المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، - قواعد ابن رجب - ط ركائز - جـ ١

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد؛

فإن معرفة القواعد الفقهية والمسائل المنتظمة تحتها من أهم ما ينبغي على طالب علم الفقه تقليب نظره فيه، وذلك أن «القواعد تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه من مآخذ الفقه على نهاية المطلب، وتنظم عقده المنثور في سلك، وتستخرج له ما يدخل تحت ملك»

(1)

.

وإن من أعظم ما كُتب في هذا العلم في سائر المذاهب الفقهية؛ كتاب الحافظ الإمام الفقيه الزاهد شيخ الحنابلة وعلامة المحدثين؛ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي، في كتابه المشهور:«تقرير القواعد وتحرير الفوائد» ، فقد أجاد فيه وأفاد، حتى قيل إنه من عجائب الدهر.

(1)

المنثور في القواعد (1/ 66)، نقلًا عن قطب الدين السنباطي رحمه الله.

ص: 5

وقد تفضَّل الله الكريم علينا بنسخ خطيَّة لهذا الكتاب تُعد من أنفس النسخ، نسختان منها مقروءتان على الحافظ ابن رجب رحمه الله وعليها خطه، ونسخ أخرى بخطوط تلاميذه وعلماء مذهبه.

وقد تزيَّن الكتاب بحواشٍ وتعليقات كثيرة في نسخه الخطية، منها ما هو بخط الحافظ ابن رجب، ومنها ما هو بخط تلاميذه؛ كعلاء الدين ابن اللحام، ومحب الدين ابن نصر الله البغدادي، ومنها ما هو بخط علماء المذهب بعدهم؛ مثل تلميذ ابن نصر الله البغدادي؛ عبد الله ابن هشام الأنصاري الحنبلي، وأحمد بن عبد العزيز الفتوحي، وإبراهيم ابن ضويان، وغيرهم، فانكشف بتعليقاتهم كثيرٌ مما أُغلق من القواعد، واتضح بعض ما أَشكل من كلام الحافظ ابن رجب، ومنها ما هو استدراك عليه، أو اعتراض، أو توضيح وبيان، أو غير ذلك.

فلما رأينا أن الكتاب بحاجة إلى إعادة إخراج وتحقيق، وأن جُلَّ هذه الحواشي - خاصة حاشية ابن نصر الله - لم تخرج من قبل، وأن الكتاب بحاجة إلى أن يكون بين يدي القارئ بهيئة مرضية، وقراءة صحيحة؛ عزمنا جهدنا على العمل بتحقيقه وخدمته، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان من اجتهاد خاطئ فمنَّا ومن الشيطان، ونرجو من الله العفو والغفران، ومن القارئ النصح والبيان.

والحمد لله رب العالمين

المحققون

ص: 6

‌ترجمة المؤلف

(1)

-‌

‌ اسمُه ونسبُه:

هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب - واسمه عبد الرحمن - بن الحسين بن محمد بن مسعود، زين الدين، أبو الفرج، البغدادي ثم الدمشقي.

اشتهر رحمه الله بـ: ابن رجب، و (رجب) هو لقب جدِّه عبد الرحمن.

(1)

مصادر الترجمة:

الرد الوافر، تأليف: ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي، مطبوع عن المكتب الإسلامي - بيروت، (ص 106).

الدرر الكامنة، تأليف: الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مطبوع عن مجلس دائرة المعارف العثمانية - حيدر آباد/ الهند، (3/ 108).

إنباء الغمر بأبناء العمر، تأليف: الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، مطبوع عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - لجنة إحياء التراث الإسلامي، مصر، (1/ 460).

المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، تأليف: برهان الدين إبراهيم ابن مفلح، مطبوع عن مكتبة الرشد - الرياض، (2/ 81).

شذرات الذهب، تأليف: ابن العماد الحنبلي، مطبوع عن دار ابن كثير، دمشق - بيروت، (8/ 578).

لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، تأليف: ابن فهد الهاشمي المكي الشافعي، مطبوع عن دار الكتب العلمية، (ص 118).

الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد، تأليف: يوسف بن حسن ابن عبد الهادي الصالحي، ابن المِبْرَد الحنبلي، مطبوع عن مكتبة العبيكان، الرياض، (ص 46).

الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية، تأليف: مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، مطبوع عن دار الفرقان - بيروت، (ص 49).

مختصر طبقات الحنابلة، تأليف: الشيخ محمد جميل البغدادي المعروف بابن شطي، مطبوع عن دار الكتاب العربي في بيروت، (ص 71).

السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، تأليف: محمد بن عبد الله بن حميد النجدي ثم المكي، مطبوع عن مؤسسة الرسالة، (2/ 902)، ترجمة رقم:(296).

تسهيل الوابلة لمريد معرفة الحنابلة، تأليف: صالح بن عبد العزيز العثيمين، مطبوع عن مؤسسة الرسالة، (3/ 1567)، ترجمة رقم:(2643).

هدية العارفين، تأليف: إسماعيل بن محمد أمين بن مير، مطبوع عن دار إحياء التراث العربي بيروت - لبنان، (1/ 527).

معجم المؤلفين، تأليف: عمر بن رضا كحالة، مطبوع عن مكتبة المثنى في بيروت، (5/ 118).

ص: 7

-‌

‌ مولدُه، ونشأتُه، ورحلاتُه، وعلمُه:

ولد ابن رجب في بغداد سنة 736 هـ، ونشأ في أسرة علمية ذات دين وخُلق وسمتٍ صالح، فقد كان أبوه وجده من العلماء المحدثين، وكان لأبيه عناية بالعلم، وقد اجتهد في تعليم أولاده - بما فيهم الحافظ ابن رجب - وهم صغار والرحلة بهم للقاء المحدثين والمسندين.

وقد طلب الحافظ ابن رجب العلم في سن مبكرة، قبل البلوغ، وسمع الحديث قبل سن الخامسة، وأجازه العلماء والمحدثون وهو

ص: 8

صغير، وارتحل به والده إلى دمشق وهو صغير أيضًا وسمع فيها من كبار المحدثين آنذاك؛ كابن النقيب، والسبكي، والنووي، وغيرهم.

ثم رجع مع والده إلى بغداد وسمع من شيوخها وعلمائها، ولازمهم وقرأ عليهم.

ثم حج مع والده والتقى في الحج بجماعة من الشيوخ، ثم رجع إلى دمشق ولازم ابن قيم الجوزية سنة كاملة حتى مات سنة (751 هـ).

وارتحل إلى مصر، والتقى بشيوخها وعلمائها، وحج مرة أخرى والتقى بالعلماء أيضًا.

قال ابن حجر: (ورافق شيخنا زين الدين العراقي في السماع كثيراً).

ثم استقر في دمشق عاصمة العلم آنذاك، ودرَّس وصنَّف، وولي حلقة شيخه ابن قاضي الجبل، وهي حلقة الثلاثاء، ودرَّس بالمدرسة الحنبلية، وتخرَّج عليه العلماء والفضلاء، رحمه الله رحمة واسعة.

قال ابن مفلح: (وكان لا يعرف شيئًا من أمور الناس، ولا يتردد إلى أحد من ذوي الولايات، وكان يسكن المدرسة السكرية بالقصاعين).

وكان ابن رجب رحمه الله له اطلاع واسع في مذهبه - مذهب الإمام أحمد -، وكتابه هذا من أدل ما يكون على ذلك الاطلاع، قال ابن قاضي شهبة لما ذكر مصنفاته:(والقواعد التي له تدل على معرفته بالمذهب)، وقد اعتمده المرداوي في الإنصاف من ضمن الكتب التي

ص: 9

يُعرف بها راجح المذهب، قال ابن المبرد:(وله تحقيق في المسائل على نصوص أحمد، وكلام الأصحاب، وله مسائل كثيرة غريبة).

وكان له اطلاع واسع في علم الحديث وعلله وطرقه لا يقل عن علمه بمذهب الإمام أحمد، قال الحافظ ابن حجر:(ومهر في فنون الحديث أسماء ورجالاً وعللاً وطرقاً واطلاعاً على معانيه، صنف شرح الترمذي فأجاد فيه في نحو عشرة أسفار، وشرح قطعة كبيرة من البخاري، وشرح الأربعين للنووي في مجلد)، ونقل عن ابن حجي أنه قال:(أتقن الفن، وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق).

-‌

‌ مشايخه:

أخذ العلم سماعًا، وإجازة، وقراءة، ومدارسة عن جماعة من العلماء والمحدثين، فمن هؤلاء:

1 -

أبو العباس، أحمد بن الحسن بن عبد الله، المشهور بابن قاضي الجبل (771 هـ).

2 -

أبو العباس، أحمد بن سليمان الحنبلي.

3 -

عز الدين، عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة (767 هـ).

4 -

صفي الدين، عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله البغدادي الحنبلي (739 هـ).

5 -

أبو يعلى، حمزة بن موسى بن أحمد بن بدران، المعروف بابن شيخ السلامية (769 هـ).

ص: 10

6 -

سراج الدين، عمر بن علي بن عمر القزويني (750 هـ).

7 -

شمس الدين، محمد بن أبي بكر الزرعي، المعروف ابن قيم الجوزية (751 هـ).

وغيرهم من المحدثين والفقهاء والمؤرخين والمسندين.

-‌

‌ تلاميذه:

أخذ عنه جمع من أعيان العلماء، منهم:

1 -

أبو العباس، أحمد بن أبي بكر الحموي الحنبلي، ويعرف بابن الرسام (844 هـ).

2 -

محب الدين، أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر البغدادي، مفتي الديار المصرية (844 هـ).

3 -

زين الدين عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الكرم الحنبلي المعروف بأبي شعر (844 هـ).

4 -

علاء الدين أبو الحسن، علي بن محمد بن عباس البعلي، المعروف بابن اللحام (803 هـ).

5 -

علاء الدين أبو المواهب، علي بن محمد الحموي الحنبلي، المعروف بابن المغلي (828 هـ).

وغيرهم من العلماء والمحدثين والشيوخ، قال ابن حجي:(تخرج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق).

ص: 11

-‌

‌ ثناء العلماء عليه:

أثنى على الحافظ ابن رجب جماعة من العلماء، من تلاميذه وغيرهم، فمن ذلك:

قال شمس الدين ابن ناصر الدين الدمشقي: (الشيخ الإمام، العلامة، الزاهد، القدوة، البركة، الحافظ، العمدة، الثقة، الحجة، أوعظ المسلمين، مفيد المحدثين)، ونقله عنه الشيخ مرعي الكرمي رحمه الله.

وقال ابن قاضى شهبة: (الشيخ الإمام، العلامة، الحافظ، الزاهد، الورع، شيخ الحنابلة وفاضلهم، أوحد المحدثين)، ثم قال بعد كلام في ترجمته:(وبالجملة فلم يخلف بعده مثله).

وقال تلميذه علاء الدين البعلي المعروف بابن اللحام: (سيدنا، وشيخنا، الإمام، العالم، العلامة، الأوحد، الحافظ، شيخ الإسلام، مجلي المشكلات، وموضح المبهمات)، وقال أيضًا:(شيخنا الإمام، العالم، الحافظ، بقية السلف الكرام، وحيد عصره، وفريد دهره، شيخ الإسلام).

وقال ابن المبرد: (الشيخ الإمام، أوحد الأنام، قدوة الحفاظ، جامع الشتات والفضائل، الفقيه الزاهد البارع، الأصولي، المفيد، المحدث).

وقال ابن فهد المكي: (الإمام الحافظ الحجة، والفقيه العمدة، أحد العلماء الزهاد، والأئمة العباد، مفيد المحدثين، واعظ المسلمين

ص: 12

كان رحمه الله تعالى إمامًا ورعًا زاهدًا، مالت القلوب بالمحبة إليه، وأجمعت الفرق عليه، كانت مجالس تذكيره الناس عامة نافعة، وللقلوب صادعة).

وقال برهان الدين ابن مفلح: (الشيخ العلامة، الحافظ، الزاهد، شيخ الحنابلة).

وسماه المرداوي في مواطن من الإنصاف بـ (العلامة ابن رجب).

-‌

‌ مصنفاته:

للحافظ ابن رجب رحمه الله مصنفات كثيرة نافعة، منها ما هو كبير، ومنها ما هو صغير، قال ابن العماد الحنبلي:(له مصنفات مفيدة ومؤلفات عديدة)، وغالبها مطبوع، ومنها ما هو مفقود، ومن تلك المصنفات:

1 -

"فتح الباري في شرح البخاري"، شرح منه إلى كتاب الجنائز، وهو مطبوع.

2 -

"شرح الترمذي"، وقد احترق غالب ما عمله عليه في الفتنة، وقد وُجدت منه قطعة صغيرة، ووجد شرحه على كتاب العلل من الجامع، وهما مطبوعان.

3 -

"لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف"، وهو مطبوع.

4 -

"ذيل طبقات الحنابلة"، ذيَّله على طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى، وهو مطبوع.

ص: 13

5 -

"صفة الجنة وصفة النار"، وهو مطبوع.

6 -

"الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة"، وهو مطبوع.

7 -

"جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم"، وهو مطبوع.

8 -

"ذم قسوة القلب"، وهو مطبوع.

9 -

"فضل علم السلف على الخلف"، وهو مطبوع.

10 -

"تقرير القواعد وتحرير الفوائد"، وهو كتابنا هذا.

وغيرها من المصنفات في الحديث والرقائق والفقه، قال ابن قاضي شهبة:(وغير ذلك من المصنفات الكبار والصغار).

-‌

‌ وفاته:

توفي ليلة الاثنين رابع رمضان، سنة (795 هـ) بأرض الحميرية بدمشق، ببستان كان استأجره، وصُلي عليه من الغد، ودفن بباب الصغير إلى جانب قبر الشيخ أبي الفرج الشيرازي، وكانت له جنازة عظيمة كما قال أحد تلميذه فيما سطَّره على طرة مخطوط القواعد، رحمه الله رحمة واسعة وأعلى درجته، وأسكنه فسيح جنته.

قال محب الدين ابن نصر الله البغدادي - كما في طرَّة المخطوط المرموز له في طبعتنا بـ (ن) - فيما كتبه بخطه ونقله عنه تلميذه ابن هشام الأنصاري: (ولا أظن - يعني المصنف - بلغ سبعين سنة، ولم أقف على مولده، ولكني قرأت عليه حديث الأولية في سنة ست وثمانين - يعني: وسبعمائة -، وسألته أن يكتب لي خطه بالإجازة،

ص: 14

فامتنع رحمه الله تعالى استصغارًا لنفسه عن بلوغ سن الإجازة بالكتابة، وأجازني لفظًا، وكان سنُّه إذ ذاك عن نيف وخمسين سنة فيما أظن).

وما ذكره محب الدَّين البغدادي صحيحٌ، فإن غالب المصادر ذكرت أن مولده سنة (736 هـ)، ووفاته (795 هـ)، وعلى هذا فسنُّه لما مات 59 سنة، رحمه الله تعالى.

ونقل ابن المبرد أنه قرأ في كتابه القواعد، أن ابن رجب رحمه الله قال عند خروج روحه ثلاثين مرة:(يا الله العفو).

ص: 15

‌التعريف بالكتاب

-‌

‌ توثيق نسبة الكتاب:

لا شك في نسبة هذا الكتاب للحافظ زين الدين ابن رجب رحمه الله تعالى، إذ إن سائر من ترجم له ذكر له كتاب القواعد، وذكره المصنف في بعض كتبه الأخرى كفتح الباري في مواطن متعددة، ونقل عنه محققو المذهب ممن أتى بعد؛ كتلميذه ابن اللحام البعلي، ومحب الدين ابن نصر الله البغدادي، وعلاء الدين المرداوي في كتابه العظيم الإنصاف، وجعله من جملة ما يُعتمد عليه في تصحيح المذهب، ونقل عنه المتأخرون كالحجاوي في الإقناع، ومرعي في الغاية، ومنصور البهوتي، والخلوتي، وعثمان النجدي، وغيرهم.

إلا أن ثمة كلمة نقلها ابن المبرد عن مجهولٍ؛ شكَّكت في كون الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى هو الذي كتب القواعد بنفسه، حيث قال:(وكتاب "القواعد الفقهية"، مجلد كبير، وهو كتاب نافع، من عجائب الدهر، حتى أنه استكثر عليه، حتى زعم بعضهم أنه وجد قواعد مبددة لشيخ الإسلام ابن تيمية فجمعها، وليس الأمر كذلك، بل كان رحمه الله تعالى فوق ذلك)

(1)

.

(1)

الجوهر المنضد ص 49.

ص: 16

وهذا كلام عارٍ عن الدليل، وبعيدٌ أيما بعد عن الصواب، وقد يكون الباعث عليه الجهل أو الحسد، وبيان بطلان ذلك من وجوه:

1 -

أنها دعوى لا يُعرف قائلها، ولم يذكر عليها دليلًا، والدعاوى إن لم يُقَم عليها بينات؛ أصحابها أدعياء.

2 -

أن ناقل هذا الكلام وهو ابن المبرد رحمه الله لم يرتض المقولة وردَّ عليها بقوله: (بل كان رحمه الله تعالى فوق ذلك).

3 -

أن القارئ لترجمة الحافظ ابن رجب وما كان عليه من الديانة والزهد والتقلل من الدنيا، وكراهيته لذكر الناس، وإمساكه عن الكلام أحيانًا خشية ألا يكون مخلصًا فيه، مع ما ذُكِر عنه من التمكن في فقه الإمام أحمد، خاصة وسائر العلوم عامة؛ ما يستحيل معه أن يسرق قواعد لشيخ الإسلام ابن تيمية ثم يقوم بنسبتها لنفسه على أنها من تأليفه؛ فديانته وعلمه ومكانته بل ومروءته تأبى مثل ذلك.

4 -

أن كتاب القواعد قد قرأه عليه تلاميذه أكثر من مرة، ونسخوه وعلقوا عليه وبينوه، ومن هؤلاء محب الدين ابن نصر الله البغدادي شيخ الحنابلة في زمانه، وعلاء الدين ابن اللحام البعلي، وغيرهما، ولا يُعرف عن واحد منهم إنكار أن يكون الكتاب لابن رجب، بل صنيعهم صريح في صحة كون الحافظ هو الذي صنعه بيده.

5 -

أن الحافظ ابن رجب أورد كلام شيخ الإسلام في مواطن كثيرة جدًّا من كتابه القواعد، وفي كثير من تلك المواطن يعترض عليه، أو يجيب عن استدلاله، أو يخطئه، أو يستشكل عليه، أو يعضد كلامه

ص: 17

بكلام غيره من الأصحاب أو بالروايات الواردة عن الإمام أحمد، ونَفَسه في تلك المواطن هو ذات النفس الذي كُتب فيه كتاب القواعد من قوة التحرير والعبارة والدقة والتخريج والتوجيه.

وغير ذلك من الأمور القاطعة بأن الكتاب من صنعة الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، ولعل الباعث على قول ما قاله ذلك المجهول هو الحسد؛ فإن الحافظ ابن رجب ألف الكتاب في أواسط العقد الثالث من عمره، أي قبل بلوغه سن الأربعين، ومثل هذا إذا كتب كتابًا يعدُّه من بعده من عجائب الدهر؛ سببًا لحسد غيره عليه والله المستعان، وإنما كتبنا ذلك دفاعًا عن الحافظ ابن رجب، وحفظًا لحقه علينا.

-‌

‌ توثيق اسم الكتاب:

جاءت تسمية الكتاب - عند بعض من ترجم للحافظ ابن رجب - باسم: (القواعد الفقهية)؛ كابن مفلح في المقصد الأرشد، وابن المبرد في الجوهر المنضد، وابن العماد في شذرات الذهب، وغيرهم، وقد جاء هذا الاسم في بعض النسخ الخطية المتأخرة.

وسماه ابن بدران في المدخل بـ (القواعد)، وجاء هذا الاسم في بعض النسخ الخطية المتأخرة أيضًا.

وجاءت تسميته في بعض النسخ الخطية بـ (قواعد ابن رجب الفقهية)، وبعضها باسم (قواعد الإمام ابن رجب في الفقه)، وغير ذلك من الأسماء.

وسماه ابن رجب في فتح الباري في مواطن متعددة (5/ 258،

ص: 18

6/ 143، 8/ 10، 9/ 473) باسم:(القواعد في الفقه)، وجاءت تسميته هكذا في نسخة ابن ضويان المرموز لها عندنا بـ (هـ).

وجاءت تسميته في النسخ المعتمدة الأخرى في تحقيقنا باسم: (تقرير القواعد وتحرير الفوائد)، وغالب هذه النسخ - كما سبق بيانه - من خطوط تلاميذ المصنف؛ كعلاء الدين ابن اللحام، وابن العفيف النابلسي، والشباسي، وهو الاسم المكتوب في طرة النسخة المقروءة على المصنف وعليها خطُّه.

وعلى هذا؛ فيكون الاسم المعتمد هو (تقرير القواعد وتحرير الفوائد)، وما ذكره ابن رجب في كتابه فتح الباري هو اختصار لاسم الكتاب.

وجاءت زيادات على هذا الاسم في بعض النسخ الخطية، ففي النسخة المقروءة على المصنف زيادة: (في الفقه على مذهب الإمام المبجل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه.

وفي نسخة الشباسي - المرموز لها بـ (ن) -: (في الفقه على مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه وعن أمة مذهبه).

وفي نسخة ابن العفيف التلمساني - المرموز لها بـ (د) -: (على مذهب الإمام المبجل والحبر المفضل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه.

ولا يظهر أن هذه الزيادات من اسم الكتاب؛ للاختلاف بين النسخ

ص: 19

في ذكرها، ولأن ابن اللحام في نسخته ذكر اسم الكتاب في أوله وآخره، واقتصر على الاسم المذكور آنفاً.

•‌

‌ مكانة كتاب القواعد، وثناء العلماء عليه:

قال ابن حجر: (و"القواعد الفقهية" أجاد فيه)

(1)

.

وقال برهان الدين ابن مفلح: (و"القواعد الفقهية" تدلُّ على معرفةٍ تامّةٍ بالمذهب)

(2)

، وتبعه على هذه الكلمة ابن العماد في شذرات الذهب، وابن بدران في مدخله

(3)

.

وقال ابن المبرد: (وكتاب "القواعد الفقهيّة" مجلد كبير، وهو كتاب نافع من عجائب الدَّهر)

(4)

.

وكتب الشيخ سليمان بن حمدان على طرَّة نسخته للقواعد: (هذا الكتاب لو يباع بوزنه ذهبًا لكان البائع مغبونًا)

(5)

.

وقال الشيخ ابن عثيمين: (لقد حوى من الحُسْن وجَمْعِ المعاني ما به عن غيره تفرد، وصل فيه قواعد بنى عليها من فروع الفقه ما تبدَّد)

(6)

.

ونقل عنه المرداوي في الإنصاف كثيرًا، وجعله من الكتب المعتبرة

(1)

الدرر الكامنة 3/ 109.

(2)

المقصد الأرشد 2/ 82.

(3)

شذرات الذهب 8/ 579، المدخل ص 457.

(4)

الجوهر المنضد ص 49.

(5)

محفوظة في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (2199).

(6)

نيل الأرب من قواعد ابن رجب ص 15.

ص: 20

في تمييز راجح المذهب، بل ومن الكتب الأولى في تصحيح المذهب، قال في مقدمة الإنصاف:(فالمذهب ما اتفق عليه الشيخان، - أعني المصنف والمجد -، أو وافق أحدهما الآخر في أحد اختياريه، - وهذا ليس على إطلاقه، وإنما هو في الغالب -، فإن اختلفا، فالمذهب مع من وافقه صاحب «القواعد الفقهية»، أو الشيخ تقي الدين، وإلا فالمصنف، لاسيما إن كان في «الكافي»، ثم «المجد» .... فإن لم يكن لهما ولا لأحدهما في ذلك تصحيح؛ فصاحب «القواعد الفقهية»)

(1)

.

ثم إن الحافظ ابن رجب رحمه الله أكثر من ذكر الروايات عن الإمام أحمد بنصوصها وبيان ناقلها، ووجَّهها وجمع بينها، ونقد بعضها، وذكر كلام المتقدمين من الأصحاب؛ كالخلال، وأبي بكر عبد العزيز، والخرقي، وابن شاقلا، والحسن بن حامد، وابن أبي موسى، والقاضي أبي يعلى وأصحابه، والموفق، والمجد، والشيخ تقي الدين، وغيرهم، وذكر استنباطاتهم من الروايات وتخريجاتهم وقوى بعضها ونقد بعضها، فهو كتاب جامع محرر يدل على سعة اطلاع، ومكنة، وتوقد ذهن.

-‌

‌ طبعات الكتاب:

طُبع الكتاب طبعات عديدة، وهي:

1 -

طبعة مكتبة الخانجي في القاهرة، بتحقيق الأستاذ طه عبد الرؤوف سعد، سنة 1352 هـ.

(1)

الإنصاف 1/ 25.

ص: 21

2 -

طبعة دار المعرفة في بيروت - لبنان، وعن هذه الطبعة:

- طبعة دار الكتب العلمية في بيروت.

- طبعة المكتبة التجارية لمصطفى الباز في مكة المكرمة.

- طبعة دار الجيل في بيروت.

- طبعة دار أم القرى في القاهرة.

3 -

طبعة دار ابن القيم وابن عفان، بتحقيق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان وفقه الله.

4 -

طبعة بيت الأفكار الدولية، بتحقيق الشيخ أياد بن عبد اللطيف القيسي وفقه الله.

كما أن الكتاب حقق في خمس رسائل علمية، اثنتان في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وثلاث في جامعة القصيم، على فترات متطاولة.

-‌

‌ الأعمال العلمية على الكتاب:

عُني العلماء بعد ابن رجب بكتابه، فقام جماعة منهم بالتحشية عليه وفهرسته واختصاره، وقد ذكر ذلك من عُني بترجمته، وبعضها موجود وبعضها مفقود لا أثر له - يسر الله العثور عليه -، فمن ذلك:

1 -

مختصر قواعد ابن رجب، لعبد الرزاق الحنبلي - تلميذ ابن اللحام -، المتوفي سنة (819 هـ)، ذكر ذلك ابن المبرد

(1)

.

2 -

مختصر وتهذيب قواعد ابن رجب، ليوسف بن عبد الرحمن

(1)

الجوهر المنضد ص 69.

ص: 22

التاذفي الحلبي الحنبلي، المتوفى سنة (900 هـ).

قال في إعلام النبلاء: (ووقف على قواعد ابن رجب في مذهب الحنابلة، فإذا هو كتاب يفتقر إلى التهذيب وحسن الترتيب، فهذبه تهذيبًا ورتبه ترتيبًا عجيبًا، وعرض ما وضعه وهو يومئذ بالقاهرة على الإمامين الجليلين الحنبليين: الشهاب أحمد الشيشني والبدر محمد السعدي، فقرظا له تقريظًا حسنًا)

(1)

.

3 -

مختصر قواعد ابن رجب، لعبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، المتوفى سنة (1121 هـ)، ذكره الشيخ بكر أبو زيد

(2)

.

وبحثنا عنه فلم نقف عليه، ووقفنا على مخطوط لترتيب القواعد لنصر الله البغدادي في مكتبة الصالحية في عنيزة برقم (ابن رشيد/3) من ضمن مجموع يضم معه: زاد المستقنع والرسالة التبوكية وغيرهما، وتقع هذه الرسالة من المجموع من لوحة (18) إلى (26)، وهي غير كاملة، مكتوب في طرته:(من كتب الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وهي وقف)، فلعل من نسب للشيخ مختصرًا للقواعد وقع على هذه النسخة فظنها مختصرًا للشيخ أبا بطين رحمه الله.

4 -

فهرست قواعد الفقه لابن رجب الحنبلي، للشيخ إبراهيم ابن ضويان، المتوفى سنة (1353 هـ)، في أول نسخته لكتاب القواعد المرموز لها في تحقيقنا بـ (هـ).

(1)

إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء 5/ 327.

(2)

المدخل المفصل 2/ 935.

ص: 23

وطريقته فيه: أنه يذكر القاعدة اختصارًا ويذكر بجانبها فروعها باختصار أيضًا، وقد وصل فيه إلى القاعدة رقم (95)، وهي: (من أتلف مال غيره يظنه له

).

5 -

ترتيب المقاصد بترتيب الفرائد، للشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان، المتوفى سنة (1379 هـ)، ونسخته محفوظة في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (2245/خ)، وعدد أوراقه (82 ق)، والموجود منه القسم الأول إلى مسائل الكفالة والضمان.

قال في مقدمته مبيِّنًا سبب تأليفه وطريقته فيه، بعد أن أثنى على قواعد ابن رجب: (إلا أن درره الكامنة في أصدافها، ومسائله وفوائده المطلوب اكتشافها؛ يحتاج إلى فكر وإعمال روية، وربما تعذر ذلك على غير الفقيه الأصولي بالكلية، حتى يتبعها قاعدة قاعدة، ومسألة مسألة، ولما لم أر من أصحابنا من رتَّبه، وذلَّل صعابه للطالبين وقرَّبه؛ بوبته ورتبته على ما مشى عليه متأخرو أصحابنا في كتبهم من ترتيب الأبواب والمسائل؛ ليسهل الوقع على تلك الفوائد، والحصول على تلك الفرائد الشوارد، وإن القاعدة الواحدة منها تجمع مسائل مفرعة عليها من أبواب شتى، وضعتها في أول باب يكون فيها شيء من مسائله، ثم أتبعتها بتلك المسألة؛ لأن للأولية وجهًا من الأولوية، ولأن فيه فائدة أخرى وهي المحافظة على وضعها الأصلي، بحيث تكون مسائلها المفرعة عليها فيما بعدها من الأبواب غير مقدم عليها شيء

ص: 24

منها، مع قطع النظر عن تفرقها وتقديم بعضها على بعض، وإذا استطرد من ذكر مسألة إلى أخرى وكانت من باب آخر؛ فصلتها ووضعتها في بابها، وإذا لم يمكن فصلها إلا بزيادة أو نقص لارتباطها بما قبلها؛ تركتها، وربما أشير في بابها إلى الموضع الذي ذكرت فيه، وإذا أشار إلى بعض المسائل بدون ذكر حكمها اكتفاء بما قدمه في أول القاعدة؛ أضفت ما ذكره في أولها إلى تلك المسألة تتميمًا للفائدة؛ لتوقفها عليه، ولكونه في حكم الملحق بها

).

6 -

حواشي محب الدين أحمد ابن نصر الله البغدادي المتوفى سنة (844 هـ)، وهو من تلاميذ المصنف.

وقيل: إن لمحب الدين البغدادي مختصرًا للقواعد أيضًا، ذكره عنه ابن المبرد

(1)

.

7 -

ترتيب فروع قواعد ابن رجب، لمحمد بن عثمان بن حسين الجزيري ثم القاهري الحنبلي، المتوفى سنة (888 هـ)، حيث شرع في ترتيبها كما ذكر ابن حميد

(2)

.

8 -

نيل الأرب من قواعد ابن رجب، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، المتوفى سنة (1421 هـ)، وهو مطبوع.

9 -

فهرست كتاب القواعد، لجلال الدين نصر الله البغدادي - ولعله والد محب الدين صاحب الحواشي -، المتوفى سنة (812 هـ)، وألحقناه في فهارس الكتاب.

(1)

الجوهر المنضد ص 7.

(2)

السحب الوابلة 1/ 998.

ص: 25

10 -

فهرس فقهي للقواعد، للشيخ فوزان بن سابق سفير المملكة في مصر آنذاك، المتوفى سنة (1373 هـ)، حيث قام بطبع قواعد ابن رجب، وعمل له فهرساً فقهيًّا.

قال ابن بسام: (وهو الذي قام بعمل فهرس منظم ومصوغ صياغة فقهية مفيدة لقواعد ابن رجب، م طبعه على حسابه)

(1)

.

11 -

تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب، للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، المتوفى سنة (1376 هـ)، وهو مطبوع بتحقيق الدكتور/ خالد بن علي المشيقح.

12 -

تقريب قواعد ابن رجب، للأستاذ الدكتور/ خالد بن علي المشيقح وفقه الله.

(1)

علماء نجد 5/ 380.

ص: 26

‌وصف النسخ الخطية

ذُكر في فهارس المخطوطات لقواعد ابن رجب رحمه الله أكثر من خمسة وعشرين نسخة مخطوطة، منها ما هو كامل، ومنها ما فيه نقص يسير، ومنها ما نقصه كبير، وقد وقفنا بحمد الله تعالى على أهمها، واطلعنا على أكثرها، وبعد مقارنتها رأينا أن أولى ما ينبغي الاعتماد عليه في التحقيق سبع نسخ خطية، وهي:

-‌

‌ النسخة الأولى: نسخة مقابلة على المصنف:

وهي نسخة من أملاك الشيخ سليمان بن صالح بن حمد بن بسام رحمه الله.

ورمزنا لها بـ (أ).

وهي نسخة مودَعة في مكتبة الشيخ سليمان البسام الخاصة في عنيزة، ولها صورة في مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تحت رقم (107/ف)، وعدد أوراقها:(209)، وأسطرها (27) سطرًا، وعدد كلمات السطر تتراوح ما بين (15 إلى 18) كلمة تقريبًا.

ولم نتعرف على ناسخها، ويغلب على الظن أنه أحد تلاميذ المصنف؛ لكونه قام بمقابلتها مع مصنفها على نسخته التي كتبها بخطه، وأثبت الحافظ ابن رجب على هذه النسخة خطه، ولا يكون ذلك عادة

ص: 27

إلا مع خاصة تلاميذ المصنف، وقد جاء في آخرها بخط مغاير ما نصه:(كاتب هذه النسخة المباركة من تلاميذ ابن رجب كما وجدته في هامش تلك القواعد).

وهي نسخة كاملة وجيدة، كُتبت بخط جميل، وفيها سقط يسير، ومنقوطة ومشكَّلة في كثير من كلماتها، وعليها تملُّكات وأوقاف وأبيات شعر في صفحة العنوان، وفيها تصحيحات وزيادات وبلاغات، وقواعدها مرقمة بالحروف الأبجدية في جانب القاعدة.

وجاء في آخرها مقابلتان:

الأولى: بخط الحافظ ابن رجب رحمه الله، وهي ما يلي:(بلغ مقابلة بالأصل له، ومتمِّمًا عليه بحسب الإمكان في مجالس، وذلك في شهر ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، وكتبه مؤلفه عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي عفا الله عنه، الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم).

الثانية: بخط مغاير عن خط الحافظ ابن رجب، وهي ما نصه:(ثم قوبلت هذه النسخة على نسخة قرئت على المصنف، فزيد فيها أشياء كثيرة، فصحت بحسب الطاقة والإمكان، وذلك في مجالس، آخرها في شهر ذي القعدة، سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم).

كما جاء في صفحة العنوان ما نصه: (قوبلت هذه النسخة مع مصنفها على أصلها المكتتب بخطه فسح الله تعالى في مدته، فصحت، وكتب عليها خط المقابلة في آخرها، ولله الحمد والمنة).

ص: 28

وفي هامش هذه النسخة فوائد وتعليقات، ذكرناها في مواطنها من الكتاب، ويأتي الكلام على وصف هذه الحاشية في مبحث التعريف بالحواشي.

ولكون هذه النسخة مقابلة على ابن رجب رحمه الله، ومقابلتها متأخرة عن سائر النسخ التي وقفنا عليها، جعلناها أصلًا للتحقيق، ولا نعدل عنها إلى غيرها إلا لسبب كما سيأتي في منهج التحقيق.

وجاء في آخر هذه النسخة فهرس لمسائل الكتاب، بعنوان:(مختصر تقرير القواعد لابن رجب)، تأليف: أبي عبد الله محمد المقدسي الحنبلي، ويقع في (25) ورقة، وهو مستقل في مصورة جامعة الإمام برقم (119/ف).

وهذا الفهرس هو الفهرس المعروف لجلال الدين نصر الله البغدادي.

-‌

‌ النسخة الثانية: نسخة أخرى مقابلة على المصنف:

نسخة مكتبة أسعد أفندي.

ورمزنا لها بـ (ب).

وهي من مخطوطات مكتبة أسعد أفندي المودعة في المكتبة السليمانية في تركيا، ورقمها (505)، وعدد أوراقها (265)، وعدد أسطرها (23)، وتتراوح الكلمات في السطر ما بين (10 إلى 15) كلمة تقريبًا، ولها صورة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (7915 ف).

ص: 29

ولا يعرف ناسخها أيضًا، ويظهر أنه أحد تلاميذ الحافظ ابن رجب أيضًا، لكونها مكتوبة في عصره، وعليها مقابلة ابن رجب بخطِّه.

وقد كُتبت بعض صفحات المخطوط بخطوط أخرى، منها - فيما يظهر - ما هو بخط الحافظ ابن رجب؛ للتشابه الكبير بينه وبين خطه المثبت في المقابلة في آخر المخطوط وخطه المكتوب في هوامش المخطوط.

وهي نسخة واضحة بخط نسخ معتاد، وكاملة بحمد الله تعالى إلا بعض السقط في ثنايا المخطوط، وعليها تصحيحات وزيادات وأثر مقابلات.

وجاء في آخرها ما نصه: (بلغ مقابلة لجميع الكتاب بأصلي الذي بخطي بحضوري، وذلك في مجالس آخرها عاشر شوال، سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وكتبه مؤلفه عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي عفا الله عنه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم).

وفي هامش النسخة تعليقات مفيدة، وحواش مهمة، أثبتناها في مواطنها، ويأتي الكلام عليها في مبحث التعريف بالحواشي.

-‌

‌ النسخة الثالثة: نسخة علي بن محمد البعلي رحمه الله تعالى:

ورمزنا لها بـ (ج).

وهي نسخة محفوظة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية برقم (5029/خ ف)، مشتراة من محمد العسافي، وعدد أوراقها (306)، وأسطرها (21)، وكلماتها في السطر الواحد تقريبًا (12 إلى 16) كلمة.

ص: 30

ناسخها: علي بن محمد بن عباس البعلي الحنبلي، وهو المشهور بـ: ابن اللحام البعلي، تلميذ الحافظ ابن رجب رحمهما الله تعالى، وكان ينسخ كتب شيخه، قال ابن المبرد:(وجدت أكثر كتب ابن رجب بخطه كـ "شرح البخارى" و "القواعد")

(1)

.

والنسخة مكتوبة بخطين مختلفين، وهي واضحة كاملة وفيها سقط يسير، وتصحيحات قليلة، وفيها زيادات يسيرة لا توجد في النسختين الأولتين، وعليها حواش وتعليقات قليلة.

وقد كُتب في آخرها: (كَمَّل آخره تعليقًا: العبد علي بن محمد بن عباس البعلي الحنبلي غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولجميع إخوانه المسلمين، في ليلة يسفر صباحها خامس عشر من شهر ربيع الأول من سنة أربع وثمانين وسبعمائة، أحسن الله تقضيها بخير وعافية بمنِّه وكرمه).

والنسخة من تملكات محمد بن عبد الله بن فيروز الحنبلي المتوفى (1216 هـ)، وقد جاء على صفحة العنوان:(تملكه من فضل ربه العلي محمد بن فيروز الحنبلي).

وفي هذه النسخة حواش وتعليقات يسيرة مقارنة بغيرها من النسخ، وقد أثبتناها في مواطنها.

(1)

الجوهر المنضد ص 81.

ص: 31

-‌

‌ النسخة الرابعة: نسخة المكتبة المحمودية:

ورمزنا لها بـ (د).

وهي نسخة مودعة في المكتبة المحمودية بالمدينة النبوية برقم (1405)، ولها صورة في جامعة الإمام برقم (11148/ف)، وعدد أوراقها (263)، وأسطرها (21) سطر، وكلمات السطر الواحد تتراوح ما بين (14 إلى 16) كلمة.

وناسخها: علي بن محمد العفيف الحنبلي النابلسي، من تلاميذ الحافظ ابن رجب، ونسخها سنة 788 هـ، من نسخة قرئت على المصنف.

وهي نسخة خطها جيد وفيها تصحيحات قليلة، وفي بعض أوراقها تعتيم، وفيها سقط يسير.

جاء في آخرها ما نصه: (وكان الفراغ من نسخها على يد الفقير إلى الله تعالى: علي بن محمد العفيف الحنبلي النابلسي عفا الله عنهم، في رابع عشر شهر رمضان المعظم من شهور سنة ثمان وثمانين وسبعمائة بمنزله بالخضراء من نابلس، من نسخة قرئت على مصنفها فسح الله تعالى في مدته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل).

وفي هذه النسخة حواش يسيرة جدًّا، أثبتناها في مواطنها.

ص: 32

-‌

‌ النسخة الخامسة: نسخة الشيخ إبراهيم بن ضويان:

ورمزنا لها بـ (هـ).

وهي نسخة محفوظة في دارة الملك عبد العزيز في الرياض برقم (2562)، من ضمن مجموعة الرشيد برقم (6)، وعليها تملك ناسخها ابن ضويان.

ناسخها: إبراهيم بن محمد بن سالم الضويان، المتوفى سنة (1353 هـ)، صاحب كتاب منار السبيل في شرح الدليل.

وجاء في آخرها: (بقلم الفقير المقر بالذنب والتقصير: إبراهيم بن محمد بن سالم الضويان غفر الله له ولوالديه ومشايخه وإخوانه، فرغ من نسخها سنة 1308، 23 ر.

وقد نقلتها من نسخة قديمة صحيحة كاتبها موسى بن أحمد بن موسى بن عبد الله بن أيوب المرداوي الحنبلي المقدسي، ذكر أنه فرغ من نسخها في رابع شهر رجب الفرد من شهور سنة 897، سبع وستين وثمانمائة، بمدرسة شيخ الإسلام أبي عمر رضي الله عنه، قال: وكتبته من نسخة قرئت على مصنفها رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه والحمد لله وحده، قلت: وصححت أخيرًا على نسختين ظاهرهما الصحة، تم).

وفي أول النسخة فهرست قواعد الفقه، فهرسها الشيخ ابن ضويان بنفسه، وقد جاء في (9) أوراق.

وفي هامشها تعليقات وفوائد من خط ابن ضويان، أثبتناها في مواطنها.

ص: 33

-‌

‌ النسخة السادسة: نسخة مكتبة ولي الدين أفندي:

ورمزنا لها بـ (و).

وهي نسخة في مكتبة ولي الدين أفندي في المكتبة السليمانية في تركيا ورقمها (1421)، وعدد أوراقها (342)، وأسطرها (21)، وكلمات السطر الواحد تتراوح ما بين (11 إلى 14) كلمة.

وناسخها: أحمد بن عبد العزيز الفتوحي الحنبلي المتوفي سنة (949 هـ)، والد تقي الدين محمد صاحب كتاب "منتهى الإرادات"، وقد جاء في ترجمة الناسخ أنه كان يكتب بالأجرة، وهو عالم من علماء الحنابلة.

وهي نسخة كاملة جيدة واضحة، مصححة ومقابلة، وفي هامشها فوائد ونقولات عن علماء المذهب، واختيارات بعض المحققين، ويظهر أن اللوحة الأولى ونصف الثانية من المكتوب بخط الفتوحي قد سقط؛ فقام شمس الدين الأزهري بكتابتها، وهو الذي نسخ فهرست القواعد وجعلها في بداية النسخة، وكان نسْخُه لها في العشرين من شهر المحرم لسنة (1086 هـ)، وباقي المخطوط بخط الفتوحي رحمه الله.

جاء في آخرها ما نصه: (والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد، ووافق الفراغ من كتابته على يد أفقر عباد الله، وأحوجهم إلى رحمة ربه وعفوه ومغفرته: أحمد بن عبد العزيز بن علي بن إبراهيم الفتوحي الحنبلي في العشرين من شهر شوال [

] سائلًا الغفران له ولوالديه ولأقاربه وأصحابه المسلمين).

ص: 34

وكتب بخط آخر - ولعلها من أحد من تملَّكها -: (الحمد لله الذي من عليَّ بهذا الكتاب العظيم القدر الذي لم يسنح له لكونه بخط أعلم العلماء العظام، أوحد المجتهدين، خاتمة الحفاظ الذي أسس بناءه على تقوى من الله، وأعرب عن المجد وأغرب، أمطر الله عليه سحائب رحمته، وأسكنه فسيح جناته هو وآباؤه وإخوانه وأولاده وذريته وجميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وكرم وشرف، اللهم صل عليه وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين وكل ولي من المشرق إلى المغرب، آمين).

وكُتب بخط آخر: (من منن المنان على عبده أحمد بن عثمان بن أحمد بن تقي الدين بن أحمد بن شهاب الدين الفتوحي الحنبلي الذي هذا الكتاب بخطه غفر الله لهم أجمعين. آمين).

وفي أول النسخة فهرست جلال الدين أبي الفرج نصر الدين البغدادي في (19) ورقة، وقد أوردناها في فهارس تحقيقنا لهذا الكتاب.

-‌

‌ النسخة السابعة: نسخة مكتبة الأوقاف المصرية:

ورمزنا لها بـ (ن).

وهي نسخة محفوظة في المكتبة المركزية للمخطوطات في الأوقاف المصرية، ورقمها (2530)، وعدد أوراقها (221)، وأسطرها (29)، وكلمات السطر الواحد تتراوح ما بين (12 إلى 14) كلمة.

وناسخها: عبد الله بن محمد الشباسي، وكان فراغه منها سنة

ص: 35

843 هـ، وذلك بعد وفاة المصنف بـ 48 سنة، ويظهر أن الناسخ من تلاميذ المصنف، ففي صفحة العنوان ترجمة مصغرة للمصنف، ومن ضمن كلامه يقول:(ولشيخنا مصنف هذا الكتاب مصنفات عديدة).

وجاء في آخرها ما نصه: (وافق الفراغ منه يوم الأربعاء تاسع، شهر صفر المبارك، من شهور عام ثلاث وأربعين وثمانمائة، على يد أضعف عباد الله تعالى وأحوجهم إلى رحمة الله عبد الله بن محمد الشباسي عفا الله عنه وعن والديه وعن جميع المسلمين، رحم الله تعالى من دعا له ولجميع المسلمين بالنجاة من النار والفوز بالجنة، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، تم).

وعليه بلاغ نصه: (بلغ مقابلة، وكتبه عبد الله بن هشام الأنصاري الحنبلي).

وفي هذه النسخة حواشٍ وتعليقات كثيرة، وهي أكثر النسخ من حيث التحشية والتعليق، ويأتي الكلام عليها في مبحث التعريف بالحواشي.

ص: 36

‌التعريف بحواشي كتاب القواعد

جاء في هوامش النسخ المعتمدة في التحقيق الكثيرُ من الحواشي على كتاب قواعد ابن رجب رحمه الله تعالى، وغالبها حواشٍ وتعليقات لعلماء المذهب، ومنها ما هو من تعليقات ابن رجب نفسه، وبيان هذه الحواشي فيما يلي:

-‌

‌ الحواشي المثبتة في هامش النسخة (أ):

تقدم في وصف النسخ أن هذه النسخة قد نسخها أحد تلاميذ ابن رجب رحمه الله وقرأها عليه وقابلها معه، وجاء في هذه النسخة حواشٍ يسيرة وتعليقات مفيدة.

ويظهر أن كثيرًا من هذه التعليقات هي للشيخ عثمان بن مزيد الحنبليُّ رحمه الله تعالى

(1)

، وهو أحد من تملك هذه النسخة كما في صفحة العنوان؛ لما في بعض التعليقات التصريح بأن كاتبها هو عثمان بن مزيد.

(1)

هو عثمان بن مزيد بن رشيد، من آل مزيد، من قبيلة الظفير القحطانية، ولد في عنيزة وتلقى العلم فيها على علمائها، ثم ارتحل إلى الإحساء والزبير، وأخذ عن ابن سلوم وعثمان بن سند وغيرهما، ثم رجع إلى عنيزة وفيها العلامة عبد الله أبا بطين، فكان الطلبة يدرسون عليه مبادئ العلوم ثم يدخلون في حلقة العلامة أبا بطين، ولعثمان تعليقات على ما يقرأ من الكتب كما ذكر عنه ابن بسام، توفي حوالي سنة 1280 هـ. ينظر: علما نجد 5/ 157.

ص: 37

ومن هذه الحواشي أيضًا ما هو من تعليقات الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، فيقول أحيانًا:(أعني كذا).

ولأجل عدم ظهور من هو كاتب باقي الحواشي؛ أثبتنا الحواشي بقولنا: كتب في هامش (أ).

-‌

‌ الحواشي المثبتة في هامش النسخة (ب):

تقدم أيضًا في وصف النسخ أن هذه النسخة لأحد تلاميذ المصنف، وأنها قد قوبلت على المصنف وعليها خطه، وجاء في هامشها حواشٍ وتعليقات مفيدة ليست باليسيرة.

ويظهر أن كثيرًا منها بخط تلميذ الحافظ ابن رجب رحمهما الله تعالى، لكونها بنفس خط صلب الكتاب، وقد جاء في هامش النسخة المرموز لها بـ (ن):(من هامش نسخةٍ مقيدٍ عليها خط المؤلف، بخط من قابلها على المؤلف)، والمقصود هذه - والله أعلم - النسخة؛ لتوافق النقل في النسختين.

ويؤيد ذلك ما جاء في بعض هوامشها: (بلغ قراءة على الشَّيخ)، مكتوب بذات الخط الذي كتبت به تلك الحواشي والتعليقات.

ويؤيد ذلك أن بعض هذه التعليقات هي من تعليقات الحافظ ابن رجب، ولعله علق عليها أثناء مقابلة تلميذه عليه، ففي بعضها يقول في الهامش:(أعني الصورة الثالثة).

وثَمَّ تعليقات ليست بخط تلميذ الحافظ وإنما من خط غيره.

ولصعوبة تمييز جميع الحواشي التي بخط تلميذ المصنف عن

ص: 38

الحواشي الأخرى؛ قلنا في مواطن الحواشي والتعليقات: كتب في هامش (ب).

-‌

‌ الحواشي المثبتة في هامش النسخة (ج):

في هذه النسخة حواشٍ وتعليقات مفيدة، وهي تعليقات يسيرة مقارنة مع غيرها من النسخ.

وكاتب هذه الحواشي هو الناسخ نفسه، وهو علاء الدين ابن اللحام البعلي رحمه الله تعالى، فإن خط الحاشية هو خط صلب الكتاب، ومكتوب بنفس الحبر وحجم الخط، فلا يكاد يُشك بأن كاتب هذه الحاشية هو ابن اللحام البعلي رحمه الله.

وتوجد حواشٍ قليلة جدًّا بخط آخر لم نعرف كاتبها، وهي لأحد المتأخرين؛ كونه ينقل من كتاب التنقيح للمرداوي.

ونقول في مواطن الحواشي والتعليقات: كتب في هامش (ج).

-‌

‌ الحواشي المثبتة في هامش النسخة (د):

جاء في هوامش هذه النسخة حواشٍ يسيرة جدًّا، وهي - فيما يظهر - حواشٍ لأحد ملاكها المتأخرين، ففي بعضها ذكر لكتاب كشاف القناع للشيخ منصور البهوتي المتوفى سنة (1051 هـ).

-‌

‌ الحواشي المثبتة في هامش النسخة (هـ):

وهي النسخة التي كتبها الشيخ ابن ضويان بخطه، وقد جاءت تلك الحواشي على هذه النسخة بخط ابن ضويان، وبعض تلك قد نقلها من النسخ الأخرى، ويعكر على هذه التعليقات أن جزءًا منها قد ذهب

ص: 39

بسبب سوء تصويرها، ونشير إلى هذه التعليقات بقولنا: كتب في هامش (هـ).

-‌

‌ الحواشي المثبتة في هامش النسخة (و):

وهي النسخة التي بخط أحمد الفتوحي شيخ المذهب ووالد صاحب المنتهى، وقد كُتب في هوامشها حواشٍ وتعليقات مفيدة تدل على أن كاتبها عالم ومحقق في المذهب، فإنه في هذه الحواشي يخرِّج على كلام المصنف، ويصحِّح ويرجِّح، ويعترض على المصنف، ويوضح كلامه ويبين مقصوده، ولم يُتطرَّق في النسخة إلى صاحب هذه الحاشية، فالذي يظهر أنها لناسخها أحمد بن عبد العزيز الفتوحي

(1)

؛ فإن الخط الذي كُتبت به الحاشية هو الخط الذي كُتبت به النسخة، ولا غرابة فإنه عالم في المذهب ومحقق فيه.

وعند إثباتنا لحواشي هذه النسخة نقوله: كتب في هامش (و).

-‌

‌ الحواشي المثبتة في هامش النسخة (ن):

وهي النسخة التي عليها تعليقات ابن نصر الله البغدادي بخط تلميذه عبد الله بن هشام الأنصاري، وفي هذه النسخة حواشٍ وتعليقات كثيرة، وهي أكثر النسخ من حيث التحشية والتعليق، ويظهر أن الحواشي التي

(1)

هو أحمد بن عبد العزيز بن علي، شهاب الدين، الفتوحي الحنبلي، المعروف بابن النجار، قاضي قضاة الحنابلة بالديار المصرية، ومشايخه تزيد على مائة وثلاثين شيخًا وشيخة، انتهت إليه الرئاسة في تحقيق مذهبه، توفي سنة 949 هـ. ينظر: شذرات الذهب 10/ 396، الكواكب السائرة 2/ 113.

ص: 40

في هوامشها ثلاثة:

الأولى: حاشية محب الدين ابن نصر الله البغدادي

(1)

، قام تلميذه ابن هشام الأنصاري بنقلها من نسخة ابن نصر الله ووضعها في نسخته التي كتب هوامشها بخطه، ويذكر بعد إيراد كلام ابن نصر الله اسمه فيقول:(ابن نصر الله).

وأحيانًا تكون الحاشية لابن نصر الله البغدادي إلا أن ابن هشام لا يذكر اسم ابن نصر الله، ولعله لم يذكر فيها اسم ابن نصر الله لكون الأصل في هذه الحواشي أنها لابن نصر الله، فمن ذلك مثلًا: ما جاء في هامش (ن): (ظاهر هذا: أنَّه لا يشترط مع ذلك تعيين مدة؛ كنفقة الزوجة، بل يكون ذلك مؤقَّتاً ببقاء العقد) وهي غير منسوبة لابن نصر الله البغدادي.

وهذه النقل ذكره المرداوي في الإنصاف (20/ 398) منسوبًا إلى ابن نصر الله في «حواشيه» .

فلعل غالب ما في هذه النسخة من الحواشي التي بخط ابن هشام وهي غير منسوبة لأحد أنه أخذها من نسخة شيخه محب الدين ابن

(1)

هو العلامة أحمد بن نصر الله بن أحمد البغدادي، شيخ المذهب ومفتى الديار المصرية، قاضى القضاة، محب الدين، البغدادي الأصل ثم المصري، أخذ عن جماعة من العلماء؛ كالبلقيني وابن الملقن والحافظ ابن رجب وغيرهم، وولي التدريس والإفتاء، وكان متضلعًا بالعلوم الشرعية، وله حواشٍ على كتب كثيرة في المذهب، كالمغني والمحرر وشرح الزركشي والفروع والقواعد وغيرها. ينظر: المقصد الأرشد 1/ 202، الجوهر المنضد ص 6.

ص: 41

نصر الله البغدادي، والله تعالى أعلم.

وقد نقل عن هذه الحواشي المرداوي في الإنصاف، والبهوتي في الكشاف (5/ 290، 5/ 479)، وغيرهما.

الثانية: حاشية عبد الله بن هشام الأنصاري

(1)

، تلميذ ابن نصر الله، فقد كتب حواشٍ وتعليقات له على هذه النسخة، وقيدها بذكر اسمه بعدها، وهي قليلة.

الثالثة: حواشٍ متأخرة، ينقل كاتبها عن الإنصاف وغيرها، ولم يرد لمن هي إلا أنها حواشٍ نفسية تدل على علم وفقه ومعرفة بالمذهب، حتى إنه قد يستدرك على ابن نصر الله البغدادي في حواشي، ولعلها تكون من تعليقات أحمد بن النجار الفتوحي الحنبلي، فقد جاء في صفحة العنوان تملُّكًا باسمه رحمه الله، وهو عالم محقق له عناية بقواعد ابن رجب.

ونقول في مواطن هذه الحواشي والتعليقات: كتب في هامش (ن)، وما نص ناسخها على أن الحاشية لابن نصر الله نقول: قال ابن نصر الله رحمه الله.

(1)

هو عبد الله بن محمد بن عبد الله بن يوسف ابن هشام، جمال الدين، أبو محمد، القاهري الحنبلي، ويعرف بابن هشام، وهو حفيد ابن هشام النحوي المشهور، أخذ الفقه عن المحب بن نصر الله، وقرأ عليه المقنع أو معظمه، ولازمه ملازمة تامة في الفقه وأصوله والحديث وغيرها، وصار أحد أعيان مذهبه، وتصدى بعد شيخه للتدريس والإفتاء والأحكام، توفي سنة 855 هـ. ينظر: الضوء اللامع 5/ 56، نظم العقيان ص 121.

ص: 42

‌منهج التحقيق

1 -

اعتمدنا في تحقيق النص ما اتفقت عليه نسختي (أ) و (ب)؛ لكونهما نسختان مقروءتان على المصنف، وحذفنا فروق ما عداهما من النسخ إن وجد.

فإن اختلفت (أ) و (ب)؛ أثبتنا في صلب الكتاب نسخة (أ)؛ لكونها آخر نسخة مقابلة على المصنف من النسخ المعتمدة في التحقيق، وذكرنا نسخة (ب) وما وافقها من النسخ الأخرى في الهامش، إلا فيما كان الصواب مع نسخة (ب) أو غيرها من النسخ، فإننا نبينه في الهامش ونثبت ما في النسخ الأخرى في صلب الكتاب -وذلك قليل -.

2 -

قمنا بتوثيق الآيات القرآنية، وتخريج الأحاديث تخريجاً مختصراً، بذكر من خرَّجه مع رقم الحديث في الكتاب أو الجزء والصفحة.

3 -

ضبطنا ما يحتاج إلى ضبط من كلمات الكتاب.

4 -

شرحنا الكلمات التي نرى أنها بحاجة إلى شرح من مصادرها المعتمدة في المعاجم العربية.

5 -

أثبتنا علامات الترقيم الهامة، واعتنينا بترتيب الكلام وفقرات الكتاب حسب الإمكان.

ص: 43

6 -

رقمنا القواعد المذكورة في الكتاب على ما في النسخة (أ)؛ لكونها آخر نسخة قُرئت على المصنف من النسخ المعتمدة، على أن ترقيم القواعد في بعض النسخ تختلف عن ترقيم ما في النسخة (أ).

7 -

ترجمنا للمؤلف من مصادر ترجمته، وعرَّفنا بالكتاب والحواشي في مقدمة التحقيق.

ص: 44

‌صور المخطوطات

صورة الورقة الأولى من النسخة (أ)

صورة الورقة الأخيرة من النسخة (أ)

ص: 45

صورة الورقة الأولى من النسخة (ب)

صورة الورقة الأخيرة من النسخة (ب)

ص: 46

صورة الورقة الأولى من النسخة (ج)

صورة الورقة الأخيرة من النسخة (ج)

ص: 47

صورة الورقة الأولى من النسخة (د)

صورة الورقة الأخيرة من النسخة (د)

ص: 48

صورة الورقة الأولى من النسخة (هـ)

صورة الورقة الأخيرة من النسخة (هـ)

ص: 49

صورة الورقة الأولى من النسخة (و)

صورة الورقة الأخيرة من النسخة (و)

ص: 50

صورة الورقة الأولى من النسخة (ن)

صورة الورقة الأخيرة من النسخة (ن)

ص: 51

تقرير القواعد وتحرير الفوائد

للإمام العلامة أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي الحنبلي

(ت: 795 هـ)

قوبل على نسختين مقروءتين على المصنف، وخمس نسخ أخرى

ومعه

حاشية نفيسة لتلميذه العلامة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي (ت: 844 هـ)

وحواشٍ أخرى

تحقيق

أ. د. خالد بن علي المشيقح

د. عبد العزيز بن عدنان العيدان

د. أنس بن عادل اليتامى

ص: 53

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه

(1)

الحمد لله الذي مهَّد قواعد الدِّين بكتابه المحكم، وشيَّد معاقد العلم بخطابه وأحكم، وفقَّه في دينه من أراد به خيراً من عباده وفهَّم، وأوقف من شاء على ما شاء من أسرار مراده وألهم؛ فسبحان من حكم فأحكم، وحلَّل وحرَّم، وعرَّف وعلَّم، علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تهدي إلى الطَّريق الأقوم، وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله المخصوص بجوامع الكَلِم وبدائع الحِكَم، وودائع العلم والحلم والكرم، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.

أما بعد:

فهذه قواعد مهمَّة، وفوائد جمَّة، تضبط للفقيه أصول المذهب، وتُطلعه من مآخذ الفقه على ما كان عنه قد تغيَّب، وتنظم له منثور المسائل في سلك واحد، وتقيِّد له الشَّوارد، وتقرِّب عليه كلَّ متباعد؛

(1)

قوله: (وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وآله وصحبه) سقط من (ب) و (د) و (هـ) و (و).

ص: 55

فلينعم

(1)

النَّاظر فيه النَّظر، وليوسع العذر، إنَّ اللبيب مَن عذر، فلقد سنح بالبال، على غاية من الإعجال؛ كالارتجال

(2)

أو قريباً من الارتجال؛ في أيَّام يسيرة وليال، ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه.

والله المسؤول أن يوفِّقنا لصواب القول والعمل، وأن يرزقنا اجتناب أسباب الزَّيغ والزَّلل؛ إنَّه قريب مجيب لمن سأل، لا يخيِّب من إيَّاه رجا وعليه توكَّل.

(1)

قال في هامش (ج): (لعله: فليمعن).

قال في لسان العرب (12/ 586): (ومنه قولهم: "أنعم النظر في الشيء": إذا أطال الفكرة فيه).

(2)

كتب على هامش (هـ): (قال في «القاموس»: ارتجل الكلام، تكلَّم به من غير أن يهيِّئه).

ص: 56

‌قاعدة [1]

الماء الجاري؛ هل هو كالرَّاكد، أو كلُّ جرية منه لها حكم الماء المنفرد

؟

فيه خلاف في المذهب، ينبني عليه

(1)

مسائل:

إحداها: لو وقعت فيه نجاسة؛ فهل يعتبر مجموعه؟ فإن كان كثيراً لم ينجس بدون تغيُّر وإلَّا نجس، أو تعتبر

(2)

كلُّ جرية بانفرادها، فإن بلغت قلَّتين لم تنجس، وإلَّا نَجِست؟

فيه روايتان حكاهما الشِّيرازيُّ

(3)

وغيره، والثَّانية المذهب عند القاضي

(4)

.

(1)

في (أ): على.

(2)

في (ب) و (و): يعتبر.

(3)

هو أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي بن أحمد الأنصاري، الشيرازي الأصل، الحراني المولد، الدمشقي المقر، وكان يعرف في العراق بالمقدسي، تفقه ببغداد على القاضي أبي يعلى مدة، ثم قدم الشام فسكن ببيت المقدس، ونشر مذهب الإمام أحمد فيما حوله، توفي سنة 486 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 19/ 51، ذيل طبقات الحنابلة 1/ 157.

(4)

هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، القاضي أبو يعلى، كان عالم زمانه وفقيه الحنابلة، تفقه على الحسن بن حامد وغيره، وله مصنفات كثيرة في الفقه وغيره، منها: شرح المذهب، والتعليقة وتسمى أحيانًا بالخلاف أو الخلاف الكبير، والأحكام السلطانية، والمجرد، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والروايتين والوجهين، وشرح الخرقي، والخصال والأقسام، وغيرها، توفي سنة 458 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 2/ 193.

ص: 57

والثانية: لو غمس الإناء النَّجس في ماء جارٍ، ومرَّت عليه سبع جريات؛ فهل ذلك غسلة واحدة أو سبع غسلات؟

على وجهين حكاهما أبو الحسن بن الغازي

(1)

تلميذ الآمدي

(2)

، وذكر أنَّ ظاهر كلام الأصحاب أنَّ ذلك غسلة واحدة، وفي «شرح المذهب» للقاضي: أنَّ كلام أحمد يدلُّ عليه.

وكذلك لو كان ثوباً ونحوه وعصره عقب كلِّ جرية.

والثَّالثة: لو انغمس المحدث حدثاً أصغر في ماء جار للوضوء، ومرَّت عليه أربع جريات متوالية؛ فهل يرتفع بذلك حدثه أم لا؟ على وجهين.

(1)

هو محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الغازي البدليسي، أبو الحسن، أحد الفقهاء الأعيان، لازم أبا الحسن الآمدي، وتفقه عليه، وسمع منه الحديث، وبرع في الفقه، لا نعرف له مؤلَّفًا في الفقه، وليس له ذكر في كتب الأصحاب إلا في هذه المسألة، نقلها عنه المؤلف، وعن المصنف المرداوي في الإنصاف. ينظر: ذيل الطبقات 1/ 373.

(2)

هو علي بن محمد بن عبد الرحمن البغدادي، أبو الحسن، المعروف بالآمدي، ويعرف قديمًا بالبغدادي، من كبار تلاميذ القاضي أبي يعلى، له كتاب: عمدة الحاضر وكفاية المسافر، في أربع مجلدات، وهو مفقود، توفي سنة 468 هـ. ينظر: ذيل الطبقات 1/ 11.

ص: 58

أشهرهما عند الأصحاب: أنَّه يرتفع حدثه.

وقال أبو الخطاب

(1)

في «الانتصار» : ظاهر كلام أحمد أنَّه لا يرتفع؛ لأنَّه لم يفرِّق بين الجاري والرَّاكد

(2)

.

قلت: بل نصَّ أحمد على التَّسوية بينهما في رواية محمَّد بن الحكم

(3)

، وأنَّه إذا انغمس في دجلة؛ فإنَّه لا يرتفع حدثه حتَّى يخرج مرتَّباً.

والرَّابعة: أنَّه

(4)

لو حلف: لا يقف في هذا الماء، وكان جارياً؛ لم يحنث عند أبي الخطاب وغيره؛ لأنَّ الجاري يتبدَّل ويستخلف شيئاً فشيئاً؛ فلا يُتصوَّر الوقوف فيه.

وقياس المنصوص: أنَّه يحنث؛ لا سيَّما والعرف يشهد له،

(1)

هو محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني، أبو الخطاب البغدادي، الفقيه، أحد أئمة المذهب وأعيانه، تفقه على القاضي أبي يعلى ولازمه وقرأ عليه بعض مصنفاته، له من المؤلفات: الهداية، والانتصار في المسائل الكبار، ويسمى أحيانًا بالخلاف الكبير، ورؤوس المسائل ويسمى بالخلاف الصغير، والعبادات الخمس، والتمهيد في أصول الفقه، توفي سنة 510 هـ. ينظر: ذيل الطبقات 1/ 271، المنهج الأحمد 3/ 62.

(2)

ينظر: الانتصار (1/ 281).

(3)

هو محمد بن الحكم، أبو بكر الأحول، كان قد سمع من الإمام أحمد ومات قبل موت أحمد بثمان عشرة سنة، وكان أحمد يبوح بالشيء إليه من الفتيا لا يبوح به لكل أحد، وكان خاصًّا بأبي عبد الله، توفي سنة (223 هـ). ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 295.

(4)

قوله: (أنَّه) سقطت من (ب) و (ج) و (هـ) و (و) و (ن).

ص: 59

والأيمان مرجعها إلى العرف، ثمَّ وجدت القاضي في «الجامع الكبير» ذكر نحو هذا

(1)

، والله أعلم.

(1)

في (ب): مثل ذلك.

ص: 60

‌قاعدة [2]

شعر الحيوان في حكم المنفصل عنه لا في حكم المتَّصل، وكذلك الظُّفر

(1)

، هذا هو جادَّة المذهب

.

ويتفرَّع على ذلك مسائل:

منها: إذا مسَّ شعر امرأة بشهوة

(2)

لم ينتقض وضوؤه

(3)

، وكذلك ظفرها، أو مسَّها بظفره أو بشعره.

ولهذه المسألة مأخذ آخر: وهو أنَّ هذه الأجزاء ليست بمحلٍّ للشَّهوة

(4)

الأصليَّة، وهي شرط لنقض الوضوء عندنا.

ومنها: أنَّ الشَّعر لا ينجس بالموت ولا بالانفصال على المذهب، وكذلك ما طال من الظُّفر على احتمال فيه.

أمَّا على المشهور: فإن انفصل من الآدميِّ؛ لم ينجس على الصَّحيح.

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله: ويلتحق بهما السنُّ والروح والحمل، والفضلات كالريق والدمع.

(2)

في (ب) و (د) و (هـ): لشهوة.

(3)

كتب على هامش (ن): (في أصح الوجهين، وكذا مس ذكره بهما).

(4)

في (ب): الشهوة.

ص: 61

ومن غيره ينجس

(1)

؛ لأنَّه كانت فيه حياة ثمَّ فارقته حال اتصاله

(2)

، فمنعه الاتِّصال من التَّنجيس، فإذا انفصل زال المانع، فنجس.

ومنها: غَسْلُه في الجنابة والحدث.

فأمَّا الجنابة: ففي وجوب غسله وجهان، والَّذي رجحه صاحب «المغني» ، وذكر أنَّه ظاهر كلام الخرقيِّ

(3)

: عدم الوجوب

(4)

؛ للقاعدة.

ومن أوجبه؛ فيقول: وجب تعبُّداً

(5)

.

نعم؛ إن كان وصول الماء إلى البشرة لا يمكن بدون غسله

(6)

؛ وجب؛ لضرورة وجوب إيصال الماء إلى ما تحته.

وأمَّا في الحدث الأصغر؛ فلا يجب غسل المسترسل منه على

(1)

كتب على هامش (ن): (الفرق بين الآدمي وغيره: أنَّ الآدمي لا ينجس بالموت، وغيره ينجس به).

(2)

في (و) و (هـ) و (ن): انفصاله.

(3)

هو عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد، أبو القاسم الخرقي، شيخ الحنابلة في وقته، تفقه على والده الحسين المسمى بخليفة المروذي، له المختصر في الفقه، المعروف بمختصر الخرقي، توفي سنة 334 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 2/ 75، سير أعلام النبلاء 15/ 363.

(4)

قال ابن نصر الله رحمه الله: الذي في «المغني» أنه قال: ويحتمله كلام الخرقي، ولم يقل: إنه ظاهر كلامه.

(5)

كتب على هامش (ن): (لعله تبعاً).

(6)

قال ابن نصر الله رحمه الله: كشعر الحاجبين.

ص: 62

الصَّحيح

(1)

، وأمَّا المحاذي

(2)

لمحلِّ الفرض؛ فيجزئ إمرار الماء على ظاهره إذا كان كثيفاً؛ لأنَّ إيصال الماء إلى الحوائل في الوضوء كافٍ؛ وإن لم تكن متَّصلة بالبدن اتِّصال خلقة؛ كالجبيرة والخفِّ والعمامة؛ فالمتَّصل خلقة أولى.

ومنها: لو أضاف طلاقاً أو عتاقاً أو ظهاراً إلى الشَّعر أو الظُّفر؛ لم يثبت الطَّلاق ولا العتاق ولا الظِّهار على الأصحِّ

(3)

.

ومنها: لو كان جيبه واسعاً ترى منه عورته في الصَّلاة، لكن له لحية كبيرة تستره؛ فالمذهب: أنَّه يكفي في السَّتر، قال في «المغني»: نصَّ عليه

(4)

.

مع أنَّه قرَّر في كتاب الحج: أنَّ الستر بالمتَّصل كاليد ونحوها

(5)

لا فدية فيه

(6)

.

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله: المعروف في المذهب وجوب غسل المسترسل من اللحية، وبعض الأصحاب كصاحب «المحرر» لم يحك في ذلك خلافاً.

(2)

في (أ): الجاري.

(3)

في (ب): الصَّحيح.

(4)

ينظر: المغني (1/ 417)، قال:(قال الأثرم: سئل أحمد عن الرجل يصلي في القميص الواحد غير مزرور عليه؟ قال: ينبغي أن يزره. قيل له: فإن كانت لحيته تغطيه، ولم يكن متسع الجيب؟ قال: إن كان يسيرًا فجائز).

(5)

قوله: (ونحوها): سقطت من (ب) و (ج) و (و).

(6)

ينظر: المغني 3/ 300.

ص: 63

وخالفه صاحب «شرح الهداية»

(1)

، وقال: هو ستر في الموضعين.

وتردَّد فيه القاضي في «شرح المذهب» ؛ فجزم تارة بأنَّ السَّتر بالمتَّصل ليس بستر في الإحرام ولا في الصَّلاة، ثم ذكر نصَّ أحمد.

ورجع

(2)

إلى أنَّه ستر في الصَّلاة دون الإحرام؛ لأنَّ القصد في ستر الصَّلاة تغييب لون البشرة، وفي الإحرام إنَّما يحرم السَّتر بما يستر به عادة.

فأمَّا إيجاب الديَّة به

(3)

، وضمانه من الصَّيد، وتحريم نظره على الأجنبيِّ؛ فلما يتعلق بجملة البدن من إزالة جماله، وتأذِّي الصَّيد بترويعه وإثبات اليد عليه وهو ممتنع، والافتتان بالمرأة، ولهذا لو انفصل شعر المرأة؛ جاز النَّظر إليه

(4)

على ظاهر كلام أبي الخطَّاب في «الانتصار» .

وحكى صاحب «التَّلخيص» فيه وجهين.

(1)

مراده: مجد الدين ابن تيمية، وهو مراد الأصحاب عند إطلاقهم: شرح الهداية، وإلا فقد شرح هداية أبي الخطاب جماعة من الأصحاب، منهم: ابن المنجى (606 هـ)، وأبو البقاء العكبري، المعروف بالضرير (616 هـ)، وغيرهم.

ومجد الدين: هو عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن عبد الله الخضر بن محمد بن علي ابن تيمية الحراني الفقيه، مجد الدين أبو البركات، تفقه على أبي بكر بن غنيمة الحلاوي، والفخر ابن المنِّي وغيرهما، وله من المصنفات: المحرر، وشرح الهداية، توفي سنة 652 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 23/ 291، ذيل الطبقات 4/ 1.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهذا الذي رجع إليه القاضي هو المذهب).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: بالشعر إذا أزاله بالجناية على وجه لا يعود في الرأس أو اللحية أو الحاجبين أو أهداب العينين).

(4)

كتب على هامش (ن): (لزوال الافتتان بالمرأة إذا انفصل).

ص: 64

‌قاعدة [3]

من وجب عليه عبادة، فأتى بما لو اقتصر على ما دونه

(1)

لأجزأه؛ هل يوصف الكلُّ بالوجوب، أو قدر الإجزاء منه

؟

(2)

إن كانت الزِّيادة متميَّزة منفصلة؛ فلا إشكال في أنَّها نفل بانفرادها؛ كإخراج صاعين منفردين

(3)

في الفطرة ونحوه.

وأمَّا إن لم تكن متميِّزة؛ ففيه وجهان مذكوران في أصول الفقه

(4)

،

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله: أي: ولو كان ما أتى به [عبادة] حينما وجبت ليصح تفريع مسألة إخراج البعير عن الشاة على هذه القاعدة).

(2)

كتب على هامش (هـ): (

الزَّائد على الواجب واجبًا أم مستحبًّا؟ قال القاضي: الوجوب، واختار أبو الخطَّاب وغيره: الاستحباب، وقدَّمه ابن مفلح في «أصوله» ، واختاره الطُّوفي في «مختصره» ، والله أعلم).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: واحداً بعد واحد؛ إذ لو أخرجهما معاً لكان أحدهما من الزيادة التي لم تتميز، فيكون فيه الوجهان).

(4)

كتب على هامش (ن): (قال المرداوي في «التحرير»: إذا طال واجب لا حد له؛ كطمأنينة وقيام، فالزائد على قدر الإجزاء نفل عند الأربعة وأكثر أصحابنا وغيرهم، وواجب عند بعض الشافعية والكرخي، وللقاضي: من أدرك الركعة بعد الطمأنينة أدركها، وقيل: لا، انتهى).

ص: 65

وينبني عليهما مسائل:

منها: إذا أدرك الإمامَ في الرُّكوع بعد فوات قدر الإجزاء منه؛ هل يكون مُدرِكاً له في الفريضة؟

ظاهر كلام القاضي وابن عقيل

(1)

تخريجها على الوجهين، إذا قلنا: لا يصحُّ اقتداء المفترض بالمتنفِّل.

قال ابن عقيل: ويحتمل أن تجري الزِّيادة مجرى الواجب في باب الاتِّباع خاصَّةً

(2)

، إذ الاتباع قد يسقط الواجب كما في المسبوق، ومصلِّي الجمعة من امرأة وعبد ومسافر.

(1)

هو علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي، الظفري، أبو الوفاء، أحد الأئمة الأعلام، تفقه على القاضي وغيرهم، وله الكثير من المصنفات، منها: الفنون، والفصول في الفقه، ويسمى كفاية المفتي، والمناظرات، والمفردات، وعمد الأدلة، والمنثور، والتذكرة، وغيرها، توفي سنة 513 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 19/ 443، ذيل الطبقات 1/ 316.

(2)

قال ابن نصر الله رحمه الله: لو كان هذا المعنى معتبراً؛ لاعتبر في اقتداء المفترض بالمتنفل، ولم يكن في ذلك خلاف؛ لأن الاقتداء به اتباع، فكان يجزئ ذلك في إسقاط الواجب، وإنما يسقط الاتباع الواجب إذا كان المتبوع متلبِّساً بالواجب دون التابع كما في الصور المذكورة، وفي مسألتنا الأمر بالعكس، فلا يقاس عليه.

ص: 66

ومنها: إذا وجب عليه شاة فذبح بَدَنة؛ فهل كلُّها واجبة أو سُبُعها؟ على وجهين

(1)

.

ومنها: إذا أدَّى عن خمس من الإبل بعيراً، وقلنا: يجزئه؛ فهل الواجب كلُّه أو خُمُسه؟ حكى القاضي أبو يعلى الصَّغير

(2)

فيه وجهين

(3)

:

فعلى القول بأنَّ خُمُسه واجب: يجزئ عن عشرين بعيراً أيضاً.

وعلى الآخر: لا يجزئ عن عشرين إلَّا أربعة أبعرة.

ومنها: إذا مسح رأسه كلَّه دفعةً واحدة، وقلنا: الفرض منه قدر النَّاصية؛ فهل الكلُّ فرض، أو قدر النَّاصية منه؟

(1)

كتب على هامش (د): (أصحهما: أنَّها كلُّها واجبة، وهو المجزوم في المذهب).

(2)

هو محمد بن محمد بن محمد بن الحسين، ابن الفراء، القاضي أبو يعلى الصغير، ويلقب عماد الدين، وهو ابن القاضي أبي خازم، ابن القاضي الكبير أبي يعلى، تفقه على أبيه القاضي أبي خازم، وعلى عمه القاضي أبي الحسين، وله مصنفات منها: شرح المذهب، والمفردات وغيرها، توفي سنة 560 هـ ينظر: العبر في خبر من غبر 3/ 33، ذيل الطبقات 2/ 95.

(3)

كتب على هامش (ن): (وقياس ذلك: أنَّ له أنْ يخرج عن خمسة أبعرة خُمُس بعير فقط، وتبقى أربعة أخماسه على ملكه، ومثل ذلك: إذا كان عليه دم يجزئه فيه شاة أو سبع بدنة، فذبح عنه بدنة، فهل كلها واجب، أو سُبُعها؟ فيه وجهان، أظهرهما: سبعها الواجب، وفي «الرعاية» قدم: كلها).

ص: 67

ومنها: إذا أخرج في الزَّكاة سنًّا أعلى من الواجب؛ فهل كلُّه فرض أو بعضه تطوُّع؟

قال أبو الخطاب: كلُّه فرض.

وقال القاضي: بعضه تطوُّع، وهو الصَّواب؛ لأنَّ الشَّارع أعطاه جبراناً عن الزِّيادة.

فأمَّا ما كان الأصل فرضيته ووجوبه، ثمَّ سقط بعضه تخفيفاً، فإذا فعل الأصل؛ وُصِف الكلُّ بالوجوب على الصَّحيح.

فمن ذلك: إذا صلَّى المسافر أربعاً؛ فإنَّ الكلَّ فرض في حقِّه.

وعن أبي بكر

(1)

: أنَّ الركعتين الأخيرتين نفل، لا يصحُّ

(2)

اقتداء المفترض به فيهما، وهو متمشٍّ على أصله، وهو عدم اعتبار نيَّة القصر.

والمذهب الأوَّل.

ومنه: إذا كفَّر الواطئ في الحيض بدينار؛ فإنَّ الكلَّ واجب؛ وإن كان له الاقتصار على نصفه، ذكره في «المغني» .

ويتخرَّج فيه وجه من قول أبي بكر.

(1)

هو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد بن معروف، أبو بكر، المعروف بغلام الخلال، شيخ الحنابلة في وقته، تلميذ أبي بكر الخلال، له من المصنفات: المقنع، وكتاب الشافي، وزاد المسافر، وغيرها، توفي سنة 363 هـ ينظر: طبقات الحنابلة 2/ 119، سير أعلام النبلاء 16/ 143.

(2)

في (ب): (تصحُّ).

ص: 68

فأمَّا إن غسل رأسه بدلاً عن مسحه - وقلنا بالإجزاء -؛ ففي السَّائل منه وجهان:

أحدهما: أنَّه مستعمل في رفع حدث؛ لأنَّ الأصل هو الغسل، وإنَّما سقط تخفيفاً.

والثَّاني -وهو الصَّحيح-: أنَّه طهور

(1)

؛ لأنَّ الغسل مكروه؛ فلا يكون واجباً.

وقد يقال: والإتمام في السَّفر مكروه أيضاً

(2)

.

(1)

في (أ): طهور وجهاً واحداً. وهي في (ب) مشطوب عليها.

وكتب على هامش (د): (وظاهره: ولو مع إمرار يده).

(2)

كتب على هامش (ن): (بلغ قراءة على مولانا قاضي القضاة، كاتبه عبد الله بن هشام الأنصاري).

ص: 69

‌قاعدة [4]

العبادات كلُّها -سواء كانت بدنيَّة، أو ماليَّة، أو مركَّبة منهما- لا يجوز تقديمها على سبب وجوبها

، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب وقبل الوجوب، أو قبل شرط الوجوب

(1)

.

ويتفرَّع على ذلك مسائلُ كثيرةٌ

(2)

:

فمنها: الطَّهارة سبب وجوبها الحدث، وشرط الوجوب فعل العبادة المشترط لها الطَّهارة؛ فيجوز تقديمها على العبادة؛ ولو بالزَّمن الطَّويل بعد الحدث.

ومنها: الصَّلاة؛ فيجوز تقديم صلاة العصر إلى وقت الظُّهر، والعشاء إلى وقت المغرب؛ لأنَّ الشَّارع جعل الزَّوال سبباً لوجوب الصَّلاتين عند العذر دون عدمه.

ولهذا لو أدرك جزءاً من وقت الزَّوال، ثمَّ طرأ عليه عذر؛ لزمه

(1)

كتب على هامش (ن): (قوله: "وقبل الوجوب أو قبل شرط الوجوب" يوهم أنهما يتصوران منفردين، ولا يتصور ذلك؛ فإنه متى وجد سبب الوجوب ولم يوجد الوجوب كان ذلك لتخلف شرطه، فإن قيل: وقد يكون لوجود المانع، قلنا: وجود المانع هو كتخلف الشرط، عدم المانع شرط أيضاً).

(2)

قوله: (كثيرة) سقط من (ب) و (هـ).

ص: 70

قضاء الصَّلاتين على إحدى الرَّوايتين

(1)

، ولو زال العذر في آخر وقت العصر؛ لزمه الصَّلاتان بلا خلاف عندنا.

فعلم أنَّ الوقتين قد صارا في حال العذر كالوقت الواحد، لكنَّه وقت جواز بالنِّسبة إلى إحداهما، ووجوبٍ بالنَّسبة إلى الأخرى.

ومنها: صلاة الجمعة؛ فإنَّ

(2)

سببها اليوم؛ لأنَّها تضاف إليه، فيجوز فعلها بعد زوال وقت النَّهي من أوَّل اليوم؛ وإن كان الزَّوال هو وقت الوجوب.

ومنها: زكاة المال يجوز تقديمها من أوَّل الحول بعد كمال النِّصاب

(3)

.

ومنها: كفَّارات الإحرام إذا احتيج إليها للعذر، فإنَّ العذر سببها؛ فيجوز تقديمها بعد العذر وقبل فعل المحظور.

