناسي مودَّتي وإخائي
صاحبٌ لم يزل عليه من النًّا
…
س اعتمادي في شدَّتي ورخائي
فتراني أخاف في أمر داري
…
وأداري من لا يخاف هجائي
عالمًا أنَّني وإن نكث العهد
…
ولم يرع لي حقوق الولاء
أتلقَّى قبيحه بجميل الـ
…
ـصَّفح عنه وغدره بالوفاء
/207 أ/ لا كمن بات يشتكيه فتى الحـ
…
ـجَّاج قبلي لسيِّد الأمراء
وانقضي الورد والجنينة لا تؤ
…
ذن أيَّام وعدها بانقضاء
هبك أنِّي عمَّرت جوسقها الجا
…
مع شمل الألَاّف والقرناء
كيف نمضي إلى الجنينة والقلـ
…
ـب عليه للهمِّ مثل الغشاء
وأرى الهمَّ لا يفرِّجه غيـ ـر اجتماع بسيِّد الشُّعراء
بأبي طالب الَّذي طلب المجـ ـد بعين لم تدن من إغفاء
وذويه المكرَّمين أولي السُّؤ دد والفضل والتُّقى والعلاء
فتفضل بهم إلى قبَّة السَّـ
…
ـيَّد ذي المكرمات والآلاء
فهي مشتاقةٌ تقاسمني الشو
…
ق إليكم ورَّبها بالسًّواء
ثمَّ يغني عن ورد أيَّار ما يعـ
…
ـبق فيها من مائه والكباء
وتقينا حرَّ السَّماء ببرد الـ
…
ـماء في ظلِّها وبرد الهواء
وترانا من حسن أخلاقه نر
…
تع منها في روضة غنَّاء
فلها الله قبَّةً ولبانيـ
…
ـها ففيها مجامع الأهواء
شادها السَّيِّد الشَّريف الَّذي جا
…
زت معاليه رتبة الجوزاء
ماجدٌ أنشر الفضائل فاستو
…
جب شكر الأموات والأحياء
/207 ب/ عجلٌ بالنَّدى لمن أمَّ ناديـ
…
ـه مجيبٌ إليه قبل النِّداء
كلفٌ بالعلا يحلُّ عرى المشـ
…
ـكل منه بفطنة وذكاء
حبُّه مذهبي وديني ومازا
…
ل اعتمادي عليه وهو رجائي
مثلما مذهب الكرام بني صقـ
…
ـر غرامٌ بالمجد والعلياء
معشرٌ طفلهم فتى العزم والهـ
…
ـمَّة كهل التَّدبير والآراء
قدرهم في الورى كقدر عفيف الدِّ
…
ين فيهم ذي الجود والنَّعماء
يا أبا طالب أقرت لأشعا
…
رك بالعجز ألسن البلغاء
أنت ربُّ القريض يرفل منه
…
أبدًا في ملابس الإثراء
وأنا المملق الفقير وهيها
…
ت تساوي المثرين بالفقراء
أفحمتني أوصاف قدرك لمَّا
…
جزت حدَّ المديح والإطراء
فتماديت في الجواب وبادر
…
ت مجيبًا لكم برفع دعائي
وسألت الإعفاء منه فما أجـ
…
ـدى سؤالي ولا أجيب ندائي
لم تزل تعمر الإساءة بالعفـ
…
ـو فالَاّ سمحت بالإعفاء
فاكسها حلَّة الفصاحة إن جاء
…
تك منِّي في لبسة الفأفاء
أو أجزها درَّ البلاغة إن مدَّ
…
ت أكفَّ السُّؤال لاستجداء
/208 أ/ وأبق ما غرَّد الحمام ومانا
…
ح على غصن أيكة خضراء
وكتب إليه أيضًا: [من الرمل]
يا عفيف الدِّين يا من بشره
…
يهتدي السَّاري به واللَّيل مسدف
يا فتى ما فتئت آراؤه
…
في دجى الَّلأواء للغمَّاء تكشف
يا خليلاً لم يزل من لطفه
…
أبدًا يحنو على الحلِّ ويعطف
قل لنجم الدِّين: يا نجم أتئد
…
لا تكن في العتب والتًّأنيب مسرف
قد جرى الشَّرط على ما قلته
…
والتَّصاريف عن المقصود تصرف
من ترى يكره أن يسعى إلى
…
خدمة السَّيِّد أم من عنه يصدف
هاشميٌّ لم يزل من أود
…
للأخ المعوجِّ في الودِّ مثقِّف
مصلح الفاسد لكن بالنَّدى
…
والردًّى للمال والأعداء متلف
أنا أهواه فما أصغى إلى
…
قول واش في هواه ومعنِّف
لجمال الدِّين بيتٌ قد سما
…
شرفًا فهو على الأفلاك مشرف
وله منتزةٌ من حسنه
…
يبهت الطَّرف إليه ليس يطرف
قبَّة السَّيِّد لو أبصرها
…
لتواري خجلًا طاروف منطف
حبَّذا عيشٌ قطعناه بها
…
والحمام الورق بالأفنان تهتف
/208 ب/ ولدينا كلُّ ما نختاره
…
ورياخ اللَّهو باللَّذات تعصف
وقطوف الفضل تستجلي ومن
…
روح أشعارك نجنيها ونقطف
والفتى الماجد نجمالدِّين في
…
كلِّ معنى ينتحيه متلطَّف
أبدًا يورد ما نختاره
…
وسوى المختار يلغيه ويحذف
ومعين الدَّين ذو الفضل الذي
…
بالندى يسعد راجيه ويسعف
كاتبٌ أفلامه كافلةٌ
…
أنَّ ربَّ السَّعد يدنيه ويزلف
تشبه الكتب الَّتي ينشئها
…
وشي أعلام برود أبن المزخرف
أو كما بكَّر وسمى الحيا
…
لبرود الرًّوض بالنًّور مفوِّف
ولشمس الدِّين يحيى راحةٌ
…
ثرَّةٌ نوه نداها غير مخلف
أبدًا يجمع في تفريقه الـ
…
ـمال شمل المجد جودًا ويؤلِّف
يا بني صقر شرفتم أنفسًا
…
فهي عن كلِّ دنيِّ القدر تعزف
قسمًا إنِّي بكم ذو كلف
…
لست في ودِّي لكم بالمتكلِّف
وإذا ما غبت عنكم لم تكن
…
جفوةٌ لكنَّني عنكم مخفِّف
ولقد جئتكم معتذرًا
…
واعتقادي أن نجم الدِّين منصف
لم أخل وهو صفِّيي أنَّه
…
يتوخَّى الظلم في أمري ويعسف
/209 أ/ وعفيف الدِّين أولاكم بأن
…
يتحامى القصد في عتبي ويسرف
قال في مدح فراخي إنِّها
…
تشبه الوزَّ إذا ما كان مخلف
وإلى السَّيِّد تهدى وهو بالـ
…
ـفضل منها لعفيف الدِّين متحف
إن يكن عتبكم لي ديدنًا
…
فبما أجنيه من جرم وأسلف
يا أبا طالب صفحًا عن أخ
…
ماله عن حبًّكم ما عاش مصرف
وستأتيك فراخي عاجلًا
…
منجز الوعد بها غير مسوِّف
ثمَّ إنِّي أسأل الله الذي
…
هو بالقدرة فينا متصرِّف
أن نرى يا مالكي جهة
…
أنت فيها العدل والمملوك مشرف
[838]
محمد بن عليِّ بن المسلّم بن محمد بن الحسين بن مراجل أبو عبد الله الكندي.
من أهل حماة ومن بيت مشهور بها.
شيخ أشقر أزرق العينين، يتصرّف في الأعمال.
أخبرني أنه ولد ضحوة نهار يوم الأحد ثالث شوال سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. لم يكن عنده يقّوم به لسانه من علم النحو، ويلحن إذا أنشد، وله طبع يطاوعه في قول الشعر.
أنشدني بحلب لنفسه في أوائل محرم سنة خمسين وستمائة، ما/209 ب/ كتبه إلى السُّلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن محمد بن غازي بن يوسف- خلّد الله ملكه-:[من الوافر]
أيا ملكًا ترنِّحه القوافي
…
ويطربه من الشِّعر النسيب
أمانع أن أراك لسوء حظِّي
…
وأبعد إنَّ ذا شيءٌ عجيب
ولكنِّي سأنشد بيت شعر
…
تحنُّ إلى معانيه القلوب:
(إذا كان المحبُّ قليل حظً
…
فما حسناته إلاًّ ذنوب)
وأنشدني أيضًا لنفسه فيه- أعزّ الله نصره-: [من الطويل]
أيا ابن العزيز النَّاصر الملك الَّذي
…
إذا جار دهرٌ فهو بالجود بنصف
على بابك الميمون حلَّت رحالنا
…
وقد مسَّنا ضرٌّوها أنت يوسف
وأنشدني لنفسه يهنّئ بالصيام: [من الخفيف]
لا أهنِّيك بالصِّيام لأنِّي
…
قد تركت الهنا ليوم العيد
إنَّما التَّهنئات بالأكل والشُّر
…
ب وصوت المثنى وضرب العود
لا بصوم قد قرَّح الكبد حتَّى
…
تراك العود فيه مثل العود
وأنشدني لنفسه يرثي ولده عبد المحسن- رحمة الله تعالى-: [من الكامل]
/210 أ/ عن عظم أحزاني بكم لا أنثني
…
أبدًا ومالي بعدكم عيش هني
أمَّلت أن سأنال كلًّ مأربي
…
بكم فخيَّبني الزَّمان وصدَّني
ولسوف أندبكم وأعلن بالبكا
…
حتى أصير جوار عبد المحسن
وأنشدني قوله فيه أيضًا: [من الكامل]
يا بدر قد عظمت عليك رزيَّتي
…
وتوقَّدت نيرانها في أضلعي
ما كنت أرجو أن أكون مشيِّعا
…
لك للمقابر بل تكون مشيَّعي
ولئن جرى دمعي دمًا فيحقُّ لي
…
أنا صاحب البلوى وغيري المدًّعي
وأنشدني لفنسه في السُّلطان الملك الناصر صلاح الدين، وقد رمى طيرًا، يسمّى الكيَّ:[من الوافر]
كويت قلوب من عاداك كيّاً
…
بصرع الكيِّ لمَّا إن تهيَّا
فلا زالت سعودك سابقات
…
ونجمك في العلا أبدًا مضيَّا
ملكت النَّاصر السُّلطان عدلًا
…
طويت به بساط الأرض طيَّا
وسهم لم يفوَّق يوم حزب
…
فأخطأ لا ومولانا عليَّا
كأنَّ مجرَّة الأفلاك قوسٌ
…
بكِّفك أو بنادقه الثريَّا
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من الخفيف]
/2010 ب/ وتقنطر به فديناك يا بغـ
…
ـل إلى السَّهل من أعالي الحزون
وإذا ما نجا ولا سلَّم اللـ
…
ـه فإيَّاه يا كلاب الجون
وأنشدني لنفسه في السيف والقلم: [من البسيط]
إنَّ المقادير لا ترتدُّ حكمتها
…
وقد تساوت في أحكامها الأمم
إذا رأيت سيوف الهند قاطعًة
…
ما ذاك إلَّا قد خطَّة القلم
[839]
محمد بن عمر بن حافظ بن خليفة، يكنّى أبا عبد الله السَّعديُّ، الفقيه الحنفيُّ المدرس المعروف بابن العقّادة.
من أهل حماة.
نزل والده حلب واستوطنها، إلى أن توفي بها. وكان فقيهًا حنفيًا، تولّى بها تدريس المدرسة التي بظاهر المدينة، ولمّا مات قاتم ولده هذا مقامه في التدريس، وفوّض إليه ما كان إلى والده.
وكان أبو عبد الله؛ شابًا أشقر، ربعة من الرجال، ذكيًا فاضلًا، عنده بشر وسكون، جيّد المعرفة بعلم النحو والعربية والأدب وقول الشعر الحسن. ويكتب خطًا في غاية الجودة، وكان فقيهلااً، مجوّداً مناظرًا، اجتمعت به غير مرة، وحضرت معه بحلب، واقتضيته شيئًا من شعره؛ /211 أ/ فكان يعدني ويجيبني إلى ذلك، ولم يتفق إنشاد شيء من أشعاره، ثمّ مرض في أثناء ذلك، وتوفي يوم المجمعة سابع عشر جمادي الأولى سنة اثنتين وأربعين وستمائة، ودفن قريبًا من مشهد الخضر، بمقام إبراهيم الخليل- عليه السلام قبلي المدينة ظاهرها- رحمة الله تعالى-.
وأخبرني أنَّه ولد في سنة اثنتين وستمائة، وبعد موته صار إلىَّ كراسة من شعره، تتضمن غزلًا ومدحًا، وغير ذلك وهي بخطه.
ومما نقلته من خطّ يده، قوله في الغزل:[من الطويل]
ومعتدل كالغصن قد غادر الورى
…
على خطر من قدِّه حين يخطر
إذا مارنت منه اللَّواحظ وانثنى
…
حمى حسنة عنَّا حسامٌ وأسمر
وإن صال يبغي نصرةً فغضنفرٌ
…
كما أنَّه إن نصَّ جيدًا فجؤذر
وإن حلَّ في أرض ومرَّت بها الصَّبا
…
تنفَّس فيها عن بر الأرض عنبر
وإن فاه بعض العاشقين بذكره
…
تضوَّع مسكٌ بالَّذي فاه أذفر
ومن بك هذا طيب ذكراه غائبًا
…
فكيف يكون ذكره حين يحضر
من الُّرك مسكىُّ السَّوالف ليِّن الـ
…
ـمعاطف معسول المراشف أحور
تطيب برؤياه النُّفوس وإنَّما
…
بأنفاس ريَّاه الجيوب تعطَّر
/211 ب/ وليلة وافى والدُّجى مثل شعره
…
وطلعته فيها كم الصُّبح تزهر
فقلت: وفيت الآن وعدم في الهوى
…
فقال: ومثلي في الهوى كيف يعذر
إليك قطعت البيد من رمل حاجر
…
أخوض الدُّجى إذ بالقنا الخيل تعثر
فبتُّ ولي من ورد خدَّيه موردٌ
…
ومن صدره أفديه بالنَّفس مصدر
ولي من سجاياه الشَّهَّية جنَّةٌ
…
لها من ثناياه البهَّية كوثر
وقلت له [لا] زلت مستعذب الجنا
…
ولا برحت أسد الشَّرى منك تحذر
ويفديك منِّي في هواك تصبُّري .. وإن كان ما لي في هواك تصبُّر
وقال أيضًا: [من الطويل]
وطلق المحيَّا لا يرام وإنَّما
…
هو الشَّمس لكن دارة البدر داره
قريبٌ مدًى مرضاه سهلٌ خداعه
…
بعيد
…
مرآة صعبٌ مزاره
نفورٌ ولم تظفر حبائل حبِّه
…
بحبَّة قلب الصَّب لولا نفاره
تعلقته ما طعم محبِّه فيضحى
…
وتقريب المحبِّ شعاره
وقلت: إذا خطَّ سلوته
…
فزاد هيامي حين خطًّ عذاره
وقال أيضًا: [من الطويل]
تعلَّقته ما اشتاقه رمل عالج
…
غرامًا وما ضمَّنته سلعٌ وحاجر
/212 أ/ حرمت الرِّضا إن كنت منذ ألفته
…
تأملته أوراءه لي ناظر
إذا زارني أطرقت منه مهابًة
…
وأمَّا إذا ما أزورَّ عنِّي فظاهر
وقال أيضًا: [من الوافر]
وأحر ساحر اللَّحظات أحوى
…
شهىِّ المجتنى طلق المحيَّا
ألمَّ بنا فأغنى حين عنَّى
…
وأحيانا جميعًا حين حيَّا
وجاد براحه واللَّيل داج
…
فقلت براح قد طلعت عليَّا
وشجَّ الرَّاح من فيه بريق
…
فشجَّ لنا الحميَّا بالحميَّا
وطاف بها على الأحياء يبغي
…
نهاب نفوسهم حيّا فحيَّا
فأحيا كفُّه من كان ميتًا
…
بها وأمات من قد كان حيَّا
فأسكرنا وأذكرنا حديثًا
…
قديمًا في ربي نجد تهيَّا
فبتُّ لنشر نشر حديث علوى
…
على التَّذكار يطوي القلب طيَّا
أغفِّر في الثَّرى خدِّي لعفرا
…
وأروى الأرض من دمعي لريَّا
وأستجدي الرَّباب مرور يوم
…
على دار الرَّباب ودار ميَّا
فشملي صار ثقل بنات نعيشٍ
…
بهنَّ وكان شملي كالثريَّا
وقال أيضًا: [من البسيط]
/212 ب/ في أيِّ شرع وقد كلِّفت ذكراك
…
حبًا نسيت محبًا ليس ينساك
لو لم تكوني سواد العين منه لما
…
أصار منه سويدا القلب مأواك
من بالتقالي وعن عطف على كلف
…
مغرًى بحبِّك أغراك وأعراك
صوني معنَّاك عن معناك بارزًةٌ
…
فقد أذبت معنَّاك بمعناك
لا تصدعي القلب تبدي منه سرَّ هوًى
…
أودعتنيه فما في القلب إلَّاك
منعتنا طيب رؤياك على أمم
…
منَّا ولا تمنعينا طيب ريَّاك
أنت المغيرة ريم الرَّمل مقتلة
…
عيناك عيناه أو عيناه عيناك
بالقلب أدركت منك الحسن مكتتمًا
…
وإنَّما الطَّرف أدراك بإدراكي
لولا الهوى ما هوى قلبي لديك جوًى
…
أزاله عنِّي يومًا ذكر مهواك
أفتيت بالفتك في قلبي وفي جسدي
…
أفديك من فيهما بالفتك أفتاك
وجرت في قلب صبٍّ أنت جاريةٌ
…
أجارك الله من بالجور جاراك
نبِّئت هجرك عن أمن العداة وما
…
ظننت هجرك إلَّا خوف أعداك
ألست ظبي كناس من بني أسد
…
فكيف رحت وأسد الغاب تخشاك
يثني تثنِّيك عن غصن الأراك كما
…
عن لامع البرق تثنينا ثناياك
إنَّ الَّذي خلق الإنسان من علق
…
من أطيب الطيب في الأحشاء أنشاك
/213 أ/ ألم تري لنسيم الرِّيح رائحةً
…
تضوع مسكًا إذا ما صافحت فاك
ماذا عليك وفيك الحسن أجمعه
…
لو كان حسنك مقرونًا بحسناك
سقى العهاد بأكناف الأبيرق من
…
بأن الحمى معهدًا فيه عهدناك
ردِّي حديثك عن حزوى علىّ فما
…
أحلى حديثك عن حزوى واحلاك
فلست أنسى برمل الرَّملتين وقد
…
بتُّ الملمَّ بما تقبيل ألماك
إذ كلُّ عين إلينا غير ناظرة
…
وكلُّ عين علينا طرفها باكي
وربما ليلة بالجزع بتُّ بها
…
وأنت ترعين في قلبي وأرعاك
والحيُّ أساده تبدو ثعالبها
…
بكلِّ أبيض ماضي الحدِّ فتَّاك
أهدى الأمان إلى من ذرى إضم
…
إلىَّ في هضبات الخيف أهداك
نعم وجبّى الجبا وادي مني فبه
…
نلت المنى إذ تمشَّى القلب يلقاك
أهلاً بطيفك خاض اللَّيل محتقراً
…
هول الفيافي ليقرينا تحاياك
حيا فأحيا فحيَّاه الإله وأحـ
…
ـياه خيالًا وحيَّاك وأحياك
ألمَّ واللَّيل في قيد الصَّباح فما
…
ألمَّ بالصَّبَّ حتَّى أمَّ مغناك
لو امتطيت إلينا شوق أنفسنا
…
إليك أسراك شوقًا نحو أسراك
قد ملَّ جفني طيب النَّوم فيك جفًا
…
فهل ألمَّ بطيب النَّوم جفناك
/213 ب/ هل للَّيالي المواضي أن تعود لنا
…
يومًا فتجمعنا دارٌ وإيَّاك
عليك منِّي سلام الله ما برحت
…
براح تخفي حياءٌ من محيَّاك
ونقلت من خطِّة قوله، ما كتبه على ظهر كتاب الهداية في فقه أبي حنيفة- رضي
الله عنه –وكان قبيل موته بأيام يسيرة، فسبحان الحي الذي لا يموت -:[من البسيط]
يا ناظرًا فيه يجني من حدائقه
…
ثمار ما أنا فيه غارسٌ ساقي
أفني قريبًا وتبقى في الورى حقبًا
…
فأذكر بها ذلك الفاني بذا الباقي
وقال أيضًا: [من الطويل]
منحناكم منَّا الوداد كرامًة
…
لكم ومنعنا غيركم ودَّنا ضنَّا
دعيناكم حفظًا وملنا إليكم
…
رضًا فاعدلوا فينا ولا تعدلوا عنَّا
وإن نقل الواشون عنَّا إساءًة
…
فقد نقلوا ضدًّ الَّذي علموا منَّا
وقوله: [من الطويل]
نسيم الصَّبا إن زرت برقة ثهمد
…
فبلِّغ سلامي منزل السَّيف أحمد
/214 أ/ وإن لم يجب من جانبيه سوى الصَّدى
…
فروِّبما الدَّمع مربعه الصَّدي
وقفت به أشكو إليه وإنَّني
…
لأشكو صباباتي إلى غير مسعد
بقلب جريح حلف وجد مجدَّد
…
وطرف قريح إلف جفن مسهًّد
فهذا إن استجديته سلوةً أبي
…
وهذا إن استنجدته الدَّمع ينجد
وقد ساعدتني فيه سعدانهٌ متى
…
أعدُّ لييلات الوصال تعدَّد
وشتان ما بين القرينين شادنٌ
…
وشاد من الورق الحمام مغرِّد
فيا غضَّ عيش غاض ماء حياته
…
سقاك الحيا من كلَّ وطفاء مرعد
وعودي لنا يا ليلة الجزع عودةً
…
وإن لم تعودي فاجملي القول أو عدي
وفي الحيِّ خال من جوى القلب راقدٌ
…
ومن يخل يومًا من جوى الحبِّ يرقد
فصيحٌ يرى قسَّ الفصاحة الكنًا
…
جوادٌ يرينا حاتم الجود مجتدي
بهيُّ المحيَّا لو تراءى ليوسف
…
لما قطعت في يوسف الحسن من يد
همامٌ إذا ما همَّ أن يحضر الوغًي
…
أراك الحسام مغمدًا غير مغمد
إذا ما رمى عن رأيه سدَّد العدا
…
ومن يرم عن رأيًّ سديد يسدَّد
وإن كرَّ بالرُّمح الرُّدينيِّ طاعنًا تر الأسد الضَّاري يكرُّ باسد
ومن حذري أكني بحيِّ كنانة
…
وإن كنت أعزوه إلى الشُّم من عدي
/214 ب/ أطعت فإن أتهمت أتهم صبابًة
…
إليك وإن تنجد فديتك أنجد
يفنِّدني عنك العذول وربما
…
يزيد الهوَّى قول العذول المفنِّد
ومرتحل يدنيه خرصٌ متثقَّفٌ
…
ويصحبه حدُّ الحسام المهَّند
يريك من الدُّرِّ النَّظيم وضدَّه
…
بمبسمه النَّدِّى ومنطقه النَّدي
سرى لا يرى في الله لومة لائم
…
على نضره دين النَّبيِّ محمد
وجرَّد في الله الحسام الَّذي به
…
يريق دم الأعداء غير مجرد
حسامًا له إن سلَّ هامت إلى العدا
…
مضاربه أو صلَّ للهام تسجد
فشيَّب من أفوادهم كلَّ أسود
…
وسوَّد منهم وجه كلِّ مسوَّد
وطرَّف منهم كلَّ طرف منرجس
…
وخدَّد منهم كلَّ خدًّ مورَّد
فأظهر دين الله كلُّ موحِّد
…
ومكَّن بطن اللَّحد من كلِّ ملحد
تيمَّمته سرّاً على قصد أنَّني
…
أودِّعه جهرًا فما خاب مقصدي
وزوَّدني شوقًا إليه وإنَّما
…
تزوَّد منِّي عبرتي وتجلُّدي
وأوهمت يمناه وقبَّلت صدغه
…
وعدت وغدران الصًّبابة موردي
وسار إذا استهدى به خباطٌ رأي
…
هداه ومن يستهد بالبدر يهتد
تولَّى تولَّى الله حفظ جنابه
…
وسلَّمه أنَّي يروح ويغتدي
/215 أ/ وقال أيضًا: [من الطويل]
وأهيف يحكي الرُّمح إن ماس قدُّه
…
بدا حسبنا جيبه إذ بدا شرقاً
أغنَّ كحيل الطَّرف ذي نفرة فلم
…
يخلَّ لريم الرَّمل خلقًا ولا خلقا
جعلت له يومًا يميني وسادًة
…
وما كنت أرجو أن أذوق له نطقا
فضاجعني كالغصن بل غصن النَّقا
…
وأرشفني كالخمر بل خمرة حقّا
فعانقت من جثمانه الرُّكن عندما
…
تعلَّقت من صدغيه بالعروة الوثقى
وقبَّلت منه الخدًّ والثَّغر باسمًا
…
فقابل طرفي منهما الورد والبرقا
فلولا ذكت أنفاسنا وتصاعدت
…
لأبصرتنا إذ ذاك في عرقٍ غرقي
وقال أيضًا: [من الوافر]
وخطِّي القدِّ خوطيِّ التَّثِّني
…
رحيقي الرِّيق درِّيِّ الثَّنايا
له من لحظة السَّاجي سهامٌ
…
ولكن من حواجبه حنايا
فإن لحظ القلوب يروم رميًا