ومنها: صيام التَّمتُّع

(4)

والقِران؛ فإنَّ سببه العمرة السَّابقة للحجِّ في أشهره، فبالشُّروع في إحرام العمرة قد وجد السَّبب؛ فيجوز الصِّيام

(1)

كتب على هامش (أ): (صحَّح أبو البركات عدم الوجوب، ولم يحكَ الوجوب عن غير أبي يحيى البلخيِّ أحد الشَّافعيَّة)، كذا في كتب الشافعية. ينظر: العزيز شرح الوجيز للرافعي 1/ 391، بحر المذهب للروياني 1/ 396.

(2)

في (أ): لأن.

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: وزوال المانع، وهو الدين، ووجود الشرط، وهو السوم في الماشية، وهذا [مرشد] إليه ذكر الحول؛ لأنه لا ينعقد إلا بهما).

(4)

في (أ): المتمتع.

ص: 71

بعده، وإن كان وجوبه متأخِّراً عن ذلك.

فأمَّا الهدي؛ فقد التزمه أبو الخطَّاب في «انتصاره» .

ولنا رواية: أنَّه يجوز ذبحه لمن دخل قبل العشر؛ لمشقَّة حفظه عليه إلى يوم النَّحر.

وعلى المشهور: لا يجوز في غير أيَّام النَّحر؛ لأنَّ الشَّرع خصَّها بالذَّبح.

ومنها: كفَّارة اليمين يجوز تقديمها على الحنث بعد عقد اليمين؛ ماليَّةً كانت أو بدنيَّةً

(1)

.

ومنها: إخراج كفَّارة القتل أو الصَّيد بعد الجرح وقبل الزُّهوق.

ومنها: النَّذر المطلق

(2)

، نحو: إن شفى الله مريضي فلله عليَّ أن أتصدَّق بكذا؛ فله أن يتصدَّق في الحال، ذكره ابن عقيل في «فنونه» .

ويلتحق بهذه القاعدة:

ما يجوز تقديمه على شرط وجوبه بعد وجود سببه من غير

(1)

كتب على هامش (ب) و (و) و (ن): (حكى ابن الزَّاغوني رواية لا يجوز تقديم الكفَّارة البدنيَّة كالصِّيام، وزعم ابن عقيل في الأدلة أنَّها أصحُّ الرِّوايتين، ولم يوافق على ذلك)، وزاد في (ن):(من هامش نسخة مقيد عليها خط المؤلف، بخط من قابلها على المؤلف).

(2)

في هامش (ن): (أي: المعلق)، وفي هامش آخر:(قوله: "النذر المطلق" صوابه غير المطلق، فلعله سقط من النسخ لفظة "غير"، أو أنه عنى النذر المعلق).

ص: 72

العبادات؛ كالإبراء

(1)

من الدِّية بين الجناية والموت، وأمَّا من القصاص؛ ففيه روايتان

(2)

.

وكتوفية المضمون عنه للضَّامن الدَّين بين الضَّمان والأداء، وفيه وجهان.

وكعفو الشَّفيع عن الشُّفعة قبل البيع، وفيه روايتان

(3)

؛ فإنَّ سبب الشُّفعة الملك وشرطها البيع.

وأمَّا إسقاط الورثة حقَّهم من وصيَّة الموروث في مرضه؛ فالمنصوص عن أحمد: أنَّه لا يصحُّ

(4)

،

وشبَّهه في موضع بالعفو عن الشُّفعة

(5)

؛ فخرَّجَّه الشَّيخ مجد الدِّين في «تعليقه على الهداية» على روايتين.

وكإيتاء المكاتب ربع الكتابة بعد عقدها وقبل كمال الأداء، وهو جائز.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: كإبراء المجروح، لا ورثته).

(2)

كتب على هامش (ن): (إحداهما: يصح أيضاً، والثانية: لا يصح إذا كان الجرح مما لا قود فيه لو اندمل؛ لأن سبب القود لم ينعقد بعدها).

(3)

كتب على هامش (و): (الصَّحيح: لا تسقط).

(4)

جاء في مسائل إسحاق الكوسج (8/ 4288)، ما نصه: قلت: الرجل يستأذن ورثته عند موته أن يوصي بأكثر من الثلث؟ قال: لهم أن يرجعوا في ذلك، قال عبد الله - يعني ابن مسعود -: ذلك التكره لا يجوز.

وذكر ابن قدامة أن أحمد نص على ذلك في رواية أبي طالب. ينظر: المغني 6/ 147.

(5)

كتب على هامش (و): (أي: قبل البيع).

ص: 73

‌قاعدة [5]

من عجَّل عبادة قبل وقت الوجوب، ثمَّ جاء وقت الوجوب وقد تغيَّر الحال

؛ بحيث لو فعل المعجَّل في

(1)

وقت الوجوب؛ لم يجزئه؛ فهل يجزئه

(2)

أم لا؟

هذا على قسمين:

أحدهما

(3)

: أن يتبيَّن الخلل في نفس العبادة؛ بأن يظهرَ وقت الوجوب أنَّ الواجب غير المعجَّل، ولذلك صور:

منها: إذا كفَّر بالصَّوم قبل الحنث، ثمَّ حنث وهو موسر؛ قال صاحب «المغني»: لا يجزئه؛ لأنَّا تبيَّنا أنَّ الواجب غير ما أتى به

(4)

.

(1)

قوله: (في) سقط من (أ).

(2)

في (ب) و (د) و (ج): تجزئه.

(3)

كتب على هامش (أ): (فائدة: الفرق بين أحدهما وإحداهما: أنَّ الأوَّل إشارة إلى المذكَّر، والثَّاني إلى المؤنَّث).

(4)

لم نقف على قول ابن قدامة في هذه المسألة في شيء من كتبه، وإنما ذكر: أنه إذا شرع في الصوم، ثم قدر على العتق أو الإطعام أو الكسوة، لم يلزمه الرجوع إليها، فاعترض عليه بما إذا شرع المتمتع في صوم الثلاثة. فقال: قلنا: إذا قدر على الهدي في صوم الثلاثة، تبينا أنه ليس بعادم له في وقته؛ لأن وقت الهدي يوم النحر، بخلاف مسألتنا. ينظر: المغني 9/ 563، المقنع ص:367.

ص: 74

وإطلاق الأكثرين يخالف ذلك؛ لأنَّه كان فرضه في الظَّاهر، فبرئ به وانحلَّت يمينه، بمعنى: أنَّها لم تبق منعقدة بالتَّكفير، فصادف فعل المحلوف عليه ذمَّةً بريئة من الواجب؛ فلم يحصل به الحنث؛ لأنَّ الكفَّارة حلَّته.

وقد صرَّح أبو بكر عبد العزيز: بأنَّ

(1)

الكفَّارة قبل الفعل تحلُّ اليمين المنعقدة، وبعده تُكفِّر أثر المخالفة.

ومنها: إذا كفَّر المتمتِّع بالصَّوم، ثمَّ قدر على الهدي وقت وجوبه؛ فصرَّح ابن الزَّاغونيِّ

(2)

في «الإقناع» : أنَّه

(3)

لا يجزئه الصَّوم.

وإطلاق الأكثرين يخالفه، بل وفي كلام بعضهم تصريح به، وربَّما أشعر كلام أحمد بذلك

(4)

؛ لأنَّ صومه صحَّ؛ فبرئت ذمَّتُه

(5)

،

(1)

كتب على هامش (ن): (فعلى هذا؛ لا تكون هذه المسألة من القاعدة؛ لعدم [

] وجوب بعد حل اليمين).

(2)

هو علي بن عبيد الله بن نصر بن السري بن الزاغوني البغدادي، أبو الحسن، أحد أعيان المذهب، تفقه على القاضي يعقوب البرزبيني، له تصانيف كثيرة في الفقه وغيره، فمن مصنفاته الفقهية: الإقناع، والواضح، والخلاف الكبير، والمفردات، توفي سنة 527 هـ. ينظر: المنتظم لابن الجوزي 17/ 279، ذيل الطبقات 1/ 403.

(3)

في باقي النسخ: بأنَّه.

(4)

كتب على هامش (أ): (قال أحمد في رواية حنبل في المتمتع إذا صام أيامًا ثم أيسر: أرجو أن يجزئه الصِّيام، ويمضي فيه.

وقال في رواية ابن منصور في متمتِّع لم يجد الهدي فصام، ثم وجد يوم النَّحر ما يذبح: فمتى دخل في الصَّوم فليس عليه). ينظر: مسائل إسحاق بن منصور الكوسج 5/ 2288، والتعليقة للقاضي 1/ 302.

(5)

في (ب) و (د) و (هـ) و (ن): ذمته به.

ص: 75

فصادف وقت وجوب الهدي ذمَّةً بريئة من عهدة الواجب.

ومنها: إذا عجَّل عن أربع وعشرين من الإبل أربع شياه، ثمَّ نتجت واحدة قبل الحول؛ ففيه وجهان:

أحدهما: لا يجزئه

(1)

، ويجب عليه إخراج بنت مخاض.

والثَّاني: يجزئه عن العشرين، ويخرج عن الباقي خُمُس بنت مخاض، ولا يقال: إنَّه يجب عليه شاة عن الخَمْس الزَّائدة الَّتي لم يؤدِّ عنها؛ لئلَّا يفضيَ إلى إيجاب خمس شياه عن خمس وعشرين.

ومنها: إذا صلَّى الصَّبيُّ في أوَّل الوقت، ثمَّ بلغ؛ ففي

(2)

وجوب الإعادة وجهان:

المنصوص: أنَّه يجب.

واختار القاضي في «شرح المذهب» خلافه؛ لأنَّه فعل المأمور به في أوَّل الوقت، فصادفه وقت الوجوب وقد فعل المأمور؛ فامتنع تعلُّقُ الوجوب به لذلك.

وهذا بخلاف ما إذا حجَّ ثمَّ بلغ؛ فإنَّ حجَّه ليس بمأمور به ولا معاقب على تركه، بخلاف الصَّلاة.

(1)

في (ب) و (د) و (ج) و (ن): تجزئه.

كتب على هامش (ن): (قدمه في «الرعاية الكبرى»).

(2)

في (أ): في.

ص: 76

والقسم الثَّاني: أن يتبيَّن الخلل في شرط العبادة المعجَّلة؛ فالصَّحيح: أنَّه يجزئه.

ويتفرَّع عليه مسائل:

منها: إذا عجَّل الزَّكاة إلى فقير مسلم، فحال الحول وقد مات، أو ارتدَّ، أو استغنى من غيرها

(1)

.

ومنها: إذا جمع بين الصَّلاتين في وقت أولاهما بتيمُّم، ثمَّ دخل وقت الثَّانية وهو واجد للماء.

ومنها: إذا قصر الصَّلاتين في السَّفر في وقت أولاهما، ثمَّ قدِم قبل دخول وقت الثَّانية.

(1)

كتب على هامش (أ): (قال ابن تميم: إذا عجَّل الزَّكاة فمات الآخذ، أو ارتدَّ، أو استغنى من غيرها، قبل الحول، أجزأت في الأصح، كما لو استغنى منها، وفيه وجه: لا يجزئه، ذكره ابن عقيل).

ص: 77

‌قاعدة

(1)

[6]

إذا فعل عبادة في وقت وجوبها يظنُّ أنَّها الواجبة عليه، ثمَّ تبيَّن بآخره أنَّ الواجب كان غيرها؛ فإنَّه يجزئه

(2)

.

ولذلك صور:

منها: إذا أحجَّ المعضوب عن نفسه، ثمَّ برئ؛ فإنَّه يجزئه على المذهب

(3)

؛ لأنَّه فعل الواجب عليه في وقته، لا سيَّما إن قيل: ذلك عليه على الفور.

ومنها: إذا كفَّر العاجز عن الصِّيام بالإطعام للإياس من برئه، ثمَّ عوفي؛ فإنَّه لا يلزمه قضاء الصَّوم

(4)

.

(1)

كتب على هامش (ج): (أقول: قد يتوقَّف في صحَّة هذه القاعدة).

(2)

قال ابن نصر الله رحمه الله: أليق من هذه العبارة أن يقال: إذا أدى بدل العبادة للعجز عن المبدل منه، ثم قدر على المبدل منه بعد فعل البدل؛ فإنه يجزئه، وينبغي أن يجعل من صور هذه القاعدة: ما إذا تيمم وصلى في أول الوقت، ثم وجد الماء في الوقت.

(3)

قال ابن نصر الله رحمه الله: قوله: "على المذهب" يوهم أن فيه خلافاً، ولا نعرف فيه خلافاً.

(4)

كتب على هامش (أ): (ذكر بعضهم في وجوب القضاء احتمالين)، وفي (ن):(في "الفروع": فيه احتمالان).

ص: 78

ومنها: إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، فإنهَّا تعتدُّ عندنا سنة، فإذا اعتدَّت سنة، ثمَّ رأت الحيض؛ لم يلزمها الاعتداد به

(1)

.

ومنها: إذا صلَّى الظُّهر من لا جمعة عليه لأجل العذر، ثمَّ زال العذر قبل تجميع الإمام؛ فإنَّه لا يلزمه إعادة الجمعة مع الإمام

(2)

.

وأمَّا ما حكي عن أبي بكر: أنَّه لا يجزئه فعل الظُّهر قبل تجميع الإمام

(3)

؛ فمن الأصحاب من بناه على هذا الأصل

(4)

، وأنَّه تجب الإعادة؛ لتبيُّنِنا أنَّ الواجب عليه الجمعة.

وليس هذا مأخذ أبي بكر؛ فإنَّه صرَّح بمأخذه: وهو أنَّ وقت الظُّهر في حقِّ من لا جمعة عليه إنَّما يدخل بفعل الجمعة من الإمام، كما لا يدخل وقت الذَّبح في الأضاحي إلَّا بعد صلاة الإمام

(5)

.

(1)

كتب على هامش (د) و (و): (وقيل: يلزمها ما لم تتزوَّج، ذكره في «الرِّعاية»)، وفي (ن):(في "الفروع": فيه احتمالان).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: على أصح الروايتين، كما في «الفروع» وغيره).

(3)

قال ابن نصر الله رحمه الله: وعلل في «المغني» قول أبي بكر: بعدم تيقن بقاء العذر، فكان كغير المعذور.

(4)

قال ابن نصر الله رحمه الله: بناؤه على هذا الأصل يقتضي ثبوت الخلاف فيه، ولم يذكر المصنف في أصل القاعدة خلافاً، ولكن مسائلها كلها فيها الخلاف، إلا مسألة المعضوب، فليس في المذهب فيها خلاف، نعم فيها الخلاف مع الحنفية والشافعية.

(5)

قال ابن نصر الله رحمه الله: ومن فروع هذه القاعدة: إذا صلى المتيمم، ثم قدر على الماء والوقت باق، وإذا صلى المريض جالساً ثم عوفي والوقت باق.

ص: 79

ويلتحق بهذه القاعدة:

ما إذا خفي الاطِّلاع على خلل الشَّرط، ثمَّ تبيَّن؛ فإنَّه يغتفر في الأصحِّ.

فمن ذلك: إذا أدَّى الزَّكاة إلى من يظنُّه فقيراً، ثمَّ بان

(1)

أنَّه غنيٌّ؛ فإنَّها تسقط على أصحِّ الرِّوايتين.

ومنها: إذا صلَّى المسافر بالاجتهاد إلى القبلة، ثمَّ تبيَّن الخطأ؛ فإنَّه لا إعادة على الصَّحيح

(2)

.

ومنها: إذا حكم الحاكم بشهادة عدلين في الظَّاهر، ثمَّ تبيَّن فِسقُهما؛ ففي النَّقض روايتان:

رجَّح ابن عقيل في «فنونه

(3)

»: عدمه، وبه جزم القاضي في كتاب الصَّيد من «خلافه» ، والآمديُّ؛ لئلَّا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد.

والمشهور: النَّقض؛ لتعلُّق حقِّ الغير به

(4)

.

(1)

في (ب) و (د) و (ج) و (هـ): فبان.

(2)

كتب على هامش (أ): (قال ابن تميم: لا إعادة عليه، وذكر أبو الفرج وغيره: أنَّ عليه الإعادة إن بان يقيناً، وقال في «الفروع»: ولا إعادة على مخطئ مع اجتهاد أو تقليد سفرًا، وخرَّج في «الواضح» رواية: ما إذا بان الفقير غنيًّا، وفرَّق القاضي وغيره بقدرته على اليقين بأخذ إمام).

(3)

في باقي النسخ: الفنون.

(4)

قال ابن نصر الله رحمه الله: التي ارتفع حيضها لا يدرى ما رفعه؛ يتعلق حق الغير بعدتها، ولا يلزمها كما تقدم.

ص: 80

وأمَّا إذا اصطاد بكلب علَّمه، ثمَّ أكل من الصَّيد؛ فإنَّه لا يُحرِّم

(1)

صيودَه

(2)

المتقدِّمة على الصَّحيح؛ لكن مأخذه: أنَّا لم نتبيَّن فساد تعليمه

(3)

؛ لجواز أن يكون نسيه بعد تعلُّمه، أو نسي إرساله.

فأمَّا الإعادة على من نسي الماء في رحله وتيمَّم ثمَّ صلَّى، أو على من صلَّى صلاة شدَّة الخوف لسوادٍ ظنَّه عدوًّا فلم يكن، أو كان بينه وبينه ما يمنع العبور؛ فإنَّه مبنيٌّ على أنَّه فرَّط بترك البحث والتَّحقيق

(4)

.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (و): تحرم.

(2)

في (ب): صويده.

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: لم يتبين فيه خلل شرط إباحة صيده فيما تقدم؛ لجواز أن يكون أكله الآن لنسيانه، لا لعدم تعلمه).

(4)

قال ابن نصر الله رحمه الله: مما يشبه فروع هذه القاعدة: لو فسخ نكاح الزوجة لفقد مال لزوجها الغائب تنفق منه، ثم تبين له مال، والظاهر: صحة الفسخ، وعدم نقضه؛ لأن نفقتها إنما تتعلق بما تقدر عليه من مال زوجها، وأما ما كان خافياً عنها لا علم لها به فلا تكلف الصبر لاحتماله، ولا تشبه مسألة التيمم إذا نسي الماء في رحله؛ لأن الماء في قبضته ويده، ونسيانه لا يخلو من تقصير وتفريط، بخلاف هذه، ولم أجد في هذه المسألة نقلاً.

وقال أيضًا: وكذلك من صلى يظن الطهارة، فتبين عدمها.

ص: 81

‌قاعدة [7]

من تلبَّس بعبادة، ثمَّ وَجد قبل فراغها ما لو كان واجداً له قبل الشُّروع لكان هو الواجبَ دون ما تلبَّس به؛ هل يلزمه الانتقال إليه، أم يمضي ويجزئه

؟

هذا على ضربين:

أحدهما: أن يكون المتلبَّس به رخصة عامَّة، شرعت تيسيراً على المكلَّف وتسهيلاً عليه، مع إمكان إتيانه بالأصل على ضرب من المشقَّة والتَّكلف؛ فهذا لا يجب عليه الانتقال منه بوجود الأصل؛ كالمتمتِّع إذا عدم الهدي؛ فإنَّه رُخِّص له في الصِّيام رخصة عامة، حتَّى لو قدر على الشِّراء بثمن في ذمَّته وهو موسر في بلده؛ لم يلزمه.

والضَّرب الثَّاني: أن يكون المتلبَّس به إنَّما شرع ضرورةً للعجز عن الأصل وتعذُّره بالكليَّة، فهذا يلزمه الانتقال إلى الأصل عند القدرة عليه، ولو في أثناء التَّلبُّس بالبدل؛ كالعدَّة بالأشهر؛ فإنَّها لا تعتبر بحالٍ مع القدرة على الاعتداد بالحيض، ولهذا تؤمر من ارتفع حيضها لعارض معلوم أن تنتظر زواله ولو طالت المدَّة.

وإنَّما جُوِّز لمن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه أن تعتدَّ بالأشهر؛ لأنَّ حيضها غير معلوم، ولا مظنون عوده.

ص: 82

وسواء كانت هذه المعتدَّة مكلَّفة قبل هذا بالاعتداد بالحيض؛ كمن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فاعتدَّت بالأشهر ثمَّ حاضت في أثنائها، أو لم تكن مكلَّفة به؛ كالصَّغيرة إذا حاضت في أثناء العدَّة بالأشهر.

وههنا مسائل متردِّدة بين الضَّربين:

منها: من شرع في صيام كفَّارة ظهار أو يمين أو غيرهما، ثمَّ وجد الرَّقبة:

فالمذهب: أنه لا يلزمه الانتقال؛ لأنَّ ذلك رخصة، فهو كصيام المتمتِّع.

وفيه وجه: يلزمه الانتقال؛ لأنَّ الكفَّارات مشروعة للرَّدع والزَّجر، وفيها من التَّغليظ ما ينافي الرُّخصة المطلقة، ولهذا يُلزم شراء الرَّقبة بثمن في الذِّمة إذا كان ماله غائباً.

ولو لم يجد من يبيعه رقبة بالدَّين وماله غائب؛ فهل يلزمه انتظاره، أو يجوز له العدول إلى الصِّيام للمشقَّة

(1)

، أو يفرق بين الظِّهار وغيره

(2)

؟ على أوجه معروفة.

ومنها: المتيمِّم إذا شرع في الصَّلاة، ثمَّ وجد الماء؛ ففي بطلانها روايتان

(3)

؛ لأنَّ التَّيمُّم من حيث كونه رخصة عامَّة؛ فهو كصيام المتمتِّع.

(1)

قال في هامش (و): (وهو الصحيح).

(2)

كتب على هامش (ن): (فيلزمه الانتظار في الظهار، ويجوز له في غيره العدول إلى الصوم).

(3)

قال في هامش (و): (الصحيح: أنها تبطل).

ص: 83

ومن حيث كونُه ضرورةً؛ يشبه العدَّة بالأشهر، وبيان الضَّرورة: أنَّه يستباح

(1)

معه الصَّلاة بالحدث، فإنَّه غير رافع له على المذهب؛ فلا يجوز له إتمام الصَّلاة محدثاً مع وجود الماء الرَّافع له.

ومنها: إذا نكح المعسر الخائف للعنت أمةً، ثمَّ زال أحد الشَّرطين؛ فهل ينفسخ نكاحه؟ على روايتين

(2)

، والنِّكاح فيه شوبُ عبادة.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): تستباح.

(2)

قال في هامش (و): (الصحيح: أنه لا ينفسخ).

ص: 84

‌قاعدة [8]

من قدر على بعض العبادة وعجَز عن باقيها؛ هل يلزمه الإتيان بما قدر عليه منها أم لا

؟

هذا أقسام:

أحدها: أن يكون المقدور عليه ليس مقصوداً في العبادة، بل هو وسيلة محضة إليها؛ كتحريك اللِّسان في القراءة، وإمرار الموسى على الرَّأس في الحلق والختان: فهذا ليس بواجب؛ لأنَّه إنَّما وجب ضرورة القراءة والحلق والقطع، وقد سقط الأصل، فسقط ما هو من ضرورته.

وأوجبه القاضي في تحريك اللِّسان خاصَّة، وهو ضعيف جداً.

القسم الثَّاني: ما وجب

(1)

تبعاً لغيره، وهو نوعان:

أحدهما: ما كان وجوبه احتياطاً للعبادة ليتحقَّق حصولها؛ كغسل رأس

(2)

المرفقين في الوضوء، فإذا قُطعت اليد من المرفق، هل يجب غسل رأس المرفق الآخر

(3)

أم لا؟ على وجهين:

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله: أي: أن يكون المقدور عليه مما وجب.

(2)

قوله: (رأس) سقط من (ب).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: الباقي، كما عبر به صاحب «المحرر»، وهو ذهاب منهما إلى تسمية رأس كل من عظمي الذراع والعضد بالمرفق؛ إذ الارتفاق حاصل بكل منهما).

ص: 85

أشهرهما عند الأصحاب: الوجوب، وهو ظاهر كلام أحمد

(1)

.

واختار

(2)

القاضي في كتاب الحجِّ من «خلافه» : أنَّه مستحبٌّ، وحمل كلام الإمام

(3)

أحمد على الاستحباب.

هذا إذا بقي شيء من العبادة؛ كما في وضوء الأقطع.

أمَّا إن لم يبق شيء بالكليَّة؛ سقط التَّبع؛ كإمساك جزء من اللَّيل في الصُّوم؛ فلا يلزم من أبيح له الفطر بالاتِّفاق.

والثَّاني: ما وجب تبعاً لغيره على وجه التَّكميل واللَّواحق؛ مثل: رمي الجمار، والمبيت بمنًى لمن لم يدرك الحجَّ:

فالمشهور: أنَّه لا يلزمه؛ لأنَّ ذلك كلَّه من توابع الوقوف بعرفة، فلا يلزم من لم يقف بها.

وحكى ابن أبي موسى رواية أخرى بلزومها، لأنَّها عبادات بنفسها

(4)

مستقلَّة.

ومن أمثلة ذلك: المريض إذا عجَز في الصَّلاة عن وضع وجهه على الأرض، وقدر على وضع بقيَّة أعضاء السُّجود؛ فإنَّه لا يلزمه ذلك على الصَّحيح؛ لأنَّ السُّجود على بقيَّة الأعضاء إنَّما وجب تبعاً للسُّجود على

(1)

قال أحمد في رواية المروذي في المتمتع: إذا دخل يوم التروية فأعجب إلي أن يقصر إن دخل في العشر، فأراد أن يحلق حلق، فإن هو دخل في يوم التروية، فحلق فلا بأس به، ويمر الموسى على رأسه يوم الحلق. ينظر: التعليقة للقاضي 1/ 438.

(2)

في (ب) و (ن): واختيار.

(3)

قوله: (الإمام) سقط من (أ).

(4)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): في نفسها.

ص: 86

الوجه وتكميلاً له

(1)

.

والقسم الثَّالث: ما هو جزء من العبادة وليس بعبادة في نفسه

(2)

، أو هو غير مأمور به لضرره:

فالأوَّل: كصوم بعض اليوم لمن قدر عليه وعجَز عن إتمامه؛ فلا يلزمه

(3)

بغير خلاف.

والثَّاني: كعتق بعض الرَّقبة في الكفَّارة؛ فلا يلزم القادرَ عليه إذا عجز عن التَّكميل؛ لأنَّ الشَّارع قصده تكميل العتق مهما أمكن، ولهذا شرع السِّراية والسِّعاية، وقال:«لَيْسَ لِله شَرِيكٌ»

(4)

، فلا يشرع عتق بعض الرَّقبة.

القسم الرَّابع: ما هو جزء من العبادة، وهو عبادة مشروعة في نفسه: فيجب فعله عند تعذُّر فعل الجميع بغير خلاف، ويتفرَّع عليه مسائل كثيرة:

منها: العاجز عن القراءة يلزمه القيام؛ لأنَّه وإن كان مقصوده الأعظم القراءة؛ لكنَّه مقصود أيضاً في نفسه، وهو عبادة منفردة.

(1)

من قوله: (ومن أمثلة ذلك: المريض) إلى هنا سقط من (أ).

(2)

في (د) و (ج): في نفسه بانفراده.

(3)

في (ب) و (د) و (و) و (هـ): فلا يلزم.

(4)

أخرجه أحمد (20709)، وأبو داود (3933)، والنسائي في الكبرى (4951)، من حديث أبي المليح، عن أبيه - أسامة الهذلي رضي الله عنهما: أن رجلًا أعتق شقصًا له من غلام، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:«لَيْسَ لِلهِ شَرِيكٌ» ، وقواه ابن حجر. ينظر: فتح الباري 5/ 159.

ص: 87

ومنها: من عجز عن بعض الفاتحة؛ لزمه الإتيان بالباقي.

ومنها: من عجز عن بعض غسل الجنابة؛ يلزمه الإتيان بما قدر منه؛ لأنَّ تخفيف الجنابة مشروع ولو بغسل أعضاء الوضوء، كما يشرع

(1)

للجنب إذا أراد النَّوم أو الأكل أو الوطء، ويستبيح به اللَّبث في المسجد عندنا.

ووقع التَّردُّد في مسائل أخر:

منها: المحدث إذا وجد ما يكفي بعض أعضائه؛ وفي وجوب استعماله وجهان.

ومأخذ من لا يراه واجباً: إمَّا أنَّ الحدث الأصغر لا يتبعَّض رفعه، فلا يحصل به مقصود، أو أنَّه يتبعَّض لكنَّه يبطل بالإخلال بالموالاة فلا يبقى له فائدة، أو أنَّ غسل بعض أعضاء المحدث غير مشروع، بخلاف غسل بعض أعضاء الجنب كما تقدَّم.

ومنها: إذا قدر على بعض صاع في صدقة الفطر؛ فهل يلزمه إخراجه؟ على روايتين.

ومأخذ عدم الوجوب: أنهَّ كفَّارة بالمال؛ فلا يتبعَّض؛ كما لو قدر على التَّكفير بإطعام بعض المساكين.

والصَّحيح: الوجوب، والفرق بينه وبين الكفَّارة من وجهين:

أحدهما: أنَّ الكفَّارة بالمال تسقط إلى بدل هو الصَّوم، بخلاف الفطرة.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: الوضوء).

ص: 88

والثَّاني: أنَّ الكفَّارة لا بدَّ من تكميلها، والمقصود من التَّكفير بالمال تحصيل إحدى المصالح الثَّلاث على وجهها، وهي العتق والإطعام والكسوة، وبالتَّلفيق يفوت ذلك؛ فلا تبرأ الذِّمَّة من الوجوب إلَّا بالإتيان بإحدى الخصال بكمالها أو بالصِّيام، وفي الفطرة لا تبرأ الذِّمة منها بدون إخراج الموجود.

ص: 89

‌قاعدة [9]

في العبادات الواقعة على وجه محرَّم:

إن كان التَّحريم عائداً إلى ذات العبادة على وجه مختصٍّ

(1)

بها: لم يصحَّ.

وإن كان عائداً إلى شرطها؛ فإن كان على وجه يختصُّ بها: فكذلك أيضاً.

وإن كان لا يختصُّ

(2)

بها؛ ففي الصِّحَّة روايتان: أشهرهما: عدمها.

(1)

في باقي النسخ: يختصُّ.

قال ابن نصر الله رحمه الله: ويشعر هذا بأن يعود إلى ذاتها على وجه لا يختص بها، فمثال ذلك: الصلاة في عمامة حرير أو غصب، فالتحريم عائد إلى نفس الصلاة، ولكنه على وجه غير مختص بها؛ لأنه لو تحرك فيها في غير صلاة كان محرماً أيضاً، فقوله:«على وجه يختص بها» مفهومه: أنه إذا كان على وجه لا يختص بها لا يكون كذلك، وهو كذلك، بمعنى: أنه إذا كان على وجه يختص بها لم يصح رواية واحدة، وإذا كان على وجه لا يختص بها، وهو عائد إلى ذاتها؛ كالصلاة في عمامة حرير أو غصب، أو في يده خاتم ذهب، ففي صحتها وجهان، أصحهما: الصحة.

(2)

قال ابن نصر الله رحمه الله: أي سواء عاد إلى ذاتها أو إلى شرطها.

ص: 90

وإن عاد إلى ما ليس بشرط فيها؛ ففي الصِّحَّة وجهان: واختيار أبي بكر عدم الصِّحة. وخالفه الأكثرون.

فللأوَّل

(1)

أمثلة كثيرة:

منها: صوم يوم العيد؛ فلا يصحُّ بحال

(2)

على المذهب.

ومنها: الصَّلاة في أوقات النَّهي

(3)

.

ومنها: الصَّلاة في مواضع النَّهي؛ فلا تصحُّ على القول بأنَّ النَّهي للتَّحريم، وإنَّما تصحُّ على القول بأنَّ النَّهي للتَّنزيه، هذه طريقة المحقِّقين.

وإن كان من الأصحاب من يحكي الخلاف في الصِّحَّة مع القول بالتَّحريم.

ومنها: صيام أيَّام التَّشريق؛ فلا يصحُّ تطوُّعاً بحال.

والخلاف في صحَّة صومها فرضاً مبنيٌّ على أنَّ النَّهي هل يشمل الفرض أم يخصُّ

(4)

التَّطوُّع؟

وللثَّاني

(5)

أمثلة كثيرة

(6)

:

(1)

في (ب) و (ج): وللأوَّل.

(2)

كتب على هامش (ن): (قوله: «بحال» أي: سواء كان عن نفل أو فرض، فإن في الفرض رواية بالصحة).

(3)

كتب على هامش (ن): (وفي انعقادها قولان).

(4)

في (ب) و (د): يختص.

(5)

كتب على هامش (ن): (الثاني: هو أن يعود التحريم إلى شرطها على وجه يختص بها).

(6)

في (أ): كثير.

ص: 91

منها: الصَّلاة بالنَّجاسة وبغير سترة، وأشباه ذلك.

وللثَّالث

(1)

أمثلة:

منها: الوضوء بالماء المغصوب.

ومنها: الصَّلاة في الثَّوب المغصوب والحرير، وفي الصِّحَّة روايتان.

وعلى رواية عدم الصِّحَّة: فهل المبطل ارتكاب النَّهي في شرط العبادة، أم ترك الإتيان بالشَّرط المأمور به؟

للأصحاب فيه مأخذان؛ ينبني عليهما: لو لم يجد إلَّا ثوباً مغصوباً فصلَّى فيه؛ فإن علَّلنا بارتكاب النَّهي؛ لم تصحَّ صلاته، وإن علَّلنا بترك المأمور؛ صحَّت؛ لأنَّه غير واجد لسترة يؤمر بها.

وأمَّا من لم يجد إلَّا ثوب حرير؛ فتصحُّ صلاته فيه بغير خلاف على أصحِّ الطَّريقين؛ لإباحة لبسه في هذه الحال

(2)

.

ومنها: الصَّلاة في البقعة المغصوبة، وفيها الخلاف.

وللبطلان مأخذان أيضاً

(3)

:

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو أن يعود التحريم إلى شرطها على وجه لا يختص بها).

(2)

قال في هامش (و): (أي: فلم يكن فيه ارتكاب نهي).

(3)

قال ابن نصر الله رحمه الله: فالمأخذ الأول؛ يصح به كون الصلاة في الدار المغصوبة مثالاً لعبادة وقعت على وجه محرم يعود التحريم فيها إلى شرطها، وهو البقعة، لا إلى ذاتها، وأما على المأخذ الثاني؛ فالظاهر أن ذلك يكون من أمثلة ما يكون التحريم فيه عائداً على ذات العبادة على وجه يختص بها؛ لأن كون ماهية أفعال الصلاة من الحركات والسكنات محرمة، وهي بعينها هي نفس العبادة هو معنى خاص بالصلاة، بخلاف الصلاة في عمامة غصب؛ فإنَّ التحريم متعلق بلبسها وبالرأس، ولا يعم أفعال الصلاة؛ ولهذا كان الصحيح فيه الصحة، والصحيح في الصلاة في الدار المغصوبة البطلان؛ لأن التحريم في الدار المغصوبة عائد إلى ذات الصلاة على وجه يختص بها بالمعنى المذكور، وفي العمامة على وجه لا يختص بها، فافترقا.

ص: 92

أحدهما: أنَّ البقعة شرط للصَّلاة، ولهذا لا تصحُّ الصَّلاة في الأرجوحة، ولا على بساط في الهواء.

الثَّاني: أنَّ حركات المصلِّي وسكناته في الدَّار المغصوبة هو نفس المحرَّم؛ فالتَّحريم عائد إلى نفس الصَّلاة، وإن كان غير مختصٍّ بها؛ فهو كإخراج الزكَّاة والهدي من المال المغصوب.

وللرَّابع

(1)

أمثلة:

منها: الوضوء من الإناء المحرَّم.

ومنها: صلاة من عليه عمامة غصب أو حرير أو في يده خاتم ذهب، وفي ذلك كلِّه وجهان، واختيار أبي بكر عدم الصِّحَّة.

وأمَّا من عليه ثوبان أحدهما غصب:

فقيل: هو مخرَّج على هذين الوجهين.

وقيل: بل

(2)

هو كمن ليس عليه سوى الثَّوب المغصوب؛ لأنَّ

(1)

كتب على هامش (ن): (الرابع: هو أن يعود التحريم إلى ذات العبادة على وجه لا يختص بها، وهنا كذلك؛ لأن التحريم عائد إلى الوضوء، وهو ذات العبادة على وجه لا يختص به؛ لأن تحريم الإناء المحرم لا يختص بالوضوء).

وعلق محشٍّ آخر على هذا التعليق فقال: (هو أن يكون النهي عائداً إلى غير ذات العبادة وإلى غير شرطها، فإن التحريم إنما توجه إلى الإناء؛ أي: حرم استعماله [ .... ] الفاسدة [ .... ] ذلك، فليتأمل).

(2)

قوله: (بل) سقط من (ب).

ص: 93

المباح لم يتعيَّن للسَّتر، بل السَّتر حصل بواحد غير معيَّن.

وأمَّا الحجُّ بالمال المغصوب؛ ففي صحَّته روايتان:

فقيل: لأنَّ المال شرطٌ لوجوبه، وشرط الوجوب كشرط الصِّحَّة

(1)

.

ورجَّح ابن عقيل الصِّحَّة، وجعله من القسم الرَّابع، ومنع كون المال شرطاً لوجوبه؛ لأنَّه يجب على القريب بغير مال.

وليس بشيء، فإنَّه شرط في حقِّ البعيد خاصَّة، كما أنَّ المَحْرَم شرطٌ في حقِّ المرأة دون الرَّجل، والله أعلم

(2)

.

(1)

كتب على هامش: (و): (في التوقف على كل منهما).

وكتب على هامش (ن): (لمانع أن يمنع كون شرط الوجوب كشرط الصحة؛ فإنه لو أتى بالعبادة مع فقد شرط الوجوب صحت، ولو أتى بها مع فقد شرط الصحة لم تصح، فعلم أنَّ لشرط الصحة مزية في تأثيره في العبادة ليست لشرط الوجوب، فلا يصحُّ تساويهما في الحكم).

(2)

قوله: (والله أعلم) سقط من (ب) و (ج) و (ن).

ص: 94

‌قاعدة [10]

الألفاظ المعتبرة في العبادات والمعاملات:

منها: ما يعتبر لفظه ومعناه، وهو القرآن؛ لإعجازه بلفظه ومعناه، فلا يجوز

(1)

التَّرجمة عنه بلغة أخرى.

ومنها: ما يعتبر معناه دون لفظه؛ كألفاظ عقد البيع وغيره من العقود، وألفاظ الطَّلاق.

ومنها: ما يعتبر لفظه مع القدرة عليه دون العجز.

ويدخل تحت ذلك صور:

منها: التَّكبير والتَّسبيح والدُّعاء في الصَّلاة، لا تجوز

(2)

التَّرجمة عنه مع القدرة عليه.

ومع العجز عنه؛ هل يلحق بالقسم الأوَّل فيسقط، أو بالثَّاني فيأتي به بلغته؟ على وجهين

(3)

.

(1)

في (ب) و (د) و (هـ) و (ن): تجوز.

(2)

في (ب) و (هـ): لا يجوز.

(3)

قال في هامش (و): (الصحيح: يأتي به).

ص: 95

ومنها: خطبة الجمعة لا تصحُّ مع القدرة بغير العربيَّة على الصَّحيح، وتصحُّ

(1)

مع العجز.

ومنها: لفظ النِّكاح ينعقد مع العجز بغير العربيَّة.

ومع القدرة على التَّعلُّم، فيه وجهان

(2)

.

ومنها: لفظ اللِّعان، وحكمه حكم لفظ النِّكاح.

(1)

في (ب): ويصحُّ.

(2)

قال في هامش (و): (الصحيح: أنه ينعقد).

ص: 96

‌قاعدة [11]

من عليه فرض؛ هل له أن يتنفَّل قبل أدائه بجنسه أم لا

؟

هذا نوعان:

أحدهما: العبادات المحضة:

فإن كانت موسَّعة: جاز التَّنفل قبل أدائها؛ كالصَّلاة بالاتِّفاق، وقبل قضائها أيضاً؛ كقضاء رمضان على الأصحِّ.

وإن كانت مضيَّقة: لم يصحَّ

(1)

على الصَّحيح، ولذلك صور:

منها: إذا تضايق وقت المكتوبة؛ هل ينعقد النَّفل حينئذ؟ على وجهين.

ومنها: من عليه صلاة فائتة؛ هل يصحُّ التَّنفل المطلق قبل قضائها؟ على وجهين

(2)

؛ لأنَّ قضاء الفوائت على الفور.

ومنها: إذا شرع في التَّنفل بعد إقامة الصَّلاة المكتوبة؛ فهل يصحُّ؟ على وجهين

(3)

؛ لأنَّ الجماعة واجبة.

(1)

في (ب) و (و): لم تصحَّ.

(2)

قال في هامش (و): (الصحيح: أنه لا يصح).

(3)

قال في هامش (و): (الصحيح: أنه لا تصح).

ص: 97

ومنها: صوم رمضان؛ لا يصحُّ أن يصوم فيه عن غيره.

فإن فعل؛ لم يصحَّ عن نفله، وهل ينقلب عن فرضه؟ ينبني على وجوب نيَّة التَّعيين

(1)

.

ومنها: إذا حجَّ تطوُّعاً قبل حجَّة الإسلام؛ لم يقع عن التَّطوع، وانقلبت عن حجَّة الإسلام على المذهب الصَّحيح.

ومنها: لو حجَّ عن نذره، أو عن نفل، وعليه قضاء حجَّة فاسدة؛ وقعت عن القضاء دون ما نواه على المذهب أيضاً.

فأمَّا إن تنفَّل بالحجِّ بعد قضاء حجَّة الإسلام وقبل الاعتمار، أو بالعكس

(2)

؛ فهل يجوز أم لا؟

قال في «التَّلخيص» : ينبني على أنَّ النُّسك هل هو على الفور أو لا؛ فإن قلنا: على الفور؛ لم يجز، وإلَّا جاز، وفيه نظر.

وأمَّا الزَّكاة؛ فقال الأصحاب: يصحُّ أن يتنفَّل بالصَّدقة قبل أدائها؛ وإن كانت على الفور

(3)

.

(1)

في (ب): التَّعين.

(2)

قال ابن نصر الله رحمه الله: وهو أن يتنفل بعمرة بعد قضاء عمرة الإسلام وقبل الحج، وهذه الصورة ينبغي أن يكون محل الخلاف فيها: أن يتنفل بالعمرة في أوان الحج، أما لو تنفل بها قبل أوانه أو بعده؛ فالذي ينبغي أن يجزم بالصحة، ولا يتوجه فيه خلاف.

(3)

كُتب على هامش (ب): (واختار الشيخ تقي الدين: أنه لا يصح، واحتج على ذلك بقوله سبحانه: "وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى").

ص: 98

وكذلك نصَّ أحمد في رواية مهنَّى

(1)

فيمن عليه زكاة ونذر: لا يبالي بأيِّهما يبدأ.

وهذا إذا كان ماله يتَّسع لهما، فأمَّا إن لم يتَّسع؛ فسنذكره.

النَّوع الثَّاني: التَّصرُّفات الماليَّة؛ كالعتق والوقف والصَّدقة والهبة؛ إذا تصرَّف بها وعليه دين، ولم يكن حُجِر عليه؛ فالمذهب: صحَّة تصرفه وإن استغرق ماله في ذلك

(2)

.

واختار الشَّيخ تقيُّ الدِّين رحمه الله

(3)

: أنَّه لا ينفذ شيءٌ من ذلك مع مطالبة الغرماء، وحكاه قولاً في المذهب

(4)

.

(1)

هو مهنَّى بن يحيى الشامي السلمي، أبو عبد الله، من كبار أصحاب أحمد، روى عنه من المسائل ما فخر به، وكان أبو عبد الله يكرمه، ورحل معه إلى عبد الرزاق، وصحبه إلى أن مات، ومسائله أكثر من أن تحد من كثرتها. ينظر: تاريخ بغداد 15/ 358، طبقات الحنابلة 1/ 345.

(2)

كتب في هامش (ب): (وكذا هو اختيار البخاري، وحكي عن مالك، وذكر صاحب المغني أن نفوذه لا يعلم فيه خلافًا).

(3)

هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية الحراني، تقي الدين، أبو العباس، شيخ الإسلام، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره، توفي سنة 728 هـ. ينظر: ذيل الطبقات 4/ 491، المقصد الأرشد 1/ 132.

(4)

قال في الفروع (6/ 464): (وتصرفه قبل الحجر نافذ، نص عليه، مع أنه يحرم إن أضر بغريمه، ذكره الآمدي البغدادي، وقيل: لا ينفذ، ذكره شيخنا واختاره، وذكره أيضاً رواية). وينظر: إعلام الموقعين (4/ 7).

ص: 99

ويمكن تخريجه في المذهب من أصلين:

أحدهما: ما نصَّ عليه أحمد في

(1)

رواية حنبل فيمن تبرعَّ بماله - بوقف أو صدقة - وأبواه محتاجان: أنَّ لهما ردَّه، واحتجَّ بالحديث المرويِّ في ذلك

(2)

.

والثَّاني: أنَّه نصَّ في رواية أخرى على أنَّ من أوصى لأجانب وله أقاربُ محتاجون أنَّ الوصية تردُّ عليهم.

فيخرَّج من ذلك: أنَّ من تبرَّع وعليه نفقة واجبة لوارث، أو دين ليس له وفاء: أنَّه يُردُّ، ولهذا نبيع المدبَّر في الدَّين خاصَّة على رواية.

ونقل ابن منصور

(3)

عن أحمد فيمن تصدَّق عند موته بماله كلِّه،

(1)

في (أ): من.

(2)

لعله يشير إلى حديث أخرجه ابن عدي في الكامل (2/ 461)، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: تفوَّت رجل من مال نفسه بمالٍ، فجاء أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلمه ذلك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فقال له:«ارْدُدْ عَلَى أَبِيكَ مَا حَبَسْتَ عَلَيْهِ، فَإِنَّكَ وَمَالَكَ كَسَهْمٍ مِنْ كِنَانَتِكَ» . وأشار ابن عدي إلى ضعفه بالحارث بن عبيدة.

وبنحوه حديث: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» ، قال الزيلعي:(روي من حديث جابر، ومن حديث عائشة، ومن حديث سمرة بن جندب، ومن حديث عمر بن الخطاب، ومن حديث ابن مسعود، ومن حديث ابن عمر)، وانظر تخريجه في تحقيقنا على الروض المربع 2/ 493.

(3)

هو إسحاق بن منصور بن بهرام أبو يعقوب الكوسج المروزي، صحب أحمد ودون عنه مسائل كثيرة، توفي سنة 251 هـ. ينظر: تاريخ بغداد 7/ 385، طبقات الحنابلة 1/ 113.

ص: 100

قال: هذا مردود، ولو

(1)

كان في حياته؛ لم أجوِّز له إذا كان له ولد

(2)

.

(1)

في (أ) و (ج) و (و): لو.

(2)

جاء في مسائل إسحاق بن منصور الكوسج (8/ 4315).

ص: 101

‌قاعدة [12]

المذهب: أنَّ العبادات الواردة على وجوه متنوِّعة يجوز فعلها على جميع تلك الوجوه الواردة فيها من غير كراهة لبعضها

، وإن كان بعضها أفضل من بعض.

لكن هل الأفضل المداومة على نوع منها، أو فعل جميع الأنواع في أوقات شتَّى؟

ظاهر كلام الأصحاب: الأوَّل.

واختار الشَّيخ تقيُّ الدِّين: الثَّاني

(1)

؛ لأنَّ فيه اقتداءً بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في تنوِّعه.

وقاله ابن عقيل في صلوات الخوف: إنَّها تنوَّعت بحسب المصالح؛ فيصلِّي في كلِّ وقت على صفة تكون مناسبة له.

وهل الأفضل

(2)

الجمع بين ما أمكن جمعه من تلك الأنواع، أو الاقتصار على واحد منها؟

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى 22/ 335.

(2)

في هامش (ن): (أي: على القول بأن الأفضل فعل جميع الأنواع في أوقات شتى).

ص: 102

هذا فيه نزاع في المذهب، ويندرج تحت ذلك صورٌ:

منها: مسح الأذنين، المذهب: أنَّه يستحبُّ مسحهما مرَّة، إمَّا مع الرَّأس، أو بماء جديد، ولا يسنُّ الجمع بينهما.

وحُكي عن القاضي عبد الوهاب بن جلبة قاضي حرَّان

(1)

: أنَّ الأفضل الجمع بينهما

(2)

؛ عملاً بالحديثين

(3)

.

(1)

هو عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الوهاب بن جلبة البغدادي ثم الحرَّاني، أبو الفتح، قاضي حران، تفقه على أبي يعلى، وكتب كثيراً من مصنفاته، وكان ناشراً لمذهب الحنابلة بحرَّان داعياً إليه في تلك الديار، وكان مفتيها وواعظها وخطيبها ومدرسها، توفي سنة 476 هـ. ينظر: الطبقات لابن أبي يعلى 2/ 245، ذيل الطبقات 1/ 95.

(2)

قال في الإنصاف (1/ 289): (قال ابن رجب في «الطبقات»: ذكر الشيخ تقي الدين في «شرح العمدة»، أن أبا الفتح ابن جلبة- قاضي حران- كان يختار مسح الأذنين بماء جديد بعد مسحهما بماء الرأس. قال ابن رجب: (وهو غريب جدًّا)، والذي رأيناه في «شرح العمدة» ، أنه قال: ذكر القاضي عبد الوهاب، وابن حامد، أنهما يمسحان بماء جديد بعد أن يمسحا بماء الرأس، قال: وليس بشيء. فزاد ابن حامد، والظاهر أن القاضي عبد الوهاب هو ابن جلبة قاضي حران).

(3)

جاء في هامش (ن): (أي: حديث "الأذنان من الرأس"، وحديث ابن عمر أنه كان يفردهما بماء جديد، وهو موقوف عليه وليس مرفوعًا، حكاه عنه أحمد، وفيه أيضًا حديث عبد الله بن زيد أنه صلى الله عليه وسلم أخذ لأذنيه ماء خلاف الماء الذي أخذ لرأسه، رواه البيهقي في سننه وقال: إسناده صحيح).

قلنا: أثر ابن عمر رضي الله عنهما من فعله أخرجه البيهقي في الكبرى (311)، وحديث عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه أخرجه الحاكم (538) وغيره، قال:«رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فأخذ ماءً لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه» .

وحديث مسح الأذنين بماء الرأس: أخرجه أبو داود (108)، من حديث عثمان رضي الله عنه لما وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:«ثم أدخل يده فأخذ ماء فمسح برأسه وأذنيه» ، وثَمَّ أحاديث أخر.

وجاء في هامش (و): (حكاه الشيخ تقي الدين عنه في شرح الهداية)، وشرح الهداية إنما هو لجده مجد الدين أبي البركات، وقد حكاه عنه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في شرح العمدة، قال:(وذكر القاضي عبد الوهاب وابن حامد أنهما يمسحان بماء جديد بعد أن يمسحا بماء الرأس، وليس بشيء). ينظر: شرح العمدة، كتاب الطهارة ص 191.

ص: 103

ومنها: الاستفتاح، فالمذهب: أنَّ الأفضل الاستفتاح بـ «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ»

(1)

، مقتصراً عليه.

واختار ابن هبيرة

(2)

: أنَّ الجمع بينه وبين الاستفتاح بـ «وَجَّهْتُ وَجْهِي»

(3)

أفضل.

(1)

أخرجه مسلم (399)، عن عمر رضي الله عنه موقوفًا.

(2)

هو يحيى بن محمد بن هبيرة الشيباني، الدوري، ثم البغدادي، الوزير العالم العادل، أبو المظفر، قرأ الفقه على أبي بكر الدينوري، وقيل: وعلى أبي الحسين بن الفراء، له مصنفات في الفقه وغيره، من أهمها: الإفصاح عن معاني الصحاح، توفي سنة 560 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 20/ 426، ذيل الطبقات 2/ 107.

(3)

أخرجه مسلم (771)، من حديث علي رضي الله عنه.

ص: 104

وذكر الشَّيخ تقيُّ الدِّين: أنَّه يستفتح كذلك

(1)

.

ولكن ورد في الجمع أحاديث متعدِّدة، وفيها ضعف، وبتقدير ثبوتها؛ فلا تكون المسألة من هذا القبيل.

ومنها: إجابة المؤذِّن؛ هل يشرع فيها الجمع بين الحيعلة والحوقلة، أم لا؟

وكذا في التَّثويب في الفجر؟ فيه وجهان

(2)

.

ومنها: سنَّة الجمعة بعدها، نقل إبراهيم الحربيُّ

(3)

عن أحمد: أنَّه

(4)

قال: أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بأربع ركعات

(5)

، وصلَّى هو ركعتين

(6)

، فأيُّهما فعلت

(7)

فحسنٌ، وإن أردت أن تحتاط؛ صلَّيت ركعتين وأربعاً، جمعت فعله وأمره.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى 22/ 343.

(2)

في هامش (ن): (أكثر كلام الأصحاب على عدم الجمع).

(3)

هو إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشر بن عبد الله بن ديسم أبو إسحاق الحربي، كان إمامًا في العلم، رأسًا في الزهد، عارفًا بالفقه، ونقل عن الإمام أحمد مسائل، توفي سنة 285 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 86.

(4)

قوله: (أنَّه) سقط من (هـ).

(5)

أخرجه مسلم (881) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعًا» .

(6)

أخرجه البخاري (937) ومسلم (729) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين» .

(7)

في (ب): فعل.

ص: 105

وهذا مأخذ غريب لاستحباب السِّتِّ.

أمَّا الأصحاب؛ فلم يستندوا إلَّا إلى ما نقل عن بعض الصَّحابة من صلاته ستَّ ركعات

(1)

.

ومنها: ألفاظ الصَّلاة على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في التَّشهُّد؛ فإنَّه ورد فيها: «كما صلَّيت على آل إبراهيم»

(2)

، وورد:«كما صليت على إبراهيم»

(3)

، فهل يقال: الأفضل الجمع بينهما؟

فإنَّ من الأصحاب من اختار الجمع بينهما، وقد يكون مستنده جمع الرَّوايتين.

وأنكر الشَّيخ تقيُّ الدِّين

(4)

(5)

رحمه الله ذلك، وقال

(6)

: لم يبلغني فيه حديث مسند ثابت بالجمع بينهما، ولا يصحُّ أن يجمع بين الرِّوايتين؛ لأنَّه كان يقول هذا تارة، وهذا تارة، فأحد اللَّفظين بدلٌ عن الآخر،

(1)

قال ابن المنذر: (روي هذا القول عن علي بن أبي طالب، وابن عمر، وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم، ثم ساق أسانيدها. ينظر: الأوسط 4/ 125.

(2)

أخرجه البخاري (4797)، ومسلم (406)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.

وأخرجه البخاري (3369)، ومسلم (407)، من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري (3370)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.

وأخرجه البخاري أيضًا (6358)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(4)

قوله: (تقي الدِّين) سقط من (أ) و (ج)، وضُرب عليها في (ن).

(5)

كتب على هامش (ن): (لعله الشيخ تقي الدين، والعجب من إنكاره ذلك، مع أن حديث الجمع بينهما قد ذكره في «المغني»).

(6)

ينظر: مجموع الفتاوى (22/ 456).

ص: 106

ولا يصحُّ الجمع بين البدل والمبدل

(1)

.

كذا قال! وقد ثبت في «صحيح البخاريِّ» الجمع بينهما من حديث كعب

(2)

بن عجرة

(3)

، وأخرجه النَّسائيُّ من حديث كعب أيضاً

(4)

، ومن حديث طلحة

(5)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (لأن القاعدة معقودة لما يمكن فيه الجمع، والجمع بين البدل والمبدل ممتنع).

(2)

كتب على هامش (ن): (ذكره البخاري في سورة الأحزاب من رواية أبي سعيد، لا من رواية كعب، لكنه إنما ذكر الجمع بينهما فيه بعد قوله: "وبارك" فقط)، قلنا: بل ذكره البخاري من رواية كعب في كتاب أحاديث الأنبياء (3370).

ثم قال في هامش (ن): (وعلى تقدير ثبوت الجمع؛ فليس ذلك مندرجاً تحت القاعدة).

(3)

أخرجه البخاري (3370)، بلفظ:«اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» .

(4)

أخرجه النسائي في المجتبى (1288)، وفي السنن الكبرى (1212).

(5)

في (ب) و (ج) و (و) و (هـ): أبي طلحة. والحديث أخرجه النسائي (1290)، من حديث موسى بن طلحة عن أبيه.

ص: 107

‌قاعدة [13]

إذا وجدنا أثراً معلولاً لعلَّة، ووجدنا في محلِّه علَّة صالحة له، ويمكن أن يكون الأثر معلولاً لغيرها

، لكن لا يتحقَّق وجود غيرها؛ فهل يحال ذلك الأثر على تلك العلَّة المعلولة

(1)

أم لا؟

في المسألة خلاف، ولها صور كثيرة قد يقوى في بعضها الإحالة وفي بعضها العدم؛ لأنَّ الأصل

(2)

أن لا علة سوى هذه المتحقِّقة

(3)

، وقد يظهر في بعض المسائل الإحالة عليها فيتوافق الأصل والظَّاهر، وقد تظهر

(4)

الإحالة على غيرها فيختلفان

(5)

.

فمن صور المسألة: ما إذا وقع في الماء نجاسة، ثمَّ غاب عنه، ثمَّ وجده متغيِّراً؛ فإنَّه يُحكم بنجاسته عند الأصحاب؛ إحالة للتَّغيُّر على النَّجاسة المعلوم وقوعها فيه، والأصل عدم وجود مغيِّر غيرها.

(1)

في (أ) و (ن): المعلومة.

(2)

كتب في هامش (و): (المراد بالأصل هنا: المستصحب).

(3)

كتب على هامش (ن): (هذا تعليل لقوة الإحالة، لا لعدم الإحالة، فكان ينبغي تقديمه على قوله: «وفي بعضها العدم»).

(4)

في (ب) و (د) و (و): يظهر.

(5)

كتب في هامش (و): (كما في مسألة الصيد الآتية على الرواية الثالثة).

ص: 108

وخرَّج بعض المتأخرين فيه

(1)

وجهاً آخر: أنَّه طاهر، من مسألة الصَّيد الآتية وأولى؛ لأنَّ الأصل طهارة الماء؛ فلا يزال عنها بالشَّكِّ.

ومنها: ما إذا وُجد من النَّائم قبل نومه سببٌ يقتضي خروج المذي منه من تفكُّر أو ملاعبة ونحوها، ثمَّ نام واستيقظ ووجد بللاً لم يتيقَّنه منيًّا، ولم يذكر حلماً:

فإنَّ المنصوص عن أحمد: أنَّه لا غسل عليه؛ إحالةً للخارج على السَّبب المتيقَّن، وهو المقتضي لخروج المذي؛ لأنَّ الأصل عدم وجود غيره، وقد تيقَّن وجوده.

وحكي عن أحمد رواية أخرى: بوجوب الغسل.

ومنها: لو جرح صيداً جرحاً غير مُوحٍ، ثمَّ غاب عنه ووجده ميتاً ولا أثر فيه غير سهمه؛ فهل يحلُّ أكله؛ على روايتين:

أصحُّهما: أنَّه يحلُّ؛ لحديث عديِّ بن حاتم

(2)

.

(1)

وفي (ب): خرج فيه بعض المتأخرين.

كتب على هامش (أ): (قوله: "وخرَّج بعض المتأخِّرين فيه وجهاً" قلت: علم من ذلك أنَّ الوجه للأصحاب، والرِّواية للإمام أحمد، كما ذكر ذلك العلَّامة المحقِّق المدقِّق الشَّيخ عليُّ بن سليمانَ المرداويُّ الحنبليُّ في «حاشيته على المقنع»، المسمَّاة بـ «الإنصاف في مسائل الخلاف»، انتهى، قاله الفقير إلى الله العليِّ عبدُه عثمان بن مزيد الحنبليُّ، عفى عنه).

(2)

كتب في هامش (و): (قال: سألت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم، فقتل، فكل، وإذا أكل؛ فلا تأكل"). أخرجه البخاري (175)، ومسلم (1929).

ص: 109

والثَّانية: لا يحلُّ؛ لقول ابن عبَّاس: «كلُ ما أصميت، ودَع ما أنميت»

(1)

(2)

، ولذلك تسمَّى: مسألة الإصماء والإنماء.

وفيه رواية ثالثة: إن غاب عنه ليلة لم يحلَّ، وإلَّا حلَّ.

وفيه حديث مرفوع فيه ضعف

(3)

، وعُلِّل بأنَّ هوامَّ اللَّيل كثير؛ فكأنَّ

(1)

أخرجه البيهقي في الكبرى (18901)، وفي معرفة السنن والآثار (18802)، عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا، ورواه مرفوعًا من وجه آخر وضعف المرفوع.

(2)

كتب في هامش (أ): (قال الجوهريُّ: أصميت الصَّيد: إذا رميت فقتلته وأنت تراه، وأنميت: إذا رميته فغاب عنك ثمَّ مات، وفي الحديث: «كل ما أصميت ودع ما أنميت»).

كتب في هامش (هـ): (قال ابن الأثير: الإصماء: أن يقتل الصيد مكانه، ومعناه: سرعة إزهاق الروح، من قولهم للمسرع: صميان. والإنماء: أن تصيب إصابة غير قاتلة في الحال، يقال: أنميت الرمية، ونمت بنفسها، ومعناه: إذا صدت بكلب أو سهم أو غيرهما فمات وأنت تراه غير غائب عنك فكل منه، وما أصبته ثم غاب عنك فمات بعد ذلك فدعه، لأنك لا تدري أمات بصيدك أم بعارض آخر، والله أعلم).

(3)

أخرج أبو داود في المراسيل (383)، والبيهقي (18899)، من حديث أبي رزين، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصيد فقال: إني رميته بالليل فأعياني، ووجدت سهمي فيه من الغد، وقد عرفت سهمي، فقال:«الليل خلق من خلق الله عظيم، لعله أعانك عليها بشيء أبعدها عنك» ، قال البيهقي:(وأبو رزين هذا اسمه مسعود مولى شقيق بن سلمة، وليس بأبي رزين مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث مرسل، قاله البخاري).

ص: 110

الظَّاهر هنا - وهو وجود سبب آخر حصل منه الزُّهوق- قوي على الأصل، وهو عدم إصابة غير السَّهم له.

ومنها: لو جرح المحرم صيداً جرحاً غير مُوحٍ، ثمَّ غاب عنه، ثمَّ وجده ميتاً؛ فهل يضمنه كلَّه أو أرش الجرح؟ على وجهين.

وجزم بعض الأصحاب: بضمان أرش الجرح فقط؛ لأنَّه المتيقَّن، والأصل براءة الذِّمة.

ومنها: لو جرح آدميًّا معصوماً جرحاً غير مُوحٍ، ثمَّ مات وادَّعى أنَّه مات بسبب غير سراية جرحه، وأنكر الوليُّ؛ فالقول قول الوليِّ مع يمينه، ولم يَحكِ أكثر الأصحاب في ذلك خلافاً

(1)

؛ إحالة للزُّهوق على الجرح المعلوم.

وفي «المجرد» : أنَّه إن مات عقيب الجرح؛ فالقول قول الوليِّ؛ وإن مات بعد مدَّة يندمل الجرح في مثلها، وقامت بيِّنة بأنَّه لم يزل ضَمِناً

(2)

من الجرح حتَّى مات فكذلك

(3)

، وإلَّا فالقول قول الجاني.

وفيه وجه آخر: أنَّ القول قول الوليِّ.

(1)

كتب على هامش (ن): (كيف تنتفي حكاية الخلاف في ذلك، مع ما يأتي من حكايته عن «المجرد» من الخلاف، وتقديم الوجه المخالف لهذا فيه؟!).

(2)

قال في الصحاح (6/ 2155): (رجل ضمن، وهو الذي به الزمانة في جسده من بلاء أو كسر أو غيره .... ضمن الرجل بالكسر ضمنًا، فهو ضمن، أي: زمن مبتلًى).

(3)

في هامش (ب): (أعني الصورة الثالثة).

ص: 111

ومنها: لو قال لأمته ولها ولد: هذا الولد منِّي؛ فهل يثبت بذلك استيلاد الأمة؟ على وجهين:

أحدهما: نعم؛ لأنَّا لا نعلم سبباً نتحقَّق

(1)

به لحوق النَّسب منه

(2)

غير ملك اليمين، فيحال اللُّحوق عليه، فيستلزم ذلك ثبوت الاستيلاد في الأمة.

والثَّاني: لا؛ لاحتمال استيلاده قبل ذلك في نكاح أو وطء بشبهة.

ومنها: لو ادَّعى رقَّ مجهول النَّسب، فشهدت له بينة أنَّ أمته ولدته ولم يقل في ملكه؛ فهل يحكم له به؟ على وجهين.

ورجَّح

(3)

الشَّيخ مجد الدين: أنَّها إن شهدت أنَّ أمته

(4)

ولدته ونحو ذلك، فما فيه إضافة الولد إلى الأمة المضافة إليه؛ حكم له بالولد، وإن لم يكن كذلك بأن شهدت أنَّ هذا ولد هذه الأمة، وأنَّ أمته ملك له؛ لم يحكم له بالولد.

ومنها: لو قال رجل: هذا ابني من زوجتي، وادَّعت زوجته ذلك، وادَّعته امرأة أخرى؛ فهو ابن الرَّجل، وهل يرجَّح زوجته على الأخرى؟ على وجهين:

(1)

في باقي النسخ: يتحقق.

(2)

في (ب) و (ج) و (ن): هنا. مكان قوله: (منه).

(3)

في (ب) و (ن): رجَّح.

(4)

كتب على هامش (ن): (هذا هو فرض مسألته المذكورة، وليس فيها ما يشمل القسم الثاني).

ص: 112

أحدهما: يرجَّح؛ لأن زوجها أبوه؛ فالظَّاهر

(1)

أنَّها أمه.

والثَّاني: يتساويان؛ لأنَّ كل واحدة منهما لو انفردت لأُلحق بها، فإذا اجتمعتا تساوتا

(2)

.

ومنها: لو باع أمة له من رجل، فولدت عند المشتري، فادَّعى

(3)

البائع أنَّه ولده، فصدَّقه المشتري؛ أنَّها تصير أمَّ ولد للبائع، وينفسخ البيع، نصَّ عليه أحمد في رواية مهنَّى، وذكره أبو بكر، ذكر ذلك القاضي في «خلافه» ، وتأوَّله على أنَّه ادَّعى أنَّها ولدت في ملكه وصدَّقه المشتري على ذلك.

ومنها: لو ولدت المطلقة الرَّجعية ولداً لا يمكن إلحاقه بالمطلِّق إلَّا بتقدير وطء حاصل منه

(4)

في زمن العدِّة

(5)

؛ فهل يلحق به

(6)

في هذه الحال أم لا؟ على روايتين:

(1)

في (ب) و (د): والظَّاهر.

(2)

زاد في (ب) و (ج): (ذكره في المغني).

(3)

في (ب): فادَّعاه.

(4)

قوله: (منه) سقط من (ب).

(5)

كتب في هامش (و): (وصورتها: ما إذا طلَّقها طلاقاً رجعيًّا، ثمَّ ارتفع حيضها لسبب، ثمَّ أتت بولد لأكثر من أكثر مدَّة الحمل من وقت الطَّلاق).

قال ابن نصر الله رحمه الله: مثل أن تكون عدتها بالحيض، وقد ارتفع حيضها بسبب تعرفه، فإنها لا تزال في عدة حتى يعود حيضها، فلو مضت عليها أكثر من أكثر مدة الحمل وهي في انتظاره، ثم أتت بولد بعد أكثر مدة الحمل؛ فهذا يتعين أن يكون ولدها من وطء في العدة.

(6)

في باقي النسخ: (فهل يلحق به الولد).

ص: 113

أصحُّهما: لحوقه؛ لأنَّ الفراش لم يَزُل بالكليَّة؛ فإحالة الحمل عليه أولى؛ كحالة صلب النِّكاح.

وعلى هذا: فهل يحكم بارتجاعها بلحوق النَّسب؟ على وجهين:

أصحُّهما -وهو المنصوص-: أنَّها تصير مرتجعة بذلك

(1)

.

وينبني على ذلك مسألة مشكلة

(2)

في تعليق الطَّلاق بالولادة، ذكرها صاحب «المحرَّر» فيه

(3)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (اختار في «الترغيب» أن الحمل لا يدل على الوطء المحصل للرجعة. من «الإنصاف»).

(2)

كتب على هامش (ن): (المسألة المشكلة المشار إليها هي إذا قال: أنت طالق طلقة إن ولدت ذكراً، وطلقتين إن ولدت أنثى).

(3)

قال في المحرر (2/ 71): (فإن قال: أنت طالق طلقة إن ولدت ذكرًا، وطلقتين إن ولدت أنثى؛ فولدتهما معًا؛ طَلَقت ثلاثًا.

وإن سبق أحدهما بدون ستة أشهر؛ وقع ما علَّق به، وانقضت العدة بالثاني، ولم يقع به شيء. وقال ابن حامد: يقع المعلق به أيضًا. فعلى الأولى: إن أشكل السابق؛ طلقت طلقة؛ لتيقنها، ولغا ما زاد. وقال القاضي: قياس المذهب: تعيينه بالقرعة.

وإن كان بينهما فوق ستة أشهر؛ فالحكم كما فصلنا: إن قلنا: الثاني؛ تنقضي به العدة ولا يلحق بالمطلق، وإن قلنا: لا تنقضي به العدة، أو ألحقناه به؛ كملت به الثلاث) انتهى.

ص: 114

وأشكل توجيهها على الأصحاب؛ وقد أفردنا لها جزءاً

(1)

.

ومنها: أنَّه يجوز استيفاء الحقِّ من مال الغريم إذا كان ثَمَّ سبب ظاهر يحال الأخذ عليه، ولا يجوز إذا كان السَّبب خفيًّا

(2)

، هذا ظاهر المذهب.

فيباح للمرأة أن تأخذ من مال زوجها نفقتها ونفقة ولدها بالمعروف، وللضَّيف إذا نزل بقومٍ فلم يَقْرُوه أن يأخذ من أموالهم بقدر قراه بالمعروف؛ لأنَّ السَّبب إذا ظهر لم ينسب الآخذ إلى خيانة، بل يحال أخذه على السَّبب الظَّاهر، بخلاف ما إذا خفي؛ فإنَّه ينسب بالأخذ إلى الخيانة.

(1)

وهي رسالة بعنوان: تعليق الطلاق بالولادة، مطبوعة بتحقيق الأخ/ مصطفى بن محمد القباني، عن دار الأوراق الثقافية.

(2)

كتب على هامش (ن): (لا يظهر كون هذه المسألة من فروع القاعدة المذكورة؛ لأن القاعدة أن نجد أثراً، ونتردد في علته، وهنا لم يوجد أثر يتردد في علته، وإنما المقصود في هذه المسألة: جواز الإقدام على الأخذ بسببه الظاهر، وجواز الإقدام على الأخذ بالسبب المذكور ليس مما يشك في سببه وعلته قبل وقوعه، وبعد الأخذ لا يقع الشك في سببه، فليست هذه المسألة من القاعدة أصلاً، وكذلك إذا كان السبب خفيًّا فلا تردد في علة الأخذ ولا في علة الإقدام عليه، وإنما يكون فرع هذه القاعدة: ما إذا وجدنا شخصاً قد أخذ من مال غيره شيئاً، وكان له على ذلك الشخص نظير ما أخذ، وشككنا هل أَخْذُه بدلُ ما له عليه أم لا؟ فهذا يحتمل أن يحال أخذه على السبب المعلوم، فيكون قد أخذ ما يباح له).

ص: 115

ومنها: لو قال في مرضه: إن متُّ مِن مرضي هذا؛ فسالم حرٌّ، وإن برئت منه؛ فغانمٌ حرٌّ، ثمَّ مات، ولم يعلم؛ هل مات من المرض أو برئ منه؟ ففيه ثلاثة أوجه:

أحدها

(1)

: يعتق سالم

(2)

؛ لأنَّ الأصل دوام المرض وعدم البرء، ولأنَّا قد تحقَّقنا انعقاد سبب الموت بمرضه وشَكَكْنا في حدوث سبب آخر غيره؛ فيحال الموت على سببه المعلوم.

والثَّاني: يعتق أحدهما بالقرعة؛ لأنَّ أحد الشَّرطين وجد ظاهراً، وجهل عينه.

والثَّالث

(3)

: لا يعتق واحد منهما؛ لاحتمال أن يكون مات في مرضه ذلك بسبب حادث فيه من قتل أو غيره، فلم يمت من مرضه، ولم يبرأ منه؛ فلم يتحقَّق وجود واحد من الشَّرطين.

ومنها: لو أصدقها تعليم سورة، ثمَّ طلَّقها ووجدت حافظة لها، وتنازعا: هل علَّمها الزَّوج فبرئ من الصَّداق أم لا؛ فأيُّهما يقبل قوله؟ فيه وجهان

(4)

.

وخرَّج عليهما الشَّيخ تقيُّ الدِّين: مسألة اختلافهما في النَّفقة

(1)

في (أ): إحداها.

(2)

في هامش (ن): (وهو المذهب)، وفي هامش (و):(وهو الصحيح).

(3)

في هامش (ج): (مبني على خلاف المذهب).

(4)

كتب على هامش (ن): (أصحهما: أن القول قولها).

ص: 116

والكسوة مدَّة مقامها

(1)

عند الزَّوج: هل كانت من الزَّوج أو منها؟

(2)

.

ومنها: لو ادَّعى صاحب الزَّرع: أنَّ غنم فلان نفشت فيه ليلاً، ووُجِد في الزَّرع أثر غنمه

(3)

؛ قُضي بالضَّمان على صاحب الغنم، نصَّ عليه في رواية ابن منصور

(4)

.

وجعل الشَّيخ تقيُّ الدِّين هذا وأشباهه من القيافة في الأموال، وجعلها معتبرة كالقيافة في الأنساب.

ويتخرَّج فيه وجه آخر: أنَّه لا يكتفى بذلك

(5)

.

ومنها: لو تزوَّج بكراً، فادَّعت أنَّه عنِّين، فكذَّبها، وادَّعى أنَّه أصابها، وظهرت ثيِّبًا، فادَّعت أنَّ ثيوبتها بسبب آخر؛ فالقول قول الزَّوج، ذكره الأصحاب.

ويتخرَّج فيه وجه آخر من المسائل المتقدِّمة.

ومنها: اللَّوث في القسامة، ومسائله معروفة.

(1)

في (أ): مقامهما.

(2)

قال في الاختيارات (ص 343): (فأما إن كانت الزوجة وقت العقد فقيرة، ثم وجد معها ألف درهم، فقال: هذا هو الصداق، وقالت: أخذته من غيره، ولم تعين، ولم يحدث لها قبض مثل؛ فهو نظير تعليم السورة المشروطة، وفيها وجهان، ونظيره الإنفاق عليها والكسوة، وفي هذه المواضع كلها إذا أظهرت جهة القبض الممكن منها كالممكن من الزوج؛ فينبغي أن يكون القول قولها، وإلا فلا).

(3)

في (ب): غنم.

(4)

جاء في مسائل إسحاق بن منصور (6/ 2874)، أن الإمام أحمد قال في هذه المسألة:(فإن قال صاحب الزرع: أفسدَتْ غنمُك زرعي بالليل؛ يُنْظَر في الأثر، فإن لم يكن أثر غنمه في الزرع لا بد لصاحب الزرع من أن يجيء بالبينة).

(5)

قال في الإنصاف (15/ 340): (ومحل الخلاف إذا لم يكن هناك غنم لغيره).

ص: 117

‌قاعدة [14] إذا وجد سبب إيجاب أو تحريم من أحد رجلين لا يعلم عينه منهما؛ فهل يلحق الحكم بكلِّ واحد

(1)

منهما، أو لا يلحق بواحد منهما شيء؟

في المسألة خلاف، ولها صور:

أحدها: إذا وجد اثنان منيًّا في ثوب ينامان فيه، أو سمعا صوتاً خارجاً، ولم يعلم مِن أيِّهما هو؛ ففي المسألة روايتان:

إحداهما: لا يلزم واحداً منهما غسل ولا وضوء؛ نظراً إلى أنَّ كلَّ واحد منهما متيقِّن للطَّهارة شاكٌّ في الحدث.

والثَّانية: يلزمهما الغسل والوضوء؛ لأنَّ الأصل زال يقيناً في أحدهما؛ فتعذَّر البقاء عليه، وتعيَّن الاحتياط، ولم يلتفت إلى النَّظر في كلِّ واحد بمفرده؛ كثوبين أو إناءين نجس أحدهما.

الصَّورة الثَّانية: إذا

(2)

قال أحد الرَّجلين: إن كان هذا الطَّائر غراباً فامرأتي طالق، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق، وغاب

(1)

قوله: (واحد) سقط من (ب) و (ج).

(2)

قوله: (إذا) سقط من (ب) و (ج) و (و) و (ن).

ص: 118

ولم يعلم ما هو؛ ففيها

(1)

وجهان:

أحدهما: ما قال القاضي في «المجرد» وأبو الخطاب وغيرهما: يبني كلُّ واحد منهما على يقين نكاحه.

والثَّاني: وهو اختيار الشِّيرازيِّ في «الإيضاح» وابن عقيل: أنَّه تخرُج

(2)

المطلَّقة منهما بالقرعة، وقال القاضي في «الجامع»: هو قياس المذهب؛ لأنَّ واحدة منهما طلقت يقيناً، فأخرجت بالقرعة، كما لو كانت الزَّوجتان لرجل واحد.

وذكر بعض الأصحاب احتمالاً، يقتضي وقوع الطَّلاق بهما حكماً، كما تجب الطَّهارة عليهما في المسألة الأولى.

وقد أومأ إليه أحمد في رواية صالح

(3)

، وحُكي له قول الشَّعبيِّ في رجل قال لآخر: إنَّك لحسود، فقال

(4)

الآخر: أحسدُنا امرأته طالق ثلاثاً، قال

(5)

الآخر: نعم، قال الشَّعبيُّ: حَنِثتما وحسدتما، وبانت منكما امرأتاكما جميعاً، وحُكي له قول الحارث: أُديِّنهما وآمرهما

(1)

في (ب): ففيهما.

(2)

في (ب): يخرج.

(3)

هو صالح بن الإمام أحمد، أبو الفضل، أكبر أولاده، سمع أباه وعلي بن الوليد الطيالسي،، وروى عنه ابنه زهير، وأبو القاسم البغوي، سمع من أبيه مسائل كثيرة، وكان الناس يكتبون إليه من خراسان ومن المواضع يسأل لهم أباه عن المسائل، فوقعت إليه مسائل جياد، توفي سنة (266 هـ). ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 173.

(4)

في (ب) و (ج): فقال له.

(5)

في (ب): فقال.

ص: 119

بتقوى الله، وأقول: أنتما أعلم وما

(1)

حلفتما عليه، فقال

(2)

أحمد: هذا شيء لا يدرك، ألقاهما في التَّهلكة

(3)

.

فإنكاره لقول الحارث يدلُّ على موافقته لقول الشَّعبيِّ بوقوع الطَّلاق بهما، هذا هو الظَّاهر، ذكره الشَّيخ تقيُّ الدِّين، وقال

(4)

: هذا

(5)

بناء على أنَّه لو

(6)

حلف على ما لا يعلم صحَّته أو ما لا

(7)

تدرك صحَّته؛ فيحنث؛ كقول مالك

(8)

.

ويدلُّ عليه تعليل أحمد وقوع الطَّلاق على من قال: أنت طالق إن شاء الله؛ بأنَّ مشيئة الله لا تدرك

(9)

.

(1)

في (ب) و (ن): بما.

(2)

في (ب): قال. (ج): وقال.

(3)

مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح 2/ 324.

(4)

مجموع الفتاوى 20/ 205.

(5)

قوله: (هذا) سقط من (ب).

(6)

قوله: (لو) سقط من (ب) و (د) و (ج) و (و) و (ن).

(7)

في (ب): لم.

(8)

هو أبو عبدالله مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الحميري المدني، إمام دار الهجرة، جلس للتدريس وهو ابن سبعة عشرة سنة، ولم يُفْتِ حتى شهد له سبعون إماماً بأنه أهل لذلك، من مصنفاته: الموطأ، رسالة في القدر، كتاب في التفسير لغريب القرآن، رسالة في الأقضية، توفي سنة 179 هـ بالمدينة، وله خمس وثمانون سنة. ينظر: طبقات الفقهاء 1/ 67، سير أعلام النبلاء 8/ 48.

(9)

جاء في مسائل الإمام أحمد برواية صالح (2/ 124): قلت: قول الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله؟ قال: أخاف أن يكون قد وقع الطلاق. وقال في الإنصاف (22/ 562) عن القول بوقوع الطلاق: (هذا المذهب، نص عليه في رواية الجماعة).

ص: 120

وهذا القول فيه بُعد؛ لأنَّ إيقاع طلاقهما يفضي إلى أن يباح للأزواج من هي في زوجيَّة الغير باطناً، وفي إجبارهما على تجديد الطَّلاق إجبار للإنسان على قطع ملكه بغير حقٍّ، وهو ضرر، بخلاف إيجاب الطَّهارة عليهما؛ فإنَّه لا ضرر فيه.

ولنا وجه آخر: بوجوب اعتزال كلٍّ منهما زوجته حتَّى يتيقَّن الأمر، ونصَّ عليه أحمد في رواية عبد الله

(1)

.

ونقل حرب

(2)

عن أحمد: أنَّه ذكر هذه المسألة؛ فتوقَّف فيها، وقال: أحبُّ إليَّ ألَّا أقول فيها شيئاً، وتوقَّف عنها

(3)

.

(1)

جاء في مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله (ص 373): قال: سألت أبي عن رجلين مرَّ عليهما طير، فقال أحدهما: امرأته طالق ثلاثًا إن لم يكن طيرًا، وقال الآخر: امرأته طالق ثلاثًا إن لم يكن غرابًا، فطار. قال أبي: يعتزلان نساءهن حتى يتبين.

وعبد الله: هو عبد الله بن الإمام أحمد، أبو عبد الرحمن، حدث عن أبيه وغيره، وروى عن أبيه مسائل كثيرة، وكان رجلًا صالحًا صادق اللهجة كثير الحياء، قال الخلال: وقع لعبد الله عن أبيه مسائل جياد كثيرة يغرب منها بأشياء كثيرة في الأحكام، فأما العلل فقد جوَّد عنه وجاء عنه بما لم يجئ به غيره. توفي سنة 290 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 183.

(2)

هو حرب بن إسماعيل بن خلف الحنظلي الكرماني، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله، كان رجلًا جليلًا، روى عن أحمد وإسحاق مسائل كثيرة، قال الخلال:(هي أربعة آلاف عن أبي عبد الله وإسحاق بن راهويه). ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 145.

(3)

جاء في مسائل حرب الكرماني (1/ 411): سألت أحمد عن الاستثناء في الطلاق، وكيف هو؟ قال: لا أقول في هذا شيئًا. وسمعت أحمد مرة أخرى عن الاستثناء في الطلاق، قال: لا أقول فيه شيئًا في الطلاق والعتاق، وأخاف أن نلزمه الطلاق. قلتُ: فإن قَدَّم الاستثناء، فقال: أنت إن شاء الله طالق؟ قال: هو واحد.

ص: 121

الصُّورة الثَّالثة: قال أحدهما: إن كان غراباً فأمتي حرَّة، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً فأمتي حرَّة، وفيها الوجهان المذكوران في الطَّلاق.

وقياس المنصوص ههنا: أن يكفَّ كلُّ واحد عن وطئ أمته حتَّى يُتيقَّن.

فإن

(1)

اشترى أحدهما أمة الآخر؛ عيّن

(2)

المعتقة منهما بالقرعة على أصحِّ الوجهين؛ لاجتماعهما في ملكه، وإحداهما عتيقة، كما قلنا: لا يصحُّ أن يأتمَّ أحدهما بالآخر في الصُّورة الأولى؛ لأنَّ أحدهما محدث يقيناً، فينظر لهما

(3)

مجتمعين في حكم يتعلَّق باجتماعهما.

وليس من هذه القاعدة: إذا وطئ اثنان امرأة بشبهة في طهر، وأتت بولد وضاع نسبه لفقد القافة أو غير ذلك، وأرضعت أمُّه بلبنه ولداً آخر؛ فإنَّه يصير حكم كلٍّ من الصَّغيرين حكم ولد لكلِّ واحد من الرَّجلين على الصَّحيح؛ لأنَّه لم يتعيَّن أن يكون الولد لواحد منهما، بل يجوز عندنا أن يكون لهما؛ فليس ممَّا نحن فيه

(4)

.

(1)

في (ب) و (ج): وإن.