…
تثبَّت أن تكون له رمايا
وفي أجفانه سيفٌ جرازٌ
…
تمنَّاه هوادينا هدايا
إذا ما راضه للسبي يومًا
…
رضينا أن نكون له سبايا
أيا من حاز حسن النَّاس جمعًا
…
وجاز الحدَّ في كرم السَّجايا
/215 ب/ رعاياك القلوب وأن جارٌ
…
لها فأجر جوارك والرَّعايا
ولا تصدع فؤادي تبد منه
…
سرائرك المصونات الخفايا
وحسنك قد وليت به علينا
…
قضاء الحبِّ فاعدل في القضايا
أمانًا منك يا سؤلي أمانًا
…
فقد جرَّعتني غصص المنايا
فلا بعدت يداك عن الأيادي
…
ولا قربت خطاك من الخطايا
وقال أيضًا: [من البسيط]
من منصفي أو مجيري من صدودفتًي
…
عذب التذلُّل في العشاق قد فتكا
مهفهف من بني الأتراك معتدل
…
سبى النُّفوس فما أبقى ولا تركًا
ظبيٌ ولكنه يحميه إن صبًت
…
منه العيون لا ساد الورى شركًا
يذود عن شفتيه من لواحظه
…
مهندٌ من فنون السِّحر قد سبكا
ملكته ثغر قلبي إذ غدا ملكًا
…
لكنَّه جار فيه عندما ملكًا
وشمس راح بدت في كفِّ بدر
…
... من الزُّجاجة قد صاغوا لها فلكا
لها نجوم حباب قد طفت دررًا
…
فأطفأت بذكاها بهجًة لذكًا
صفت فلمَّا السَّاقي أنامله
…
قبضٌا على كاسها كانت له حبكا
قم يا نديمي إلى الكاسات معتنمًا
…
عيشًا ودع عنكز من صلَّى ومن نسكا
/216 أ/ فإنَّ من قال: إنَّ الله ذو بخل
…
أن يغفر الذَّنب إحسانًا فقد أفكا
أما ترى طائر الأغصان من شجنٍ
…
مرنِّحًا عذبات البان حين حكى
فانظر فقد أسبل الرَّاووق أدمعه
…
لمَّا رأى دم دنَّ الخمر قد سفكا
خمرٌ يدور بها بدرٌ علا غصنا
…
من الأراك نضيرًا ليِّنًا حركا
معقرب الصُّدغ لو لاحت معاطفه
…
ليوسف الحسن يومًا ظنَّه ملكا
وقال أيضًا: [من البسيط]
رسمٌ لعزَّة قد أقوت مغانيه
…
راحت سحاب الغودي وهي تسقيه
ولو رضيت بما تذري الجفون له
…
لقلت: ليت جفوني من غواديه
وقفت ناديه أدعوه وأسأله
…
عن ساكنيه وأسقيه وأسقيه
ساويته في البلى، لا في الهوى فغدا
…
بحاله وهو يبكيني وأبكيه
أحلَّ ناديك حيٌّ من بني مطر
…
أم حلًّ فيك الحيا يومًا عزاليه
صمتًا كأن ما غدت واديه غاديةٌ
…
ولا أنثنت في مغانيه غوانيه
أليَّةً بلييلات لنا سلفت
…
وغضِّ عيش تولَّى في نواحيه
إذ منزل الحيِّ طلق الثَّغر باسمه
…
ومورد اللَّهو عذب الماء صافيه
فهو الزَّمان الَّذي لو كان غانيًة
…
لنا عقود جمان في تراقيه
/216 ب/ يا موقدي جمر قلبي يوم فرقتهم
…
ماذا على طفيكم لو طاف يطفيه
أنتم تسليتم عنِّي ببعضكم
…
محبُّكم عن هواكم من يسلِّيه
أحبابنا لو علمتم ما نكابده
…
من الغرام بكم أو ما نقاسيه
أرفدتمونا فديناكم بمألكة
…
تبري المريض وإن كانت لتبريه
رحلتم عن جريح القلب موجعًه
…
ونمتم عن قريح الجفن داميه
فالوجد يرفعه شوقًا ويخفضه
…
والشَّوق ينشره وجدًا ويطويه
ودَّعتمونا فأودعنا ركابكم
…
منَّا قلوبًا بنار الشَّوق تهديه
عدلتم عن فؤادي إذ غدا لكم
…
دارًا فهلَّا عدلتم سادتي فيه
أقسمت لو كنت أدري قبل بينكم
…
ما بعده لصحبت لرَّكب هاديه
وقوله من جملة أبيات: [من المتقارب]
هي الدَّار من حاجر دار أسما
…
فبلَّ المنازل رسمًا فرسما
وسلِّم على بان وادي العذيب
…
فثمَّ أعيلام أطلال سلمى
وقل لأصيحابنا ينثرون
…
من لؤلؤ الدَّمع ما كان نظما
على دار نعم بوداي الأراك
…
فإنَّ لنعم على القوم نعمى
وقفت لأسمع نوح الحمام
…
ولكن بأذًن عن العذل صمَّا
/217 أ/ أهيم إذا ذكر أسم الحبيب
…
كأنِّي أرى الإسم عين المسمَّى
وأهيف كالبدر عند التَّمام
…
من الشَّمس أعلى مكانًا وأسمى
رشًا ودَّه حجله فاستسرَّ
…
وعاداه منه النِّطاق فنَّما
وقال أيضًا: [من البسيط]
وأهيف القدِّ عذب اللَّفظ ساخره
…
أغنَّ ساحر لحظ العين ساجيه
معقرب الصدع ريميًّ تلفته
…
مخصَّر الخصر خوطي تثًّنيه
يسبيك بالجيد منه وهو عاطله
…
حسنًا فكيف إذا ما كان حاليه
رنا وأغضى فقلت: المسك من دمه
…
وجفنه الغمد لا ريبٌ ينافيه
يا أضلعي لا تجنِّيه محافظًة
…
فإنَّه بك قد أودى تجِّنيه
وقال أيضًا: [من البسيط]
قلبي بصدِّك عنِّي كم تعذبه
…
تيهًا ووجهك عنِّي كم تحجِّبه
يا بدرتمًّ يفوق الشَّمس مطلعه
…
عذاره وقلوب النَّاس مغربه
ويا غزال كناس من مهابته
…
لا تستطيع أسود الغاب تصحبه
قد راح قلبي له مرعًى فلا عجبٌ
…
أن راح ماء حياتي وهو مشربه
من قال في الحبِّ إنَّ البدر يشبهه
…
فأنَّ في الحبِّ أوصافًا تكذبه
/217 ب/ يعزى إلى العرب العرباء منطقه
…
واللَّحظ منه إلى الأتراك منسبه
من أين للبدر عيناه وطرَّته
…
وعارضاه وخدَّاه وأشنبه
أما وجفنيه شمس الأفق لو منحت
…
باية النُّطق أضحت وهي تعتبه
أفدي الَّذي طيفه ما زراني كرمًا
…
إلَّا انثنى ولوى عينيَّ يركبه
يروم تقليب قلبي في محبَّته
…
أفديه من أين لي قلبٌ يقلِّبه؟
أملي تجنِّيه ظلمًا زادني ألمًا
…
وإنما أصل آلامي تجنُّبه
فيا حبيبًا حباني بالهوى وهو
…
عنِّي ليخبر أن الغدر مذهبه
ويا رشًا راش سهم الصَّدِّ مقتصدًا
…
لصبَّ حتَّى عليه ضاق مذهبه
ويا غزالًا غزاني حين غازلني
…
بمرهف من غريب السِّحر مضربه
من لي أراك وعين البحر راقدةٌ
…
والوصًل يقظان خلو القلب طيِّبه
حتَّى أبوح بسر كنت أكتمه
…
خوفًا وأعرب شوقًا كنت أغربه
وله من جملة أبيات: [من المتدارك]
لصدودك همت إليك صدى
…
ولهجرك واصلت السُّهدا
وغرامٌ فيك أكابده
…
قد أتلف قلبي والكبدا
فإلى م تعاندني عبثًا
…
وبلحظك جرحي قد عندا
/218 أ/ وتقلِّب قلبًا منصدعًا
…
بهواجر هجرك متَّقدا
علِّقت غزالًا من أسد
…
يصطاد بمقلته الأسدا
قد حلَّ ذؤابته فأضً
…
ـل وأبرز طلعته فهدى
وإذا ما افترَّ تحار العيـ
…
ـن أثغرًا تنظر أم بردا
يا أحمد دونك سفك دمي
…
لا إثم عليك ولا قودا
قسمًا بسميِّك لا أسكنـ
…
ـت سواك فديتك لي خلدا
إن متُّ بحبِّك يا مولا
…
ي وعيشك كنت من السُّعدا
وحديث سميِّك صلى اللـ
…
ـه عليه بذلك قد شهدا
من مات محّبًا بالكتما
…
ن عفيفًا كان من الشُّهدا
يا قلب عليك جميًل الصَّبـ
…
ـر وإن يك صبرك قد نفدا
فلصرف زمانك منصرفٌ
…
ولمدة هذا الهجر مدى
وارقد لعدوِّك مضطجعًا
…
إن كان عدوُّك ما رقدا
وقال أيضًا: [من البسيط]
إذا ذكرتك فاضت أدمعي وذكت
…
نيران وجدي وزادت فيك أشجاني
وبتُّ ملقًي على فرش الضَّنى فلقد
…
قد نافرت فيك طيب النَّوم أجفاني
/218 ب/ عان بذا السُّقم أرعى في مدى سهري
…
من أنجم الأفق نجمًا ليس يرعاني
من مبلغ التاركي في حبِّة مثلًا
…
ينسى به ذكر ما قيسٌ وغيلان
أنَّي دنا أو تناءى رقةً وجفًا
…
مغرًى بحبِّيه في سرِّى وإعلاني
[840]
محمد بن عمر، أبو عبد الله الغماريُّ.
من أهل ميورقة من البلاد الأندلسية
رأيت من شعره ما مدح به المولى الصاحب الوزير الكبير العالم مؤيد الدين أبا نصر إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم الشيبانّي بحلب- أدام الله تمكينه-:
[من مجزوء الرجز]
هل للِّقاء من موعد
…
بأغيد المقلَّد
أما تراني من هوا
…
ك في المقيم المقعد
وأنت عنِّي ملته
…
في حسنك المجدَّد
تلعب بي لعب الصِّبًا
…
بقدك المؤوَّد
مهما تشكَّيت لك الـ
…
ـوجد تقل إلى غد
فلا أنا بمقصر
…
وأنت لست مسعدي
لحظك لي مثاقفٌ
…
عن خدِّك المزرَّد
/219 أ/ وقد جمعت نفرة الـ
…
ـظَّبي وبطش الأسد
وليس لي منك حمًى
…
إلَّا حمى المؤيَّد
فقال لي: كن آمنًا
…
وابشر بنيل المقصد
إن المؤيَّد الَّذي استنجدت خير منجد
أشهر أهل الأرض في
…
مكارم وسؤدد
أقدمهم في شرف الأ
…
صل وطيًب المحتد
أطولهم يدا ندًى
…
أقولهم في مشهد
أعزُّهم جارًا وأو
…
فاهم بحسن الموعد
أما رأيت فضله
…
يروى بكلِّ بلد
وأنَّه ينطق عن
…
بحر علوم مزبد
أما سمعت مدحه
…
في فم كلِّ منشد
هو الكبير قدره .. في صورة المقتصد!
كم من يدله على
…
هذا الورى كم من يد؟
دامت له النِّعمة والـ
…
ـسَّعد دوام الأبد
[841]
محمد بن عيسى بن نظام الملك، الأمير.
من أهل بغداد.
يقول في الوزير أبي الثناء محمود بن محمد بن مقدار الحرّاني من قصيدة أولها: [من الوافر]
فؤادي فيك زمُّوالا النِّياقا
…
وشوقي دعدع الحادي وساقا
وصبري عنك يا تامور قلبي
…
قضى وتجلُّدي بلغ السِّياقا
جلاك لي الفراق فصرت شوقًا
…
إلى رؤياك أشتاق الفراقا
ومنها يقول:
فسائلي الفراق عن اغتماضي
…
وقلبي فانشدي عنه الرِّفاقا
تخبِّرك الرَّكائب أيَّ دمع
…
أرقت بها وأيَّ دم أراقا
وأنَّ الرَّبع منك دعا دموعي
…
فلبَّته بوادرها اشتياقا
[842]
محمد بن عياش بن صباوة بن أبي بكر بن عبد العزيز بن رضوان بن عياش بن رضوان بن منصور بن دويد بن صالح بن زيد بن عمرو بن الزبار بن جابر بن كعب بن عليم بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن /220 أ/ تغلب بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة أبو الفضل بن أبي البقاء النحويُّ الأديب العرمانُّي.