(2)

في (ب): غير.

(3)

في باقي النسخ: إليهما.

(4)

كتب في هامش (و): (يعني: والقاعدة فيها: إذا وُجد سبب من أحدهما ولم يُعلم عينه حتَّى يلحق الحكم به فقط).

ص: 122

‌قاعدة [15]

إذا استصحبنا أصلاً، أو أعملنا ظاهراً في طهارة شيء

، أو حلِّه، أو حرمته، وكان لازم ذلك تغيُّرَ أصل آخر يجب استصحابه، أو تَرْك العمل بظاهر آخر يجب إعماله؛ لم يلتفت إلى ذلك اللَّازم

(1)

على الصَّحيح.

ولذلك صور:

منها: إذا استيقظ من نومه، فوجد في ثوبه بللاً، وقلنا: لا يلزمه الغسل - على ما سبق فيما إذا تقدَّم منه سبب المذي-؛ فلا يلزمه أيضاً غسل ثوبه؛ بحيث نقول

(2)

: إنَّما سقط عنه الغسل؛ لحكمنا بأنَّ البلل مذي، بل نقول في ثوبه: الأصل طهارته؛ فلا ينجس بالشَّكِّ، والأصل طهارة بدنه؛ فلا يلزمه الغسل بالشَّكِّ؛ فيبقى في كلٍّ منهما على أصله، ذكره ابن عقيل في «فنونه» عن الشَّريف أبي جعفر

(3)

.

(1)

كتب في هامش (و): (يعني أنَّ ذلك اللَّازم ليس مبنياً على أصل آخر، ولا على ترك العمل بظاهر آخر، ولا يلتفت إليه).

(2)

في (ب): (يقول).

(3)

هو عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن عيسى بن أحمد بن موسى، من بني العباس بن عبد المطلب، من كبار أصحاب القاضي أبي يعلى، أخذ الفقه عنه وعن أبي إسحاق البرمكي، وانتهت إليه في وقته الرحلة لطلب مذهب الإمام أحمد، له مصنفات عديدة، منها: رؤوس المسائل في الخلاف، توفي سنة 470 هـ. ذيل الطبقات 1/ 29.

ص: 123

وينبغي على هذا التَّقدير: أن لا يجوز له الصلاة في ذلك الثوب

(1)

قبل غسله؛ لأنَّا نتيقَّن وجود المفسد

(2)

للصَّلاة لا محالة.

ومنها: إذا لبس خفًّا، ثمَّ أحدث، ثمَّ صلَّى وشكَّ: هل مسح على الخفِّ قبل الصَّلاة أو بعدها - وقلنا: ابتداء المدَّة من المسح-؛ جعلنا ابتداءها قبل الصَّلاة

(3)

، وأوجبنا إعادة الصَّلاة؛ لأنَّ الأصل وجوب غسل الرِّجلين، والأصل بقاء الصَّلاة في الذِّمَّة.

ومنها: إذا رمى حيواناً مأكولاً بسهم ولم يُوحِه، فوقع في ماء يسير، فوجده ميتاً فيه؛ فإنَّ الحيوان لا يباح؛ خشية أن يكون الماء أعان على قتله، والأصل تحريمه حتَّى يتيقَّن وجود السَّبب المبيح له، ولا يلزم من ذلك نجاسة الماء أيضاً بحكمنا

(4)

على الصَّيد بأنَّه ميتة، بل نستصحب

(5)

في الماء أصل الطَّهارة؛ فلا ننجسه

(6)

بالشَّكِّ،

(1)

في (ب) و (هـ) و (ن): أن لا تجوز له الصَّلاة قبل الاغتسال في ذلك الوقت في ذلك الثَّوب.

(2)

كتب في هامش (و): (وهو أنَّ البلل إمَّا منِيٌّ؛ فيجب الغسل، أو مذي؛ فىجب غسل الثَّوب).

(3)

كتب في هامش (و): (يعني: والمسح مشكوك فيه).

(4)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): لحكمنا.

(5)

في (ب) و (د) و (و) و (هـ) و (ن): يستصحب.

(6)

في (ب) و (د) و (هـ)(و): ينجسه.

ص: 124

ذكره ابن عقيل في «فصوله» .

ومنها: لو قال لامرأته في غضب: اعتدِّي، وظهرت منه قرائن تدلُّ على إرادة التَّعريض بالقذف، أو فسَّره بذلك؛ فإنَّه يقع به الطَّلاق؛ لأنَّه كناية اقترن بها غضب.

وهل يحد معها

(1)

؟ ذكر ابن عقيل في «المفردات» احتمالين:

أحدهما - وبه جزم في «عُمَدِ الأدلَّة» -: أنَّه يحدُّ؛ لأنهما حقَّان عليه؛ فلا يصدق فيما يسقط واحداً منهما.

والثَّاني: لا يحدُّ؛ لأنَّه لو كان قذفاً؛ لم يكن طلاقاً

(2)

؛ لتنافيهما

(3)

.

ومن هذه القاعدة: الأحكام الَّتي يثبت بعضها دون بعض؛ كإرث الَّذي أقرَّ بنسبه مَن لا يثبت النَّسب بقوله، والحكم بلحوق النَّسب في مواضع كثيرة لا يثبت فيها لوازمه المشكوك فيها، من

(4)

بلوغ أحد أبويه، أو استقرار المهر، أو ثبوت العدَّة والرَّجعة أو الحدِّ

(5)

، أو ثبوت

(1)

قوله: (فإنَّه يقع به الطَّلاق؛ لأنَّه كناية اقترن بها غضب، وهل يحد معها) هي في (ب): فإنه يحدُّ بذلك، وهل يقع به الطلاق؟ ذكر ابن عقيل.

(2)

في (ب): لو كان طلاقاً، لم يكن قذفاً.

(3)

في (هـ) زيادة فوقها خط، وهي مثبتة في هامش (ج):(قال ابن عقيل معنى تنافيهما: بأنَّ كنايات القذف في حالة الخصومة كالصَّرائح، وصرائح القذف لا يقع بها الطَّلاق، ثمَّ ذكر في مسألة القذف بالكنايات أنَّها صرائح في حال الغضب).

(4)

كتب في هامش (و): (بيان لهذه اللوازم التي تلزم لحوق النسب).

(5)

قال ابن نصر الله رحمه الله: ذكر الحد في جملة لوازم النسب لا يصح؛ فإن الحد والنسب متنافيان، متى ثبت أحدهما انتفى الآخر، لا متلازمان، وإن انتفى الوصية والإرث، فيتوجه مثاله بصورة، وهي: أن يقر رجل بأخ؛ فإن أُخوَّته منه تثبت بذلك، بحيث لو مات المقِر ورثه المقَر به ميراث أخ، ومع ذلك لا يشارك المقَر به ورثة أبي المقِر في ميراثهم من أبيه إذا لم يصدِّقوا المقِر، ولا في وصيةٍ أوصى لهم بها.

ص: 125

الوصية له أو الميراث، وهي مسائل كثيرة.

ص: 126

‌قاعدة [16]

إذا كان للواجب بدل، فتعذَّر الوصول إلى الأصل حالة الوجوب

؛ فهل يتعلَّق الوجوب بالبدل تعلُّقاً مستقرًّا بحيث لا يعود إلى الأصل عند وجوده؟

للمسألة صور عديدة:

منها: هدي المتعة إذا عدمه، ووجب عليه الصِّيام، ثمَّ وجد الهدي قبل الشُّروع فيه؛ فهل يجب عليه الانتقال، أم لا؟

ينبني على أنَّ الاعتبار في الكفَّارات بحال الوجوب أو بحال الفعل؟ وفيه

(1)

روايتان:

فإن قلنا: بحال الوجوب

(2)

؛ صار الصوم أصلاً لا بدلاً، وعلى هذا؛ فهل يجزئه فعل الأصل وهو الهدي؟

المشهور: أنَّه يجزئه؛ لأنَّه الأصل في الجملة، وإنَّما سقط رخصة.

وحكى القاضي في «شرح المذهب» عن ابن حامد

(3)

: أنَّه لا يجزئه.

(1)

في (أ): فيه.

(2)

كتب في هامش (و): (وهو الصحيح).

(3)

هو الحسن بن حامد بن علي بن مروان أبو عبد الله البغدادي، إمام الحنبلية في زمانه ومدرسهم ومفتيهم، أكبر تلامذة أبي بكر غلام الخلال، وأخذ عن ابن بطة وأبي بكر النجاد وغيرهما، له المصنفات في العلوم المختلفات، منها: الجامع في المذهب، وتهذيب الأجوبة وغيرها، توفي سنة 403 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 2/ 171، سير أعلام النبلاء 17/ 203.

ص: 127

ومنها: كفَّارة الظِّهار واليمين ونحوهما، والحكم فيها كهدي المتعة.

ومنها: إذا أتلف شيئاً له مثل، وتعذَّر وجود المثل، وحكم الحاكم بأداء القيمة، ثمَّ وجد المثل قبل الأداء؛ وجب أداء المثلِ، ذكره الأصحاب؛ لأنَّه قدر على الأصل قبل أداء البدل؛ فلزمه كما لو وجد الماء قبل الصَّلاة.

وينبغي أن يحمل كلامهم على ما إذا قدر على المثل عند الإتلاف ثمَّ عدمه، أمَّا إن عدمه ابتداء؛ فلا يبعد أن يُخرَّج في وجوب أداء المثل خلاف

(1)

.

وأمَّا التَّيمم؛ فلا يشبه ما نحن فيه؛ لأنَّه لو وجد الماء بعد فراغه منه؛ لبطل، ووجب استعمال الماء بنصِّ الشَّارع، وههنا لو أدَّى القيمة؛ لبرئ، ولم يلزمه أداء المثل بعد وجوده.

وقال في «التَّلخيص» : على الأظهر. وهو يشعر بخلافٍ فيه.

ومنها: لو جعل الإمام لمن دلَّه على حصنٍ جارية

(2)

من أهله، فأسلمت بعد الفتح أو قبله، وكانت أمة؛ فإنَّه تجب له قيمتها إذا كان

(1)

كتب في هامش (و): (يعني: في أنَّه لا يجب).

(2)

كتب في هامش: (و): (أي: معيَّنة).

ص: 128

كافراً؛ لأنَّه تعذَّر تسليم عينها إليه، فوجب له البدل، فإن أسلم بعد إسلامها؛ فهل يعود حقُّه إلى عينها؛ فيه لأصحابنا وجهان:

أحدهما: لا يعود

(1)

؛ لأنَّ حقَّه استقرَّ في القيمة، فلا ينتقل إلى غيرها.

والثَّاني: بلى؛ لأنَّه إنَّما انتقل إلى القيمة لمانع، وقد زال؛ فيعود حقُّه إليها.

ومنها: لو أصدقها شجراً فأثمرت، ثمَّ طلَّقها قبل الدُّخول، وامتنعت من دفع نصف الثَّمرة مع الأصل؛ تعيَّنت له القيمة

(2)

.

فإن قال: أنا أرجع في نصف الشَّجر

(3)

، وأترك نصف الثَّمرة

(4)

عليها، أو أترك الرُّجوع حتَّى تَجُدِّي ثمرك، ثمَّ أرجع فيه؛ ففيه وجهان، حكاهما القاضي وغيره:

أحدهما: لا تجبر على قبول ذلك، وهو الَّذي ذكره ابن عقيل؛ لأنَّ الحقَّ قد

(5)

انتقل من الغير، فلم يعد إليها إلَّا بتراضيهما.

والثَّاني: تجبر عليه؛ لأنَّه لا ضرر عليها؛ فلزمها كما لو وجدها ناقصة فرضي بها.

(1)

في هامش (ن): (وهو ظاهر كلام جماعة من الأصحاب).

(2)

كتب في هامش (و): (أي: قيمة نصف الشجر).

(3)

كتب في هامش (و): (أي: قيمة نصف الشَّجر).

(4)

قوله: (نصف الثمرة) هي في (ب) و (ج) و (و) و (ن): الثمرة.

(5)

قوله: (قد) سقط من (ب) و (و) و (ن).

ص: 129

فعلى هذا: الحقُّ

(1)

باق في العين؛ لبقائها في ملكها، وكذا

(2)

ذكر القاضي في موضع من «المجرَّد» : أنَّه إذا لم يأخذ القيمة حتَّى قطع الطَّلع وعاد النَّخل كما كان، أنَّ للزَّوج الرَّجوع في نصفه.

ومنها: لو طلقها قبل الدُّخول وقد باعت الصَّداق، فلم يأخذ نصف قيمته حتَّى فُسخ البيع بعيب:

قال الأصحاب: ليس له أخذ نصفه؛ لأنَّ حقَّه وجب في القيمة

(3)

، ولم تكن العين حينئذ في ملكها.

ولا يبعد أن يتخرَّج فيه وجه آخر بالرُّجوع؛ كالَّتي قبلها.

وهذا إذا لم نقل: إنَّه يدخل في ملكه قهراً كالميراث.

فإن قلنا: يدخل قهراً؛ عاد حقُّه إلى العين بعودها إليه

(4)

كالميراث قهراً

(5)

.

ولا يقال: هذا عاد إليها ملكاً جديداً؛ فلا يستحقُّ الرُّجوع فيه، كما لا يستحقُّ الأب الرُّجوع فيما خرج عن ملك الابن ثمَّ عاد؛ لأنَّهم قالوا: لو عاد إليها قبل الطَّلاق؛ لرجع فيه بغير خلاف؛ لأنَّ حقَّه فيه ثابت بنصِّ القرآن.

(1)

كتب في هامش (و): (أي: حقُّ الزَّوج).

(2)

في باقي النسخ: وكذلك.

(3)

كتب في هامش (و): (أي: حين وجوب القيمة).

(4)

في باقي النسخ: (إليها).

(5)

قوله: (كالميراث قهراً) سقط من (ب) و (و).

ص: 130

وفي «شرح الهداية» لأبي البركات ما يدلُّ على عكس ما ذكرنا، وهو أنَّا إن قلنا: يدخل نصف المهر في ملك الزَّوج قهراً؛ فليس له العود

(1)

إلى عينه بحال؛ نظراً إلى أنَّ القيمة تقوم مقام العين عند امتناع الرُّجوع في العين؛ فيملك نصف القيمة قهراً حينئذ، فلا

(2)

ينتقل حقُّه عنها بعد ذلك.

ومنها: لو اشترى عيناً ورهنها، أو تعلَّق بها حقُّ شفعة أو جناية، ثمَّ أفلس، ثمَّ أسقط المرتهن والشَّفيع والمجني عليه

(3)

حقَّه؛ فالبائع أحقُّ

(4)

بها من الغرماء؛ لزوال المزاحمة على ظاهر كلام القاضي وابن عقيل، ذكره أبو البركات في «شرحه» .

ويتخرَّج فيه وجه آخر: أنَّه أسوة الغرماء.

(1)

في (ب) و (ن): الرُّجوع. وزاد في (و): وهو الصَّحيح.

(2)

في (ب) و (د) و (ج): ولا.

(3)

في باقي النسخ: أو الشَّفيع أو المجني عليه.

(4)

في (أ): حق.

ص: 131

‌قاعدة [17]

إذا تقابل عملان: أحدهما ذو شرف في نفسه ورفعة وهو واحد

، والآخر ذو تعدد في نفسه وكثرة، فأيُّهما يرجَّح؟ ظاهر كلام أحمد: ترجيح الكثرة.

ولذلك

(1)

صور:

أحدها: إذا تعارض صلاة ركعتين طويلتين، وصلاة أربع ركعات في زمن واحد؛ فالمشهور: أنَّ الكثرة أفضل.

وحكي عن أحمد رواية أخرى: بالعكس.

وحكي عنه رواية ثالثة: بالتَّسوية.

والثانية: أهدى بدنة سمينة بعشرة، وبدنتين بعشرة أو بأقلَّ.

قال ابن منصور: قلت لأحمد

(2)

: بدنتان سمينتان بتسعة وبدنة بعشرة، قال: ثنتان

(3)

أعجب إليَّ

(4)

(5)

.

(1)

في (ب): وكذلك.

(2)

قوله: (قلت لأحمد) سقط من (أ).

(3)

في (ب): بدنتان.

(4)

مسائل إسحاق بن منصور الكوسج 5/ 2294.

(5)

جاء في هامش (ب) و (ن): (ما نص عليه أحمد قول إسحاق بن راهويه، ونُقل عن طاوس مثله سواء في مصنف عبد الرزاق). زاد في هامش (ن): (من هامش النسخة المعتمدة).

ص: 132

ورجَّح الشَّيخ تقيُّ الدِّين تفضيل البدنة السَّمينة

(1)

، وفي «سنن أبي داود» حديث يدلَّ عليه

(2)

.

والثَّالثة: رجل قرأ بتدبر وتفكر سورة، وآخر قرأ في تلك المدَّة سوراً عديدة سرداً:

قال أحمد في رواية جعفر بن أحمد بن أبي قيماز

(3)

، وسئل: أيُّما أحبُّ إليك: التَّرسُّل أو الإسراع؟ قال: أليس قد جاء بكلِّ حرف كذا

(1)

المشهور عن الشيخ تقي الدين رحمه الله: تفضيل الأكثر ثمنًا، قال في مختصر الفتاوى المصرية (ص 525):(ومن ضحى بشاة ثمنها أكثر من ثمن البقرة كان أفضل من البقرة، فإنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصدقات أفضل؟ فقال: «أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها»)، وقال ابن مفلح في الفروع (6/ 86):(وعند الشيخ تقي الدين: الأجر على قدر القيمة مطلقًا)، وتبعه صاحب الإنصاف 9/ 333.

ولعل نقل المؤلف عن الشيخ تقي الدين هو فيما إذا تساوت القيمتان، فإنه يرجِّح الأسمن على الأكثر، والله أعلم.

(2)

لعله يشير إلى ما أخرجه أبو داود (2796)، والترمذي (1496)، والنسائي (4390)، وابن ماجه (3128)، من حديث أبي سعيد، قال:«كان رسول الله يضحي صلى الله عليه وسلم بكبش أقرن فحيل، ينظر في سواد، ويأكل في سواد، ويمشي في سواد» ، قال الترمذي:(حديث حسن صحيح)، وصححه الألباني.

(3)

هو جعفر بن أحمد بن أبي قيماز، وقيل: نيمان، الفقيه الأَذَني، قال الخلال: حافظ كثير الحديث، سمعت منه مسائل وحديثًا، وكان ضرير البصر، وكان عنده عن أبي عبد الله مسائل غرائب كلها سمعته منه. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 122.

ص: 133

وكذا حسنة

(1)

؛ قالوا له: في السُّرعة؟! قال: إذا صوَّر الحرف بلسانه ولم يسقط من الهجاء

(2)

.

وهذا ظاهر في ترجيح الكثرة على التَّدبُّر.

ونقل عنه حرب: أنَّه كره السُّرعة؛ إلَّا أن يكون لسانه كذلك لا يقدر أن يترسَّل

(3)

.

وحمل القاضي الكراهة على ما إذا لم يبيِّن الحروف.

ونقل عنه مثنَّى بن جامع

(4)

: في رجل أكل فشبع وأكثر الصَّلاة والصِّيام، ورجل أقلَّ الأكل، فقلَّت نوافله وكان أكثر

(5)

فِكْرة؛ أيُّهما أفضل؟ فذكر ما جاء في الفكر: تفكُّر ساعة خيرٌ من قيام ليلة. قال: فرأيت هذا عنده أكثر؛ يعني: الفكر

(6)

.

(1)

يشير إلى ما أخرجه الترمذي (2910) وغيره، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "ألم" حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» .

(2)

ذكر هذه الرواية ابن مفلح في الآداب الشرعية 2/ 311.

(3)

ينظر: مسائل حرب الكرماني، قسم الصلاة، ص 96.

(4)

هو مثنى بن جامع، أبو الحسن الأنباري، حدث عن الإمام أحمد وغيره، وكان الإمام أحمد يعرف قدره وحقه، ونقل عنه مسائل حسان. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 336.

(5)

في (ب) و (ج): أكثره.

(6)

في (ب) و (و): التَّفكُّر. تنظر الرواية وكلام مثنى في: طبقات الحنابلة 1/ 337.

ص: 134

وهذا يدلُّ

(1)

على تفضيل قراءة التَّفكُّر على السُّرعة، وهو اختيار الشَّيخ تقيِّ الدِّين

(2)

، وهو المنصوص صريحاً عن الصَّحابة والتَّابعين

(3)

.

والرَّابعة

(4)

: رجلان، أحدهما ارتاضت نفسه

(5)

على الطَّاعة، وانشرحت بها وتنعَّمت، وبادرت إليها طواعيةً ومحبَّة، والآخر يجاهد نفسه على تلك الطَّاعات ويكرهها عليها، أيهما أفضل؟

(6)

(1)

في (ب) و (ج) و (ن): وهذه تدلُّ.

(2)

ينظر: الفتاوى الكبرى 5/ 334.

(3)

ورد عن أبي الدرداء رضي الله عنه: أخرجه أحمد في الزهد (746)، وهناد في الزهد (2/ 468)، والبيهقي في الشعب (117)

وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أخرجه أبو الشيخ في العظمة (42).

وورد عن الحسن: أخرجه ابن أبي شيبة (35223)، وعن عمرو بن قيس الملائي: أخرجه أبو الشيخ في العظمة (48).

(4)

قال ابن نصر الله: هذه المسألة ليست من القاعدة، إذ ليس أحدهما أكثر طاعة من الآخر، بل عبادتهما متساوية، وإنما اختلفا في كيفية نفسيهما حال العبادة، ولعل المصنف لاحظ أن الذي يجاهد نفسه تعددت عبادته بالمجاهدة، ولكن قد يقال: الطمأنينة للعبادة عبادة أيضًا.

(5)

في (ب): بنفسه.

(6)

كتب في هامش (و): (كون هذه المسألة الرابعة من جزئيات القاعدة: هو أن المجاهد نفسه وجد منه عملان؛ الجهاد والطاعة، والمرتاضة نفسه وجد منه عمل الطاعة فقط).

ص: 135

قال الخلال: كتب إليَّ يوسف بن عبد الله الإسكافيُّ: حدَّثنا الحسن بن عليٍّ بن الحسن: أنَّه سأل أبا عبد الله عن الرَّجل يشرع له وجه برٍّ فيحمل نفسه على الكراهة، وآخر يشرع له فيسرُّ بذلك، فأيُّهما أفضل؟ فقال

(1)

: ألم تسمع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن تَعَلَّمَ القُرآنَ وَهُوَ كَبِيرٌ يَشُقُّ عَلَيْهِ؛ فَلَهُ أَجْرَانِ» ؟!

(2)

.

وهذا ظاهر في ترجيح المكرِه نفسه؛ لأنَّ له عملين: جهاداً، وطاعة أخرى، ولذلك كان له أجران، وهذا قول ابن عطاء

(3)

وطائفة من الصُّوفية من أصحاب أبي سليمان الدَّارانيِّ

(4)

.

(1)

في (ب) و (د) و (ج) و (هـ): قال.

(2)

ينظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأبي بكر الخلال، ص 15.

والحديث أخرجه البخاري (4937)، ومسلم (798)، من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ:«مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد فله أجران» .

(3)

هو أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء، أبو العباس، الأدمي، الصوفي، كان أحد شيوخهم الموصفين بالعبادة والاجتهاد، وكثرة الدرس للقرآن، صحب الجنيد بن محمد ومن فوقه من المشايخ، كان أبو سعيد الخراز يعظم شأنه، ينظر: طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي ص 212، تاريخ بغداد 6/ 164.

(4)

هو عبد الرحمن بن أحمد بن عطية، ويقال: عبد الرحمن ابن عطية، أبو سليمان الداراني، من أهل داريا قرية من قرى دمشق، قال الذهبي: الإمام الكبير، زاهد العصر. توفي سنة 215 هـ. ينظر: طبقات الصوفية ص 74، تاريخ دمشق 34/ 122، سير أعلام النبلاء 10/ 182.

ص: 136

وعند الجنيد

(1)

وجماعة من عبَّاد البصرة: أنَّ الباذل لذلك طوعاً ومحبة أفضل، وهو اختيار الشَّيخ تقيِّ الدِّين

(2)

؛ لأنَّ مقامه في طمأنينة النَّفس أفضل من أعمال متعددة، ولأنَّه من أرباب المنازل والمقامات، والآخر من أرباب السلوك والبدايات؛ فمثلهما كمثل رجلين: أحدهما مقيم بمكة يشتغل

(3)

بالطَّواف، والآخر يقطع المفاوز والقفار في السَّير إلى مكة؛ فعمله أشقُّ، والأوَّل أفضل

(4)

، والله أعلم.

الخامسة: تعارض عتق رقبة نفيسةٍ بمال، وعتق رقاب متعدَّدة بذلك المال.

قال القاضي وابن عقيل: الرِّقاب أفضل.

(1)

هو الجنيد بن محمد بن الجنيد، أبو القاسم، النهاوندي، ثم البغدادي، القواريري، شيخ الصوفية، أتقن العلم، ثم أقبل على شأنه، وتأله وتعبد، توفي سنة 298 هـ ينظر: طبقات الصوفية ص 129، سير أعلام النبلاء 14/ 66.

(2)

لم نقف على كلامه.

(3)

في (ب): مشتغل.

(4)

جاء في هامش (ن): (لا يقال: ليس هذا المثال نظيرًا للمسألة، فإن السير إلى مكة وسيلة إلى العبادة التي هي الطواف، لا نفس العبادة، والمسألة مفروضة في العبادتين لا في العبادة ووسيلتها، لأن المثال يراد للتوضيح، ثم هو مثال لأرباب المنازل والمقامات وأرباب السلوك والبدايات، لا للمسألة).

ص: 137

وفيه أيضاً نظر، وقد كان طائفة من السَّلف؛ كابن عمر

(1)

والربيع بن خثيم

(2)

يستحبَّان الصَّدقة بما يشتهيانه من الأطعمة؛ وإن كان المسكين ينتفع بقيمته أكثر

(3)

؛ عملاً بقوله تعالى: {لن تنالوا البرَّ حتَّى تنفقوا ممَّا تحبون} ، وهذا

(4)

في العتق أولى مع قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الرِّقَابِ أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَغْلَاهَا ثَمَنًا»

(5)

، والله أعلم.

(1)

من ذلك: ما أخرجه أبو داود في الزهد (305)، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، قال: قال ابن عمر رضي الله عنهما: «خطرت على قلبي هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، ففكرت فيما أعطاني الله، فلم يكن شيء أحب إلي من رميثة، فهي حرة لوجه الله تعالى، فلولا أن أكره أن أعود في شيء جعلته لله لنكحتها» ، ثم أنكحها نافعًا مولاه.

وأخرج أحمد في الزهد (1078)، عن مجاهد قريبًا من ذلك.

(2)

من ذلك: ما أخرجه أحمد في الزهد (1934)، عن عبد الله بن زبيد، عن الربيع بن خثيم، أنه جاءه سائل يسأل قال: فخرج إليه في ليلة باردة، قال: فإذا هو كأنه مقرور، فنزع بُرْنُسًا له فكساه، - كان يزعم أنه من خز - فأعطاه إياه، ثم تلا هذه الآية:{لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} .

والربيع بن خثيم: هو ابن عائذ، أبو يزيد الثوري، الكوفي، الإمام، العابد، أحد الأعلام، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل عنه، وهو قليل الرواية، إلا أنه كبير الشأن، وكان يعد من عقلاء الرجال، توفي سنة 65 هـ. ينظر: تهذيب الكمال 9/ 70، سير أعلام النبلاء 4/ 258.

(3)

جاء في هامش (ن): (ويطلب فائدة قوله أيضًا وفائدة ما حكاه عن السلف، ومناسبته لهذه المسألة).

(4)

في (أ): هذا.

(5)

أخرجه البخاري (2518)، ومسلم (84)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

ص: 138

‌قاعدة [18]

إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد في وقت واحد

(1)

، ليست إحداهما مفعولة على وجه القضاء

(2)

، ولا على طريق التَّبعيَّة

(3)

للأخرى في الوقت

(4)

؛ تداخلت أفعالهما، واكتُفيَ فيهما بفعل واحد.

وهو على ضربين:

أحدهما: أن يحصل له بالفعل الواحد العبادتان جميعاً، فيشترط أن ينويهما معاً على المشهور.

ومن أمثلة ذلك: من عليه حدثان أصغر وأكبر؛ فالمذهب: أنَّه يكفيه أفعال الطهارة الكبرى إذا نوى الطهارتين بها.

(1)

قوله: (في وقت واحد). سقط من (أ).

(2)

كتب على هامش (ن): (يحترز به عن المؤداة والمقضية إذا فُعلتا في وقت المؤداة، وأن أفعال أحدهما لا تدخل في الأخرى بلا خلاف).

(3)

كتب على هامش (ن): (يحترز به عن راتبة المكتوبة إذا فُعلت معها في الوقت، وأن أفعال أحدهما لا تدخل في الأخرى بلا خلاف).

(4)

كتب في هامش (و): (يحترز به عن الصَّلاة المجموعة مع الأخرى، فإنَّ غير صاحبة الوقت فعلت على طريق التَّبعيَّة للأخرى في الوقت).

ص: 139

وعنه: لا يجزئه عن الأصغر حتَّى يأتيَ بالوضوء.

واختار أبو بكر: أنَّه يجزئه عنهما إذا أتى بخصائص الوضوء من التَّرتيب والموالاة، وإلَّا فلا، وجزم به صاحب «المبهج»

(1)

.

ولو كان عادماً للماء، فتيمَّم تيمُّماً واحداً ينوي به الحدثين؛ أجزأه عنهما بغير خلاف، ونصَّ عليه أحمد في رواية مهنَّى.

ومنها: القارن إذا نوى الحجَّ والعمرة؛ كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد على المذهب الصَّحيح.

وعنه: لا بدَّ من طوافين وسعيين؛ كالمفرد

(2)

.

والقاضي وأبو الخطاب في «خلافيهما» حكيا هذه الرِّواية على وجه آخر، وهو أنَّه لا تجزئه العمرة الدَّاخلة في ضمن الحجِّ عن عمرة الإسلام

(3)

،

(1)

صاحب المبهج هو أبو الفرج عبد الواحد الشيرازي المقدسي، وتقدمت ترجمته .....

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: كما لو أفرد كلاً من النسكين بإحرام).

(3)

كتب على هامش (ن): (الظاهر أن مسألة إجزاء عمرة القران عن عمرة الإسلام غير مسألة إجزاء طواف واحد وسعي واحد للقارن، فإن تغايرهما ظاهر، فيكون في كل من المسألتين روايتان، ولا تكون هذه الرواية هي تلك، بل هذه هي مسألة أخرى، وهو أن عمرة القران لا تجزئ عن عمرة الإسلام، ولو أتى فيه بطوافين وسعيين).

ص: 140

بل عليه أن يأتيَ بعمرة مفردة بإحرام مفرد لها

(1)

(2)

.

ومنها: إذا نذر الحجَّ من عليه حجُّ الفرض، ثمَّ حجَّ حجَّة الإسلام؛ فهل يجزئه عن فرضه ونذره؟ على روايتين:

إحداهما: يجزئه عنهما، نصَّ عليه أحمد في رواية أبي طالب

(3)

، ونقله عن ابن

(4)

عبَّاس

(5)

، وهي اختيار أبي حفص

(6)

.

(1)

قال القاضي في التعليقة (2/ 65): (نص عليه في رواية الأثرم في القارن: ليس فيه شك أنه لا يجزئه قرانه مع عمرته، وهو بيِّنٌ في حديث عائشة، وإنما تكون العمرة تجزئ؛ لأنه يجيء به مفرداً بعمرة، فيكون قد أنشأ لها سفراً.

وكذلك قال في رواية بكر بن محمد فيمن يهل بحجة وعمرة: أخاف أن لا يجزئه من العمرة الواجبة.

وكذلك قال في رواية أبي طالب: ومن قرن لم تجزئه عمرته؛ لأنهما أمر واحد).

(2)

كتب على هامش (ن): (إذا فعل القارن محظوراً؛ فهل يلزمه فدية واحدة أو ثنتان؟ على روايتين؛ أشهرهما: واحدة، والثانية ذكرها في «الواضح»، وذكره القاضي تخريجاً إن قلنا: يلزمه طوافان وسعيان، وخص ابن عقيل هذه الرواية بالصيد).

(3)

جاء في كتاب الروايتين والوجهين لأبي يعلى (3/ 69): نقل أبو طالب: إذا نذر أن يحج ولم يكن حج حجة الإسلام؛ فيحج ويجزيه عنهما.

(4)

قوله: (ابن) سقط من (ب).

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (12739)، من طريق واصل مولى أبي عيينة قال: حدثني شيخ، سمع ابن عباس وأتته امرأة، فقالت: إني نذرت أن أحج، ولم أحج حجة الإسلام، فقال ابن عباس:«قضيتهما ورب الكعبة» .

(6)

هو عمر بن إبراهيم بن عبد الله، أبو حفص العكبري، يعرف بابن المسلم، معرفته بالمذهب المعرفة العالية، له التصانيف السائرة، مثل: المقنع، وشرح الخرقي، والخلاف بين أحمد ومالك، وغير ذلك من المصنفات، وكلها مفقود، كانت أكثر ملازمته لأبي عبد الله بن بطة، وصحب أيضاً أبا إسحاق بن شاقلا، توفي سنة 387 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 2/ 163.

ص: 141

والثَّانية: لا يجزئه

(1)

، نقلها ابن منصور وعبد الله، وهي المشهورة

(2)

.

وقد حمل بعض الأصحاب - كأبي الحسين في «التمام»

(3)

-

(1)

كتب في هامش (و): (أي: لا تجزئه عنهما، بل عن حجَّة الإسلام فقط).

(2)

جاء في مسائل إسحاق بن منصور الكوسج (5/ 2088)،: قلت: من نذر أن يحج ولم يحج حجة الإسلام؟ قال: لا يجزيه، يبدأ بفرض الله عز وجل عليه، ثم يقضي ما أوجب على نفسه، واحتج بحديث ابن عمر رضي الله عنهما.

وجاء في مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله (ص 220): سألت أبي قلت: من نذر أن يحج وما حج حجة الإسلام؟

قال: لا يجزئه، يبدأ بفريضة الله، ثم يقضي ما أوجب على نفسه، واحتج بحديث ابن عمر. قلت لأبي: فإن هو حج ولم يكن حج حجة الإسلام؟ قال: كان ابن عباس يقول: «يجزئه من حجة الإسلام» . وقال ابن عمر: «هذه حجة الإسلام أوف بنذرك» .

(3)

كتاب التمام لأبي الحسين الفراء، هو تتمة لكتاب والده:"الروايتين والوجهين"، وسماه:(التمام لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام، والمختار من الوجهين عن أصحابه العرانين الكرام).

وأبو الحسين: هو محمد بن محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء، القاضي الشهيد، أبو الحسين، ابن شيخ المذهب القاضي أبي يعلى، وتوفي والده وهو صغير، فتفقه على الشريف أبي جعفر، وبرع في الفقه، وأفتى وناظر، وكان عارفًا بالمذهب، متشدداً في السنة، وله من المصنفات: طبقات الحنابلة، التمام، المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد، توفي سنة 526 هـ. ينظر: ذيل الطبقات 1/ 391.

ص: 142

الرواية الأولى على صحَّة وقوع النذر قبل الفرض، وفَرَضَها فيما إذا نوى النَّذر أنَّه يجزئه عنه، ويبقى عليه حجَّة الإسلام.

ولا يصحُّ ذلك.

ومنها: إذا نذر صوم شهر يقدم فيه فلان، فقدم في أوَّل رمضان؛ هل يجزئه رمضان عن فرضه ونذره؟ على روايتين:

أشهرهما عند الأصحاب: لا يجزئه عنهما.

والثَّانية: يجزئه عنهما، نقلها المروذيُّ

(1)

، وصرَّح بها

(2)

الخرقيُّ في كتابه.

وحملها المتأخرِّون على أنَّ نذره لم ينعقد؛ لمصادفته رمضان

(3)

، ولا يخفى فساد هذا التَّأويل.

وعلى رواية الإجزاء: فقال صاحب «المغني» : لا بدَّ أن ينويه عن فرضه ونذره

(4)

.

(1)

هو أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز أبو بكر المروذي، وهو المقدم من أصحاب أحمد لورعه وفضله، وكان أحمد يأنس به وينبسط إليه، روى عنه مسائل كثيرة، توفي سنة 275 هـ. ينظر: تاريخ بغداد 6/ 104، طبقات الحنابلة 1/ 56.

(2)

في (ب): به.

(3)

كتب في هامش (و): (لأنَّ مصادفة رمضان إنَّما هي بعد انعقاد نذره، ولأنَّ كونه عنهما إنَّما هو حيث قلنا: بانعقاد النَّذر).

(4)

المغني 10/ 21.

ص: 143

وقال الشيخ مجد الدِّين: لا يحتاج إلى نية النذر، قال: وهو ظاهر كلام أحمد والخرقيِّ؛ لأنَّا نقدِّره كأنَّه نذر هذا النذر منجَّزاً عند القدوم؛ فجعله كالنَّاذر لصوم رمضان بجهة الفرضيَّة

(1)

. وفيه بُعد.

ولو نذر صوم شهر مطلق، فصام رمضان ينويه عنهما؛ فإنَّه يخرَّج على مسألة الحج، ذكره ابن الزاغونيِّ

(2)

وغيره.

ومنها: لو نذر الصَّدقة بنصاب من المال وقت حلول الحول؛ فهل تجب فيه الزكاة؟ على وجهين

(3)

.

وعلى القول بالوجوب؛ فهل تجزيه الصَّدقة به عن النَّذر والزَّكاة إذا نواهما؟ على وجهين.

واختيار

(4)

صاحب «المغني» : الإجزاء

(5)

. وخالفه صاحب «شرح الهداية» .

ومنها: لو طاف عند خروجه من مكَّة طوافاً واحداً، ينوي به الزيارة والوداع؛ قال الخرقيُّ

(6)

(7)

في «شرح المختصر» ، وصاحب «المغني»

(1)

كتب في هامش (و): (قوله: "بجهة الفرضيَّة" متعلِّق بـ"صوم").

(2)

هو علي بن عبيد الله بن نصر بن السري بن الزاغوني البغدادي، أبو الحسن، أحد أعيان المذهب، أخذ الفقه عن القاضي يعقوب البرزبيني، وصحبه ابن الجوزي زمانًا طويلًا، وله تصانيف كثيرة، منها: في الفقه: الإقناع، والواضح، والخلاف الكبير، والمفردات، وغيرها، توفي سنة 527 هـ. ينظر: ذيل الطبقات 1/ 403.

(3)

كتب على هامش (ن): (أصحهما: يجب).

(4)

في (ب) و (ج): واختار.

(5)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(6)

في (ب) وباقي النسخ: فقال الخرقي.

قلنا: المعروف عن الخرقي أنه لم يبق من مصنفاته سوى المختصر، قال في طبقات الحنابلة (2/ 75):(له المصنفات الكثيرة في المذهب لم ينتشر منها إلا المختصر في الفقه؛ لأنه خرج عن مدينة السلام لما ظهر سب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وأودع كتبه في درب سليمان، فاحترقت الدار التي كانت فيها الكتب ولم تكن انتشرت لبعده عن البلد).

إلا أن شرح المختصر للخرقي نقل عنه القاضي أبو يعلى في كتاب الروايتين والوجهين (1/ 254)، فقال:(وهو اختيار الخرقي ذكره في شرحه)، وكذا نقل عنه شيخ الإسلام في مجموع فتاويه (25/ 100) فقال:(وهذا اختيار الخرقي في شرحه للمختصر)، فلعل بعض من كان في زمانه نقل منه بعض الفوائد قبل احتراقه، والله أعلم.

(7)

كتب في هامش (و): (قال الخرقيُّ في «مختصره»: "وإن كان قد طاف للوداع؛ لم يجزئه لطواف الزَّيارة"، خلافاً لما ذكره المصنِّف).

ص: 144

في كتاب الصَّلاة: يجزئه عنهما

(1)

.

ويخرَّج

(2)

فيه خلاف من المسألة الَّتي بعدها.

ومنها: لو أدرك الإمامَ راكعاً، فكبَّر تكبيرة ينوي بها تكبيرة الإحرام والرُّكوع؛ فهل تجزئه؟ على روايتين، حكاهما أبو الخطاب وغيره.

واختار

(3)

القاضي: عدم الإجزاء

(4)

؛ للتَّشريك بين الركن وغيره، وأخذه من نصِّ أحمد فيمن رفع رأسه من الركوع وعطس، فقال: ربَّنا لك الحمد، ينوي به الواجب وسنَّة الحمد للعاطس؛ أنَّه لا يجزئه

(5)

.

(1)

ينظر: المغني 1/ 363.

(2)

في (ب) و (ج) و (هـ) و (ن): ويتخرَّج.

(3)

في (ب) و (ج): واختيار.

(4)

كتب في هامش (و): (وهو الصحيح).

(5)

جاء في مسائل أحمد برواية ابنه صالح (1/ 388)، ما نصه: وسألته عن رجل كان يصلي، فأراد أن يركع، فعطس، فلما رفع رأسه من الركوع قال: ربنا ولك الحمد، ينوي بذلك لما عطس وللركوع. قال: لا يجزيه إذا عطس في الصلاة، يحمد الله في نفسه.

ص: 145

واختار ابن شاقْلَا: الإجزاء، وشبَّهه بمن أخرج في الفطرة أكثر من صاع.

ولا يصحُّ هذا التَّشبيه

(1)

(2)

.

ومن الأصحاب من قال: إن قلنا: تكبيرة الركُّوع سنة؛ أجزأه، وحصلت السنة بالنية تبعاً للواجب، وإن قلنا: واجبة؛ لم يصحَّ التَّشريك. وفيه ضعفٌ.

وهذه المسألة تدلُّ على أنَّ تكبيرة الرُّكوع تجزئ في حال القيام

(3)

خلافَ ما يقوله المتأخرون.

والضَّرب الثَّاني: أن تحصل له إحدى العبادتين بنيَّتها، وتسقط عنه الأخرى.

(1)

قوله: (ولا يصحُّ هذا التَّشبيه) سقط من (أ).

(2)

كتب في هامش (و): (لأنَّ في الأوَّل تشريكاً بين الرُّكن وغيره، ولا كذلك في هذا فإنَّ الواجب قدر الصَّاع).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهذا هو مقتضى عبارة «المحرر» حيث يقول: ثم يكبر ويخر ساجداً، ولم يقل: ثم يخر ساجداً مكبراً، ولا ثم يسجد مكبراً، قال في «الفروع»: فلو شرع فيه قبل انتقاله أو كمَّله بعد انتهائه، فقيل: يجزئه؛ للمشقة لتكرره؛ كمن كمَّل قراءته راكعاً أو أتى بالتشهد قبل قعوده، وكما لا يأتي بتكبير ركوع أو سجود فيه، ذكره القاضي وغيره وفاقاً).

ص: 146

ولذلك أمثلة:

منها: إذا دخل المسجد وقد أقيمت الصَّلاة فصلَّى معهم؛ سقطت عنه التَّحيَّة.

ومنها: لو سمع السَّجدتين

(1)

معاً؛ فهل يسجد سجدتين أم يكتفي بواحدة؟

المنصوص في رواية البرزاطيِّ

(2)

: أنَّه يسجد سجدتين

(3)

.

ويتخرَّج: أن يكتفي بواحدة، وقد خرَّج الأصحاب في الاكتفاء بسجدة الصَّلاة عن سجدة التِّلاوة وجهاً

(4)

، فهنا أولى.

ومنها: إذا قدم المعتمر مكَّة؛ فإنَّه يبدأ بطواف العمرة، ويسقط عنه طواف القدوم

(5)

.

وقياسه: إذا أحرم بالحجِّ من مكَّة، ثمَّ قدم يوم النَّحر: أنَّه يجزئه طواف الزِّيارة عنه

(6)

(7)

.

(1)

في (ب): سجدتين.

(2)

هو الفرج بن الصباح البرزاطي، نقل عن الإمام أحمد أشياء. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 255، المقصد الأرشد 2/ 314.

(3)

ذكرها ابن القيم في بدائع الفوائد (4/ 57) عن مسائل البرزاطي، قال: قلت: رجل دخل المسجد ورجلان يقرآن سورتين فيهما سجدة فسجدا جميعًا؟ قال: إذا سمعهما جميعًا يقرآن السجدة وقد سجدا سجد الرجل سجدتين.

(4)

في (ج) و (هـ): وجهان.

(5)

قال ابن نصر الله: فلو نواهما بطوافه؛ فالظاهر أنه كما لو نوى بطوافه الزيارة والوداع، وقد تقدم أنه يجزئ عنهما.

(6)

قوله: (عنه) سقط من (أ) و (ج).

(7)

كتب على هامش (ن): (أي: عن طواف القدوم). وكتب في هامش (و): (أي: ويسقط عنه طواف القدوم).

ص: 147

والمنصوص ها هنا: أنَّه يطوف قبله للقدوم

(1)

.

وخالف فيه صاحب «المغني» ، وهو الأصحُّ.

ومنها: إذا صلَّى عقب الطَّواف مكتوبةً؛ فهل يسقط عنه ركعتا الطَّواف؟ على روايتين:

قال أبو بكر: الأقيس أنَّها لا تسقط.

ونقل أبو طالب عن أحمد: يجزئه، ليس هما واجبتين

(2)

، ونقل الأثرم

(3)

عنه: أرجو أن يجزئه.

وهذا

(4)

قد يشعر أنَّه

(5)

قد

(6)

يحصل له بذلك: الفرض وركعتا الطَّواف؛ فيكون من الضَّرب الأوَّل، لكن لا تعتبر هنا نيَّة ركعتي الطَّواف.

(1)

جاء في رواية الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله رحمه الله: فإذا رجع إلى منًى - أعني المتمتع - كم يطوف ويسعى؟ قال: يطوف ويسعى لحجه، ويطوف طوافًا آخر للزيارة. عاودناه في هذا غير مرة، فثبت عليه. ينظر: المغني 3/ 392.

(2)

كتب في هامش (و): (أي: ركعتا الطَّواف).

(3)

هو أحمد بن محمد بن هانئ الطائي، ويقال الكلبي، الأثرم، الإسكافي، أبو بكر، جليل القدر، حافظ إمام، نقل عن الإمام أحمد مسائل كثيرة، وصنفها ورتبها أبوابًا. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 66.

(4)

كتب في هامش (و): (أي: لفظ الإجزاء). وكتب على هامش (ن): (أي: التعبير بالإجزاء في كل من النصين).

(5)

في (ب) وباقي النسخ: بأنَّه.

(6)

قوله: (قد) سقط من في (ب) و (د) و (ج) و (هـ).

ص: 148

ويشبه هذا

(1)

: الرِّواية الَّتي حكاها أبو حفص البرمكيُّ عن أحمد في الجنب إذا اغتسل، ينوي الجنابة وحدها: أنَّه يرتفع حدثه الأصغر تبعاً، وهي اختيار الشَّيخ تقيِّ الدِّين

(2)

.

وقد يقال: المقصود أن يقع عقب

(3)

الطَّواف صلاة

(4)

، كما أنَّ المقصود أن يقعَ قبل الإحرام صلاة، فأيُّ صلاة وجدت؛ حصَّلت المقصود.

ومنها: لو أخَّر طواف الزِّيارة إلى وقت خروجه، فطافه؛ فهل يسقط عنه طواف الوداع أم لا

(5)

؟ على روايتين.

ونصَّ في رواية ابن القاسم على سقوطه

(6)

.

ومنها: إذا أدرك الإمامَ راكعاً، فكبَّر للإحرام؛ فهل يسقط عنه تكبيرة الرُّكوع؟ على روايتين أيضاً، والمنصوص عنه: الإجزاء.

(1)

كتب في هامش (و): (أي: هذه المسألة في عدم اعتبار نيَّة ركعتي الطَّواف مع أنَّ المكتوبة تجزئ عنها).

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى 21/ 299.

(3)

في (ب) و (د) و (هـ) و (و): عقيب.

(4)

كتب في هامش (و): (سياق قوله: وقد يقال

إلخ، يقتضي سقوط ركعتي الطَّواف بفعل المكتوبة).

(5)

كتب في هامش (ن): (أي: ولم ينو به إلا الزيارة خاصة، ولم ينو مع ذلك الوداع، وهذا بخلاف المسألة السابقة، فإنه هناك نواهما معًا، فعلى القول بالإجزاء؛ يحصلان له، وهنا إنما يحصل له طواف الزيارة، ويسقط طواف الوداع).

(6)

هو أحمد بن القاسم، صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام، حدث عن أبي عبيد وعن الإمام أحمد بمسائل كثيرة، ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 55.

تنظر نسبة الرواية في: الهداية لأبي الخطاب ص 197.

ص: 149

وهل يشترط أن ينوي بها تكبيرة الافتتاح أم لا؟ على روايتين، نقلهما عنه ابن

(1)

منصور:

إحداهما: لا يشترط، بل يكفيه أن يكبِّر بنيَّة الصَّلاة؛ وإن لم يستحضر بقلبه أنَّها تكبيرة الإحرام، كما لو أدرك الإمام في القيام

(2)

.

والثَّانية

(3)

: لا بدَّ أن ينوي بها الافتتاح؛ لأنَّه قد اجتمع ههنا تكبيرتان، فوقع الاشتراك؛ فاحتاجت تكبيرة الإحرام إلى نيَّة تميِّزها، بخلاف حال القيام؛ فإنَّه لم يقع فيه اشتراك

(4)

.

ومنها: إذا اجتمع في يومٍ جمعةٌ وعيد؛ فأيُّهما قدَّم أوَّلًا في الفعل؛ سقط به الثَّاني، ولم يجب حضوره مع الإمام.

وفي سقوطه عن الإمام روايتان.

(1)

قوله: (ابن) سقط من (و).

(2)

كتب في هامش (و): (أي: قبل ركوعه).

جاء في مسائل إسحاق بن منصور (2/ 517)، عن أحمد أنه قال: إذا جاء والإمام راكع كبر تكبيرة وركع، حديث زيد وابن عمر رضي الله عنهما. قيل له: ينوي بها الافتتاح؟ قال: نوى أو لم ينو، ما نعلم أحداً قال: ينوي، أليس جاء وهو يريد الصلاة؟!

(3)

كتب في هامش (و): (وهي الصَّحيحة).

(4)

جاء في مسائل إسحاق بن منصور (2/ 520)، ما نصه: فإن كبر واحدة نوى بها الافتتاح، ثم ركع ولم يكبر له أجزأه، هكذا معنى قول زيد بن ثابت، وإن كبر تكبيرة لم ينو بها افتتاحها لم يجزه، لما جاء:«مفتاح الصلاة التكبير» ، ولا بد من إحداث نية إذا دخلها.

ص: 150

وعلى رواية عدم السُّقوط

(1)

: فيجب أن يحضر معه من تنعقد به تلك الصَّلاة، ذكره صاحب «التَّلخيص» وغيره؛ فتصير الجمعة ههنا فرض كفاية

(2)

تسقط بحضور أربعين

(3)

.

ومنها: إذا اجتمع عقيقة وأضحية؛ فهل تجزئ الأضحية عن العقيقة أم لا؟ على روايتين منصوصتين.

وفي معناه: لو اجتمع هدي وأضحية.

واختيار الشَّيخ تقيِّ الدِّين: أنَّه لا تضحية بمكَّة، وإنَّما هو الهدي

(4)

.

ومنها: اجتماع الأسباب الَّتي تجب بها الكفَّارات وتتداخل

(5)

في الأيمان والحجِّ والصِّيام والظِّهار وغيرها، فإذا أخرج كفَّارة واحدة عن واحد منها معيَّن؛ أجزأه، وسقطت سائر الكفَّارات.

وإن كان مبهماً، فإن كانت

(6)

من جنس واحد؛ أجزأه أيضاً وجهاً واحداً عند صاحب «المحرَّر» .

وعند صاحب «التَّرغيب»

(7)

أنَّ فيه وجهين.

(1)

كتب في هامش (ن): (أي: عن الإمام).

(2)

قال ابن نصر رحمه الله: على غير الإمام إن كان أهل البلد أكثر من أربعين.

(3)

كتب في هامش (و): (ويتخرَّج: أن يصير فرض عين في أربعين).

(4)

ينظر: الفتاوى الكبرى 5/ 385.

(5)

كتب في هامش (و): (أي: الكفَّارات).

(6)

كتب في هامش (ن): (أي: الأسباب).

(7)

هو الفخر ابن تيمية، وتقدمت ترجمته ص ....

ص: 151

وإن كانت من جنسين؛ فوجهان في اعتبار نيَّة التَّعيين

(1)

.

وأمَّا الأحداث الموجبة للطهارة من جنس

(2)

أو جنسين موجَبُهما واحد؛ فيتداخل موجَبُهما

(3)

بالنِّيَّة أيضاً بغير إشكال.

وإن نوى أحدها

(4)

؛ فالمشهور: أنَّه يرتفع الجميع، ويتنزَّل ذلك على التَّداخل، كما قلنا في الكفَّارات، أو على أنَّ الحكم الواحد يعلَّل بعلل مستقلَّة، فإذا نوى رفع حدث البعض؛ فقد نوى واجبه، وهو واحد لا تعدُّد فيه.

وعن أبي بكر: لا يرتفع إلَّا ما نواه، قال في «كتاب المقنع»: إذا أجنبت المرأة ثمَّ حاضت؛ يكون الغسل الواحد لهما جميعاً إذا نوتهما به.

ويتنزَّل هذا على أنَّه لا يعلَّل الحكم الواحد بعلَّتين مستقلَّتين، بل إذا اجتمعت أسباب موجِبة؛ تعدَّدت الأحكام الواجبة بتعدُّد أسبابها، ولم تتداخل وإن كانت جنساً واحداً.

ورجَّح صاحب «المحرَّر» قول أبي بكر في غسل الجنابة والحيض؛ لأنَّهما مختلفا الأحكام؛ إذ المنع المرتَّب على الحيض يزيد على المنع

(1)

كتب في هامش (و): (أي: لأحد الجنسين أم يكفي إخراجها من غير تعيين).

(2)

كتب في هامش (ن): (قوله: "من جنس" متعلق بالأحداث لا بالطهارة).

(3)

في (ب) و (ج) و (هـ): موجبها.

(4)

كتب في هامش (ن): (أي: أحد الأحداث).

ص: 152

المترتِّب على الجنابة

(1)

بخلاف غيرهما؛ فهما كالجنسين، وغيرهما كالجنس الواحد.

ومن الأصحاب من قال: إن نوت رفع حدث الحيض ارتفعت الجنابة؛ لدخول موانعها فيه، ولا عكس.

(1)

في (ج): الجنابة والحيض. وزاد في (د) و (هـ): لأنَّهما لا مختلفا الأحكام.

ص: 153

‌قاعدة

(1)

[19]

إمكان الأداء ليس بشرط في استقرار الواجبات بالشَّرع في الذِّمة على ظاهر المذهب

.

ويندرج تحت ذلك صور:

منها: الطَّهارة، فإذا وصل عادم الماء إلى الماء وقد ضاق الوقت؛ فعليه أن يتطهَّر ويصلِّي بعد الوقت، ذكره صاحب «المغني» .

وخالفه صاحب «المحرر» ، وقال: يصلِّي بالتَّيمم

(2)

، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية صالح.

ومنها: الصَّلاة، فإذا طرأ على المكلف ما يُسقِط تكليفه

(3)

بعد الوقت وقبل التَّمكُّن من الفعل؛ فعليه القضاء في المشهور.

وقال ابن بطة

(4)

،

(1)

سقطت هذه القاعدة من (ب).

(2)

ينظر: المحرر 1/ 23.

(3)

كتب على هامش (ن): (كالجنون والحيض والنفاس).

(4)

هو الإمام العلامة عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، أبو عبد الله العكبري، المعروف بابن بطة، قال عبد الواحد العكبري: لم أر في شيوخ الحديث ولا في غيرهم أحسن هيئة من ابن بطة، وله مصنفات كثيرة، قيل: إن مصنفاته تزيد على مائة مصنف، توفي سنة 387 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 16/ 529، المدخل لابن بدران ص 499.

ص: 154

وابن أبي موسى

(1)

: لا قضاء عليه

(2)

.

ومنها: الزكَّاة، فإذا تلف النِّصاب قبل التمكُّن من الأداء؛ فعليه أداء زكاته على المشهور؛ إلَّا المعشَّرات إذا تلفت بآفَة سماويَّة؛ لكونها لم تدخل تحت يديه؛ فهي كالدَّين التَّاوي

(3)

قبل قبضه.

وخرَّج الشِّيرازيُّ وغيره وجهاً

(4)

بالسقوط مطلقاً.

ومنها: الصِّيام، فإذا بلغ الصَّبي مفطراً في أثناء يوم من رمضان، أو أسلم فيه كافر، أو طهرت حائض؛ لزمهم القضاء على أصحِّ الرِّوايتين.

ومنها: الحجُّ؛ فلا يشترط لثبوت وجوبه في الذمة التمكُّن من الأداء على أظهر الروايتين، وإنما يشترط

(5)

للزوم أدائه بنفسه.

(1)

هو القاضي محمد بن أحمد بن أبي موسى، أبو علي الهاشمي، إليه انتهت رئاسة المذهب، صحب أبا الحسن التميمي من الأصحاب، له من المصنفات: الإرشاد إلى سبيل الرشاد، وشرح الخرقي، توفي سنة 428 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 2/ 182.

(2)

ينظر: الإرشاد ص 50.

(3)

قال في تاج العروس (37/ 258): (في الصحاح: التوى: هلاك المال. وقال غيره: ذهاب مالٍ لا يُرجى).

(4)

كتب على هامش (ن): (سيأتي في القواعد حكاية رواية مجزوم بها بدل هذا الوجه، ولعل هذا التخريج من مسألة بلوغ الصبي في أثناء يوم من رمضان؛ فإنه لا يلزمه قضاؤه على إحدى الروايتين).

(5)

كتب في هامش (و): (أي: التَّمكُّن من الأداء).

ص: 155

وأمَّا قضاء العبادات: فاعتبر الأصحاب له إمكان الأداء

(1)

، فقالوا فيمن أخَّر قضاء رمضان لعذر ثمَّ مات قبل زواله: إنَّه لا يطعَم عنه

(2)

، وإن مات بعد زواله والتَّمكن من القضاء: أطعم عنه.

وأمَّا المنذورات؛ ففي اشتراط التَّمكُّن من الأداء لها

(3)

وجهان، فلو نذر صياماً أو حجًّا، ثمَّ مات قبل التَّمكُّن منه؛ فهل يُقضى عنه؟ على الوجهين

(4)

.

وعلى القول بالقضاء؛ فهل يُقضى الصِّيام الفائت بالمرض خاصَّة، أم الفائت بالمرض وبالموت؟ أيضاً على وجهين.

(1)

كتب على هامش (ن): (لعل سبب ذلك أن القضاء يقصد منه الفعل، والإمكان شرط فيه، بخلاف الوجوب في الذمة).

(2)

كتب على هامش (ن): (قال في «المحرر»: وإن نذر صوم شهر بعينه فجُنَّ جميعه لم يلزمه قضاؤه على الأصح، وإن أفطره لعذر أو غيره لزمه قضاؤه متتابعاً، وعنه: لا يجب التتابع).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: في اشتراط التمكن من الأداء لاستقرار وجوبه في الذمة).

(4)

كتب على هامش (ن): (أحدهما: لا؛ لعدم استقرار وجوبه؛ لكونه أدنى مرتبة من واجب الشرع، والثاني: نعم، كواجب الشرع).

ص: 156

‌قاعدة [20]

النَّماء المتولِّد من العين حكمه حكم الجزء، والمتولِّد من الكسب بخلافه على الصَّحيح

(1)

.

ويظهر أثر ذلك في مسائل:

منها: لو كان عنده دون نصاب، فكمَّل نصاباً بنتاجه؛ فهل يحسب

(2)

حوله من حين كمل، كما لو كان النِّتاج من غيره، أو من حين ملك الأمَّهات؛ لأنَّ النِّتاج جزء من الأمهات

(3)

، فهو موجود فيها بالقوَّة من أوَّل الحول؟ في المسألة روايتان

(4)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (قوله: "على الصحيح" يقتضي أن يجيء هنا خلاف أيضاً؛ لأنه فرعُ أصلٍ مختلف فيه).

(2)

في (ب): يحتسب.

(3)

كتب على هامش (ن): (قال في «الفروع»: فعلى هذه الرواية - يعني رواية احتساب الحول من حين ملك الأمهات، وهي رواية حنبل -؛ لو أبدل بعض نصاب بنصاب من جنسه؛ كعشرين شاة بأربعين؛ احتمل أن يبني على حول الأولى، واحتمل أن يبتدئ الحول من كمال النصاب؛ لأنه ليس بنماء من عينه؛ كربح التجارة).

(4)

كتب في هامش (و): (الصَّحيح: أنَّه يحتسب الحول من حين كمل).

ص: 157

ولو كان له مائة وخمسون درهماً، فاتَّجر بها حتى صارت مائتين؛ فحولها من حين كملت بغير خلاف؛ لأنَّ الكسب متولِّد من خارج، وهو رغبات النَّاس، لا من نفس العين.

ومنها: لو عجَّل الزكَّاة عن نماء النِّصاب قبل وجوده؛ فهل يجزئه

(1)

؟ فيه ثلاثة أوجه

(2)

:

ثالثها: يفرَّق بين أن يكون النَّماء نصاباً فلا يجوز؛ لاستقلاله بنفسه في الوجوب، وبين أن يكون دون نصاب فيجوز

(3)

؛ لتبعيَّته للنِّصاب في الوجوب.

ويتخرَّج وجه رابع: بالفرق بين أن يكون النَّماء نتاج ماشية أو ربح تجارة؛ فيجوز في الأوَّل دون الثَّاني، من المسألة

(4)

الَّتي قبلها.

ومنها: لو اشترى شيئاً فاستغلَّه ونما عنده، ثمَّ ردَّه بعيب، فإن كان نماؤه كسباً؛ لم يرده معه، قال كثير من الأصحاب: بغير خلاف

(5)

.

وإن كان متولِّداً من عينه؛ كالولد واللَّبن والصُّوف الحادث وثمر

(1)

كتب في هامش (و): (الصَّحيح: أنَّه لا يجوز تعجيل الزَّكاة عن النَّماء قبل وجوده مطلقاً).

(2)

كتب على هامش (ن): (المذهب: عدم الإجزاء).

(3)

في (ب) و (ج): فيجزئ.

(4)

كتب على هامش (ن): (لعله: كما في المسألة) ثم علَّق آخر على ذلك بقوله: (هذا [

] كان في نسخة بلفظ من، وليس كذلك).

(5)

كتب على هامش (ن): (ذكر في «الكافي» في الكسب أيضاً روايتين).

ص: 158

الشَّجر؛ فهل يردُّه معه؟ على روايتين معروفتين

(1)

.

ومنها: لو قارض المريض في مرض الموت، وسمَّى للعامل أكثر من تسمية مثله؛ صحَّ ولم يحتسب من الثُّلث

(2)

.

ولو ساقى وسمى للعامل أكثر من تسمية المثل؟ فوجهان؛ أشهرهما: أنَّه يعتبر

(3)

من الثُّلث؛ لحدوث الثَّمر من عين ملكه.

ومنها: لو فسخ المالك المضاربة قبل ظهور الرِّبح؛ لم يستحقَّ المضارب شيئاً، ولو فسخ المساقاة قبل ظهور الثَّمرة؛ استحقَّ العامل أجرة المثل؛ لأنَّ الرِّبح لا يتولَّد من المال بنفسه، وإنَّما يتولَّد من العمل

(4)

، ولم يحصل بعمله ربح، والثَّمر يتولَّد

(5)

من عين الشَّجر، وقد عمل على الشَّجر عملاً مؤثراً في الثَّمر؛ فكان لعمله تأثير في حصول الثَّمر وظهوره بعد الفسخ.

(1)

كتب على هامش (ن): (قدم في «المحرر»: أنه لا يلزم رده معه).

وكتب في هامش (و): (الصَّحيح: أنَّ النَّماء المنفصل لا يردُّ، وإنَّما ردَّ الولد لأجل العذر).

(2)

كتب في هامش (و): (لأنَّ النَّماء إنَّما حصل من الكسب). وكتب على هامش (ن): (لأن الربح من خارج، لا من العين، فليس حكمه حكم الجزء).

(3)

في هامش (ب): (الزيادة على تسمية المثل).

(4)

كتب في هامش (و): (أي: بعمل المضارب).

(5)

في (ب) وباقي النسخ: متولد.

ص: 159

ومنها: أنَّ المشاركة

(1)

بين اثنين بمالِ أحدهما وعمل الآخر إن كانت المشاركة فيما

(2)

سمّى

(3)

من العمل كالرِّبح

(4)

؛ جاز؛ كالمضاربة، وكمن دفع دابَّته أو عبده إلى من يعمل عليه بجزء من كسبه، فإنَّه يجوز على الأصحِّ.

وإن كانت المشاركة فيما يحدث من عين المال؛ كدرِّ الحيوان ونسله؛ ففيه روايتان.

وكثير من الأصحاب يختار

(5)

فيه المنع؛ لأنَّ العامل لا يثبت حقُّه في أصل عين المال، والمتولِّد من العين حكمه حكمها، ولكن هذا ممنوع عند من أجاز الاستئجار على حصاد الزَّرع بجزء منه أو على نسج الثَّوب ببعضه، وذلك منصوص عن أحمد أيضاً.

واستثنى من ذلك

(6)

أبو الخطَّاب في «انتصاره» ثمرَ الشَّجر، فإذا عمل الشَّريكان في شجر بينهما نصفين، وشرط التَّفاضل في ثمره

(7)

؛

(1)

في (ج): المضاربة.

(2)

في (ب): ممَّا.

(3)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): ينمو. وفي (و): ينمي.

(4)

كتب على هامش (ن): (والربح كسب، فليس حكمه حكم الجزء).

(5)

في (ب): اختار.

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: الجواز في النص، كما هو جائز "عند من أجاز الاستئجار

إلخ").

(7)

في (ب): ثمنه.

ص: 160

جاز عنده، وفرَّق بين الثَّمر وغيره ممَّا يتولَّد من عين المال؛ بأنَّ

(1)

للعمل تأثيراً في حصول الثَّمر بخلاف غيره، ولهذا المعنى جازت المساقاة.

فأمَّا الإجارة المحضة

(2)

؛ فتجوز فيما ينتفع به

(3)

باستغلاله وإجارته من العقار وغيره، ولا يجوز فيما ينتفع بأعيانه؛ إلَّا فيما استثني من ذلك للحاجة؛ كالظِّئر ونحوها.

وعند الشَّيخ تقيِّ الدِّين: أنَّ الأعيان الَّتي تستخلف شيئاً فشيئاً حكمها حكم المنافع، فيجوز استيفاؤها بعقد الإجارة، كما يستوفى بالوقف

(4)

والوصيَّة

(5)

.

(1)

في (ب): لأنَّ.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: التي ليس فيها شائبة شركة).

(3)

قوله: (به): سقط من في (ب) و (ج) و (د).

(4)

في (ب): من الوقف.

(5)

ينظر: مجموع الفتاوى 20/ 550.

ص: 161

‌قاعدة [21]

وقد يختصُّ الولد من بين سائر النَّماء المتولِّد من العين بأحكام

.

ويعبَّر عن ذلك بأنَّ الولد هل

(1)

هو كالجزء أو كالكسب؟ والأظهر

(2)

: أنَّه جزء.

فمن ذلك: لو ولدت الأمة الموقوفة ولداً؛ فهل يكون ملكاً

(3)

للموقوف عليه كثمرة الشَّجرة

(4)

، أو يكون وقفاً معها؟ على وجهين؛ أشهرهما: أنَّه وقف معها؛ لأنَّه جزء منها، ولهذا يصحُّ وقفه ابتداء

(5)

، بخلاف الثَّمرة.

ومنها: لو ولدت الموصى بمنافعها، فإن قلنا: الولد كسب؛ فكلُّه

(6)

لصاحب المنفعة، وإن قلنا: هو جزء، ففيه وجهان:

(1)

قوله: (هل) سقط من (أ).

(2)

كتب على هامش (ن): (مقابل الأظهر: أن الولد كسب لا جزء، وهو وجه غريب).

(3)

كتب على هامش (و): (يعني: ملكًا مطلقًا).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: الموقوفة).

(5)

قوله: (وقفه ابتداء) هي في (ب): ابتداء الوقف عليه.

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: رقبته ومنفعته).

ص: 162

أحدهما: أنَّه بمنزلتها

(1)

(2)

.

والثَّاني

(3)

: أنَّه للورثة؛ لأنَّ الأجزاء لهم دون المنافع.

ومنها: هل يتبع الولد أُمَّه في الكتابة الفاسدة

(4)

كالصَّحيحة؟

فإن قلنا: هو جزء منها؛ تبعها.

وإن قلنا: هو كسب؛ ففيه وجهان بناء على سلامة الأكساب

(5)

في الكتابة الفاسدة

(6)

.

(1)

في (ب): بمنزلها.

(2)

كتب على هامش (ن): (فتكون رقبته للورثة، ومنافعه للموصى له).

(3)

كتب في هامش (و): (وهو الصَّحيح).

(4)

كتب في هامش (ن): (وهو المذهب).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: للمكاتب، ففيه وجهان في «الفروع» وغيره).

(6)

في هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 163

‌قاعدة [22]

العين المنغمرة في غيرها إذا لم يظهر أثرها؛ فهل هي كالمعدومة حكماً أو لا

؟

فيه خلاف، وينبني عليه مسائل:

منها: الماء الَّذي استهلكت فيه النَّجاسة، فإن كان كثيراً؛ سقط حكمها بغير خلاف.

وإن كان يسيراً؛ فروايتان.

ثمَّ من الأصحاب من يقول: إنَّما سقط حكمها، وإلَّا فهي موجودة.

ومنهم من يقول: بل الماء أحالها؛ لأنَّ له قوَّة الإحالة، فلم يبق لها وجود، بل الموجود غيرها وهو عين طاهرة، وهي طريقة أبي الخطَّاب

(1)

.

ومنها: اللَّبن المشوب بالماء المنغمر فيه؛ هل يثبت به

(2)

تحريم الرَّضاع؟ فيه وجهان:

(1)

كتب على هامش (ن): (لعل فائدة هذا الخلاف: أن الحكم بطهارة الماء هل هو على سبيل العفو، أو لعدم نجاسةٍ فيه أصلاً؟ إن قلنا: هي موجودة؛ فهو على سبيل العفو، وإلا فلعدم النجاسة).

(2)

في (أ) و (و): فيه.

ص: 164

أحدهما -وهو المحكي عن القاضي-: أنه يثبت

(1)

.

والثَّاني: لا، واختاره صاحب «المغني» .

وعلى الأوَّل؛ فإنما يحرم إذا شرب الماء كلَّه

(2)

؛ ولو في دفعات، ويكون رضعة واحدة، ذكره القاضي في «خلافه»

(3)

.

ومنها: لو خَلط خمراً بماء، واستهلك فيه ثمَّ شربه؛ لم يحدَّ، هذا هو المشهور، وسواء قيل بنجاسة الماء أو لا.

وفي «التنبيه» لأبي بكر عبد العزيز: من لتَّ بالخمر سويقاً أو صبَّها في لبن أو ماء حار، ثمَّ شربها؛ فعليه الحدُّ، ولم يفرق بين أن يستهلك أو لا يستهلك

(4)

.

ومنها: لو اختلط زيته بزيت غيره على وجه لا يتميَّز؛ فهل هو استهلاك بحيث يجب لصاحبه عوضه من أيِّ موضع كان، أو هو اشتراك؟ في المسألة روايتان:

(1)

كتب في هامش (و): (والصَّحيح: أن يثبت التَّحريم إن كانت صفات اللَّبن باقية). وكتب على هامش (ن): (وهو المذهب إن كانت صفات اللبن باقية فيه).

(2)

كتب في هامش (و): (لأنَّه لا يتحقَّق شرب اللَّبن كلِّه إلَّا بشرب الماء كلِّه).

(3)

من قوله: (وعلى الأول؛ فإنما يحرم

) إلى هنا سقط من (أ).

(4)

كتب على هامش (ن): (إذا حمل كلام أبي بكر على غير المستهلك كان فيه جمع بينه وبين المشهور).

ص: 165

المنصوص في رواية عبد الله وأبي الحارث: أنَّه اشتراك

(1)

، واختاره ابن حامد، والقاضي في «خلافه» .

واختار في «المجرَّد» : أنَّه استهلاك.

وأمَّا إن كان المختلط غصباً؛ فقال في رواية أبي طالب: هذا قد اختلط أوَّله وآخره، أعجب إليَّ أن يتنزَّه عنه كلِّه، يتصدَّق به، وأنكر قول من قال: يخرج منه قدر ما خالطه.

واختار ابن عقيل في «فنونه» : التَّحريم؛ لامتزاج الحلال بالحرام، واستحالة انفراد أحدهما عن الآخر.

وعلى هذا: فليس له إخراج قدر الحرام منه بدون إذن المغصوب منه؛ لأنَّها قسمة؛ فلا تجوز بدون رضا الشَّريكين.

لكن لأصحابنا وجه في المكيل والموزون المشترك: أنَّ لأحد الشَّريكين الانفراد بالقسمة دون الآخر، وهو اختيار أبي الخطَّاب، ونصَّ عليه أحمد في «الدَّراهم» .

ومنعه القاضي

(2)

، لكنَّه في «خلافه» قال: إن كان الحق في القدر

(1)

جاء في مسائل عبد الله (ص 309)، ما نصه: سألت أبي عن دقيقٍ لقوم، اختلط قفيز حنطة بقفيز شعير دقيق جميعًا، طحنا فاختلطا، قال: هذا لا يقدر أن يميز. فقال أبي: إن كان يعرف قيمة دقيق الشعير من دقيق الحنطة مع هذا، أو أعطى كل واحد منهما قيمة ماله، إلا أن يصطلحوا بينهم على شيء ويتحالوا.

قلت لأبي: فإن قال هذا: أريد حنطتي. قال: أريد شعيري؟ قال: يباع إن عرف قيمتهما. قلت لأبي: فإن لم يعرف؟ قال: لا بد لهم أن يصطلحوا على شيء ويتحالوا.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 166

المختلط لآدمي معيَّن؛ لم تجز القسمة بدون إذنه، وإن كان لغير معين كالَّذي انقطع خبر مالكه ووجب التَّصدُّق به؛ فللمالك الاستبداد بالقسمة؛ لأنَّ له ولاية التَّصرف فيه بالصَّدقة.

وهذا كلُّه بناءً على أنَّه اشتراك.

وعن أحمد رواية أخرى: أنَّه استهلاك

(1)

، قال في رواية المروذيِّ: يخرج عنه

(2)

العوض منه

(3)

.

وهذا يحتمل: أنَّه أراد أن يخرج بدله عوضاً منه

(4)

(5)

.

وكذا ساقه المروذيُّ في «كتاب الورع» له أنَّ أحمد قال: يعطي العوض، ولم يقل: منه

(6)

.

وإن كان أراد أنَّه يُخرج العوض من نفس المختلط

(7)

؛ فهو بناءً على

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

قوله: (عنه) سقط من (ب) و (ج).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

كتب في هامش (و): (فعلى هذا الاحتمال تكون الرِّواية الثَّانية على أنَّه استهلاك، ويكون قوله: منه، بمعنى: عنه).

(5)

كتب في هامش (ج): (أي: عنه).

(6)

جاء في الورع للإمام أحمد برواية المروذي (ص 59) ما نصه: (ذكرت لأبي عبد الله عن بعض الناس أنه قال: إذا كان الشيء المستهلك، مثل الدهن والزيت والذي لا يوصل إليه بعينه؛ أعطي العوض. قال: نعم هكذا هو).

(7)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 167

أنَّه شركة، وأنَّ له الاستبداد بقسمة ذلك.

ومنها: لو وُصِّيَ له برطل من زيت معيَّن، ثمَّ خلطه في زيت آخر:

فإن قلنا: هو اشتراك؛ لم تبطل الوصيَّة.

وإن قلنا: هو استهلاك؛ بطلت.

ومنها: لو حلف لا يأكل شيئاً، فاستهلك في غيره ثمَّ أكله

(1)

:

قال الأصحاب: لا يحنث

(2)

، ولم يخرِّجوا فيه خلافاً؛ لأنَّ مبنى الأيمان على العرف، ولم يقصد الامتناع من مثل ذلك

(3)

.

وقد يخرج فيه وجه بالحنث، وقد أشار إليه أبو الخطَّاب كما سنذكره.

وهذا كلُّه في المائعات والأدقَّة ونحوها ممَّا يختلط بعض أجزائه ببعض.

فأمَّا الحبوب والدَّراهم ونحوها؛ فمن الأصحاب من قال: حكمها حكم المائعات فيما سبق، وفرَّعوا على ذلك مسائل:

منها: لو اشترى ثمرة، فلم يقبضها حتَّى اختلطت بغيرها، ولم

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: ولم يظهر طعم المستهلَك في المستهلَك فيه).

(2)

كتب على هامش (و): (وهو الصحيح).

(3)

كتب على هامش (و): (أما إذا قصد الامتناع من مثل ذلك؛ حَنِث؛ لأن اليمين رجع فيها إلى النية).

ص: 168

تتميَّز

(1)

؛ فهل ينفسخ البيع؟ على وجهين:

اختار القاضي في «خلافه» : الانفساخ.

وفي «المجرد» : عدمه

(2)

.

ومنها: لو حلف لا يأكل حنطة، فأكل شعيراً فيه حبَّات حنطة؛ ففي حنثه وجهان، ذكرهما أبو الخطَّاب.

وغلَّطه صاحب «التَّرغيب» ، وقال: يحنث بلا خلاف؛ لأنَّ الحبَّ متميِّز لم يستهلك، بخلاف ما لو طحنت الحنطة بما فيها فاستهلكت؛ فإنَّه لا يحنث.

ومنها: لو اختلطت دراهمه

(3)

بدراهم مغصوبة؛ فالمنصوص عن أحمد في رواية المروذيِّ: إن كانت الدَّراهم قليلة؛ كثلاثة فيها درهم حرام؛ وجب التَّوقُّف عنها حتَّى يعلم، وإن كانت كثيرة؛ كثلاثين فيها درهم حرام؛ فإنَّه يُخرج منها درهماً، ويتصرَّف في الباقي.

وله نصوص كثيرة في هذا المعنى

(4)

، وعلَّل بأنَّ الكثير يجحف بماله إخراجه، وأنكر على من قال: يخرج قدر الحرام من القليل كالثَّلاثة إنكاراً شديداً.

(1)

قوله: (ولم تتميَّز) سقط من (أ).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

وكتب في هامش (و): (وهو الصَّحيح، وعلى هذا يكونان شريكين).

(3)

في (ب) و (ج) و (ن): دراهم.

(4)

كتب على هامش (ن): (في جواز الأكل مِن مال مَن في ماله حرام، أحدها: التحريم مطلقاً. ثانيها: إن زاد الحرام على الثلث حرم الأكل وإلا فلا. ثالثها: إن كان الحرام أكثر حرم الأكل وإلا فلا. رابعها: عدم التحريم مطلقاً، قلَّ الحرام أو كثر، لكن يكره، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته، جزم به في «المغني» و «الشرح»، وقاله ابن عقيل في «فصوله»، وقدمه الأَزَجي وغيره، وقال في «الإنصاف»: إنه المذهب على ما اصطلحناه، قال في «الفروع»: وينبني على هذا الخلاف حكم معاملته، وقبول صدقته وهبته، وإجابة دعوته).

ص: 169

وأمَّا القاضي؛ فتأوَّل كلامه على الاستحباب

(1)

؛ لأنَّه كلَّما كثر الحلال؛ بَعُدَ تناول الحرام، وشقَّ التَّورُّع عن الجميع، بخلاف القليل، قال

(2)

: فالواجب في الجميع إخراج قدر الحرام

(3)

.

وكذلك ذكر ابن عقيل في «فصوله» .

وخالف في «الفنون» ، وقال: يحرم الجميع.

ومنها: لو خلط الوديعة - وهي دراهم - بماله، ولم تتميَّز؛ فالمشهور: الضَّمان؛ لعدوانه حيث فوَّت تخلصيها

(4)

.

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله: إنما يتوجه حمل كلامه على الاستحباب في القليل، وأما في الكثير فالاستحباب تركه كله لا إخراج درهم منه، ولم يتعرض لما بين الثلاثة والثلاثين، فيطلب الحكم فيه.

(2)

قوله: (قال) سقط من (أ).

(3)

قال ابن نصر الله رحمه الله: حصر التعرض في مقدارها لا في أعيانها للضرورة.

(4)

كتب في هامش (و): (أي: تحصيل عينها على المالك).

ص: 170

وعنه رواية أخرى: لا ضمان عليه؛ لأنَّ النُّقود لا يتعلَّق الغرض بأعيانها، بل بمقدارها، وربَّما كان خلطها مع ماله أحفظ لها.

وعلى هذه الرِّواية: فإذا تلف بعض المختلط بغير عدوان؛ جعل التَّالف كلَّه من ماله، وجعل الباقي من الوديعة، نصَّ عليه؛ لأنَّ هذه الأمانة الأصل بقاؤها ووجوب تسليمها، ولم يتيقَّن زوال ذلك، ولهذا قلنا: لو مات وعنده وديعة وجُهِل بقاؤها أنَّها تكون ديناً على التَّركة.

وتأوَّل القاضي وابن عقيل كلام أحمد رحمه الله في الضَّمان هنا: على أنَّ الخلط كان عدواناً، وهذا يدلُّ على أنَّه لا ضمان عندهما إلا مع التَّعدي.

ولو

(1)

اختلطت الوديعة بغير فعله، ثمَّ ضاع البعض؛ جعل من مال المودَع في ظاهر كلام أحمد، ذكره أبو البركات في «شرح الهداية» .

وقد تقدَّم

(2)

أنَّ القاضي ذكر في «الخلاف» : أنَّهما يصيران شريكين، قال أبو البركات: ولا يبعد على هذا أن يكون الهالك منهما.

وذكر القاضي أيضاً

(3)

في بعض «تعاليقه» : فيمن معه دينار أمانة لغيره، فسقط منه مع دينار له في رحًى، فدارت عليهما

(4)

حتى نقصا،

(1)

في (ب): وإن.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: في مسألة ما إذا اختلط زيته بزيت غيره على وجه لا يتميز).

(3)

قوله: (أيضًا) سقط من (ب).

(4)

في (ب): تدارت عليه.

ص: 171

وكان نَقْصُ أحدهما أكثرَ من نقص

(1)

الآخر، ولم يَدْرِ أيَّهما له؛ أنَّه يحتاط، فيدفع إلى صاحب الأمانة ما يغلب على ظنِّه أنَّه قدر حقِّه، فإن

(2)

ادَّعى أنَّ الثَّقيل له؛ فالقول قوله في الظَّاهر؛ لأنَّ يده عليه.

(1)

قوله: (نقص) سقط من (ب).

(2)

في (أ): وإن.

ص: 172

‌قاعدة [23]

من حَرُمَ عليه الامتناع من بذل شيء سُئله فامتنع؛ هل يسقط إذنه بالكليَّة، أو يعتبر ويجبره الحاكم عليه

؟

هذا نوعان:

أحدهما: أن يكون المطلوب منه إذناً مجرَّداً

(1)

، ويندرج تحته صور:

منها: وضع الخشب على جدار جاره إذا لم يضرَّ به، وقد نصَّ أحمد على عدم اعتبار إذنه في ذلك

(2)

.

وفي «التَّلخيص» : أنَّه يجبر عليه إن أباه.

ومنها: حج الزَّوجة الفرض، ونص أحمد في رواية صالح: على أنَّها لا تحج إلَّا بإذنه، وأنَّه ليس له منعها

(3)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: لا غيره بخلاف النوع الثاني؛ فإن المطلوب منه أولاً غير الإذن، فإن امتنع من المطلوب منه؛ فهل يسقط إذنه بالكلية، أو يعتبر إذنه فيه؟)

(2)

جاء في مسائل أبي داود (ص 285) ما نصه: (سمعت أحمد سئل عن الرجل يريد أن يضع خشبة على حائط جاره فيمنعه؟ قال: لو احتكم إلي لحكمت عليه أن يضعه، إذا كان حائطه وثيقًا لا يخاف عليه).

(3)

لم نقف عليه في مسائل صالح، وقد نقلها القاضي في التعليقة (2/ 185)، قال: نص عليه في رواية صالح: في امرأة تريد الحج الفرض مع ابنها: فليس لزوجها أن يمنعها، ولا تخرج إلا بإذنه.

ص: 173

فعلى هذا

(1)

، يجبر على الإذن لها.

ونقل ابن أبي موسى عن أحمد: أنَّ استئذانها له مستحبٌّ

(2)

ليس بواجب

(3)

.

ومنها: إذا قلنا بوجوب الجمعة على العبد؛ فهل يتوقَّف على إذن السَّيِّد؟ حكى الأصحاب فيه روايتين:

إحداهما: لا تجب على العبد حتَّى يأذن له السَّيِّد.

والثَّانية: تجب بدون إذنه، ويستحبُّ له

(4)

استئذانه، فإن أذن له، وإلَّا خالفه وذهب.

ومنها: أخذُ فاضل الكلأ والماء من أرضه؛ هل يقف جواز الدُّخول إلى الأرض على إذنه، ويجبر عليه إن أباه

(5)

، أم يجوز بدونه؟ على وجهين

(6)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: على أنها لا تحج إلا بإذنه، والمذهب: أن لها أن تحج بغير إذنه).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

قال في الإرشاد (ص 164): وقال أحمد رضي الله عنه: أستحب لها أن تستأذنه، فإن كان غائبًا أن تكتب إليه، فإن أذن خرجت، وليس ينبغي أن يمنعها من أداء الفرض.

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(5)

قوله: (ويجبر عليه إن أباه) سقط من (أ) و (ج) و (ن).

(6)

كتب على هامش (ن): (أصحهما: لا يجوز بدون إذنه إن كان محوطاً، وإن لم يكن محوطاً جاز بلا ضرر).

ص: 174

ونصُّ أحمد على جواز الرَّعي في الأرض المغصوبة؛ يدلُّ على عدم اعتبار الإذن في ذلك

(1)

.

ومن الأصحاب من قال: الخلاف في غير المحوط، فأمَّا المحوط؛ فلا يجوز دخوله بغير إذن بغير خلاف.

قال

(2)

: ومتى تعذَّر الاستئذان؛ لغيبة المالك أو غيرها، أو استؤذن فلم يأذن؛ سقط إذنه كما في الوليِّ في النِّكاح

(3)

.

ونقل مثنَّى الأنباري عن أحمد ما يشعر بالفرق بين الدُّخول للماء والكلأ، بتعُّين

(4)

الاستئذان للدُّخول للكلأ دون الماء.

ومنها: بذل الضِّيافة الواجبة إذا امتنع منها جاز الأخذ من ماله، ولا

(1)

قال ابن قدامة في المغني (5/ 191): قال أحمد: لا بأس برعي الكلأ في الأرض المغصوبة؛ وذلك لأن الكلأ لا يملك بملك الأرض.

وجاء في مسائل إسحاق بن منصور الكوسج التصريح بذلك (9/ 4705): قلت لأحمد بن حنبل: أرض غصبها رجل من آخر يُرْعَى كلؤها؟ قال: نعم، إذا لم يُحَطْ عليها؛ لأنه ليس لأحد أن يمنع الكلأ، لا للغاصب، ولا لصاحبها الأول المغصوب.

(2)

قوله: (قال) سقط من (ب).

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني: وتنتقل الولاية لمن بعده كما هو معلوم في موضعه، فيصير بامتناعه أو غيبته كالمعدوم).

(4)

في (ب) و (ج): فيتعين.

ص: 175

يعتبر إذنه في أصحِّ الرِّوايتين، نقلها علي بن سعيد

(1)

عن أحمد.

ونقل عنه حنبل: لا يأخذ إلَّا بعلمهم، ويطالبهم بقدر حقه.

ومنها: نفقة الزَّوجة الواجبة.

ومنها: الطَّعام الَّذي يضطر إليه غيره؛ فإنه يلزم

(2)

بذله له

(3)

بقيمته، فإن أبى؛ فللمضطِّر أخذُه قهراً.

وإنَّما سقط اعتبار الإذن في هذه الصُّور؛ لأنَّ اعتباره يؤدِّي إلى مشقَّة وحرج، وربَّما أفضى إلى فوات الحق بالكليَّة.

النَّوع الثَّاني: أن يكون المطلوب منه تصرُّفاً بعقد أو فسخ أو غيرهما، ويندرج تحته صور:

منها: إذا طُلِب منه القسمةُ الَّتي تلزمه الإجابة إليها، والأصحاب يقولون: يجبر على ذلك، فإن كان المشترك مثليًّا وهو المكيل والموزون، وامتنع أحد الشَّريكين من الإذن في القسمة أو غاب؛ فهل يجوز للشَّريك الآخر أخذ قدر

(4)

حقِّه منه بدون إذن الحاكم؟ على وجهين:

(1)

هو علي بن سعيد بن جرير النسوي، أبو الحسن، قال أبو بكر الخلال: كبير القدر، صاحب حديث، كان يناظر أبا عبد الله مناظرة شافية، روى عن أبي عبد الله جزأين مسائل. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 224.

(2)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): يلزمه.

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: بذل الضيافة، ونفقة الزوجة، والمضطر إلى طعام غيره).

(4)

قوله: (قدر) سقط من (أ) و (و).

ص: 176

أحدهما: الجواز، وهو قول أبي الخطاب.

والثَّاني: المنع

(1)

، وهو قول القاضي؛ لأنَّ القسمة مختلف في كونها بيعاً، وإذن الحاكم يرفع النِّزاع.

ومنها: إذا امتنع من بيع الرَّهن؛ فإن الحاكم يجبره عليه ويحبسه، فإن أصرَّ؛ باع عليه.

ومن الأصحاب من يقول: الحاكم مخيَّر؛ إن شاء أجبره على البيع، وإن شاء باع عليه، وهو المجزوم به في «المغني» .

ومنها: إذا امتنع من الإنفاق على بهائمه؛ فإنَّه يجبر على ذلك أو البيع

(2)

، كذا أطلقه كثير من الأصحاب.

وقال ابن الزَّاغونيِّ: إن أبى؛ باع الحاكم عليه

(3)

.

ومنها: المولي إذا وُقف ثمَّ امتنع من الفيئة؛ فإنَّه يؤمر بالطَّلاق، فإن طلَّق فذاك، وإلَّا ففيه روايتان:

إحداهما

(4)

: يجبر على الطَّلاق بالحبس والتَّضييق.

والثَّانية

(5)

: يطلِّق الحاكم عليه.

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

قوله: (أو البيع): سقط من (أ) و (د) و (هـ).

(3)

كتب على هامش (ن): (المذهب: أنه إذا امتنع كان للحاكم فعل الأصلح؛ من بيع، أو إجارة، أو ذبح، أو إقراض عليه).

(4)

في (أ): أحدهما.

(5)

كتب على هامش (ن): (وهي المذهب).

ص: 177

ومنها: العنِّين إذا انقضت مدَّته وتحقَّق عجزه، وأبى أن يفارق امرأته؛ فرَّق الحاكم بينهما.

ومنها: إذا مثَّل بعبده، قال أحمد في رواية الميمونيِّ

(1)

: يُعتقه السُّلطان عليه.

وظاهر هذا: أنَّه لا يَعتق بمجرد التَّمثيل، ولكن يُعتقه السُّلطان عليه بغير اختياره؛ لأنَّ عتقه صار متحتِّماً لا محالة؛ كما فعل عمر رضي الله عنه

(2)

، بخلاف طلاق المولي؛ فإنَّه لو فاء لم يطالب بالطَّلاق كما هو المشهور عند الأصحاب

(3)

.

(1)

هو عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني الرقي، أبو الحسن، كان أحمد يكرمه، قال: صحبت أبا عبد الله على الملازمة من سنة خمس ومائتين إلى سنة سبع وعشرين، وكنت بعد ذلك أخرج وأقدم عليه الوقت بعد الوقت، وعنده عن أبي عبد الله مسائل في ستة عشر جزءًا. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 212.

(2)

أخرج الحاكم (2856)، والبيهقي (15948) وغيرهما، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جاءت جارية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: إن سيدي اتهمني فأقعدني على النار حتى احترق فرجي، فقال لها عمر رضي الله عنه:«هل رأى ذلك عليك؟» قالت: لا، قال:«فهل اعترفت له بشيء؟» قالت: لا، فقال عمر رضي الله عنه:«علي به» ، فلما رأى عمر الرجل قال:«أتعذب بعذاب الله؟» قال: يا أمير المؤمنين اتهمتها في نفسها، قال:«رأيت ذلك عليها؟» قال الرجل: لا، قال:«فاعترفت لك به؟» فقال: لا، قال: والذي نفسي بيده، لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«لا يقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده لأقدتها منك» ، فبرزه وضربه مائة سوط، وقال للجارية:«اذهبي فأنت حرة لوجه الله، وأنت مولاة الله ورسوله» . قال الليث: وهذا القول معمول به.

(3)

قوله: (كما هو المشهور عند الأصحاب) سقط من (أ) و (د) و (هـ) و (ن).

ص: 178

ويحتمل أن يكون مراده: أنَّ السُّلطان يحكم عليه بوقوع العتق

(1)

، كما هو المعروف في المذهب

(2)

، وفيه بُعد

(3)

.

ومنها: الموصى بعتقه إذا امتنع الوارث من إعتاقه؛ أعتقه السُّلطان عليه.

ومنها: إذا اشترى عبداً بشرط العتق - وقلنا: يصحُّ على الصَّحيح -، فأبى أن يُعتقه؛ ففيه وجهان - وقيل روايتان-:

إحداهما -ونصَّ عليها أحمد في رواية الأثرم-: أنَّ للبائع الفسخ؛ بناء على أنَّه حق له

(4)

.

والثَّاني

(5)

: أنه يجبر المشتري على عتقه؛ بناء على أنه حقٌّ لله تعالى.

فعلى هذا: لو

(6)

امتنع وأصرَّ؛ توجَّه

(7)

أن يُعتقه الحاكم عليه.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: إذا امتنع؛ حتى تكون المسألة من فروع القاعدة).

(2)

قوله: (كما هو المعروف في المذهب) سقط من (ب) و (ج).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: في احتمال أن يكون ذلك مراداً من النص، وأما كونه يَعتق عليه بمجرد التمثيل به فهو المذهب).

(4)

جاء في الفروع (6/ 192): نقل الأثرم: إن أبى عتقه فله أن يسترده.

(5)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(6)

في (ب) و (د) و (ج) و (هـ): إن.

(7)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 179

ومنها: الحوالة على المليء؛ هل يعتبر

(1)

لبراءة المحيل رضا المحال

(2)

، فإن أبى أجبره الحاكم عليه؛ لأنَّ احتياله على المليء واجب عندنا، أو يبرأ بمجرَّد الحوالة؟

فيه عن أحمد روايتان

(3)

حكاهما القاضي في «خلافه» وطائفة من الأصحاب.

ومبناهما: على أنَّ الحوالة هل هي نقل للحقِّ أو تقبيض؟

فإن كانت نقلاً

(4)

؛ لم يعتبر لها قبول.

وإن كانت تقبيضاً؛ فلا بدَّ من القبض بالقول، وهو قبولها؛ فيجبر المحتال عليه.

ومنها: الوليُّ في النكاح إذا امتنع من التَّزويج؛ فهل يسقط حقُّه وينتقل إلى غيره ممَّن هو أبعد منه، أوْ لا فيقوم الحاكم مقامه؟ على روايتين

(5)

.

ومنها: إذا أسلم على أكثر من أربع، وأبى أن يختار منهنَّ؛ أجبره الحاكم على الاختيار، وعزَّره مرَّة بعد أخرى حتَّى يختار، ولم يختر

(1)

في (ب) و (د): تعتبر.

(2)

في (ب) و (و): المحتال.

(3)

كتب على هامش (ن): (المذهب: أنه يبرأ بمجرد الحوالة).

(4)

كتب على هامش (ن): (المذهب: أنها نقل للحق).

(5)

كتب على هامش (ن): (أصحهما: أنه ينتقل إلى الأبعد).

ص: 180

له

(1)

؛ إذ الاختيار موكول إلى شهوته وغرضه لا غير.

ومنها: الكتابة إذا أوجبناها بسؤال العبد، فأبى السَّيِّد؛ أجبره الحاكم عليها.

ومنها: إذا أتاه الغريم بدينه الَّذي يجب عليه قبضه، فأبى أن يقبضه؛ ففي «المغني»: يقبضه الحاكم، وتبرأ

(2)

ذمَّة الغريم؛ لقيام الحاكم مقام الممتنع بولايته.

ولو أتاه الكفيل بالغريم، فأبى أن يتسلَّمه؛ فقال في «المغني»: يشهد على امتناعه، ويبرأ لوجود الإحضار.

وذكر عن القاضي: أنَّه يرفعه إلى الحاكم أوَّلاً؛ ليسلِّمه إليه، فإن تعذَّر؛ أشهد على امتناعه

(3)

(4)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (هذه المسألة عكس مسألة العنين، وكلٌّ منهما على قول واحد).

(2)

في (ب): يبرأ.

(3)

ينظر: المغني 4/ 417.

(4)

كتب على هامش (ن): (ومن هذه القاعدة: ما يشترط قبضه من المبيع لانتقال ضمانه إذا بذله البائع للمشتري فلم يقبضه، لم أقف فيها على نقل، ويشبه مسألة الكفيل).

ص: 181

‌قاعدة [24]

من تعلَّق بماله حقٌّ واجب عليه، فبادر إلى نقل الملك عنه؛ صحَّ

(1)

.

ثمَّ إن كان الحقُّ متعلِّقًا بالمال نفسه؛ لم يسقط

(2)

.

وإن كان متعلِّقاً بمالكه لمعنًى زال بانتقاله عنه؛ سقط.

وإن كان لا يزول بانتقاله؛ لم يسقط على الأصحِّ.

ويدخل تحت ذلك صور:

منها: لو بادر الغالُّ قبل إحراق رحله وباعه؛ ففيه وجهان حكاهما في «المغني»

(3)

:

(1)

كتب على هامش (ن): (لم يحك في الصحة خلافاً، وسيأتي الخلاف فيها).

(2)

كتب على هامش (ن): (جزم هنا بعدم السقوط، وحكى الخلاف في مال الغالِّ، مع أن الصحيح فيه: السقوط بالانتقال).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: في سقوط التحريق، لا في صحة البيع، وعبارة الشيخ في «المغني»: وإن باع متاعه أو وهبه؛ احتمل: أن لا يُحرَّق، واحتمل: أن ينقض البيع والهبة ويُحرَّق).

ص: 182

أحدهما: يصحُّ؛ لأنَّ ملكه باقٍ لم يزُل، ويسقط التَّحريق

(1)

؛ لانتقاله عنه؛ فهو كما لو مات وانتقل إلى وارثه.

والثَّاني: يُفسخ البيع ويحرَّق؛ لأنَّ حقَّ التَّحريق أسبق، وقد تعلَّق بهذا المال عقوبة لمالكه على جريمته السَّابقة.

ومنها: لو باع المشتري الشِّقصَ المشفوع قبل المطالبة بالشُّفعة؛ ففيه وجهان:

أحدهما: أنَّ البيع باطل؛ لأنَّ ملكه غير تامٌّ، وهو ظاهر كلام أبي بكر في «التنبيه» .

والثَّاني: أنَّ البيع صحيح، وهو قول الخرقيِّ، والمشهور في المذهب؛ لأنَّ أخذ الشَّفيع من المشتري الثَّاني ممكن، فإن اختار ذلك فعل، وإلا فُسخ البيع الثَّاني وأُخذ من الأوَّل؛ لسبق حقه عليه.

ومنها: لو أُمِر الذِّميُّ بهدم بنيانه

(2)

العالي، فبادر وباع من مسلم؛ صحَّ، وسقط الهدم؛ لزوال علَّته؛ فإنَّه لم يجب الهدم إلَّا لإزالة ضرر استدامة تعلية الذِّمي، لا عقوبة للتَّعلية الماضية، وقد زال الضَّرر بانتقاله إلى المسلم؛ فهو كما لو بادر المالك وأسلم؛ فإنَّ الهدم يسقط بلا تردُّد.

هذه المسألة متفرِّعة على ما تعلَّق بالمالك لمعنًى زال بانتقاله عنه،

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

في (ب) و (د) و (ج) و (هـ): بنائه.

ص: 183

ولهذا لم نذكر فيه خلافاً، وما قبلها مما لا يزول بانتقاله

(1)

.

ومنها: لو مال جداره إلى ملك جاره، فطولب بهدمه، فباع داره؛ صحَّ، وهل يسقط الضَّمان عنه بالسُّقوط بعد ذلك

(2)

على رواية التَّضمين أم لا؟

قال القاضي: يسقط؛ لأنَّ الوقوع في غير ملكه.

وقال ابن عقيل: إن قصد ببيعه الفِرار

(3)

من المطالبة بهدمه؛ لم يسقط الضَّمان؛ لانعقاد سببه في ملكه، كما لو باع سهماً

(4)

بعد خروجه من كبد القوس

(5)

؛ فإنَّ عليه ضمان ما يتلفه، قال: وكذا لو باع فخًّا أو

(1)

من قوله: (هذه المسألة متفرِّعة على

) إلى هنا زيادة من (ب)، ذكرها في (ن) في الهامش.

(2)

كتب في هامش (ن): (أي: بسقوط الجدار بعد البيع).

(3)

كتب على هامش (ن): (مفهومه: أنه إن لم يقصد ببيعه الفرار سقط الضمان، وبيع السهم بعد خروجه من كبد القوس لا يختلف حكمه مِن أنْ يقصد الفرار مما يتلفه أو لا).

(4)

كتب على هامش (ن): (التنظير إنما هو في انعقاد سبب الضمان في ملكه، لا في قصد الفرار منه ببيعه؛ لأن مسألة السهم لا فرق فيها بين قصد الفرار وعدمه).

(5)

كتب في هامش (و): (وجه التَّنظير بما لو باع سهماً: انعقاد سبب الضَّمان في ملكه، لا أنَّه مثلها في قصد الفرار بالبيع وعدمه؛ إذ لا فائدة في ذلك في المسألة المنظَّر بها).

ص: 184

شبكة منصوبتين، فوقع فيهما صيد في الحرم أو مملوك للغير؛ لم يسقط عنه ضمانه.

والظَّاهر: أنَّ القاضي لا يخالف في هذه الصُّور؛ فإنَّه قال فيما إذا أخرج جناحاً أو ميزاباً إلى الطَّريق، ثمَّ باع ملكه بعد المطالبة بإزالته، ثمَّ سقط؛ فعليه الضَّمان؛ لأنَّ خروجه إلى غير ملكه حصل بفعله، بخلاف ميل الحائط؛ فإنَّه لا فعل له فيه، وإنَّما تلزمه

(1)

إزالته على وجه ممكن، ولا يمكنه نقضه بعد زوال ملكه عنه.

ومنها: لو اشترى عبداً بشرط العتق، ثمَّ باعه بهذا الشَّرط؛ فهل يصحُّ أم لا؟

على وجهين حكاهما الأَزَجيُّ في «نهايته»

(2)

، وصحَّح عدم الصِّحَّة؛ لأنَّه يتسلسل، ولأنَّ تعلُّق حق العتق الواجب عليه يمنع الصِّحَّة، كما لو نذر عتق عبد؛ فإنَّه لا يصح بيعه

(3)

.

وعندي: أنَّ هذا الخلاف مترتب على أنَّ الحقَّ هل هو لله ويجبر

(1)

في (ب) و (د) و (هـ): يلزمه.

(2)

هو يحيى بن يحيى الأزجي الفقيه، ولا يعرف عنه أكثر من ذلك، قال ابن رجب:(وقد ذكر في كتابه: أنه قرأ بنفسه على ابن كليب الحراني، ولم أعلم له ترجمة، ولا وجدته مذكورًا في تاريخ، ويغلب على ظني: أنه توفي بعد الستمائة بقليل)، وله من المصنفات: نهاية المطلب، في علم المذهب، ولا يعرف له غيره. ينظر: ذيل الطبقات 3/ 248.

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب، إلا أن ابن نصر الله قيده بنذر التبرر).

ص: 185

عليه إن أباه، أو للبائع؟

فعلى الأوَّل: هو كالمنذور عتقه.

وعلى الثَّاني: يسقط الفسخ لزوال الملك، وللبائع الرُّجوع بالأرش، فإنَّ هذا الشَّرط ينقص به الثَّمن عادة.

ويحتمل أن يثبت له الفسخ؛ لسبق حقه

(1)

.

ومنها: لو باع العبدَ الجانيَ؛ لزمه افتداؤه، فإن كان معسراً؛ فسخ البيع؛ تقديماً لحقِّ المجني عليه لسبقه.

ومنها: لو باع الوارث التَّركة مع استغراقها بالدَّين ملتزماً لضمانه، ثمَّ عجَز عن وفائه؛ فإنَّه يفسخ البيع.

ومنها: لو باع نصاب الزكاة بعد الوجوب، ثمَّ أعسر

(2)

؛ فهل يفسخ في قدر الزكاة أم لا؟ فيه وجهان مرتَّبان على أنَّ الزَّكاة هل كانت متعلِّقة بعين المال أو بذمَّة ربِّه؟

فإن قيل: بعين المال

(3)

؛ فسخ البيع

(4)

لاستيفائها منه، وإلَّا فلا

(5)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (ولأن الحق هنا يتعلق بالمال نفسه).

(2)

كتب على هامش (ن): (ليس الإعسار شرطاً في ذلك، بل لو تعذر عليه الإخراج من غير النصاب بأي وجه كان؛ فُسخ منه بقدر الزكاة على الصحيح، ويكون حينئذ للمشتري الخيار).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: في قدر الزكاة).

(5)

كتب على هامش (ن): (وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في الفوائد).

ص: 186

‌قاعدة [25]

من ثبت له ملك عين ببيِّنة أو بإقرار

(1)

(2)

؛ فهل يتبعها ما يتَّصل بها أو يتولَّد

(3)

منها أم لا

؟

في المسألة خلاف، ولها صور:

منها: إن ثبت

(4)

له ملك أمة في يد غيره ومعها ولدٌ لها؛ فهل يتبعها في الملك إذا ادَّعاه؟ على وجهين:

أحدهما: لا

(5)

، وهو الَّذي ذكره القاضي؛ لأنَّه لا يتبعها في بيع ولا غيره، ويجوز أن تكون ولدته قبل ملكه لها.

والثَّاني -وإليه ميل ابن عقيل-: أنَّه يتبعها؛ لأنَّه من أجزائها، وقد

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): إقرار.

(2)

كتب على هامش (ن): (هل لتخصيص ثبوت الملك هنا ببينة أو إقرار مفهوم، بحيث لو ثبت الملك بعقد مثلاً لم يكن الحكم كذلك، أو لا، وهو الظاهر؛ لقوله في المسألة من فروع هذه القاعدة: "لأنه لا يتبعها في بيع ولا غيره"، فسوَّى بينهما).

(3)

في (ب) و (ج): متولِّد.

(4)

في (ب) و (هـ) و (ن): يثبت.

(5)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 187

ثبت سبق اليد الحكميَّة لليد المشاهدة؛ فتكون

(1)

مرجَّحة عليها.

ويشبه هذه المسألة: ما إذا ادَّعى أمة في يد غيره أنَّها أمُّ ولده، وأنَّ ولدها منه حرٌّ، وأقام بذلك شاهداً وحلف معه، أو رجلاً وامرأتين؛ ثبت ملكه عليها، وثبت استيلادها بإقراره.

وفي الولد روايتان حكاهما أبو الخطَّاب:

إحداهما: يثبت نسبه وحريته؛ لكونه من نمائها؛ فيتبعها، ويكون ثبوت ذلك بالإقرار لا بالبيِّنة.

والثَّانية

(2)

: لا يثبت النَّسب ولا الحريَّة؛ لأنَّهما لا يثبتان بهذه الشَّهادة.

وفيه وجه: يثبت النَّسب دون الحريَّة، ويبقى الولد

(3)

على ملك من كانت بيده؛ بناءً على صحَّة استلحاق نسب العبد؛ كما جزم به صاحب «التَّلخيص» .

ومنها: لو ثبت له ملك أرض في يد غيره ببينة أو إقرار، وفيها شجر قائم؛ فهل يتبعها أم لا؟

يحتمل أن يخرَّج على وجهين

(4)

؛ بناءً على أنَّ الشَّجر هل يتبع في

(1)

في (أ) و (د): فيكون.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهي المذهب).

(3)

قوله: (الولد) سقط من (أ) و (و).

(4)

كتب على هامش (ن): (المذهب: يتبعها).

ص: 188

البيع أم لا

(1)

؟

وأفتى الشَّيخ تقيُّ الدِّين رحمه الله تعالى: أنَّ ما كان متَّصلاً بالأرض من الشَّجر؛ فَيَدُ أهل الأرض ثابتة عليه، ما لم تأتِ حجَّة تدفع موجَبَ اليد؛ مثل أن يكون الغارس قد عرف أنَّه غرسه بماله.

وهو ظاهر كلام القاضي وابن عقيل في الرَّهن فيما إذا

(2)

اختلف المتراهنان في رهنيَّة الشَّجر في الأرض المرهونة: أنَّ القول قول المالك؛ لأنَّ الاختلاف هنا في عقد، واليد لا تدلُّ عليه، بخلاف ما لو كان الاختلاف في ملك.

وصرَّح صاحب «التَّلخيص» : بأنَّ ما في دار الإنسان يكون في يده؛ ولو كان منفصلاً منقولاً.

ويحتمل تخريج ذلك على الرِّوايتين في ملك المباحات الحاصلة في أرضه بمجرَّد حصولها في الأرض؛ نظراً إلى أنَّ الأرض هل هي كاليد أم لا

(3)

؟

فأمَّا

(4)

إن قامت البيِّنة أنَّ هذه الشَّجرة له وعليها ثمر؛ فقال ابن عقيل: يحكم له به، حتَّى لو كان الثَّمر في يد رجل وثبت سبق ملك الشَّجرة لغيره؛ حكم له بالثَّمرة؛ لثبوت سبق ملكه على أخذ غيره للثَّمر.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: وفيه وجهان، قدم في «المحرر»: الدخول).

(2)

في (أ): إذا ما.

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

في (أ) و (ج): وأمَّا.

ص: 189

ويتخرَّج فيه وجه آخر: كالولد، وبه جزم ابن عقيل في كتاب «القضاء» .

ومنها: لو ثبت أن هذا العبد ملك له، وهو في يد غيره وعلى العبد ثياب؛ فادَّعاها من العبد في يده؛ فقال صاحب «الكافي» و «الترغيب»: هي له؛ لأنَّ يده عليها، وهي منفصلة عن العبد.

ويحتمل وجهين آخرين:

أحدهما: أنَّ ما يتبع العبد من الثياب في البيع يتبعه ههنا، وما لا فلا.

والثَّاني: إن تطاولت مدَّة هذه اليد، بحيث تبلى فيها ثياب العبد عادة؛ فالقول قول من هو في يده، وإلَّا فلا

(1)

؛ إلحاقاً لها بالعيب المتنازع في حدوثه عند البائع أو المشتري إذا لم يحتمل الحال إلَّا قول أحدهما وحده.

ومنها: لو تنازع المؤجر والمستأجر في شيء من الدَّار المستأجرة؛ فذكر الأصحاب: أنَّ ما يتبع في البيع فهو للمؤْجِر، وما لا يتبع: إن كانت جرت به العادة في المنازل؛ ففيه خلاف، والمنصوص: أنَّه للمؤْجِر أيضاً.

وكذلك الوجهان لو تنازع المؤْجِر والمستأجر في كنز مدفون في الأرض.

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله: يتوجه أن يقال: وإلا فله منها ما لا يتبعه في البيع، وما يتبعه لمن ثبت له ملكه خاصة، ويكون محل الخلاف عند عدم بقاء المدة فيما لا يتبع في البيع خاصة.

ص: 190

وهل الحكم مختصٌّ بحالة بقاء يد المستأجر أم لا؟

صرَّح في «التلخيص» في مسألة الكنز: بأنَّ الخلاف في صورة بقاء الإجارة وانقضائها

(1)

.

ويشهد له: مسألة المال المدفون إذا ادَّعاه من كانت الأرض له ووصفه؛ أنَّه يُقبَل منه.

وكذلك حكم اختلاف الزَّوجين في متاع البيت جارٍ مع بقاء الزَّوجيَّة وزوالها في أحد الطَّريقين

(2)

للأصحاب

(3)

.

ومنها: لو أقرَّ له بمظروف في ظرف؛ كتمر في جِراب، أو سيف في قِراب، أو فَصٍّ في خاتم، أو رأسٍ وأكارع في شاة، أو نَوًى في تمر؛ ففيه وجهان:

أشهرهما: يكون مقرًّا بالمظروف دون ظرفه، وهو قول ابن حامد والقاضي وأصحابه

(4)

؛ لأنَّ الظَّرف غير مقَرٍّ به، وإنَّما هو موصوف به؛ فهو كقوله: دابَّة في إصطبل.

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله: قد يفرق بين مسألة الكنز ومسألة متاع المستأجر؛ لأن الكنز يقصد بقاؤه في مكانه، ومتاع المستأجر لم تجر العادة بتركه في الدار بعد انتقاله منها.

(2)

في (ب): الطَّريقتين.

(3)

قال ابن نصر الله رحمه الله: وهي طريقه «المحرر» و «المقنع» وغيرهما، حيث سوَّوا بين تنازع الزوجين وبين تنازع ورثتهما.

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 191

والوجه الثَّاني: هو مقرٌّ بهما، وإلَّا لم يكن ثَمَّ

(1)

فائدة لذِكْر الظَّرف.

وفرَّق بعض المتأخِّرين بين ما يتَّصل بظرفه عادة

(2)

أو خلقة

(3)

، فيكون إقراراً به، دون ما هو منفصل عنه عادة

(4)

.

ويحتمل التَّفريق بين أن يكون الثَّاني تابعاً للأوَّل، فيكون إقراراً به؛ كتمر في جراب أو سيف في قراب، وبين أن يكون متبوعاً فلا يكون إقراراً به؛ كنوًى في تمر، ورأس في شاة.

وأمَّا إن قال: خاتم فيه فَصٌّ، وجراب فيه تمر، وقراب فيه سيف؛ فقيل: هو على الوجهين

(5)

مطلقاً.

وقيل في قوله: خاتم فيه فَصٌّ: إنَّه إقرار بهما جميعاً بغير خلاف؛ لأنَّ إطلاقَ الخاتم يدخل فيه الفصُّ، فإذا وصفه بالفصِّ، تُيُقِّن دخوله فيه، ولم يجز إخراجه منه

(6)

؛ كقوله: نعل لهما شراك، أو شاة عليها

(1)

قوله: (ثم) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (و). وفي (ن): لم تكن.

(2)

كتب في هامش (ن): كالفص في الخاتم.

(3)

كتب في هامش (ن): كالنوى في التمر.

(4)

كتب على هامش (ن): (كدار فيها فرش، أو دابة عليها سرج، فلا يكون مقِراً بالثاني).

(5)

كتب على هامش (ن): (المذهب منهما: أنه لا يكون مقِراً بالثاني إلا في قوله: خاتم فيه فص، فيكون مقِراً بهما؛ لأن الفص جزء منه).

(6)

قوله: (منه) سقط من (أ).

ص: 192

صوف أو في ضرعها لبن، ونحو ذلك.

وفي «التَّلخيص» : لو أقرَّ بخاتم ثمَّ جاء بخاتم فيه فصٌّ، وقال: ما أردت الفصَّ؛ احتمل وجهين؛ أظهرهما: دخوله؛ لشمول الاسم.

قال: ولو قال: له عندي جارية؛ هل

(1)

يدخل الجنين في الإقرار إذا كانت حاملاً؟ يحتمل وجهين

(2)

.

(1)

في (ب) وباقي النسخ: (فهل).

(2)

كتب على هامش (ن): (أصحهما لا).

ص: 193

‌قاعدة [26]

من أتلف شيئاً لدفع أذاه له؛ لم يضمنه، وإن أتلفه لدفع أذاه به

(1)

؛ ضمنه

.

ويتخرَّج على ذلك مسائل:

منها: لو صال عليه حيوان آدميٌّ أو بهيم، فدفعه عن نفسه بالقتل؛ لم يضمنه.

ولو قتل حيواناً لغيره في مخمصة ليُحييَ به نفسه؛ ضمنه.

ومنها: لو صال عليه صيد في إحرامه فقتله دفعاً عن نفسه؛ لم يضمنه على أصحِّ الوجهين.

ولو اضطرَّ فقتله في المخمصة ليُحيي به نفسه؛ ضمنه.

ومنها: لو حلق المحرم رأسه لتأذيه بالقمل والوسخ؛ فداه؛ لأنَّ الأذى من غير الشَّعر.

ولو خرجت في عينه شعرة فقلعها، أو نزل الشَّعر

(2)

على عينيه فأزاله؛ لم يفده.

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله: أي: لدفع أذى نفسه به، والأول لدفع أذى الشيء الحاصل له التلف منه.

(2)

قال ابن نصر الله رحمه الله: أي: شعر حاجبيه.

ص: 194

ومنها: لو أشرفت السَّفينة

(1)

على الغرق فألقى متاع غيره

(2)

ليخفِّفها؛ ضمنه.

ولو سقط عليه متاع غيره فخشي أن يهلكه، فدفعه فوقع في الماء؛ لم يضمنه.

ومنها: لو وقعت بيضة نعامة من شجرة في الحرم على عين إنسان، فدفعها فانكسرت؛ فلا ضمان عليه.

بخلاف ما لو احتاج إلى أكلها؛ لمخمصة.

ومنها: لو قلع شوك الحرم لم يضمنه لأذاه.

ولو احتاج إلى إيقاد غصن شجرة؛ ضمنه، ذكره أبو الخطَّاب وغيره.

وخالف صاحب «المغني» في جواز قطع الشَّوك؛ للنصِّ الوارد فيه

(3)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (ويجب إلقاء ما فيها؛ خوف تلف الركاب بالغرق).

(2)

كتب على هامش (ن): (أما لو ألقى بعض من فيها متاعًا لنفسه في البحر لتخف؛ لم يرجع به على أحد، سواء نوى الرجوع أو لا، ولو قال بعض أهل السفينة لبعض: ألق متاعك، فألقاه؛ فلا ضمان على الآمر، وإن قال: ألقه وأنا ضامنه؛ ضمن جميعه، وإن قال: أنا وركبان السفينة ضامنون وأطلق؛ ضمن وحده الحصة على الصحيح، وقال أبو بكر: يضمنه القائل وحده إلا أن يتطوع بقيتهم).

(3)

يشير إلى ما أخرجه البخاري (1587) ومسلم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله لا يعضد شوكه، ولا ينفَّر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرَّفها» .

ص: 195

‌قاعدة [27]

من أتلف نفساً أو أفسد عبادة لنفع يعود إلى نفسه؛ فلا ضمان عليه، وإن كان النَّفع يعود إلى غيره؛ فعليه الضَّمان

.

فمن ذلك: الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على أنفسهما؛ فلا فدية عليهما.

وإن أفطرتا خوفاً على ولديهما؛ فعليهما

(1)

الفدية في المشهور عند الأصحاب.

ومنه: لو نجَّى غريقاً في رمضان، فدخل الماء إلى حلقه - وقلنا: يفطر

(2)

-؛ فعليه الفدية، وإن حصل له بسبب إنقاذه ضعف في نفسه فأفطر؛ فلا فدية عليه؛ كالمريض في قياس المسألة الَّتي قبلها، أفتى بذلك ابن الزَّاغونيِّ

(3)

.

وفي «التَّلخيص» - بعد أن ذكر الفدية على الحامل والمرضع للخوف على جنينيهما-: وهل يلحق بذلك من افتقر إلى الإفطار لإنقاذ

(1)

كتب على هامش (ن): (وهي على من يمونه).

(2)

كتب على هامش (ن): (المذهب: أنه لا يفطر).

(3)

قوله: (أفتى بذلك ابن الزَّاغونيِّ) سقط من (ج) و (د) و (ن)، وضُرب عليها في (أ).

ص: 196

غيره؟ يحتمل وجهين.

ومنه: لو دفع صائلاً عليه بالقتل؛ لم يضمنه.

ولو دفعه عن غيره بالقتل؛ ضمنه، ذكره القاضي.

وفي «الفتاوى الرَّحبِيَّات»

(1)

عن ابن عقيل وابن الزَّاغونيِّ: لا ضمان عليه أيضاً.

ومنه: لو أكره على الحلف بيمينٍ لحقِّ نفسه، فحلف دفعاً للظُّلم عنه؛ لم تنعقد يمينه.

ولو أُكره على الحلف لدفع الظُّلم عن غيره فحلف؛ انعقدت يمينه، ذكره القاضي في «شرح المذهب» .

وفي «الفتاوى الرَّحبيَّات» عن أبي الخطاب: لا تنعقد أيضاً، وهو الأظهر

(2)

.

(1)

الفتاوى الرحبيات: نسبة إلى بلدة الرحبة التي وردت منها الأسئلة، وتقع بين الرقَّة وبغداد، ذكرها ابن رجب في ذيل الطبقات (1/ 285)، فقال:(ووقفت على فتاوى أرسلت إلى أبي الخطاب رحمه الله من الرحبة، فأفتى فيها في الشهر الذي توفي فيه في جمادى الآخرة سنة عشر وخمسمائة، وأفتى فيها ابن عقيل وابن الزاغوني أيضًا).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 197

‌قاعدة [28]

إذا حصل التَّلف من فعلين، أحدهما مأذون فيه، والآخر غير مأذون فيه؛ وجب الضَّمان كاملاً على الصَّحيح

.

وإن كان من فعلين غير مأذون فيهما؛ فالضَّمان

(1)

بينهما نصفين، حتَّى لو كان أحدهما من فعل من لا يجب الضَّمان عليه

(2)

؛ لم يجب

(3)

على الآخر أكثر من النَّصف.

ويتفرَّع على ذلك مسائل:

منها: إذا زاد الإمام سوطاً في الحدِّ، فمات المحدود؛ فحكى أبو بكر في المسألة قولين:

أحدهما: يجب كمال الدِّيَّة.

والثَّاني: يجب نصفها.

والأوَّل هو المشهور

(4)

، وعليه القاضي وأصحابه؛ لأنَّ المأذون فيه

(1)

في (أ): والضَّمان.

(2)

كتب في هامش (و): (يعني وهو غير مأذون له في فعله).

(3)

في (ب): تجب.

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 198

لا أثر له في الضَّمان، وإنَّما الجناية ما زاد عليه؛ فأسند الضَّمان إليها.

ومنها: لو اقتَصَّ من الجاني، ثمَّ جرحه هو أو غيره عدواناً

(1)

؛ وجب كمال الدِّية.

وفيه وجه آخر: أنَّه يجب نصفها

(2)

.

ومنها: لو رمى صيداً فأثبته ولم يُوحِه، ثمَّ رماه آخر رمية غير مُوحِيَةٍ ومات من الجرحين؛ وجب ضمان الصَّيد كلِّه مجروحاً بالجرح الأوَّل على الثَّاني

(3)

على المشهور من المذهب.

لكن من الأصحاب من يعلِّله: بأنَّ رمي الثَّاني انفرد بالعدوان

(4)

؛ فاستقلَّ بالضَّمان.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: فسرى الجرح إلى نفسه).

(2)

كتب على هامش (ن): (ومن فروع هذه القاعدة: لو حفر بئراً، ووضع آخر حجراً، وكانا متعديين، فعثر إنسان بالحجر فوقع في البئر فتلف؛ فالضمان عليهما على أحد القولين، والذي قدمه في «المحرر»: أن الضمان على واضع الحجر، ولو كان أحدهما محقًّا؛ فالضمان بكماله على الآخر.

ومن فروعها: لو قرَّب صبياً من الهدف فقتله سهم؛ فالضمان على الذي قربه دون الرامي؛ لأن فعل الرامي مأذون فيه، وتقريبه الصبي من الهدف غير مأذون فيه).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: على الرامي الثاني للرامي الأول؛ لكون الأول ملكه بإثباته، فلم يكن للآخر رميه).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: فلم يكن مأذوناً فيه، بخلاف الأول، فإنه مأذون فيه).

ص: 199

ومنهم من يعلِّله: بأنَّ رميه كان سبباً للتَّحريم؛ فلذلك وجب عليه كمال الضَّمان.

ويتخرَّج على التعليل الأول وجه آخر

(1)

: بأنَّه يضمنه بنصف القيمة ممَّا قبلها.

ومنها: لو استأجر دابَّة لمسافة معلومة فزاد عليها، أو لحملِ مقدارٍ معلوم فزاد عليه، فتلفت الدَّابَّة؛ فإنه يضمنها بكمال القيمة، نصَّ عليه في الصُّورة الأولى

(2)

.

وخرج الأصحاب وجهاً آخر: بضمان النِّصف من مسألة الحدِّ، وكذلك حكم ما إذا ركب الدَّابَّة مع المستأجر غيرُه فتلفت تحتهما.

ومنها: إذا اشترك مُحِلٌّ ومُحْرِمٌ في جرح صيد ومات من الجرحين؛ فإنَّه يلزم المحرمَ ضمانه كاملاً، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور ومهنَّى.

وقال القاضي في «المجرَّد» : مقتضى الفقه عندي: أنه يلزمه نصف الجزاء، وقاسه على مشاركة من لا ضمان عليه في إتلاف النُّفوس والأموال.

(1)

في (أ): ويتخرج وجه آخر.

(2)

جاء في مسائل إسحاق بن منصور الكوسج (6/ 2908)، ما نصه: قلت: قال: سألت سفيان عن رجل تكارى حماراً يوماً بدرهم، على أن لا يخرجه من الكوفة، فأخرجه؟ قال: يضمن. قال أحمد: جيد.

ص: 200

والفرق واضح؛ إذ

(1)

الإذن هناك

(2)

منتف، وههنا موجود.

نعم، إن قصد المحلُّ إعانةَ المحرم ومساعدته على قتل الصَّيد

(3)

توجَّه ما ذكره القاضي؛ فإنَّه يكره له ذلك أو يحرم عليه، كما إذا باع من لا جمعة عليه ممَّن

(4)

عليه الجمعة

(5)

بعد النِّداء.

ومنها: لو اشترك في جرح آدميٍّ مقتصٌّ وغيره؛ فهل يجب على شريك المقتصِّ كمال الدِّية أو نصفها؟ على وجهين

(6)

.

ومنها: لو تزوَّج امرأة

(7)

ثمَّ دفعها هو وأجنبيٌّ فأذهبا عذرتها، ثمَّ طلقها قبل الدُّخول؛ فنصَّ أحمد في رواية مهنَّى: على أنَّه يجب على

(1)

في (أ): إذا.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: في مشاركة من لا ضمان عليه الإذن منتف في كلٍّ من الفعلين، فيكون الضمان بينهما نصفين، ولو كان أحدهما لا ضمان عليه، بخلاف مسألة المحل والمحرم؛ فإن الإذن موجود في أحدهما دون الآخر).

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني: فينتفي الإذن في كل من الفعلين، وحينئذ فيكون الضمان بينهما نصفين).

(4)

في (ب): لمن.

(5)

في (ب): جمعة.

(6)

كتب على هامش (ن): (الظاهر أن هذه المسألة هي المسألة السابقة: لو اقتص من الجاني ثم جرحه هو أو غيره عدواناً).

(7)

في (ب): بامرأة.

ص: 201

الأجنبيِّ نصف العُقْر

(1)

، وهو أرش البكارة، وعلى الزَّوج نصف المهر فقط من غير أرش.

ووجه ذلك: أنَّ إذهاب البكارة على هذا الوجه غير مأذون فيه؛ فيسقط الضَّمان به، ولزم الأجنبيَّ نصف الأرش، وأمَّا الزَّوج؛ فأرش البكارة غير مضمون عليه، وإنَّما المضمون عليه المهر، ولم يوجد ما يقرِّره.

وخرَّج صاحب «المغني» وجهًا آخر: أنَّه يتقرَّر المهر كلُّه على الزَّوج بهذا الفعل مع انفراده به؛ لأنَّ الأجنبيَّ لو استقل بهذا الفعل؛ للزمه مهر المثل كلُّه على رواية منصوصة نقلها مهنَّى أيضاً، فإذا كان موجباً للمهر ابتداء؛ فلأنْ يقرِّره أولى.

ولكن في صورة الاشتراك في الفعل غير المأذون فيه إنَّما يجب على الزَّوج نصف الضَّمان.

نعم، يتخرج من هذه الرِّواية رواية أخرى: أنَّ الأجنبيَّ هنا عليه نصف مهر المثل.

واختار ابن عقيل: أنَّ الزَّوج هنا يجب عليه نصف أرش البكارة مع نصف المهر؛ لأنَّ الزَّوج إنَّما يستحقُّ إتلاف البكارة تبعاً لاستيفاء حقِّه من الوطء، فإذا أتلفه على غير هذا الوجه ضمنه؛ كالمستعير إذا أتلف خمل المنشفة -مثلاً- بغير الاستعمال؛ فإنَّه يضمن.

(1)

قال الأصمعي: (يقال: أعط المرأة عقرها، أي: أعطها شيئًا كالمهر، وذلك إذا غشيها على شبهة). ينظر: غريب الحديث لإبراهيم الحربي 3/ 997.

ص: 202

وأيضاً: فلو وجب لرجل قصاص على آخر في نفسه، فقطع بعض أعضائه عدواناً؛ ضمنه؛ لأنَّه لم يستحقَّ إتلاف بعض

(1)

أعضائه إلَّا تبعاً لإتلاف جملته لا استقلالاً.

ويتخرَّج

(2)

فيه وجه آخر: أنَّ الأرش كلَّه أو مهر المثل على الأجنبيِّ؛ لأنَّ الزَّوج مأذون له في إتلاف هذا الجزء في الجملة، فيكون الأجنبيُّ منفرداً بالجناية عليه، فيتكمَّل الضَّمان عليه.

(1)

قوله: (بعض) سقط من (أ).

(2)

قوله: (يتخرج) سقط من (ب).

ص: 203

‌قاعدة [29]

من سومح

(1)

في مقدارٍ يسيرٍ فزاد عليه؛ فهل تنتفي المسامحة في الزِّيادة وحدها أو في الجميع؟ فيه وجهان

.

وللمسألة صور

(2)

:

(1)

كتب على هامش (ن): (ويصح التعبير عنها بعبارة أخرى، فيقال: من تعدى محل الحق إلى غيره، هل يبطل به المستحَقُّ، أو يبقى، وإنما يبطل الزائد خاصة؟)

(2)

كتب على هامش (ن): (ومن فروع القاعدة: لو زُفَّت إليه الثيب وأرادت أن يقيم عندها سبعاً وفعل؛ فإنه يقضي لبقية ضرائرها السبع كما جزم به الشيخان وغيرهما، وحكى في «الفروع» عن «الروضة»: أنه لا يقضي إلا الزائد على الثلاث التي لو اقتصر عليها لم يقض لهن شيئاً، ووجه الأولى: أنها لما تعدَّت محل حقها سقط أصل حقها.

ومنها: لو قطعت يده من العضد، وقلنا: له أن يقتص من مفصل دونه، وهو المرفق، وله أخذ الحكومة للباقي كما هو أحد الوجهين فيهما، وقواه جماعة في الثانية، فلو أراد القطع من الكوع ففي «الفروع» وجهان مطلقان، المجزوم به منهما في «الكافي»: أنه يُمنع من ذلك، فلو قطع منه؛ فهل له حكومة الساعد، أم لا وهو الظاهر؛ تغليظاً إذ فعل ما ليس له أن يفعله، وأما إذا قلنا: إنه لا يمنع من ذلك، فهل له طلب أرش الساعد؟ يتوجه فيه وجهان؛ قياساً على نظائره.

ومنها: إذا رفع الذمي بناءه على بناء المسلم، فقال في «الفروع»: إنه يجب هدمه، فهل يهدم ما حصلت به التعلية، أو الجميع؟ يتجه أن يخرَّج فيه خلاف من هذه القاعدة، ويحتملهما كلام «الفروع» أيضاً، وإن كان الظاهر الأول.

ومنها: لو احتاج إلى الضبة، فضبب زائداً على الحاجة، فهل يأثم على الجميع، أو على الزائد، لم أره من كلامهم، ويتجه تخريجه على ما سبق).

ص: 204

منها: الوكيل في البيع مع الإطلاق يملك البيع بثمن المثل وبدونه بما يُتغابن بمثله عادة، فإذا باع بما لا يُتغابن بمثله عادة؛ فهل يضمن بقية ثمن المثل كلِّه، أو القدر الزَّائد عمَّا يتغابن به عادة؟ على وجهين

(1)

.

ورجَّح ابن عقيل: ضمان بقيَّة ثمن المثل كلِّه

(2)

، واستشهد له بالنَّجاسة الكثيرة في الثَّوب يجب غسلها، ولا يفرد منها ما يعفى

(3)

عنه بانفراده، وكذلك العمل الكثير في الصَّلاة؛ فإنَّه لو أفرد منه القدر المعفوُّ عنه بانفراده؛ فقد يصير الباقي يسيراً، فيلزم العفو عن الكلِّ، وكذلك إذا

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: هل يجعل العدوان مقصوراً على ذلك القدر، أو عليها في كل جزء).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

في (أ): ما لا يعفى.

ص: 205

ضرب الصَّبيَّ معلِّمُه أو المرأةَ زوجُها ضرباً مبرِّحاً وماتا؛ ضمن الدِّية كلَّها، ولو عُفِيَ عن القدر المباح بانفراده؛ لم يجب كمال الدِّية.

وهذه الصَّورة الأخيرة تردُّ إلى القاعدة الَّتي قبل هذه؛ حيث كان التَّلف تولَّد من ضربٍ مأذونٍ فيه وغير مأذون فيه

(1)

، فأوجب كمال الضَّمان، كما لو زاد على الحدِّ سوطاً، فلا دلالة له فيها

(2)

.

ومنها: لو أكل المضحِّي جميع أضحيته

(3)

؛ فهل يلزمه ضمان ثُلُثها أو ما يقع عليه الاسم؟ على وجهين

(4)

.

ولو تصدَّق أوَّلاً بما يقع عليه الاسم

(5)

أجزأه؛ لأنَّ الصَّدقة بالثُّلُث كلِّه

(6)

مستحبٌّ ليس بواجب على المشهور في المذهب.

(1)

قوله: (فيه) سقط من (ب) و (ج) و (هـ) و (ن)، وضُرب عليها في (د).

(2)

كتب على هامش (ن): (ومن فروع هذه القاعدة: لو انكسر ظفر المحرم، فقص المنكسر فقط؛ فلا فدية، ولو زاد في القص؛ فداه، ذكره في «الكافي»، وظاهر عبارته: أنه يفدي الجميع)، ثم كتب على هذا الهامش بخط مغاير:(لا خفاء أن وجوب الفدية في الظفر يستوي فيه قص البعض من كل واحد وقص الجميع منه كالشعر، فوجوب الفدية فيما لو زاد في القص على المنكسر إنما هو لقص ذلك القدر الزائد، والله أعلم).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: المتطوع بها).

(4)

كتب على هامش (ن): (أصحهما: الثاني، ويتخرج وجه ثالث: بلزوم ضمان الجميع).

(5)

كتب على هامش (ن): (وهو ما يستحب التضحية به على المذهب أو يجب).

(6)

قوله: (كلِّه) سقط من (ب).

ص: 206

ومنها: لو تعدَّى الخارج من السَّبيل موضع العادة؛ فهل يجب غسل الجميع أو القدر المجاوز لموضع العادة ويجزئ الحجر في موضع العادة؟ على وجهين:

أشهرهما: أنَّ الواجب غسل المتعدِّي خاصَّة، وهو قول القاضي، وربَّما نسبه إلى نصِّ أحمد؛ لأنَّ هذا لا ينسب فيه إلى تفريط وتعدٍّ، بخلاف الوكيل والمضحِّي.

والثَّاني: يلزمه غسل الجميع، وبه جزم القاضي أبو يعلى الصَّغير، ولم يَحكِ فيه خلافاً.

ومنها: لو أدَّى

(1)

زكاته إلى واحد، وقلنا: يجب الأداء إلى ثلاثة؛ فهل يضمن الثُّلُثين، أو ما يقع عليه الاسم؟ على وجهين

(2)

.

(1)

قوله: (لو أدَّى) سقط من (ج). وقوله: (لو) سقط من (ب).

(2)

كتب على هامش (ن): (أصحهما: ما يقع عليه الاسم).

ص: 207

‌قاعدة [30]

إذا أخرج

(1)

عن ملكه مالاً على وجه العبادة، ثمَّ طرأ ما يمنع إجزاءه أو الوجوب

، فهل يعود إلى ملكه أم لا؟ فيه خلاف.

فمن ذلك: إذا أوجب هدياً أو أضحية عن واجب في ذمَّته، ثمَّ تعيَّبت؛ فإنَّها لا تجزئه، وهل يعود المعيب إلى ملكه؟ على روايتين

(2)

.

ومنها: إذا عجَّل الزَّكاة فدفعها إلى الفقير، ثمَّ هلك المال

(3)

؛ فهل يرجع بها أم لا؟ على وجهين

(4)

.

ومنها: ما لو عجَّل عن ثلاثين من البقر تبيعاً، ثمَّ نُتِجت

(5)

عشرةً

(1)

أشار في هامش (ب) إلى نسخة: إذا أفرز أو أخرج.

(2)

كتب على هامش (ن): (اختار في «الوجيز»: أنها تعود إلى ملكه، وقال في «الفروع»: لا تعود على الأصح)، وكُتب بعدها بخط مغاير:(وهو المذهب).

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني قبل الحول).

(4)

كتب على هامش (ن): (أصحهما: لا).

(5)

قال في المطلع (ص 178): (قوله: "فَنُتِجَتْ عند الحَوْلِ سَخْلَةً": نتجت -بضم أوله- على البناء للمفعول، وسخلة مفعول ثان، ويجوز "نتَجَت" على البناء للفاعل، وسَخْلَةً مفعوله، يقال في فعله: نتجت الناقة، وأنتجت، مبنيين للفاعل، ونتجتها أنا، وأنتجتها: جعلت لها نتاجًا، ونُتِجت وأُنْتِجَت، مبنيين للمفعول، ست لغات، وفيه حذف مضاف تقديره: نتج بعضها سخلة، أو نتجت بعضها سخلة).

ص: 208

قبل الحول، وقلنا: لا يجزئ التَّبيع

(1)

عن شيء منها؛ فهل يسترجع؟ يُخرَّج على الوجهين

(2)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (المذهب: أنه يجزئ عن الثلاثين).

(2)

كتب على هامش (ن): (قال في «الإنصاف»: قلت: إن كان المعجل موجوداً ساغ ارتجاعه).

ص: 209

‌قاعدة [31]

من شرع في عبادة تلزم بالشُّروع، ثمَّ فسدت؛ فعليه قضاؤها على الصَّفة

(1)

الَّتي أفسدها

، سواء كانت واجبة في الذِّمَّة على تلك الصِّفة أو دونها.

ويتخرَّج على ذلك مسائل:

منها: إذا صلَّى المسافر خلف مقيم وفسدت

(2)

صلاته؛ فإنَّه يجب عليه قضاؤها تامَّة.

ومنها: إذا أحرم من بلده ثمَّ أفسد نسكه بجماع؛ وجب قضاؤه والإحرام من موضع إحرامه أوَّلاً، نصَّ عليه أحمد

(3)

.

بخلاف ما إذا أحصر في نسكه ذاك ثمَّ قضاه؛ فإنَّه لا يلزمه الإحرام إلَّا من الميقات، نصَّ عليه أيضاً؛ لأنَّ المحصر فيه لم يلزمه إتمامه

(4)

.

(1)

في (ب): صفة.

(2)

كتب في هامش (ب): (الضَّمير في قوله: فسدت صلاته: الظَّاهر أنَّه عائد للمسافر).

(3)

جاء في شرح العمدة لشيخ الإسلام في كتاب الحج (2/ 257) ما نصه: (قال في رواية أبي طالب في الرجل إذا واقع امرأته في العمرة: عليهما قضاؤها من حيث أهلَّا بالعمرة لا يجزئهما إلا من حيث أهلَّا {والحرمات قصاص} .

وقال في رواية ابن مشيش: إذا أفسد الرجل الحج؛ فعليه الحج من قابل من حيث أوجب الإحرام. قيل له: فإن كان من أهل بغداد وقد أوجب الإحرام على نفسه، ولم يكن له من قابل زاد ولا راحلة؟ قال: فعليه متى وجد).

(4)

كتب على هامش (ن): (ولأنه غير آثم بإفساده والتحلل منه).

ص: 210

ومنها: إذا عيَّن عمَّا في ذمَّته من الهدي أو الأضحية ما هو أزيد صفةً من الواجب، ثمَّ تلف، فإن كان تلفه بتفريطه؛ فعليه إبداله بمثله، وإن كان بغير تفريطه

(1)

؛ ففيه وجهان حكاهما القاضي في «شرح المذهب» .

وجزم صاحب «المغني» : بأنَّه لا يلزمه أكثر ممَّا كان في ذمَّته

(2)

؛ لأنَّ الزِّيادة وجبت بتعيينه، وقد تلفت بغير تفريط؛ فسقطت؛ كما لو عيَّن هدياً تطوعاً ثمَّ تلف.

ومنها: لو نذر اعتكافاً في شهر رمضان ثمَّ أفسده؛ فهل يلزمه قضاؤه في مثل تلك الأيَّام؟ على وجهين

(3)

.

وظاهر كلام أحمد لزومه، وهو اختيار ابنِ أبي موسى؛ لأنَّ في الاعتكاف في هذا الزَّمن فضيلةً لا توجد

(4)

في غيره؛ فلا يجزئ القضاء في غيره، كما لو نذر الاعتكاف في المسجد الحرام ثمَّ أفسده؛ فإنَّه يتعيَّن القضاء فيه، ولأنَّ نذر اعتكافه يشتمل على نذر اعتكاف ليلة القدر؛ فتعيَّن؛ لأنَّ غيرها لا يساويها.

(1)

في (ب) و (د) و (هـ) و (ن): تفريط.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

كتب على هامش (ن): (أصحهما: لا يلزمه).

(4)

في (ب): يوجد.

ص: 211

وعلى هذا: فنقول: لو نذر اعتكاف عشرة أيَّام، فشرع في اعتكافها في أوَّل العشر الأواخر ثمَّ أفسده؛ لزمه قضاؤه في العشر من قابل؛ لأنَّ اعتكاف العشر لزمه بالشُّروع عن نذره، فإذا أفسده لزمه قضاؤه على صفة ما أفسده.

ص: 212

‌قاعدة [32]

يصحُّ عندنا استثناء منفعة العين المنتقِل ملكها من ناقلها مدَّة معلومة

(1)

.

ويتخرَّج على ذلك مسائل:

منها: المبيع إذا استثنى البائع منفعته مدَّة معلومة؛ صحَّ.

وحكي فيه رواية أخرى: بعدم الصِّحة.

ومنها: الوقف، يصحُّ أن يقف ويستثني منفعته مدَّة معلومة أو مدَّة حياته؛ لأنَّ جهالة المدَّة هنا لا تؤثر

(2)

؛ فإنَّها لا تزيد على جهالة مدَّة كلِّ بطن بالنِّسبة إلى من بعده.

ومنها: العتق، يصحُّ أن يُعتق عبده ويستثني نفعه مدَّة معلومة، نصَّ عليه

(3)

؛ لحديث سفينة

(4)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (كان ينبغي أن يزيد هنا: أو مجهولة فيما يحتمل فيه الجهالة؛ لئلا يرد عليه استثناء منفعة الوقف مدة حياته ونحوها).

(2)

في (ب) و (ج) و (هـ): يؤثِّر.

(3)

جاء في مسائل إسحاق ابن منصور (8/ 4493): (قلت: إذا قال: أنت حر على أن تخدمني كذا وكذا؟ قال أحمد: جيد، أليس قد أعتقت أم سلمة رضي الله عنها سفينة على أن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم.

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو ما رواه أحمد وابن ماجه عن سفينة أبي عبد الرحمن قال: أعتقتني أم سلمة وشرطت علي أن أخدم النبي صلى الله عليه وسلم ما عاش، وفي رواية أبي داود: فقلت: لو لم تشرطي علي ما فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقتني واشترطت علي)، أخرج أحمد (21927)، وأبو داود (3932)، وابن ماجه (2526)، وحسنه الألباني في الإرواء (6/ 175).

ص: 213

وكذا لو استثنى خدمته مدَّة حياته.

وعلى هذا يتخرَّج أن يُعتِق أمته ويجعل عتقها صداقها؛ لأنَّه استثنى منفعة البضع

(1)

وتملَّكها

(2)

بعقد النِّكاح، وجعل العتق عوضاً عنها

(3)

؛ فانعقدا

(4)

في آن واحد.

ومنها: إذا كاتب أَمَة واستثنى منفعة الوطء؛ فإنَّه يصحُّ على المذهب المنصوص؛ فإنَّه إنَّما نقل بالكتابة عن ملكه منافعها دون رقبتها.

ومنها: الوصيَّة، فيصحُّ أن يوصي برقبة عين لشخص، وبنفعها لآخر، مطلقاً أو مدَّة معلومة، أو يبقيها للورثة.

ومنها: الهبة، يصحُّ أن يهبه شيئاً، ويستثني نفعه مدَّة معلومة، وبذلك أجاب الشَّيخ موفَّق الدِّين رحمه الله.

ومنها: عوض الصَّداق والخلع والصُّلح على مال، قياس المذهب: صحَّة استثناء المنفعة فيها.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (ن): بالبضع.

(2)

في (ب) و (د) و (ن): وتملكه.

(3)

في (ب) و (د) و (ن): عنه.

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: العتق والنكاح).

ص: 214

‌قاعدة [33]

الاستثناء الحكميُّ؛ هل هو كالاستثناء اللَّفظيِّ، أم تغتفر فيه الجهالة بخلاف اللَّفظيِّ

؟

فيه وجهان، والصَّحيح عند صاحب «المغني»: الصِّحَّة

(1)

، وهو قياس المذهب، خلافاً للقاضي.

ويخرَّج على ذلك مسائل:

منها: لو باعه أمة حاملاً بحُرٍّ

(2)

، وقلنا: لا يصحُّ استثناء الحمل لفظاً

(3)

؛ فهل يصحُّ أم لا؟ على وجهين

(4)

.

ومنها: لو باعه عقاراً تَستحِقُّ

(5)

فيه السُّكنى الزَّوجةُ المعتدَّة من

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله: أي مع الجهالة في الاستثناء الحكمي، ولكن كلامه في المسألة الثانية من فروع القاعدة ينافي هذا النقل عنه.

(2)

كتب على هامش (ن): (كمن تزوج امرأة على أنها حرة وأحبلها، فبانت أمة؛ فإن الولد حر).

(3)

كتب على هامش (ن): (لأنه مجهول، وهو المذهب).

(4)

كتب على هامش (ن): (أصحهما: الصحة).

(5)

في (أ): يستحقُّ.

ص: 215

الوفاة بالحمل؛ فهل يصحُّ أم لا

(1)

؟

قال صاحب «المغني» : لا؛ لأنَّ مدَّة الحمل مجهولة، بخلاف مدَّة الأشهر.

وقال الشَّيخ مجد الدِّين في «مسوَّدته على الهداية» : قياس المذهب صحَّة البيع

(2)

. وأطلق

(3)

.

ومنها: بيع الدَّار المؤجرة يصحُّ، وسواء علم المشتري بالإجارة أو لم يعلم، نصَّ عليه أحمد في رواية جعفر بن محمد

(4)

.

وقال في رواية الميمونيِّ: ليس له أن يبيعها حتى يبيِّن.

فقد يكون مأخذه: اشتراط العلم بالمستثنى من المنافع في العقد.

وقيل: لأنَّ البيع المطلق يتناول المنافع، وهي الآن ملك لغيره؛ فيشبه تفريق الصَّفقة، ولكنَّ أحمد إنَّما أوجب بيان ذلك؛ لأنَّ تركه تدليس وتغرير، ولم يتعرَّض للصِّحَّة والبطلان، وسواء علم بمقدار مدَّة

(1)

قوله: (أم لا) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن).

(2)

كتب على هامش (ن): (وصوَّبه في «الإنصاف»).

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني: فتناول إطلاقه المعتدة بالحمل والمعتدة بالأشهر وأن البيع صحيح في الصورتين).

(4)

الذي رووا عن الإمام أحمد بهذا الاسم جماعة كثيرة، وأشهرهم وأكثرهم مسائل، وهو الذي يراد عند الإطلاق: جعفر بن محمد بن شاكر، أبو محمد الصائغ، كان يحضر مجلس أحمد ويسمع فتاويه، وكان عابدًا زاهدًا ثقةً صادقًا متقنًا ضابطًا، وروى عن أحمد مسائل كثيرة، توفي سنة 279 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 124.

ص: 216

الإجارة أو لم يعلم

(1)

، هذا قياس المذهب.

وقد ذكروا أنَّه لو اشترى صبرة من طعام، فبَانَ تحتها دكَّةٌ؛ فإن علم بذلك فلا خيار له، وإلَّا فله الخيار، وعلْمُه بها يفضي إلى دخوله على جهالة مقدار الصَّبُرة، ولو استثنى بلفظه مقدار ذلك لم يصحَّ

(2)

.

ومنها: لو اشترى أمة مزوَّجة؛ صحَّ، سواء علم بذلك أو لم يعلم، وتقع منافع البضع مستثناة في هذا العقد حكماً.

ولو استثناها في العقد لفظاً؛ لم يصحَّ.

ومنها: لو اشترى شجراً عليه ثمرٌ، أو أرضاً فيها زرعٌ، أو داراً فيها طعام كثير؛ صحَّ، ووقع بقاء الثَّمر والزَّرع والطَّعام مستثنًى إلى أوان تفريغه على ما جرت به العادة، وذلك مجهول.

ولو استثنى بلفظه مثل هذه المدَّة؛ لم يصحَّ.

ومنها: لو اشترى أمة أو عبداً مُحرِماً؛ صحَّ، ووقع مدَّة إحرامه

(1)

كتب على هامش (ن): (يعني: فإن البيع صحيح، وهل يبطل خياره إذا جهل المدة؟ فالمأخوذ من مسألة الصبرة أنه لا خيار له، ووجهه: أنه مقصِّر حيث لم يفحص عن قدر المدة إذا تبين أنها طويلة).

(2)

كتب على هامش (ن): (ومنها: لو باع دارًا عليها حق، ووضع لَبِنَةً أو آجُرًّا ما صحَّ، ولصاحب الحق استيفاؤه، وهي منفعة مجهولة مدتها مستثناة شرعاً، ولو استثناها بلفظه لم يصح، وفي «الأشباه والنظائر» للسبكي: وكذا لو باع الماشية إلا شاة الزكاة لم يصح؛ للجهل بالمستثنى المؤدي للجهل بالمبيع، ولو باعها كلها وقد وجبت فيها الزكاة صح، ويد الساعي ممتدة إلى أخذ شاة الزكاة، فهي مستثناة شرعاً.

ص: 217

مستثنًى من البيع، وسواء علم بذلك المشتري أو لم يعلم، نصَّ على ذلك أحمد، مع أنَّ مدَّة الإحرام لا تنضبط، لا سيَّما بالعمرة، فقد يقع الإبطاء في السَّير؛ لعائق أو غيره.

لكن قد يقال: إنَّ المسافة معلومة وأفعال النُّسك معلومة؛ فصار كاستثناء ظهر الدَّابَّة إلى بلد معيَّن.

ص: 218

‌قاعدة [34]

استحقاق منافع العبد بعقد لازم يمنع من سريان العتق إليها؛ كالاستثناء في العقد

(1)

وأولى

؛ لأنَّ الاستثناء الحكميَّ أقوى، ولهذا يصحُّ بيع العين المؤْجَرة والأمة المزوَّجة عند من لا يرى استثناء المنافع في العقد.

خلافاً للشَّيخ تقيِّ الدين رحمه الله في قوله: يسري العتق إليها إن لم يستثنِ

(2)

.

ويتفرَّع على هذا مسائل:

منها: إذا عَتَقت الأمة المزوَّجة؛ لم تملك منفعة البضع الَّتي هي مورد النِّكاح، وإنَّما يثبت

(3)

لها الخيار تحت العبد؛ لأنَّها كملت تحت ناقص، فزالت كفاءته بذلك، أو تعبُّداً غير معقول المعنى.

ومن قال بسراية العتق؛ قال: قد ملكت بضعها، فلم يبقَ لأحد عليها ملك؛ فصار الخيار لها في المقام مع الزَّوج أو مفارقته، سواء

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: كاستثنائها باللفظ في العتق، فيكون مانعاً من سريان العتق إليها، فحقُّ العبارة أن يقول: كالاستثناء في العتق).

(2)

في (ب) و (ج) و (هـ): تستثنَ.

(3)

في (ب) و (د) و (هـ): ثبت.

ص: 219

كان حرًّا أو عبداً، وعلى هذا فلو استثنى منفعة بضعها للزَّوج؛ صحَّ، ولم تملك الخيار، سواء كان زوجها حرًّا أو عبداً، ذكره الشَّيخ

(1)

، وقال: هو مقتضى المذهب.

ويَرِدُ على القول

(2)

بملكها بضعَها: أنَّه يلزم منه انفساخ نكاحها؛ حيث لم يبق للزَّوج ملك عليها، ولا قائلَ بذلك.

على أنَّه يمكن أن يقال: عتقُ بضعِها لا يلزم منه ثبوت الخيار لها على الحرِّ؛ لأنَّ حريَّة البضع لا تنافي ثبوتَ استحقاق منفعته بعقد النِّكاح ابتداءً؛ فالحريَّة الطَّارئة أوْلى.

ومنها: لو آجر عبده مدَّة، ثمَّ أعتقه في أثنائها؛ لم تنفسخ الإجارة على المذهب.

وعند الشَّيخ

(3)

: ينفسخ؛ إلَّا أن يستثنيها في العتق

(4)

.

وخرَّج صاحب «المقنع» ذلك وجهاً لنا، لا بناءً على السِّراية، بل

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: تقي الدين). وقال في الإنصاف معلقًا على كلام ابن رجب (20/ 461): (والظاهر أنه أراد بالشيخ: الشيخ تقي الدين، أو سقط ذكره في الكتابة).

(2)

في (ب): هذا القول.

(3)

كتب على هامش (ب) و (ن): (أي: تقي الدين).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: ينفسخ عنده إلا أن يستثنيها باللفظ في العتق كما تقدم ذلك في القاعدة، فلا تنفسخ).

ص: 220

على زوال ولاية السَّيِّد عن عبده بعتقه؛ فيكون كما لو آجر الوليُّ الصَّبيَّ مدَّة ثمَّ بلغ في أثنائها؛ فإنَّه ينفسخ في وجه.

وهو ضعيف؛ فإنَّ الوليَّ تنقطع ولايته بالكليَّة عن الصَّبيِّ ببلوغه رشيداً، بخلاف السَّيِّد، فإنَّ له استثناء منافعه بالشَّرط، والاستثناء الحكميُّ أقوى كما تقدَّم.

ومنها: لو أعتق الورثةُ العبدَ الموصى بمنافعه؛ صحَّ، ولم يسرِ إلى المنافع.

ص: 221

‌قاعدة [35]

من ملك منفعة عين بعقد، ثمَّ ملك العين بسبب آخر؛ هل ينفسخ العقد الأوَّل أم لا

؟

ها هنا صورتان:

إحداهما: أن يكون العقد الَّذي ملك به المنفعة عقداً مؤبَّداً:

فإن لم يكن عقد معاوضة؛ فلا معنى لانفساخه؛ كالموصى له بمنافع الأمة إذا اشتراها؛ فإنَّه يجتمع له ملكها بالعقدين، ولا ضرر في ذلك، فهو كما لو كان ملكه للمنفعة بغير عقد؛ كملك الورثة لمنافع العين الموصى برقبتها إذا اشتروا العين من الموصى له.

وإن كان عقد معاوضة -وهو النِّكاح-؛ انفسخ بملك الرَّقبة؛ لأنَّه ملك ضعيف ومختلف في مورِده؛ هل هو المنفعة أو الانتفاع، ويختصُّ بمنفعة البضع، ويملك به الاستمتاع بنفسه دون المعاوضة عليه

(1)

؛ فلا يجتمع مع الملك القويِّ، وهو ملك الرَّقبة، بل يندفع به.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: يملك الزوج بعقد النكاح الاستمتاع بنفسه دون نقله إلى غيره، فليس كالإجارة يستوفي فيها المنفعة بنفسه أو ممن يقوم مقامه في استيفائها).

ص: 222

ولا نقول: إنَّه يدخل ملكه في ملك الرَّقبة

(1)

؛ لأنَّ مالك الرَّقبة لم يكن مالكاً له؛ فكيف يتضمَّن عقده على الرَّقبة ملكه؟!

بل نقول: إنَّه قد اجتمع له ملك الرَّقبة بجميع منافعها بجهة، وملك البضع بجهة أخرى ضعيفة؛ فبطلت خصوصيَّات الجهة الضَّعيفة كلُّها؛ لمصيره مالكاً للجميع ملكاً تامًّا.

وهذا صحيح؛ فإنَّه لا يمكن بعد هذا الملك أن يقال: إنَّه يملك الانتفاع بالبضع دون منفعته، ولا إنَّه يملك الانتفاع به بنفسه دون المعاوضة عليه

(2)

؛ فتعيَّن إلغاء خصوصيات عقد النِّكاح كلِّها.

والصُّورة الثَّانية: أن يكون العقد المملوك به المنفعة غير مؤبَّد؛ كالإجارة، فإذا ملك العين بعد ذلك؛ فهل ينفسخ؟ فيه وجهان.

ويندرج تحت ذلك صور:

منها: لو اشترى المستأجر العين المستأجرة من مؤجرها؛ ففي انفساخ الإجارة وجهان حكاهما الأصحاب، وربَّما حُكي روايتان:

أحدهما

(3)

: تنفسخ؛ لأنَّه ملك الرَّقبة، فبطل ملك المنفعة؛ كما لو اشترى زوجته.

(1)

كتب على هامش (ن): (هذا سؤال مقدر، وجوابه قوله: "لأن مالك الرقبة

إلخ").

(2)

قال ابن نصر الله رحمه الله: قد يقال إن هذا الثاني لا يمتنع القول به، ويكون ذلك فائدة القول بعدم انفساخ النكاح.

(3)

في (أ) و (و): إحداهما.

ص: 223

والثَّاني: لا تنفسخ، وهو الصَّحيح، واختيار القاضي وابن عقيل والأكثرين؛ لأنَّ

(1)

المنافع ملكها أوَّلاً بجهة الإجارة وخرجت عن ملك المؤجر، والبيع بعد ذلك يقع على ما يملكه البائع، وهو العين المسلوبة النَّفع، فصار كما لو اشترى العين الموصى بمنافعها من الورثة، واستأجر المنافع من مالكها

(2)

في عقد أو عقدين؛ فإنَّ الإجارة لا تنفسخ بغير خلاف

(3)

، ولا منافاة بين ثبوت البيع والإجارة، بخلاف النِّكاح.

وأيضاً: فالملك ههنا أقوى من ملك النِّكاح؛ لأنَّه يملك به الانتفاع والمعاوضة، ويملك به عموم المنافع؛ فلا ينفسخ بملك الرَّقبة.

فإن قيل: لو لم تنفسخ الإجارة؛ لعادت المنافع بعد انقضاء مدَّتها إلى المؤجر؛ لأنَّها لم تدخل في عقد البيع، وإنَّما استأجرها مدَّة مؤقَّتة، بخلاف الزَّوج؛ لأنَّه ملك المنفعة ملكاً مؤبَّداً

(4)

.

فالجواب: أنَّ البائع باع ما يملكه من العين ومنافعها الَّتي يستحقُّها

(1)

في (أ) و (هـ): أنَّ.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو الموصى له بها).

(3)

كتب على هامش (ن): (إنما الخلاف فيما إذا كانت الإجارة من مالك العين، أما إذا تعدد مالك المنفعة ومالك العين؛ فلا تنفسخ الإجارة بلا خلاف).

(4)

كتب على هامش (ن): (والإجارة ملك بها المنافع ملكاً غير مؤبد، يعني: فتعود بعد انقضائها إلى الذي كان يملكها).

ص: 224

بعد انقضاء مدَّة الإجارة، فإنَّه يملك العقد على المنافع التي تلي العقد والَّتي تتأخر عنه بالإجارة عندنا، فبالبيع

(1)

أولى، أمَّا إن كان الاستئجار من غير البائع، وكان مالكاً للمنافع مؤبَّدةً

(2)

؛ فالإجارة باقية، وتعود إليه بعد انقضاء المدَّة بغير تردُّد.

ولو ملك المستأجر العين بهبة فهو كما لو ملكها بشراء، صرَّح به الشَّيخ مجد الدِّين في «مسوَّدته على الهداية» .

فأمَّا إن وهب العين المستعارة من المستعير؛ فإنَّه تبطل العارية، ذكره القاضي وابن عقيل؛ لأنَّها عقد غير لازم.

ومنها: لو استأجر داراً من أبيه، ثمَّ مات الأب فورثها؛ فهل تنفسخ الإجارة؟ فيه وجهان أيضاً.

وخرَّجهما صاحب «التَّلخيص» من المسألة الَّتي قبلها.

والمذهب عند القاضي في «الخلاف» : أنَّه لا ينفسخ؛ كشراء المستأجر.

وقال في «المجرد» : ينفسخ.

ويوجَّه: بأنَّ الملك بالإرث قهريٌّ يقتضي تملُّك ما لا يُتملَّك مثله

(1)

في (أ) و (هـ) و (و): فالبيع.

(2)

في (ن): (مدة مؤبدة). قال ابن نصر الله رحمه الله: لعله ملكاً مؤبداً.

وكتب على هامش (ن): (كالموصى له بمنافعها إذا آجرها للذي اشترى الرقبة من الورثة وانقضت مدة الإجارة، فإن المنافع تعود إلى الموصى له بها بغير تردد).

ص: 225

بالعقود؛ فجاز أن يملك به المنافعَ المستأجرة مستأجرُها، فتنفسخ الإجارة.

وأيضاً: فقد ينبني هذا على أنَّ المنافع المستأجرة هل تحدث على ملك المؤجر ثمَّ تنتقل إلى ملك المستأجر؟

فإن قلنا بذلك؛ فلا معنى لحدوثها على ملكه وانتقالها إليه.

هذا إذا كان ثَمَّ وارث سواه؛ لأنَّ فائدة بقاء الإجارة استحقاق بقيَّة الأجرة

(1)

، فإذا لم يكن وارث سواه؛ فلا معنى لاستحقاقه العوض على نفسه؛ إلَّا أن يكون على أبيه دين لغيره، وقد مات مفلساً بعد

(2)

أن سلَّفه الأجرة.

ومنها: لو اشترى طلعاً لم يؤبَّر

(3)

في رؤوس نخله بشرط قطعه، ثمَّ اشترى أصله في الحال؛ فهل يتخرَّج انفساخ البيع في الطَّلع على ما مرَّ من الوجهين؛ لأنَّه بمنزلة المنفعة لتبعه في البيع، أم لا؛ لأنَّه عين مستقلَّة؟

فيه تردُّدٌ، والمجزوم به في «الكافي»: أنَّه لا ينفسخ بغير خلاف.

(1)

كتب في هامش (ن): (أي: فلا فائدة في بقاء الإجارة).

(2)

في (أ): وبعد.

(3)

كتب على هامش (ن): (التأبير هو التلقيح، وهو وضع الذكر في الأنثى، لكن المجزوم به عند أكثر الأصحاب: أنه تشقق الطلع، وهو الذي أناطوا به الحكم في أنه يكون للتابع إذا باع أصله، وهو المراد في كلام المصنف هنا).

ص: 226

بسم الله الرحمن الرحيم

‌قاعدة [36]

من استأجر عيناً ممَّن له ولاية الإيجار، ثمَّ زالت ولايته قبل انقضاء المدَّة؛ فهل تنفسخ الإجارة

؟

هذا قسمان:

أحدهما: أن تكون إجارته بولاية محضة:

فإن كان وكيلاً محضاً؛ فالكلام في موكِّله دونه.

وإن كان مستقلًّا بالتَّصرُّف؛ فإن انتقلت الولاية إلى غيره؛ لم تنفسخ الإجارة؛ لأنَّ الولي الثَّاني يقوم مقام الأوَّل، كما يقوم المالك الثَّاني مقام الأوَّل.

وإن زالت الولاية عن المولَّى عليه بالكليَّة؛ كصبيٍّ يبلغ بعد إيجاره أو إيجار عقاره والمدَّة باقية؛ ففي الانفساخ وجهان:

أشهرهما: عدمه، وهو قول القاضي وأصحابه؛ لأنَّه تصرَّف له تصرفاً لازماً؛ فلا تنفسخ ببلوغه، كما لو زوَّجه أو باع عقاره.

والثَّاني: تنفسخ، ذكره في «المغني» وجهاً؛ لأنَّه آجره مدَّة لا ولاية له عليه فيها بالكليَّة، فأشبه إجارة البطن الأوَّل للوقف إذا انقرض قبل انقضاء المدَّة.

ص: 227

وفارق البيع؛ لأنَّه ينبرم في الحال وتنقطع عُلَقه.

نعم؛ لو كان بلوغه في مدَّة الخيار؛ ففيه نظر

(1)

.

وكذلك النِّكاح ينبرم من حينه، ويستقرُّ المهر فيه بالدُّخول، بخلاف الإجارة؛ لأنَّ الأجرة تتقسَّط فيها على المدَّة، ولا يستقرُّ الملك فيها إلَّا باستيفاء المنافع شيئاً بعد شيء.

وذكر في «المغني» وجهاً آخر خرجَّه

(2)

(3)

: أنَّه إن آجره مدَّة يعلم بلوغه فيها قطعاً؛ لم يصحَّ في الزَّائد، ويخرج الباقي على تفريق الصَّفقة

(4)

.

ونحوه ذكر صاحب «التَّلخيص» .

والقسم الثَّاني: أن تكون إجارته بملكٍ ثمَّ تنتقل إلى غيره، وهو أنواع:

أحدها: أن تنتقل عنه إلى من يملك بالقهر ما يستولي عليه؛ فتنفسخ الإجارة؛ لملكه المنافع الباقية منها

(5)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (لأن البيع في مدة الخيار لم ينبرم ولم تنقطع عُلَقه بالكلية، فيتوجه: أنه إذا كان الخيار للبائع وبلغ الصبي قبل مضي مدة الخيار؛ انتقال الخيار له في الفسخ والإمضاء).

(2)

قوله: (خرجه) سقط من (ب) وبقية النسخ.

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

قال في المغني (5/ 348): (ويحتمل أن يفرق بين ما إذا أجره مدة يتحقق بلوغه في أثنائها، مثل إن أجره عامين وهو ابن أربع عشرة، فتبطل في السادس عشر؛ لأننا نتيقن أنه أجره فيها بعد بلوغه، وهل تصح في الخامس عشر؟ على وجهين، بناء على تفريق الصفقة).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: من مدتها).

ص: 228

ودخل تحت هذا: إذا آجر مسلم شيئاً، ثمَّ استولى عليه الكفَّار، وإذا آجر الحربيُّ شيئاً لحربيٍّ ثمَّ استولى عليه المسلمون.

أمَّا إن آجر الحربيُّ شيئاً لمسلم أو ذميٍّ ثمَّ استولى عليه المسلمون؛ فالإجارة باقية؛ لأنَّ المنافع ملك لمعصوم؛ فلا تتملَّك.

وثانيها: أن ينتقل الملك إلى من يخلفه في ماله ويقوم مقامه ويتلقَّى الملك عنه؛ فلا اعتراض له على عقوده، بل هو منفذ لها، وذلك كالوارث، والمشتري، والمتَّهب، والموصى له بالعين، والزَّوجة إذا أخذت العين صداقاً، وأخذه

(1)

الزَّوج منها عوضاً عن خلع، أو صلحًا

(2)

، أو غير ذلك.

وثالثها: أن يكون

(3)

مزاحماً للأوَّل في الاستحقاق ومتلقِّياً للملك عمَّن تلقَّاه الأوَّل، لكن لا حقَّ له في العين إلَّا بعد انتهاء استحقاقه؛ كالبطن الثَّاني من أهل الوقف إذا أَجَّر البطنُ الأوَّلُ، ثمَّ انقرض والإجارة قائمة.

(1)

في (ب): أو أخذه.

(2)

في (أ): صلحٍ.

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: الذي انتقل الملك إليه، وهو البطن الثاني من أهل الوقف).

ص: 229

وفي المسألة وجهان:

أحدهما: وهو ما قال القاضي في «المجرَّد» إنَّه قياس المذهب: أنَّه لا ينفسخ؛ لأنَّ الثَّاني لا حقَّ له في العين إلَّا بعده؛ فهو كالوارث.