وعرَّمان قريةٌ كبيرةٌ من اشهر قرى صرخد من عمل حوران من الولاية المشهورة بدمشق.
دخل حلب وسكنها مدةً من الزمان، وسافر إلى بغداد، ثم رجع عنها إلى إربل، وأقام بها أيامًا قلائل، ثم رحل عنها ونزل الموصل، وتوجه إلى حلب، واستقر بها مقامه، واستوطنها وسكن المدرسة النورية المنسوبة إلى بني عصرون.
وكان يختلف إلى أبي القاسم أحمد بن هبة الله بن سعد [الله] بن الجبراني النحوي المقرئ، يقرأ عليه وعلى الشيخ الموفق أبي البقاء يعيش بن علي بن يعيش النحوي الحلبي؛ علم العربية والأدب، وأتقن معرفة هذا الشأن، وتمهر فيه على أبناء زمانه، وتفقه على مذهب الإمام الشافعي- رضي الله عنه إلا أنه غلب عليه علم الأدب والإعتناء به.
وكان واسع الحفظ لأشعار المحدثين وغيرها من أشعار العرب. وكان ذكيًا متوقدًا، جاري اللسان، ولم يدع جنسًا من أجناس الشعر، وفنًا من فنونه إلاّ واستظهر /220 ب/ منه جملًة وافرًة. وكان يسر ديوان أبي تمام والحماسة، وشعر أبي الطيب المتنبي، ويجيد قول الشعر، وهو منه على طبعة متوسطة. وكان قادرًا على إنشائه، يقوله لهوى قلبه، ولا يرتزق به كعادة الشعراء اللذين يستميحون بأشعارهم، ويقصدون بها، وكان يعزّ نفسه عن الإسترفاد، وكان نظمه عليه سهلًا، وكان ضنينًا به لا يرى إثباته إلَّا يطرحه ويلغبه.
وكان يصنع الأشعار ويعزيها إلى الكبراء من أهل حلب، وأولى الثروة الذين كان يغشاهم ليتبجح عندهم بذلك وتنفق سوقه، وربما عثر لشاعر بأبيات فيسلخها، ويغير ألفاظها، ويبدّلها ثم ينتحلها.
وكان شابًا قصيرًا، لطيف الخلقة، منزعج العينين، شعره يضرب إلى منكبيه.
يتزيّا بزي المغاربة، وإذا نطق بالقاف جعلها كافًا. وكان خفيف الرأس، ناقص العقل، مبدّد الأحوال، سوداوي المزاج، تعتريه السوداء، ذا هوج وسرعة غضب، وربما أفضى به ذلك إلى ضرب من ضروب الجنون. وكان يسرف في المزاج والمداعبة.
/221 أ/ إنسان سوء، قلَّ أن سلم أحدٌ من شرِّه ولسانه، وقد جعل هجيراه الوقيعة في أعراض الناس وتلقيبهم، ولم يترك أحدًا من الأماثل بحلب إلَّا وأظهر له لقبًا ونبزه به. يفعل ذلك على سبيل الإنبساط والمجانة، وكنت في بعض الأوقات ألومه على ذلك وأعنفه، فكان يقول لي: أنا أحبُّ اللعب والهزل.
وكان مع ذلك شديد الميل إلى المرد الصباح الوجوه، مغرًى بمعاشرتهم والاختلاط بهم. وكان يذهب مذهب الباشطاريًة، ويتعاطى الرُّجلة والشجاعة وركوب الخيل والمسابقة بها، وما نازعه أحدٌ في شيء ما إلاّ وشهر عليه سكينًا، وتوعّده بالفتك. وكان قد رفض جنب الله تعالى، ولم يخل في زمانه من هوًى يعلق بقلبه، ويستحوذ على ذهنه ولبّه، ويضمنه شرح أحواله، ويذكر ذلك في أقواله، ويصف ما يلقاه من تباريح الهوى، ويجده من شدّة الجوى، والشكوى والغرام، والصبابة والهيام، والجفاء والبعاد، والشوق والسُّهاد.
ولم يزل بالغلمان الملاح مشعوفًا، مستهترًا بهنَّ معروفًا؛ ذوي القدود الرشاق، والخصور الدقاق/ 221 ب/ والطور المصفَّفة، والوجنات المترَّفة، وميله إلى هوى نفسه، هو الذي أودى به إلى رمسه؛ لا جرم عاد عليه وباله، ومات أشنع موته، وخسر الدنيا والآخر.
وكان يظهر التدين، وفعل الخير، وباطنه بخلاف ذلك، وما ظهر لي منه، شهد الله تعالى ألاّ استقامة الأحوال، وسلوك السَّمت الحسن، حتّى خبِّرت أنَّه هوى صبيًا أمرد بالمدرسة العصرونَّية، وأحبهّ حبًا مفرطًا، والصبيُّ يكرمه، وينفق عليه، ويعاشره أجمل عشرة تكون بين الأصدقاء، ولم يعلم الصبيُّ ما في نفسه إلى ليلة من ليالي شهر رمضان، وهي الرابعة عشر [ة] منه بعد صلاة عشاء الآخرة، وثب على الصبيّ خلسًة فضربه بسكين كانت معه معدَّةً فجرحه ثلاث جراجات، فنزل شخص آخر من المدرسة المقيمين بها، فضربه ضربتين ثم انهزم وصعد إلى بيته الذي يسكن به في علوّ المدرسة،
وقفل عليه الباب، فسمع شخصًا من المدرسة، يقول: قتل العرَّماني إثنين، فخاف على نفسه الصلب، فذبح نفسه! وبقي على صلاة الصبح، فجاء غلمان الوالي، فكسروا /222 أ/ الباب، وألقوه من دركاة المدرسة، فبقى إلى ضاحي نهار يوم الإثنين، ثم دفنوه بمقبرة الجبيل وذلك في سنة خمس وأربعين وستمائة – سامحه الله تعالى- وعمره يومئذ في حدود الربعين أو نيّف عليها بيسير.
وما أنشدني لنفسه، وكتبه لي بخطّه:[من الكامل]
يا صاح دع عذل العوا
…
ذل في معتَّقة الرَّحيق
صرفًا تلهًّب في الكؤو
…
س كأنها لهب الحريق
ممَّا تخيَّرها المسيـ
…
ـح ذخيرةً للجاثليق
وكأنَّها ذوبٌ من الـ
…
ـياقوت لا ذوب العقيق
يسعى عليك بها غزا
…
لٌ كالغزالة في الشروق
رشاٌ رشيق قوامه
…
أحلى من الغصن الرَّشيق
جلَّت بدائع حسنة
…
عن وصف ذي الذِّهن الدَّقيق
لك كلَّما نادمته
…
سكران من خمر وريق
أوما ترى وشي الرُّبى
…
أربي على الوشي الأنيق
كم فيه من زهر يرو
…
ق الطَّرف في غصن وريق
/222 ب/ لمَّا تخلَّله النَّسيـ
…
ـم ومسَّه مسَّ الشَّفيق
لثمت ثغورٌ للأقاح
…
به خدودًا للشقيق
وتأرَّجت نفحاته
…
كتأرُّج المسك السًّحيق
وكأنَّ نرجسه مدا
…
هن من لجين للخلوق
وكأنَّ زهر بهاره
…
العقيان أو خدُّ المشوق
والجوُّ في حلل مطرًّ
…
زة بمذهبه البروق
فاشرب وصل منها صبو
…
حك كلَّ يوم بالغبوق
وتسلَّ عن كلِّ الأنام
…
فليس فيهم من صديق
وأنشدني لنفسه في الزهد، والرجوع إلى الله –عز وجل:[من المجتث]
ياربِّ يا من إليه
…
كلُّ الأمور تصير
يا من على كلِّ شيء
…
هو القوىُّ القدير
إرحم بعفوك واغفرً
…
ذنبي فأنت الغفور
فليس لي من عذاب
…
إن لم تجرني مجير
وأنشدني لنفسه، يستدعى صديقًا له:[من مجزء الكامل]
/223 أ/ قم يا كمال الدِّين نغـ
…
ـنم طيب ذا اليوم المطير
بمدامة قد عتِّقت
…
من عهد كسرى أردشير
يهدي إليك نسيمها
…
أرج الخزامي والعبير
رقَّت فما في كأسها
…
منها سوى إشراق نور
كادت تطير فعاقها
…
شبكٌ من الدُّرِّ النَّثير
يسقيكها ذو قرطق
…
أبهى من القمر المنير
فإذا سقاك ثلاثة
…
صرت الأمير على الأمير
ونشرت كلَّ فضيلة
…
طويت من الفضل الغزير
فتعال فاشربها تسًـ
…
ـرٌّ فليس شيءٌ كالسُّرور
وأنشدني لنفسه يمدح: [من مجزوء الرجز]
يا ملكًا إنعامه
…
عمَّ جميع البشر
وبأسه في الرَّوع أمـ
…
ـضى من مضاء القدر
هبَّ إلى الرَّاح فقد
…
هبًّ نسيم السَّحر
وغنَّت الطَّير فأغـ
…
ـنت عن سماع الوتر
/223 ب/ والجوُّ يجلى في رد
…
اء فاختيٍّ عطر
كأنَّه معترضًا
…
دخان عود نضر
وطلُّه مثل اللآ
…
لي في عيون الزَّهر
والأرض من رياضها
…
في حلل من حبر
فقم إلى مدامة
…
صافية من كدر
كأنَّها ياقوتةٌ
…
قد رصِّعت بالدُّرر
يسعى بها قضيب با
…
ن مثمرٌ بالقمر
حيَّر غزلان النَّقا
…
بجيده والحور
يسقيكها ومثلها
…
من ريق فيه الخصر
ولا تزل في نعمة
…
ممتَّعًا بالعمر
وأنشدني لنفسه: [من المديد]
وبديع الحسن ليس له
…
غير قتلي في الهوى إرب
فعلت أحاظه بي ما تفعل الهنديَّة القضب
وشفائي لو يجود به
…
ما حواه ثغره الشَّنب
ريقه صهباء صافيةٌ
…
وثناياه لها حبب
/224 أ/ عجبي من نار وجنته
…
في مياه الحسن تلتهب
إن بدا في الشَّمس من خجل
…
بستور الحجب تحتجب
كملت في الحسن صورته
…
فإليه الحسن ينتسب
كلُّ راحاتي به تعبٌ
…
ويح من راحاته التَّعب
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من الطويل]
أأحبابنا والله ما العيش بعدكم
…
لذيذٌ ولا الصَّبر الجميل جميل
ولا راق طرفي في الورى حسن منظر
…
ولا تأق قلبي صاحبٌ وخليل
ولولا نسيمات القبول تزورني
…
لها أرجٌ من نشركم وقبول
لما عشت من شوق إليكم مبرِّج
…
بقلبي طول الدَّهر ليس يزول
زعمتم بأن البعد شهرٌ وقد مضى
…
فما للنوى تلوى بكم وتطول
وأنشدني أيضًا لنفسه الشمس: [من البسيط]
والشَّمس مصفرَّةٌ في الغرب قد نشرت
…
شعاعها في تفاريق من السُّحب
كأنَّما السُّحب أعلامٌ مورَّدٌ
…
والشَّمس من تحتها ترسٌ من الذَّهب
وأنشدني من شعره أيضًا: [من مجزوء الكامل]
/224 ب/ وجهٌ صفا ماء الجما
…
ل به وشبَّت فيه ناره
وكأنَّ خطَّ أبن العديـ
…
ـم على حواشيه عذراه
وأنشدني لنفسه في المعنى أيضًا: [من مجزوء الكامل]
قد زخرفت في وجهه
…
للنَّاس جنَّات النَّعيم
وكأنَّ خطَّ عذاره الـ
…
ـمنسوب خطُّ ابن العديم
وأنشدني لنفسه، وقد سمع هذا البيت:[من الطويل]
وسمراء رود حجَّبوها بأسمر
…
يماثلها في اللَّون واللَّين والقدِّ
فقال تمامًا له: [من الطويل]
جفت فجفا جفني الكرى بجفائها
…
كأنَّهما كانا لهجري على وعد
وأنشدني أيضًا قوله، يصف الجيش:[من الطويل]
خميسٌ كمثل البحر عبَّ عبابه
…
أوائله ليست لهنَّ أواخر
له تحت أطباق الأراضي زلازلٌ
…
ومن فوق أفلاك النُّجوم زماجر
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من مجزوء الرجز]
يا مالكًا أمسيت من
…
وجدي به متيَّما
سقام جفنيك الَّذي
…
أغرى بجسمي السَّقما
/225 أونار خدَّيك بها
…
وقعت في جهنَّما
من منصفي من شادن
…
مهفهف عذب اللَّما
حكَّمته في مهجتي
…
فجار لمَّا حكم حكًّما
كأن عقدي لؤلؤٍ
…
في ثغره قد نظِّما
قدر رقم الحسن له
…
في عارضيه أرقما
نمَّ بسرِّ حسنه
…
لمَّا بدا منمنما
وسلَّ من جفونه
…
من اللِّحاظ مخذما
وفوَّق الهدب بقو