والثَّاني: وهو المذهب الصَّحيح، وبه جزم القاضي في «خلافه» ، وقال:(إنَّه ظاهر كلام أحمد)، وابنه أبو الحسين، وحكياه عن أبي إسحاق ابن شاقْلَا، واختاره ابن عقيل وغيره: أنه ينفسخ؛ لأنَّ الطَّبقة

(1)

الثَّانية تستحقُّ العين بجميع منافعها تلقِّياً عن الواقف بانقراض الطَّبقة الأولى؛ فلا حقَّ للأولى فيه بعد انقراضهم، بخلاف الورثة؛ فإنَّهم لا يتلقَّون عن موروثهم إلَّا ما خلَّفه في ملكه من الأموال، ولم يخلِّف هذه المنافع

(2)

، وحقُّ المالك لم ينقطع عن ميراثه بالكليَّة، بل آثاره باقية، ولهذا تُقضَى ديونه وتنفذ وصاياه من التَّركة، وهي ملكه على قولٍ إلى أن يُقضى دينه؛ فكيف يُتعرض عليه في تصرفاته بنفسه

(3)

؟!

(1)

كتب على هامش (ن): (فيه إشعار بأن القول بالانفساخ من فوائد الخلاف من أن الطبقة الثانية هل تتلقى الوقف عن الواقف أو عن الطبقة الأولى؟ والصحيح عن الواقف).

(2)

كتب على هامش (ن): (يعني: التي ملكها المستأجر بالإجارة من مورثهم مدة التآجر).

(3)

قال ابن نصر الله رحمه الله: قد يقال: إجارة البطن الأول إنما كانت بمقتضى ولاية النظر له شرعاً؛ لأن الوقف إذا لم يعيِّن الواقف له ناظراً؛ كان نظره لمستحقه، وإذا ثبت أن إيجاره بمقتضى ولاية النظر صار حكمه حكم الناظر فلا تنفسخ الإجارة بموته وانتقال الاستحقاق إلى البطن الثاني، وهذا ظاهر، وقد يجاب عن ذلك: بأن نظر المستحق بسبب استحقاقه فيتقدر بقدره، ولهذا لو كان المستحق جماعة كان النظر لكلهم بقدر استحقاقهم، وقضية ذلك أن يختص نظره بمدة استحقاقه، لا بما زاد عليها. وكتب على ذلك:(وهذا الجواب الذي ذكره هو الصحيح من المذهب).

ص: 230

وأيضاً، فهو كان يملك التَّصرف في ماله

(1)

على التَّأبيد؛ بوقف عقاره، والوصيَّة به، وبما يحمل شجره أبداً، والموقوف عليه بخلافه في ذلك كلِّه

(2)

.

وخرَّج صاحب «المغني» وجهاً آخر: ببطلان العقد من أصله؛ بناءً على تفريق الصَّفقة

(3)

كما سبق، لكنَّ

(4)

الأجرة إن كانت مقسَّطة على

(1)

في (أ): ملكه.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: فلا يملك التصرف في العين الموقوفة بما ذكر).

(3)

كتب في هامش (ب): (التَّخريج على تفريق الصفقة ليس بمتَّجه؛ لأنَّ تفريق الصَّفقة لا يجوز في ابتداء العقد، وإجارة الموقوف عليه صحيحة، وأيضاً فإن انفساخ الإجارة بالنِّسبة إلى البطن الثَّاني من أهل الوقف إنَّما هي طارئة في أثناء المدَّة، وما يطرأ أثناء المدَّة لا تجيء فيه تفريق الصَّفقة، وإنَّما هو كما لو طرأ على الإجارة ما يفسدها أو يعطِّلها فإنَّها تنفسخ من حين تعطَّلت لا من ابتداء العقد، وهذا ظاهر كلامه والله أعلم، وقد ذكر القاضي وابن عقيل أنَّ تفريق الصَّفقة إنَّما يكون في ابتداء العقد لا في دوامه).

(4)

كتب على هامش (ن): (هذا الاستدراك راجع إلى الوجه الذي خرَّجه صاحب «المغني» ببطلان عقد التآجر من أصله من البطن الأول بموته).

ص: 231

أشهر مدَّة الإجارة أو أعوامها؛ فهي صفقات متعدِّدة على أصحِّ الوجهين؛ فلا يبطل جميعها ببطلان بعضها، وإن لم تكن مقسَّطة؛ فهي صفقة واحدة، فيطَّرد فيها الخلاف المذكور.

واعلم: أنَّ في ثبوت الوجه الأوَّل

(1)

نظراً؛ لأنَّ القاضي إنَّما فرضه فيما إذا أجَّر الموقوف عليه؛ لكون النَّظر مشروطاً

(2)

له.

وهذا

(3)

محلُّ تردُّدٍ - أعني: إذا أجَّر بمقتضى النَّظر المشروط له -؛ هل يُلحق بالنَّاظر العامِّ فلا تنفسخ

(4)

بموته الإجارات

(5)

أم لا؟ فإنَّ من أصحابنا المتأخِّرين من ألحقه بالنَّاظر العامِّ في ذلك.

وهكذا حكم المُقطَع إذا أجَّر إقطاعه، ثمَّ انتقلت عنه إلى غيره بإقطاع آخر.

ورابعها: أن يكون

(6)

مزاحماً للأوَّل في استحقاق التَّلقي عمَّن تلقَّى عنه الأوَّل؛ بسبق حقِّه وتقديمه عليه، وهو المشتري للشِّقص المشفوع

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو القول بأنها لا تنفسخ).

(2)

قوله: (مشروطاً) سقط من (أ).

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني: وهذه المسألة إنما هي فيما إذا آجر البطن الأول بأصل الاستحقاق من غير أن يشترط الواقف النظر لأحد بعينه).

(4)

في (أ): ينفسخ.

(5)

كتب على هامش (ن): (وهو الصحيح).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: من انتقلت إليه وهو الشفيع).

ص: 232

إذا أَجَّر - وقلنا

(1)

بصحَّة تصرفاته بالإجارة وغيرها -، ثمَّ انتزعه الشَّفيع، وفيه ثلاثة أوجه:

أحدها

(2)

: وهو

(3)

ما ذكره صاحب «المقنع» : لا تنفسخ الإجارة؛ لأنَّ ملك المؤجر ثابت، ويستحقُّ الشَّفيعُ الأجرةَ

(4)

من يوم أخذه؛ لأنَّه يستحقُّ انتزاع العين والمنفعة، فإذا فات أحدهما؛ رجع إلى بدله وهو الأجرة ههنا؛ كما نقول في الوقف إذا انتقل إلى البطن الثَّاني، ولم تنفسخ إجارته: إنَّهم يستحقُّون الأجرة من يوم الانتقال.

وكذلك نصَّ أحمد في رواية جعفر بن محمَّد على مثل ذلك في بيع العين المؤجرة، وأنَّ المشتري يستحقُّ الأجرة من حين العقد

(5)

.

وهو مُشْكِلٌ؛ لأنَّ المنافع مدَّة الإجارة غير مملوكة للبائع؛ فلا

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

في (ب): إحداها.

(3)

قوله: (وهو) سقط من (أ).

(4)

في (أ) و (ن): الأجرة الشَّفيع.

(5)

في (ب) و (د) و (ج): البيع.

وأما رواية جعفر بن محمد، فقد ذكرها برهان الدين ابن مفلح في النكت على مشكل المحرر (1/ 290)، قال: نقل جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل آجر من رجل دارًا سنة، ثم باعها ولم يعلم المشتري، قال: إن شاء ردها بعيبها، وإن شاء أمسكها وله كراؤها حتى تتم سنة، وليس له أن يخرج الساكن. قال ابن مفلح:(ظاهر هذا أن الأجرة للمشتري، كما نقول في الشفيع ومن انتقل إليه الوقف).

ص: 233

تدخل في عقد البيع

(1)

.

ويجاب عنه: بأنَّ البائع يملك عوضها، وهو الأجرة، ولم تستقرَّ بعدُ، ولو انفسخ العقد لرجعت المنافع إليه، فإذا باع العين

(2)

ولم يستثنِ شيئاً؛ لم يكن تلك المنافع ولا عوضها

(3)

مستحقًّا له

(4)

؛ لشمول البيع للعين ومنافعها، فيقوم المشتري مقام البائع فيما كان يستحقُّه منها، وهو استحقاق عوض المنافع مع بقاء الإجارة، وفي رجوعها إليه مع الانفساخ.

وهذا هو أحد الوجهين للأصحاب، وهو قياس نصِّ أحمد المذكور أوَّلاً.

وما ذكرناه قبل ذلك من رجوع المنافع إلى البائع عند الانفساخ هو الَّذي ذكره صاحب «المغني»

(5)

.

والثَّاني

(6)

: أنَّه تنفسخ الإجارة بأخذه، وهو المجزوم به في

(1)

كتب على هامش (ن): (فكيف يستحق المشتري الأجرة من حين البيع وهو لا يملك المنفعة).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: المؤجرة).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو الأجرة).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: للبائع).

(5)

من قوله: (وهذا هو أحد الوجهين للأصحاب) إلى هنا سقط من (أ) و (ج) و (و).

وكتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(6)

كتب في هامش (ن): (من الأوجه الثلاثة).

ص: 234

«المحرَّر»

(1)

؛ لما قلنا من ثبوت حقِّه في العين والمنفعة، فيملك انتزاع كلٍّ منهما ممَّن هو في يده.

وفارق إجارة الوقف على وجه

(2)

؛ لأنَّ البطن الثَّاني لا حقَّ لهم قبل انقراض الأوَّل، وهنا حقُّ الشَّفيع ثابت قبل إيجار المشتري، فتنفسخ بأخذه؛ لسبق حقِّه، ولهذا قلنا على رواية: إنَّ تصرُّف المشتري في مدَّة الخيار مراعًى، فإن فسخ البائع بَطَل.

وأيضاً: فلو لم تنفسخ الإجارة؛ لوجب ضمان المنافع على المشتري

(3)

بأجرة المثل لا بالمسمَّى؛ لأنَّه ضمان حيلولة

(4)

، كما قلنا في أحد الوجهين: إذا أعتق عبده المستأجَرَ؛ لزمه ضمان قيمة منافعه فيما بقي من المدَّة

(5)

.

والثَّالث: أنَّ الشَّفيع بالخيار بين أن يفسخ الإجارة أو يتركها، وهو ظاهر كلام القاضي في «خلافه» في مسألة إعارة

(6)

العارية، وهو أظهر؛

(1)

كتب في هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: على قولنا إن الإجارة لا تنفسخ بانتقالها إلى البطن الثاني من أهل الوقف).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: الشفيع).

(4)

كتب على هامش (ن): (لأن المشتري حال بين الشفيع وبين المنافع بإجارتها، فلهذا ضمنها بأجرة المثل لا بالمسمى الذي أجرته).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: للعبد كما تلزمه نفقته إن لم يشترطها على مستأجر، قاله في «الإنصاف»).

(6)

في (ن): إجارة.

ص: 235

فإنَّ الإجارة بيع المنافع، ولو باع المشتري العين أو بعضها؛ كان الشَّفيع مخيَّراً بين الأخذ ممَّن هي في يده وبين الفسخ ليأخذ من المشتري.

وخامسها: أن ينفسخ ملك المؤجر، ويعود إلى من انتقل الملك إليه منه؛ فالمعروف من المذهب: أنَّ الإجارة لا تنفسخ بذلك؛ لأنَّ فسخ العقد رفع له من حينه لا من أصله

(1)

.

وصرَّح أبو بكر في «التَّنبيه» : بانفساخ النِّكاح لو أنكحها المشتري ثمَّ ردَّها بعيب؛ بناءً على أنَّ الفسخ رفع للعقد من أصله.

وقال القاضي وابن عقيل في «خلافيهما» : الفسخ بالعيب رفع للعقد من حينه، والفسخ بالخيار رفع له من أصله؛ لأنَّ الخيار يمنع اللُّزومَ

(2)

بالكليَّة، ولهذا يُمنَعُ معه من التَّصرُّف في المبيع وثمنه، بخلاف العيب

(3)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (ولا يرتفع عقد التآجر).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: لزوم عقد البيع).

(3)

كتب في هامش (ب): (بلغ قراءة على الشَّيخ). وكتب على هامش (ن): (بلغ قراءة على كاتبه).

ص: 236

‌قاعدة [37]

في توارد العقود وما يقارب العقود

(1)

المختلفة بعضها على بعض، وتداخل أحكامها

.

ويندرج تحتها صور:

منها: لو

(2)

رهنه شيئاً، ثمَّ أذن له في الانتفاع به؛ فهل يصير

(3)

عارية حالة الانتفاع أم لا؟

قال القاضي في «خلافه» ، وابن عقيل في «نظريَّاته» ، وصاحبا «المغني» و «التَّلخيص»: يصير مضموناً بالانتفاع

(4)

؛ لأنَّ ذلك حقيقة العارية.

(1)

قوله: (وما يقارب العقود) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (و) و (ن).

(2)

في (ب): إذا.

(3)

في (ب) و (هـ): تصير.

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب)

قال ابن نصر الله رحمه الله تعالى: لو كان الرهن المأذون في الانتفاع به دابة وأذن له في الانتفاع به، وعلفه؛ لم يصر مضموناً؛ لأن الانتفاع يكون بالعلف، فيصير كالعين المؤجرة، لكن ذكر في «الفروع» عن «التبصرة»: أنه يلزم المستعير مؤنة البهيمة عادة مدة كونها بيده. فعلى هذا؛ لا يزول الضمان فيه بلزوم مؤنة الدابة، إلا أن يقال: إنه إذا شرط عليه مؤنتها صار لزومها له بالشرط لا بالعادة، فيصير كالإجارة.

ص: 237

وأورد ابن عقيل في «نظريَّاته» في وقت ضمانه احتمالين:

أحدهما: أنَّه لا يصير مضموناً بدون الانتفاع.

والثَّاني: يصير مضموناً بمجرد القبض إذا قبضه على هذا الشَّرط؛ لأنَّه صار ممسكاً للعين لمنفعة نفسه منفرداً بها.

وهل يزول لزومه

(1)

أم لا؟ ينبني على أنَّ إعارة الرَّاهن بإذن المرتهن هل يزيل لزوم الرَّهن أم لا؟ وفيه طريقتان:

إحداهما: أنَّه على روايتين، وهي طريقة «المحرَّر» .

والثَّانية: إن أعاره من المرتهن؛ لم يُزِل اللُّزوم، بخلاف غيره، وهي طريقة «المغني» .

وقال صاحب المحرَّر في «شرح الهداية» : ظاهر كلام أحمد أنَّه لا يصير مضموناً بحال

(2)

.

ويشهد له قول أبي بكر في «خلافه» : شرط منفعة الرَّهن

(3)

باطل، وهو رهن بحاله

(4)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: لزوم الرهن بالإذن للمرتهن في الانتفاع).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: بل أحكام الرهن باقية بحالها).

(3)

قال ابن نصر الله رحمه الله: ليس الكلام في شرط منفعة الرهن، إنما الكلام في إذن الراهن في الانتفاع بعد عقد الرهن، وأما شرطه في العقد؛ فوجه بطلانه أنه شرط ينافي مقتضى العقد.

(4)

قال ابن نصر الله رحمه الله: فعلى هذا؛ إن لم ينتفع به لم يضمنه، وإن انتفع به كان متعدياً؛ لعدم صحة الشرط، فيضمنه.

ص: 238

ومنها: إذا أودعه شيئاً، ثمَّ أذن له في الانتفاع به؛ فقال القاضي في «خلافه» ، وابن عقيل في «نظريَّاته» ، وصاحب «التَّلخيص»: يصير مضموناً حالة الانتفاع؛ لمصيره عارية حينئذ.

قال ابن عقيل: ولا يُضمَن بالقبض قبل الانتفاع ههنا؛ لأنَّه لم يمسكه لمنفعة نفسه منفرداً، بل لمنفعته ومنفعة مالكه

(1)

، بخلاف الرَّهن

(2)

.

ومن المتأخِّرين من قال: ظاهر كلام أحمد أنَّه لا يصير مضموناً أيضاً؛ كالرَّهن.

وفرَّق صاحب «المحرَّر» بينهما

(3)

.

ولا اختلاف ههنا بين العقدين في الجواز؛ إلَّا أن تكون

(4)

مدَّة الانتفاع مؤقَّتة، فيخرَّج فيها وجه باللُّزوم من رواية لزوم العارية المؤقَّتة.

ومنها: إذا أعاره شيئاً ليرهنه؛ صحَّ، نصَّ عليه

(5)

، ونقل ابن المنذر

(1)

كتب على هامش (ن): (أشبه العين المؤجرة؛ إذ هي ممسكة بيد المستأجر لمنفعته ومنفعة المؤجر، فلا ضمان لذلك).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: بل يصير مضموناً حالة الانتفاع لا قبلها، بخلاف المرتهن؛ فإنه قبضه لمنفعة نفسه فقط، فيصير مضموناً بمجرد الإذن له في الانتفاع على الثاني من الاحتمالين لابن عقيل).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: بين الرهن والوديعة).

(4)

في (أ): يكون.

(5)

جاء في مسائل إسحاق بن منصور الكوسج (6/ 2774): قلت: قال الثوري: كل إنسان استعار شيئاً فرهنه بإذن صاحبه، فذهب الرهن؛ رد المستعير إلى صاحبه قيمة المتاع الذي كان رهنه به. قال أحمد: نحن نقول: العارية مؤداة، وإن كان أرهنه بإذن صاحبه فلا بد له من أن يؤديه، «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» .

ص: 239

الاتِّفاق عليه

(1)

، ويكون مضموناً على الرَّاهن؛ لأنَّه مستعير، وأمانة عند المرتهن، نصَّ عليه.

وأمَّا اللُّزوم وعدمه؛ فقال الأصحاب: هو لازم

(2)

بالنِّسبة إلى الرَّاهن والمالك، لكن للمالك المطالبة بالافتكاك، فإذا انفكَّ؛ زال اللُّزوم، فرجع فيه المالك.

واستشكل ذلك

(3)

الحارثيُّ، وقال: إمَّا ألَّا يكون لازماً؛ اعتباراً بحكم العارية، قال: وفي كلام أحمد إيماءٌ إليه، وإمَّا أن يكون لازماً

(4)

؛ فلا يملك المالك المطالبة بالافتكاك قبل الأجل، وتكون

(5)

العارية هنا لازمة؛ لتعلُّق حقِّ الغير وحصول الضَّرر بالرُّجوع؛ كما في العارية لبناء حائط، ووضع خشب، وشبههما. انتهى.

(1)

قال ابن المنذر: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا استعار من الرجل الشيء يرهنه على دنانير معلومة، عند رجل سماه له، إلى وقت معلوم، فرهن ذلك على ما أذن له فيه، أن ذلك جائز). ينظر: الإشراف على مذاهب العلماء 6/ 195.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: ما قاله الأصحاب).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: على المالك).

(5)

في (هـ): فتكون. في (ب): ويكون.

ص: 240

وصرَّح أبو الخطاب في «انتصاره» : بعدم لزومه، وأنَّ للمالك انتزاعه من يد المرتهن؛ فيبطل الرَّهن.

ومنها: لو أعاره شيئاً ثمَّ رهنه عنده؛ فقال أبو البركات في «الشَّرح» : قياسُ المذهب يصحُّ، ويسقط ضمان العارية؛ لأنَّها ليست لازمة

(1)

، وعقد هذه الأمانة لازم، ثمَّ أخذه من كلام الإمام أحمد في ورود عقد الإعارة على الرَّهن كما سبق.

ويتخرَّج في هذه المسألة ما في تلك

(2)

.

ومنها: ورود عقد الرَّهن على الغصب

(3)

؛ فيصحُّ عندنا، ذكره أبو بكر والقاضي، ويبرأ به الغاصب.

وكذا لو أودعه عنده، أو أعاره إيَّاه، أو استأجره لخياطته أو نحوها، ذكره أبو الخطَّاب وغيره.

وذكر القاضي في «خلافه» فيما إذا استأجره لخياطته ونحوها؛ هل يبرأ به؟ على وجهين.

وذكر هو في «المجرد» ، وابن عقيل في «الفصول» في المضاربة: إذا جعل المالك المغصوب مع الغاصب مضاربة؛ صحَّ

(4)

، ولم يبرأ من

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: ليست عقداً لازماً).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: من القول بعدم صحة ورود الإعارة على الرهن كالقول بعدم صحة ورود الرهن على الإعارة).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: إذا كانت العين موجودة بيد الغاصب).

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 241

ضمانه، إلَّا أن يدفعه ثمناً فيما يشتري به

(1)

، فيبرأ حينئذٍ

(2)

من الضَّمان.

وعلى قول أبي الخطَّاب: يبرأ في الحال

(3)

.

ومنها: رهن المبيع المضمون على البائع قبل قبضه

(4)

، على ثمنه أو غيره - إذا قيل بصحَّته

(5)

-؛ يزول به الضَّمان

(6)

على قياس الَّتي قبلها؛ لأنَّ يده صارت يد ارتهان.

ومنها: لو قال الرَّاهن للمرتهن: إن جئتك بحقِّك إلى وقت كذا وإلَّا فالرَّهن لك بالدَّين، وقَبِل ذلك؛ فهو أمانة عنده إلى ذلك الوقت، ثمَّ يصير مضموناً؛ لأنَّ قبضه صار بعقد فاسد، ذكره القاضي وابن عقيل.

والمنصوص عن أحمد في رواية محمَّد بن الحسن بن هارون

(7)

:

(1)

كتب في هامش (و): (أي: المضارب).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: لا بمجرد جعله مضاربة).

(3)

كتب في هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

كتب على هامش (ن): (كالمكيل والموزون والمعدود والمذروع).

(5)

كتب على هامش (ن): (والقول الثاني: لا يصح، وهو المذهب).

(6)

قال ابن نصر الله رحمه الله: أي: كما هو إحدى الروايتين في التصرف فيه مع بائعه.

(7)

هو محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا، أبو جعفر الموصلي، سكن بغداد وحدث بها عن الإمام أحمد وروى عنه مسائل، وروى عنه أبو بكر الخلال وصاحبه عبد العزيز، وتوفي سنة (303 هـ). ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 288.

ص: 242

أنَّه لا يضمنه بحال، ذكره القاضي في «الخلاف» ؛ لأنَّ الشَّرط يفسد، فيصير وجوده كعدمه.

ومنها: لو كاتب المدبَّر أو دبَّر المكاتب؛ صحَّ، نصَّ عليه، ثمَّ إن مات السَّيِّد ولم يؤدِّ العبد من الكتابة شيئاً؛ عَتَق بالتَّدبير من الثُّلث.

وهل يكون كسبه له؛ كما لو عَتَق في حياة السِّيد وهو مكاتب، أو للورثة؛ كعتقه بالتَّدبير؟ على وجهين

(1)

.

وهكذا حكم اجتماع الاستيلاد والكتابة؛ إلَّا أنَّها تَعْتِق من رأس المال.

ونقل ابن الحكم عن أحمد ما يدلُّ على بطلان التَّدبير بالكتابة؛ بناءً على أنَّ التَّدبير وصيَّة، فيبطل بالكتابة.

(1)

كتب على هامش (ن): (أصحهما: للورثة).

ص: 243

‌قاعدة [38]

فيما إذا وُصل بألفاظ العقود ما يُخرِجها عن موضوعها؛ فهل يفسد العقد بذلك

(1)

، أو يُجعل كنايةً عمَّا يُمكن صحَّته على ذلك الوجه؟

فيه خلاف يلتفت إلى أنَّ المغلَّب هل هو اللَّفظ، أو المعنى

(2)

؟

ويتخرَّج على ذلك مسائل:

منها: لو أعاره

(3)

وشرط عليه العوض؛ هل يصحُّ أم لا؟ على وجهين:

أحدهما: يصحُّ

(4)

، ويكون كناية

(5)

عن القرض، فيملكه بالقبض إذا كان مكيلاً أو موزوناً، ذكره أبو الخطَّاب في «انتصاره» .

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: بإيصالها بما يخرجها عن موضوعها).

(2)

كتب في هامش (ن): (وهذه المعبَّر عنها بأنه: هل الاعتبار بألفاظ العقود، أو بمعانيها؟ وعلم من كلام الشيخ أن ذلك مخصوص بالعقود).

(3)

في (ب) و (د): أعاره شيئاً.

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(5)

في (ن): وتكون كناية. وكتب على هامشها: (أي: العارية التي شرط العوض فيها).

ص: 244

وكذلك ذكر القاضي في «خلافه» ، وأبو الخطَّاب في موضع من «رؤوس المسائل»: أنَّه يصحُّ عندنا شرط العوض في العارية

(1)

كما يصحُّ شرط العوض في الهبة؛ لأنَّ العارية هبة منفعة ولا تفسد بذلك.

مع أنَّ القاضي قرَّر أنَّ الهبة المشروط فيها العوض ليست بيعاً، وإنَّما الهبة تارة تكون تبرُّعاً، وتارة تكون بعوض، وكذلك العتق، ولا يخرجان من موضوعهما

(2)

؛ فكذلك العارية، فهذا مأخذٌ آخر للصِّحَّة.

والوجه الثَّاني: أنَّها تفسد بذلك، وجعله أبو الخطَّاب في موضع آخر المذهبَ؛ لأنَّ العوض يخرجها عن موضوعها

(3)

.

وفي «التَّلخيص» : إذا أعاره عبدَه على أن يعيره الآخر فرسه؛ فهي إجارة فاسدة غير مضمونة

(4)

.

وهذا رجوع إلى أنَّها

(5)

كناية

(6)

في عقد آخر

(7)

، والفساد إمَّا أن يكون لاشتراط عقد في عقد آخر، وإمَّا لعدم تقدير المنفعتين.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: التي هي هبة منفعة كما يصح في هبة العين).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: باشتراط العوض فيهما).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: بشرط العوض).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: ضمان عارية؛ لأن شأن العارية أن تكون مضمونة).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: العارية).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: كناية عن الإجارة).

(7)

كتب في هامش (ن): (وهو الإجارة).

ص: 245

وعليه خرَّجه الحارثيُّ، قال

(1)

: (وكذلك لو قال: أعرتك عبدي لتمونه، أو دابَّتي لتعلفها)، وهذا يرجع إلى أنَّ مؤنة العارية على المالك

(2)

، وقد صرَّح الحلوانيُّ في «التَّبصرة» بأنَّها على المستعير

(3)

.

ومنها: لو قال: خذ هذا المال مضاربةً والرِّبح كلُّه لك، أو: لي؛ فقال القاضي وابن عقيل: هي مضاربة فاسدة يَستَحِقُّ فيها

(4)

أجرة المثل.

وكذلك قال صاحب «المغني» ؛ لكنَّه قال: لا يستحقُّ شيئاً في الصُّورة الثَّانية؛ لأنَّه دخل على أنَّه لا شيء له ورضي به. وقاله ابن عقيل في موضع آخر من المساقاة

(5)

.

وقال في «المغني» في موضع آخر: إنَّه إبضاع

(6)

صحيح. فراعى

(1)

في (ب): (وزاد) مكان: (قال). وفي (د) و (هـ) و (و) و (ن): وقال.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: فلا يكون اشتراط المؤنة مفسداً لعقد العارية).

(4)

في (أ): فيهما.

(5)

كتب على هامش (ن): (قال القاضي: الربح لم يوجد بعد، ولا تصح هبته. من هامش النسخة المعتمدة).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: فيما إذا قال: والربح كله لي، والإبضاع: أن لا يكون للعامل حق في الربح، فلا يكون شركة بينهما).

ص: 246

الحكم دون اللَّفظ، وعلى هذا؛ فيكون

(1)

في الصُّورة الأولى قرضًا

(2)

(3)

.

ومنها: لو استأجر المكيل والموزون، أو النُّقود، أو الفلوس، ولم يذكر ما يستأجرها له؛ فقال القاضي في «خلافه» في الإجارات: يصحُّ ويكون قرضاً

(4)

.

ولنا وجه آخر: أنَّه لا يصحُّ

(5)

.

ومنها: لو أجَّره الأرض بثلث ما يخرج منها من زرع؛ نصَّ أحمد على صحَّته

(6)

، واختلف الأصحاب في معناه.

فقال القاضي: هي إجارة على حدِّ المزارعة، تصحُّ بلفظ الإجارة، وحكمها حكمها

(7)

.

وقال أبو الخطَّاب وابن عقيل وصاحب «المغني» : هي مزارعة بلفظ

(1)

في (أ): فيكون على هذا. وفي (و): فتكون.

(2)

في (أ): توكيلًا. والمثبت موافق لما نقله صاحب الإنصاف عن القواعد.

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني لا حق لرب المال فيه، فلا يكون الربح شركة بينهما).

(4)

كتب على هامش (ن): (إنما يصح جعله قرضاً إذا كان المسمى في عقد الإجارة بقدر المقبوض ومن جنسه).

(5)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(6)

نص عليه في رواية الجماعة. ينظر: المقنع ص 201.

(7)

قال ابن نصر الله رحمه الله: أي: المزارعة.

ص: 247

الإجارة؛ فتصحُّ على قولنا: يجوز أن يكون البذر من العامل، وإلَّا فلا.

ومنها: لو أسلم في شيء

(1)

حالًّا؛ فهل يصحُّ ويكون بيعاً، أو لا يصحُّ؟ فيه وجهان:

أحدهما: وهو ظاهر كلام أحمد في رواية المروذيِّ: لا يصحُّ البيع بلفظ السَّلم

(2)

.

والثَّاني: يصحُّ، قاله القاضي في موضع من «خلافه» .

ومنها: إذا قال: أنت عليَّ حرام؛ أعني به: الطَّلاق، وقلنا: الحرام صريح في الظِّهار؛ فهل يلغو تفسيره ويكون ظهاراً، أو يقبل

(3)

ويكون طلاقاً؟ على روايتين

(4)

.

ومنها: لو قال له في دين السَّلم: صالحني منه على مثل الثَّمن؛ قال القاضي: يصحُّ

(5)

، ويكون إقالة.

(1)

كتب على هامش (ن): (كأن يقول: أسلمتك، أو أسلمت إليك هذا الثوب في هذا العبد).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

في (ب) وباقي النسخ: يصح.

(4)

كتب على هامش (ن): (أصحهما: أنه يصح، ويكون طلاقاً ثلاثاً). وقال في الإنصاف معلقًا على كلام ابن رجب (22/ 273): (قلت: الذي يظهر أنه طلاق؛ قياسًا على نظيرتها المتقدمة).

(5)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 248

وقال هو وابن عقيل: لا يجوز بيع الدَّين من الغريم بمثله؛ لأنَّه نفس حقِّه.

فيخرَّج في المسألتين وجهان؛ التفاتاً إلى اللَّفظ والمعنى.

ص: 249

‌قاعدة [39]

في انعقاد العقود بالكنايات

واختلف الأصحاب في ذلك:

فقال القاضي في مواضع: لا كناية إلَّا في الطَّلاق والعتاق، وسائر العقود لا كناية لها.

وذكر أبو الخطاب في «الانتصار» نحوه، وزاد: ولا تحلُّ العقود بالكنايات غير النِّكاح والرِّقِّ.

وقال في موضع آخر منه: تدخل الكنايات في سائر العقود سوى النِّكاح؛ لاشتراط الشَّهادة عليه، وهي لا تقع على النِّيَّة.

وأشار إليه صاحب «المغني» أيضاً، وكلام كثير من الأصحاب يدلُّ عليه

(1)

، وهل المعاطاة الَّتي ينعقد بها البيع والهبة ونحوهما إلَّا كنايات؟!

وكذلك كنايات الوقف ينعقد به

(2)

في الباطن إذا لم يقترن به حكمه أو أحد ألفاظه؛ فأمَّا إذا اقترن ذلك به أو نواه؛ فإنَّه ينعقد به الظَّاهر

(1)

في (ب): يدل عليه أيضًا.

(2)

في (ب) و (و): تنعقد به. وكتب على هامش (ن): (صوابه: بها).

ص: 250

أيضاً، صرَّح به الحلوانيُّ.

وقد تقدَّم في القاعدة الَّتي قبلها كثير من فروع هذه القاعدة.

ومنها: لو آجره عيناً بلفظ البيع؛ ففي الصِّحَّة وجهان

(1)

.

وقال صاحب «التَّلخيص» : إن أضاف البيع إلى العين؛ لم يصحَّ، والوجهان في إضافتها إلى المنفعة.

ومنها: الرَّجعة بالكنايات إن اشترطنا الإشهاد عليها؛ لم يصحَّ، وإلَّا فوجهان

(2)

.

وأطلق الوجهين صاحب «التَّرغيب» وغيره. والأجود ما ذكرنا.

فأمَّا قوله لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صَداقك؛ فجعله ابن حامد كناية

(3)

، ولم ينعقد

(4)

به النَّكاح حتَّى يقول: وتزوَّجتك.

(1)

كتب على هامش (ن): (في «الانتصار»: لو قال: بعتك منفعة هذه العين، هل يصح؟ على وجهين).

وفي هامش (ج): (قال في التنقيح: ويصح بلفظ البيع، وهو الصحيح).

(2)

كتب على هامش (ن): (كلفظ النكاح والتزويج).

(3)

كتب في هامش (أ): (قوله: "فجعله

"إلخ: بمعنى صيَّره، فعدِّي إلى مفعولين، فننصبهما غالباً، الأوَّل الضَّمير من جعله، والثَّاني قوله: "كنايةً"، بفتح التَّاء المثنَّاة فوق، "ابن"؛ بالرَّفع، و"حامد" مضاف إليه، والتَّقدير: جعله كناية ابن حامد، فتأمَّل، كاتبه الفقير عبده عثمان بن مزيد).

(4)

في (أ): يعقد.

ص: 251

وقال القاضي: هو صريح بقرينة ذكر الصَّداق، فإنَّ الصَّريح قد يكون مجازاً إذا اشتهر وتبادر فهمه؛ ولو مع القرينة، وفسَّره القاضي بأنَّه الظَّاهر، ولا يشترط أن يكون نصًّا.

وكلام أحمد صريح في أنَّ هذا اللَّفظ كنايةٌ؛ فإنَّه قال في رواية صالح: إذا قال: أجعل عتقك صداقك، أو قال: صداقك عتقك؛ كلُّ ذلك جائز، إذا كانت له نيَّةٌ فنيَّته

(1)

(2)

.

فصرَّح باعتبار النِّية له، وتأوَّله القاضي بتأويل بعيد جدًّا.

وكذلك نصَّ أحمد

(3)

على ما إذا قال الخاطب للوليِّ: أزوَّجْتَ وليَّتك؟ فقال: نعم، وقال للمتزوِّج: أَقَبِلْتَ؟ قال: نعم، أنَّ النِّكاح ينعقد به، وذكره الخرقيُّ.

و (نعم) ههنا: كنايةٌ؛ لأنَّ التَّقدير: نعم زوَّجتُ، ونعم قبلتُ، وأكثر ما يقال: إنها صريحة في الإعلام بحصول الإنشاء؛ فالإنشاء إنَّما استفيد منها، وليس فيها من ألفاظ صرائح الإنشاء شيء؛ فيكون كناية عن لفظ النِّكاح وقبوله.

(1)

في (و): فبنيَّته. وفي (أ) و (ج) و (هـ): فنيته عتقك.

جاء في مسائل صالح (3/ 83)، قال: قلت: الرجلُ يعتق الأمة فيقول: أجعل عتقك صداقك، أو صداقك عتقك؟

قال: كلٌّ جائز، إذا كانت له نية فنيته.

(2)

كتب في هامش (ن): (أي: فنيته معتبرة).

(3)

قوله: (أحمد) سقط من (أ) و (ج) و (و).

ص: 252

‌قاعدة [40]

الأحكام المتعلِّقة بالأعيان بالنِّسبة إلى تبدُّل الأملاك واختلافها عليها نوعان:

أحدهما: ما يتعلَّق الحكم فيه بملك واحد، فإذا زال ذلك الملك؛ سقط الحكم، وصور ذلك كثيرة:

منها: الإجارة، فمن استأجر شيئاً مدَّة، فزال ملك صاحبه عنه بتملُّك قهريٍّ

(1)

يشمل العين والمنفعة، ثمَّ عاد إلى ملك المؤجر والمدَّة باقية؛ لم تعد الإجارة، هذا هو الظَّاهر؛ لأنَّ ملك المستأجر زال عن المنافع، وثبت له الرُّجوع على المالك بقسطه من الأجرة، فإذا استوفاه منه؛ لم يبقَ له حقٌّ، فتعود العين بمنافعها ملكاً للمؤجر.

أمَّا إن لم يستوفِ شيئاً؛ فقد سبق نظائرها في قاعدة: من تعذَّر عليه الأصل واستقرَّ حقُّه في البدل، ثمَّ وجد الأصل

(2)

؛ فيحتمل وجهين، والأظهر هنا عدم استحقاق المنافع؛ لأنَّ حقَّه سقط منها وانتقل إلى بدلها.

(1)

كتب على هامش (ن): (كاستيلاء الكفار على ذلك الملك).

(2)

ينظر ص .....

ص: 253

ومنها: الإعارة، فلو أعاره شيئاً، ثمَّ زال ملكه عنه، ثمَّ عاد؛ لم تعد الإعارة.

ومنها: الوصيَّة تبطل بإزالة الملك، ولا تعود

(1)

بعوده.

ومنها: الهبة قبل القبض وسائر العقود الجائزة كالوكالة وغيرها.

ومنها: لو أذن السَّيِّد لعبده في النِّكاح، فتزوَّج ثمَّ طلَّق، فإن كان الطَّلاق رجعيًّا؛ فله الرَّجعة بدون إذن السَّيِّد، ذكره القاضي وابن عقيل وأبو الخطاب؛ لأنَّ الملك قائم بعدُ، وإن كان بائناً لم يملك إعادتها بدون إذن

(2)

؛ لأنَّه تجديد ملكٍ، والإذن مطلقٌ؛ فلا يتناوَل أكثر من مرَّة.

النَّوع الثَّاني: ما يتعلَّق الحكم فيه بنفس العين من حيث هي تعلَّقاً لازماً؛ فلا يختصُّ تعلُّقه بملك دون ملك، وله صور:

منها: الرَّهن، فإذا رهن عيناً رهناً لازماً، ثمَّ زال ملكه عنها بغير اختياره، ثمَّ عاد؛ فالرَّهن باق بحاله؛ لأنَّه وثيقة لازمة للعين، فلا تنفكُّ بتبدُّل الأملاك؛ كأرش الجناية؛ غير أنَّ الأرش لازم لرقبة الجاني بدون القبض، والرَّهن لا يلزم أو لا يصحُّ بدون القبض.

وذكر الأصحاب صوراً يعود فيها الرَّهن بعود الملك:

منها: لو سبى الكفَّار العبد المرهون، ثمَّ استُنقِذ منهم؛ عاد رهناً بحاله، نصَّ عليه أحمد.

(1)

في (ب): يعود.

(2)

في (ب) و (هـ): بغير إذنه. وفي (ج) و (ن): بغير إذن. وفي (د): بدون إذنه.

ص: 254

ومنها: لو تخمَّر العصير المرتهن ثم تخلَّل؛ فإنَّه يعود رهناً كما كان.

وكذلك يعود الرَّهن بعد زواله وإن كان ملك الرَّاهن باقياً عليه في مواضع:

منها: لو صالحه من دين الرَّهن على ما يشترط قبضه في المجلس؛ صحَّ الصُّلح، وبرئت ذمَّته من الدَّين، وزال الرَّهنُ، فإن تفرَّقا قبل القبض؛ بطل الصُّلح، وعاد الدَّين والرَّهن بحاله.

ومنها: ما قاله أبو بكر: إنَّه إن أعاد الرَّهن إلى الرَّاهن؛ بطل

(1)

الرَّهن، فإن عاد إليه عاد رهناً كما كان.

وفي كلام أحمد نحوه، وتأوَّله القاضي وابن عقيل على أنَّه بطل لزومُه؛ لأنَّه لو بطل بالكليَّة لم يعد بدون عقد، وهذا باطل بمسألة الصُّلح، وقد وافقا عليها، والظَّاهر أنَّ الرَّهن لا يبطل بعد لزومه بدون رضى المرتهن.

ومن صور هذا

(2)

النَّوع: المكاتب؛ فإنَّ الكتابة عقدٌ لازمٌ ثابتٌ في الرَّقبة؛ فلا يسقط بانتقال الملك فيه.

ومنها: الأضحية المعيَّنة

(3)

، فإنَّ الحقَّ ثابتٌ في رقبتها لا يزول

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: بطلاناً مراعًى).

(2)

قوله: (هذا) سقط من (أ) و (ج) و (و).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: المعينة عن واجب في الذمة، بخلاف المعينة ابتداء؛ فإنها لو تعيَّبت لم تخرج عن كونها أضحية، بل يذبحها ويجزئه).

ص: 255

بدون اختيار المالك

(1)

، فإذا تعيَّبت؛ خرجت عن كونها أضحية، فإذا زال العيب؛ عادت أضحية كما كانت، ذكره ابن عقيل في «عُمَدِه» .

ومنها: التَّدبير على إحدى الرِّوايتين.

ومنها: رجوع الزَّوج في نصف الصَّداق بعد الفرقة؛ فإنَّه يستحقُّه؛ سواء كان قد زال ملك الزَّوجة عنه ثمَّ عاد أو لم يَزُل؛ لأنَّ حقَّه يتعلَّق

(2)

بعينه.

ومنها: عُروض التِّجارة إذا خرجت عن ملكه بغير اختياره، ثمَّ عادت؛ فإنَّه لا ينقطع الحول بذلك، كما إذا تخمَّر العصير ثمَّ تخلَّل، ذكره ابن عقيل وغيره.

ومنها: صفة الطَّلاق تعود بعَوْدِ النِّكاح، وسواء وجدت في زمن البينونة أو لم توجد على المذهب الصَّحيح.

ومنها: صفة العتق تعود بعود ملك الرَّقيق في أشهر الرِّوايتين.

وفي الأخرى: لا تعود إذا وجدت الصِّفة بعد زوال الملك.

وفرَّق القاضي بين الطَّلاق والعتاق: بأنَّ ملك الرَّقيق لا ينبني فيه أحد الملكين على الآخر

(3)

، بخلاف النِّكاح؛ فإنَّه يبنى فيه أحد

(1)

كتب على هامش (ن): (بل يجوز إبدالها باختيار المالك بخير منها).

(2)

في (ب) وباقي النسخ: متعلق.

(3)

كتب على هامش (ن): (قد يقال: إن ملك الرقيق ينبني فيه أحد الملكين على الآخر، وذلك فيما إذا وطئ أمة له، ثم باعها ووطئ أختها بالملك، ثم عادت الأولى إلى ملكه، فأشهر الوجهين: أن الفراش يعود، فقد انبنى في ملك الرقيق أحد الملكين على الآخر، حيث اعتبر حكم الفراش في الملك الثاني؛ لوقوعه في الملك الأول، وستأتي المسألة في هذه الصفحة).

ص: 256

الملكين على الآخر في عدد الطَّلقات على الصَّحيح.

وهذا التَّفريق لا أثر له؛ إذ لو كان معتبراً لم يشترط لعدم الحنث وجود الصِّفة في غير الملك.

ومنها: الرَّدُّ بالعيب لا يمتنع بزوال الملك إذا لم يدلَّ على الرِّضى.

وههنا صور مختلف في إلحاقها بأحد النَّوعين، وهي محتملة

(1)

:

فمنها: رجوع الأب فيما وهبه لولده إذا أخرجه الابن عن ملكه ثمَّ عاد إليه؛ فهل يسقط حقُّه من الرُّجوع أم لا؟

ومنها: رجوع غريم المفلس في السِّلعة الَّتي وجدها بعينها، وكان المفلس قد أخرجها عن ملكه ثمَّ عادت إليه.

وفي المسألتين ثلاثة أوجه:

أحدها: لا حقَّ لهما فيها؛ لأنَّ حقَّهما يتعلّق

(2)

بالعقد الأوَّل المتلقَّى عنهما، والثَّاني غير متلقًّى عنهما، فلا يستحقَّان فيه رجوعاً

(3)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (ومنها: إذا تصرف الملتقط في العين بعد الحول ببيع، ثم عادت، ثم جاء صاحبها؛ فإنه يستحقها، ويُطلب الفرق بين مسألة الصداق ومسألة اللقطة، حيث لم يرد فيهما خلاف، وبين العين الموهوبة للولد، ويُعجب من إهمال المصنف مسألة اللقطة وهي في «المغني»).

(2)

في (ب) وباقي النسخ: متعلق.

(3)

قوله: (والثَّاني غير متلقًّى عنهما فلا يستحقَّان فيه رجوعاً) مضروب عليه في (ب).

ص: 257

والثَّاني

(1)

: لهما الرُّجوع؛ نظراً إلى أنَّ حقَّهما ثابت في العين، وهي موجودة؛ فأشبه الرَّدَّ بالعيب.

والثَّالث

(2)

: إن عاد بملك جديد سقط حقُّهما، وإن عاد بفسخ العقد

(3)

فلهما الرُّجوع؛ لأنَّ الملك العائد بالفسخ تابعٌ للملك الأوَّل؛ فإنَّ الفسخ رفع للعقد الحادث

(4)

؛ فيعود الملك كما كان.

ومنها: الفراش، فإذا وطئ أمة له، ثمَّ باعها ووطئ أختها بالملك

(5)

، ثمَّ عادت الأولى إلى ملكه؛ فهل يعود الفراش أم لا؟ على وجهين:

أشهرهما: أنَّه يعود، وهو المنصوص؛ فيجب عليه اجتنابهما؛ حتَّى يحرِّم إحداهما.

والثَّاني: له استدامة استفراش الثَّانية ويجتنب الرَّاجعة؛ لزوال الفراش فيها بزوال الملك، وهو اختيار صاحب «المحرَّر» .

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب في مسألة الغريم).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب في مسألة الأب).

(3)

في (ب) و (د) و (هـ): للعقد.

(4)

زاد في (د) و (هـ): (من أصله على قول)، وكتبت في هامش (ب) وعليها إشارة حاشية.

(5)

كتب في هامش (ب) و (هـ): (الأولى أن يقال: بالملك وغيره).

ص: 258

‌قاعدة [41]

إذا تعلَّق بعينٍ حقٌّ تعلُّقاً لازماً، فأتلفها من يلزمه الضَّمان

؛ فهل يعود الحقُّ إلى البدل المأخوذ من غير عقد آخر؟ فيه خلاف.

ويتخرَّج على ذلك مسائل:

منها: لو أتلف الرَّهنَ متلِفٌ، وأُخذت قيمته؛ فظاهر كلامهم: أنَّها تكون رهناً بمجرَّد الأخذ.

وفرَّع القاضي على ذلك: أنَّ الوكيل في بيع المتلف

(1)

يملك بيع البدل المأخوذ بغير إذن جديد.

وخالفه صاحبا «الكافي» و «التَّلخيص» ، وظاهر كلام أبي الخطَّاب في «الانتصار» في مسألة إبدال الأضحية: أنَّه لا يصير رهناً إلَّا بجعل الرَّاهن.

ومنها: الوقف إذا أتلفه متلِفٌ، وأخذت قيمته فاشترى بها بدله؛ فهل يصير وقفاً بدون إنشاء الوقف عليه من النَّاظر؟ حكى بعض الأصحاب في ذلك وجهين.

ومنها: إذا أتلف الأضحيةَ متلِفٌ، وأخذت منه القيمة أو باعها من

(1)

كتب على هامش (ن): (إذا وكَّل، - أي: في بيع القمح مثلاً - فأتلف القمحَ متلِفٌ، فأخذ الوكيل بدله؛ فهل للوكيل بيع البدل؟).

ص: 259

أوجبها، ثمَّ اشترى بالثَّمن أو بالقيمة مثلها؛ فهل تصير متعيِّنة

(1)

بمجرَّد الشِّراء؟ يتخرَّج على الوجهين.

ومنها: الموصى له بعين إذا أتلفها متلفٌ بعد الموت وقبل القبول؛ فحقُّه باق في بدلها.

(1)

في (ب) و (هـ): معيَّنة.

ص: 260

‌قاعدة [42]

في أداء الواجبات الماليَّة.

وهي منقسمة إلى دين وعين:

فأمَّا الدَّين؛ فلا يجب أداؤه بدون مطالبة المستحِقِّ إذا كان آدميًّا، حتَّى ذكر ابن عقيل في جواز السَّفر قبل المطالبة وجهين.

وهذا ما لم يكن قد عيَّن له وقتاً للوفاء.

فأمَّا إن عيَّن وقتاً كيوم كذا؛ فلا ينبغي أن يجوز تأخيره عنه؛ لأنَّه لا فائدة للتَّوقيت إلَّا وجوب الوفاء فيه بدون مطالبته، فإنَّ تعيين الوفاء فيه أولًّا كالمطالبة به.

وأمَّا إن كان الدَّين لله عز وجل؛ فالمذهب: أنَّه يجب أداؤه على الفور؛ لتوجُّه الأمر بأدائه من الله عز وجل، ودخل في ذلك الزَّكاة والكفَّارات والنُّذور، وقد نصَّ أحمد على إجبار المظاهِر على الكفَّارة في رواية ابن هانئ

(1)

(2)

.

(1)

جاء في مسائل ابن هانئ (2/ 238): وسئل عن الرجل يقول: إن كلمت فلانًا -رجلًا قد سمّاه- فامرأته عليه مثل أمّه، فكلمه؟ قال: عليه كفارة الظهار: عتق رقبة، فإن لم يجد، فصيام شهرين، فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكينًا.

(2)

كتب على هامش (ج) و (ن): (ذكر جماعة من الأصحاب في مسائل القسم: أنه لا يجوز أن يقسم لكل امرأة من نسائه أكثر من ليلة واحدة؛ لأن فيه تأخير الحق الواجب ولا يجوز؛ كالدين الحالِّ، وممن ذكر هذا القاضي في «الجامع» وصاحب «المغني» فيه). وزاد في (ن): (من هامش النسخة المعتبرة).

ص: 261

وأمَّا العين؛ فأنواع:

منها: الأمانات الَّتي حصلت في يد المؤتمن برضى صاحبها؛ فلا يجب أداؤها إلَّا بعد المطالبة منه، ودخل في ذلك الوديعة، وكذلك أموال الشَّركة والمضاربة والوكالة مع بقاء عقودها.

ومنها: الأمانات الحاصلة في يده بدون رضى أصحابها؛ فيجب المبادرة إلى ردِّها مع العلم بمستحِقِّها والتَّمكُّن منه، ولا يجوز التَّأخير مع القدرة، ودخل في ذلك اللُّقَطَةُ إذا علم صاحبها، والوديعة والمضاربة والرَّهن ونحوها إذا مات المؤتمن وانتقلت إلى وارثه؛ فإنَّه لا يجوز الإمساك بدون إذنٍ؛ لأنَّ المالك لم يرضَ به.

وكذلك من أطارت الرِّيح إلى داره ثوباً لغيره، لا يجوز له الإمساك مع العلم بصاحبه.

ثمَّ إنَّ كثيراً من الأصحاب قالوا ههنا: الواجب الرَّدُّ.

وصرَّح كثير منهم بأنَّ الواجب أحد شيئين: إمَّا الرَّدُّ، أو الإعلام، كما في «المغني» و «المحرَّر» و «المستوعب» ونحوه ذكر ابن عقيل، وهو مراد غيرهم؛ لأنَّ مؤنة الرَّدِّ لا تجب عليه، وإنَّما الواجب التَّمكين من الأخذ.

ص: 262

ثمَّ إنَّ الثَّوب هل يحصل في يده بسقوطه في داره من غير إمساك له أم لا؟ قال القاضي: لا يحصل في يده بذلك.

وخالف ابن عقيل، والخلاف هنا منزَّل على الخلاف فيما حلَّ في أرضه من المباحات؛ هل يملكها بذلك أم لا

(1)

؟

وكذلك حكم الأمانات إذا فسخها المالك؛ كالوديعة، والوكالة، والشركة، والمضاربة؛ يجب الرَّدُّ على الفور؛ لزوال الائتمان، صرَّح به القاضي في «خلافه» ، وسواء كان الفسخ في حضرة الأمين أو غيبته.

وظاهر كلامه: أنَّه يجب فعل الرَّدِّ، فإنَّ العلم هنا حاصل للمالك.

وكذلك جعل ضمان الزَّكاة مبنيًّا على حصولِها في يده بغير رضى المستحِقِّ، وأوجب عليه البداءة بالدَّفع، وقاسها على اللُّقَطَة ونحوها؛ فدلَّ على أنَّ فعل الدَّافع في هذه الأعيان عنده واجب.

وعلى قياس ذلك: الرَّهن بعد استيفاء الدَّين، والعين المؤجرة بعد انقضاء المدَّة.

وذكر طائفة من الأصحاب في العين المؤجَّرة: أنَّه لا يجب على المستأجر فعل الرَّدِّ، ومنهم من ذكر في الرَّهن كذلك، وسيأتي في القاعدة الَّتي تليها.

وأمَّا الأعيان المملوكة بالعقود قبل تقبيضها؛ فالأظهر أنَّها من هذا القبيل؛ لأنَّ المالك لم يرضَ بإبقائها في يد الآخر؛ فيجب التَّمكين من الأخذ ابتداءً؛ بدليل أنَّه لا يجوز عندنا حبس المبيع على الثَّمن.

(1)

كتب على هامش (ن): (الصحيح: أنه لا يملكها بذلك).

ص: 263

وذكر ابن عقيل في الصَّداق: أنَّه إذا تلف

(1)

قبل المطالبة أو بعدها وقبل التَّمكُّن

(2)

من الأداء؛ أنَّه لا يضمن؛ كسائر الأمانات، وقاسه على من أطارت الرِّيح إلى داره ثوباً.

وهذا الكلام فيه نظرٌ؛ فإنَّ الثَّوب لا يقف ضمانُه على المطالبة، لكنَّ مراده - والله أعلم -: أنَّ العلم

(3)

يكفي، فمتى كان المالك عالماً ولم يطلب فلا ضمان إذا لم تكن مؤنة الرَّدِّ واجبة على من هو عنده، وهذا حسن.

ومنها: الأعيان المضمونة؛ فيجب المبادرة إلى الرَّدِّ بكلِّ حال، وسواء كان حصولها في يده بفعل مباح أو محظور أو بغير فعله.

فالأوَّل: كالعواري، يجب ردُّها إذا استوفى منها الغرض المستعار له، قاله الأصحاب.

وهذا إذا انتهى قدر الانتفاع المأذون فيه؛ متوجِّه، وسواء طالب المالك أو لم يطالب؛ لأنَّها من قبيل المضمونات؛ فهي شبيهة بالغُصُوبِ.

وكذا حكم المقبوض للسَّوم.

ويستثنى من ذلك: المبيع المضمون على بائعه؛ فلا يجب عليه

(1)

في (ب): أتلف.

(2)

في (ب): التمكين.

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: علم مالك الثوب به).

ص: 264

سوى تمييزه وتمكين المشتري من قبضه؛ لأنَّ نقله على المشتري دون البائع.

والثَّاني: كالغصوب

(1)

، والمقبوض بعقد فاسد، ونحوهما.

والثَّالث: كالزَّكاة إذا قلنا: تجب في العين

(2)

؛ فتجب المبادرة إلى الدَّفع إلى المستحِقِّ مع القدرة عليه من غير ضرر؛ لأنَّها من قبيل المضمونات عندنا.

وكذلك الصَّيد إذا أحرم وهو في يده، أو حصل في يده بعد الإحرام بغير فعل منه

(3)

.

(1)

في (ب) وباقي النسخ: كالمغصُوب.

(2)

كتب على هامش (ن): (وإن قلنا: يتعلق بالذمة؛ فيكون من قبيل الديون، وقد تقدم الكلام على الملك، فليراجع).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: فإنه يجب عليه إطلاقه مبادراً).

ص: 265

‌قاعدة [43]

فيما يُضمَن من الأعيان بالعقد أو باليد

.

القابض لمال غيره لا يخلو؛ إمَّا أن يقبضه بإذنه أو بغير إذنه:

فإن قبضه بغير إذنه؛ فإن استند إلى إذن شرعي؛ كاللُّقَطَة؛ لم يضمن، وكذا إن استند إلى إذن عرفيٍّ؛ كالمنقذ لمال غيره من التَّلف ونحوه، وحكى في «التَّلخيص» وجهاً بضمان هذا، وفيه بُعْد.

ونصَّ أحمد على أنَّ من أخذ عبداً آبقاً ليردَّه، فَأَبَق منه؛ فلا ضمان عليه

(1)

، لكن قد يقال: هنا إذن شرعيٌّ في أخذ الآبق ليردَّه

(2)

.

وإن خلا عن ذلك كلِّه

(3)

؛ فهو متعدٍّ، وعليه الضَّمان في الجملة.

(1)

جاء في مسائل إسحاق بن منصور (6/ 2779): (قلت: رجل أخذ عبداً آبقاً، فأَبَق منه؟ قال: ليس عليه شيء).

(2)

يشير إلى ما رواه ابن أبي شيبة (21938): عن ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار، قالا: ما زلنا نسمع: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في العبد الآبق يوجد خارجًا من الحرم دينارًا أو عشرة دراهم» .

ورواه ابن أبي شيبة (21940) عن سعيد بن المسيب: «أن عمر رضي الله عنه جَعل في جُعْل الآبق ديناراً أو اثني عشر درهماً» .

ورواه ابن أبي شيبة (21941)، والبيهقي (12124) من طريق الشعبي، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه في جُعْل الآبق دينار، قريباً أُخِذ أو بعيداً.

ورواه عبد الرزاق (14911)، وابن أبي شيبة (21939)، والبيهقي (12125) عن أبي عمرو الشيباني:«أن رجلاً أصاب عبداً آبقاً بعين التمر، فجاء به، فجعل ابن مسعود رضي الله عنه فيه أربعين درهماً» ، قال البيهقي:(وهذا أمثل ما روي في هذا الباب).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: عن الإذن الشرعي والعرفي في القبض).

ص: 266

هذا إذا كان أصل القبض غير مستندٍ إلى إذن، أمَّا إن وجد استدامةُ قبض من غير إذن في الاستدامة؛ فها هنا ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون عَقَد على ملكه عقداً لازماً ينقل الملك فيه

(1)

، ولم يقبضه المالك بعدُ، فإن كان ممتنعاً من تسليمه؛ فهو غاصب، إلَّا حيث يجوز الامتناع من التَّسليم؛ لتسليم العوض على وجهٍ، أو لكونه رهناً عنده، أو لاستثنائه منفعته مدَّة.

وأمَّا إن لم يكن ممتنعاً من التَّسليم، بل باذلاً له؛ فلا ضمان عليه على ظاهر المذهب، إلَّا أن يكون المعقود عليه مبهماً لم يتعيَّن بعد؛ كقفيز من صُبْرَة، فإنَّ عليه ضمانه في الجملة.

وبماذا يخرج من ضمانه؟

قال الخرقيُّ والأصحاب: لا يزول ضمانه بدون قبض المشتري.

وهل يحصل القبض بمجرَّد التَّخلية مع التَّمييز، أو لا يحصل بدون النَّقل فيما ينقل؟ على روايتين.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: كالبيع).

ص: 267

فإن اعتبرنا النَّقل

(1)

؛ امتدَّ الضَّمان إليه.

وهل يسقط بتفريط المشتري في النَّقل؟ على وجهين:

أشهرهما: أنَّه يسقط به.

والثَّاني: لا يسقط حتَّى يوجد النَّقل بكلِّ حال، وذكر القاضي في «خلافه» في مسألة الجوائح أنَّه ظاهر كلام أحمد، وفيه بُعدٌ، ثمَّ وجدته منصوصاً صريحاً عن أحمد في الثَّمرة المشتراة قبل بدوِّ

(2)

صلاحها بشرط القطع

(3)

إذا أخَّره

(4)

المشتري حتَّى تلفت بجائحة قبل صلاحها: أنَّها من ضمان البائع؛ معلِّلاً بأنَّها في ملك البائع وفي نخله، نقله عنه الحسن بن ثواب

(5)

.

وإن اعتبرنا التَّخلية

(6)

مع التَّمييز

(7)

- وهو الصَّحيح -؛ فلأنَّه

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو الصحيح، ولو صحَّح المصنف الرواية الأخرى).

(2)

قوله: (بدوِّ) سقط من (أ) و (د) و (و).

(3)

كتب في هامش (ن): (أي: ولم تزد، أو زادت وقلنا: لا ينفسخ البيع).

(4)

في (ب) و (ج) و (د): أخَّرها.

(5)

الحسن بن ثواب أبو علي الثعلبي المخرمي، كان شيخًا جليل القدر، وكان له بأبي عبد الله أُنسٌ شديد، وكان يقول: كنت إذا دخلت إلى أبي عبد الله يقول لي: إني أفشي إليك ما لا أفشيه إلى ولدي ولا إلى غيرهم، وكان عنده عن الإمام أحمد جزء كبير فيه مسائل كبار لم يجئ بها غيره، مات سنة 268 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 132، المقصد الأرشد 1/ 317.

(6)

كتب على هامش (ن): (التخلية: مصدر خلا، بمعنى ترك وأعرض).

(7)

كتب في هامش (ن): (بدون النقل).

ص: 268

يحصل بها التَّمكين

(1)

من القبض، ولهذا ينتقل الضَّمان في بيع الأعيان المتميِّزة بمجرَّد العقد على المذهب؛ لحصول التَّمكين

(2)

من القبض.

ولعلَّ اشتراط النَّقل إنَّما يخرَّج على الرِّواية الأخرى، وهي ضمان جميع الأعيان قبل القبض، فلا ينتقل الضَّمان هنا إلَّا بحقيقة القبض دون التَّمكين

(3)

منه.

والأوَّل أظهر؛ لأنَّ الَّذي يجب على البائع: التَّمييز والتَّخلية، وهو التَّسليم، وأمَّا

(4)

النَّقل؛ فواجب على المشتري؛ لأنَّ فيه تفريغاً لملك

(5)

البائع من ماله، فيكون بتركه مفرِّطاً، فينتقل الضَّمان إليه.

ويشهد له: شراء

(6)

الثَّمر في رؤوس النَّخل، فإنَّ الضَّمان ينتقل فيه بمجرَّد انتهاء الثَّمر إلى أوان أخذه وصلاحيته له، سواء

(7)

قطعه المشتري أو لم يقطعه على الصَّحيح.

ولكن هل يعتبر لانتقال الضَّمان

(8)

التَّمكُّن من القطع أو لا

(9)

؟

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): التمكن.

(2)

في (ب) و (ن): التمكن.

(3)

في (ب) و (د): التمكُّن.

(4)

في (ب) و (ج) و (د) و (ن): فأمَّا.

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: ملكه الذي فيه العين المبيعة).

(6)

في (ب): بشراء.

(7)

في (أ): وسواء.

(8)

كتب على هامش (ن): (أي: عن البائع إلى المشتري).

(9)

كتب على هامش (ن): (الصحيح: أنه يعتبر).

ص: 269

خرَّجها ابن عقيل على وجهين من الزَّكاة

(1)

، ورجَّح عدم اعتبار التَّمكُّن

(2)

.

والَّذي عليه القاضي والأكثرون: اعتبار التَّمكُّن من النَّقل في جميع الأعيان؛ فلا يزال في ضمان البائع حتَّى يحصل تمكُّن المشتري من النَّقل.

وصرَّح ابن عقيل بخلاف ذلك، وأنَّه يضمن الأعيان المتميزة بمجرَّد العقد، سواء تمكَّن من القبض أو لم يتمكَّن، كما قال في مسألة الجوائح.

وكذلك حكم المملوك

(3)

بصلح أو خلع أو صداق.

القسم الثَّاني: أن يعقد عليه

(4)

عقداً، وينقله إلى يد المعقود له، ثمَّ ينتهي العقد أو ينفسخ، وهو نوعان:

أحدهما: أن يكون عقد معاوضة؛ كالبيع إذا انفسخ - بعد قبضه - بعيب أو خيار، والعين المستأجرة إذا انتهت المدَّة، أو العين الَّتي أصدقها المرأة وأقبضها، ثمَّ طلقها قبل الدُّخول.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: في التمكن من العين في إخراج الزكاة).

(2)

كتب على هامش (ن): (يعني: في الزكاة).

(3)

كتب في هامش (ن): (أي: في انتقال الضمان من البائع إلى المشتري، هل هو بالعقد أو بالقبض؟ وفي جواز التصرف فيه بناء عليهما).

(4)

كتب في هامش (ن): (أي: على المال).

ص: 270

والثَّاني: أن يكون فيما يضمن من الأعيان بالعقد أو باليد

(1)

غير معاوضة؛ كعقد الرَّهن إذا وفَّى الدَّين، وكعقد الشَّركة والمضاربة والوديعة والوكالة إذا فُسخ العقد والمال في أيديهم.

فأمَّا عقود المعاوضات؛ فيتوجَّه فيها للأصحاب وجوه:

أحدها: أنَّ حكم الضَّمان بعد زوال العقد حكم ضمان المالك الأوَّل قبل التَّسليم، فإن كان مضموناً عليه؛ كان بعد انتهاء العقد مضموناً له، وإلَّا فلا، وهي طريقة أبي الخطَّاب وصاحب «الكافي» في آخرين

(2)

؛ اعتباراً لأحد الضَّمانين بالآخر.

فعلى هذا: إن كان

(3)

عوضاً في بيع أو نكاح وكان متميِّزاً؛ لم يضمن على الصَّحيح، وإن كان غير متميِّز؛ ضمن

(4)

، وإن كان في

(1)

قوله: (فيما يضمن من الأعيان بالعقد أو باليد) سقط من (أ) و (د) و (و) و (ن).

(2)

كتب في هامش (ن): (وهي المذهب).

(3)

كتب في هامش (ن): (أي: المقبوض).

(4)

قال ابن نصر الله رحمه الله تعالى: فإن قيل: قبض البائع والمرأة له إنما يكون بعد تنجيزه، فكيف يصح الترديد بين كونه متميزًا أو غير متميز بعد فسخ البيع والنكاح؟ قيل: يصح ذلك بأن يكون البائع حين قبضه خلطه فيما لا يتميز، مثل إن كان الثمن قفيزًا من صبرة حنطة، فأخذه البائع ثم خلطه بحنطة له، فلما فسخ البيع تلفت تلك الحنطة التي خلط بها القفيز، فيكون القفيز مضموناً على البائع، ولو كان القفيز باقيًا عند البائع متميِّزًا فتلف بعد الفسخ؛ كان من ضمان المشتري، ويجوز أن يكون قبضه غير متميز؛ مثل أن يكون العوض نصف صبرة، فقبض الصبرة، أو نصف عبد فقبضه.

ص: 271

إجارة؛ ضمنه بكلِّ حال

(1)

.

والوجه الثَّاني: إن كان انتهاء العقد بسبب يستقلُّ به من هو في يده؛ كفسخ المشتري، أو يشارك فيه الآخر؛ كالفسخ منهما

(2)

؛ فهو ضامن له؛ لأنَّه تسبَّب إلى جعل ملك غيره في يده

(3)

.

وإن استقلَّ به الآخر؛ كفسخ البائع وطلاق الزَّوج؛ فلا ضمان؛ لأنَّه حصل في يد هذا بغير سبب منه ولا عدوان، فهو كما لو ألقى ثوبه في داره بغير أمره.

وهذا الوجه ظاهرُ ما ذكره صاحب «المغني» في مسألة الصَّداق.

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله تعالى: أي: متميزًا كان أو غير متميز؛ لأن المتميز إذا كان عوضًا في الإجارة؛ لم يستقر ملك المستأجر عليه إلا بمضي المدة أو استيفاء المنفعة، فلو زال عقد الإجارة قبل مضي شيء من المدة؛ كان العوض كله من ضمان المستأجر إذا كان بيده، ولو كان متميزًا .... عقد الإجارة بعد مضي نصف المدة مثلًا وتلف العوض في يد المستأجر وهو متميز؛ كان نصفه من ضمان المؤجر؛ لاستقرار ملكه عليه، ونصفه من ضمان المستأجر؛ لعدم استقرار ملك المؤجر عليه.

وعلَّق عليه آخر: (قوله: "لم يستقر ملك المستأجر" صوابه: المؤجر، وهو سبق قلم).

(2)

كتب في هامش (ن): (كالتقايل).

(3)

كتب في هامش (ن): (يعني: بفسخه).

ص: 272

وعلى هذا: فيتوجَّه

(1)

ضمان العين المؤجرة

(2)

بعد انتهاء المدَّة؛ لأنَّه تسبَّب إلى رفع العقد مع المؤجر، ووجهه: أنَّ الإذن في القبض إنَّما كان لازماً؛ لوجوب الدَّفع للملك، ولهذا يملك المشتري والمستأجر أخذه بدون إذنه، فبعد زوال الملك لا يوجد إذن سابق ولا لاحق، ولو قُدِّر وجود الإذن في القبض؛ فإنَّما أذن في قبض ما ملك عليه؛ فلا يكون إذناً في قبض ملكه هو.

والوجه الثَّالث: حكم الضَّمان بعد الفسخ حكم ما قبله، فإن كان مضموناً؛ فهو مضمون، وإلَّا فلا، فيكون البيع بعد فسخه مضموناً

(3)

؛ لأنَّه كان مضموناً على المشتري بحكم العقد، فلا يزول الضَّمان بالفسخ، صرَّح بذلك القاضي في «خلافه» .

ومقتضى هذا: ضمان الصَّداق على المرأة، وهذا

(4)

ظاهر كلام صاحب «المحرَّر» ، وأنَّه لا ضمان في الإجارة؛ لأنَّ العين لم تكن

(5)

مضمونة من قبل، وصرَّح القاضي وغيره بذلك.

ويوجَّه: بأنَّ المبيع والصَّداق إنَّما أقبضه

(6)

لانتقال ملكه عنه،

(1)

وزاد في (ب) و (هـ): فيه.

(2)

كتب في هامش (ن): (يعني: على المستأجر).

(3)

كتب في هامش (ن): (أي: على المشتري).

(4)

في (ب) وباقي النسخ: وهو.

(5)

في (ب): يكن. وزاد في (ب) و (هـ): فيها.

(6)

كتب في هامش (ن): (أي: للمشتري وللزوجة).

ص: 273

بخلاف العين المستأجرة، فإنَّه أقبضها مع علمه بأنَّها ملكه، فكان إذناً في قبض ملكه، بخلاف الأوَّل؛ حتَّى قال القاضي وأبو الخطَّاب: لو عجَّل أجرتَها، ثمَّ انفسخت قبل انتهاءِ المدَّة؛ فله حبسها حتَّى يستوفي الأجرة، ولا يكون ضامناً.

والوجه الرَّابع: أنَّه لا ضمان في الجميع، ويكون المبيع بعد فسخه أمانة محضة، صرَّح بذلك أبو الخطاب في «الانتصار» ؛ لأنَّه حصل تحت يده ملك غيره بغير عدوان، فلم يضمنه؛ كما لو أطارت الرِّيح إليه ثوباً، وكذلك اختاره القاضي في «المجرد» ، وابن عقيل في الصَّداق بعد الطَّلاق.

والوجه الخامس: التَّفريق بين أن ينتهي العقد أو يطلِّق الزَّوج، وبين أن ينفسخ العقد.

ففي الأوَّل: يكون أمانة محضة؛ لأنَّ حكم الملك ارتفع وعاد ملكًا للأوَّل، وفي الفسخ يكون مضموناً؛ لأنَّ الفسخ يرفع حكم العقد بالكليَّة؛ فيصير مقبوضاً بغير عقد، أو على وجه السَّوم في صورة البيع، وممَّن صرَّح بذلك الأزجيُّ في «النِّهاية» وصاحب «التَّلخيص» ، وهو ظاهر كلام ابن عقيل في مسائل الرَّدِّ بالعيب، وصرَّح بأنَّه يضمن نقصه فيما قبل الفسخ وبعده بالقيمة؛ لارتفاع العقد

(1)

، ومصيرِه مقبوضاً على وجه السَّوم.

ونقل الأثرم عن أحمد فيمن دفع إلى آخر ديناراً من شيء كان له

(1)

كتب في هامش (ن): (يعني: بالفسخ).

ص: 274

عليه، فخرج فيه نقص، فقال للدَّافع: خذه وأعطني غيره، فقال: أمسكه معك حتَّى أبدله لك، فضاع الدِّينار، قال

(1)

: ما أعلم عليه شيئاً، إنَّما هو السَّاعة مؤتمن.

فيحتمل أنْ يكون مرادُه: أنَّ المفسوخ بعيب بعد فسخه أمانة.

ويحتمل - وهو أظهر -: أن يكون

(2)

جعله أمانة لأمر المعطي بإمساكه

(3)

له، فهو كإيداعه منه.

والنَّوع الثَّاني: عقود الأمانات

(4)

؛ كالوكالة والوديعة والشَّركة والمضاربة والرَّهن، إذا انتهت أو انفسخت

(5)

، والهبة إذا رجع فيها الأب، أو قيل بجواز فسخها مطلقاً

(6)

كما أفتى به الشَّيخ تقيُّ الدِّين

(7)

؛ ففيها وجهان:

(1)

في (ب) و (د): فقال.

(2)

في (ب) و (ن): إنَّما. مكان (أن يكون).

(3)

في (ب) و (و): لإمساكه.

(4)

كتب في هامش (ن): (أي: التي ليست عقد معاوضة).

(5)

كتب في هامش (ن): (فرَّق في الكافي بين كون الرهن مؤقتًا فيكون مضمونًا عليه بعد وقته، وبين انفكاكه بقضاء أو إبراء؛ فلا يكون مضمونًا عليه).

(6)

كتب في هامش (ن): (أي: من الأب وغيره).

(7)

قال الشيخ تقي الدين في مجموع الفتاوى (31/ 284): (ليس لواهب أن يرجع في هبته غير الوالد؛ إلا أن تكون الهبة على جهة المعاوضة لفظًا أو عرفًا، فإذا كانت لأجل عوض ولم يحصل؛ فللواهب الرجوع فيها).

ص: 275

أحدهما: أنَّها غير مضمونة

(1)

، صرَّح به القاضي وابن عقيل في الرَّهن، وأنَّه لا يجب ردُّه إلى صاحبه؛ استصحاباً للإذن السَّابق والائتمان، كما صرَّحوا به في الإجارة، وكذلك صرَّح به القاضي وأبو الخطَّاب في «خلافهما» في بقيَّة العقود المسمَّاة: أنَّها

(2)

تبقى أمانة؛ كما لو أطارت الرِّيح إلى داره ثوباً.

وهذا يحتمل أنَّه مع علم المالك بالحال لا يجب الدَّفع؛ لأنَّ الواجب التَّمكين

(3)

منه لا حمله إليه كما تقدَّم.

والفرق بين عقود الأمانات المحضة والمعاوضات: أنَّ المعاوضات تُضمن بالعقد وبالقبض، فإذا كان عقدها مضمَّناً؛ كان فسخها كذلك، وعقود الأمانات لا تضمن بالعقد، فكذلك بالفسخ.

والوجه الثَّاني: أنَّه يصير مضموناً إن لم يبادر إلى الدَّفع إلى المالك؛ كمن أطارت الرِّيح إلى داره ثوباً، وصرَّح به القاضي في موضع آخر من «خلافه» في الوديعة والوكالة.

وكلام القاضي وابن عقيل يشعر بالفرق بين الرَّهن والوديعة؛ فإنَّهما علَّلا كون الرَّهن أمانة: بأنَّه أمانة ووثيقة، فإذا زالت الوثيقة؛ بقيت الأمانة، كما لو كان عنده وديعة فأذن له في بيعها ثمَّ نهاه.

وهذا التَّعليل مقتضاه: الفرق بين الوديعة، وبين الشَّركة والمضاربة

(1)

كتب في هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

في (ب) وباقي النسخ: وأنها.

(3)

في (ب): التمكن.

ص: 276

والوكالة؛ لأنَّ هذه العقودَ كلَّها مشتملةٌ على ائتمان وتصرُّف

(1)

، فإذا زال التَّصرُّف بقي الائتمان، بخلاف الوديعة، فإنَّه ليس فيها غير ائتمان مجرَّد

(2)

، فإذا زال

(3)

صار ضامناً، وحكم الغصوب إذا أبرأ المالك الغاصب من ضمانها كما ذكرنا.

القسم الثَّالث: أن يحصل في يده بغير فعله

(4)

؛ كمن مات مَورُوثه وعنده وديعة أو شركة أو مضاربة، فانتقلت إلى يده؛ فلا يجوز له الإمساك بدون إعلام المالك كما سبق؛ لأنَّ المالك لم يأتمنه، وقد نصَّ أحمد في رواية ابن هانئ في الرَّهن: أنَّه لا يقرُّ في يد الوصي

(5)

حتَّى يقرَّه الحاكم في يده

(6)

.

فإن تلف تحت يده قبل التَّمكُّن من الأداء؛ فلا ضمان؛ لعدم التفريط، وكما لو تلفت اللُّقطة قبل ظهور المالك.

(1)

كتب في هامش (ن): (أي: وإذنٍ في التصرف).

(2)

كتب في هامش (ن): (أي: تصير أمانة عنده).

(3)

زاد في (هـ): التَّصرُّف.

(4)

كتب في هامش (ن): (أي: فعل المالك).

(5)

كتب في هامش (ن): (أي: وصي المرتهن).

(6)

قال ابن هانئ في مسائله (2/ 49): (قلت لأبي عبد الله: في يد رجلٍ وصيٍّ رهونٌ وأشياءُ لا يعرف كم عليها من القيمة؟

قال: يصير إلى الحاكم حتى يقرها في يديه -يعني: الرهون التي لا يعرفها الوصي، ولا ما عليها- ليس له إلا ما أقر، ويحلف أصحاب الرهون، ما عليه أكثر من هذا).

ص: 277

ويتخرَّج بترك الرد وجه آخر

(1)

بالضَّمان؛ كما خرَّجه ابن عقيل في البيع.

وإن تلفت بعده؛ فالمشهور الضمان

(2)

؛ لتعدِّيه بترك الرَّدِّ مع إمكانه، وهو غير مؤتمن.

وحكى صاحب «المقنع» وجهاً آخر، وأشار إليه صاحب «التَّلخيص»: أنَّه لا ضمان، ويكون أمانة عنده؛ كما لو انقضت مدَّة الإجارة ثمَّ تلفت العين عند المستأجر.

وبينهما فرق؛ فإنَّ المستأجر مستصحب للإذن له في القبض، بخلاف هذا.

وكذلك حكم من أطارت الرِّيح إلى بيته ثوباً كما سبق، وفي كلام ابن عقيل وأبي الخطاب في الثوب: لا يجب دفعه بدون علم ومطالبة

(3)

.

ووقع في بعض كلام القاضي: أنَّها أمانة عنده.

ولعلَّ مراده: مع علم المالك وإمساكه عن المطالبة؛ فيكون تقريراً

(4)

.

(1)

في (أ) و (ج) و (د) و (و) و (هـ): ويتخرج وجه آخر.

(2)

كتب في هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

قوله: (وفي كلام ابن عقيل وأبي الخطاب في الثوب: لا يجب دفعه بدون علم ومطالبة) سقط من (أ) و (د) و (و).

(4)

كتب في هامش (ن): (أي: تقريراً للثوب عنده).

ص: 278

ولو دخل حيوان لغيره أو عبد له إلى داره؛ فعليه أن يخرجه ليذهب كما جاء؛ لأنَّ يده لم تثبت عليهما، بخلاف الثَّوب، ذكره ابن عقيل.

‌فصل

وأمَّا ما قبض من مالكه بعقد لا يحصل به الملك؛ فثلاثة أقسام:

أحدها: ما قبضه آخِذُه لمصلحة نفسه؛ كالعارية؛ فهو مضمون في ظاهر المذهب، قالوا: لأنَّ الإذن إنَّما يتعلَّق

(1)

بالانتفاع، وقبض العين وقع من حيث اللُّزوم

(2)

، فهو كقبض المضطرِّ مال غيره لإحياء نفسه؛ لا يسقط عنه الضَّمان؛ لأنَّ إذن الشَّرع تعلَّق بإحياء نفسه، وجاء الإذن في الإتلاف من باب اللزوم.

ولو وهبه شِقصاً من عين، ثمَّ أقبضه العين كلَّها:

ففي «المجرَّد» و «الفصول» : يكون نصيب الشَّريك وديعة عنده.

واستدرك ذلك ابن عقيل في «فنونه» ، وقال: بل هو عارية؛ حيث قبضه لينتفع به بلا عوض.

وهذا صحيح إن كان أذن له في الانتفاع به مجَّاناً، أمَّا إن طلب منه أجرة؛ فهي إجارة، وإن لم يأذن له في الانتفاع بل في الحفظ؛ فوديعة

(3)

.

(1)

في (ج): يعلَّق. وفي (ب) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): تعلَّق.

(2)

كتب في هامش (ن): (أي: بطريق اللازم).

(3)

قال في الإنصاف (17/ 27): (وفيه نظر).

ص: 279

ولو قال أحد الشَّريكين للعبد المشترك: أنت حبيس

(1)

على آخرنا موتاً؛ لم يَعتق بموت الأوَّل منهما، ويكون في يد الباقي

(2)

عارية، فإذا مات عَتَق، ذكره القاضي في «المجرَّد» .

القسم الثَّاني: ما أخذه لمصلحة مالكه خاصَّة؛ كالمودَع؛ فهو أمين محض، لكن إذا تلفت الوديعة من بين ماله؛ ففي ضمانه خلافٌ:

فمن الأصحاب من يَبْنيه على أنَّ قوله هل يقبل في ذلك أم لا.

ومنهم من يقول: تلفها من بين ماله أمارةٌ على تفريطه فيها.

وقد فرَّق أحمد بين العارية والوديعة: بأنَّ اليد في العارية آخذة وفي الوديعة معطاة، وهو يرجع إلى تعيين جهة المصلحة فيهما.

وكذلك الوصيُّ والوكيل بغير جُعل، حتَّى لو كان له

(3)

دين ولآخر عليه دين، فوكَّله في قبض مال له، وأذن له أن يستوفي حقَّه منه، فتلف المال قبل استيفائه

(4)

؛ فإنَّه لا يضمنه، نصَّ عليه أحمد في رواية مثنى الأنباريِّ.

والقسم الثَّالث: ما قبضه لمنفعة تعود إليهما، وهو نوعان:

أحدهما: ما أخذه على وجه الملك فتبين فساده، أو على وجه السَّوم.

(1)

كتب في هامش (ن): (أي: أنت تَعتِق بعد آخرنا موتًا).

(2)

في (د) و (هـ): (الثَّاني).

(3)

زاد في (ج) و (د): عليه.

(4)

قال ابن نصر الله رحمه الله تعالى: أي: بعد قبضه وقبل استيفاء حقه منه.

ص: 280

فأمَّا الأوَّل: فهو المقبوض بعقد فاسد، وهو مضمون في المذهب؛ لأنَّه قبضه على وجه الضَّمان ولا بدَّ.

ونقل ابن مُشَيش

(1)

وحرب عن أحمد ما يدلُّ على أنَّه غير مضمون؛ كالمقبوض على السَّوم

(2)

.

وكذلك صرَّح بجريان الخلاف فيه

(3)

ابن الزَّاغوني في «فتاويه» .

ونقل حنبل عن أحمد في الهبة للثَّواب: «إن أراد ردَّها على صاحبها، وقد نَقَصَت بغير استعماله؛ لم يضمن النَّقص» ، وشبَّهه بالرَّهن.

وتأوَّله القاضي بتأويل بعيد جداً، وقد ذكره

(4)

أبو البركات في «تعليقه على الهداية» ، ثمَّ اختار هو تخريجه على أنَّ الهبة للثَّواب يغلب فيها حكم الهبات، ومن حكم الهبة ألَّا يضمن نقصها.

قال: (ولازم هذا أن نقول: لا يضمن قيمتها إذا تلفت بغير تعدٍّ)، قال:(وهذا عندي أحسن الوجوه)، قال

(5)

: (ومع هذا

(6)

؛ ففيه نظر).

(1)

هو محمد بن موسى بن مشيش البغدادي، كان يستملي للإمام أحمد، وكان من كبار أصحابه، وروى عنه مسائل مشبعة جيادًا، وكان يقدمه ويعرف حقه. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 323.

(2)

في (ج) و (د) و (هـ): على وجه السوم.

(3)

كتب في هامش (ن): (أي: المقبوض بعقد فاسد).

(4)

في (ب) و (هـ) و (ن): ردَّه.

(5)

قوله: (قال) سقط من (أ) و (هـ) و (و).

(6)

قوله: (ومع هذا) هو في (ب): في هذا.

ص: 281

وهو كما قال؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لما فرَّق بين أن تنقص بفعله أو بغير فعله، ولما صحَّ تشبيهه بالرَّهن.