…
سي حاجبيه أسهما
وهزَّ لدنًا ذابلًا
…
من قدَّه مقوَّما
فاعترضت من دونه
…
يمنعه أن يلثما
تحميه ممَّن رامه
…
وقَّ للثغر الحمى
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من مجزوء الرجز]
وشادن شاد هو الشـ
…
ـمس ضحى بل أحسن
قد جمعت في خلقه
…
لناظريه الفتن
يودُّ جسمي انَّه
…
حين يغنَّي أذن
/225 ب/ في مجلس فيه لنا
…
أحسن ما يستحسن
ما تشتهيه الأنفس
…
وما تلذُّ الأعين
وأنشدني له في غلام التحى: [من الطويل]
ولمَّا اكتسى بالشَّعر توريد خدِّه
…
وما حالةٌ إلَاّ تؤول إلى حال
وقفت عليه ثمَّ قلت مسلِّمًا:
…
(ألا أنعم صباحًا أيُّها الطَّلل البالي)
وأنشدني لنفسه: [من الطويل]
يعادي فلان الدِّين قومٌ لو أنَّهم
…
لأخمصه تربٌ لكان لهم فخر
ولكنَّهم لم يذكروا فتعمَّدوا
…
عداوته حتى يكون لهم ذكر
وأنشدني أيضًا قوله: [من الوافر]
ومالي لا أحيِّي دار ليلى
…
وأحبس في معالمها ركابي
واعتنق التراب لعلَّ قلبي
…
يسكَّن حرَّة برد التَّراب
وقد سلفت لنا فيها بليلى
…
ليالٍ مثل ريعان الشَّباب
وأنشدني لنفسه: [من السريع]
أنشد عزُّ الدِّين أشعاره
…
فما شككنا أنَّهادرُّ
وما عجبنا أنَّه مخرجٌ
…
لدُّرِّ منه وهو البحر
/226 أ/ وأنَّ أوصاف الوزير الَّذي
…
يفرق من صولته الدَّهر
قد أكسبت أشعاره بهجةً
…
يخجل منها الشَّمس والبدر
وأنشدني لنفسه في الفقيه الإمام نجم الدين موسى بن محمد القمراوي يمدحه:
[من البسيط]
أصبحت علَاّمة الدُّنيا بأجمعها .... تشدُّ نحوك من أقطارها النجب
بأن على كبد الجواز منزلة
…
تحفُّها من خلال حولها الشُّهب
ما نال ما نلت من فضل ومن شرف
…
سراة قوم وإن جدُّوا وإن طلبوا
وأنشدني لنفسه يمدح الوزير عبد المحسن بن محمد بن الواحد بن حرب الحلبي، وزير الملك العزيز غياث الدين محمد بن غازي بن يوسف:
[من الخفيف]
إدَّعى مفتي الأنام رئيس الـ .... ـشَّام زين الإسلام قاضي القضاة
أنَّ ذا الصَّاحب الوزير بن حرب
…
ذا المعالي والأنعم السَّابقات
نشار العدل في الرَّعيَّة طاوي الـ
…
ـظلم عنها موفَّق العزمات
خاضب الأبيض المهنَّد والأسمر
…
في الرَّوع من نجيع الكماة
/226 ب/ والشُّهود العدول عدلٌ وفضلٌ
…
ونزالٌ والأبحر الزَّاخرات
وعجيبٌ أن أدَّعي ما أرى النَّا
…
س أقرُّوا به وبالينات
وأنشدني لنفسه وقد رأى شيئاً من شعر الصاحب الوزير الكبير العالم مؤيد الدين أبي نصر إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم الشيباني- أسعده الله تعالى-: [من الطويل]
وقفت على شعر الوزير ابن يوسف
…
فقلت شمالٌ صافحته شمول
تداف من السِّحر الحلال كأنَّها
…
نجوم سما ما لهنَّ أفول
فللَّه أبياتٌ اتتنا بديهة
…
وذاك على الفضل العزير دليل
بخطَّ كنوَّار الحدائق جاده
…
من المزن وكاف السَّحاب هطول
سطور كوشي الرَّوض حسنًا أجادها
…
بنانٌ بأرزاق العباد كفيل
لك الله مولى شدَّ أزري وساعدي
…
وقام بنصري والرَّمان خذول
وقابلني إقباله عندما انثنى
…
وأعرض عنِّي صاحبٌ وخليل
فلست أبالي بالخطوب وظلُّه
…
علىَّ على مرِّ الزًّمان ظليل
فما خاب في الدُّنيا أمرؤٌ هو قصده
…
ولا شملته ذلَّةٌ وخمول
/227 أ/ فدام لإسداء المكارم ما شدا
…
حمامٌ وهبَّت شمال وشمول
ونقلت من خطهّ، قوله بعد موته – رحمة الله تعالى- ما كتبه إلى الأمير الكبير العالم السعيد صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن موسى بن يوسف بن أيوب- أدام الله سعادته- من حلب إلى الرُّها، يتشوقه ويستوحش له:[من الطويل]
تجنَّي فقلبي من تجنَّيه يخفق
…
حبيبٌ غريب الحسن ألمى ممنطق
تبسَّم عن عذب الثَّنايا كأنَّها
…
جمانٌ شذاها من شذا المسك أعبق
ووسنانه أمضى شبًا من سنانه
…
وقامته من قامة الرُّمح أرشق
زها ورد خدَّيه باس عذاره
…
فظلَّ به قلب الشَّقيق يشقَّق
عسى هجعهٌ يا طرف علًّ خياله
…
يزور إذا نام الرَّقيب ويطرق
وكيف يزور الطَّيف لو ساعد الكرى
…
من دونه بحرٌ من الدَّمع معرق
ترى يرعوي عن هجره ويعود لي
…
زمانٌ مضى لي منه بالوصل مونق
ليالي لا ألوي على عذل عاذل
…
بسمعي وغصن العيش ريَّان مورق
/227 ب/ وكأس الهوى صرفًا تدار وبيننًا
…
حديثٌ كوشي [الروض] حسنًا منمَّق
فلا عذر لي إن لم يروَّض بأدمعي
…
من الحزن حزنٌ بالعقيق وأبرق
وحتَّى متى أبلى أسى ببعاده
…
أمالي مجيزٌ مجيزٌ في هواه ومشفق
بلى إنَّ لي في ظلَّ يوسف ملجأ
…
يشرِّد عنِّي الخطب والخطب محنق
فتًى فات كلَّ العالمين إلى العلا
…
بعزم يباري البرق سعيًا فيسبق
فمن حاتمٌ في جوده وأبن مامة
…
ومن عامرٌ في بأسه والمحرق
وقد علم الآقوام أنَّك منهم
…
بفعل النَّدى والبأس أولى وأليق
وأضرب بالبيض الصَّوارم في الوغى
…
وأطعن بالسُّمر اللَّدان وأحذق
وكم معرك للموت جأشك رابطٌ
…
به وبه هام الكماة تفلَّق
تشقُّ به بحرًا من الدَّم مزبدًا
…
بجيش به آذيُّه المتدفِّق
على سابح نهد يريك نشاكه
…
كأنهَّ به منه على الأين أولق
فكيف أراك الدَّهر منك مساءة
…
ومازال منك الدَّهر يخشى ويفرق
لقد ساءني ما كان منه فأقبلت
…
به عبرتي من لوعة تترقرق
ويسألني عن حالتي من لقيته
…
فأذهل عن ردِّ الجواب وأطرق
ومادت به شمُّ الحبال مخافًة
…
وكادت به روح المكارم تزهق
/228 أ/ ولكنًّه ولَّى وأعقب صحَّة
…
مجدَّدة ليست مدى الدًّهر تخلق
كما يكسف الشَّمس ساعة
…
وعاد إليها نورها يتألَّق
فشكر لمن عافاك من كلِّ مؤلم
…
ومن كلِّ مكروه يسوء ويقلق
وأبلغت عتبًا عنك أضرم ذكره
…
حشاي بنار تستنير فتحرق
وما كان تركي الكتب إلاًّ لأنَّه
…
تعذَّر عندي من إليك يشرَّق
وإلَاّ فمن يشتاق مثلي على النَّوى
…
إليك ومن يحنو عليك ويشفق
ويبقى على مرِّ الجديدين دائمًا
…
جديدًا له عهدٌ وثيقٌ وموثق
وجدت على قرب الدِّيار وبعدها
…
كما جاد هطَّال من المزن مغدق
بقيت بقاء النَّيرات مخلَّدًا
…
وأنوارها من نور وجهك تشرق
فللفضل والإفضال والبأس والنَّدى
…
وللدين والدُّنيا ببقياك رونق
وأنشدني أيضًا من شعره: [من الخفيف]
يا غنّيًا عنِّي وما لي غنى عنـ
…
ـه إلى كم يكون هذا الجفاء
قد رثى [لي] الحسَّاد من سوء حالي
…
وبكى رحمة لي الأعداء
وقال أشعارًا كثيرة تفرقت وذهبت، كان ينفذها إلى معارفه واصدقائه.
[843]
/228 ب/ محمد بن عابد بن محمد، أبو المكارم الكرمانُّي الصوفيُّ الزرنديُّ
أخبرني الصاحب الوزير أبا البركات المستوفي- رضي الله عنه إجازة، قال: ورد إربل غير مرّة. ثم وردها في جمادي الآخرة سنة ست عشرة وستمائة، واجتمعت به في رجب. وكان الشيخ أبو نصر عمر بن محمد السُّهروردي، كتب له بخطّه إلى الفقير إلى الله تعالى أبي سعيد كوكبوري بن علي [بن] بكتكين يثني عليه بما حكايته.
"شهاب الدين الكرماني متفنن في العلوم، ويعرف المذهب والخلاف والحديث والتفسير والنحو واللغة. ومع ذلك هو ذو دين، وله النظم والنثر والترسل، ويصلح للتدريس والقضاء، وأن يبعث رسولًا. غير أنَّ بعض الناس تقبله بعض الطباع، وتأباه بعض الطباع فإن قبله الطبع بشيء من ذلك بقدر أن يقيم، وإلاّ فلينعم عليه بعوده إلى بلاده".
فأحببت الإجتماع به لهذه الأوصاف المنسوبة إليه، فوجدت ثناءه عليه، أكثر مما نسبه إليه. وناولني ورقة يمدح بها أبا سعيد كوكبوري بن علي بن بكتكين، وقرأتها تهنئة بشهر رجب المذكور. وأولها:
"حسبي الله كافيًا ومعينا"
[من الكامل]
/229 أ/ رجبٌ أتى في حرمة وجمال
…
متبخترًا في مشية المختال
باب المليك مظفَّر الدِّين الَّذي
…
سبق الملوك بجوده الهطَّال
المحسن المطعام والمقدام من
…
أضحى بسؤدده عديم مثال
وصلاته وصلاته وصلاته
…
مع حسن أخلاق ويمن فعال
كالرَّمل او قطر السَّماء وعدِّها
…
إيهون عدُّ قطاره ورمال
يختار شأو المكرمات ووصفه
…
قد فات كلَّ مجوِّد قوَّال
ليبشِّر السُّلطان بعد قدومه
…
ببقائه ألفًا من الأحوال
في رفعه وجلاله ومكانة
…
ونفاذ أمر نافذ الأحوال
يا أيُّها السلُّطان والملك الَّذي
…
فاق الخلائق في خلال جلال
أعجزت أرباب المكارم والعلا
…
بفضائل جلَّت عن الأمثال
وجمعت شمال الدِّين بعد تشتُّت
…
ونفيت عنه شعب كلِّ ضلال
وصرفت عن حرماته قصد العدا
…
بكتائب الأجناد والأبطال
ورفعت أمر الشَّرع أرفع منزل
…
ودفعت أهل الطَّبع بالأبطال
ونصبت أعلام الهدى بسياسة
…
وظبات أسياف وطعن عوالي
قال: وهي أبيات كثيرة، وعقبها بكلام منثور
…
الحاجة في إيراد ذلك.
[844]
/229 ب/ محمد بن غزة بن أبي الفتح بن سالم بن غرة بن مرة أبو عبد الله المري ثم العمريُّ الكلابيُّ.
من أهل حرّان
أخبرني أنه ولد بها في شهر شعبان سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة. شيخ أشقر، عبل الجثة، قرأ طرفًا من مذهب الإمام الشافعي –رضي الله عنه على الضياء عثمان الزرزاريّ.
رأيته بحلب، وهو ينوب محتسبها محي الدين أبا صالح عد الكريم بن عثمان بن عبد الرحيم بن العجمي، عنه في الحسبة. ومن يرى شكله وهيأته يحسبه معلم صبيان المكتب لرقاعته وحماقة في رأسه، ويتعاطى الفضائل، ويدّعي قول الشعر، وليس عنده من الذي يدّعيه شيء، بل يغلب على طباعه الحماقة والعاميّة. وزعم أنَّ له شعراً كثيرًا.