ويحتمل عندي تخريجه

(1)

على أحد وجهين

(2)

:

إمَّا أن يكون على أنَّ الهبة بالثَّواب المجهول فاسدة، فيكون ذلك موافقاً لما روي عنه

(3)

في المقبوض بعقد فاسد

(4)

: أنَّه غير مضمون.

وإمَّا على أنَّها صحيحة - وهو الأظهر

(5)

-؛ لقوله: «ثمَّ أراد ردَّه إلى مالكه» ؛ فدلَّ على أنَّ له إمساكه، وذلك لا يكون إلَّا مع الصِّحة.

فعلى هذا: إنَّما لم يضمِّنه النَّقص؛ لأنَّ الهبة للثَّواب لا تملك بدون دفع العوض، ولذلك شبَّهها بالرَّهن

(6)

، وسنزيده إيضاحاً في المقبوض بالسَّوم إن شاء الله تعالى.

وأمَّا المقبوض على وجه السَّوم

(7)

: فمن الأصحاب من يحكي في ضمانه روايتين، سواء أخذ بتقدير الثَّمن أو بدونه، وهي طريقة القاضي

(1)

كتب في هامش (ن): (أي: تخريج نقل حنبل).

(2)

في (أ) و (ج) و (هـ): الوجهين.

(3)

كتب في هامش (ن): (أي: عن الإمام أحمد).

(4)

كتب في هامش (ن): (وهو تخريج على ضعيف).

(5)

كتب في هامش (ن): (أي: من نصه هذا).

(6)

كتب في هامش (ن): (يعني: عدم الملك).

(7)

كتب في هامش (ن): (المساومة: المجاذبة بين البائع والمشتري على السلعة وفصل ثمنها. نهاية).

ص: 282

وابن عقيل، وصحَّح الضَّمان؛ لأنَّه مقبوض على وجه البدل

(1)

والعوض؛ فهو كالمقبوض بعقد فاسد.

ثمَّ إن كان لم يقدَّر الثَّمن؛ ضمنه بقيمته، وإلَّا

(2)

فهل يضمنه بالقيمة أو بالثَّمن المقدَّر؟ على وجهين، ذكرهما ابن عقيل.

وقال ابن أبي موسى

(3)

: إن أخذه مع تقدير الثَّمن ليريه أهله فإن رضوه ابتاعه؛ فهو مضمون بغير خلاف، وكذلك إن ساوم صاحبه به ولم يقطع ثمنه وأخذه ليريه أهله، وإن أخذه بإذن مالكه من غير سوم ولا قطع ثمن ليريه أهله فإن رضوه وزن ثمنه؛ ففيه روايتان أيضاً، أظهرهما: أنَّه غير مضمون

(4)

.

وجعل السَّامريُّ

(5)

الضَّمان فيما قطع ثمنه مبنيًّا على أنَّه بيع بالمعاطاة بشرط الخيار، وهذا يدلُّ على أنَّه يجري فيه الخلاف

(6)

إذا

(1)

كتب في هامش (ن): (وإن لم يقدرا ثمنًا).

(2)

كتب في هامش (ن): (أي: وإن يقدر الثمن).

(3)

كتب في هامش (ن): (وقول أبن أبي موسى طريقة ثانية في المقبوض بالسوم).

(4)

كتب في هامش (ن): (وهو المذهب).

(5)

هو محمد بن عبد الله بن الحسين السامري، الفقيه الفرضي، أبو عبد الله، ويلقب نصير الدين، ويعرف بابن سُنَيْنَه، تفقه على أبي حكيم النهرواني ولازمه مدة، وبرع في الفقه والفرائض، وكان حسن المعرفة بالمذهب والخلاف. ينظر: سير أعلام النبلاء 22/ 144، ذيل الطبقات 3/ 248.

(6)

كتب في هامش (ن): (أي: خلافاً لما تقدم من قول ابن أبي موسى من أنه لا خلاف فيه).

ص: 283

قلنا: لم ينعقد البيع بذلك، وفي كلام أحمد إيماء إلى ذلك؛ لأنَّه علَّل الضَّمان في رواية ابن منصور بأنَّه ملكه

(1)

، وعلَّل في رواية غيره انتفاء الضَّمان فيما إذا لم يقطع ثمنه: بأنَّه ملك للبائع بعدُ حتَّى يقطع ثمنه، ففهم منه: أنَّه مع القطع ينتقل الملك فيه

(2)

إلى المشتري، ويؤخذ من ذلك: أنَّ المقبوض بعقد فاسد لا يضمن؛ لبقاء الملك فيه لمالكه.

وكذلك فرَّق بين أن يكون المأخوذ سلعتين ليختار أيَّهما شاء فلا يضمنهما، وبين أن يكون سلعة واحدة.

وهذا يحتمل ثلاثة أمور:

أحدها: ما قال السَّامريُّ: إنه بيع بشرط الخيار

(3)

، ويكون المعلَّقُ على الرَّضا فسخَه لا عقده.

(1)

جاء في مسائل إسحاق بن منصور (6/ 3051): (سئل: فإن ذهب بالثوب بشرط أن يريه أهله، فهلك الثوب؟

قال: يضمن. قلت: فإن ذهب بالثوب بغير ثمن، وقال: إن رضيته ساومتك به بعد، فذهب؟ قال: ليس عليه شيء.

قال أحمد: إذا ذهب به على الثمن، فقد ملكه ضَمِنَ الثمن، وإذا ذهب به على غير ثمن، فليس عليه شيء، إلا أن يكون في حديث عمر حين أخذ الدابة لينظر إليها، لم يكن بيَّن الثمن).

(2)

في (أ): منه.

(3)

كتب في هامش (ن): (أي: تعليق للفسخ).

ص: 284

والثَّاني: أن يكون بيعاً معلَّقاً على شرط

(1)

؛ فقد فعله أحمد بنفسه لمَّا رهن نعله باليمن

(2)

.

ويبعِّد هذا: أنَّه لم يفرِّق

(3)

بين أن يتلف قبل الرِّضى به أو بعده.

والثَّالث: أن يكون بيعاً بمعاطاةٍ تراخى القبول فيه عن المجلس، وقد نصَّ على صحَّة مثل ذلك في النَّكاح في رواية أبي طالب

(4)

.

ومن هذا النوَّع: ما إذا قبض المشتري زيادة على حقِّه غلطاً؛ فإنَّها تكون مضمونة عليه؛ لأنَّه قبضها على وجه العوض، ذكره

(5)

القاضي وابن عقيل والأصحاب.

(1)

كتب في هامش (ن): (أي: تعليق للعقد). وكتب أيضًا: (فيكون المعلق على الرضى عقده لا فسخه).

(2)

كتب في هامش (ن): (وذلك أنه كان أحمد قد أقام باليمن مدة نحو سنتين، وكان شخص يقال له: بحر البقال، فقال له: يا بحر، لك عندي درهم، خذ هذا النعل، فإن بعثنا لك بالدرهم من صنعاء، وإلا فالنعل بالدرهم، أرضيت؟ قلت: نعم ومضى، ذكر ذلك ابن الجوزي في مناقبه في الباب الحادي والأربعين). تنظر القصة: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 310.

(3)

كتب في هامش (ن): (أي: في الضمان).

(4)

جاء في الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى (2/ 114): (قال أحمد في رواية أبي طالب رحمه الله في رجل مشى إليه قوم فقالوا: زوج فلاناً، فقال: قد زوجته على ألف، فرجعوا إلى الزوج فأخبروه، قال: قبلت: يكون هذا نكاح ويتوارثان).

(5)

في (ب): وذكره.

ص: 285

ويحتمل: ألَّا يضمن، على معنى تعليل أحمد في المقبوض بالسَّوم: أنَّه على ملك البائع.

ومن ذلك لو دفع إليه كيساً، وقال له: استوف منه قدر حقِّك، ففعل؛ فهل يصحُّ؟ على وجهين

(1)

؛ بناءً على قبض الوكيل لنفسه من نفسه، والمنصوص الصِّحَّة، نصَّ عليه في رواية الأثرم

(2)

، ويكون الباقي في يده وديعة.

وعلى عدم الصِّحَّة: قدر حقِّه؛ كالمقبوض على

(3)

السَّوم، والباقي أمانة، ذكره في «التَّلخيص» .

ولو دفع إلى غريم له نقداً من غير جنس ما عليه ليصارفه عليه فيما بعد؛ فهي أمانة محضة، نصَّ عليه؛ مع أنَّها قبضت للمعاوضة.

وقياس قول الأصحاب: أنَّها مضمونة؛ كما قالوا في الضَّامن إذا قبض من المضمون عنه قبل الأداء على وجه الاستيفاء منه عند الوفاء: إنَّه مضمون؛ لقبضه على وجه المعاوضة.

وهو أولى؛ لأنَّ القبض هنا

(4)

وجد قبل الاستحقاق، فهو كما لو أقبضت المرأة زوجها مالاً عوضاً عمَّا يستحقُّه عليها بالطَّلاق قبله.

النَّوع الثَّاني: ما أخذ لمصلحتهما على غير وجه التَّمليك لعينه؛

(1)

كتب في هامش (ن): (أصحهما: يصح).

(2)

قوله: (نصَّ عليه في رواية الأثرم) ذُكِر في (د) و (هـ) بعد قوله: (وديعة).

(3)

زاد في (ب) و (د) و (هـ): وجه.

(4)

كتب في هامش (ن): (أي: في مسألة الضامن).

ص: 286

كالرَّهن

(1)

، والمضاربة، والشِّركة، والوكالة بجُعلٍ، والوصيَّة كذلك؛ فهذا كلُّه أمانة على المذهب.

وفي الرَّهن رواية أخرى تدلُّ على ضمانه، وتأوَّلها القاضي، وأثبتها ابن عقيل.

والأعيان المستأجرة والموصى بمنفعتها: أمانةٌ كالرَّهن؛ لأنَّه مقبوض على وجه الاستحقاق.

تنبيه:

من الأعيان المضمونة ما ليس له مالك من الخلق، وما له مالك غير معيَّن.

فالأوَّل: كالصَّيد إذا قبضه المحرم؛ فإنَّه يجب تخليته وإرساله، وسواء

(2)

ابتدأ قبضه في الإحرام أو كان في يده

(3)

ثمَّ أحرم.

وإن تلف قبل إرساله: فإن كان بعد التَّمكُّن منه؛ وجب ضمانه للتَّفريط، وإن كان قبله؛ لزمه الضَّمان فيما ابتدأ قبضه في الإحرام دون ما كان في يده قبله؛ لتفريطه في الأولى دون الثَّانية، هذا قول القاضي وصاحب «المغني»

(4)

.

(1)

كتب في هامش (ن): (سيأتي أن المرتهن قبض الرهن لمصلحة نفسه، وهو المعروف).

(2)

في (ب): سواء.

(3)

كتب في هامش (ن): (أي: المشاهدة لا يده الحكمية).

(4)

كتب في هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 287

وخرَّج ابن عقيل: الضَّمان فيهما؛ لأنَّها عين مضمونة، فلا يقف ضمانها على التَّمكُّن

(1)

من الرَّدِّ؛ كالعواري والغصوب.

والثَّاني: الزَّكاة، إذا قلنا: يجب في العين؛ فالمذهب: وجوب الضَّمان بتلفها بكلِّ حال

(2)

؛ لأنَّها وجبت شكراً لنعمة المال النَّامي الموجود في جميع الحول؛ فهي شبيهة بالمعاوضة

(3)

.

ويستثنى من ذلك

(4)

: ما لم يدخل تحت اليد؛ كالدُّيون، والثَّمر في رؤوس الشَّجر؛ لانتفاء قبضه وكمال الانتفاع به.

ومن الأصحاب من خرَّج وجهاً

(5)

: بسقوط الضَّمان قبل إمكان الأداء مطلقاً.

(1)

في (أ): على عدم التمكن.

(2)

كتب في هامش (ن): (سواء تمكن من الأداء أم لم يتمكن منه).

(3)

كتب في هامش (ن): (إذ هي في مقابلة النعمة المذكورة، أشبهت الثمن في مقابلة المثمن).

(4)

كتب في هامش (ن): (أي: من وجوب الزكاة في العين قبل التمكن وبعده: المال الذي وجبت فيه الزكاة، ولم يدخل في يد المزكي؛ فإنه لو تلف لم يضمن زكاته).

(5)

كتب في هامش (ن): (تقدم في القاعدة التاسعة عشر نسبة هذا التخريج إلى الشيرازي، وحكى المصنف في الفوائد الآتية بعد القواعد بدل هذا الوجه رواية، فلا حاجة إلى التخريج، ولعل هذا التخريج من مسألة: بلوغ الصبي في أثناء يوم من رمضان، فإن في لزوم قضائه روايتين).

ص: 288

‌قاعدة [44]

في قبول قول الأمناء في الرَّدِّ والتَّلف

.

أمَّا التَّلف؛ فيقبل فيه قول كلِّ أمين؛ إذ لا معنى للأمانة إلَّا انتفاء الضَّمان، ومن لوازمه قبول قوله في التَّلف، وإلَّا للزم الضَّمان باحتمال التَّلف، وهو لا يلزمه الضَّمان

(1)

مع تحقُّقه.

ويستثنى من ذلك: الوديعة إذا هلكت دون

(2)

مال المودَع، على طريقة من يحكي الخلاف فيها في قبول قول المودَع في التَّلف، لا في أصل ضمانه

(3)

.

وكذلك العين المستأجرة والمستأجر على عمل فيها، حُكي فيها رواية بالضَّمان.

فمن الأصحاب من جعلها رواية بثبوت الضَّمان فيها؛ فلا تكون أمانة.

(1)

كتب في هامش (ن): (وإذا لم يلزمه الضمان مع تحقق التلف؛ لم يلزمه مع احتماله؛ لأن تحقق التلف أقوى من احتماله، وإذا لم يضمن مع الأقوى لم يجب ضمانه مع الأضعف).

(2)

كتب في هامش (ن): (أي: من بين مال المودَع).

(3)

كتب في هامش (ن): (قوله: "لا في أصل ضمانه"؛ فإنه غير مضمونة عليه في أصل العقد بلا خلاف، وإنما ضمنها في هذه المسألة فيما إذا ادعى تلفها من بين ماله لا في الذمة كما قضى به عمر على أنس).

ص: 289

ومنهم

(1)

من حكى الخلاف في قبول دعوى التَّلف بأمر خفيٍّ، وهي طريقة ابن أبي موسى؛ فلا يخرج بذلك عن الأمانة.

وأمَّا الرَّدُّ؛ فالأمناء فيه

(2)

ثلاثة أقسام:

الأوَّل: من قبض المال لمنفعة مالكه وحده؛ فالمذهب: أنَّ قولهم في الرَّدِّ مقبول.

ونقل أبو طالب وابن منصور عن أحمد: أنَّ الوديعة إذا ثبتت

(3)

ببيِّنة؛ لم يقبل دعوى الرَّدِّ بدون بيِّنة

(4)

(5)

، وخرَّجها ابن عقيل: على أنَّ الإشهاد على دفع الحقوق الثَّابتة بالبيِّنة واجب؛ فيكون تركه تفريطاً،

(1)

كتب في هامش (ن): (أي: ومنهم من جعل هذه الرواية محمولة على الخلاف في قبول دعوى التلف بأمر خفي، لا في أنها مضمونة عليه بأصل القبض؛ كالمستعير).

(2)

قوله: (فيه) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (و).

(3)

كتب في هامش (ن): (قوله: "ثبتت" قد يفهم منه أن المودع أنكرها فثبتت بالبينة عليه، وليس بمراد؛ لأنه إذا أنكرها ثم ادعى الرد؛ فلا يقبل قوله، وإنما معنى قوله "ثبتت" أن يكون قد دفعها إليه ببينة، فلا يقبل قوله في الرد إلا ببينة).

(4)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2773): (قلت: الرجل يقول للرجل: قد كانت لك عندي وديعة، فدفعتها إليك؟

قال: يصدق إذا كان دفعها إليه بغير بينة).

(5)

كتب في هامش (ن): (قد يعلل ذلك بأن الحق الثابت بطريق قوي يتوجه ألا يسقط عمن وجب عليه إلا بطريق مثله أو بأقوى منه، لا بأضعف منه).

ص: 290

فيجب به الضَّمان.

وكذلك خرَّج طائفة من الأصحاب في وصيِّ اليتيم: أنَّه لا يقبل قوله في الرَّد بدون بيِّنة

(1)

، وعزاه القاضي في «خلافه» إلى قول الخرقيِّ، وهو متوجِّه على هذا المأخذ؛ لأنَّ الإشهاد بالدَّفع إلى اليتيم مأمور به بنصِّ القرآن

(2)

، وقد صرَّح أبو الخطاب في «انتصاره» باشتراط الشَّهادة عليه؛ كالنِّكاح.

القسم الثَّاني: من قبض المال لمنفعة نفسه؛ كالمرتهن

(3)

، فالمشهور: أنَّ قوله في الرَّدِّ غير مقبول؛ لشبهه بالمستعير.

وخرَّج أبو الخطاب وأبو الحسين وجهاً آخر: بقبول قوله في الرَّدِّ؛ لأنَّه أمين في الجملة.

وكذلك الخلاف في المستأجر

(4)

.

القسم الثَّالث: من قبض المال لمنفعة مشتركة بينه وبين مالكه؛ كالمضارب، والشَّريك، والوكيل بجُعْل، والوصيِّ كذلك؛ ففي قبول قولهم في الرَّدِّ وجهان معروفان؛ لوجود الشَّائبتين في حقِّهم:

(1)

كتب في هامش (ن): (يعني: إذا كان الموصى قد قبض المال ببينة).

(2)

وهو قوله تعالى: (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم).

(3)

كتب في هامش (ن): (قد تقدم في الصفحة اليمنى أن الرهن مما أخذ لمصلحتهما على غير وجه التملك).

(4)

كتب في هامش (ن): (أي: هل يقبل قوله في الرد؟).

ص: 291

أحدهما: عدم القبول

(1)

، ونصَّ عليه أحمد في المضارب في رواية ابن منصور

(2)

: أنَّ عليه البَيِّنة بدفع رأس المال

(3)

، وهو اختيار ابن حامد، وابن أبي موسى، والقاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل وغيرهم

(4)

.

والثَّاني: قبول قولهم في ذلك، وهو اختيار القاضي في «خلافه» ، وابنه أبي الحسين، والشَّريف أبي جعفر، وأبي الخطَّاب في «خلافه» .

ووجدت ذلك منصوصاً عن أحمد في رواية ابن منصور في المضارب أيضاً، في رجل دفع إلى آخر ألف درهم مضاربة، فجاء بألف، فقال: هذا ربح، وقد دفعت إليك ألفاً رأس مالِكَ؛ قال:(هو مصدَّق فيما قال)

(5)

.

(1)

كتب في هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

كتب في هامش (و): (وكذلك في رواية الأثرم).

(3)

جاء في مسائل ابن منصور في المضاربة (6/ 3019): (قلت: سئل سفيان: إذا اختلفا، فقال المدفوع إليه: هذا ربح، وقد دفعت إليك رأس المال؟ قال: بينته أنه دفع رأس المال، وإلا فهذا رأس المال، ويستحلف صاحب المال، أنه لم يقبض رأس ماله. قال أحمد: نعم).

(4)

كتب في هامش (ن): (وهو المشهور).

(5)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2797): (قلت: قال الثوري: رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة، فجاء بألف درهم، فقال: هذا ربح، وقد دفعت إليك ألفاً رأس مالك. قال: هو مصدق فيما قال).

ص: 292

ووجدت في «مسائل أبي داود» عن أحمد نحو هذا أيضاً

(1)

.

وكذلك نقل عنه مهنَّى في مضارب دفع إلى ربِّ المال كلَّ يوم شيئاً، ثم قال: كان من رأس المال؛ أنَّ القول قوله مع يمينه.

وحكم الأجير المشترك حكم هؤلاء، وكذلك من يعمل في عينٍ بجزء من نمائها؛ لأنَّه إمَّا أجير أو شريك.

والفرق بينهم وبين المستأجر: أنَّ المستأجر قبض مال المؤجر؛ ليستوفي منه حقَّ نفسه؛ فصار حفظه لنفسه، وهؤلاء المال في أيديهم أمانةٌ لا حقَّ لهم فيه، وإنَّما حقُّهم فيما ينمو

(2)

منه أو في ذمَّة المالك.

فأمَّا من يعمل في المال بجزء من عينه؛ فهو كالوصيِّ الَّذي يأكل من مال اليتيم، والقول قوله في الرَّدِّ أيضاً، صرَّح به القاضي؛ لأنَّ المال لم يقبضه لحقِّ نفسه، بل للحفظ على المالك، وحقُّه فيه متعلِّق بعمله، بخلاف المرتهن والمستأجر.

ثمَّ ههنا أربعة أقسام:

أحدها: أن يدَّعي الأمين أنَّه ردَّ الأمانة إلى من ائتمنه، وهذا هو الَّذي ذكرناه.

(1)

جاء في مسائل أبي داود (ص 271): (سمعت أحمد سئل عن رجل دفع إلى رجل مالًا مضاربة، فكان يجيئه فيعطيه العشرين درهمًا والدينار ونحوه، ويقول: هذا من الربح، فلما حاسبه، قال: إنما كنت أعطيتك كله من رأس المال؟ قال أحمد: هذا أعطى ماله خائن، قال: له عليه يمين؟ قال: أدنى ما له عليه اليمين).

(2)

في (ب) وباقي النسخ: ينمي.

ص: 293

والثَّاني: أن يدعي الرَّدَّ إلى غير من ائتمنه بإذنه؛ فهل يقبل قوله

(1)

؟ على وجهين:

أحدهما: وهو المنصوص، وهو اختيار أبي الحسن التَّميمي

(2)

: أنَّه يقبل قوله.

والثَّاني: لا يقبل؛ فقيل: لتفريطه بترك الإشهاد على المدفوع إليه، فلو صدَّقه الآمر على الدَّفع؛ لم يسقط الضَّمان.

وقيل: بل لأنَّه ليس أمينًا للمأمور بالدَّفع إليه؛ فلا يقبل قوله في الرَّدِّ إليه

(3)

؛ كالأجنبيِّ.

وكلٌّ من هذه الأقوال الثَّلاثة قد نُسب إلى الخرقيِّ.

بل ونُسب إليه: أنَّ دعوى الوصيِّ الرَّدَّ إلى اليتيم غيرُ مقبول كما سبق، فربَّما اطَّرد هذا في دعوى الرَّدِّ من جميع الأمناء إلى من ائتمنهم، وهو بعيد جداً، وربَّما اختصَّ بالوصيِّ؛ لأنَّ ائتمانه ليس من جهة الصَّبيِّ، فهو كالأجنبيِّ معه.

هذا إذا ادَّعى الرَّدَّ بإذن المالك، وإن ادَّعاه مع عدم إذنه؛ فلا يقبل

(1)

كتب في هامش (ن): (أي: في الرد، وأما في الإذن فالقول قول الوكيل).

(2)

هو عبد العزيز بن الحارث بن أسد، أبو الحسن التميمي، صنف في الأصول والفروع والفرائض، وصحب أبا القاسم الخرقي، وغلام الخلال، وله مصنف اسمه: اللطيف الذي لا يسع جهله، وتوفي سنة (371 هـ). سنظر: طبقات الحنابلة 2/ 139.

(3)

كتب في هامش (ن): (فلو صدقه الآمر على الدفع سقط الضمان).

ص: 294

منه، حتَّى ولا الأداء إلى الوارث والحاكم؛ لأنَّهما لم يأتمناه، نقله في «التَّلخيص» .

إلَّا أن يدَّعي الرَّدَّ إلى من يده كيد المالك؛ كوكيله، أو ردَّ الوديعة إلى عبده وخازنه ونحوهما ممَّن يحفظ ماله؛ لأنَّ أيديهم كيَدِه.

ويتوجَّه في دعوى الرَّدِّ إلى الحاكم والوارث بعد موت الموروث: القبول؛ لقيامهما مقام المؤتمن، وهو ردٌّ مبرئٌ.

القسم الثَّالث: أن يدَّعي غير الأمين - كَوَارِثِه - أنَّ الأمين ردَّ إلى المالك؛ فلا يقبل؛ لأنَّه غير مؤتمن، فلا يقبل قوله.

ومن المتأخِّرين

(1)

من خرَّج وجهاً: بالقبول؛ لأنَّ الأصل عدم حصولها في يده، وجعل أصله أحد الوجهين فيما إذا مات من كان عنده أمانة، ولم يُوجَد في تركته، ولم يعلم بقاؤها عنده: أنَّها لا تضمن، ولا حاجة إلى التَّخريج إذاً

(2)

؛ لأنَّ الضَّمان على هذا

(3)

الوجه منتفٍ، سواء ادَّعى الوارث الرَّدَّ أو التَّلف، أو لم يدَّعِ شيئاً.

القسم الرَّابع: أن يدَّعي من حكمه حكم الأمناء في سقوط الضَّمان عنه بالتَّلف قبل التَّمكن من الرَّدِّ؛ كوارث المودَع ونحوه، والملتقِط بعد ظهور المالك، ومن أطارت الرِّيح إلى داره ثوباً، إذا ادَّعوا الرَّدَّ إلى المالك:

(1)

كتب في هامش (ن): (وهو الحارثي).

(2)

كتب في هامش (ن): (أي: إذا قلنا أن الأصل عدم وصولها إلى الوارث).

(3)

كتب في هامش (ن): (أي: على تعليل هذا الوجه).

ص: 295

ففي «التَّلخيص» : لا يقبل؛ لأنَّ المالك لم يأتمنه.

ويتوجَّه: قبول دعواه في حالةٍ لا يُضمَن فيها بالتَّلف؛ لأنَّه مؤتمن شرعاً في هذه الحالة.

تنبيه:

عامل الصَّدقة مقبول القول في دفعها إلى المستحقِّين ولو كذَّبوه، بغير خلاف، وإن كان وكيلاً بجُعل، ذكره القاضي في «الأحكام السُّلطانية»

(1)

؛ لأنَّ الصَّدقة عبادة فلا استحلاف فيها، وكذلك لا يستحلف أربابها إذا ادَّعوا الدَّفع إلى العامل وأنكر، فكذلك العامل؛ لأنَّه أمين لأربابها، فيقبل قوله عليهم في الرَّدِّ.

وأمَّا عامل الخراج؛ فلا يقبل قوله في الدَّفع إلَّا ببيِّنة أو تصديق، ذكره القاضي أيضاً

(2)

، وعلَّل: بأنَّ الخراج دين؛ فلا يقبل قول

(3)

مستوفيه في دفعه إلى مستحقِّه.

وهذا التَّعليل منتقض بالوكيل

(4)

في استيفاء دين ودفعه إلى مستحقِّه، فإنَّ قوله مقبول في ذلك كما سبق.

والأظهر: تخريج حكم عامل الخراج على الوكيل، فإن كان

(1)

(ص 135).

(2)

الأحكام السلطانية (ص 135).

(3)

في (ب): قوله.

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: المتبرِّع).

ص: 296

متبرِّعاً؛ فالقول قوله، وإن كان بجُعل؛ ففيه قولان

(1)

، وكذلك يخرَّج في عامل الوقف وناظره.

(1)

في (ب) وباقي النسخ: وجهان.

ص: 297

‌قاعدة [45]

عقود الأمانات؛ هل تنفسخ بمجرَّد التَّعدي فيها أم لا

؟

المذهب: أنَّ الأمانة المحضة تبطل بالتَّعدي، والأمانة المتضمِّنة لأمر آخر لا تبطل على الصَّحيح.

ويتخرَّج على هذا مسائل:

منها: إذا تعدَّى في الوديعة؛ بطلت، ولم يجز له الإمساك، ووجب الرَّدُّ على الفور؛ لأنَّها أمانة محضة، وقد زالت بالتَّعدِّي؛ فلا تعود

(1)

بدون عقد متجدِّد، هذا هو المشهور.

ولو كانت عينين فتعُدِّي في إحداهما؛ فهل يصير ضامناً لهما، أو لما وجد فيه التَّعدي

(2)

خاصَّة؟

فيه تردد، ذكره القاضي أبو يعلى الصَّغير.

وذكر ابن الزَّاغونيِّ: أنَّه إذا أزال التَّعدِّي وعاد إلى الحفظ؛ لم تبطل

(3)

، وقد يوجَّه: بأنَّ المالك أسند إليه الحفظ لرضاه بأمانته

(4)

،

(1)

في (أ) و (ج) و (د): يعود.

(2)

في (أ): التَّعيين.

(3)

في (أ) و (هـ): يبطل.

(4)

في (أ): بأماناته.

ص: 298

فمتى وُجدت الأمانة فالإسناد موجود لوجود علَّتِه، كما لو صرَّح بالتَّعليق، فقال: كلَّما خنت ثمَّ عدت فأنت أمين؛ فإنَّه يصحُّ؛ لصحَّة تعليق الإيداع على الشَّرط؛ كالوكالة، صرَّح به القاضي.

ومنها: الوكيل إذا تعدَّى؛ فالمشهور: أن وكالته لا تنفسخ، بل تزول أمانته ويصير ضامناً، ولهذا لو باع بدون ثمن المثل؛ صحَّ، وضمن النقص؛ لأنَّ الوكالة إذنٌ في التَّصرُّف مع ائتمان، فإذا زال أحدهما

(1)

؛ لم يَزُل الآخر، هذا هو المشهور.

وعلى هذا: فإنَّما يضمن ما وقع فيه التَّعدِّي خاصَّة، حتَّى لو باعه وقبض ثمنه لم يضمنه؛ لأنَّه لم يتعدَّ في عينه، ذكره في «التَّلخيص» .

ولا يزول الضَّمان عن عين ما وقع فيه التَّعدِّي بحالٍ، إلَّا على طريقة ابن الزاغونيِّ في الوديعة.

وظاهر كلام كثير من الأصحاب: أنَّ المخالفة من الوكيل تقتضي فساد الوكالة لا بطلانها

(2)

؛ فيفسد العقد، ويصير متصرِّفاً بمجرَّد الإذن.

وحكى ابن عقيل في «نظريَّاته» وصاحب «المحرَّر» وجهاً آخر، وبه جزم القاضي في «خلافه»: أنَّ الوكالة تبطل كالوديعة؛ لزوال الائتمان، والإذن في التَّصرف كان منوطاً به.

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو الائتمان).

(2)

كتب على هامش (ن): (هذا الكلام يقتضي التَّفرقة بين الفاسد والباطل، وسيجيء مثله في قاعدة ضمان المقبوض بعقد فاسد، وردَّه شيخنا وقال: إنَّ التَّفرقة بينهما للحنفيَّة. بلغ سماعاً وبحثاً فيه على مولانا قاضي القضاة بقراءة ولده).

ص: 299

ومنها: الشَّركة والمضاربة إذا تعدَّى فيها

(1)

؛ فالمعروف من المذهب: أنَّه يصير ضامناً، ويصحُّ تصرُّفه؛ لبقاء الإذن.

ويتخرَّج: بطلان تصرُّفه من الوكالة.

ومنها: الرَّهن إذا تعدَّى المرتهن فيه؛ زال ائتمانه، وبقي مضموناً عليه، ولم تبطل توثقته.

وحكى ابن عقيل في «نظريَّاته» احتمالاً ببطلان الرَّهن

(2)

، وفيه بُعد؛ لأنَّه عقد لازم، وحقٌّ للمرتهن على الرَّاهن، لا سيَّما إن كان مشروطاً في عقد

(3)

وقلنا: يلزم بمجرد العقد؛ فإنَّ الرَّاهن يجبر على تقبيضه، فكيف يزول بالتَّعدِّي؟!

ومنها: إذا استأجره لحفظ شيء مدَّة، فحفظه في بعضها ثمَّ ترك؛ فهل تبطل الإجارة؟ فيه وجهان:

قال ابن المَنِّيِّ

(4)

: أصحُّهما: لا تبطل

(5)

(6)

، بل يزول الاستئمان

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: العين).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: بالتَّعدي).

(3)

كتب على هامش (ن): (كبيع وقرض).

(4)

هو نصر بن فتيان بن مطر النهرواني، ثم البغدادي، أبو الفتح، المعرف بابن المني، فقيه العراق على الإطلاق، تفقه على أبي بكرٍ الدينوري، ولازمه حتى برع في الفقه، له تعليقة في الخلاف كبيرة معروفة، توفي سنة (583 هـ). ينظر: ذيل الطبقات 2/ 357.

(5)

في (أ) و (ب) و (ج)(د): يبطل.

(6)

كتب على هامش (ن): (ويستحقُّ الأجرة).

ص: 300

ويصير ضامناً.

وفي «مسائل ابن منصور» عن أحمد: إذا استاجر أجيراً شهراً معلوماً، فجاء إليه في نصف ذلك الشَّهر أنَّ للمستأجر الخيار

(1)

.

والوجه الآخر

(2)

: يبطل العقد، فلا يستحقُّ شيئاً من الأجرة؛ بناءً على أصلنا فيمن امتنع من تسليم بعض المنافع المستأجرة: أنَّه لا يستحقُّ أجرة، وبذلك أفتى ابن عقيل في «فنونه» .

ومنها: الوصيُّ إذا تعدَّى في التَّصرُّف؛ فهل يبطل كونه وصيًّا أم لا؟ ذكر ابن عقيل في «المفردات» فيه احتمالين:

أحدهما: لا يبطل، بل تزول أمانته ويصير ضامناً؛ كالوكيل.

والثَّاني: يبطل؛ لأنَّه خرج من حيِّز الأمانة بالتَّفريط، فزالت ولايته بانتفاء شرطها؛ كالحاكم إذا فسق.

وفرض المسألة: فيما إذا أقدم على البيع بدون قيمة المثل.

وعلى هذا يتخرَّج بيع العدل الَّذي بيده الرَّهن له بدون ثمن المثل أو الثَّمن المقدَّر؛ هل يصحُّ أو لا؛ لأنَّ الأمانة معتبرة فيه، واختيار صاحب «المغني»: أنَّه لا يصحُّ بيعه بدون ثمن المثل، لكنَّه علَّل

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2915): (قلت: إذا استأجر الرجل أجيراً شهراً معلوماً، فجاء في نصف ذلك الشهر؟ قال - أي: سفيان -: الذي استأجره بالخيار إن شاء عمل، وإن شاء لم يعمل. قال أحمد: هو كما قال: إنما استأجره في أول الشهر).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 301

بمخالفة الإذن، وهو منتقض بالوكيل، ولهذا ألحقه القاضي في «المجرَّد» وابن عقيل في «الفصول» ببيع الوكيل؛ فصحَّحاه وضمَّناه النَّقص.

ومثله: إجارة النَّاظر للوقف بدون أجرة المثل.

ص: 302

‌قاعدة [46]

في العقود الفاسدة؛ هل هي منعقدة أو لا

؟

وهي نوعان:

أحدهما: العقود الجائزة؛ كالشركة والمضاربة والوكالة، وقد ذكرنا آنفًا: أنَّ فسادها لا يمنع نفوذ التَّصرف فيها بالإذن، لكن خصائصها تزول بفسادها؛ فلا يصدق عليها أسماء العقود الصَّحيحة إلَّا مقيَّدة بالفساد.

وصرَّح القاضي في «خلافه» : بأنَّه لو حلف على الشركة الفاسدة من أصلها أنَّها شركة؛ حنث

(1)

، قال: ويمنع من التَّصرُّف فيها.

والمنع من التَّصرف مع القول بنفوذه وبقاء الإذن مشكلٌ، لا سيَّما وقد قرَّر أن العامل يستحقُّ المسمَّى.

والنَّوع الثَّاني: العقود اللَّازمة، فما كان منها لا يتمكَّن العبد من الخروج منه بقوله؛ كالإحرام؛ فهو منعقد

(2)

؛ لأنَّه لا سبيل إلى التَّخلُّص منه إلَّا بإتمامه أو الإحصار عنه.

(1)

كتب على هامش (ن): (لأنَّها ليست شركة صحيحة، ويمينه إنما تنصرف للموضوع الشرعي).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: لزوماً، ولو كان فاسداً).

ص: 303

وما كان العبد متمكِّناً من الخروج منه بقوله؛ فهو منقسم إلى قسمين:

أحدهما: ما يترتَّب عليه حكم مبنيٌّ على التَّغليب والسِّراية والنفوذ؛ فهو منعقد، وهو النِّكاح والكتابة، يترتَّب عليهما الطَّلاق والعتق؛ فلقوَّتهما ونفوذهما انعقد العقد المختصُّ

(1)

بهما، ونفذا فيه، ويتبعهما أحكام كثيرة من أحكام العقد

(2)

.

ففي النِّكاح: يجب المهر بالعقد، حتَّى لو طلقها قبل الدُّخول؛ لزمه نصف المهر على وجه

(3)

، ويستقرُّ بالخلوة، وتعتدُّ فيه من حين الفرقة لا من حين الوطء، وتعتدُّ للوفاة فيه

(4)

قبل الطَّلاق.

وفي الكتابة: تستتبع الأولاد والأكساب.

والثَّاني: ما لا يترتَّب عليه ذلك؛ كالبيع والإجارة؛ فالمعروف من المذهب: أنَّه غير منعقد، ويترتَّب عليه أحكام الغصب.

وخرَّج أبو الخطَّاب في «انتصاره» : صحَّة التَّصرُّف في البيع الفاسد من النِّكاح.

واعترضه أحمد الحربيُّ في «تعليقه»

(5)

، وقال: النِّكاح الفاسد

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: ولو كان فاسداً).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: المختص بهما).

(3)

كتب على هامش (ن): (والصَّحيح: أنَّه لا يلزمه).

(4)

قوله: (فيه) سقط من (ب) و (و).

(5)

هو أحمد بن معالي بن بركة الحربي، تفقه على أبي الخطاب الكلوذاني، وكان قد انتقل إلى مذهب الشافعي ثم عاد إلى مذهب أحمد، قال ابن رجب:(وله تعليقة في الفقه وقفت على جزء منها)، توفي سنة 554 هـ. ينظر: ذيل الطبقات 2/ 71.

ص: 304

منعقد، فلهذا صحَّ التَّصرُّف فيه، بخلاف البيع.

ولكنْ أبو الخطَّاب قال

(1)

: لا يسلم انعقاد النِّكاح الفاسد ولا غيره؛ لأنَّه يرى أنَّ المجامع يحلُّ من إحرامه، وأنَّ الطَّلاق في النِّكاح الفاسد إنَّما يقع ممَّن يعتقد صحَّته؛ فمن ههنا حسن عنده هذا التَّخريج؛ إذ البيع والنِّكاح في هذا على حدٍّ واحد.

وأبدى ابن عقيل في «عُمَدِه» احتمالاً بنفوذ الإقالة في البيع الفاسد؛ كالطَّلاق في النِّكاح الفاسد؛ قال: ويفيد ذلك أنَّ حكم الحاكم -بعد الإقالة- بصحَّة العقد لا يؤثِّر.

وذكر ابن عقيل وغيره وجهين في نفوذ العتق في البيع الفاسد؛ كالطَّلاق في النِّكاح الفاسد.

وفرَّق بينهما على أحد الوجهين

(2)

: بأنَّ الطَّلاق يسقط به حقُّ نفسه فنفذ، بخلاف العتق؛ فإنَّه يسقط به حقُّ غيره، وهو البائع.

وهذا كلُّه يشعر بانعقاد البيع.

وذكر ابن عقيل في «فصوله» احتمالين فيما إذا قال لغيره بعد نداء الجمعة: أعتق عبدك عنِّي وعليَّ ثمنه، ففعل؛ فهل

(3)

ينفذ عتقه عن

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): قد.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو الوجه القائل: بأنَّ العتق لا ينفذ في البيع الفاسد).

(3)

في (ب) و (و) و (ن): هل.

ص: 305

نفسه أو عن الآمر له؟

ولكن هذا عقدٌ موضوع للعتق، والملك تابع له؛ فهو كالكتابة، بخلاف البيع.

فإن قيل: هلَّا قلتم: إنَّ صحَّة التَّصرُّف في البيع الفاسد مستندٌ إلى الإذن؛ كما في العقود الجائزة إذا فسدت؟!

قيل: لا يصحُّ ذلك لوجهين:

أحدهما: أنَّ البيع وُضِع لنقل الملك لا للإذن

(1)

، وصحَّة التَّصرف فيه تُستفاد من الملك لا من الإذن، بخلاف الوكالة؛ فإنَّها موضوعة للإذن.

يوضحه: أنَّ الموكِّل أذِن لوكيله أن يتصرَّف له، وقد فعل ما أمره، والبائع إنَّما أذِن للمشتري في التَّصرُّف لنفسه بالملك، ولا ملك ههنا.

والثَّاني: أنَّ

(2)

الإذن في البيع مشروط بسلامة عِوَضِه، فإذا لم يُسلَّم العوض

(3)

؛ انتفى الإذن، والوكالة إذنٌ مطلق بغير شرط.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: في التَّصرُّف).

(2)

قوله: (أن) سقطت من (ب).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: لفساد العقد).

ص: 306

‌قاعدة [47]

في ضمان المقبوض بالعقد الفاسد

.

كلُّ عقد يجب الضمان في صحيحه؛ يجب الضَّمان في فاسده.

وكلُّ عقد لا يجب الضَّمان في صحيحه؛ لا يجب في فاسده.

ونعني بذلك:

أنَّ العقد الصَّحيح إذا كان موجباً للضَّمان؛ فالفاسد كذلك، وإذا لم يكن الصَّحيح موجباً للضَّمان؛ فالفاسد كذلك

(1)

.

فالبيع والإجارة والنِّكاح موجبة للضَّمان مع الصِّحَّة، فكذلك مع الفساد.

والأمانات؛ كالمضاربة والشركة والوكالة والوديعة، وعقود التَّبرُّعات كالهبة؛ لا يجب الضَّمان فيها مع الصِّحَّة، فكذلك مع الفساد.

وكذلك الصَّدقة.

(1)

كتب على هامش (و) و (ن): (قولهم في الأمين إذا تعدَّى: "إنَّه يصير ضامناً" يدلُّ على أنَّه يضمن في الفاسد، ولا يضمن في الصَّحيح)، زاد في (ن):(من هامش النُّسخة المعتمدة).

ص: 307

فأمَّا قول أصحابنا فيمن عجَّل زكاته ثمَّ تلف المال، وقلنا: له

(1)

الرُّجوع به: إنَّه إذا تلف ضمنه القابض، فليس من القبض الفاسد بشيء؛ لأنَّه وقع صحيحاً، لكنَّه مراعًى، فإن بقي النِّصاب تبيَّنَّا أنَّه قبض زكاة، وإن تلف تبيَّنَّا أنَّها لم تكن زكاة؛ فيرجع بها.

نعم، إذا ظهر قابض الزَّكاة ممَّن لا يجوز له أخذها؛ فإنَّه يضمنها؛ لكون القبض لم يملك به، وهو مفرِّط بقبض ما لا يجوز له قبضه؛ فهذا من القبض

(2)

الباطل لا الفاسد

(3)

.

وليس المراد: أنَّ كلَّ حال ضمن فيها في العقد الصَّحيح ضمن في مثلها من

(4)

الفاسد، فإنَّ البيع الصَّحيح لا يجب فيه ضمان المنفعة، وإنَّما تضمن

(5)

العين بالثمن، والمقبوض بالبيع الفاسد يجب ضمان الأجرة فيه على المذهب.

والإجارة الصَّحيحة تجب فيها الأجرة بتسليم

(6)

العين المعقود

(1)

كتب على هامش (ن): (والمذهب: أنَّه لا يرجع به مطلقاً).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: وكلامنا إنما هو في المقبوض الفاسد).

(3)

كتب على هامش (ن): (هذا التَّفريق بين الباطل والفاسد، والمعروف عند أصحابنا: التَّسوية بينهما، وأنَّهما مترادفان، وإنَّما يفرِّق بينهما الحنفيَّة. من خط قاضي القضاة أحمد البغدادي الحنبلي، فلينظر).

(4)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): في.

(5)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): يضمن.

(6)

في (ب): بتسلُّم.

ص: 308

عليها، سواء انتفع بها المستأجر أو لم ينتفع، وفي الإجارة الفاسدة روايتان:

إحداهما

(1)

: كذلك.

والثَّانية: لا تجب الأجرة إلَّا بالانتفاع، ولعلَّها راجعة إلى أنَّ المنافع لا تضمن في الغصب ونحوه إلَّا بالانتفاع، وهو الأشبه.

وكذلك يخرَّج في ضمان منفعة المبيع

(2)

(3)

ههنا، ولكن نقل جماعة عن أحمد ما يدلُّ على أنَّ الإجارة الصَّحيحة لا تجب فيها الأجرة إلَّا بقدر الانتفاع إذا ترك المستأجر بقيَّة الانتفاع بعذر من جهته

(4)

، وتأوَّلها القاضي وابن عقيل، وأقرَّها صاحب «شرح الهداية» والقاضي أيضاً في بعض تعاليقه

(5)

.

والنِّكاح الصَّحيح يستقرُّ فيه المهر بالخلوة بدون الوطء، وفي النِّكاح

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

في (أ) و (و): البيع.

(3)

كتب على هامش (ن): (في أنَّها لا تضمن إلَّا بالانتفاع).

(4)

قال القاضي أبو يعلى في الروايتين والوجهين (1/ 626): (إذا استأجر دارًا مدة بعينها، فسكن بعض المدة وانتقل عنها باختياره، فنقل أبو طالب: يلزمه جميع الكرى للمدة، قال أبو بكر: وقد نقل ذلك الأثرم وإبراهيم بن الحارث، وانفرد أبو الحارث عنه، فقال: عليه بقدر ما ترك من الشهر، وعندي: أن هذا محمول على أنه انتقل لعذر منعه من السكنى، فأما أن ينتقل باختياره فإن جميع الأجرة تلزمه).

(5)

كتب على هامش (ن): (من غير تأويل، فتكون رواية ثانية).

ص: 309

الفاسد روايتان أيضاً

(1)

، وقد قيل: إنَّ ذلك مبنيٌّ

(2)

على أنَّ البضع هل تثبت عليه اليد أم لا؟

وقد نُقل عن أحمد فيما إذا نكح العبد نكاحاً فاسداً: أنَّه لا مهر لها

(3)

، وهو محمول على أنَّه لم يوجد دخول، أو على أنَّهما كانا عالمين بالتَّحريم فتكون زانيةً.

ونقل ابن مُشَيش وحرب عنه: أنَّ البيع المقبوض

(4)

من غير تسمية ثمن لا يُضمَن؛ لأنَّه على ملك البائع، وقد سبق ذلك

(5)

، والعمل في المذهب على خلافه.

إذا تقرَّر هذا: فهل يضمن في العقد الفاسد بما سمَّى فيه، أو بقيمة المثل؟ فيه خلاف في مسائل:

منها: البيع، والمعروف في المذهب: ضمانه بالقيمة لا بالثَّمن

(1)

كتب على هامش (ن): (كما في الإجارة).

(2)

كتب على هامش (ن): (والصَّحيح: عدم البناء).

(3)

قال إسحاق بن منصور في مسائله (4/ 1530): (قلت: تزويجُ العبد بغير إذن مولاه؟ قال: هو على قول ابن عمر رضي الله عنهما: زِنًى. قلت: فإن أجازه المولى بعد ذلك؟ قال: يستأنف النكاح. قيل له: يجلد؟ قال: على قول ابن عمر نعم، ولكن حديث أبي موسى. قلتُ: فليس لها صداق ولا عليها العدة؟ قال: هكذا هو قولُ ابن عمر، كأنه مال إلى حديث أبي موسى).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: على وجه السَّوم).

(5)

ينظر: ص

عند قوله: (علَّل الضَّمان في رواية). كتب على هامش (ن): (أي: في القاعدة الثالثة والأربعين).

ص: 310

المسمَّى فيه، نصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور وأبي طالب

(1)

؛ لأنَّ المسمَّى إنَّما وقع الرِّضى به في ضمان العقد، والعقد غير موجب للضَّمان، وإنَّما يترتَّب الضَّمان بأمر آخر طارئ على العقد، وهو التَّلف تحت يده، فيجب ضمانه بالقيمة أو المثل، كما لو اتَّفقا على ضمان العارية عند إقباضها بشيء ثمَّ تلفت؛ فإنَّه يلغو المتَّفق عليه، ويجب المثل أو القيمة كذلك ههنا.

وحكى القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل في «الفصول» في الكتابة عن أبي بكر عبد العزيز: أنَّ المقبوض بالبيع الفاسد يُضمن بالمسمَّى، وهو اختيار الشَّيخ تقيِّ الدِّين، وقال: إنَّه قياس المذهب

(2)

؛ آخذاً له من النِّكاح.

قال: لأنَّ إقباضه إيَّاه إذن له في إتلافه بالعوض المسمَّى، فأشبه ما لو قال له: أتلفه بألف درهم، فأتلفه؛ فإنَّه لا يستحقُّ غير ما سُمِّي له.

وقد يجاب عن هذا: بأنَّ المسمَّى إنَّما جعل عوضاً عن الملك لا عن الإتلاف، ولم يتضمَّن العقد إذناً في الإتلاف، إنَّما تضمَّن نقل ملك بعوض، ولم يوجد نقل الملك؛ فلا يثبت العوض، وإنَّما وجب الضَّمان بسبب متجدِّد

(3)

.

(1)

نقل ابن منصور عن أحمد (6/ 2969): (كلُّ بيع فاسد: يأخذ القيمة، ويتنزه عن الفضل).

(2)

ينظر: مجموع الفتاوى (29/ 409 - 410).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو التلف الطَّارئ بعد العقد).

ص: 311

ومنها: الإجارة الفاسدة، والمعروف من المذهب: ضمانها بأجرة المثل أيضاً.

ويتخرَّج على قول أبي بكر: أنَّها تضمن بالأجرة المسمَّاة، والقول فيها كالقول في البيع سواء.

ومنها: الكتابة الفاسدة تُضمن بالمسمَّى، فإذا أدَّى ما سمَّى فيها؛ حصل العتق، ولم يلزمه ضمان قيمته، ذكره أبو بكر، وهو ظاهر كلام أحمد

(1)

، واتَّفق الأصحاب على ذلك.

لكنِ المتأخِّرون زعموا أنَّ الكتابة الفاسدة تعليق بصفة

(2)

؛ فلا يؤثِّر فسادها ولا تحريمها، كما لو قال لعبده: إن أعطيتني خمراً؛ فأنت حرٌّ، فأعطاه؛ عَتَق لوجود الصِّفة.

وأمَّا أبو بكر؛ فعنده أنَّ الكتابة عقد معاوضة أبداً

(3)

، وهو اختيار ابن عقيل، وهو الأظهر، ولا يقع العتق عنده بأداء المحرَّم؛ لأنَّ العقد لا ينعقد بعوض محرَّم، بل هو عنده باطل.

ومنها: النِّكاح الفاسد يستقرُّ بالدُّخول فيه وجوب المهر المسمَّى في الرِّواية المشهورة عن أحمد، وهي المذهب عند أبي بكر وابن

(1)

قال في المغني (10/ 337): (وهو ظاهر كلام أحمد، في رواية الميموني، إذا كاتبه كتابة فاسدة، فأدى ما كوتب عليه، عَتَق ما لم تكن الكتابة محرمة).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب؛ أي: لا عقد معاوضة، كما يقوله أبو بكر).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: لا تعليق عتق بصفة، كما زعمه المتأخِّرون).

ص: 312

أبي موسى، واختارها القاضي وأكثر أصحابه في كُتب الخلاف.

ويفرَّق بين النِّكاح والبيع: بأنَّ النَّكاح مع فساده منعقد، ويترتَّب عليه أكثر أحكام الصَّحيح؛ من وقوع الطَّلاق، ولزوم عدَّة الوفاة بعد الموت، والاعتداد منه بعد المفارقة في الحياة، ووجوب المهر فيه بالعقد، وتقرُّره بالخلوة؛ فلذلك لزم المهر المسمَّى فيه كالصَّحيح.

يوضحه

(1)

: أنَّ ضمان المهر

(2)

في النِّكاح الفاسد ضمان عقد؛ كضمانه في الصَّحيح، وضمان البيع الفاسد ضمان تلف، بخلاف البيع الصَّحيح؛ فإنَّ ضمانه ضمان عقد.

وحكي عن أحمد رواية أخرى: أنَّ الواجب مهر المثل؛ أخذاً من رواية المروذيِّ عنه في عبد تزوَّج بغير إذن سيِّده، فدخل بها؛ فقد جعل لها عثمان الخُمُسَيْن

(3)

، وأنا أذهب إلى أن تُعطى شيئاً

(4)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: الفرق بين النِّكاح والبيع).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: المسمَّى).

(3)

روى عبدالرزاق (13074) بإسناده عن عامر الشعبي، أو عبد الله بن قيس:«كان غلامٌ لأبي موسى راعٍ، فغرَّ حرة فتزوجها بغير إذن أبي موسى، وأصدقها خَمْس ذَوْد من إبل أبي موسى، فأعطاها عثمان بعيرين، ورد إليه ثلاثة أبعرة» ، وروى نحوه ابن أبي شيبة في مصنفه (16854).

(4)

ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 88).

وفي مسائل ابن هانئ (1/ 220): (سألت أبا عبد الله عن العبد إذا تزوج بغير إذن سيده، هل تعطى المرأة المهر؟ قال: أما ابن عمر فإنه كان يقول: هو زنًى، وأما عثمان بن عفان فكان يقول: تعطى الخمسين من الصداق، وبه آخذ).

ص: 313

فلم يوجب المسمَّى، وهو اختيار الخرقيِّ وصاحب «المغني» ، واستدلُّوا بقوله عليه الصلاة والسلام فيمن أنكحت نفسها:«إنَّ لها المهر بما استحل منها»

(1)

؛ فأوجب المهر بالاستحلال وهو الإصابة؛ فدلَّ على أنَّه لم يجب بالعقد، وإنَّما وجب بالوطء، والواجب بالوطء: مهر المثل.

وهذا ضعيف؛ فإنَّ الاستحلال يحصل بمحاولة الحلِّ وتحصيله وإن لم يوجد الوطء، وقد يطلق

(2)

على استحلال ما لا يحلُّ من الأجنبية مثله

(3)

، وهو

(4)

الخلوة أو المباشرة

(5)

(6)

، وذلك مقرِّر عندنا للمهر

(7)

، وقد قال صلى الله عليه وسلم للملاعن مثل ذلك

(8)

، وليس محمولاً عندنا إلَّا على ما

(1)

يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها مهرها بما أصاب من فرجها» أخرجه أحمد (24372)، وأبو داود (2084)، والترمذي (1102).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: الاستحلال).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: مِن أنَّ الاستحلال يحصل بمحاولة الحلِّ وتحصيله، أو أنَّه ما لا يحلُّ من الأجنبيَّة مثله، وهو الخلوة أو المباشرة).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: ما لا يحلُّ من الأجنبيَّة مثله).

(5)

في (أ): والمباشرة.

(6)

كتب على هامش (ن): (يعني: فيما دون الفرج).

(7)

كتب على هامش (ن): (أي: كاملاً).

(8)

كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين:«حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» قال: مالي؟ قال: «لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك» أخرجه البخاري (5312)، ومسلم (1493).

ص: 314

ذكرنا، لا على حقيقة الوطء.

فأمَّا عقود المشاركات إذا فسدت؛ كالشركة والمضاربة؛ فهل يجب المسمَّى فيها أو أجرة المثل؟

فيه خلاف بين الأصحاب، وليس ذلك ممَّا نحن فيه؛ لأنَّ كلامنا في ضمان القابض بالعقد الفاسد، وهذه العقود لا ضمان فيها على القابض، وإنَّما يجب له فيها العوض بعمله

(1)

؛ إمَّا المسمَّى، وإمَّا أجرة المثل على خلافٍ فيه.

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله: لكن يناسب ما الكلام فيه، من جهة أنَّ العقد الفاسد؛ يُعطى حكم العقد الصَّحيح في وجوب المسمَّى أو لا؟

ص: 315

‌قاعدة [48]

كلُّ من ملك شيئاً بعوض؛ ملك عليه عوضه في آن واحد

.

ويطَّرد هذا في البيع، والسَّلم، والقرض، والإجارة؛ فيملك المستأجر المنافع، والمؤجر الأجرة بنفس العقد.

وكذلك في النِّكاح على ظاهر المذهب؛ فيملك الزَّوج منفعة

(1)

البضع بالعقد، وتملك المرأة به الصَّداق كلَّه.

وكذلك الكتابة، يملك العبد منافعه وأكسابه، وتملك

(2)

عليه النُّجوم بنفس العقد.

وكذلك الخلع، والإعتاق على مال.

وكذلك المعاوضات القهريَّة؛ كأخذ المضطرِّ طعام الغير، وأخذ الشِّفيع الشِّقص ونحوهما.

وأمَّا تسليم العوضين

(3)

؛ فمتى كان أحدهما مؤجَّلاً؛ لم يمنع ذلك المطالبة بتسليم الآخر.

(1)

قوله: (منفعة). وقد سقطت من (أ) و (ج).

(2)

ف (أ) و (ج) و (د): يملك.

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: اللَّذين ملكهما كلٌّ من المتعاوضين في آن واحد، كما في الأقسام التي ساقها المصنِّف).

ص: 316

وإن كانا حالَّين: ففي البيع؛ إن كان الثَّمن ديناً في الذِّمة، فالمذهب: وجوب إقباض البائع أوَّلاً؛ لأنَّ حقَّ المشتري

(1)

تعلَّق بعين؛ فقُدِّم على الحقِّ المتعلِّق بالذِّمة، ولا يجوز للبائع

(2)

حبس المبيع عنده على الثَّمن على المنصوص؛ لأنَّه صار في يده أمانة، فوجب ردُّه بالمطالبة كسائر الأمانات.

واختار صاحب «المغني» : أنَّ له الامتناع من إقباضه حتَّى يحضر الثَّمن؛ لأنَّ في تسليمه بدون الثَّمن ضرراً بفوات الثَّمن عليه؛ فلا يلزمه تسليمه حتَّى يُحضِره.

وقال أبو الخطاب في «انتصاره» : الصَّحيح عندي أنَّه لا يلزمه التَّسليم حتَّى يتسلَّم الثَّمن كما في النِّكاح، وإن كان عيناً فهما سواء، ولا يجبر أحدهما على البداءة بالتَّسليم، بل ينصَّب عند التَّنازع من يَقْبض منهما، ثَّم يُقْبِضُهما، فإن كان هناك خيار لهما أو لأحدهما؛ لم يملك البائع المطالبة بالنَّقد، ذكره القاضي في الإجارات من «خلافه» ، وصرَّح به الأزجيُّ في «نهايته» .

ولا يملك المشتري قبض المبيع في مدَّة الخيار بدون إذن صريح من البائع، نصَّ عليه أحمد في رواية الشَّالنجيِّ.

وأمَّا في الإجارة؛ فالمذهب

(3)

: أنَّه لا يجب تسليم الأجرة إلَّا بعد

(1)

في (أ) و (ج) و (و): حقه. مكان قوله: (حقَّ المشتري).

(2)

في (أ) و (ج) و (و): له.

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو الصَّحيح).

ص: 317

تسليم العمل المعقود عليه أو العين المعقود عليها، كما لا يجب دفع الثَّمن إلَّا بعد تسلم المبيع، ومتى تسلَّم العين؛ وجب عليه تسليم الثَّمن

(1)

؛ لتمكُّنه من الانتفاع بقبضها، نصَّ عليه أحمد.

وقال القاضي في «تعليقه» : إنَّ الأجير يجب دفع الأجرة إليه إذا شرع في العمل

(2)

؛ لأنَّه قد سلَّم نفسه لاستيفاء المنفعة؛ فهو كتسليم الدَّار المؤجرة.

ولعلَّه يخصُّ ذلك بالأجير الخاصِّ؛ لأنَّ منافعه تتلف تحت يد المستأجر؛ فهو شبيه بتسلم العقار.

وقال ابن أبي موسى: من استؤجر لعمل معلوم؛ استحقَّ الأجرة عند إيفاء العمل، وإن استؤجر في كلِّ يوم بأجر معلوم؛ فله أجر كلِّ يوم عند تمامه

(3)

.

وظاهر هذا: أنَّ المستأجر للعمل مدَّة تجب له أجرة كلِّ يوم في آخره؛ لأنَّ ذلك مقتضى العرف، وقد يحمل على ما إذا كانت المدَّة مطلقة غير معيَّنة؛ كاستئجاره كلَّ يوم بكذا؛ فإنَّه يصحُّ، ويثبت له الخيار في آخر كلِّ يوم، فتجب له الأجرة فيه؛ لأنَّه غير ملزَم بالعمل فيما بعده، ولأنَّ مدَّته لا تنتهي؛ فلا يمكن تأخير إعطائه إلى تمامها، أو على

(1)

في (ب) و (د) و (ن): الأجرة.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو قياس تسليم العين).

(3)

ينظر: الإرشاد إلى سبيل الرشاد ص: 209.

ص: 318

أنَّ المدَّة المعيَّنة إذا عَيَّن لكلِّ يوم منها قسطاً من الأجرة؛ فهي إجارات متعدِّدة.

وأمَّا النِّكاح؛ فتستحقُّ المرأة فيه المهر

(1)

بالعقد، ولها الامتناع من التَّسليم حتَّى تقبضه في المذهب، ذكره الخرقيُّ والأصحاب، ونقله ابن المنذر اتِّفاقاً من العلماء

(2)

، وعلَّله الأصحاب: بأنَّ المنفعة المعقود عليها تتلف بالاستيفاء، فإذا تعذَّر استيفاء المهر عليها؛ لم يمكنها استرجاع عوضها، بخلاف المبيع، فلذلك ملكت الامتناع من التَّسليم حتَّى تقبضه.

وهذه العلَّة موجودة فيما لا يتباقى من المبيع من المطعومات والمشروبات والفواكه والرَّياحين، بل وفي سلع التِّجارة أيضاً، وهذا ممَّا يرجِّح ما اختاره أبو الخطَّاب.

وأيضاً: فطرد هذا التَّعليل أن يجوز الامتناع من تسليم العين المؤجرة حتَّى يستوفي الأجرة؛ لأنَّ المعقود عليه يتلف أيضاً ويستهلك، فلا يمكن استرداده عند تعذُّر الوصول إلى الأجرة.

لكن قد يفرَّق بينهما

(3)

: بأنَّ الزَّوج إذا تسلَّم المرأة؛ فإنَّه يستوفي

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: الحالَّ، فإنَّ الذي لها الامتناع من التَّسليم حتَّى تقبضه، إنَّما هو المهر الحالُّ).

(2)

قال ابن المنذر في الإجماع (ص 78): (وأجمعوا أن للمرأة أن تمنع من دخول الزوج عليها حتى يعطيها مهره).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: بين الإجارة والنِّكاح).

ص: 319

في الحال ما يستقرُّ به المهر، فإذا تعذَّر أخذ المهر منه؛ فات على الزَّوجة المهر وما قابله، وأمَّا في الإجارة: فإذا تسلَّم المستأجر العين المؤجرة؛ فللمؤجر المطالبة حينئذ بالأجرة، فإن تعذَّر حصولها؛ ملك الفسخ، فيرجع إلى المؤجر ما خرج عنه أو غالبه.

وهذا إذا كانت الزَّوجة ممَّن يمكن الاستمتاع بها، فإن كانت لا تصلح لذلك:

فقال ابن حامد وغيره: لها المطالبة به أيضاً

(1)

.

ورجَّح صاحب «المغني» خلافه

(2)

، وخرَّجه صاحب «التَّرغيب» ممَّا حكى الآمديُّ: أنَّه لا تجب البداءة بتسليم المهر، بل يُعدَّل كالثمن المعين

(3)

؛ فلا يلزم تسليم المهر إلا عند التمكن من تسليم

(4)

العوض المعقود عليه.

وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: الأشبه عندي: أنَّ الصَّغيرة تستحقُّ المطالبة لها بنصف الصَّداق؛ لأنَّ النصف يُستحقُّ بإزاء الحبس، فهو حاصل بالعقد، والنِّصف الآخر بإزاء الدُّخول؛ فلا تستحقُّه إلَّا بالتَّمكن

(5)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

المغني (7/ 259).

(3)

نص الأصحاب على أن البائع والمشتري إذا أبى كلٌّ منهما تسليم ما بيده حتى يقبض العوض، وكان الثمن عينًا؛ فإنه يُنصَّب عدلٌ يقبض منهما، ويسلم المبيع للمشتري، ثم الثمن للبائع. ينظر: الروض المربع 2/ 246.

(4)

في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): تسلم.

(5)

في (ب): بالتمكين.

وينظر اختيار شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى 5/ 476.

ص: 320

أمَّا لو استقرَّ المهر بالدُّخول، ثمَّ نشزت المرأة: فلا نفقة لها، ولها ولوليها - أو سيِّدها إن كانت أمة - المطالبة بالمهر

(1)

، ذكره أبو بكر وغيره؛ لأنَّ وجوبه استقرَّ بالتَّمكُّن؛ فلا يؤثِّر فيه ما طرأ عليه بعده.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: لا الامتناع من التَّسليم بعد الدُّخول).

ص: 321

‌قاعدة [49]

القبض في العقود على قسمين:

أحدهما: أن يكون من موجَبِ العقد ومقتضاه؛ كالبيع اللَّازم، والرَّهن اللَّازم، والهبة اللَّازمة

(1)

، والصَّدَاق

(2)

، وعوض الخلع؛ فهذه العقود تلزم من غير قبض، وإنَّما القبض فيها من موجَبات عقودها.

والثَّاني: أن تكون من تمام العقد؛ كالقبض في السَّلم والرِّبويات، وفي الرَّهن والهبة والوقف على رواية، والوصية على وجه، وفي بيع غير المعيَّن

(3)

أيضاً على خلاف فيه.

فأمَّا السَّلَم: فمتى تفرَّقا قبل قبض رأس ماله؛ بطل

(4)

، وكذلك في الرِّبويات.

وأمَّا الرَّهن والهبة: فهل يعتبر القبض فيهما في جميع الأعيان، أو

(1)

كتب على هامش (ن): (كأن يكون الموهوب في يد المتهب).

(2)

كتب على هامش (ن): (الأولى: والنِّكاح والخلع).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المبهم).

(4)

كتب على هامش (ن): (قوله: "بطل" يدلُّ على أنَّه كان قد انعقد قبل التَّفرق، وهو كذلك، غير أنَّه انعقاد مراعًى، فإن اتَّصل بالقبض في المجلس؛ لزم، وإلَّا بطل).

ص: 322

في المبهم غير المتميِّز؛ كقفيز من صبرة؟ على روايتين

(1)

.

وأمَّا الوقف: ففي لزومه بدون إخراج الواقف عن يده روايتان معروفتان

(2)

.

وأمَّا الوصية: فهل تلزم بالقبول في المبهم

(3)

؟ فيه وجهان.

واختار القاضي وابن عقيل: أنَّها لا تلزم فيه بدون قبض.

وخرَّج صاحب «المغني» وجهاً ثالثاً: أنَّها لا تلزم بدون القبض مطلقاً؛ كالهبة.

وكذلك حكى صاحب «المغني» وغيره وجهين في ردِّ الموقوف عليه المعيَّن للوقف؛ هل يبطل برده

(4)

؟

(1)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: في جميع الأعيان).

(2)

كتب على هامش (ن): (لكن ليس في شيء من الرِّوايتين اشتراط قبض الموقوف عليه له، قال في «الرِّعاية»: وعنه إن أخرجه قبل موته عن يده إلى الموقوف عليه أو غيره فحازه، وإلَّا لم يخرج عن ملكه وبطل وقفه).

وكتب على هامش (ن) بخط آخر: (القاضي في الخلاف لما ذكر في المسألة في الوقف كما ذكرها المؤلِّف، عبَّر في استدلاله على المشهور: بالافتقار إلى القبض وعدمه، وكأنَّه نظر إلى أنَّه حيث يخرجه الواقف عن يده فقد خلَّى بينه وبين الموقوف عليه، والقبض في الوقوف غالباً إنَّما هو بالتَّخلية، وإن كان بغيرها في المنقول؛ فإنَّه يعتبر فيه ذلك أيضاً، هذا ما ظهر لي، فليحرَّر).

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني: بدون القبض).

(4)

كتب على هامش (ن): (الصَّحيح: أنَّه لا يبطل بردِّه).

ص: 323

وصرَّح القاضي في «المجرد» : بأنَّ الملك فيه لا يلزم بدون القبض.

وأمَّا المبيع المبهم: فذكر القاضي في موضع: أنَّه غير لازم بدون القبض.

وذكر في موضع آخر: أنَّه لازم من جهة البائع، ولم يتعرَّض للمشتري، ولعلَّه جعله غير لازم من جهته؛ لأنَّه لم يدخل في ضمانه بعد.

واختار صاحب «المغني» : أنَّه لازم في حقِّهما جميعاً، وقال: هو ظاهر كلام الخرقيِّ

(1)

.

واعلم: أنَّ كثيراً من الأصحاب يجعل القبض في هذه العقود معتبراً للزومها واستمرارها، لا لانعقادها وإنشائها، وممَّن صرَّح بذلك

(2)

صاحب «المغني» ، وأبو الخطَّاب في «انتصاره» ، وصاحب «التَّلخيص» ، وغيرهم.

ومن الأصحاب من جعل القبض فيها شرطاً للصِّحَّة، وممَّن صرح بذلك صاحب «المحرر» فيه في الصَّرف والسَّلم والهبة، وقال في «الشرح»

(3)

: مذهبنا أنَّ الملك في الموهوب لا يثبت بدون القبض،

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

كتب على هامش (ن): (إلى أنَّ كونه من القسم الثَّاني).

(3)

أي: في شرح الهداية. ينظر: الإنصاف 17/ 18. وكتب على هامش (ن): (يعني: شرح «الهداية» لصاحب «المحرَّر»).

ص: 324

وفرِّع عليه: إذا دخل وقت الغروب من ليلة الفطر والعبد موهوب

(1)

لم يُقبَض، ثمَّ قبض، وقلنا: يعتبر في هبته القبض؛ ففطرته على الواهب.

وكذلك صرح ابن عقيل: بأنَّ القبض ركن من أركان الهبة؛ كالإيجاب في غيرها، وكلام الخرقيِّ يدلُّ عليه أيضاً.

وكذلك ذكر القاضي: أنَّ القبض شرط في صحَّة الصَّرف والسَّلم، وصرَّح به كثير من الأصحاب

(2)

، ولكن صاحب «المحرر» لم يذكر في الرَّهن إلَّا أنَّ القبض شرط للزومه

(3)

.

وصرَّح أبو بكر بأنَّه شرط لصحته، وأنَّ الرَّهن يبطل بزواله، وكذلك صاحب «المحرر» في «شرح الهداية» ، والشِّيرازيُّ، والحلوانيٌّ

(4)

وغيرهم.

وأمَّا القرض، والصَّدقة كالزَّكاة وغيرها؛ ففيها طريقتان:

إحداهما: لا تملك إلَّا بالقبض رواية واحدة، وهي طريقة «المجرد» و «المبهج» ، ونصَّ عليه أحمد في مواضع

(5)

.

(1)

زاد في (هـ): له.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

قوله: (الحلواني) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (و) و (ن).

(5)

من ذلك: ما جاء في مسائل ابن هانئ (2/ 48): (سمعت أبا عبد الله وسئل عن: الرجل يدفع إلى الرجل درهم أو أكثر فيقول: تصدق بهذا عني، فيموت الرجل ولم يكن تصدق بها، كيف ترى له أن يصنع بها؟ قال: يرجع بها إلى الورثة. قيل له: إنه أوصى إليه أن يصدق بها. قال: أرأيت لو أراد أن يرجع في قبضها أَله أن يأخذها؟ فقيل: نعم. قال: كذلك أيضًا هي له ما لم يتصدق بها).

ص: 325

والثَّانية: أنَّه في المبهم لا يملك بدون القبض، بخلاف المعيَّن؛ فإنَّه يملك فيه بالعقد، وهي طريقة القاضي في «خلافه» ، وابن عقيل في «مفرداته» ، والحلوانيِّ وابنه، إلَّا أنَّهما حكيا في المعيَّن روايتين؛ كالهبة.

وأمَّا السَّهم من الغنيمة: فيملك بدون القبض إذا عيَّنه الإمام، بغير خلاف، صرَّح به الحلواني وابن عقيل وغيرهما.

وأمَّا العارية: فلا تملك بدون القبض إن قيل: إنَّها هبة منفعة.

وخرَّج القاضي فيها رواية أخرى: أنَّها تملك بمجرَّد العقد؛ كهبة الأعيان، وتلزم إذا كانت مؤقتة.

وإن قيل: هي إباحة

(1)

؛ فلا يحصل الملك فيها بحال، بل تستوفى على ملك المالك؛ كطعام الضَّيف.

قال الشيخ تقيُّ الدِّين: (التحقيق أن يقال في هذه العقود: إذا لم يحصل القبض؛ فلا عقد، وإن كان بعض الفقهاء يقول: بطل العقد، فكما يقال: إذا لم يقبل المخاطب؛ بطل الإيجاب؛ فهذا بطلان ما لم يتمَّ، لا بطلان ما تمَّ)

(2)

انتهى.

ولا يستبعد توقُّف انعقاد العقد على أمر زائد

(3)

على الإيجاب

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

ينظر: الفتاوى الكبرى 5/ 392، بنحوه.

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو القبض).

ص: 326

والقبول؛ كما يتوقَّف انعقاد النِّكاح معهما على الشَّهادة.

وفي الهبة وجه ثالث حُكي عن ابن حامد: أنَّ الملك يقع فيها مراعًى، فإن وجد القبض تبيَّنا أنَّه كان للموهوب بقبوله، وإلَّا فهو للواهب، وفرَّع على ذلك حكم الفطرة

(1)

، وقد يطَّرد قوله

(2)

بالوقف

(3)

والمراعاة إلى بقيَّة هذه العقود.

وأمَّا البيع الَّذي يعتبر له القبض؛ ففي كلام أبي بكر ما يدلُّ على أنَّه لا ينعقد بدون القبض أيضاً؛ فإنَّه قال: إذا اشتراه كيلاً، فلا بيع بينهما إلَّا كيلاً.

وتأوَّله القاضي على نفي انتقال

(4)

الضَّمان، وهو

(5)

بعيد

(6)

، قال: لأنَّ أحمد قيل له في رواية ابن مُشَيش: أليس قد ملكه المشتري؟! قال: بلى، ولكن هو من مال البائع؛ يعني: إذا تلف.

قلت: ولكن صرَّح أحمد في رواية ابن منصور

(7)

بانتفاء الملك قبل

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: في العبد الموهوب قبل غروب الشَّمس إذا قبضه الواهب؛ فتجب عليه، وإلَّا فلا).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: قول ابن حامد).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: في الوقف والمراعاة في الملك على القبض).

(4)

قوله: (انتقال) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: تأويل نفي البيع على نفي الضَّمان).

(6)

زاد في (ج): جداً.

(7)

مسائل ابن منصور 6/ 2807.

ص: 327

القبض، فقال: أمَّا ما يكال ويوزن؛ فلا بدَّ للبائع أن يوفِّيه المبتاع؛ لأنَّ ملك البائع فيه قائم حتَّى يوفِّيه المشتري، وما لا يكال ولا يوزن إذا كان معلوماً؛ فهو ملك للمشتري، فما لزمه من شيء فهو عليه.

وقال أيضاً في طعام اشتُري

(1)

بالصِّفة: لا يحرِّك

(2)

البائع الثَّمن، والبائع مالك بعد، ما لم يكله المشتري.

وهذا صريح لا يمكن تأويله، فيكون إذاً عن أحمد في انتقال الملك في بيع المكيل والموزون بدون القبض: روايتان

(3)

.

(1)

في (أ): اشتراه.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: لا يتصرَّف البائع في الثَّمن حتَّى يقبض المبيع للمشتري؛ لأنَّه باق على ملك البائع حتَّى يقبضه للمشتري على هذه الرِّواية).

(3)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: أنَّه ينتقل بدون القبض).

ص: 328

‌قاعدة [50]

هل يتوقَّف الملك في العقود القهريَّة على دفع الثَّمن، أو يقع

(1)

بدونه مضموناً في الذِّمة

؟

هذا على ضربين:

أحدهما: التَّملُّك الاضطراريُّ؛ كمن اضطرَّ إلى طعام الغير ومُنِعَه وقدر على أخذه؛ فإنَّه يأخذه مضموناً، سواء كان معه ثمن يدفعه في الحال أو لا؛ لأنَّ ضرره لا يندفع إلَّا بذلك.

والثَّاني: ما عداه من التَّملُّكات المشروعة؛ لإزالة ضرر ما؛ كالأخذ بالشُّفعة، وأخذ الغراس والبناء من المستعير والمستأجر، والزَّرع من الغاصب، وتقويم الشِّقص من العبد المشترك إذا قيل: إنَّه

(2)

تملُّك يقف على التَّقويم

(3)

، وكالفسوخ الَّتي يستقلُّ بها البائع بعد قبض الثَّمن؛ فيُخرَّج ذلك كلُّه على وجهين؛ فإنَّ لأصحابنا في الأخذ بالشُّفعة وجهين:

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: التَّملُّك).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: أخذ الشِّقص بالتَّملُّك عند حصول الضَّرر من شريكه).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: تقويم الشِّقص دون دفع الثَّمن).

ص: 329

أحدهما: لا يملك بدون دفع الثَّمن، وهو محكي عن ابن عقيل، ويشهد له نصُّ أحمد: أنَّه إذا لم يحضر المال مدَّة طويلة؛ بطلت شفعته.

والثَّاني

(1)

: يملك بدونه مضموناً في الذِّمة.

ونصَّ أحمد في فسخ البائع: أنَّه لا ينفذ بدون ردِّ الثَّمن، قال أبو طالب: قلت لأحمد: يقولون: إذا كان له الخيار؛ فمتى قال

(2)

: اخترت داري أو أرضي؛ فالخيار له، ويطالب بالثَّمن، قال: كيف له الخيار ولم يعطه ماله؟! ليس هذا بشيء، إن أعطاه فله الخيار، وإن لم يعطه ماله فليس له خيار.

واختار الشَّيخ تقيُّ الدِّين ذلك، وقد يتخرَّج مثله في سائر المسائل؛ لأنَّ التَّسليط على انتزاع الأموال قهراً إن لم يقترن به دفع العوض، وإلَّا حصل به ضرر وفساد، وأصل الانتزاع القهريِّ إنَّما يُشرع

(3)

لدفع الضَّرر، والضرر لا يزال بالضَّرر.

وقد يفرَّق بين مسألة أبي طالب وبقيَّة المسائل: بأنَّ البائع لو فسخ من غير دفع الثَّمن؛ لاجتمع له العوض والمعوَّض، وذلك ممتنع، ولا يوجد مثله في بقية الصُّور؛ إذ أكثر ما فيها التَّملك بعوض في الذِّمَّة، وهو جائز كالقرض وغيره.

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

كتب على هامش (ن): (من مقول القول).

(3)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): شرع.

ص: 330

تنبيه:

الأملاك القهريَّة تخالف الاختياريَّة من جهة أسبابها، وشروطها، وأحكامها، وتملك ما لا يُتملَّك بها.

أمَّا الأوَّل؛ فيحصل التَّملُّك القهريُّ بالاستيلاء على ملك الغير

(1)

الأجنبيِّ، بخلاف الاختياريِّ.

وأمَّا الثَّاني؛ فالتَّملُّك القهريُّ كالأخذ بالشُّفعة

(2)

: هل يشترط له معرفته؛ كالبيع؟ أم لا؛ لأنَّه قهريٌّ كالميراث؟ قال في «التَّلخيص» : فيه تردد

(3)

.

وأمَّا الثَّالث؛ فقد ذكرنا اشتراط دفع الثَّمن للتَّملُّك القهريِّ، وللمشتري حبس الشِّقص المشفوع على دفع الثَّمن وإن قلنا: يملك بدونه وينفذ تصرف الشفيع

(4)

فيه قبل قبضه.

(1)

كتب على هامش (ن): (حذفه أولى). وكتب على هامش (ن) أيضًا: (كأنَّه يعني به الاستيلاء على الغنيمة).

(2)

كتب على هامش (ن): (قال في «المغني» في فصل: "ويملك الشَّفيع الشِّقص بأخذه" في آخره: وإن كان الثَّمن مجهولاً أو الشِّقص؛ لم يملكه بذلك، يعني بقوله: قد أخذت الشِّقص بالثَّمن الَّذي تمَّ عليه العقد؛ لأنَّه بيع في الحقيقة، فيعتبر العلم بالعوضين؛ كسائر البيوع).

(3)

كتب على هامش (ن): (الصحيح: لا يشترط).

(4)

في (أ): المشتري.

ص: 331

وهل يثبت له

(1)

فيه خيار المجلس؟ على وجهين

(2)

، قال في «التلخيص»: ويخرَّج التَّردد في الجميع؛ نظراً إلى الجهتين.

وأمَّا الرَّابع؛ فيَملِك الكافرُ العبدَ المسلم بالإرث، ويردُّه

(3)

عليه بعيب ونحوه في أحد الوجهين، وباستيلاد المسلم أمته

(4)

، وبالقهر.

وكذلك تُملك المصاحف بهذه الأسباب.

وهل تُملك أمُّ ولد

(5)

المسلم بالقهر؟ على روايتين

(6)

.

ويُملك بالميراث الخمرُ والكلبُ.

وكذا الصَّيد في حقِّ المحرم على أحد الوجهين، والمرهون.

ولا يُتملَّك ذلك كلُّه بالاختيار.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: الشَّفيع).

(2)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: لا).

(3)

في (ب): ويردُّ.

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: بوطء شبهة أو بنكاح عند من يراه).

(5)

في (أ): الولد.

(6)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: نعم).

ص: 332

‌قاعدة [51]

فيما يُعتبر القبض لدخوله في ضمان مالكه وما لا يعتبر له

.

الملك يقع تارة بعقد، وتارة بغير عقد.

والعقود نوعان:

أحدهما: عقود المعاوضات المحضة؛ فينتقل الضَّمان فيها إلى من ينتقل الملك إليه بمجرَّد التَّمكُّن من القبض التَّامِّ والحيازة، إذا تميَّز المعقود عليه من غيره وتعيَّن.

فأمَّا المبيع

(1)

المبهم غير المتعيِّن؛ كقفيز من صبرة

(2)

؛ فلا ينتقل ضمانها بدون القبض.

وهل يكفي كيله وتمييزه، أم لا بدَّ من نقله؟ حكى الأصحاب فيه روايتين

(3)

، ثمَّ لهم طريقان

(4)

:

(1)

في (أ) و (و): البيع.

(2)

كتب على هامش (ن): (صاحب «المستوعب» يجعل قفيزاً من صبرة متعيِّناً).

(3)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: الأوَّل).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: في صفة ما يحصل به القبض).

ص: 333

منهم من يقول: هل التَّخلية قبض في جميع الأعيان المبيعة أم لا؟ على الرِّوايتين

(1)

.

ومنهم من يقول: التَّخلية قبض في المبيع المتعيِّن رواية واحدة، وفيما ليس بمتعين إذا عُيِّن وخلِّي بينه وبينه روايتان.

وكلا الطَّريقين سلكه القاضي في «خلافه» .

وله طريقة ثالثة سلكها في «المجرَّد» : أنَّ الكيل قبض للمبهم رواية واحدة، وذكر قول أحمد في رواية محمَّد بن الحسن بن هارون: قبضه كيله

(2)

، وهل التَّخلية قبض في المعيَّنات

(3)

؟ على روايتين، وهذه أصحُّ ممَّا قبلها.

وقد فرَّق أحمد بين المبهم؛ فجعل قبضه كيله، وبين الصبرة؛ فجعل قبضها نقلها في رواية الأثرم

(4)

؛ لأنَّ المبهم إذا كيل فقد حصل فيه التَّمييز وزيادة، وهي اعتبار قدره، وكلاهما من فعل البائع، وهو الواجب عليه، ولم يوجد في بقيَّة المعيَّنات شيء من ذلك سوى تمييزها بنفسها

(5)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: السَّابقتين في القاعدة الثَّالثة والأربعين).

(2)

ينظر: الروايتين والوجهين 1/ 327).

(3)

كتب على هامش (ن): (الصَّحيح: أنَّ التَّخلية قبض في بعض المعيَّنات لا في جميعها).

(4)

ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 327).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: لا تمييزها بفعل البائع).

ص: 334

وعلى الطَّريقة الأولى: فيكون بعد كيله وتمييزه كسائر الأعيان المتميِّزة، وما عدا ذلك من الأعيان المتميِّزة فهو داخل في ضمان المشتري بالعقد في ظاهر المذهب؛ لتمكُّنه من قبضه التَّامِّ بالحيازة، وقد انقطعت عُلَق البائع منه؛ لأنَّ عليه تسليمه والتَّمكين من قبضه وقد حصل، إلَّا الثَّمر المشترى في رؤوس شجره، فإنَّ المشتري لا يتمكَّن من كمال قبضه في الحال بحيازته إليه، وكذلك ما لا يتأتَّى نقله في ساعة واحدة لكثرته؛ فإنَّه لا ينتقل ضمانه إلى المشتري إلَّا بعد مضيِّ زمن يتأتَّى فيه نقله عادة، صرَّح به القاضي وغيره.