ومما أنشدني لنفسه بحلب في شعبان سنة أربع وثلاثين وستمائة: [من الكامل]
لو سار طيب خيالكم أو زارا
…
لحملت من ثقل الهوى أوزارا
لكنَّه كان الطَّليق من الجوى
…
فجفا ولو يسري لفكَّ أسارى
ولقد أقول لبارق من بارق
…
بوميضه لمَّاورى وتوارى
/230 أ/ يا أيُّها البرق الَّذي بخفوقه
…
أهدى إلى قلبي الخفوق وسارا
أبكيت طرفي حين تبسم في الدُّجى
…
فلذاك أجريت الدُّموع غزارا
بالله قل هل عند من خلَّفته
…
علمٌ بما جرَّ الفراق وجارا
أم هل ترى أنسوا لصحبه ذاكر
…
يتمثَّل الأوطان والأوطارا
يا حار روِّح بالمطيِّ من السُّرى
…
نفسًا فإنَّ دليلها قد حارا
وأرفق بأبناء الغرام فإنَّهم
…
من خمر كاسات الفراق سكارى
قد طلَّقوا لذًّاتهم فنهارهم
…
فكرٌ وأمَّا ليلهم فسهارى
من كلِّ مطبوع على دين اللهوى
…
وكفاهم هذا المقام فخاراً
أنضاء شوق تستقلُّ بحملهم
…
أنضاء سوق كالقسىِّ تبارى
للنوح تحسبهم حمائم أيكة
…
صارت لهم أكوارها أوكارا
وكأن أحداج المطيِّ وهم بها
…
أبرأج حسن أطلعت أقمارا
وأنشدني أيضًا لنفسه إملاءً: [من الطويل]
إذا مغرمٌ صبٌّ خلا من معينة
…
فنجدته دمعٌ جرى من معينه
ولم يك معتاضًا عن الحبِّ شأنه
…
إذا عزَّ لقياه بفيض شؤونه!
/230 ب/ ولا تعذل المشتاق فيمن يحبُّه
…
فعذلك يغريه بفرط جنونه
وما ينفع الذَّال جذب شماله
…
وقد أكد الميثاق أخذ يمينه
أقام على دعواه عند عذوله
…
براهين تنفي شكَّة بيقينه
محاسن من يهوى فعاد عذيره
…
خلّها بها عن وهمه وظنونه
يموت ويحيا كلَّما شام بارقًا
…
تألَّق من سهل الحمى وحزونه
يذَّكره وصلًا مضى كحقوقه
…
وظلمة هجر بعده كسكونه
فلا تلما صبًا مشوقًا إلى الحمى
…
ينوح على أوطاره لشجونه
فإنَّ به ورق الحمائم في الضُّحى
…
تنوح على كثبانه وغصونه
وأنشدني أيضًا قوله إملاًء من لفظه: [من الوافر]
ترفَّق في ملامك يا ملوم
…
فما إعراضه حالٌ تدوم
يريك قساوةَّ ويلين سرّاً
…
كذا الأغصان من ميل تقوم
أبثُّ إليه شكواي ويبدي الـ
…
ـتَّجاهل وهو بالشَّكوى عليم
بديعٌ في الجمال إليه يصبو
…
ببهجة حسنه الرَّجل الحليم
عدتني صحَّتي لصحيح طرف
…
وأعداني به الجفن السَّقيم
/231 أ/ وخدَّد مهجتي خدٌّ أسيلٌّ
…
فبالأحشاء من كلفي كلوم
أنست بنار خدَّيه كأنَّي
…
لفرط صبابتي موسى الكليم
أزال مدامعي من بعد صون
…
فناثرها له ثغرٌ نظيم
وأهوى قدَّه الخطَّار عجبًا
…
إذا ما مال لا القدُّ القويم
شكوت عقاربًا لدغت فؤادي
…
ومادَّبت بوجنته تقيم
عجبت ولا سليمٌ من هواه
…
يذوق كرى ولكنَّي السَّليم
وأنشدني لنفسه أيضًا: [من البسيط]
ما رمت عن عاذلي وجدًا أكتِّمه
…
اإلَاّ بوادر دمع العين تعلمه
أنَّى يفيق من البلوى به دنفٌ
…
وصحَّة الحبِّ والأشواق تسقمه
بدرٌ له من ضياء الحسن أنوره
…
ومن حنادس ليل الشَّعر مظلمة
عجبت كيف سبى قلبي تمايله
…
وأقتل الرَّمح في الهيجا مقوَّمه
فلو ترى حين أشكو وهو يبسم من
…
دمعي على صحن خدِّي كيف أسجمه
فما السَّحاب سوى جفنيَّ هاطلةً
…
ولا البروق به إلَاّ تبسمه
يا باخلاً ظنَّ أنَّ الطَّيف يطرقني
…
فصدَّه في السُّرى عنِّي توهمه
/231 ب/ ما ضرَّ أنَّ خيالاً منك ترسه
…
وكان يحظى به في النَّوم مغرمه
وأنشدني أيضًا لنفسه، مما قاله في الغزل، مبدأ قصيدة:[من الطويل]
سلاسل برق لاح والرَّكب متهم
…
تقيَّد في رؤياه صبٌّ متَّيم
ويخفق منه قلبه لخفوقه
…
ويبكى لذكرى حبِّه وهو يبسم
ومن عجب نارٌ على البعد أوقدت
…
بأحشائه نار الأسى تتضرَّم
أراقبها حتَّى الصَّباح لعلَّه يرى نسمة من نحوها تتنسَّم
ويرجع إمَّا منه تهدي تحية
…
إليهم وإمَّا بالتحًّية منهم
خليليَّ كفَّا ليس عذلي ينافع
…
وهيهات يصغى في الملامة مغرم
ولا تعذلا ما كان أشهى لسمعه
…
أحاديث تروى في المحبَّة عنهم
فها رجبٌ سمعي وصبري لبينهم
…
غدا صفرًا والنُّوم عنِّي محرَّم
فيا مالكي في القلب منك نويرةٌ
…
وفي جفن عيني من هواكم متمِّم
وأنشدني لنفسه أيضًا عزلًا: [من الطويل]
أفي الفتك أمضى لحظة أم مهنَّد
…
حسامٌ غدا في العاشقين يجرَّد
/232 أ/ وغصن النَّقا فوق الكثيب إخاله
…
وشمس الضُّحى أم وجهه يتوقَّد
أحاط عليه مقفلٌ من عذاره
…
عجبت له، أنَّى له وهو أغيد؟
وأعجب منه قاتلي وهو آمنٌ
…
على نفسه والخدُّ منه مزرَّد
حكى مدمعي في الخِّد رقَّة خدِّه
…
ولكنَّه من لونه يتورَّد
وثغرًا له في فيه أضحى منضَّدًا
…
فمن أجله دمعي عليه مبدَّد
رنا فسقى من لحظة الخمر صحبه
…
فأعجب به صاح علىَّ يعربد
نظلُّ سكارى لا نفيق من الهوى
…
إذا ما انقضى سكرٌ لنا يتجدَّد
تخيلته في خاطري فرأيته
…
فمن عظم إجلالي له ظلت أسجد
فكم حاسد أو عاذل عاد عاذرًا
…
إذا ما رأى الحسن الَّذي فيه أحسد
يروم صلاحي بالملا وما درى
…
إلى العذل عنه في الحبَّة يفسد
وأنشدني أيضًا لنفسه: [من الكامل]
ذكر الحبيب لدى الكئيب شجون
…
وكذا الملام لدى الغرام جنون
مثل النَّسيم يزيد نيران الغضا
…
لهبًا ويظهر ما بهنًّ دفين
ظبيٌ رأى قلتي بلحظ عيونه
…
أثَّرن في قلبي فهنَّ عيون
/232 ب/ لو لم تكن قضبًا تريق دماءنا
…
ما قيل أغطية اللَّحاظ جفون
لا تحسبن خالًا يلوح بخدِّه
…
لكنَّ إثمي للأنام يبين
إسودَّ فيه دمي ليبقى شاهدًا
…
منه عليه في الحساب يكون
يحكي القضيب إذا عتبت بميله
…
حينًا ويعطفه على اللِّين
أهوى لما يرضى وإن حتفي به
…
ما عزَّ عندي ما عليه يهون
أشكوه أم أشكو إليه وكيف لي
…
لو أنَّه عند العتاب يلين
إنِّي وإيَّاه قتيلٌ في الهوى
…
ومبرَّاٌ في فعله وضمين
وأنشدني لنفسه أيضًا، وكان قد رحل من حلب إلى البيرة:[من الطويل]
أأحبابنا غبتم فأدناكم الهوى
…
بقلبي فأنتم نازحون دواني
يمثِّلكم قلبي فأنظركم به
…
كأن لم تزل أشخاصكم بعياني
ركبتم لحيني مركب الصَّدِّ جامحًا
…
وشوقي إليكم آخذٌ بعناني
وعوَّضتم عن قربكم ببعادكم
…
فجودوا فما لي بالفراق يدان
جنيت على روحي البعاد برحلتي
…
كذا كلُّ جان للقطعية جاني
/2332 أ/ يقلُّ اصطباري كلَّما زاد موهنًا
…
وميض بريق بالشِّام شجاني
على حلب مسراه في ظلمة الدُّجى
…
كلمع ثغور أو فرند يماني
خليليَّ من ذكر الحمى وطويلعٌ
…
دعاني فذكر الاسفريس دعاني
الأسفريس: محلّة بحلب.
به منزلٌ فيه من الرِّيم آنسٌ
…
نفورٌ إذا ما رمته لتداني
حكى مدمعي ما ضمَّه من قلائد
…
منظَّمة من لؤلؤ وجمان
ولكنَّه لمَّا تلوَّن في الهوى
…
تلوَّن مني فهو أحمر قاني
عجبت له سكني فؤادي وما اعتنى
…
بإسكانه من شدَّة الخفقان
وأنشدني أيضًا من شعره في إنسان كبير الأنف: [من السريع]
لو أن فرعون على أنفه
…
لم يبن عالي الصَّرح هامان
وحلَّ كسرى في ذرى حزبه
…
وقد حوى الإيوان إيوان
وجلَّ من أبدع في أنفه
…
إذ هو على الصَّنعة برهان
[845]
محمد بن غسَّان بن غافل بن نجاد بن غسّان بن غافل بن نجاد بن ثامر بن رفاعة بن نجاد بن محمد بن كامل بن محمد بن نجاد، أبو عبد الله الأنصاريُّ.
من أهل دمشق.
حكى محمد بن جامع الدمشقي، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن غسّان الدمشقي الأنصاري، قال: رأيت في المنام كأنّي في بستان كنّا نملكه في المزّة، وفيه جوزةٌ كبيرة. وكان والدي وأعمامي كثيراً ما يتغدون تحتها، فقلت: لا إله إلاّ الله هذا موضع أبي وأعمامي! ، فسمعت قائلاً ينشدني من أصل الجوزة، أسمع صوته ولا أرى شخصه، وهو يقول:[من الطويل]
أيا منزل الأحباب هل فيك مخبر
…
يخبِّرني أم هل نرى فيك منجدا
عفوت فأعمى رسمك الموت والبلى
…
وأقفرت حتَّى لا أرى فيك مسعدا
أحبَّه قلبي فرَّق الدَّهر بيننا
…
فلا تشمتوا بالبين أشرار حسًّدا
بعدتم فذاب الجسم بعد بعادكم
…
وأخليتم الأوطان أشمتم العدا
فعودوا يعود الوصل بعد قطيعة
…
فهيهات راح اليوم فاصبر إلى غدا
فأنكرت آخر البيت، فسمعته يقول: هذا إقواءٌ.
[846]
/234 أ/ محمد بن فضل الله بن أبي بكر، أبو عبد الله الخطيب النيسابوريُّ.
كان يتولّى الخطابة الريّ.
وجدت له بخطّه نظمًا ونثرًا عربيًا وفارسيًا. ومما نقلت من شعره العربي، قوله وليس هو مختار شعره، ويغلب على أقواله العجمة والعجرفة.
وهو القائل: [من الرمل]
هبَّ ريح الشَّوق من برح النَّوى
…
حين لاح البرق في وسط اللِّوى
لوعة الأشواق دعني أشتكي
…
أوقدت في أضلعي نار الجوى
صرت من كأس الرَّدى في سكرة
…
وغرامي دار بي دور النَّوى
أنأ في الحزن صدَّت سلوتي
…
عزم الأيام ضرِّي نوى
حبَّذا آثار أنفاس الصَّبا
…
آه من حالات لوعات الهوى
وقال أيضًا:
سقيًا لعهودنا الخوالي
…
إذا عهد معهد الوصال
العين على مني رواه
…
تبكي وتذرف كاللآلي
القلب بحبِّه يباهي
…
إلًّا بهواه لا يبالي
لمَّا برقت وميض طيف
…
أيقنت مخايل الخيال
/234 ب/ أدي قمرًا إذا تجلَّى
…
كالبدر أضاء في اللَّيالي
أمسيت وهجره سلوِّى
…
أصبحت ووصله سؤالي
وقال أيضًا: [من الخفيف]
طلع الصُّبح هات يا صاح
…
رغم أنف العذول والَّلاحي
قهوًة كالزُّلال صافية
…
هي والله روح أرواح
هيَّ في الجام أنجمٌ طلعت
…
شعشعت نورها كمصباح
لا تقف في إبتغاء مطلوبي
…
واسع في حاجتي بإنجاح
سدَّ باب الهموم فافتتحن
…
بمفاتيح دور أقداح
إغتنم في الصَّباح كأس طلًا
…
فمضى الصُّبح أيُّها الصَّاحي
أنا في الصُّبح عند ندماني
…
راحتي في الصَّبوح والرَّاح
وقال يهجو قاضيًا: [من السريع]
قاض لنا في الفعل ممقوتًا
…
في البغي والعدوان جالوتا
بالجهل والنُّقصان معروفًا
…
قد صار بالخذلان منعوتا
في طلب الأير له همَّةٌ
…
من شوقه لا زال مبهوتا
[يبخل بالمال ولا يوتى
…
لكنَّه في خلقه يوتى]
[847]
/235 أ/ محمد بن أبي الفتح بن أبي بكر أبي الفتح بن الحسين، أبو عبد الله، الأشترُّ الأصل، المصريُّ المولد والمنشأ.
ذكر أنَّه من أولاد مالك بن الأشتر. أنشدني أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد البرزالي الأشبيلي بحلب، قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح الأشتري لنفسه: [من الكامل]
لو صحَّ في شرع الغرام وفاك
…
لرشفت من شعفي لماك وفاك
فعلام تعتمدين قتل متَّيم
…
أترى نهاك عن الوصال نهاك
ماذا يضرُّك لو مننت بنظرة
…
ماذا يضرك لو جفيت جفاك
حلَّلت قتل الصَّبِّ وهو محرَّم
…
فبلحظك الفتَّال من أفتاك
لولاك ما ملك الغرام حشاشتي
…
وأذاب جسمي عامداً لولاك
أهوى الأراك وما الأراك بمنزلي
…
لكن لعلَّ على الأراك أراك
واغضُّ عن ظبيات كاظمة الحمى
…
طرفي وقلبي لا يحبُّ سواك
فبغزِّ عزِّك يا سعاد بذلًّتي
…
بنحول جسمي بالَّذي عافاك
بعظيم ما في القلب منك بحقِّ من
…
بالحسن قد حلَاّك إذا حلَاّك
لا تتركيني عبرًة لأولي الهوى
…
وترفَّقي يا هذه بفتاك
/235 ب/ وتعطَّفي من قبل قول مراقب
…
لله يحسن في فلان عزاك
إن كان سفك دمي بغير جناية
…
وتلاف روحي في الهوى برضاك
فاستغنمي فرص الزَّمان وذاك أنًّـ
…
ـا يا سعاد وما ملكت فداك
وبكلِّ ما شئت إفعلي بي إنَّني
…
بخطاك يا لميا غفرت خطاك
وأنشدني أيضًا، قال: أنشدني أبو عبد الله قوله: [من البسيط]
خف الصَّديق وكن منه على حذر
…
ولا تقل جاءني هذا على نسق
فالمرء يشرق بالماء الزُّلال إذا
…
طورًا وطورًا به ينجو من الشَّرق
وأنشدني، قال أنشدني لنفسه في صديق:[من الكامل]
لا تعجبنَّ إذا دهتك مصيبةٌ
…
من صاحب عكفت عليه ذئابه
واحذر مصافاة الصَّديق فرَّبما
…
عانت على غرق الغريق ثيابه
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من الكامل]
قال الحبيب لصاحبي: صف داءه
…
أبه جنونٌ؟ قال: لا، بل مغرم
بك بات يحلم ليله فأجابه
…
أوما كفاه ينام حتَّى يحلم
لو كان في الدَّعوى محبّاً صادقاً
…
ما كان يفني العاشقون ويسلم
وأنشدني، قال: أنشدني قوله: [من المتقارب]
/236 أ/ يقولون لي: جلِّقٌ جنَّةٌ
…
مزخرفةٌ للورى مفتنه
فقلت وما إن بها محسنٌ
…
يرى للغريب ولا محسنة
إذا قطع الماء منها غدت
…
كأربابها جيفةً منتنه
[848]
محمد بن أبي الفخر بن أحمد، أبو حامد الكرمانيُّ الصوفيُّ الشيخ الزاهد.
ذكره الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي- رضي الله عنه في تاريخه، وقال: ورد إربل غير مرَّة. وكان أوّل ما وردها معه جماعة من العجم، ونزل بالقبَّة الشمالية من المسجد الجامع يسرة الداخل من الباب الشمالي، وزاره الناس وعليه جبَّة صوف، واجتمع بالفقير إلى الله تعالى ابي سعيد كوكبوري بن علي بن بكتكين- رحمة الله تعالى- في مجلس سماع، وأراد الحج في تلك السنة، فزوّده ومن معه، واكترى لهم الظهر إلى مكة، سائرين وقافلين بجملة من مال ثم صار في آخر قدماته خاصًا بأسراره ينفذه رسولًا إلى الأطراف، وصار له خول ودواب كثيرة. وكان شيخ رباط الجنينة مشارك عمّاله في النظر معهم على حاصله، فحوسب فبقي عليه مال أطلقه له الفقير إلى الله تعالى أبو سعيد كوكبوري بن /236 ب/ علي، وخرج من إربل فهو في ديار بكر وما والاها شيخ مشايخ ربطها. كان يحب أن يكون في ألقابه علم الهدى.
أخبرني أنَّه ولد ببردسير سنة إحدى وستين وخمسمائة، يروي عن الشيخ أبي الغنائم غنيمة بن المفضل السجاسي، وهو صاحب خرفة في التصوّف. وسجاس قرية من قرى سهرورد بين زنجان وهمذان. هذا آخر كلامه.
وقدم بغداد وأقام بها إلى أن توفي ثالث شعبان سنة خمسين وثلاثين وستمائة ودفن بجانبها الغربي بالشونيزى، جوار قطب الدين الأبهري- رحمهما الله تعالى-
صار إلى قطعةٌ من شعره إلاّ أنَّ فيها لحنًا، وقد أثبتُّها هاهنا تبركاً بذكره،
صنعها على نهج ذوي الأحوال والمعارف، أنشدنيها شيخ الشيوخ عماد الدين أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن أبي عصرون التميمي- أيده الله تعالى- بحلب قال: أنشدني الشيخ الصالح العابد أبو حامد محمد بن أبي الفخر الكرماني لنفسه: [من مخلع البسيط]
في الشِّدَّة والرَّخا جميعًا
…
أرجوك ولم يخب رجائي
/237 أ/ يا سمع جئت مستجيرًا
…
أدعوك لتستجيب دعائي
أفنيت لحبّكم وجودي
…
كي يحصل في الفنا بقائي
ما كان ولا يكون حاشا
…
إلَاّ لرضاكم رضائي
ياربَّ محمد أجرني
…
من مخرقتي ومن ريائي
إن يحسن أويسي صنعًا
…
حالي معكم على السَّواء
ما حلت ولا أحول يومًا
…
عن باب مناك يا منائي
[849]
محمد بن القاسم بن هبة الله بن القاسم بن لعي بن محمد بن الحريريِّ، أو عبد الله بن أبي الحريريِّ أبو عبد الله بن أبي محمد الطبيب الحكيم.
من أهل دنيسر.
كان والده ممّن يشار إليه في زمانه في علم الطب والمداواة، وله الإصابة في الإنذار في غالب أوقاته.
وابنه هذا قرأ على الشيخ المهذّب أبي الحسن علي بن أحمد بن هبل البغدادي الخلاطي بالموصل شيئًا من كتابه "المختار". ورحل إلى بغداد، فظهر له بها القبول عند الناس، وعالج بها خلقًا كثيرًا بالأدوية، وبعمل اليد. ثم رحل منها إلى بلاد العجم.
قال صاحب كتاب "حلية السريين من خواص الدنيسريين": /237 ب/ أنفذ كتابه إلينا من نيسابور، بأنَّه يقرأ على الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي المعروف بابن الخطيب. وله خطٌّ مليح.
كتب على [خطٌ] الأمير أمين الدين أبي الدُّر ياقوت بن عبد الله الموصلي زمن اشتغاله بالطب على إبن هبل، وتقدّم بعلمه عند الملوك والسلاطين، ورغبوا في استخدامه، لاسيما في دولة الملك الأشرف موسى بن أبي بكر بن أيوب، فإنَّه حظي لديه، وصنّف له كتابًا سمّاه:"الروضة" على وضع "كليلة ودمنة" وكتاب "البلغة". ومع ذلك له مشاركة قويّةٌ في الفنون الأدبية، وقرض الشعر. وله خاطرٌ سريع في إرتجاله، ويدٌ طولى في صناعته، هذا آخر كلامه.
أنشدني الشيخ الحافظ صدر الدين أبو علي الحسن بن محمد البكري بدمشق في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة، قال: أنشدني أبو عبد الله محمد بن القاسم بن الحريري لنفسه بسنجار في ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وستمائة، وأنشدها الملك الأشرف موسى بن أبي بكر بن أيوب –رحة الله تعالى- ونظم ذلك بديهةً:[من الكامل]
/238 أ/ يا أيُّها الملك الَّذي بعلومه أصبحت بين يديه كالمتعلِّم
أبدعت فيما قلت حتَّى لم يقل أبداً بأنَّ الفضل للمتقدِّم
وأنشدني أيضًا في التاريخ المذكور، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه يمدح الملك الأشرف- رحمة الله تعالى-: [من الكامل]
أهدي لمولانا دعاء صالحًا يدعو به في الصُّبح بعد صلاته
وسوى الدُّعاء فلست أملك غير ما
…
أحويه من صدقاته وصلاته
[850]
محمد بن أبي القاسم بن محمد بن أحمد بن محمد بن سعيد، أبو عبد الله الأمديُّ.
قال الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي- رضي الله عنه في تاريخ إربل: ويعرف بالرشيد الدمشقي، وسألته عن مولده؟ فقال: بامد، فقلت له: في أي سنة؟ فقال: ما هو معيَّن، إنما أنا في حدود عشر الثمانين.
وحدثني أنَّه قرأ الخلاف والفقه، وسافر إلى خراسان وغيرها، وسمع في صغره شيئًا من الحديث، ولم يكن من مطلوبه، إنَّما سمعه في جماعة سمعوه. وذكر أنَّه لقي أبا بكر يحيى بن سعدون القرطبي وغيره. لزم /238 ب/ طريقة أهل التصوّف، وقال بمذهبهم، وهو- كما ذكر – ورد إربل غير مرّة.
وأنشدني من شعره في سادس شهر ربيع الآخر سنة سبع عشرة وستمائة؛ برباط الجنينة المعمور. وكان فقيهًا حنفيًا إمامًا مقدمًا في مذهبهم، أنثى على علمه بعض الحنفيّة ثناءً كثيراً. وكان نحويًا عالمًا بالنحو.
ثم قال: أنشدني لنفسه، وذكر إنه عملها في بلاد العجم، وقد عاجله الشيب:[من الكامل]
ما شبت من كبر ولكن شيَّبت
…
رأسي شدائد للمتون قواطع
لو أنَّ بعض مصائبي يمني بها
…
ويذوق شدَّتها غلامٌ يافع
لنضالها برد الشًّبيبة واغتدى
…
للشيب في فوديه نجمٌ طالع
والنَّاس في اللأواء حين تعدُّهم
…
رجلان: ذو صبر، وآخر جازع
فاصبر على مضض الحوادث إنَّها
…
ميزان عدل خافضٌ أو رافع
ولتعلمن أن البلاء لأهله
…
كالسَّبك للإبريز مؤٍذ نافع
[851]
محمد بن محمد بن أحمد، أبو عبد الله البرزيُّ.
من أهل وسط.