والنَّاقل للضَّمان هو القدرة التَّامَّة على الاستيفاء والحيازة.

وحكم المبهم المشترى بعدد أو ذرع كذلك.

وأنكر أحمد في رواية ابن منصور دخول المعدود فيه، ولعلَّ مراده: إذا اشترى صبرة، وأمَّا المشاع؛ فكالمتعيِّن؛ لأنَّ تسليمه يكون على هيئته لا يقف على إفرازه، كذلك ذكره القاضي وابن عقيل.

والصُّبَر المبتاعة كيلاً أو وزناً

(1)

؛ كالقفيز المبهم عند الخرقيِّ وأبي بكر والأكثرين؛ لأنَّ عُلَق البائع لم تنقطع منها ولم تتميَّز

(2)

، فإنَّ زيادتها له ونقصها عليه.

وفي «التَّلخيص» : أنَّ بعض الأصحاب خرَّج فيها وجهاً آخر بإلحاقها بالعبد والثَّوب؛ بناءً على أنَّ العلَّة اختلاط المبيع بغيره، قال:

(1)

في (أ): ووزناً.

(2)

في (ب) و (هـ): يتميَّز.

ص: 335

وهو ضعيف.

قال: واستثنى بعض أصحابنا منها المتعيِّنات في الصَّرف؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إلَّا هاء وهاء»

(1)

، ومراده: أنَّ الشَّارع اعتبر له القبض، فالتحق بالمبهمات

(2)

، يقصد سرعة انبرام العقد فيها؛ فناسبه قطع علق البائع عنها في الحال.

ونقل صالح عن أحمد فيمن اشترى عبداً، فمات في يد المبتاع: هو من مال المبتاع

(3)

، إلَّا أن يقول للمبتاع

(4)

: تسلمه؛ فلا يتسلَّمه

(5)

.

وظاهر هذا: أنَّه يكون من ضمان البائع؛ إلَّا أن يمتنع المشتري من تسلُّمه بعد عرضه عليه، فيدخل في ضمانه.

ونقل حنبل عنه: إذا عرضه البائع عليه ولم ينقده الثَّمن، فتلف؛ فهو من مال البائع، وإن نقده الثَّمن وتركه عنده؛ فهو من مال المشتري.

ويلتحق بهذه المضمونات

(6)

من المبيع: ما اشتُري بصفة أو رؤية

(1)

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء وهاء» أخرجه البخاري (2134)، ومسلم (1586).

(2)

قوله: (اعتبر له القبض، فالتحق بالمبهمات) سقط من (أ) و (هـ).

(3)

كتب على هامش (ن): (لعلَّه البائع).

(4)

كتب على هامش (ن): (لعلَّه: (للمبتاع). الَّذي في النُّسخة المعتمدة بلفظ: "المبتاع" في المواضع الثَّلاثة).

(5)

لم نقف عليه في مسائل صالح.

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: على البائع).

ص: 336

سابقة على العقد؛ لأنَّ الغيبة مانعة من التَّمكُّن من القبض.

فأمَّا البيع في مكان أو زمان يغلب فيه

(1)

هلاك السِّلعة؛ فهل يكون مضموناً على البائع مطلقاً أم لا؟

هذه مسألة تبايع الغنيمة بعد القسمة في دار الحرب إذا غلب عليها العدوُّ بعد ذلك، وعن أحمد في ضمانها روايتان

(2)

، كذا حكى الأصحاب، ولم يفرِّق أكثرهم بين ما قبل القبض وبعده.

وظاهر كلام ابن عقيل التَّفريق، وأنَّه قبل القبض من ضمان البائع قولاً واحداً؛ كالثَّمر المعلَّق في رؤوس الشَّجر؛ لتعرضه للآفات.

وفيه نظر؛ فإن الثَّمر لم يتمكَّن المشتري من قبضه تامًّا، بخلاف المبيع المعيَّن في دار الحرب.

وخصَّ أكثر الأصحاب ذلك بمال الغنيمة؛ لأنَّ تَطلُّب الكفار لها شديد، وحرصهم على استردادها معلوم، بخلاف غيرها من أموال المسلمين.

وحكى ابن عقيل في تبايع المسلمين

(3)

أموالهم بينهم بدار الحرب إذا غلب عليه العدوُّ قبل قبضه وجهين؛ كمال الغنيمة.

فأمَّا ما بِيع في دار الإسلام في زمن نهب ونحوه؛ فمضمون على المشتري قولاً واحداً، ذكره كثير من الأصحاب؛ كشراء من يغلب على

(1)

في (أ): في.

(2)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: أنَّها من ضمان المشتري).

(3)

زاد في (هـ): من.

ص: 337

الظَّنِّ هلاكه؛ كمرض مأيوس منه، أو

(1)

مرتدٍّ، أو قاتل في محاربة، أو في زمن طاعون غالب.

ويحتمل: أن يفرَّق في هذا بين التَّلف قبل القبض وبعده.

وأمَّا الأعيان المملوكة بعقد غير البيع

(2)

؛ كالصُّلح والنِّكاح والخلع والعتق ونحو ذلك؛ فحكمها حكم البيع فيما ذكرنا عند أكثر الأصحاب، قال في «المغني»: ليس فيه اختلاف.

وحكى أبو الخطاب ومن اتَّبعه رواية

(3)

: بأنَّ الصَّداق مضمون على الزَّوج قبل القبض مطلقاً، فإنَّه نصَّ فيما إذا أصدقها غلاماً ففقئت عينه قبل أن تقبضه؛ أنَّ عليه ضمانه

(4)

.

وتأوَّلها القاضي على أنَّ الزوَّج فقأ عينه، أو أنَّه امتنع من التَّسليم حتَّى فقئت عينه؛ فيكون ضامناً له بلا ريب.

ويمكن أن يتخرَّج من هذا روايةٌ: بأنَّ ضمان جميع الأعيان لا ينتقل إلَّا بالقبض في البيع وغيره.

وخرَّجها طائفة من الأصحاب روايةً عن أحمد من نصِّه على ضمان صُبَر الطَّعام على البائع قبل القبض.

(1)

في (أ): أو من.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: عقد معاوضة).

(3)

في (ب): رواية واحدة.

(4)

قال في الهداية (409): (نقل عنه مهنى فيمن تزوج امرأة على غلام ففقئت عينه: أنها إن كانت قبضته فهو لها، وإن لم تكن قبضته فهو على الزوج).

ص: 338

فمن الأصحاب من تأوَّلها على أنَّها بِيعت كيلاً، ومنهم من أقرَّها رواية في المكيل والموزون وإن بِيع جزافاً، ومنهم من خرَّج منها رواية في جميع الأعيان المتميِّزة.

ومأخذ ذلك: أنَّ عُلَق المملِّك لا تنقطع عنه بدون القبض؛ لأنَّ تسليمه واجب عليه بحقِّ العقد ولم يوجد، فلم تتم أحكام العقد؛ فكان مضموناً على المملِّك.

وهذه شبهة ابن عقيل الَّتي اعتمدها في أنَّ ضمان جميع الأعيان على البائع قبل القبض، وهي ضعيفة؛ فإنَّ البائع عليه التَّمكين من القبض، وهو معنى التَّسليم، فإذا وجد منه فقد قضى ما عليه.

أمَّا النقل؛ فهو على المشتري دون البائع، وهو واجب عليه؛ لتفريغ ملك البائع من ملكه، فكيف يكون تعدِّيه بشغل أرض المالك بملكه من غير إذنه، أو مع مطالبته بتفريغه موجباً للضَّمان على البائع؟!

ويحتمل أن يفرَّق بين النِّكاح وغيره من العقود؛ بأنَّ

(1)

المهر في النَّكاح ليس بعوض أصليٍّ، بل هو شبيه بالهبة، ولهذا سمَّاه الله تعالى:(نحلة)؛ فلا ينتقل ضمانه إلى المرأة بدون القبض؛ كالهبة والصَّدقة والزَّكاة، وهذا كلُّه في الأعيان.

فأمَّا المنافع في الإجارة؛ فلا تدخل في ضمان المستأجر بدون القبض، أو التَّمكُّن منه إذا فوَّته

(2)

باختياره، فإن استوفى المنافع؛ فلا

(1)

في (ب): فإنَّ. وفي (هـ): لأنَّ.

(2)

كتب في هامش (ن): (أي: فوت المستأجر القبض).

ص: 339

كلام، وإن تمكَّن من استيفائها بقبض العين

(1)

أو تسليم الأجير الخاصِّ نفسه؛ تلفت من ضمانه أيضاً؛ لتمكُّنه من الانتفاع.

والنَّوع الثَّاني: عقود لا معاوضة فيها؛ كالصَّدقة والهبة والوصيَّة؛ فالوصيَّةُ تملك بدون القبض، والهبة والصَّدقة فيهما خلاف سبق.

فإذا قيل: لا يملكان بدون القبض؛ فلا كلام، لكن هل يكتفى في القبض فيهما بالتَّخلية على رواية كالبيع؟ أم لا بدَّ من النَّقل؟

جمهور الأصحاب على تسوية الهبة والرَّهن بالبيع في كيفيَّة القبض.

واختار صاحب «التَّلخيص» : أنَّه لا يكفي التَّمكُّن ههنا في اللُّزوم؛ ففي أصل الملك أولى، قال: لأنَّ القبض ههنا سبب للاستحقاق، بخلاف القبض في البيع، فإنَّ العقد سبب لاستحقاق القبض؛ فيكفي فيه التَّمكين.

وإن قيل: يحصل الملك بمجرَّد العقد

(2)

؛ فلا ينبغي أن يكون مضموناً على المملِّك إذا تلف في يده من غير منع؛ لأنَّها عقود برٍّ وتبرُّع فلا تقتضي الضَّمان، وكلام الأصحاب يشهد لذلك.

وأمَّا الوصيَّة إذا ثبت الملك للموصى له - إمَّا بالموت بمجرَّده من غير قبول، أو بالموت مراعًى بالقبول، أو بالقبول من حينه

(3)

دون ما

(1)

في (أ): المعين.

(2)

كتب في هامش (ن): (يعني: في الهبة والصدقة بدون القبض).

(3)

كتب في هامش (ن): (وهو المذهب)

ص: 340

قبله على اختلاف الوجوه في المسألة -؛ فإنَّ ضمانه

(1)

من حين القبول على الموصى له بغير خلاف نعلمه إذا كان متمكِّناً من قبضه، وأمَّا قبل القبول

(2)

؛ ففيه وجهان:

أحدهما: أنَّه من ضمان الموصى له أيضًا

(3)

، وهو ظاهر كلام أحمد والخرقيِّ، وصرَّح به القاضي وابن عقيل في كتاب العتق، وكذلك صاحب «المغني» ، و «التَّرغيب» وغيرهم، ولم يحكوا فيه خلافاً، وهذا لأنَّا إن قلنا: يملكه بمجرَّد الموت - إمَّا مع القبول أو بدونه -؛ فهو ملكه، فإذا تمكَّن من قبضه؛ كان عليه ضمانه؛ كما لو ملكه بهبة أو غيرها من العقود.

وإن قلنا: لا يملكه إلَّا من حين القبول؛ فلأنَّ حقَّه تعلَّق بالعين تعلُّقاً يمنع الورثة من التَّصرف فيه؛ فأشبه العبد الجاني إذا أخَّر المجنيُّ عليه استيفاءَ حقِّه حتَّى نقص أو تلف، ولأنَّ حقَّ الموصى له في التَّملُّك ثابت لا يمكن إبطاله

(4)

، فكان ضمان النَّقص عليه وإن لم يحصل له

(1)

كتب في هامش (ن): (معنى كونه من ضمانه: أنه لو تلف الموصى به أو بعضه؛ قُوِّم عليه بكماله يوم الموت، ويكون ما تلف منه من ضمان الموصى له به، لا من التركة).

(2)

في (ب) و (ج)(هـ) و (ن): وأما ما قبل القبول.

(3)

كتب في هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

كتب في هامش (ن): (يعني: من قِبل الورثة).

ص: 341

الملك؛ كما في ربح المضاربة إذا قلنا: لا يملك

(1)

إلَّا بالقسمة

(2)

، ونصفِ الصَّداق إذا قلنا: لا يملك إلَّا بالتَّملُّك

(3)

، والمغانمِ إذا قيل: لا يملك بدون القسمة، بخلاف بقيَّة العقود

(4)

؛ فإنَّ الحقَّ فيها يمكن إبطاله.

والوجه الثَّاني: لا يدخل في ضمانه إلَّا بالقبول على الوجوه كلِّها، وهو المجزوم به في «المحرَّر»؛ لأنَّه إن قيل: لا يملكه إلَّا من حينه؛ فواضح؛ لأنَّه لم يكن قبل ذلك على ملكه، فلا يحسب نقصه عليه.

وإن قيل: يملكه بالموت؛ فالعين

(5)

مضمونة على التَّركة

(6)

؛ بدليل

(1)

في (ب) و (هـ): تملك.

(2)

كتب في هامش (ن): (أما إذا قلنا: يملكه بالظهور - وهو المذهب -؛ فتخرج عن كونها نظيره، فلا يصح القياس عليها).

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني: فيما إذا طلَّق قبل الدُّخول، وقلنا: يدخل في ضمانه من حين الطَّلاق، والمذهب: أنَّه يدخل في ملكه قهراً).

(4)

كتب على هامش (ن): (كالهبة والصَّدقة)، وكُتب تعليقًا على ذلك:(أي: فإنه يمكن إبطالهما بالرُّجوع قبل الإقباض).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: كلُّها).

(6)

كتب على هامش (ن): (قوله: "فالعين مضمونة على التَّركة"؛ معنى كون العين مضمونة على التَّركة: أنَّها تلفت قبل دخولها في ملك الموصى له بها، وبعد تلفها يتعَّذر قبولها ليدخل في ملكه، فيكون تلفها من التَّركة لا من ضمان الموصى له بها، فكذلك لو تلف بعض أجزائها كان من التَّركة؛ لأنَّه تلف قبل دخوله في ملك الموصى له به، لما ذكره من أنَّ "القبول وإن كان مثبتًا للملك من حين"

إلى آخره).

ص: 342

ما لو تلفت

(1)

قبل القبول فإنَّها تتلف من التَّركة لا من مال الموصى له؛ فكذلك أجزاؤها؛ لأنَّ القبول وإن كان مثبتاً للملك من حين الموت

(2)

؛ إلَّا أنَّ ثبوته السَّابق

(3)

تابع لثبوته من حين القبول، والمعدوم حال القبول لا يتصوَّر الملك فيه، فلا يثبت فيه ملك.

نعم؛ إن قيل: يملكه بمجرَّد الموت من غير قبول؛ فينبغي أن يكون ضمانه عليه بكلِّ حال؛ كالموروث.

وهذا كلُّه في المملوك بالعقود.

وأمَّا

(4)

ما ملك بغير عقد؛ فنوعان:

أحدهما: الملك القهريُّ

(5)

؛ كالميراث، وفي ضمانه وجهان:

أحدهما: أنَّه يستقرُّ على الورثة بالموت إذا كان المال عيناً حاضرة

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: كلُّها).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: على أحد الوجوه، والمذهب: أنَّ القبول يثبته من حينه).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو الَّذي من حين الموت إلى حين القبول؛ يعني: أنَّه تبيَّن بالقبول أنَّه ملكه من حين الموت، وهو أحد الوجوه المتقدِّمة فيما يثبت الملك للموصى له).

(4)

في (ب) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): فأما.

(5)

زاد في (د) و (هـ): حكماً.

ص: 343

يتمكَّن من قبضها، قال أحمد في رواية ابن منصور، في رجل ترك مئتي دينار وعبداً قيمته مائة، وأوصى لرجل بالعبد، فسرقت الدَّنانير بعد موت الرَّجل: وجب العبد للموصى له، وذهبت دنانير الورثة

(1)

.

وهكذا ذكر الخرقيُّ وأكثر الأصحاب؛ لأنَّ ملكهم استقرَّ بثبوت سببه؛ إذ هو لا يخشى انفساخه، ولا رجوع لهم بالبدل على أحد؛ فأشبه ما في يد المودع ونحوه، بخلاف المملوك بالعقود؛ لأنَّه إمَّا أن يخشى انفساخ سبب الملك فيه أو يرجع ببدله؛ فلذلك اعتبر له القبض

(2)

.

وأيضاً: فالمملوك بالبيع ونحوه ينتقل الضَّمان فيه بالتَّمكُّن من القبض؛ فالميراث أولى

(3)

.

وقال القاضي وابن عقيل في كتاب العتق: لا يدخل في ضمانهم بدون القبض؛ لأنَّه لم يحصل في أيديهم ولم ينتفعوا به؛ فأشبه الدَّين والغائب

(4)

ونحوهما ممَّا لم يتمكَّنوا من قبضه.

(1)

مسائل ابن منصور 8/ 4335.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: اعتُبر القبض للمملوك بالعقد؛ ليكون مضموناً على مالكه، بخلاف المملوك بالإرث).

(3)

كتب على هامش (ن): (بأن يكون مضموناً على مالكه بالتَّمكُّن من القبض، وإن لم يحصل القبض).

(4)

كتب على هامش (ن): (صفة لموصوف محذوف؛ أي: والمال الغائب).

ص: 344

فعلى هذا

(1)

: إن زادت التَّركة قبل القبض؛ فالزيادة للورثة، وإن نقصت؛ لم يحسب النَّقص عليهم، وكانت التَّركة ما بقي بعد النَّقص، حتَّى لو تلف المال كلُّه سوى القدر الموصى به؛ صار هو التَّركة، ولم يكن للموصى له سوى ثلثه.

إلَّا أن يقال: إنَّ الموصى له يملك الوصيَّة بالموت بمجرَّده

(2)

، أو مراعًى بالقبول؛ فلا يزاحمه

(3)

الورثة؛ لأنَّ ملكه سبق استحقاقهم لمزاحمته

(4)

بالنقص

(5)

؛ فيختصُّ به كما لو لم يتلف المال إلَّا بعد قبوله، وعلى ذلك خرَّج صاحب «التَّرغيب» وغيره كلام أحمد في رواية ابن منصور.

والأوَّل أصحُّ؛ لأنَّ الموصى له تمكَّن

(6)

من أخذ العين الموصى بها مع حضور التَّركة والتَّمكُّن من قبضها بغير خلاف

(7)

، ولو لم يدخل في

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: على قول القاضي وابن عقيل، وهو أنَّ الميراث لا يدخل في ضمان الورثة بدون القبض).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: من غير قبول).

(3)

في (ب) و (و) و (ن): تزاحمه.

(4)

كتب على هامش (ن): (متعلِّق بـ"استحقاقهم").

(5)

في (ب) و (د) و (هـ): بالقبض.

(6)

في (ب) و (هـ) و (ن): يمكن.

(7)

كتب على هامش (ن): (أي: بغير نزاع).

ص: 345

ضمانهم إلَّا بالقبض

(1)

لم يمكن أن يأخذ من العين أكثر من ثلثها، وتوقَّف قبض الباقي على قبض الورثة، فكلَّما قبضوا شيئاً؛ أخذ من العين بقدر ثلثه؛ كما لو كانت التَّركة ديناً أو غائباً لا يتمكَّن من قبضه.

والنَّوع الثَّاني: ما يحصل بسببٍ من الآدميِّ يترتب عليه الملك، فإن كان حيازةَ مباح؛ كالاحتشاش والاحتطاب والاغتنام ونحوها؛ فلا إشكال، ولا ضمان هنا على أحد سواه، ولو وكَّل في ذلك أو شارك فيه؛ دخل في حكم الشَّركة والوكالة، وكذلك اللُّقطة

(2)

بعد الحول؛ لأنَّها في يده.

وإن كان تعيين ماله في ذمَّة غيره من الدُّيون

(3)

؛ فلا يتعيَّن في المذهب المشهور إلَّا بالقبض، وعلى القول الآخر يتعيَّن بالإذن في القبض؛ فالمعتبر حكم ذلك الإذن

(4)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: كما قال القاضي وابن عقيل).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: لا ضمان فيها).

(3)

كتب على هامش (ن): (عطف على قوله: "فإن كان"؛ أي: وإن كان السَّبب الَّذي ترتَّب عليه الملك يعتبر المال الَّذي له في ذمَّة غيره).

(4)

كتب في هامش (أ): (بلغ مقابلة على شيخنا المصنِّف أيَّده الله تعالى وفسح في حياته).

ص: 346

‌قاعدة [52]

في التَّصرُّف في المملوكات قبل قبضها

.

وهي منقسمة إلى عقود وغيرها.

فالعقود نوعان:

أحدهما: عقود المعاوضات، وينقسم إلى بيع وغيره.

فأمَّا البيع: فقالت طائفة من الأصحاب: التَّصرُّف قبل القبض والضَّمان متلازمان، فإن كان المبيع مضموناً على البائع؛ لم يجز التَّصرُّف فيه للمشتري حتَّى يقبضه، وإن كان قبل القبض من ضمان المشتري؛ جاز له التَّصرُّف فيه، وصرَّح بذلك القاضي في «الجامع الصغير» وغيره، وجعلوا العلَّة المانعة من التَّصرُّف: توالي الضَّمانات

(1)

.

وفي المذهب طريقة أخرى، وهي أنَّه لا تلازم بين التَّصرف والضَّمان

(2)

؛ فيجوز التَّصرُّف والضَّمان على البائع؛ كما في بيع الثَّمرة

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو ما يفضي إلى أن يضمن آخِرُ مشترٍ لمن قبله، وهو لمن قبله، وفيه حرج لا يخفى).

(2)

كتب على هامش (ن): (وقد يقال: الغالب تلازم القبض والضَّمان، وحينئذ لا ينتقض ذلك بما ذكر من صورة بيع الثَّمرة والصبرة، ونحو ذلك).

ص: 347

قبل جَذِّها، فإنَّه يجوز في أصحِّ الرِّوايتين، وهي مضمونة على البائع، ويمتنع التَّصرُّف في صبرة الطَّعام المشتراة جزافاً على أصحِّ

(1)

الرِّوايتين وهي اختيار الخرقيِّ، مع أنَّها

(2)

في ضمان المشتري

(3)

، وهذه طريقة الأكثرين من الأصحاب؛ فإنَّهم حكوا الخلاف في بيع الصُّبرة مع عدم الخلاف في كونها مضمونة على البائع

(4)

.

وممَّن ذكر ذلك: ابن أبي موسى، والقاضي في «المجرَّد» و «الخلاف» ، وابن عقيل في «الفصول» و «المفردات» ، والحلوانيُّ وابنه وغيرهم.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): إحدى.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: الصبرة).

(3)

كتب على هامش (ن): ("كونها في ضمان المشتري" ليس قول الخرقيِّ، بل الخرقي إنَّما قال في الصبرة: "إنَّها من ضمان البائع إذا كانت مكيلة أو موزونة أو معدودة؛ فلا يجوز للمشتري التَّصرُّف فيها قبل قبضها"، فمقتضى كلامه: أنَّ القبض والضَّمان متلازمان، كما تقدَّم في الطَّريقة الأولى، وإنَّما هي؛ أعني: الصُّبرة من ضمان المشتري عند القاضي وأصحابه، وهو الصَّحيح في المذهب).

(4)

كتب على هامش (ن): (قوله: "مع عدم الخلاف في كونها مضمونة على البائع" فيه نظر، فإنَّ الصبرة إذا بيعت جزافاً، كما هو فرض المسألة؛ لم تكن مضمونة على البائع عند القاضي وأصحابه؛ لكونها حينئذ متعيِّنة).

ص: 348

وصرَّح ابن عقيل في «النَّظريَّات» بأنَّه

(1)

لا تلازم بين الضَّمان والتَّصرُّف.

وعلى هذا

(2)

؛ فالقبض نوعان: قبض يبيح التَّصرُّف، وهو الممكَّن في حال العقد، وقبض ينقل الضَّمان، وهو القبض التَّامُّ المقصود بالعقد.

وقد حكى ابن عقيل وغيره الخلاف فيما يمتنع التَّصرُّف فيه قبل قبضه؛ هل هو المبهم، أو جنس المكيل والموزون وإن بيع جزافاً، أو المطعوم خاصَّة، مكيلاً أو موزوناً كان أو غيرهما

(3)

، أو المطعوم المكيل أو الموزون؟

ونقله مهنَّى عن أحمد

(4)

، وضعَّف القاضي هذه الرِّواية، ورجَّحها صاحب «المغني» ، ولم يذكروا في الضَّمان مثل ذلك

(5)

.

واختار ابن عقيل: المنع من بيع جميع الأعيان قبل القبض؛ معلِّلاً

(1)

في (ب) و (هـ): أنَّه.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: عدم التَّلازم).

(3)

كتب على هامش (ن): (كالمعدود).

(4)

جاء في الروايتين والوجهين (1/ 326): (نقل مهنى: كل شيء يباع قبل قبضه إلا ما كان يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: في الخلاف)، وكتب أيضًا:(فدلَّ ذلك على عدم التَّلازم بين الضَّمان والتَّصرُّف).

ص: 349

بأنَّ العقد الأوَّل لم يتمَّ؛ حيث بقي من أحكامه التَّسليم؛ فلا يرد عليه عقد آخر قبل انبرامه، ولم يجعل الضَّمان ملازماً له

(1)

.

وكلام القاضي في «الجامع الصغير» قد يتأوَّل بأنَّه ذكر أنَّ المتعيِّن يجوز بيعه قبل القبض، وغير المتعيِّن لا يجوز، ثمَّ لازم بعد ذلك بين جواز البيع والضَّمان، وهو صحيح على ما ذكره؛ فإنَّه اقتصر على ذكر جادَّة المذهب، وهو أنْ لا ضمان ولا منع

(2)

إلَّا في المبهم خاصَّة

(3)

.

وممَّا يبيِّن أنْ لا تلازم بين التَّصرف والضَّمان

(4)

: أنَّ المنافع المستأجرة يجوز أن يؤجرها المستأجر وهي مضمونة على المؤجر الأوَّل، والثَّمر المبيع على شجره يجوز بيعه على المنصوص وهو مضمون على البائع الأوَّل، والمقبوض قبضاً فاسداً كالمكيل إذا قبض جزافاً ينتقل الضَّمان فيه إلى المشتري، ولا يجوز التَّصرُّف فيه قبل كيله، وبيع الدَّين ممَّن هو في ذمَّته جائز على المذهب وليس مضموناً على مالكه، وكذلك المالك يتصرَّف في المغصوب والمعار والمقبوض بعقد فاسد وضمانها على القابض.

والتَّعليل بتوالي الضَّمانين ضعيف؛ لأنَّه لا محذور فيه، كما لو تبايع

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: للتَّصرُّف).

(2)

زاد في (د) و (هـ) و (ن): من التصرف.

(3)

كتب على هامش (ن): (فإنَّ فيه الضَّمان على البائع، ومنع المشتري من التَّصرُّف).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: بين جانبي البائع والمشتري).

ص: 350

الشِّقصَ المشفوع جماعة ثمَّ انتزعه الشَّفيع من الأوَّل.

وكذلك التَّعليل بخشية انتقاض الملك بتلفه عند البائع؛ يبطل بالثَّمر

(1)

المشترى في رؤوس الشَّجر وبإجارة المنافع المستأجرة

(2)

، وبهذا أيضاً ينتقض تعليل ابن عقيل

(3)

، وببيع الدَّين ممَّن هو عليه

(4)

، ولأنَّ

(5)

البائع وفَّى ما عليه بالتَّخلية والتَّمييز؛ فلم يبق له علقة في العقد.

وعلَّل أيضاً: بأنَّه داخل في بيع ما ليس عنده، وهو شبيه بالغرر؛ لتعرُّضه للآفات، وهو يقتضي المنع في جميع الأعيان.

وأشار الإمام أحمد إلى أنَّه

(6)

المراد من النَّهي عن ربح ما لم

(1)

في (أ) و (ج): بالثَّمن.

(2)

كتب على هامش (ن): (لأنَّه يخشى تلفه على رؤوس الشَّجر، وكذلك المنافع يخشى تلفها قبل الاستيفاء).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو تعليله بأنَّ العقد الأوَّل لم يتمَّم

إلى آخره).

(4)

كتب على هامش (ن): (لأنه لا تسليم فيه).

(5)

كتب على هامش (ن): (قوله: "ولأنَّ"

إلخ، دليل ثان على انتقاض تعليل ابن عقيل).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: تصرُّف المشتري فيما هو مضمون على البائع).

ص: 351

يضمن؛ حيث كان مضموناً على بائعه، فلا يربح فيه مشتريه، وكأنَّه

(1)

حمل النَّهي عن الرِّبح على النَّهي عن أصل البيع؛ لأنَّه مَظِنَّة الرِّبح.

ويتخرَّج له قول آخر: أنَّ المنهيَّ عنه هو حقيقة الرِّبح، دون البيع بالثَّمن الَّذي اشتراه به؛ فإنَّه منع في روايةٍ من إجارة المنافع المستأجرة إلَّا بمثل الأجرة؛ لئلَّا يربح فيما لم يضمن، ومنع في رواية أخرى من ربح ما اشتراه المضارب على وجه المخالفة لربِّ المال؛ لأنَّه ضامن له بالمخالفة؛ فكره أحمد ربحه؛ لدخوله في ربح ما لم يضمن، وأجاز أصل البيع، وأجاز الاعتياض عن ثمن المبيع قبل قبضه بقيمته

(2)

من غير ربح؛ لئلَّا يكون ربحاً فيما لم يضمنه.

فيُخرَّج من هذا روايةٌ عنه: أنَّ كلَّ مضمون على غير مالكه يجوز بيعه بغير ربح، ويلزم مثل ذلك في بيع الدَّين من الغريم، والثَّمر على رؤوس النَّخل، وغيرهما ممَّا لم يضمنه البائع

(3)

.

ونقل حنبل عن أحمد في بيع الطَّعام الموهوب قبل قبضه: لا بأس به ما لم يكن للتِّجارة، وهذا يدلُّ على أنَّ الممنوع في بيع الطَّعام قبل قبضه هو الرِّبح والتَّكسُّب، ولا فرق في ذلك بين بيعه من بائعه وغيره،

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: الإمام أحمد).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: بشيء؛ كما إذا باع ما اشتراه بمائة، وكان ثمنه عليه تسعين، جاز أن يعتاض عن ثمنه، وهو المائة، تسعين ويترك الرِّبح، وهو العشرة).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المالك لا البائع الأوَّل المتصرِّف).

ص: 352

وقد نصَّ أحمد على منع بيعه من بائعه حتَّى يكيله

(1)

.

واختلف الأصحاب في الإقالة فيه قبل القبض؛ فمنهم من خرَّجها على الخلاف في كونها بيعاً أو فسخاً، فإن قيل: إنَّها بيع؛ لم يصحَّ، وإلَّا صحَّت

(2)

.

وعن أبي بكر: أنَّه منعها

(3)

على الرِّوايتين بدون كيل ثان؛ لأنَّها تجديد ملك.

ويتخرَّج لنا رواية ثانية: بجواز البيع من البائع؛ لأنَّ أحمد أجاز في رواية منصوصة عنه بيعه من الشَّريك الَّذي حضر كيله وعلمه من غير كيل آخر؛ فالبائع أولى.

وحكى القاضي في «المجرَّد» وابن عقيل في «الفصول» في كتاب الإجارات روايتين في جواز بيعه قبل القبض من بائعه خاصَّة، وذكرا مأخذها، وهو اختلاف الرِّوايتين عنه في بيع الدَّين في الذِّمة إذا كان طعاما مكيلاً أو موزوناً قبل قبضه، وهذا مخالف لما ذكراه في البيع؛ فإنَّهما خصَّا فيه

(4)

الرِّوايتين بما في الذِّمَّة، سواء كان طعاماً أو غيره

(5)

.

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2616): (قلت: إذا اشترى ما يكال أو يوزن؛ يولِّي صاحبه أو يشرك فيه إنسانًا قبل أن يقبضه؟ قال: لا).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: الإقالة).

(4)

قوله: (فيه) سقط من (أ) و (و).

(5)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 353

وهذا في التَّصرُّف فيه

(1)

بالبيع، وأمَّا غيره من العقود؛ فقال القاضي في «المجرَّد» وابن عقيل: لا يجوز رهنه ولا هبته ولا إجارته قبل القبض؛ كالبيع، ثمَّ ذكرا في الرَّهن عن الأصحاب: أنَّه يصحُّ رهنه قبل قبضه؛ لأنَّه لا يؤدِّي إلى ربح ما لم يضمن، بخلاف البيع.

وفي هذا المأخذ نظرٌ؛ لأنَّ الرَّهن إنَّما يصحُّ فيما يصح بيعه؛ لأنَّه يفضي إلى البيع، لكن تركه

(2)

في يد البائع لا يطول غالباً، وقبضه متيسِّر؛ فلذلك يصحُّ رهنه.

وعلَّل ابن عقيل المنع من رهنه: بأنَّه غير مقبوض ولا متميِّز ولا متعيِّن. وفيه ضعف؛ لإمكان تمييزه وقبضه.

وعلَّل مرَّة أخرى في الرَّهن والهبة: بأنَّ القبض شرط لهما

(3)

؛ فكيف ينبني عقدٌ مِن شَرْطِه القبض على عقدٍ لم يوجد فيه القبض؟!

وللأصحاب وجه آخر: بجواز رهنه على غير ثمنه، حكاه أبو الخطَّاب فيما كان معيَّناً؛ كالصُّبرة، وأظنُّه منع منه في المبهم؛ لعدم تأتِّي القبض، وهو معتبر فيه

(4)

كما ذكر ابن عقيل؛ فخُرِّج من هذا وجهان للأصحاب في سائر

(5)

العقود.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: فيما هو من ضمان البائع قبل القبض).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: ما هو من ضمان البائع قبل القبض).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: لزومهما).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: في الرَّهن).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: باقيها؛ قياساً على الرَّهن).

ص: 354

ومن الأصحاب من قطع بجواز جعله مهراً

(1)

، معلِّلاً: بأنَّ ذلك غرر

(2)

يسير؛ فيغتفر في الصَّداق، ومنهم صاحب «المحرَّر» ، وهذا وجه ثالث.

هذا كلُّه في المبيع.

فأمَّا ثمنه:

فإن كان معيَّناً؛ جاز التَّصرُّف فيه قبل قبضه، سواء كان المبيع يجوز التَّصرف فيه قبل القبض أو لا، صرَّح به القاضي

(3)

.

وإن كان مبهماً؛ لم يجز إلَّا بعد قبضه

(4)

.

وإن كان ديناً؛ جاز أن يعاوض عنه قبل قبضه، ذكره القاضي وابن عقيل، ولم يخرِّجا المعاوضة على الدَّين على الخلاف في بيع الدَّين ممَّن هو

(5)

عليه، وقد حكيا في ذلك روايتين، والأكثرون أدخلوه في

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

في (ب): غيور.

(3)

كتب في هامش (ب) و (ج) و (ن) و (هـ): (حكى أبو الخطَّاب في «الانتصار» وجهاً: أنَّه لا يجوز التَّصرُّف في الثَّمن المعين قبل قبضه، معلِّلاً بأنَّه يخشى انفساخ العقد بتلفه، بخلاف ما إذا كان ديناً؛ فإنَّه لا يخشى انفساخ العقد بتلفه، فيصحُّ التَّصرُّف فيه قبل القبض، وهذا مستدرك من وجهين: أحدهما: أنَّ [زاد في (ن): الثمن] المتعيِّن يدخل في ضمان البائع، فلا ينفسخ العقد بتلفه، والثَّاني: أنَّ الدَّين المستقرَّ [زاد في (ن): في الذمة] لا يجوز التَّصرُّف فيه قبل القبض مطلقاً، وإنَّما يجوز بيعه لمن هو في ذمَّته على رواية)، قال في (ن):(من هامش النسخة المعتمدة).

(4)

كُتب عليها فوق (ب): تمييزه. و (تمييزه) هو الموافق لبقية النسخ.

(5)

قوله: (هو) سقط من (أ) و (ج) و (و).

ص: 355

جملة صورة الخلاف.

وقد نصَّ أحمد على جواز اقتضاء أحد النَّقدين من الآخر بالقيمة في رواية الأثرم وابن منصور وحنبل

(1)

.

ونقل عنه القاضي البرتيُّ

(2)

في طعام في الذِّمَّة؛ هل يشتري به شيئاً ممَّن عليه؟ فتوقَّف، قال: فقلت له: لم لا يكون هذا مثل اقتضاء الوَرِق من الذِّهب؟! فكأنَّه أجازه من غير أن يوضحه إيضاحاً بيِّناً.

وهذا يشعر بأنَّ اقتضاء أحد النَّقدين من الآخر يجوز من غير خلاف؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنه في ذلك

(3)

،

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2643): (قلت: اقتضاء الدنانير من دراهم، والدراهم من دنانير؟ قال: بالقيمة. قلت: واقتضاؤه في الدين؟ قال: بالقيمة).

(2)

هو أبو العباس أحمد بن محمد بن عيسى بن الأزهر البرتي، البغدادي الحنفي، تفقه بأبي سليمان الجوزجاني، وتفقه به أئمة وعلماء، وله عن الإمام أحمد مسائل، توفي سنة (280 هـ). ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 74، سير أعلام النبلاء 13/ 407.

(3)

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير، وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم، وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء» أخرجه أحمد (6239)، وأبو داود (3354)، والترمذي (1242)، والنسائي (4582).

ص: 356

والخلاف في المعاوضة

(1)

عنهما بغيرهما، ولم يذكر القاضي وابن عقيل في الصَّرف في ذلك

(2)

خلافاً.

والمعنى في ذلك

(3)

: أنَّ النَّقدين لتقاربهما في المعنى أُجريا مُجرى الشَّيء الواحد، فأخْذُ أحدهما عن الآخر ليس معاوضة محضة، بل هو نوع استيفاء، وقد صرَّح بذلك أحمد في رواية أبي طالب، قال: ليس هو ببيع إنَّما هو اقتضاء.

وكذلك لم يجز

(4)

إلَّا بالسِّعر؛ لأنَّه لمَّا فاتت المماثلة في القدر لاختلاف الجنس؛ اعتُبِرت في القيمة، وهذا المأخذ

(5)

هو الذي ذكره صاحب «المغني» .

ومن الأصحاب من جعل مأخذه

(6)

النَّهي عن ربح ما لم يضمن.

وأمَّا القاضي؛ فأجاز المعاوضة عن أحد النَّقدين بالآخر بما يتَّفقان عليه، وتأوَّل كلام أحمد بتأويل بعيد جداً، وقد ذكرنا أنَّ طريقة القاضي

(1)

في (أ): المعاوضات.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: في المعاوضة عنهما بغيرهما).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: في اقتضاء أحد النَّقدين من الآخر).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: الاقتضاء).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: كون اقتضاء أحد النَّقدين من الآخر نوع استيفاء واقتضاء لم يجز إلَّا بالسِّعر).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: الاقتضاء).

ص: 357

وابن عقيل في الإجارة: أنَّ ما في الذِّمة إذا كان مكيلاً أو موزوناً؛ لم يجز بيعه قبل قبضه لأجنبيٍّ رواية واحدة، وفي بيعه لمن هو في ذمته روايتان؛ لأنَّه قبل القبض مبهم غير متميِّز.

فهذا الكلام في التَّصرُّف في المبيع وعوضه.

فأمَّا غير المبيع من عقود المعاوضات؛ فهي ضربان:

أحدهما: ما يخشى انفساخ العقد بتلفه قبل قبضه؛ مثل: الأجرة المعينة، والعِوَض في الصُّلح بمعنى البيع ونحوهما؛ فحكمه حكم البيع فيما سبق.

وأمَّا التَّصرُّف في المنافع المستأجرة:

فإن كان بإعارة ونحوها؛ فيجوز؛ لأنَّ له استيفاء العوض بنفسه وبمن يقوم مقامه.

وإن كان بإجارة؛ صحَّ أيضاً بعد قبض العين

(1)

ولم يصحَّ قبلها؛ إلَّا للمؤجر على وجه سبق

(2)

.

ويصحُّ إيجارها بمثل الأجرة، وبأزيد في إحدى

(3)

الرِّوايتين.

وفي الأخرى: يمنع بزيادة؛ لدخوله في ربح ما لم يضمن.

والصَّحيح: الجواز؛ لأنَّ المنافع مضمونة على المستأجر من وجه،

(1)

في (أ): للعين.

(2)

كتب على هامش (ن): (والأصح: ولغيره أيضاً قبل القبض).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهي المذهب).

ص: 358

بدليل أنَّه لو عطَّلها حتَّى فاتت من غير استيفاء؛ تلفت من ضمانه، فهي كالثَّمر في رؤوس الشَّجر هو مضمون عليه

(1)

بإتلافه.

والضَّرب الثَّاني: ما لا يخشى انفساخ العقد بهلاكه قبل قبضه؛ مثل: الصَّداق، وعوض الخلع، والعتق

(2)

، والمصالح به عن دم العمد، ونحو ذلك؛ ففيه وجهان:

أحدهما: يجوز التَّصرُّف فيه قبل القبض، وهو قول القاضي في «المجرد» ، وأبي الخطاب، غير أنَّه استثنى منه الصداق، والسَّامريِّ، وصاحبي «المغني» و «التَّلخيص» ، ونصَّ أحمد على صحة هبة المرأة صداقها قبل القبض، وهو تصرُّفٌ فيه.

ووجه ذلك: أنَّ تلف هذه الأعواض لا تنفسخ بها عقودها؛ فلا ضرر في التَّصرُّف فيها، بخلاف البيع والإجارة ونحوهما.

ومع هذا

(3)

؛ فصرَّح القاضي

(4)

في «المجرَّد» : بأنَّ غير المتميِّز فيها مضمون على من هو بيده؛ ففرَّق بين الضَّمان والتَّصرُّف

(5)

ههنا

(6)

،

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: على المشتري).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: وعوض العتق).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: القول بجواز التَّصرُّف).

(4)

قوله: (القاضي) سقط من (ب).

(5)

كتب على هامش (ن): (إن لم يقل بتلازمهما؛ فجوَّز التَّصرُّف مع عدم الضَّمان على المتصرِّف).

(6)

قوله: (ههنا) سقط من (أ).

ص: 359

ونسب إليه صاحب «التَّلخيص» : أنَّه سوَّى بينهما

(1)

؛ فأثبت الضَّمان ومنع التَّصرُّف، وهو وهم عليه.

والوجه الثَّاني: أنَّ حكمها حكم البيع

(2)

؛ فلا يجوز التَّصرُّف في غير المتعيِّن منها قبل القبض، وهو الَّذي ذكره القاضي في «خلافه» ، وقال:(هو قياس قول أصحابنا)، وابن عقيل في «الفصول» و «المفردات» ، والحلوانيُّ، والشِّيرازيُّ، وصاحب «المحرر» ، واختاره صاحب «المغني» في كتاب النكاح؛ إلحاقاً لها بسائر عقود المعاوضات.

ولا يصحُّ التَّفريق بعدم الانفساخ؛ لأنَّ الزُّبرة - الحديد العظيمة - إذا اشتريت وزناً؛ فلا يخشى هلاكها والتَّصرُّف فيها ممنوع، ومنافع الإجارة يخشى هلاكها والتَّصرُّف فيها جائز.

ورجَّح الشَّيخ تقيُّ الدِّين الوجه الأوَّل، ولكنه بناه على أنَّ علةَ منعِ التَّصرُّفِ

(3)

الرِّبحُ فيما لم يضمن

(4)

(5)

،

(1)

كتب على هامش (ن): (بين الضَّمان والتَّصرُّف، فجعل الضَّمان على من العوض بيده، ومنع من انتقل إليه التَّصرُّف).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

كتب في هامش (و): (لعلَّه: في).

(4)

كتب على هامش (ن): (كذا في النُّسخ، ولعلَّ صوابه: على أنَّ عِليَّة منع التَّصرُّف في البيع: الرِّبحُ فيما لم يضمن).

(5)

قال في الاختيارات (ص 188): (وكل ما ملك بعقد سوى البيع فإنه يجوز التصرف فيه قبل قبضه بالبيع وغيره؛ لعدم قصد الربح).

ص: 360

وهو

(1)

منتف ههنا، وهو أحد المآخذ للأصحاب في أصل المسألة.

وعدَّ القاضي من هذا الضَّرب

(2)

: القرض وأروش الجنايات وقيم المتلفات، ووافقه ابن عقيل على قيم المتلفات.

وفيه نظر؛ فإنَّ القرض لا يملك بدون القبض، على ما جزم به في «المجرَّد»

(3)

، وقيم المتلفات ينفسخ الصُّلح عنها بتلف العوض المضمون، وكذلك أروش جنايات الخطأ بخلاف العمد

(4)

؛ لأنَّه لا يمكن الرُّجوع إلى القصاص بعد العفو عنه، وتعيين قيمة المتلف أو مثله ليس بعقد ليدخله الفسخ

(5)

، ثمَّ إنَّه مضمون في الذِّمَّة كالدَّين، وذلك لا يتعيَّن في الخارج إلَّا بالقبض على المذهب.

وألحق صاحب «التَّلخيص» بهذا أيضاً: الملك العائد بالفسخ قبل القبض والاسترداد؛ لأنَّه لا يخشى انتقاض سببه، وهذا متَّجه على الوجه الأول

(6)

الَّذي اختاره.

(1)

في (ب) وبقية النسخ: وهذا.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو ما لا يخشى انفساخ العقد بها قبل قبضه).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: فلا ينفسخ الصُّلح).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: حتَّى يقال فيه: إنَّه ينفسخ بهلاك العوض قبل قبضه).

(6)

في (أ) و (هـ) و (و): الثاني.

ص: 361

فأمَّا على

(1)

الثاني

(2)

: فإن كان العقد المنفسخ غير

(3)

معاوضة؛ صارت العين أمانة كالوديعة، فيجوز التَّصرُّف فيها قبل القبض، وإن كان عقد معاوضة؛ فهو مضمون

(4)

على الأشهر، فيتوجَّه: أن يمنع التَّصرُّف فيه؛ لأنَّ ضمانه

(5)

من آثار ضمان العقد السَّابق؛ فيلتحق به.

ويتوجَّه: ألَّا يمنع؛ كالعواري والغصوب.

ولو حجر الحاكم على المفلس، ثمَّ عيَّن لكلِّ غريم عيناً من المال بحقِّه؛ ملكه

(6)

بمجرَّد التعيين، ذكره القاضي في الزكاة من «المجرد» .

فعلى هذا يتوجه: أن يجوز له التصرف فيه قبل القبض.

تنبيه:

ما اشترط القبض لصحَّة عقده لا يصحُّ التَّصرُّف فيه قبل القبض؛ لعدم ثبوت الملك، وقد صرَّح به في «المحرر» في الصَّرف ورأس مال السَّلَم.

فأمَّا إن قيل بالملك بالعقد؛ فحكى في «التَّلخيص» في الصَّرف المتعيِّن وجهين؛ لأنَّ انتفاء القبض ههنا مؤثِّر في إبطال العقد؛ فلا

(1)

زاد في (ج) و (د) و (ن): الوجه.

(2)

في (أ) و (هـ) و (و): الأول.

(3)

في (أ): عن.

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: على من هو تحت يده).

(5)

في (أ) و (هـ): ضمانه فيه.

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: المعيَّن).

ص: 362

يصحُّ ورود عقد آخر عليه قبل انبرامه.

والمنصوص عن أحمد في رواية ابن منصور: المنع في الصَّرف والسَّلم

(1)

.

والعقود القهريَّة كالأخذ بالشفعة؛ يصح التصرف فيها قبل القبض، ذكره أيضاً في «التلخيص» .

النَّوع الثَّاني: عقود يثبت بها الملك من غير عوض؛ كالوصيَّة والهبة

(2)

والصَّدقة.

فأمَّا الوصية: فيجوز التَّصرف فيها بعد ثبوت الملك وقبل القبض باتفاق الأصحاب فيما نعلم

(3)

، وسواء كان الموصى به معيَّناً أو مبهماً، وسواء قلنا: إنَّ له ردَّ المبهم

(4)

قبل قبضه أو لا، لأنَّ أكثر ما في جواز

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2996): (قلت: قال سفيان: إذا كان لك قرض، فلا تجعله مضاربة إلا أن تأمره أن يدفعه إلى إنسان، ثم يدفع ذلك الإنسان إليه. قال: جيد.

ويجعل الوديعة قرضاً، ويجعلها مضاربة، ويجعل المضاربة قرضاً. قال أحمد: جيد.

قال أحمد: إذا كان لك قرض على رجل، فلا تصرفه مضاربة ولا سلفاً، ولا يكون وديعة حتى تقبضه).

(2)

في (ب) و (د) و (هـ): كالهبة والوصيَّة.

(3)

في (ب) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): نعلمه.

(4)

كتب على هامش (ن): (في «الرِّعاية»: ولا يصحُّ رد الموصى له الوصيةَ بعد قبوله، وقيل: بلى فيما كِيل أو وُزِن، دون المعيَّن في الأشهر فيهما، وكذا في «المحرَّر»، إلَّا أنَّه لم يذكر قوله: "في الأشهر فيهما").

ص: 363

ردِّه أنَّه غير لازم من جهته، وهذا لا يمنع صحَّة التَّصرُّف؛ لأنَّها لازمة من جهة الميت بموته؛ فهو كالمبيع المشترط فيه الخيار للمشتري وحده.

وأمَّا الهبة الَّتي تملك بالعقد بمجرَّده: فيجوز التَّصرُّف فيها أيضًا قبل القبض

(1)

، وقد نصَّ أحمد عليه كما سنذكره؛ لأنَّ حقَّ الواهب ينقطع عنها بمجرَّد انتقال ملكه، وليست في ضمانه؛ فلا محذور في التَّصرُّف فيها بوجه.

وأمَّا الصَّدقة الواجبة والتَّطوُّع؛ فالمذهب المنصوص: أنَّها لا تملك بدون القبض كما سبق؛ فلا كلام على هذا.

وعلى التَّخريج المذكور يملكها قبل القبض: فينبغي أن تكون كالهبة

(2)

.

وقد نصَّ أحمد في رواية أبي الحارث وابن بختان

(3)

وابن هانئ: في رجل عليه دين، ويريد رجل يقضيه عنه من زكاته؟ فقال: يدفعه إليه. فقيل له: هو محتاج ويخاف أن يدفعه إليه يأكله. قال: يقول له حتَّى

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب). وكتب أيضًا: (وحينئذ؛ فالظَّاهر أنَّ الواهب يبطل رجوعه في الهبة وفي الإذن في قبضها بتصرُّف المتَّهب).

(2)

كتب على هامش (ن): (فيجوز التَّصرُّف فيها قبل القبض على التَّخريج المذكور).

(3)

هو يعقوب بن إسحاق بن بختان أبو يوسف، سمع من الإمام أحمد وكان جاره وصديقه، وروى عنه مسائل صالحة كبيرة لم يروها غيره في الورع، ومسائل صالحة في السلطان، وكان أحد الصالحين الثقات. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 415.

ص: 364

يوكِّله فيقضيه عنه.

وهذا ظاهر في أنَّه ملك الزكاة بالتعيين والقبول؛ وجاز تصرفه فيها بالوكالة قبل القبض.

وكذلك نقل حنبل في «مسائله» : أنَّ أحمد ذكر له قول أبي سلمة: «لا بأس إذا كان للرَّجل طعام أمر له به سلطان أو وهب له أن يبيعه قبل أن يقبضه، والعبد مثل ذلك، والدَّابَّة يبيعها قبل أن يقبضها» ، فقال أحمد: لا بأس بذلك ما لم تكن للتِّجارة، وقوله: إذا لم يكن للتِّجارة؛ لأنَّ المنع من البيع إنَّما كان لدخوله في ربح ما لم يضمن، وما ملكه بغير عوض؛ فلا يتصوَّر فيه ربح.

فأمَّا لو نوى بتملِّكه

(1)

التِّجارة؛ فظاهر كلامه المنع؛ لأنَّه جعله من الأموال المعدَّة للرِّبح، فامتنع بيعه قبل القبض.

هذا الكلام في العقود.

فأمَّا الملك بغير عقد؛ كالميراث، والغنيمة، والاستحقاق من أموال الوقف أو الفيء للمتناولين منه؛ كالمرتزقة

(2)

في ديوان الجند، وأهل الوقف المستحقِّين له، فإذا ثبت لهم الملك، وتعيَّن مقداره؛ جاز لهم التَّصرُّف فيه قبل القبض بغير خلاف أيضاً؛ لأنَّ حقَّهم مستقرٌّ فيه، ولا علاقة لأحد معهم، ويد من هو في يده بمنزلة يد المودع ونحوه من الأمناء.

(1)

كتب على هامش (ن): (يعني: من الواهب).

(2)

في (أ) و (و): كالمترزقة.

ص: 365

وأمَّا قبل ثبوت الملك؛ فله حالتان:

إحداهما: ألَّا يوجد سببه؛ فلا يجوز التَّصرُّف بغير إشكال؛ كتصرُّف الوارث قبل موت موروثه، والغانمين قبل انقضاء الحرب، ومن لا رسم له في ديوان العطاء في الرِّزق.

والثَّانية: بعد وجود السَّبب وقبل الاستقرار؛ كتصرُّف الغانمين قبل القسمة - على قولنا: إنَّهم يملكون الغنيمة بالحيازة، وهو المذهب الصَّحيح -، والمرتزقة قبل حلول العطاء ونحوهم؛ فقال ابن أبي موسى: (لا يجوز بيع العطاء قبل قبضه ولا بيع الصَّكِّ بعين ولا وَرِق قولاً واحداً، وإن باعه بعروض؛ جاز في إحدى الرِّوايتين إذا قبض العروض قبل أن يتفرَّقا، ومنع منه في الأخرى، ولا يجوز بيع المغانم قبل أن تقسم

(1)

، ولا الصَّدقات قبل أن تقبض

(2)

(3)

انتهى.

فهذه أربع مسائل

(4)

:

أحدها: بيع العطاء قبل قبضه، وهو رزق بيت المال.

وقد نصَّ أحمد على كراهته في رواية أبي طالب وابن منصور وبكر بن محمَّد

(5)

، وقال: هو شيء مغيَّب، لا يدري يصل إليه أو لا،

(1)

في (أ) و (ج) و (و): يقسم.

(2)

في (أ): يقبض.

(3)

الإرشاد (ص 191).

(4)

كتب على هامش (ن): (يعني: الَّتي ذكرها ابن أبي موسى).

(5)

بكر بن محمد النسائي الأصل، البغدادي المنشأ، كان الإمام أحمد يقدمه ويكرمه، وعنده مسائل كثيرة سمعها منه. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 119، المقصد الأرشد 1/ 289.

ص: 366

أو ما هو

(1)

.

وقال مرَّة: لا يدري؛ يخرج أو لا يخرج.

وقال في رواية أبي طالب في بيع الزِّيادة في العطاء: قال ابن عبَّاس: ما

(2)

يدريه ما يخرج ومتى يخرج؟! لا يشتريه

(3)

(4)

، وكرهه، وربَّما سُمِّي هذا أيضاً بيع الصِّكاك.

ونقل حرب عن أحمد في بيع الزِّيادة في العطاء: لا بأس به بعرض، قلت: وما تفسيره؟ قال: هو الرَّجل يزاد في عطائه عشرة دنانير

(1)

كتب على هامش (ن): (فهو مجهول).

جاء في الروايتين والوجهين (1/ 357): (فإن كان له دراهم معلومة في الديوان يقبضها على وجه الرزق، فهل يجوز بيعها بعوض قبل قبضها؟

فنقل أبو طالب: لا يجوز ـ وهو أصح ـ؛ لأنه لا يقدر على تسليمه لجواز منع التسليم، ولأنه ليس هذا بأكثر من الدين الثابت له في ذمة غيره فإنه لا يجوز بيعه من غيره قبل قبضه، فأولى أن لا يجوز ههنا.

ونقل حنبل: جواز ذلك، وعندي: أن هذه محمولة على أنه ابتاع العرض وأحاله بالثمن على الرزق).

(2)

كتب على هامش (ن): (اسم موصول).

(3)

رواه ابن أبي شيبة (20956).

(4)

كتب على هامش (ن): (يعني أنَّ ابن عبَّاس منع من شرائه، فساقه؛ ليستدلَّ على عدم الجواز).

ص: 367

فيشتريها منه بعرض، قال: وسألته عن بيع الصَّكِّ بالعرض قال: لا بأس به

(1)

.

وروى حرب بإسناد صحيح عن ابن عبَّاس: أنَّه كان يكره بيع الزِّيادة في العطاء إلَّا بعرض

(2)

، وهذه رواية ثانية

(3)

بالجواز

(4)

.

قال القاضي وابن عقيل: هذه الرِّواية فيما إذا بيع بعد حلول العطاء؛ لأنَّه وقت الاستحقاق، فهو حينئذ دين ثابت فيجوز بيعه.

لكن على طريقتهما: لا يجوز بيعه من غير الغريم، فرجعا وتأوَّلا الرِّواية على أنَّه اشترى ذلك العرض بثمن مؤجَّل إلى وقت قبض العطاء، وكان وقته معلوماً عندهما، أو أنَّه أحال بثمن العرض على حقِّه من العطاء، ولا يخفى فساد هذا التَّأويل لمن تأمَّل كلام أحمد.

وقد يكون مراد ابن أبي موسى ببيع العطاء قبل قبضه: قبل استحقاق قبضه، فأمَّا إذا استحق؛ فهو داخل في بيع الصِّكاك.

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2606): (قلت: بيع الزيادة في العطاء بالعروض؟ قال: يزاد الرجل عشرة دراهم في عطائه، فلا يبيعها إلا بالعروض، فإذا مات انقطع ذلك).

(2)

رواه ابن أبي شيبة (20963) بلفظ: «عن ابن عباس أنه كره بيع المائة في العطاء إلا بعرض» .

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: عن أحمد).

(4)

كتب في هامش (ن): (يعني: في بيع العطاء قبل قبضه).

ص: 368

المسألة الثَّانية: بيع الصِّكاك قبل قبضها، وهي الدُّيون الثَّابتة على النَّاس، ويسمَّى صكاكاً لأنَّها تكتب في صكاك، وهي ما يكتب فيه من الرَّقِّ ونحوه؛ فيباع ما في الصَّكِّ، فإن كان الدَّين نقداً وبيع بنقد؛ لم يجز بلا خلاف؛ لأنَّه صرف بنسيئة، وإن بيع بعرض وقبضه في المجلس؛ ففيه روايتان:

إحداهما: لا يجوز

(1)

، قال أحمد في رواية ابن منصور في بيع الصَّكِّ: هو غرر

(2)

، ونقل أبو طالب عنه أنَّه كرهه، وقال: الصَّكُّ لا يدرى يخرج أو لا يخرج، وهذا يدلُّ على أنَّ مراده الصَّكُّ من عطاء الديوان.

والثَّانية: الجواز، نصَّ عليها في رواية حرب وحنبل ومحمَّد بن الحكم، وفرَّق

(3)

بينه وبين العطاء وقال

(4)

: الصَّكُّ إنَّما يحتال على رجل وهو مقِرٌّ بدين عليه، والعطاء إنَّما هو شيء مغيَّب لا يدري يصل إليه أم لا.

وكذلك نقل حنبل عنه في الرَّجل يشتري الصَّكَّ على الرَّجل بالدَّين؛ قال: لا بأس به بالعرض إذا خرج، ولا يبيعه حتَّى يقبضه؛ يعني: مشتريه، وهذا يدلُّ على أنَّه لم يجعله من ضمان مشتريه بمجرَّد

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

مسائل ابن منصور (6/ 2569).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: الإمام أحمد).

(4)

في (ب) و (و): قال.

ص: 369

القبض

(1)

، ولا أباح له التَّصرُّف فيه؛ لأنَّه بمنزلة المنافع والثَّمر في شجره، وحاصل هذا: يرجع إلى جواز بيع الدَّين من غير الغريم، وقد نصَّ على جوازه

(2)

كما ترى.

المسألة الثَّالثة: بيع المغانم قبل أن تقسم، ونصَّ أحمد على كراهته

(3)

في رواية حرب وغيره، وعلَّله في رواية صالح وابن منصور: بأنَّه لا يدرى ما يصيبه

(4)

؛ يعني: أنَّه مجهول القدر والعين وإن كان ملكه ثابتاً عليه، لكنَّ الإمام له أن يخصَّ كلَّ واحد بعين من الأعيان، بخلاف قسمة الميراث.

وصحَّ عن أبي الزُّبير؛ قال: قال جابر: «أكره بيع الخمس من قبل أن يقسم»

(5)

.

وروى محمَّد بن إبراهيم الباهليُّ، عن محمَّد بن زيد؛ يعني: العبديَّ، عن شهر بن حوشب، عن أبي سعيد الخدريِّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشتروا الصَّدقات حتَّى تقبض، والمغانم حتَّى تقسم» أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه، وإسحاق بن راهويه والبزَّار

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله: أي: قبض الصكِّ.

(2)

كتب على هامش (ن): (والمذهب: أنَّه لا يجوز).

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني: أنَّه لا يصحُّ).

(4)

جاء في مسائل ابن منصور (8/ 3887): (قلت له: نهي عن بيع المغانم حتى يعلم ما هي؟ قال: لأنه لا يدري ما يصيبه، ومثل ذلك سهام القصابين).

(5)

أخرجه عبد الرزاق (9487).

ص: 370

في «مسنديهما»

(1)

.

ومحمَّد بن زيد: صالح لا بأس به، والباهليُّ: بصريٌّ مجهول، وشهرٌ حاله مشهور.

وفي «سنن أبي داود»

(2)

من حديث رويفع بن ثابت: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلُّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنماً حتَّى يقسم» ، وفي الحديث طول، وأخرج التِّرمذيُّ بعضه وحسَّنه

(3)

.

وخرَّج النسائي

(4)

من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن بيع المغانم حتَّى تقسم» ، وخرَّجه الإمام أحمد وأبو داود

(5)

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وروى ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نَجيح، عن مكحول:«أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المغانم حتى تقسم»

(6)

، مرسل.

وهذا في حقِّ آحاد الجيش منهيٌّ عنه، سواء باعه قبل القبض أو بعده

(7)

؛ لأنَّه قبل القبض مجهول، وبعده تعدٍّ وغلول؛ فإنَّه لا يستبدُّ

(1)

أخرجه أحمد (11377)، وابن ماجه (2196)، ولم نقف عليه في مسندي إسحاق والبزار.

(2)

برقم (2158).

(3)

برقم (1131).

(4)

في المجتبى برقم (4645).

(5)

أحمد (9017)، وأبو داود (3369).

(6)

ذكره ابن هشام عن ابن اسحاق في السيرة (2/ 331)، ورواه عبد الرزاق (9489) عن محمد بن راشد، عن مكحول مرسلاً.

(7)

كتب على هامش (ن): (يعني: بعد قبضه قبل قسم الإمام).

ص: 371

بالقسمة دون الإمام.

أمَّا الإمام؛ فإذا رأى المصلحة في بيع شيء من الغنيمة وقسم ثمنه؛ فله ذلك.

المسألة الرَّابعة: بيع الصَّدقات قبل القبض.

ومأخذه: أنَّ الصَّدقة لا تملك بدون القبض

(1)

، وفي «مصنَّف عبد الرَّزَّاق»

(2)

عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن غير واحد: «أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع

(3)

الصدقة حتَّى تعقل

(4)

وتوسم».

وعن يحيى بن العلاء البجليِّ، عن [جهضم]

(5)

بن عبد الله، عن محمَّد بن زيد

(6)

، عن شهر بن حوشب؛ قال:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصَّدقات حتَّى تقبض»

(7)

، وهذا المرسل أشبه من المسند السابق.

فأما على القول بملكها بمجرد القبول إذا تعيَّنت من غير قبض؛ فقد

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

برقم (6899).

(3)

في (أ): تبتاع.

(4)

في (أ) و (و) و (ن): تعتقل.

(5)

في جميع النسخ: (خثعم). والصواب المثبت كما في مصنف عبد الرزاق (6900)، وسنن الترمذي (1563)، وغيرهما من كتب الحديث.

(6)

في (أ) و (ب): يزيد.

(7)

أخرجه عبد الرزاق (6900).

ص: 372

تقدَّم نصُّ أحمد بجواز التَّوكيل فيها

(1)

، وهو نوع تصرُّف؛ فقياسه سائر التَّصرُّفات، ويكون حينئذ كالهبة المملوكة بالعقد.

وأمَّا إذا عيَّنها المالك من ماله وأفردها؛ فلا تصير بذلك صدقة، ولا تخرج عن ملكه بدون قبض

(2)

المستحقِّ أو قبوله

(3)

، وقد نصَّ أحمد على أنَّها إذا تلفت بعد تعيينها؛ لم تبرأ ذمَّته من الزَّكاة

(4)

.

وأمَّا إن كان صدقة تطوُّع؛ فاستُحِبَّ إمضاؤها، وكُره الرُّجوع فيها، ونقل عنه ما يدلُّ على خروجها عن ملكه بمجرَّد التعيين

(5)

، نقل عبد الله عنه أنَّه قال:«كلُّ شيء جعله الرَّجل لله يُمضيه، ولا يرجع في ماله»

(6)

، وذلك أنَّه قد خرج من ملكه؛ فليس هو له من صدقة أو معروف أو صلة رحم، وإن كان قليلاً أمضاه.

(1)

ينظر: .....

(2)

كتب على هامش (ن): (على المذهب).

(3)

كتب على هامش (ن): (على القول الثَّاني).

(4)

جاء في مسائل ابن منصور (3/ 1132): (قلت: إذا أخرج زكاة ماله، ثم سرقت أو ضاعت؟ قال: يستأنف).

(5)

في (ب): التَّعيُّن.

(6)

لم نجده في المطبوع من مسائل عبد الله، وفي الترجل والوقوف (ص 90):(لا يجوز له أن يعود في صدقته كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم: «العائد في هبته»، وقال لعمر: «لا تشتروها ولا تعد في صدقتك»، وإذا حمل شيئًا في سبيل الله أو تصدق لله فخرج من ملكه؛ لم يشتره، فإن رجع إليه بالميراث جاز له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «لا ترجع ولا تشترها»، ونهاه عن ذلك كل ما كان من صدقة أو حملان في سبيل الله أو وقف، فهذا سبيله يمضيه، فإن رجع إليه الصدقة أو الوقف بالميراث جاز له ذلك).

ص: 373

ونقل عنه حبيش بن سنديٍّ

(1)

في رجل دفع إلى رجل دراهمَ، فقال له: تصدَّق بهذه الدَّراهم، ثمَّ إنَّ الدَّافع جاء، فقال: ردَّ عليَّ الدَّراهم، ما يصنع المدفوع، يردُّها عليه؟ قال: لا يردها عليه، يمضيها فيما أمره به.

ونقل جعفر بن محمد معناه، وحمل القاضي ذلك على الاستحباب.

قال ابن عقيل: لا أعلم للاستحباب وجهاً، وهو كما قال، وإنَّما يتخرَّج على أنَّ الصَّدقة تتعيَّن بالتَّعيين

(2)

؛ كما نقول في الهدي والأضحية: إنَّه يتعيَّن بالقول بغير خلاف.

وفي تعيينه بالنِّيَّة وجهان

(3)

.

فإذا قال: هذه صدقة؛ تعيَّنت وصارت في حكم المنذورة، صرَّح به الأصحاب، لكن هل ذلك إنشاء منه للنَّذر أو إقرار به؟ فيه خلاف بين الأصحاب.

وإذا عيَّن بنيَّته أن يجعلها صدقة وعزلها من ماله؛ فهو كما لو اشترى شاة ينوي التَّضحية بها، ولا يلزم من ذلك سقوط الزَّكاة عنه بتلفها قبل

(1)

هو حبيش بن سندي، من كبار أصحاب أحمد، وكتب عنه نحوًا من عشرين ألف حديث، وكان رجلًا جليل القدر جدًّا، وعنده عن أبي عبد الله جزآن مسائل مشبعة حسان جدًّا يغرب فيها على أصحاب أحمد. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 146.

(2)

في (ب): بالتَّعيُّن.

(3)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: لا).

ص: 374

قبض المستحقِّ أو الإمام؛ لأنَّا إن قلنا: الزَّكاة في الذِّمَّة؛ فهو كما لو عين عن هدي واجب في الذِّمَّة هدياً، فعطب؛ فإنَّه يلزمه إبداله، وإن قلنا: في العين؛ فلا يبرأ منها لفوات قبض المستحقِّ أو من يقوم مقامه، وإيصاله إليه واجب عليه؛ فلا يبرأ بدونه، ولا يكتفى فيه بالتَّمييز ولو حصل التَّمكين من القبض؛ لأنَّ فعل الدَّفع واجب عليه؛ فكيف إذا لم يحصل التَّمكين، والله أعلم.

ص: 375

‌قاعدة [53]

من تصرَّف في عين تعلَّق بها حقٌّ لله تعالى

(1)

أو لآدميٍّ معيَّنٍ

(2)

:

إن كان الحقُّ مستقرًّا فيها بمطالبة من له الحقُّ بحقِّه

(3)

أو يأخذه بحقِّه

(4)

؛ لم ينفذ التَّصرُّف.

وإن لم يوجد سوى تعلُّق الحقِّ

(5)

لاستيفائه منها؛ صحَّ التَّصرُّف على ظاهر المذهب.

وقياس قول أبي بكر: لا يصحُّ؛ حيث قال: لا يصحُّ وقف الشَّفيع

(6)

ولا رهن الجاني، وكلامه في «الشافي» يدلُّ على أنَّ التَّصرُّف فيما وجبت فيه الزَّكاة لا يصحُّ في قدرها.

(1)

كتب على هامش (ن): (كالزَّكاة).

(2)

كتب على هامش (ن): (كالرهن والشِّقص المشفوع).

(3)

كتب على هامش (ن): (كالشُّفعة).

(4)

كتب في هامش (ن): (كالرهن).

(5)

كتب على هامش (ن): (يعني: من غير مطالبة من له الحق، إلَّا أخذه بحقِّه؛ لتعلُّق حق المجني على نفس الجاني، باستثناء أروش الجناية منه).

(6)

كتب على هامش (ن): (كذا وقع في نسخ هذا الكتاب، وصوابه: المشتري للشِّقص المشفوع).

ص: 376

وكذلك اختار أبو الخطاب في «الانتصار» : أنَّه لا يصحُّ التَّصرُّف في الجاني بالبيع؛ لتعلُّق الحقِّ بعينه، فإن فداه السيد؛ كان افتكاكاً له، وسقط الحقُّ المتعلِّق به، كما لو وفَّى دين الرهن.

والمذهب الأوَّل؛ وهو الفرق بين أن يثبت استحقاق يتعلَّق بالعين، وبين

(1)

أن يترتَّب على الثُّبوت مقتضاه بالأخذ بالحقِّ أو بالمطالبة به؛ فالأوَّل ملك أن يتملَّك، والثَّاني تملَّك أو طالب بحقِّه الَّذي لا يمكن دفعه عنه

(2)

، وهو شبيه بالفرق بين المفلس قبل الحجر عليه وبعده؛ فالفلس مقتضٍ للحجر والمنع من التَّصرُّف، ولا يثبت ذلك إلَّا بالمطالبة والحكم.

ويتخرَّج على هذه القاعدة مسائل كثيرة:

منها: التَّصرُّف في المرهون ببيع أو غيره ممَّا لا سراية له

(3)

؛ لا يصحُّ؛ لأنَّ المرتهن أخذ بحقِّه في الرَّهن من التَّوثُّق والحبس وقبضه، وحُكم له به؛ فهو بالنِّسبة إلى الرَّهن كغرماء المفلس المحجور عليه.

وأمَّا العتق؛ فإنَّما نفذ لقوَّته وسرايته، كما نفذ حجُّ المرأة والعبد بدون إذن السَّيِّد والزَّوج، حتَّى إنَّهما لا يملكان تحليلهما على

(1)

في (ب): وعن.

(2)

كتب على هامش (ن): (كالمطالبة بالشفعة).

(3)

كتب على هامش (ن): (يحترز به عن العتق، فإنَّ تصرُّف الرَّاهن به صحيح؛ لسرايته وقوَّته، كما سيأتي في كلام المصنِّف).

ص: 377

إحدى الرِّوايتين

(1)

؛ لقوَّة الإحرام ولزومه، ولهذا ينعقد مع فساده ويلزم إتمامه.

ومنها: الشفيع إذا طالب بالشُّفعة؛ لا يصحُّ تصرف المشتري بعد طلبه؛ لأنَّ حقَّه تقرَّر وثبت، وقبل المطالبة إنَّما كان له

(2)

أن يتملَّك، والمطالبة إمَّا تملُّك

(3)

على رأي القاضي، وإمَّا مؤذنة بالتَّملُّك ومانعة للمشتري من التصرف؛ إذ تصرُّف المشتري إنَّما كان نافذاً؛ لترك الشَّفيع الاحتجار عليه والأخذ بحقِّه، وقد زال

(4)

.

فإن نهى الشَّفيع المشتري عن التَّصرُّف ولم يطالب بها؛ لم يصر المشتري ممنوعاً، بل تسقط الشُّفعة على قولنا: هي على الفور

(5)

، ذكره القاضي في «خلافه» .

ومنها: إذا حلَّ الدَّين على الغريم وأراد السَّفر، فإن منعه غريمه من ذلك؛ لم يجز له السفر، وإن فعل؛ كان عاصياً به؛ لأنَّه حبسه

(6)

، وله ولاية حبسه لاستيفاء حقِّه؛ كالمرتهن في الرَّهن

(7)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (والمذهب: أنَّهما يملكان ذلك).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: الشَّفيع).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: بطل الشَّفيع).

(5)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: منعه من السَّفر).

(7)

كتب على هامش (ن): (فإنَّ له أن يحبسه؛ لاستيفاء حقِّه منه).

ص: 378

وإن لم يمنعه، فهل له الإقدام على السفر؟ ذكر ابن عقيل فيه وجهين:

أحدهما: يجوز

(1)

؛ لأنَّ الحبس عقوبة لا يتوجَّه بدون الطَّلب والإلزام.

والثَّاني: لا؛ لأنَّه يمنع بسفره حقًّا واجباً عليه، لا لثبوت الحبس في حقِّه

(2)

؛ بل لما يلزم من سفره من تأخير

(3)

الحقِّ الواجب.

ومنها: المفلس إذا طلب البائع منه سلعته الَّتي يرجع بها

(4)

قبل الحجر؛ لم ينفذ تصرُّفه، نصَّ عليه، قال إسماعيل بن سعيد

(5)

: سألت أحمد عن المفلس: هل يجوز فعله فيما اشترى قبل أن يطلب البائع منه ما بايع المشتري عليه؛ فقال: إن أحدث المشتري فيه عتقاً أو بيعاً أو هبة؛ فهو جائز عندنا

(6)

ما لم يطلب البائع ذلك، وذلك أنَّ الحديث قال:«هو أحقُّ به»

(7)

؛ ولا يكون أحقَّ به إلَّا بالطَّلب، فلعلَّه ألَّا يطلبه،

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

كتب على هامش (ن): (لأنَّ ثبوته إنَّما يكون بمطالبته).

(3)

في (ب): تأخر.

(4)

كتب على هامش (ن): (يعني: بعد الحجر عليه من الحاكم).

(5)

هو الشالنجي، وتقدمت ترجمته ص .....

(6)

قوله: (عندنا) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن).

(7)

يشير إلى حديث أخرجه البخاري (2402)، ومسلم (1559)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس - أو إنسان قد أفلس - فهو أحق به من غيره» .

ص: 379

فقلت: أرأيت إن طلبه منه؛ فلم يدفعه إليه؟ قال: فلا يجوز بيعه ولا هبته ولا صدقته بعد الطَّلب.

ونقل عنه إسماعيل أيضاً كلاما يدلُّ على أنَّ مطالبة البائع تثبت إمَّا بتفليس الحاكم، أو باشتهار فلسه بين النَّاس.

وكذلك نقل عنه محمَّد بن موسى الدَّنْداني

(1)

(2)

أنَّ اشتهار

(3)

فلسه بظهور أماراته يمنع نفوذ تصرُّفاته مطلقاً

(4)

.

ومنها: لو وَجَد مضطرًّا وعنده طعام فاضل، فبادر فباعه أو رهنه؛ هل يصحُّ؟

قال أبو الخطاب في «الانتصار» في الرَّهن: يصحُّ، ويستحقُّ أخذه من يد المرتهن، والبائع مثله، ولم يفرق بين ما قبل الطلب وبعده.

والأظهر: أنَّه لا يصح بيعه بعد الطلب؛ لوجوب الدفع، بل ولو

(1)

في (أ) و (و): الزيداني. وفي (هـ): الدَّيدانيُّ.

ومحمد بن موسى الدنداني نقل عنه أبو يعلى رواية في الروايتين والوجهين (1/ 374)، ولم نقف على ترجمته، ولعله ابنٌ لموسى بن سعيد بن النعمان بن بسام الثغري، أبي بكر الطرسوسي، المعروف بالدنداني، كانت عنده مسائل حسان عن الإمام أحمد. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 332، تهذيب التهذيب 10/ 345.

(2)

وكتب على هامش (ن): (موسى بن سعيد الدَّندانيُّ ذكره ابن الجوزي فيمن روى عن أحمد، ولم يذكر ولده محمَّداً هذا، ونسبته بدالين مهملتين مفتوحتين بينهما نون ساكنة، وبعد الألف نون أخرى).

(3)

في (ب): إشهار.

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: سواء كان قبل طلب البائع أو بعده).

ص: 380

قيل: لا يصحُّ بيعه مطلقاً مع علمه باضطراره؛ لم يبعد؛ لأنَّ بذله له واجب بالثمن، فهو كما لو طالب الشَّفيع بالشُّفعة وأولى؛ لأنَّ هذا يجب بذله ابتداء لإحياء النَّفس.

وقد يفرَّق بأن الشَّفيع حقه منحصر

(1)

في عين الشِّقص، وهذا حقُّه في سدِّ الرَّمق، ولهذا كان إطعامه فرضاً على الكفاية، فإذا نقله إلى غيره؛ تعلَّق الحقُّ بذلك الغير، ووجب البدل عليه.

وأمَّا ما تعلَّق به حقٌّ مجرَّد؛ فيندرج تحته مسائل متعدِّدة:

منها: بيع النِّصاب بعد الحول؛ فإنَّه يصحُّ، نصَّ عليه؛ لأنَّ الوجوب إن كان متعلِّقاً في الذمة وحدها فلا إشكال، وإن كان في العين وحدها؛ فليس بمعنى الشَّركة، ولا بمعنى انحصار الحقِّ فيها، ولا تجوز

(2)

المطالبة بالإخراج منها عيناً مع وجود غيرها، فلا يتوجَّه انحصار الاستحقاق فيها بحال.

ومنها: بيع الجاني، يصحُّ في المنصوص، وهو قول أكثر الأصحاب، وسواء

(3)

طالب المجنيُّ عليه بحقه أو لا؛ لأنَّ حقه ليس في ملك العبد، ولو كان كذلك لملكه ابتداء، وإنَّما وجب له أرش جنايته، ولم يجد محلًّا يتعلَّق به الوجوب سوى رقبة العبد الجاني؛ فانحصر الحقُّ فيها بمعنى الاستيفاء منها، فإن رضي المالك

(4)

ببذله

(1)

في (أ): مستحصر. وكتب فوقها في (د): متعيِّنٌ.

(2)

في (ب) و (هـ): ولا يجوز.

(3)

في (ب): سواء.

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: مالك العبد).

ص: 381

جاز، وإلَّا فإنَّما له أقل الأمرين من قيمة الجاني أو أرش جنايته، فأيُّهما بُذِل له؛ لزمه قبوله، والمطالبة منه

(1)

إنَّما تتوجَّه بحقِّه، وحقُّه هو أرش الجناية لا ملك رقبة العبد على الصَّحيح، فلا يتوجَّه المنع من التَّصرُّف فيه

(2)

؛ لأنَّ تسليمه إليه

(3)

لم يتعيَّن.

ومنها: من ملك عبداً من الغنيمة، ثمَّ ظهر سيِّده، وقلنا: حقُّه ثابت فيه بالقيمة، فباعه المغتنم قبل أخذ سيِّده؛ صحَّ، ويملك السيد انتزاعه من الثَّاني

(4)

.

وكذلك لو رهنه؛ صحَّ، ويملك السَّيِّد انتزاعه من المرتهن، ذكره أبو الخطاب في «الانتصار» أيضاً، ولم يفرق بين أن يطالب

(5)

بأخذه أو لا.

والأظهر: أنَّ المطالبة تقطع التَّصرُّف؛ كمطالبة الشَّفيع.

ومنها: تصرُّف الورثة

(6)

في التَّركة المتعلِّق بها حقُّ الغرماء، وفي صحَّته وجهان: أصحُّهما: الصِّحَّة

(7)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: من المجني عليه).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: العبد الجاني).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: إلى المجني عليه).

(4)

كتب على هامش (ن): (يعني: بثمنه).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: السَّيِّد).

(6)

في (ب): التَّورثة.

(7)

قال في الإنصاف (13/ 331): (وإنما يجوز لهم التصرف بشرط الضمان. قاله القاضي).

ص: 382

وعلى المنع ينفذ بالعتق كالرَّهن.

واختار ابن عقيل في «نظريَّاته» : أنَّه لا ينفذ إلَّا مع يسارهم؛ لأنَّ تصرُّفهم تبع لتصرُّف الموروث في مرضه، وهذا متوجه على قولنا: إن حقَّ الغرماء تعلق بالتَّركة في المرض.

ومنها: تصرف الزوجة في نصف الصداق بعد الطلاق إذا قلنا: لم يدخل في ملك الزوج قهراً

(1)

.

قال صاحب «التَّرغيب» : يحتمل وجهين؛ لتردُّده بين خيار البيع

(2)

وبين خيار الواهب.

ومنها: تصرُّف من وهبه المريض ماله كلَّه في مرضه قبل موته؛ فيجوز

(3)

، وينفذ حتى لو كان أمة كان له وطؤها، ذكره القاضي في «خلافه» .

(1)

كتب على هامش (ن): (والمذهب: أنَّه يدخل في ملكه قهراً).

(2)

قال ابن نصر الله رحمه الله: فإنَّ تصرُّف البائع والمشتري فيه في مدَّة الخيار لا يصحُّ، لكن تصرُّف البائع فسخ للبيع، وتصرُّف المشتري إسقاط لخياره، وسيأتي في القاعدة الَّتي تلي هذه ذكر هذه المسألة بعينها، وأنَّ صاحب «المحرَّر» صرَّح أنَّه لا يجوز تصرُّفها، فيُعجَب من المصنِّف كونه لم يذكر قول صاحب «المحرَّر» هنا، وذكر قول صاحب «التَّرغيب» المردَّد، وأبعد النجعة في ذلك.

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني: قبل الموت على الصَّحيح).

ص: 383

واستبعده الشَّيخ تقيُّ الدِّين

(1)

؛ لأنَّه يتوقَّف على إجازة الورثة

(2)

؛ فكيف يجوز قبلها؟!

وقد يقال: هو في الظَّاهر ملكه بالقبض، وموت الواهب وانتقال الحقِّ إلى ورثته مظنون؛ فلا يمنع التَّصرُّف.

وأما تصرُّف المشتري في مدة الخيار له وللبائع؛ فالمنصوص عن أحمد: أنه موقوف على إمضاء البيع

(3)

(4)

، وكذلك ذكره أبو بكر في «التَّنبيه» ، وهو ظاهر كلام القاضي في «خلافه» ؛ لأنه تصرف

(5)

في خالص ملكه

(6)

، ولم يتعلَّق به سوى حق البائع في الفسخ، وقد زال

(7)

، فأشبه تصرُّف الابن فيما وهبه له الأب؛ غير أنَّ تصرف الابن لا يقف على

(1)

ينظر: الاختيارات ص 277.

(2)

كتب على هامش (ن): (يعني: فيما زاد على الثُّلث).

(3)

في (ب): البائع.

(4)

كتب على هامش (ن): (المعروف أنَّه لا يصحُّ، بل يكون إمضاء ورضًى بالبيع).

(5)

كتب على هامش (ن): (يعني: من البائع، ولا يصحُّ تصرُّف المشتري إذا كان الخيار لهما أو للبائع، إلَّا بإذن البائع أو معه على الصَّحيح من المذهب).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: فينفذ، لكن بإذن البائع أو معه على المذهب).

(7)

كتب على هامش (ن): (أي: بإمضاء البائع له ورضاه به).