ذكره الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي –رضي الله عنه في تاريخه، وقال: ورد إربل في العشر الأولى من شعبان /239 أ/ سنة أربع عشرة وستمائة. وكان يسأل الناس معرضًا لا يعف عن أحد ملك أو سوقه، رفيعٍ أو وضيعٍ
أنشدني أبو عبد الله البرزي لنفسه: [من البسيط]
لو لم تهج بالجوى المذكي بلابله
…
ما لجَّ باللَّم والتعنيف عاذله
صبٌّ إذا قال: هذا الشَّوق قد ذهبت
…
عنِّي أواخره عادت أوائله
يا مصلتًا من قراب اللَّحظ سيف هوًى
…
مهنَّداً لا يريد السِّلم حامله
هذا اللًّي أولعت عيناك في دمه
…
ظلمًا لآيَّة حال أنت قاتله
واهيف كقضيب البان ما انعطفت
…
أعطاف سمر القنا لولا شمائله
يكاد يوهيه ممَّا فيه من ترف
…
مرُّ النَّسيم وتدميه غلائله
كالماء لو باشرته كفُّ مغتبق
…
لسال ما قبضت منه أنامله
قالت لنا عينه سحري بلبتكم
…
فأين هاروتكم أم أين بابله
يا من أمانيُّ عيني إن تراه ومن
…
مالي سوى قربه وصلاً أحاوله
ما ذاق طعم حياة من تفارقه
…
ولا يذوق حمامًا من تواصله
ولا يلذُّ الكرى في ليله ملكٌ
…
بات أبن أرتق محمودٌ يصاوله
وأنشدني، قال: أنشدني لنفسه: [من البسيط]
/239 ب/ ثنى عنان هواه بعدما جمحا
…
وراجع الحلم عن جهل الصِّبا فصحا
فما تتيَّمه سحر الجفون ولا
…
يروقه الخدُّ محمرّاً إذا وضحا
وقلَّما تسكب الأطلال عبرته
…
ولا الغريق أجدَّ البين منتزحاً
ما كان أوَّل مغرور بصبوته
…
ثابت إليه أنأةٌ بعد ما مرحاً
ولا بأوَّل من أصغى إلى عذل
…
أذنًا وطاوع من في الحبِّ قد نصحا
سجيةٌ عقدت بالمجد همَّته
…
تهوى العلا وتعاف اللَّهو والقدحا
صمِّم إذا رمت من أمر مزاولة
…
وقدِّم الحزم تردده وإن جمحا
وعش وأنت عزيزٌ أو فهمت كرمًا
…
إن كنت حرّا ولا تقنع بما سنحا
فالمرء لا ترهب الأيَّام سطوته
…
ما لم يكن لزناد العزِّ مقتدحا
سأرحل العنس عن أرض أقيم بها
…
بين اللِّئام قليل الحظِّ مطَّرحا
وأعسف البيد ترمي بي جوانبها
…
بحرًا من الكيل نعطو أكلها طفحا
لا يهتدي النَّجم فيه لين مسلكه
…
ولا يلين لساريه إذا التمحا
وربما بات فيه البدر حلف سرًى
…
فغاله بعد مسراه وما برحا
تركت للفقر يطوي كلَّ مأربة
…
وللمطيِّ تباري المشية السُّجحا
ما لي أعلِّل نفسي بالمنى سفهًا
…
وأحلب الحظَّ حلبًا مجحدًا وتحا
/240 أ/ وفي القوافي وفي عرض الفلاسعةٌ
…
تعدي على الهمِّ إمَّا جلَّ أو فدحا
وأنشدني، قال: أنشدني أيضًا قوله: [من المنسرح]
خذها عروسًا إليك تجلى
…
ما نتجت مثلها الخواطر
من لقط غر إلا فمن ذا
…
يقابل اللَّيث بالجاذر
وقال يهجو الهذّب أحمد الواسطي المنبوز بمدلويه: [من الخفيف]
أحمد الواسطيُّ أكذب خلق اللـ
…
ـه في نطقه إذا ما فاها
لعن الله نطفةً صيغ منها
…
فهو في قبحه الشَّنيع تناهي
إن رأى خلَّة تسرُّ لخل
…
صدًّ عنها أو زلةً أفشاها
[852]
محمد بن محمد بن محمد بن أبي حنيفة، أبو القاسم بن أبي عبد الله بن الفرضيِّ.
كا إربلي المولد والمنشأ، بغدادي الوالد والأصل. أستشهد بدمياط في
سنة ست عشر وستمائة.
قال الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي: لم يكن يعرف ما يقوّم به لسانه، ثم قال: أنشدني أبو القاسم محمد بن محمد بن محمد بن أبي حنيفة البغدادي لنفسه: [من الكامل]
/240 ب/ أشتاقكم فإذا ذكرت لقاءكم
…
أجرت دموعي لوعةٌ وتفرُّق
خوفًا على أنِّي إذا لاقتيكم
…
يبقى القليل وبعده نتفرَّق
وأنشدني، قال: أنشدني أبو القاسم بن الفرضي لنفسه: [من الخفيف]
زاد شوقي إذ قلَّ فيه احتيالي
…
قمرٌ ذو ملاحه ودلال
بقوام كأنَّه غصن بأن
…
غرسوه على كثيب عالي
وبوجه كأنَّه بدر تًم
…
ولحاظ ترمي الحشًا بنبال
[853]
محمد بن محمد بن أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب السلطان الملك الكامل، أبو المعالي بن السُّلطان الملك العادل أبي بكر.
كانت ولادته في ربيع الأول سنة ستًّ وسبعين وخمسمائة. وتوفي يوم الخميس منتصف نهاره، الثاني والعشرين من شهر رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة بدمشق، ودفن بها –رضي الله عنه.
خطب له بولاية العهد في زمان أبيه. وكان أتم ملوك زمانه عقلاً وأحزمهم رأيًا وفعلًا. وكان كامل الأوصاف كنعته، وأبا المعالي محمدا في وقته.
ملك الديار المصرية /241 أ/ بكمالها، ودمشق وأعمالها، ومملكة اليمن
ما خلا صنعاء وديار بكر بأسرها. ومن الجزيرة حرّان والرُّها والرّقة ورأس عين ونصيبين وسنجار والخابور. وخطب له من باب الموصل إلى حضر موت، وضربت له الكسة بها، فكادت أعواد المنابر أن تنطق طرقًا نطق الأعواد، واستنار الدينار والدرهم برسمه إستنارة الكوكب الوقاد.
وكان محافظاً على إقامة منار الشريعة المطهرة، وأمر بإجراء أحكامها على أدلتها المعتبرة المقرّرة. أحيا نسة النبي صلى الله عليه وسلم وأنشأ بالقاهرة المعزّية دارًا للحديث النبوي، وولّي رواية الحديث بها، وإقرائه الإمام العلامة ابن دحية، وأمر أن يتحفظ الحديث بها كحفظ دروس الفقه بكرةً وعشيًا. وعين للطلبة بحفظ ملخّص القابسيّ، وأظهر في ذلك رغبة، وأقرَّه حتى كان أكثر مجالسه تنقضي بالبحث فيه، وأمر بحذف أسانيد صحيح مسلم. وكان كثير المطالعة له. فذكر لي أنَّ ولده الملك العادل سيف الدين أبا بكر/ 241 ب/ قال: كنت كثيرًا ما أرى السلطان والدي- قدس الله روحه- إذا انفصل من مجلس أمره ونهيه، وطلب الراحة لنفسه، يديم المطالعة في كتاب، فإذا أراد النوم استلقى واستدام مطالعته فإذا نام ترك الكتاب على صدره فطالبتني نفسي بالإطلاع على ذلك الكتاب لمّا رأيت من محافظته على تأمله، فاتفق إن نام في قائلة يوم من الأيام على هذه الصورة وأمرني بالمقام عنده، فلما انتبه وقام من ذلك المكان تباطأت بعده إلى أن غاب عني، فعمدت إلى الكتاب إذا هو صحيح مسلم محذوف الأسانيد.
وحين ملك مكّة- شرفها الله تعالى- وأذعن له مالك المدينة النبوية- على ساكنها أفصل الصلاة والسلام- بالطاعة وأنتظم في جملة أشياعه، آثر أن يتشرّف بذكر الحرمين الشريفين مع ذكره على المنابر، وقرّر أن يقال ملك الحرمين، فأبى ذلك، فقيل: مالك الحرمين، فقال: لا أوثر أن يقرن ذكري بذكر الحرمين الشريفين مع تعظيم، فقيل خادم الحرمين الشريفين فسرَّه ذلك وابتهج به، وقال: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد على خدمتهما.
وأجرى في أيامه على فقهاء المدارس، وربط المتطوّعة جراية من /242 أ/ طعام طول شهر رمضان المعظّم، وأفرد لذلك مطبخًا يسيِّر منه إلى كل موضع
كفايته. وألى بلاءٌ حسنًا في الجهاد، واسترجع ثغر دمياط المحروس، وصبر على بلاء ما اتفق صبر أيوب، ونال من عاقبة نصره على العدوّ- خذله الله تعالى- ما نال من الفرح بيوسف يعقوب، ولم يمت أحد في خدمته من الأجناد وغيرهم إلَاّ وأجرى بعض رزقه على مخلفيه من الأولاد؛ ذكورًا أو إناثًا، فجزاه الله عن إحياء سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم الجزاء الأوفى، وأحلّه على إقامة منار الشريعة المحمديّة من دار مقامه المحلّ الأشراف الاسنى – بمحمد وآله وصحبه أجمعين-.
حكى أبو الزّ مظفر بن إبراهيم المصري العيلاني الشاعر الضرير. قال: دخلت على السلطان ناصر الدين أبي المعالي محمد بن أبي بكر بن أيوب، فقال لي: أجز هذا النصف: [من المنسرح]
قد بلغ الشُّوق منتهاه
فقلت: وما درى العاشقون ما هو
فقال الملك الكامل: وإنَّما غرَّهم دخولي
فقلت: /242 ب/ فيه فهاموا بهم وتاهو
فقال: ولي حبيبٌ رأى هواني
فسكتّ ثم قلت: وما تغيَّرت عن هواه
فقال: رياضة النَّفس في احتمالي
فقلت: وروضة الحسن في حلاه
فقال: أسمر لدن القوام إلمى
فقلت: يعشقه كلُّ من رآه
فقال: ريقته كلُّها مدامٌ
فقلت: ختامها المسك من لماه
فقال: ليلته كلُّها رقادٌ
فقلت: وليلتي كلُّها انتباه
فقال: وما يرى أن يهين عبدًا
فسكتُّ ساعةً، ثم قمت قائمًا، وقلت:
بالملك الكامل احتماه
قال: فألقى إليَّ الزين الدمياطي، وأمره بكتبها ليلًا، يكتب مدحه.
قال مظفر فكملت الأبيات وقلت:
/243 أ/ العالم العامل الَّذي في
…
كلِّ حلاه ترى أباه
فمن سطاه ومن نداه
…
ليثٌ وغيثٌ يرجى نداه
ليثٌ وغوثٌ وبدر تمًّ
…
ومنصبٌ جلَّ مرتقاه
وما ينسب إليه من الشعر، وهو مشهور بين الناس متداول قوله:
[من البسيط]
إذا تحقَّقتم ما عند صاحبكم
…
من الغرام فذاك القدر يكفيه
سكنتم في فؤادي وهو منزلكم
…
وصاحب البيت أدرى بالَّذي فيه
[854]
محمد بن محمد بن محمد الفرغانيُّ.
قال الصاحب الوزير أبو البركات المستوفي- رضي الله عنه في تاريخه: ورد إربل في صفر سنة عشرين وستمائة؛ شاب طويل، حنفي المذهب.
وسألته عن لقبه فذكره لي، وسألته عن كنيته فلم يعرفها، وسألته عن ما بعد محمد الأخير، فقال: ما أعرف إلَاّ ذلك أو كلامًا هاذ معناه. حدثني أنَّه ولد بأرش من فرغانًة، ونشأ بكاشغر.
قال: وأنشدني لنفسه يمدح عميد الملك أسعر بن نصر وزير شيراز:
[من الكامل]
يا خير من بلغ المدى فيما سلك
…
ورقاب أحرار الورى بذلًا ملك
/243 ب/ خرَّت لك الثَّقلان طوعًا سجَّدًا
…
مهما أظلَّهما ويخدمه الملك
مارست فيك السَّير ممتطي الوجا .. بحشاشة قد جاورت صبًّا هلك
إن كنت تقتلني أصبت ماربي
…
أولا فأبت آيسًا والحكم لك
فز بالعلا وحز المنى قطب المعا
…
لي ما استدار رحا الفلك
وأخبرني أيضاً إجازةً، قال: أنشدني محمد بن محمد بن محمد الفرغاني من شعره، والتزم اللام:[من الطويل]
يد الفكر منِّي في امتداحك سلَّت
…
حسامًا فلو سلَّت لغيرك: شلَّت
فأنَّك من فاق القروم بماله
…
سجايا على العزَّ المخلَّد دلَّت
وأنت الَّذي الأحساب قد شرفت به
…
ودين الهدى يزهي ودنيا تحلَّت
وطاولت الأرض السَّماء تفاخرًا
…
بدولتك الغرَّاء منذ أظلَّت
هي الدَّولة الغرَّاء عند صيالها
…
تردُّ ليوث الحادثات استقلَّت
تم الجزء السابع من قلائد الجمان.
ويتلوه في الجزء الثامن بقية من اسمه محمد.
محمد بن إبراهيم بن هذيل
وصلى الله على محمد وآله وسلم.