ص: 384

إمضاء الأب؛ لأنَّ حق الأب في الفسخ يسقط بانتقال الملك

(1)

، ولأنَّ تسلُّط الأب على الرجوع

(2)

لم يكن لبقاء أثر ملكه، بل هو حقٌّ ثابت بالشرع مع ثبوت ملك الولد واستقراره؛ فلا يمنع التصرف.

وطَرْدُ هذا: في كلِّ من تصرف في ماله وقد تعلق به حق غيره؛ لا يبطل من أصله؛ كتصرف المريض فيما زاد على ثلث ماله؛ فإنَّه يقف على إمضاء الورثة، وعتق المكاتب لرقيقه يقف على تمام ملكه بالعتق، ذكره أبو بكر في «الخلاف» .

وكذا ذكر أبو الخطاب في «انتصاره» في مسألة إجازة الورثة: أنَّ تصرُّف الرَّاهن يصح ويقف على إجازة المرتهن.

وذكر الشَّيخ مجد الدين: أن هذا قول من يقول بوقف تصرف الفضولي.

وذكر أبو الخطاب أيضاً: أن تصرف المشتري في الشِّقص المشفوع يصح ويقف على إجازة الشفيع.

(1)

كتب على هامش (ن): (يعني: وحقُّ البائع إذا كان الخيار له أو لهما؛ لا يسقط بانتقال الملك).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: فيما وهبه الولد).

ص: 385

‌قاعدة [54]

من ثبت له حقٌّ في عين وسقط بتصرُّف غيره فيها؛ فهل يجوز للمتصرِّف فيها الإقدام على التصرف المسقط لحق غيره قبل استئذانه أم لا

؟

هذا على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون الحقُّ الذي سقط

(1)

بالتصرف قد أخذ به صاحبه وتملَّكه.

والثَّاني: أن يكون قد طالب به صريحاً أو إيماء.

والثَّالث: أن يثبت له الحقُّ شرعاً، ولم يأخذ به، ولم يطالب به.

فأمَّا الأول: فلا يجوز إسقاط حقِّه ولو ضمنه بالبدل؛ كعتق العبد المرهون - إذا قلنا بنفوذه على المشهور من المذهب -؛ فإنَّه لا يجوز، ذكره غير واحد من الأصحاب، منهم صاحب «الكافي» والقاضي وابن عقيل، مع أنَّ عتقه يوجب ضمان قيمته تكون

(2)

رهناً؛ لأنَّ فيه إسقاطاً لحقه القائم في العين بغير رضاه.

(1)

في (ي) وبقية النسخ: يسقط.

(2)

في (أ) و (و): يكون.

ص: 386

وكذلك إخراج الرهن بالاستيلاد محرَّم

(1)

، ولأجله منعنا أصل الوطء.

وكذلك ينبغي أن يكون عتق المفلس

(2)

المحجور عليه إذا نفذناه؛ لأنَّ غرماءه قد قطعوا تصرُّفه فيه بالحجر وتملَّكوا المال، وقد ذكره

(3)

ابن عقيل أيضاً في تبذيره قبل الحجر.

وذكر القاضي في «خلافه» : أنَّ ظاهر كلام أحمد جواز عتق الرَّاهن؛ كاقتصاصه من أحد عبديه المرهونين إذا قتل الآخر، ولم يذكر بذلك نصًّا، ولعلَّه أخذه من قوله بنفوذ العتق، ولا يدلُّ

(4)

.

وأمَّا اقتصاص الرَّاهن من العبد المرهون أو من قاتله

(5)

؛ فقد صرَّح القاضي وابن عقيل: بأنَّه لا يجوز؛ لأنَّ فيه تفويتاً لحق المرتهن من عين الرهن أو قيمته الواجبة له؛ وأوجبا على الراهن قيمته تكون رهناً.

وصرَّحا أيضاً ههنا: بأنَّ العتق لا يجوز، وإنَّما ذكرا جوازه في مسألة العتق.

وظاهر كلام أحمد: جواز القصاص.

(1)

في (أ) و (هـ): يحرم.

(2)

كتب على هامش (ن): (ومثله عتق السَّفيه).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: تحريم عتق المفلس).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: نفوذ العتق على الجواز).

(5)

كتب على هامش (ن): (يعني: إذا جُني عليه).

ص: 387

فيكون الفرق بين القصاص والعتق: أنَّ وجوب القصاص تعلَّق بالعبد تعلُّقاً يقدَّم به على حق المرتهن، بدليل أن حق الجاني مقدَّم على المرتهن لانحصار حقِّه فيه، بخلاف المرتهن، وهذا مفقود في العتق.

وأمَّا الثَّاني: فلا يجوز أيضاً، ومنه: خيار البائع المشترط في العقد لا يجوز للمشتري إسقاطه بالتَّصرُّف في المبيع

(1)

ولو قلنا: إن الملك له

(2)

؛ فإن اشتراط الخيار في العقد تعريض بالمطالبة بالفسخ.

وأمَّا الثَّالث: ففيه خلاف، والصَّحيح: أنَّه لا يجوز أيضاً، ولهذا لم يجز إسقاط خياره الثابت في المجلس بالعتق ولا غيره، كما لو اشترطه.

ويندرج في صور الخلاف مسائل:

منها: مفارقة أحد المتبايعين للآخر في المجلس بغير إذنه خشية أن يفسخ الآخر، وفيه روايتان:

إحداهما: يجوز؛ لفعل ابن عمر

(3)

.

والثَّانية: لا يجوز

(4)

؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: بالعتق).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا، أو يكون البيع خيارًا» قال نافع: وكان ابن عمر إذا اشترى شيئًا يعجبه فارق صاحبه. أخرجه البخاري (2107)، ومسلم (1531)، واللفظ للبخاري.

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب)، وكتب آخر عليها:(وإن كان يسقط به خيار الآخر على الصَّحيح من المذهب).

ص: 388

أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ولا يحلُّ له أن يفارقه خشيةَ أن يستقيله»

(1)

، وهو صريح في التحريم، وهي اختيار أبي بكر وصاحب «المغني» .

ومنها: تصرُّف المشتري في الشقص المشفوع بالوقف قبل الطلب، ينبغي أن تخرَّج على الخلاف في الَّتي قبلها.

وصرح القاضي بجوازه.

وظاهر كلامه في مسألة التَّحيُّل على إسقاط الشفعة تحريمه، وهو الأظهر

(2)

، ويدلُّ عليه:«أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الشَّريك حتى يعرض على شريكه ليأخذ أو يذر»

(3)

، مع أنَّ حقَّه من الأخذ لا يسقط بذلك، فأولى أن ينهى

(4)

عمَّا يُسقِط حقَّه بالكليَّة.

ومنها: وطء العبد زوجته الأمة إذا عَتَقَت ولم تعلم

(5)

بالعتق؛ ليسقط اختيارها للفسخ؛ الأظهر تخريجه على الخلاف أيضاً

(6)

.

(1)

أخرجه أحمد (6721)، وأبو داود (3456)، والترمذي (1247)، والنسائي (4483).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

أخرج مسلم (1608) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشفعة في كل شرك، في أرض أو ربع أو حائط، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه، فيأخذ أو يدع، فإن أبى؛ فشريكه أحق به حتى يؤذنه» .

(4)

في (ب): ينتهي.

(5)

في (أ): يعلم.

(6)

علق عليه في الإنصاف (20/ 460): (يعني الذي ذكره في أصل القاعدة، فإنه لا يجوز الإقدام عليه).

ص: 389

وقال الشَّيخ مجد الدين في «تعليقه على الهداية» : قياس مذهبنا جوازه. وفيما قاله نظر.

ومنها: تصرُّف الزوجة في نصف الصَّداق إذا طلق الزوج قبل الدُّخول، وقلنا: لم يملكه قهراً؛ فإنَّه لا يجوز، صرَّح به في «المحرَّر» .

فأما تصرف أحد المتبايعين فيما بيده من العوض إذا استحقَّ الآخر ردَّ ما بيده بعيب أو خُلْفٍ في صفة

(1)

؛ فيجوز، ذكره القاضي في «خلافه» ؛ لأنَّ تصرُّفه لا يمنع حقَّ الآخر من رد ما بيده، فإذا رده استحق الرُّجوع بالعوض الَّذي بذله إن كان باقياً، وإلَّا رجع ببدله.

وقياس هذا: أنَّ للبائع التصرف في الثَّمن في مدَّة الخيار

(2)

(3)

.

وظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم: أنَّ للبائع التَّصرُّف في الثمن في مدَّة الخيار، إلَّا أن يُتَّخذ حيلة على أن يقرض غيره مالًا ويأخذ منه ما ينتفع به على صورة البيع

(4)

ويشترط الخيار ليرجع فيه، وإن كان على غير وجه الحيلة، فيجوز، ولم يمنعه من التَّصرُّف في الثَّمن.

(1)

كتب على هامش (ن): (قبل فسخ المستحقِّ بالرَّدِّ).

(2)

في (أ): في مدته.

(3)

كتب على هامش (ن): (المذهب: أنَّ البائع ممنوع من التَّصرُّف في الثَّمن في مدَّة الخيار).

(4)

كتب على هامش (ن): (كيف ينتفع بما يأخذه على صورة البيع في مدَّة الخيار؟! فإنَّه ممنوع من الانتفاع واستخدامه إلَّا بقدر الاستعلام).

ص: 390

‌قاعدة [55]

من ثبت له حقُّ التملك بفسخ أو عقد؛ هل يكون تصرفه تملُّكاً أم لا؟ وهل ينفذ تصرفه أم لا

؟

المشهور من المذهب: أنَّه لا يكون تملُّكًا، ولا ينفذ، وفي بعض صورها خلاف.

ومن صور المسألة: البائع بشرط الخيار إذا تصرَّف في المبيع؛ لم يكن تصرُّفه فسخاً ولم ينفذ، نصَّ عليه، وقال في رواية ابن القاسم: لا يجوز عتق البائع؛ لأنَّه غير مالك له في ذلك الوقت، إنَّما له فيه خيار

(1)

، فإذا اختاره ثمَّ أعتقه؛ جاز، فأمَّا دون أن يردَّ البيع؛ فلا.

واختلف الأصحاب في المسألة على طرق:

أحدها: أنَّه لا يكون فسخاً رواية واحدة، وإنَّما ينفسخ بالقول، وهي طريقة أبي بكر، والقاضي في «خلافه» ، وصاحب «المحرر» ، وهي أصحُّ.

وقد نصَّ أحمد على أنَّ بيعه ليس بفسخ في رواية إسماعيل بن سعيد.

ونصَّ على أنه إذا وطئ؛ فعليه الحدُّ في رواية مهنَّى.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: خيار الفسخ).

ص: 391

والطَّريقة الثَّانية: أن المسألة على روايتين

(1)

، وهي طريقة القاضي في «كتاب الرِّوايتين» ، وأبي الخطاب، وابن عقيل، وصاحب «المغني» ، ورجَّحا أنَّه فسخ؛ لأنَّ ملك المشتري في مدة الخيار غير مستقر؛ فينفسخ بمجرَّد تصرف البائع، بخلاف بائع المفلس؛ لأنَّ ملك المفلس تامٌّ.

والطريقة الثالثة: أنَّ تصرُّفه فسخ بغير خلاف، كما أنَّ تصرُّف المشتري إمضاء وإبطال للخيار في المنصوص، وهي طريقة القاضي في «المجرد» ، والحلوانيِّ في «الكفاية» ، وهي مخالفة للمنصوص، ولا يصحُّ اعتبار فسخ البائع بإمضاء المشتري؛ لأنَّ ملك المشتري قائم وملك البائع مفقود.

والطَّريقة

(2)

الرابعة: أن تصرُّفه بالوطء فسخ بغير خلاف؛ لأنَّه اختيار، بدليل وطء من أسلم على أكثر من أربع نسوة، وبغيره فيه الخلاف، وهي طريقة صاحب «الكافي» .

وممَّن صرَّح بأن الوطء اختيارٌ: القاضي في «المجرد» ، وحكاه في «الخلاف» عن أبي بكر في «التَّنبيه» ، ولم أجده فيه.

ولا يصحُّ إلحاق وطء البائع بوطء من أسلم على أكثر من أربع نسوة؛ لأنَّ ملكه قائم؛ فكذلك كان الوطء اختياراً في حقِّه، فهو كوطء

(1)

كتب على هامش (ن): (والمذهب منهما: أنَّ تصرُّفه ليس بفسخ).

(2)

في (ب) و (د) و (و) و (ن): الطَّريقة.

ص: 392

المشتري ههنا، والبائع بخلافه، وقد نصَّ أحمد على أنَّ عليه الحدَّ في رواية مهنَّى

(1)

.

وأمَّا نفوذ التَّصرُّف؛ فممتنع على الأقوال كلِّها، صرَّح به الأكثرون من الأصحاب؛ لأنَّه لم يتقدمه ملك، اللَّهم إلَّا أن يتقدَّمه سبب يوجب الانفساخ كالسَّوم ونحوه.

وذكر الحلوانيُّ في «التبصرة» : أنَّه ينفذ، ويتخرَّج

(2)

من قاعدة لنا ستذكر إن شاء الله تعالى، وهي: أنَّه يكفي مقارنة شروط العقد للعقد في صحَّته.

ومنها: إذا باع أمة بعبد، ووجد بالعبد عيباً؛ فله الفسخ واسترجاع الأمة، وكذلك سائر السِّلع المعيبة إذا علم بها بعد العقد، وليس له التَّصرُّف في عوضه

(3)

الذي أداه؛ لأن ملك الآخر عليه تام مستقر، فلو أقدم وأعتق الأمة أو وطئها؛ لم يكن ذلك فسخاً، ولم ينفذ عتقه، ذكره القاضي في «خلافه» .

وذكر في «المجرَّد» وابن عقيل في «الفصول» احتمالاً آخر: أنَّ وطأه يكون استرجاعاً كما في وطء المطلَّقة الرجعية، ومن أسلم على أكثر من أربع نسوة.

وهذا واهٍ جدًّا؛ فإن الملك عن الرَّجعيَّة ومن أسلم عليهنَّ لم يزل،

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

في (ب): ومخرج.

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: قبل أن يفسخ).

ص: 393

وههنا قد زال

(1)

.

ومنها: لو باع أمة، ثمَّ أفلس المشتري قبل نقد الثمن والأمة موجودة بعينها، فله استرجاعها بالقول بدون إذن الحاكم على أصحِّ الوجهين، حكاهما القاضي؛ بناءً على نقض حكم الحاكم بخلافه

(2)

، فيكون كالفسخ المجمع عليه، فلا يحتاج إلى حاكم، ولو أقدم على التصرف فيها ابتداء

(3)

؛ لم ينفذ، ولم يكن استرجاعاً، وكذلك الوطء، ذكره القاضي في «الخلاف» ؛ لتمام ملك المفلس.

وفي «المجرَّد» و «الفصول» : أنَّ الوطء استرجاع، وأنَّ فيه احتمالاً آخر بعدمه

(4)

.

ويمكن تخريج هذا الخلاف في سائر التصرفات على طريقة من أثبت الخلاف في تصرف البائع في مدَّة الخيار؛ لأن ملك المفلس غير تامٍّ، بدليل منعه من التصرف في ماله لحقِّ البائع؛ فهو كالمشتري في مدَّة الخيار، غير أنَّ ضعف الملك هنا طارئ، وفي مدَّة الخيار مبتدأ،

(1)

كتب على هامش (ن): (ولو علَّل بأنَّ له حق الفسخ فكان وطؤه فسخاً، كالبائع في مدَّة الخيار؛ كان ظاهراً، وسيأتي التَّنبيه عليه).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: بخلاف استرجاع البائع للعين؛ يعني: أنَّه حكم بأنَّ البائع أسوة الغرماء بالثَّمن، والصَّحيح عندنا: أنَّه يجوز نقض هذا الحكم؛ لمخالفته لنصِّ السُّنَّة الصَّريح).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: من غير استرجاع بالقول).

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو الصَّحيح).

ص: 394

ولا أثر لذلك.

ومنها: تصرف الشَّفيع في الشقص المشفوع قبل التملك؛ هل يكون تملكاً، ويقوم ذلك مقام قوله: تملَّكته، أو مقام المطالبة عند من أثبت بها الملك، أو مقام الأخذ باليد عند من أثبت الملك به؟ يمكن تخريجه على الخلاف في المسألة الَّتي

(1)

قبلها، ولا سيَّما بعد المطالبة؛ لأنَّ حقَّه استقرَّ وثبت، وانقطع تصرُّف المشتري.

ومنها: لو وهب الأب لولده شيئاً، وقبضه الولد، ثمَّ تصرَّف الأب فيه بعد القبض؛ هل يكون تصرفه رجوعاً؟ المنصوص: أن لا، قال أحمد في رواية أبي طالب: إذا وهب لابنه جارية وقبضها الابن؛ لم يجز للأب عتقها حتَّى يرجع فيها، وقال في رواية ابن هانئ

(2)

: هذه الجارية للابن، وأعتق الأب ما ليس له.

وخرَّج أبو حفص البرمكي

(3)

في كتاب «حكم الوالدين في مال ولدهما» رواية أخرى: أنَّ العتق صحيح، ويكون رجوعاً، وسيأتي ذكر رجوع أصل هذا التَّخريج إن شاء الله تعالى

(4)

.

وفي «التلخيص» : لا يكون وطؤه رجوعاً، وهل يكون بيعه وعتقه

(1)

قوله: (الَّتي) سقط من (أ).

(2)

(2/ 12).

(3)

هو عمر بن أحمد بن إبراهيم، أبو حفص البرمكي، كان من الفقهاء والأعيان النساك الزهاد، ذو الفتيا الواسعة والتصانيف النافعة، من ذلك: المجموع، وشرح بعض مسائل الكوسج. ينظر: طبقات الحنابلة 2/ 153.

(4)

ينظر: ....

ص: 395

ونحوهما رجوعاً؟ على وجهين، ولا ينفذ عليهما؛ لأنَّه لم يلاق الملك، انتهى.

ويتخرَّج وجه بنفوذه؛ لاقتران الملك به كما سبق.

ومنها: لو تصرَّف الوالد في مال ولده الَّذي يباح له تملُّكه

(1)

قبل التَّملُّك؛ لم ينفذ، ولم يكن تملكاً على المعروف من المذهب، وإن تملكه لا يحصل بدون القبض الذي يراد به التملك، وقد نص عليه أحمد في مواضع

(2)

؛ لأنه مباح، فلم يُتملَّك بدون قبضه؛ كالاصطياد والاحتشاش.

ولم يخرجوا في تملكه بالقول بمجرده خلافاً من الهبة ونحوها؛ لأنَّ الهبة عقد من اثنين؛ فيكتفى فيه بالقبول؛ كعقد المعاوضة، وههنا

(1)

كتب على هامش (ن): (وهذا الملك أباحه له الشارع لا بفسخ وهو ظاهر، ولا بعقد، وصرَّح المصنِّف بذلك في أثناء الكلام على المسألة، حيث قال: "وههنا اكتساب مال مباح من غير عقد"، وإنَّما ذكر المصنِّف مسألة تصرُّف الأب في مال ولده الَّذي مباح له تملُّكه قبل التَّملُّك، هل يكون تملُّكاً أو لا؟ استطراداً، وإن لم يكن من جزئيات القاعدة؛ لأنَّه إنَّما فُرِض فيمن ثبت له حقُّ التَّملُّك بفسخ أو عقد، ولا كذلك تملَّك الوالد لمال ولده).

(2)

جاء في مسائل ابن هانئ (2/ 11): (قال ابن هانئ: سمعت أبا عبد الله يقول: الوالد إذا أعتق غلام ابنه لا يجوز ما لم يقبضه، وإذا قبضه وأعتق جاز، قال ابن هانئ: سمعت أبا عبد الله يقول: كل شيء يأخذ من مال ولده فيقبضه، فله أن يأكل ويُعتق).

ص: 396

اكتساب مال مباح من غير عقد؛ فلا يكتفى فيه بدون القبض والحيازة، وما لم يُحَز؛ فهو باق على ما كان عليه.

وخرَّج أبو حفص البرمكيُّ رواية أخرى بصحَّة تصرفه بالعتق قبل القبض، وأخذ ذلك ممَّا رواه المروذيُّ عنه أنَّه قال: لو أنَّ لابنه جارية فعتقها، كان جائزاً

(1)

.

وفي رواية محمَّد بن الحكم: يُعتق الأب في مال الابن، هو ملك الابن حتَّى يُعتق الأب أو يأخذ.

وفي رواية الميموني: أرى أنَّ ماله يؤخذ منه ويُعتَق منه؛ إلَّا أمَّ ولد ابنه

(2)

.

وفي

(3)

توجيه هذه الرِّواية

(4)

طريقان:

أحدهما: أنَّ رقيق الابن له

(5)

فيه شبهة ملك، ولذلك نفذ استيلاده فيه، فينفذ عتقه، كعتق أمة من المغنم، لكن لا يضمن؛ لأنَّ الأب لا يطالب بما أتلفه من مال ولده.

والثَّاني: أن يقال: وقع الملك مقارناً للعتق، فنفذ، وهذا

(6)

القدر

(1)

ينظر: بدائع الفوائد (3/ 97).

(2)

ينظر: بدائع الفوائد (3/ 97).

(3)

في (أ): في.

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: الرِّواية بعتق الأب رقيق ولده).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: الأب).

(6)

في (ب): هذا. وفي (و): فهذا.

ص: 397

من الملك يكتفى به في العتق، كما لو قال لغيره: أْعتِق عبدك عنِّي وعليَّ ثمنه، ففعل؛ صحَّ

(1)

ووقع العتق والملك معاً.

ونقل أبو طالب عن أحمد أنَّه قال: بيع الأب وشراؤه على ابنه جائز؛ لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»

(2)

، وظاهر هذه الرواية

(3)

جواز الإقدام على التصرف في ماله ونفوذه وحصول التملك به.

وفي «التَّنبيه» لأبي بكر: بيع الأب على ابنه، وعتقه، وصدقته، ووطء إمائه ولم

(4)

يكن الابن قد وطئ؛ جائز

(5)

، ويجوز له بيع عبيده وإمائه وعتقهم.

ولهذا القول مأخذان أيضاً:

أحدهما: أنَّ الملك يقترن بالتَّصرُّف، فينفذ كما في نظائره.

والثَّاني: أنَّ هذا تملُّك قهريٌّ في مال معين؛ فيكتفى فيه بالقول الدَّالِّ على التملك، كما تُملك الهبة المعينة بمجرد القبول على رواية،

(1)

في (ب): وصحَّ.

(2)

روي من حديث جماعة من الصحابة: الأول: حديث جابر: رواه ابن ماجه (2291). الثاني: حديث عائشة: رواه ابن حبان (410). الثالث: حديث سمرة: رواه البزار (4593)، والطبراني في الأوسط (7088). الرابع: حديث عمر: رواه البزار (295). الخامس: حديث ابن مسعود: رواه الطبراني (10019). السادس: حديث ابن عمر: رواه أبو يعلى (5731).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: رواية أبي طالب).

(4)

في (أ) و (و): لم. وفي (د) و (ن): ما لم.

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: جميع ما ذكر).

ص: 398

ولهذا حكى طائفة من الأصحاب في بيع المباحات النابتة والجارية في الأرض المملوكة قبل حيازتها روايتين، ولم يذكروا خلافاً في أنَّها غير مملوكة، وممَّن سلك هذا المسلك صاحب «المقنع» في كتاب البيع

(1)

، وصاحب «المحرر» .

ووجه صحة البيع على هذا: أنَّه مقدور على تسليمه، وليس ملكاً لغيره

(2)

؛ فهو كالمملوك له، وهو قريب من بيع الصِّكاك قبل استحقاقها، وقد تقدم الخلاف فيها

(3)

.

وأمَّا تصرُّف الأب في أمة ولده بالوطء قبل القبض:

فإن أحبلها؛ صارت أم ولد له.

وإن لم يحبلها، فإن قلنا: لا يملك الأب مال ولده إلَّا بالقبض؛ لم يملكها حتَّى يقبضها، وإن قلنا: يُملك

(4)

بمجرد التَّصرُّف؛ صارت ملكاً له بالوطء بمجرَّده.

ونقلت من خطِّ القاضي -وذكر أنه نقله من خط ابن شاقلا-: قال الشَّيخ - يعني: أبا بكر عبد العزيز-: روى الأثرم أن المرأة إذا وطئها زوجها وانقضت العدة ثمَّ تزوجت، فإن أتت بولد لستَّة أشهر، فتداعياه جميعاً: أُرِيَ القافةَ.

(1)

قوله: (في كتاب البيع) سقط من (أ).

(2)

كتب على هامش (ن): (قوله: "وليس ملكاً لغيره"، يصلح أن يكون فارقاً بين تصرُّف الأب في ملك ابنه، وبين بيع المباحات المذكورة).

(3)

ينظر .....

(4)

في (ب): يملكه.

ص: 399

وقال: إذا وطئ الرَّجل جارية ابنه وإن كان الابن قد وطئ؛ فلا حد على الأب؛ لأنَّها بنفس الوطء ملك له.

قال الشَّيخ

(1)

: في نفسي من مسألة الأثرم شيء، انتهى.

فإن كان قوله: (إذا وطئ الرَّجل جارية ابنه) إلى آخره من تمام رواية الأثرم؛ فيكون ذلك منصوصاً عن أحمد، وإلَّا فهو من كلام أبي بكر، وهو موافق لما ذكره في «التنبيه» كما حكيناه عنه

(2)

.

وقوله: (وإن كان الابن قد وطئ)؛ يريد أنَّ تملُّكها يثبت

(3)

مع وطء الابن.

فأمَّا ثبوت

(4)

الاستيلاد

(5)

؛ ففيه خلاف في

(6)

المذهب، ونقل ابن

(1)

في هامش (ب): (تقي الدين). وهو خطأ، بل المراد بالشيخ هنا: أبو بكر عبد العزيز كما سبق.

(2)

كتب على هامش (ن): (جوابٌ عن اعتراض يَرِد على المصنف في قوله: "وهو موافق لما ذكره في «التَّنبيه» "، فإنَّ الَّذي فيه: تقييد جواز وطء الأب جارية الابن إذا لم يكن الابن قد وطئ، وقال هنا: وإن كان الأب قد وطئ، فكيف يكون موافقاً لما في «التَّنبيه»؟ فأجاب: بأنَّ المراد أنَّ تملُّكها يثبت للأب مع وطء الابن، لا أنَّ ثبوت الاستيلاد يثبت له مع وطئه على الصَّحيح).

(3)

في (أ): ثبت. وفي (هـ): ثابت.

(4)

في (أ): وأمَّا موت.

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: للأب بعد وطء الابن، والمذهب: أنَّه لا يثبت له بعد وطء الابن).

(6)

في (أ): على.

ص: 400

منصور عن أحمد كلاماً يدلُّ بمفهومه على أنَّها لا تصير مستولدة له

(1)

، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى.

والمرجَّح عند صاحب «المغني» : أنَّها تصير مستولدة؛ لأنَّ التَّحريم لا ينافي الاستيلاد؛ كالأمة المشتركة، ولكن بينهما فرق، وهو أنَّ هذه محرَّمة

(2)

على التَّأبيد، بخلاف المشتركة.

وقد نصَّ أحمد على أن النسب لا يلحق بوطء الأمة المزوَّجة

(3)

؛ وإن كان زوجها صغيراً لا يولد لمثله

(4)

، في رواية حرب وابن بختان، وذكره أبو بكر وابن أبي موسى؛ فالمؤبَّدة التحريم

(5)

أولى.

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (4/ 1725): (قلت: قال سفيان في رجل وقع على جارية ابنه: إن حبلت كانت أم ولد، وإن لم تحبل إن شاء الابن باعها. قال أحمد: إذا كان الأب قابضاً للجارية، ولم يكن الابن وطئها فأحبلها الأب، فالولد ولده، والجارية له، وليس للابن منها شيء).

قال في المغني (10/ 475) بعد ذكره لهذه الرواية: (قال القاضي: فظاهر هذا، أن الابن إن كان قد وطئها، لم تصر أم ولد للأب باستيلادها).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: على الأب بوطء الابن).

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني: إذا وطئها السَّيِّد في حال التَّزويج، وأتت منه بولد؛ فإنَّ نسبه لا يلحق به وإن كانت ملكاً له؛ لأنَّها محرَّمة علىه حال الوطء وإن لم يكن تحريماً مؤبَّداً).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: فإنَّه إذا كان لا يولد لمثله، يتحقَّق أنَّه ليس منه، فلا يلحق به، ومع ذلك لا يلحقه بالواطئ فيضيع نسبه، بخلاف ما إذا كان الزَّوج يُولد لمثله، فإنَّه يحتمل أن يكون منه وأن يكون من الواطئ).

(5)

في (أ): للتحريم.

ص: 401

هذا كلُّه ما لم يكن الابن قد استولدها، فإن كان استولدها؛ لم ينتقل الملك فيها باستيلاد غيره؛ كما لا ينتقل بالعقود

(1)

.

وذكر ابن عقيل في «فنونه» : أنها تصير مستولدة لهما جميعاً، كما لو وطئ الشَّريكان أمتهما

(2)

في طهر واحد، وأتت بولد وألحقته القافة بهما.

ولكن في مسألة القافة حُكِم باستيلادها لهما دفعة واحدة، وفي مسألتنا قد ثبت استيلاد الابن أوَّلًا لها، فلا ينتقل إلى غيره، إلَّا أن يقال: أمُّ الولد تملك بالقهر

(3)

على رواية، والاستيلاد سبب قهريٌّ.

ومنها: تصرُّف السَّيِّد في مال عبده الَّذي ملَّكه إيَّاه وقلنا: يملكه

(4)

، ظاهر كلام أحمد: أنَّه ينفذ، ويكون استرجاعاً؛ لتضمُّنه إيَّاه.

وذكر القاضي في «الجامع» : أنَّه يحتمل حمله على أنَّه سبق رجوعُه التَّصرفَ؛ لينفذ.

ومنها: تصرُّف الموصى له بالوصية

(5)

بعد الموت؛ هل يقوم مقام القبول؟

(1)

كتب على هامش (ن): (كالبيع والهبة).

(2)

في (أ): (وطئاها) بدل قوله: (وطئ الشَّريكان أمتهما)، وفي (هـ): وطئها المشتركان أمتهما.

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني: استيلاء الكفَّار عليها بالغلبة، وفي ملكها لهم بذلك روايتان، والصَّحيح: أنَّهم يملكونها به).

(4)

قوله: (وقلنا يملكه) سقط من (أ).

(5)

في (ب) و (د) و (هـ) و (ن): في الوصيَّة.

ص: 402

الأظهر: قيامه مقامه؛ لأنَّ سبب الملك

(1)

قد استقرَّ له استقراراً لا يمكن إبطاله، وقد ملك بالموت على أحد الوجوه، وهو منصوص عن أحمد.

ومثله: الوقف على معيَّن إذا قيل باشتراط قبوله

(2)

.

فأمَّا العقود الَّتي تُملِّك موجِبَها الرُّجوعَ فيها قبل القبول

(3)

؛ فهل يقوم التَّصرُّف

(4)

فيها مقام القبول؟ فيه تردُّد يلتفت إلى انعقاد العقود بالمعاطاة

(5)

.

فأمَّا الوكالة؛ فيصحُّ قبولها بالفعل، صرَّح به الأصحاب؛ لأنَّها إذن مجرَّد وأمر بالتَّصرُّف، فيصح امتثاله بالفعل، وهل يساويها في ذلك سائر العقود الجائزة؛ كالشَّركة والمضاربة والمساقاة؟

ظاهر كلام صاحب «التلخيص» أو صريحه: المساواة

(6)

.

وحكى القاضي في «الأحكام السُّلطانيَّة» في صحَّة قبول القاضي القضاء بشروعه في النَّظر: احتمالين، وجعل مأخذهما: هل يجري

(1)

كتب في هامش (ن): (وهو موت الموصى).

(2)

كتب على هامش (ن): (يعني: فيقوم تصرُّفه مقام قبوله).

(3)

كتب على هامش (ن): (كالهبة).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: من القابل؛ كالموهوب له).

(5)

قوله: (يلتفت إلى انعقاد العقود بالمعاطاة) سقط من (أ).

(6)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 403

الفعل مَجرى النُّطق؛ لدلالته عليه؟

ويحسن بناؤهما على أن: ولاية القضاء عقد جائز

(1)

أو لازم؟

ومنها: المطلقة الرَّجعية؛ هل تحصل رجعتها بالوطء؟ على روايتين، مأخذهما عند أبي الخطاب: الخلاف في وطئها؛ هل هو محرَّم أو مباح؟

والصَّحيح: بناؤه على اعتبار الإشهاد للرَّجعة وعدمه، وهو البناء المنصوص عن الإمام، ولا عبرة بحلِّ الوطء ولا عدمه، فلو وطئها في حيض أو غيره؛ كانت رجعة

(2)

.

وهل يشترط أن ينوي بالوطء الرَّجعة أم لا؟

نقل ابن منصور عن أحمد اعتباره، وهو اختيار ابن أبي موسى.

والمذهب عند القاضي ومن اتَّبعه: خلاف ذلك.

ولكنَّ الرَّجعيَّة لم يَزُل النِّكاح عنها بالكليَّة

(3)

، وإنَّما حصل له تشعُّثٌ، لكنَّ الرَّجعة يترتَّب عليها الاستباحة حقيقة في المدَّة الزَّائدة على مدَّة العدَّة.

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

في (أ) و (د) و (هـ): رجعية.

(3)

كتب على هامش (ن): (وحينئذ؛ فتخرج المسألة عن كونها من جزئيات القاعدة).

ص: 404

‌قاعدة [56]

شروط العقود، من

(1)

أهليَّة العاقد والمعقود له أو عليه

، إذا وجدت مقترنة بها ولم تتقدَّم عليها؛ هل يكتفى بها

(2)

في صحَّتها، أم لا بدَّ من سبقها؟

المنصوص عن أحمد: الاكتفاء بالمقارنة في الصِّحَّة.

وفيه

(3)

وجه آخر: لا بدَّ من السبق، وهو اختيار ابن حامد والقاضي في الجملة.

ويتخرَّج على ذلك مسائل قد ذكرنا عدَّة منها في القاعدة السَّابقة:

ومنها: إذا أعتق أمته وجعل عتقها صداقها؛ فالمنصوص الصِّحَّة؛ اكتفاء باقتران شرط النِّكاح - وهو الحريَّة - به

(4)

كما دلَّت عليه السُّنَّة الصَّحيحة

(5)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (للبيان).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: غير متقدِّمة، بل مقارنة).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: فيما ذكره).

(4)

قوله: (به) سقط من (أ) و (و).

(5)

يشير إلى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها» أخرجه البخاري (5086)، ومسلم (1365).

ص: 405

واختار ابن حامد والقاضي: عدم الصِّحَّة؛ فمنهم من مأخذه انتفاء لفظ النِّكاح الصَّريح، وهو ابن حامد، ومنهم من مأخذه انتفاء تقدُّم الشرط.

ومنها: لو باعه شيئاً بشرط أن يرهنه على ثمنه؛ صحَّ، نص عليه

(1)

.

وقال ابن حامد والقاضي: لا يصح؛ لانتفاء سبق الملك للرهن، ولا تكفي المقارنة

(2)

.

ومنها: لو كاتب عبده وباعه شيئاً صفقة واحدة، ففيه وجهان:

أحدهما: أنَّه يصحُّ

(3)

، وقيل: إنه المنصوص، وذكره القاضي وابن عقيل في «النكاح» ، وأبو الخطاب والأكثرون؛ اكتفاء باقتران البيع وشرطه، وهو كون المشتري مكاتباً تصحُّ معاملته للسَّيِّد.

والوجه الثَّاني: لا يصح

(4)

، قاله القاضي وابن عقيل في البيوع؛ لأنَّ الكتابة لم تسبق عقد البيع.

ومنها: لو ادَّعى أنَّه وكيل لزيد، وأن لزيد على فلان ألفاً، وأقام البينة بالوكالة والدَّين في حالة واحدة، فهل يقبل ويدفع إليه المال، أم

(1)

قال في المغني (4/ 285): (وروي عن أحمد، أنه قال: إذا حبس المبيع ببقية الثمن، فهو غاصب، ولا يكون رهنًا إلا أن يكون شرطًا عليه في نفس البيع. وهذا يدل على صحة الشرط؛ لأنه يجوز بيعه، فجاز رهنه).

(2)

كتب على هامش (ن): (قياساً على ما تقدَّم من اشتراط السَّبق في الأهلية).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: البيع).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: لا يصحُّ البيع، وهو المذهب).

ص: 406

لا بدَّ من تقدُّم ثبوت الوكالة على ثبوت الدَّين؟

قال القاضي في «خلافه» : يحتمل وجهين، والأشبه اعتبار تقدُّم الوكالة؛ لأنَّه ما لم يثبت وكالته

(1)

لم يجب الدَّفع إليه.

واستشهد للقبول: بما لو شهدا أنَّه ابتاع من فلان داراً وهو مالك لها، فإنَّه يصحُّ شهادتهما بالبيع والملك في حالة واحدة.

ومنها: لو قال: إذا تزوَّجت فلانة، فقد وكَّلتك في طلاقها؛ ففي «التلخيص»: قياس المذهب صحَّتُه.

ويتخرَّج وجه آخر: أنَّه لا يصحُّ؛ لاقتران الوكالة وشروطها

(2)

؛ إذ شرطها أن يكون الموكِّل مالكاً لما وكِّل فيه، وملك الطَّلاق يترتَّب على النِّكاح، فيقارن الوكالة.

ومنها: لو وجدت الكفاءة في النِّكاح حال العقد، بأن يقول سيِّد العبد بعد إيجاب النِّكاح له: قبلت له النكاح وأعتقته؛ فقال الشيخ تقي الدين: قياس المذهب الصِّحَّة، قال

(3)

: ويتخرَّج فيه وجه آخر بمنعها

(4)

.

فأمَّا اقتران الحكم مع شرطه في غير عقد؛ هل يثبت به الحكم أم لا؟ يتخرَّج عليه مسائل:

منها: صحة الوصية لمن يثبت أهلية ملكه بالموت؛ كأمِّ ولده

(1)

في (أ) و (ن): وكالة.

(2)

في (ب): لا يصح اقتران الوكالة وشرطها.

(3)

في (ب) و (د) و (و): وقال.

(4)

الاختيارات ص 302.

ص: 407

ومدبَّره، فإنَّ السَّبب المستحَقَّ به هو الإيصاء، وشرط الاستحقاق هو الموت، وعليه يترتَّب الاستحقاق

(1)

، وقد اقترن به وجود أهلية المستحِقِّ؛ فيكفي في ثبوت الملك.

هذا إذا قلنا: إنَّ الوصية تملك بالموت من غير قبول.

وإن قلنا: تتوقَّف

(2)

على القبول - وهو المشهور -؛ فإنَّ القبول يتأخر عن أهلية الاستحقاق، فيصح القبول حينئذ، ولا يضر فوات أهليته عند الموت، فإنَّه لو قال: أَعتقوا عنِّي عبداً وأعطوه كذا؛ لصحَّت هذه الوصيَّة.

ومنها: إذا وجدت الحريَّة عقب موت الموروث أو معه، كما لو قال لعبده: إن مات أبوك فأنت حرٌّ، وكان أبوه حرًّا فمات، أو دبَّر ابن عمه ثمَّ مات؛ فإنَّه لا يرث، ذكره القاضي وصاحب «المغني» ، وعلَّله: بأنَّ المانع

(3)

لا يؤثِّر زواله حال الاستحقاق، كما لا يؤثِّر وجوده

(4)

عندنا في إسلام الطفل بموت أبويه

(5)

.

وقال الشيخ تقي الدين: ينبغي أن يخرَّج على الوجهين فيما إذا

(1)

كتب على هامش (ن): (فالاستحقاق هو المراد بالحكم، وأهليَّة المستحق - وهي كونه حرًّا - هو الشَّرط).

(2)

في (ب): يتوقَّف.

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو الرِّقُّ).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: وجود المانع، وهو الإسلام في مسألة الطِّفل، فإنَّه مانع من الإرث، لكن وجوده مقارن للاستحقاق؛ أي: استحقاق الإرث، فلا يؤثِّر في المنع منه، بل يرث مع الحكم بإسلامه).

(5)

قال ابن نصر الله رحمه الله: كما إذا كاتب عبده وباعه شيئاً صفقة واحدة.

ص: 408

حدثت الأهلية مع الحكم، هل يكتفى بها، أم يشترط تقدُّمها؟ فإن قلنا: تكفي المقارنة؛ ورث؛ لأنَّه صار حرًّا ومالكاً في زمن واحد

(1)

، انتهى.

ولا يقال: هذا يفضي إلى اقتران العلَّة ومعلولها، وهو عندكم باطل؛ لأنَّا نقول: علَّة الإرث وسببه هو النَّسب، وهو سابق على الموت، وإنَّما الحريَّة شرط له.

ومنها: عدَّة أم الولد

(2)

إذا توفِّي سيِّدها؛ هل هي عدَّة حرة أو أمة؟

وأكثر الروايات عن أحمد: أنها تعتد عدَّة أمة، وقال: لو اعتدت عدة حرة؛ لورثت

(3)

، ثمَّ توقَّف

(4)

في ذلك

(5)

، وقال

(6)

: دخلني منه شيء

(7)

.

(1)

الاختيارات ص 283.

(2)

كتب على هامش (ن): (في تسمية أم الولد معتدَّة من سيِّدها نظر).

(3)

قال صالح في مسائله (439): (وسألته عن عدة أم الولد، قال: حيضة، يذهب إلى أنها أمة، قال: لو كان عدتها أربعة أشهر وعشرًا ورثت).

(4)

في (ب): ثَمَّ توقيف.

(5)

كتب على هامش (ن): (إنَّما انتفى التَّوارث لانتفاء سببه، وهو النِّكاح والنسب والولاء).

(6)

في (أ): فقال.

(7)

جاء في مسائل أبي داود (ص 254): (سمعت أحمد، وسئل عن عدة أم الولد، قال: عن ابن عمر: "حيضة "، وأَجْبُن أن أقول فيه).

ص: 409

وقال مرَّة: تعتدُّ عدَّة حرَّة

(1)

؛ اكتفاء بالحرِّيَّة المقارنة لوجوب العدة، ولزوم مقارنة العلة للمعلول هنا أظهر، ولا يلزم؛ لأنَّ سبب العدَّة هنا

(2)

الاستفراش السَّابق والموت شرطها، والحريَّة شرط للعدة بالشهور، ومن ههنا لم يلزم التَّوريث؛ لأنَّ سببه منتفٍ بالكليَّة، وهو النكاح والنسب والولاء.

(1)

جاء في الروايتين والوجهين (2/ 228): (مسألة: في أم الولد إذا مات عنها سيدها ففيها روايتان: إحداهما: تعتد أربعة أشهر وعشراً، نقلها محمد بن العباس، وأومأ إلى ذلك في رواية أحمد بن القاسم فقال: كنت أقول: حيضة، ثم دخلني منه شك).

(2)

قوله: (هنا) سقط من (ب).

ص: 410

‌قاعدة [57]

إذا تقارن الحكم ووجود المنع منه

(1)

؛ فهل يثبت الحكم أم لا

؟

المذهب المشهور: أنَّه لا يثبت.

وقال ابن حامد: يثبت.

وإن تقارن الحكم ووجود المانع منه؛ فهل يثبت الحكم معه؟ فيه وجهان:

واختيار القاضي في «المجرد» ، وابن عقيل في «الفصول» ، وصاحب «المغني»: أنَّه لا يثبت.

واختار القاضي في «خلافه» ، وفي «الجامع الكبير»: أنَّه يثبت، وكذلك ابن عقيل في «عمد الأدلَّة» وأبو الخطَّاب.

فأمَّا اقتران الحكم والمنع منه؛ فيندرج تحته مسائل:

منها: لو قال الزَّوج لامرأته: أنت طالق مع انقضاء عدَّتك، أو

(1)

كتب على هامش (ن): (المنع أثر المانع؛ كالبينونة المترتبة على الموت، فالمانع من وقوع الطَّلاق هو الموت، والمنع هو البينونة، ووقوع الطَّلاق المرتَّب على الولادة مقارن للبينونة الَّتي هي أثر الولادة الَّتي تنقضي بها العدَّة، ويتَّضح ذلك من كلام المصنِّف في مسألة عتق الأمة وزوجها معاً، كما يأتي قُبيل ذكر المسألتين المشكلتين).

ص: 411

قال: كلَّما ولدت ولداً فأنت طالق، فولدت ولدين متعاقبين

(1)

؛ فإنها تطلق بالأول، وتنقضي العدة بالثاني ولا تطلق به، كما لا تطلق في قوله: مع انقضاء عدَّتك، هذا المذهب المشهور، وعليه أبو بكر وأبو حفص والقاضي وأصحابه، والخلاف فيه مع ابن حامد وحده.

وفي «الفصول» يشير إلى أنَّ مأخذ ابن حامد في مسألة الولادة: القول بتقارن العلَّة ومعلولها؛ فيقع الطَّلاق في حال الولادة قبل البينونة.

ولا يصحُّ

(2)

؛ لأنَّ البينونة معلول للولادة، فلو اقترنت العلَّة ومعلولها؛ لبانت مع الولادة أيضاً

(3)

.

ومنها: لو قال: أنت طالق بعد موتي

(4)

؛ لم تطلق بغير خلاف نعلمه.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: وضعت ولدين متعاقبين من حمل واحد؛ لا رجعة بينهما).

(2)

كتب على هامش (ن): (القول بتقارن العلَّة ومعلولها المترتِّب على وقوع الطَّلاق حال الولادة قبل البينونة).

(3)

كتب على هامش (ن): (قال في «الرِّعاية»: يسنُّ أن يغتسل الصَّبي إذا بلغ بالسنِّ أو الإنبات، ويجب بالإنزال، فقد يقال: وجوبه عليه بالإنزال من هذه القاعدة؛ لأنَّ الإنزال سبب البلوغ، والوجوب مترتِّب على البلوغ، فالحكم هو وجوب الغسل، وعدم البلوغ مانع منه، والإنزال به ينتفي عدم البلوغ، وبه يجب الغسل، فيكون الوجوب مترتِّبًا على انتفاء عدم الوجوب، وعدم الوجوب مترتِّب على الإنزال، فكيف يكون الإنزال رافعاً للمانع وموجباً لترتُّب الحكم في دفعة واحدة؟! فيلزم منه اقتران الحكم والمانع).

(4)

كتب على هامش (ن): (هذه الصُّورة من صور اقتران الحكم مع المنع، و: "أنت طالق مع موتي" أو: "مع موتك"؛ من صور اقتران الحكم والمانع).

ص: 412

ولو قال: مع موتي أو موتك؛ لم تطلق، نصَّ عليه في رواية مهنَّى

(1)

؛ لأنَّ الموت سبب البينونة؛ فلا يجامعها

(2)

الطَّلاق.

ويلزم على قول ابن حامد: الوقوع ههنا؛ لأنَّه إذا أوقع الطَّلاق مع الحكم بالبينونة

(3)

؛ فإيقاعه مع سبب الحكم أولى.

ويلزم مثل ذلك القاضي ومن تابعه على الوقوع مع سبب الانفساخ

(4)

؛ لتأخُّر الانفساخ عنه، ولم يلتزموا

(5)

ذلك، وادَّعوا ههنا المقارنة

(6)

دون السَّبق.

(1)

ينظر: المغني (7/ 512). وكتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

كتب على هامش (ن): (لم يجامعها، إنَّما جامع سببها، وهو الموت، فهو متقدِّم عليها)، وكتب آخر على ذلك:(أي: على البينونة).

(3)

كتب في هامش (و): (يعني: في مسألة الولادة)، وكتب على هامش (ن):(أي: في مسألة: "كلَّما ولدتِ ولداً؛ فأنت طالق").

(4)

كتب على هامش (ن): (كموت والده). وكتب على هامش (ن) أيضًا: (وذلك في مسألة المتزوِّج بأمة والده إذا قال لها: "إذا مات أبي؛ فأنت طالق"، وسيأتي في تمام القاعدة).

(5)

كتب على هامش (ن): (القاضي ومن تابعه).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: مقارنة الوقوع للانفساخ).

ص: 413

ولا يصحُّ

(1)

، ولعلَّ المانع من إيقاع الطَّلاق مع الموت هو عدم الفائدة فيه

(2)

، بخلاف إيقاعه مع البينونة في الحياة؛ فإنَّه يفيد التَّحريم أو نقص

(3)

العدد.

ومنها: لو قال زوج الأمة لها: إن ملكتك فأنت طالق، ثمَّ ملكها؛ لم تطلق، قال الأصحاب: وجهاً واحداً.

ولا يصحُّ؛ لأنَّ ابن حامد يلزمه القول ههنا بالوقوع؛ لاقترانه بالانفساخ.

ومنها: لو أُعتِق الزَّوجان معاً، وقلنا: لا خيار للمعتَقة تحت الحرِّ

(4)

؛ فهل يثبت لها الخيار ههنا؟ على روايتين

(5)

منصوصتين عن أحمد، وقد اقترن هنا المقتضي

(6)

، وهو حريَّتها، والمانع وهو حريَّته،

(1)

كتب على هامش (ن): (قوله: "دون السَّبق"؛ أي: دون سبق الوقوع للانفساخ، "ولا يصحُّ"؛ أي: دعواهم؛ لأنَّ الانفساخ مترتِّب على الموت، فيقع بعده، والطَّلاق مقارن له، فهو مثل مسألة زوج أمة أبيه).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: لو فرض وقوعه لم يقطع التَّوارث؛ للتهمة إذا قال: "مع موتي"، أمَّا إذا قال: "مع موتك"؛ ففيه فائدة، وهي عدم إرثه منها).

(3)

في (ب): بعض.

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(5)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: لا يثبت).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: لفسخها النِّكاح).

ص: 414

فحصل الحكم بثبوت الخيار مع المنع منه

(1)

.

فإن قيل: يُشكل على ما ذكرتموه مسألتان منصوصتان عن الإمام أحمد

(2)

:

إحداهما: إذا قال لعبده: إن بعتك فأنت حرٌّ، ثمَّ باعه؛ فإنه يَعتق على البائع من ماله، نصَّ عليه أحمد

(3)

في رواية جماعة

(4)

، ولم ينقل عنه في ذلك خلاف؛ فقد حكم بوقوع العتق مع وجود المانع

(5)

منه، وهو انتقال الملك

(6)

.

وهذا يلزم منه صحَّة قول ابن حامد وطرده في إثبات الأحكام مع مقارنة المنع منها؛ مثل أن يقول لغير مدخول بها: إن طلَّقتك فأنت طالق، ثمَّ طلَّقها

(7)

؛ فينبغي أن تطلق طلقتين

(8)

، وكذلك إذا قال: إن

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو عدم الفسخ المترتِّب على حريَّته الَّتي هي المانع).

(2)

قوله: (أحمد) سقط من (أ) و (ج) و (هـ) و (و) و (ن).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

جاء في مسائل صالح (2/ 450): (قلت: إذا قال أنت حر إن بعتك، وقال الآخر: إن اشتريته فهو حر، فقال: قال بعض الناس: يعتق من مال المشتري)، وينظر: مسائل ابن هانئ (2/ 61).

(5)

في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): المنع.

(6)

كتب على هامش (ن): (عن البائع بالبيع).

(7)

في (ب) و (د) و (و) و (ن): يطلِّقها.

(8)

كتب على هامش (ن): (والمذهب: أنَّها تطلق واحدة).

ص: 415

فسخت نكاحك لعيب أو نحوه فأنت طالق

(1)

، وكذلك لو قال: إن خالعتك؛ فأنت طالق

(2)

.

والمسألة الثَّانية: إذا مات الذِّميُّ وله أطفال صغار؛ حُكم بإسلام الولد وورث منه، نصَّ عليه ولم يثبت عنه خلاف ذلك

(3)

،

حتَّى إنَّ من الأصحاب من أنكر القول بعدم توريثه، وقال: هو خلاف الإجماع، ويلزم من توريثه إثبات الحكم

(4)

المقترن بمانعه

(5)

، وهذا لا محيد عنه.

والجواب:

أمَّا على قول ابن حامد؛ فهذا متجه لا بُعد فيه.

(1)

كتب على هامش (ن): (تطلق على الصَّحيح).

(2)

كتب على هامش (ن): (والصَّحيح: أنَّه لا يطلق).

(3)

قال في الروايتين والوجهين (2/ 370): (إذا مات الأبوان أو أحدهما هل يحكم بإسلام الطفل أم لا؟ فقال أبو بكر في كتاب الشافي: روى سبعة عن أبي عبد الله منهم حنبل: إذا مات أحد أبويه هو مسلم ما لم يبلغ، وخالفهم إسحاق بن منصور فقال: إذا مات أحد أبويه فهو على دين الآخر، قال: وبالأول أقول).

ثم قال: (فصل: وإذا حكمنا بإسلامه بموت أحدهما فهل يرث من حكمنا بإسلامه بموته؟ نقل أبو طالب في يهودي مات أبواه وهو صغير: فهو مسلم ويرثهما، ونقل محمد بن يحيى الكحال وجعفر بن محمد في يهودي مات وله زوجة حامل فأسلمت بعده: فما في بطنها مسلم ولا يرث أباه، فظاهر هذا أنه لا يرث؛ لأن الموت يوجب أن يرث مسلم من كافر، وهذا لا يجوز).

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو الميراث).

(5)

كتب على هامش (ن): (وهو اختلاف الدِّين).

ص: 416

وأمَّا على قول جمهور الأصحاب: فقد اختلفوا في تخريج كلام الإمام أحمد في مسألة العتق على طرق:

أحدها: أنَّه مبنيٌّ على قوله: بأنَّ الملك لم ينتقل عن البائع في مدَّة الخيار.

فأمَّا على قوله بالانتقال، وهو الصَّحيح: فلا يَعتق، وهذه طريقة أبي الخطاب في «انتصاره» ، وفيها ضعف؛ فإنَّ نصوص أحمد بالعتق هنا متكاثرة، ورواية بقاء الملك للبائع ربَّما لم تكن صريحة عن أحمد بل مستنبطة من كلامه، وإنَّما المنقول الصَّريح عنه انتقال الملك.

والطَّريق الثَّاني: أنَّ عتقه على البائع؛ لثبوت الخيار له، فلم تنقطع علقه عن المبيع بعدُ، وهي طريقة القاضي وابن عقيل وأبي الخطاب.

وأُورد عليهم: أنَّ تصرُّف البائع بالعتق في مدَّة الخيار لا ينفذ على المنصوص.

فأجابوا: بأنَّ

(1)

هذا العتق أنشأه

(2)

في ملكه، فلذلك نفذ في مدَّة الخيار بعد زوال ملكه؛ لأنَّ أحمد شبهه بنفوذ الوصية بعد الموت، وقال في رواية ابن ماهان: يَعتق من مال البائع، قيل: لأنَّه حَلَف على ملكه

(3)

؛ قال: نعم

(4)

.

(1)

في (ب): أنَّ.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: أنشأ سببه).

(3)

في (ب) و (د) و (و) و (ن): ملك.

(4)

جاء في مسائل ابن هانئ (2/ 61): (قال ابن هانئ: سألته عن الرجل يقول: إن بعت غلامي فهو حر، فباعه؟ قال: يَعتق من مال البائع، كما أنه لو قال: لغلامي من مالي ألف درهم، إلى من يدفع الألف، أليس يرجع إلى المولى؟ فكذا أيضًا هو من مال البائع).

ص: 417

والطَّريق الثَّالث: أنَّه يَعتق على البائع عقب

(1)

إيجابه وقبل قبول المشتري، وهي طريقة ابن أبي موسى، والسَّامريِّ، وصاحبي «المغني» و «التَّلخيص» ؛ لأنَّه إنَّما علَّقه على بيعه، وبيعه الصَّادر عنه هو الإيجاب فقط، ولهذا يسمَّى بائعاً والقابل مشترياً، ويقال: باع هذا، واشترى هذا، وإن كان العقد لا ينعقد إلَّا بقبول المشتري، لكنَّ القبول شرط محض لانعقاد البيع، وليس هو من ماهيَّته، فإذا وجد القبول تبيَّنَّا أنَّه عَتَق على البائع قبله في ملكه قبل الانتقال.

وفي هذه أيضاً نظر؛ فإنَّ أحمد نصَّ على نفوذه بعد زوال الملك، ولأنَّ البيع المطلق إنَّما يتناول المنعقد لا صورة البيع

(2)

المجرَّدة.

والطَّريق

(3)

الرَّابع: أنَّه يَعتق على البائع في حالة انتقال الملك إلى المشتري؛ حيث يترتب على الإيجاب والقبول انتقال الملك ونفوذ العتق

(4)

؛ فيتدافعان، وينفذ

(5)

العتق؛ لقوَّته وسرايته دون انتقال الملك، وهي طريقة أبي الخطاب في «رؤوس المسائل» ، ويشهد لها تشبيه أحمد

(1)

في (ب) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): عقيب.

(2)

في (ب): المنع.

(3)

في (ب) و (ن): الطَّريق.

(4)

كتب على هامش (ن): (يعني: في حال واحدة).

(5)

في (ب): فينفذ.

ص: 418

له

(1)

بالمدبَّر والوصيَّة.

ولا يقال في التَّدبير والوصيَّة: لا ينتقل إلى ملك الورثة؛ لتعلُّق حق غيرهم بها؛ لأنَّا نمنع ذلك على أحد الوجهين

(2)

، ونقول: بل ينتقل إليهم المال الموصى به، وهو ظاهر تعليل أحمد في هذه المسألة؛ فإنَّه قال في رواية الأثرم، وقد قيل له: كيف يعتق على البائع وإنَّما وجب العتق بعد البيع؟ فقال: لو وصَّى لرجل بمائة درهم ومات؛ يعطاها، وإن كانت وجبت له بعد الموت ولا ملك؛ فهذا مثله، ونقل عنه صالح نحو هذا المعنى أيضاً

(3)

.

وعلى هذه الطَّريقة: فينفذ العتق مع قيام المانع له؛ لقوَّته وسرايته، ولا يلزم مثل ذلك في غيره من العقود.

والطَّريق الخامس: أنَّه يعتق بعد انعقاد البيع وصحَّته وانتقال الملك إلى المشتري، ثمَّ ينفسخ البيع بالعتق على البائع، وصرَّح بذلك القاضي في «خلافه» ، وابن عقيل في «عُمَده» ، وصاحب «المحرر» ، وهو ظاهر كلام أحمد وتشبيهه بالوصيَّة

(4)

.

(1)

قوله: (له) سقط من (ب).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

جاء في مسائل صالح (2/ 450): (قلت: إذا قال: أنت حر إن بعتك، وقال الآخر: إن اشتريته فهو حر، فقال: قال بعض الناس: يَعتق من مال المشتري).

(4)

قال ابن نصر الله رحمه الله: لو قال أجنبيٌّ: إن ملكتُ عبد فلان؛ فهو حرٌّ، وقال سيِّده: إن بعته؛ فهو حرٌّ، فباعه من الأجنبيِّ، فعلى أيِّهما يَعتق؟ لم أجد فيها نقلاً، وتتوجَّه على هذه الطَّريقة الخامسة: أنَّه يعتق على المشتري؛ لأنَّ العتق على البائع يتوقَّف على تقدير الانفساخ بعد ثبوت الملك للمشتري، وعتق المشتري ينفذ عقب ثبوت ملكه، فيقترن العتق والانفساخ، والعتق أقوى من الانفساخ الَّذي هو سبب عتق البائع، فيكون عتق المشتري سابقاً لعتق البائع، فيعتق عليه، وأمَّا على الطَّريق الأوَّل والثَّالث والرَّابع؛ فيقتضي نفوذ عتق البائع خاصَّة، وعلى الطَّريق الثَّاني؛ يتَّجه أن يقال بالقرعة أو أنَّه يعتق عليهما؛ لتساويهما في ثبوت الخيار لهما في المجلس، ثمَّ وجدت المسألة في باب خيار المجلس والشَّرط من "الرِّعاية الكبرى" فجزم أوَّلاً بالعتق على البائع، ثمَّ قال:"وعنه: بل على المشتري"، ثمَّ ذكر لنفسه قولين مخرَّجين بالعتق على المشتري أيضاً.

ص: 419

ووجه ذلك: أنَّ العتاق لقوَّته ونفوذه وسرايته إلى ملك الغير ينفذ؛ وإن وجد أحد طرفيه في ملك والآخر في غير ملك، فإذا عقده في غير ملك مضافاً إلى وجود الملك

(1)

؛ نفذ في المذهب الصَّحيح المشهور، فكذا إذا عقده في ملك على نفوذه في غير الملك

(2)

؛ فإنَّه ينفذ.

ولهذا نقول على إحدى الرِّوايتين: لو قال: مملوكي فلان حرٌّ بعد موتي بسنة؛ لعَتَق كما قال، وإن كان ذلك بعد زوال ملكه وانتقاله عنه، ولا يقال: لا ينتقل ملكه مع قيام الوصيَّة؛ لأنَّ ذلك ممنوع على ظاهر

(1)

كتب على هامش (ن): (مثاله أن يقول: إن ملكت فلاناً فهو حرٌّ؛ فإنَّه يَعتق إذا ملكه).

(2)

في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): ملك.

ص: 420

كلام أحمد كما تقدَّم، ولا يلزم مثل هذا في غير العتق من العقود؛ لأنَّها لا تسري إلى ملك الغير، ولا عهد نفوذها في غير ملك بحال.

وخرَّج صاحب «المحرر» في «تعليقه على الهداية» وجهاً فيما إذا علَّق طلاقها على خلعها فخالعها: أنَّه يقع الطَّلاق المعلَّق كما يقع العتق بعد البيع اللَّازم.

فإن كان مراده: أنَّه يقع مع الخلع، فهي مسألة ابن حامد في الوقوع مع البينونة، وإن أراد بعده، فمُشكل، فإنَّ الطَّلاق لم يعهد عندنا وقوعه في غير ملك.

وسلك الشيخ تقي الدين طريقة أخرى، فقال: إن كان المعلِّق للعتق قصده اليمين دون التَّبرُّر بعتقه، أجزأه كفَّارة يمين؛ لأنَّه إذا باعه خرج عن ملكه، فبقي؛ كنذره أن يُعتق عبد غيره، فتجزئه الكفارة، وإن قصد به

(1)

التَّقرُّب؛ صار عتقه مستحَقًّا كالنَّذر، فلا يصح بيعه، ويكون العتق معلَّقاً على صورة البيع، كما لو قال لما لا يحلُّ بيعه: إذا بعته فعليَّ عتق رقبة، أو قال لأمِّ ولده: إن بعتك فأنت حرة.

وطَرَد قوله هذا في تعليق الطَّلاق على الفسخ والخلع، فجعله معلَّقاً على صورة الفسخ والخلع، قال: ولو قيل بانعقاد الفسخ والخلع المعلَّق عليه، فلا يمتنع وقوع الطَّلاق معه على رأي ابن حامد، حيث أوقعه مع البينونة بانقضاء العدَّة؛ فكذا بالفسخ، والله أعلم

(2)

.

(1)

قوله: (به) سقط من (أ).

(2)

ينظر: الاختيارات (ص 185).

ص: 421

وأمَّا مسألة الميراث؛ فلا ريب أنَّ أحمد نصَّ على توريث الطِّفل من أبيه الكافر، والحكم بإسلامه بموته، وخرَّجه من خرَّجه من الأصحاب؛ كصاحب «المغني»: على أنَّ المانع

(1)

لم يتقدَّم الحكم بالإرث، وإنَّما قارنه، وهذا يرجع إلى ثبوت الحكم مع مقارنة المانع له؛ لأنَّ الإسلام سبب المنع، والمنع يترتَّب عليه، والحكم بالتَّوريث سابق على المنع؛ لاقترانه بسببه

(2)

.

وأمَّا اقتران الحكم والمانع

(3)

؛ فله صور:

منها: مسألة توريث الطِّفل المحكوم بإسلامه بموت أحد أبويه الكافرين منه، وقد ذكرت.

ومنها: إذا قتلت أمُّ الولد سيِّدَها؛ فإنَّه يلزمها أقلُّ الأمرين من قيمتها أو الدية، نص عليه.

قال الأصحاب: سواء قلنا: إن الدِّية تحدث على ملك الورثة ابتداء أو على ملك الموروث أولًا؛ لأنَّا إن قلنا: تحدث على ملك الورثة؛ فقد اقترن الضَّمان بالحرية، وإنَّما لم يجب هنا الضَّمان بالدِّية مطلقاً

(4)

؛

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: في الإرث، وهو الإسلام).

(2)

كتب في هامش (و): (يعني: وهو المانع).

(3)

في (ب): المانع.

(4)

كتب على هامش (ن): (جوابٌ عن سؤال مقدَّر، وهو: أنَّه إذا اقترن الضَّمان بالحريَّة، فلأي شيء ما وجبت الدِّية دون أقل الأمرين).

ص: 422

اكتفاء بمقارنة الشَّرط

(1)

للحكم

(2)

على ما تقدَّم؛ لأنَّ الاعتبار هنا في الضمان بحالة الجناية

(3)

، وهي حينئذ

(4)

رقيقة، فلا يلزمها أكثر من ضمان جناية الرَّقيق

(5)

، ولا يمنع ذلك مقارنة الحريَّة بحالة وجوب الضمان؛ بناء على أن المانع إذا اقترن

(6)

بالحكم لم يمنعه.

وإن قلنا: إن الدِّية تحدث على ملك المقتول أوَّلاً؛ فقد وجب له ذلك في آخر جزء من حياته، وهي إذ ذاك رقيقة؛ فسبق وقت وجوب الضمان وقت الحرية، وإنَّما

(7)

وجب الضَّمان هنا للسَّيِّد، وإن كان السَّيِّد لا يجب له الضَّمان على رقيقه؛ لتعلُّق حقِّ ورثته بماله في هذه الحال؛ فصار كالواجب لهم ابتداء، ولهذا كانوا هم المطالِبِين به

(8)

.

ومنها: إذا تزوَّج العادم للطَّول الخائف للعنت في عقدٍ حرَّة وأمة؛ فهل يصحُّ نكاح الأمة مع الحرَّة؟ على وجهين

(9)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو الحريَّة).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو وجوب الدِّية).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: لا بحال الوجوب).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: حين حال الجناية).

(5)

كتب على هامش (ن): (اعتباراً بحال الجناية، وجناية الرَّقيق على العبد تضمن بأقل الأمرين).

(6)

في (أ): اقترض.

(7)

كتب على هامش (ن): (جواب عن سؤال مقدَّر).

(8)

قوله: (به) سقط من (أ).

(9)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: نعم).

ص: 423

ومنها: إذا قال المتزوِّج بأمة أبيه: إذا مات أبي فأنت طالق، ثم مات

(1)

الأب، فهل يقع الطَّلاق؟ على وجهين:

أحدهما: يقع

(2)

، وهو قول القاضي في «الجامع» و «الخلاف» ، وابن عقيل في «العُمَد» ، واختيار أبي الخطَّاب؛ لأنَّ الموت يترتب عليه وقوع الطلاق والملك، والملك سبب انفساخ النِّكاح، فقد سبق نفوذ الطَّلاق الفسخ، فنفذ.

والثَّاني: لا يقع، وهو قول القاضي في «المجرد» ، وابن عقيل في «الفصول» ؛ لأن الطلاق قارن المانع، وهو الملك، فلم ينفذ.

ومنها: إذا تزوَّج أمة، ثمَّ قال لها: إن اشتريتك؛ فأنت طالق، وفيه الوجهان إن قلنا: ينتقل الملك مع الخيار - وهو الصَّحيح -، وإن قلنا: لا ينتقل؛ وقع الطَّلاق وجهاً واحداً، كذا ذكره أبو الخطَّاب.

وفي «خلاف» القاضي: إذا حلف لا يبيع، فباع بشرط الخيار؛ هل يحنث؟ إنَّ ذلك ينبني على نقل الملك وعدمه؛ فقياس قوله: أنَّه لا يقع الطَّلاق هنا في مدَّة الخيار إذا قلنا: لا ينتقل الملك فيها.

وأنكر ذلك الشَّيخ تقي

(3)

الدين وقال: يحنث بكلِّ حال؛ لأنَّ البيع قد وجد.

(1)

في (أ): فمات.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

في (ب) وباقي النسخ: مجد.

ص: 424

ومنها: إذا قال لامرأته الَّتي لم يدخل بها: إن كلَّمتك فأنت طالق، ثمَّ أعاده؛ فإنَّها تطلق بالإعادة؛ لأنَّها كلام في المشهور عند الأصحاب.

وقال ابن عقيل في «عُمَد الأدلة» : قياس المذهب عندي: أنَّه لا يحنث بهذا الكلام؛ لأنَّه من جنس اليمين الأولى ومؤكِّد لها، وإنَّما المقصود أذاها وهجرها وإضرارها بترك كلامها، وليس في هذه

(1)

الإعادة ما ينافي ذلك؛ فلا يحنث به. وهذا قويٌّ.

والتَّفريع على المشهور؛ فإذا وقع الطَّلاق بالإعادة ثانياً؛ فهل ينعقد به يمين ثانية أم لا؟ في المسألة وجهان:

أحدهما: لا ينعقد

(2)

، وهو قول القاضي في «الجامع» و «الخلاف»

(3)

ومن اتَّبعه؛ كالقاضي يعقوب

(4)

وابن عقيل، وهو قياس قول صاحب «المغني» ، وله مأخذان:

أحدهما: وهو مأخذ القاضي ومن اتَّبعه: أنَّ الكلام يحصل بالشُّروع في الإعادة قبل إتمامها؛ فيقع الطَّلاق قبل إنهاء الإعادة؛ فلا

(1)

قوله: (هذه) سقط من (أ).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

في (ب) و (هـ) و (و): الخلاف والجامع.

(4)

هو القاضي أبو علي، يعقوب بن إبراهيم بن أحمد بن سطورا العكبري البرزبيني، شيخ الحنابلة، تفقه على القاضي أبي يعلى حتى برع في الفقه، ودرَّس في حياته، وله: التعليقة في الفقه، قال ابن رجب:(في عدة مجلدات، وهي مُلخصة من تعليقة شيخه القاضي) ينظر: سير أعلام النبلاء 19/ 93، ذيل الطبقات 1/ 168.

ص: 425

ينعقد؛ لأنَّ تمام اليمين حصل بعد البينونة.

والثَّاني: وهو الَّذي ذكره صاحب «المغني» في نظير هذه المسألة: أنَّ الطَّلاق وإن وقف وقوعه إلى ما بعد إنهاء الإعادة، إلَّا أنَّ الإعادة يترتَّب عليها البينونة، فيقع انعقاد اليمين مع البينونة

(1)

، فيخرَّج على الخلاف في ثبوت الحكم مع المانع أو مع سببه، والأصحُّ عنده

(2)

عدمه

(3)

.

والوجه الثَّاني: تنعقد اليمين، وهو اختيار صاحب «المحرَّر» ؛ بناء على أنَّ الطَّلاق يقف وقوعه على تمام الإعادة؛ لأنَّ الكلام المطلق إنَّما ينصرف إلى المفيد، ولا تحصل الإفادة بدون ذكر جملة الشَّرط والجزاء، فيقف الطَّلاق عليهما، ويقع عقيبهما؛ لأنَّهما شرط لوقوعه، وأمَّا اليمين؛ فوجدت مع شرط الطَّلاق، فسبقت وقوعه.

يوضحه: أنَّ اليمين هي اللَّفظ المجرَّد، وهو المعلَّق عليه الطَّلاق، فإذا قال: إن كلَّمتك فأنت طالق؛ فهو في معنى قوله: إن حلفت يميناً بطلاقك على كلامك؛ فأنت طالق؛ فتبيَّن أنَّ وجود اليمين سابقة لوقوع الطَّلاق.

(1)

كتب على هامش (ن): (وعلى هذا الثَّاني: تكون هذه المسألة من فروع اقتران الحكم والمانع).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: عند صاحب «المغني»، كما تقدَّم في صدر القاعدة).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: عدم ثبوت الحكم مع المانع أو مع سببه، فلا تعقد اليمين مع البينونة).

ص: 426

ومنها: إذا قال لامرأتيه -وإحداهما غير مدخول بها-: إن حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان، ثمَّ قاله ثانياً

(1)

؛ فإنَّهما يطلقان طلقة طلقة على المذهب المشهور

(2)

، وانعقدت اليمين مرَّة ثانية في حقِّ المدخول بها، وأمَّا في حقِّ الَّتي لم يدخل بها؛ ففي انعقادها وجهان:

أحدهما: أنَّها تنعقد

(3)

، وهو قول أبي الخطاب، وصاحب «المحرَّر» ، ومقتضى ما ذكره القاضي وابن عقيل في المسألة الَّتي قبلها؛ لأنَّ اليمين سبقت البينونة، ووجدت مع شرط الطَّلاق لا مع وقوع الطَّلاق.

والثَّاني: لا ينعقد

(4)

، وهو اختيار صاحب «المغني» ؛ غير أنَّه وقع في النُّسَخ خلل في تعليله، ووجهه: أنَّ اليمين وإن وجدت مع شرط الطَّلاق، لكن انعقادها مقارن لوقوع الطَّلاق، فلم ينعقد؛ لاقترانه بما يمنعه

(5)

(6)

.

فإن أعاده ثالثاً قبل أن يجدِّد نكاح البائن؛ لم

(7)

تطلق واحدة منهما

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: ولم يقصد بإعادته الإفهام ولا التَّأكيد، بخلاف تعليقه على الكلام، فإنَّه لو أعاده قاصداً إفهامها أو التَّأكيد؛ حنث).

(2)

كتب على هامش (ن): (قوله: "على المشهور" هذا يقتضي أنَّ في طلاق كلٍّ منهما طلقة خلافاً، ولم نقف على خلاف في ذلك).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

في (ب): عقد.

(5)

في (ب): تنعقد.

(6)

كتب على هامش (ن): (وعلى هذا؛ تصير المسألة من جزئيات القاعدة).

(7)

في (أ): لا.

ص: 427

على الوجهين؛ لأنَّ الحلف بطلاق البائن لا يمكن.

فإن عاد وتزوَّج البائن، ثمَّ حلف بطلاقها وحدها:

فعلى الوجه الثَّاني: لا تطلق؛ لأنَّ اليمين الثَّانية لم ينعقد في حقِّها، وتطلُق الأخرى طلقة؛ لوجود الحلف بطلاقها قبل نكاح الثَّانية والحلف بطلاق الثَّانية بعد نكاحها، فكمل الشَّرط في حقِّ الأولى.

وعلى الوجه الأوَّل: تطلق كلُّ واحدة منهما طلقة طلقة؛ لأنَّ الصَّفة

(1)

الثَّانية منعقدة في حقِّهما جميعًا، كذا ذكره الأصحاب.

وأورد عليه: أنَّ طلاق كلِّ واحدة منهما معلَّق بشرط الحلف بطلاقها مع طلاق الأخرى؛ فكلُّ واحد من الحلفين جزء علَّة لطلاق كلِّ واحدة منهما، فكما أنَّه لا بدَّ من الحلف بطلاقها في زمان يكون فيه أهلاً لوقوع الطَّلاق، كذلك الحلف بطلاق ضرَّتها؛ لأنَّه جزء علَّة لطلاق نفسها ومن تمام شرطه؛ فكيف يقع بهذه الَّتي جدَّد نكاحها الطَّلاق، وإنَّما حلف بطلاق ضرَّتها وهي بائن؟!

وأجيب عنه: بأنَّ وجود الصِّفة كلِّها في النِّكاح لا حاجة إليه، ويكفي وجود آخرها فيه، ليقع الطَّلاق عقبه

(2)

(3)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (وهي قوله ثانياً: "إن حلفتُ بطلاقكما؛ فأنتما طالقتان").

(2)

في (ب) و (د) و (و): عقيبه.

(3)

كتب على هامش (ن): (وذكر شيخنا محبُّ الدِّين البغداديُّ: أنَّ مقتضى هذا أنَّه لو حلف فقال: إن أكلتِ هذا الرَّغيف فأنت طالق، ثمَّ أبانها، ثمَّ أكلت نصفه، ثمَّ أعادها، ثمَّ أكلت بقيَّة الرَّغيف؛ أنَّها تطلق).

ص: 428

وذكر صاحب «المحرَّر» في «تعليقه على الهداية» : أنَّ هذا هو المذهب، سواء قلنا: يكفي في الحنث وجود بعض الصِّفة أوْ لَا، نعم؛ إن قلنا: يكفي وجود بعضها

(1)

وقد وجد حال البينونة؛ انبنى على الخلاف في حلِّ اليمين بالصِّفة الموجودة حال البينونة، انتهى

(2)

.

وعندي: أنَّ هذا

(3)

قد يتخرَّج على اختلاف المأخذين في أنَّ اليمين لا تنحلُّ بوجود الصِّفة حال البينونة.

فإن قلنا: إنَّها

(4)

مستثناة من عموم كلامه

(5)

بقرينة الحال؛ فوجود بعضها حال البينونة لا عبرة به أيضاً؛ كوجود جميعها.

وإن قلنا: إنَّ اليمين لا تنحلُّ بدون الحنث

(6)

فيها؛ اكتُفِيَ بوجود آخرها في النِّكاح؛ لإمكان الحنث فيه.

على أن الاكتفاء بوجود بعض الصِّفة حال البينونة وبعضها في النِّكاح، مع قولنا: لا يكتفى بوجود بعض الصِّفة في الطَّلاق، وقولنا: إنَّ الصِّفة الموجودة حال البينونة لا تنحلُّ بها اليمين؛ لا يخلو من

(1)

كتب على هامش (ن): (يعني: في الحنث بوجوده).

(2)

قوله: (انتهى) سقط من (أ).

(3)

كتب على هامش (ن): (يعني: جواب الإيراد).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: المسألة المذكورة).

(5)

كتب على هامش (ن): (يحتمل عود الضَّمير إلى الحالف).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: أو البرِّ، فإنَّ من حلف ليفعلنَّ شيئاً، ثمَّ فعله؛ انحلَّت يمينه ولا حنث).

ص: 429

إشكال ونظر، والله أعلم.

ومنها: إذا اشترى مريض أباه بثمنٍ لا يملك غيره، وهو تسعة دنانير، وقيمة الأب ستَّة؛ فقد حصل منه عطيَّتان من عطايا المريض: محاباةُ البائع بثلث المال، وعتقُ الأب إذا قلنا: إنَّ عتقه من الثُّلث، وفيه وجهان:

أحدهما

(1)

: وهو قول القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل في «الفصول»: يتحاصَّان

(2)

؛ لأنَّ ملك المريض لأبيه مقارن لملك المشتري

(3)

لثمنه، وفي كلٍّ منهما

(4)

عطيَّة منجَّزة؛ فتحاصَّا

(5)

؛ لتقارنهما

(6)

.

والثَّاني: أنَّه تنفذ المحاباة ولا يَعتق الأب، وهو اختيار صاحب «المحرَّر» ؛ لأنَّ المحاباة سابقة لعتق الأب، فإن ملك المشتري

(7)

للثَّمن

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

كتب على هامش (ن): (يعني: في ثلث المال، فيكون للبائع دينار ويعتق ثلثيه، ما يقابل دينارين من قيمته، وهو ثلثه، ويردُّ البائع دينارين، ويكون ثلث الأب ميراثًا مع الدِّينارين).

(3)

كتب على هامش (ن): (صوابه: البائع).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: الملكين).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: في الثُّلث).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: تقارن المحاباة وهي المانع، والحكم وهو عتق الأب أو ملك الابن له لا يستقرُّ عليه، بل ملكه له تقديري).

(7)

كتب على هامش (ن): (صوابه: البائع).

ص: 430

الَّذي وقعت المحاباة فيه؛ وقع مقارناً لملك الأب، وعتقه ترتَّب على ملكه ولم يقارنه، فقد قارنت المحاباة شرط عتق الأب لا عتقه؛ فنفذت لسبقها.

ومنها: لو أصدقها مائة درهم، ثمَّ طلَّقها قبل الدُّخول على خمسين من المهر؛ فهل يستَحِقُّ جميع المهر أو ثلاثة أرباعه؟ على وجهين:

أحدهما

(1)

: يستحقُّه كلَّه؛ لأنَّه استحقَّ عوضاً عن الطَّلاق خمسين، ورجع إليه بالطَّلاق قبل الدُّخول النِّصف الباقي.

والثَّاني: يستحقُّ ثلاثة أرباعه؛ لأنَّ الطَّلاق يتنصَّف به المهر، فيصير مشاعاً بين الزَّوجين؛ فلا يستحقُّ من الخمسين المخالع بها إلَّا نصفها، فلا يسلَّم للزَّوج عوضاً عن طلاقه إلَّا نصف الخمسين، ويرجع إليه بالطَّلاق النصف.

ومن نصر الوجه الأوَّل؛ قال: تنصُّف المهر يترتَّب على الخلع لا يقارنه؛ فقد ملك الخمسين كلَّها قبل التَّنصُّف، لكنَّ ملكه لها قارن سبب التَّنصُّف وهو البينونة؛ فهذا مأخذ الوجهين.

وللمسألة مأخذ آخر على تقدير التَّنصُّف قبل الملك

(2)

، وهو أن يخالعها بخمسين من المهر مع علمهما بأنَّ المهر يتنصَّف

(3)

بالمخالعة؛ هل يتنزَّل على خمسين مبهمة منه أو على الخمسين الَّتي يستقرُّ لها

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: ملك الخمسين).

(3)

في (أ): تنصف.

ص: 431

بالطَّلاق

(1)

؟ وفي المسألة وجهان.

وعليهما تنزَّل

(2)

الوجهان فيما إذا باع أحد الشَّريكين نصف السِّلعة المشتركة؛ هل يُنزَّل البيع على نصفٍ مشاع وإنَّما له فيه نصفه وهو الرُّبع، أو على النِّصف الَّذي يخصه بملكه

(3)

؟ وكذلك في الوصيَّة وغيرها

(4)

.

واختار القاضي: أنَّه يُنزَّل على النِّصف الَّذي يخصُّه كلِّه، بخلاف ما إذا قال له: أشركتك في نصفه، وهو لا يملك سوى النِّصف؛ فإنَّه يستحقُّ منه الرُّبع؛ لأنَّ الشركة تقتضي التَّساوي في الملكين، بخلاف البيع.

والمنصوص عن أحمد في رواية ابن منصور: أنَّه لا يصحُّ بيع النِّصف حتَّى يقول: نصيبي؛ فإن أطلق؛ تنزَّل على الرُّبع

(5)

.

ومنها: إذا تزوَّج في مرض موته بمهر يزيد على مهر المثل؛ ففي

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: فيستحقُّ جميع المهر على هذا، وعلى الإبهام: يستحقُّ ثلاثة أرباعه).

(2)

في (ب) و (ج): ينزَّل.

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

كتب على هامش (ن): (كالوقف والرَّهن والهبة).

(5)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 3043): (قلت: قال سفيان: إذا كانت دار بين اثنين، فقال أحدهما: أبيعك نصف هذه الدار؟ قال: لا يجوز، إنما له الربع من النصف، حتى يقول: نصيبي. قال أحمد: هو كما قال).

ص: 432

المحاباة روايتان

(1)

:

إحداهما: أنَّها موقوفة على إجازة الورثة؛ لأنَّها عطيَّة لوارث

(2)

.

والثَّانية: تنفذ من الثُّلث، نقلها المروذيُّ والأثرم وصالح وابن منصور والفضل بن زياد

(3)

.

فيحتمل أن يكون مأخذه: أنَّ الإرث المقارن للعطيَّة لا يمنع نفوذها.

ويحتمل أن يقال: إنَّ الزَّوجة ملكتها في حال ملك الزَّوج للبضع، وثبوت الإرث يترتَّب

(4)

على ذلك.

وكذلك نصَّ في رواية أبي طالب فيمن أقرَّ لزوجته في مرضه بمهر يزيد على مهر المثل: أنَّ الزِّيادة تكون من الثُّلث، ووجَّهه القاضي بما ذكرنا من التَّرتيب؛ لأنَّ الإقرار تبيَّن به أنَّ الاستحقاق كان بالعقد.

وهذا كلُّه يرجع إلى أنَّ العطيَّة والوصية لمن يصير وارثاً تعتبر من الثُّلث، وهو خلاف المذهب المعروف.

(1)

كتب على هامش (ن): (ومن هذه القاعدة: لو قال اثنان من الشُّركاء الثَّلاثة في عبد لشريكهما: إذا أعتقت نصيبك؛ فنصيبنا حرٌّ، فأعتق نصيبه وهو موسر؛ عَتَق كلُّه عليه، قاله في «الكافي»، ثمَّ قال: ويحتمل أن يَعتق نصيبهما عليهما؛ لأنَّ إعتاق نصيبهما يتعقَّب إعتاق نصيبه من غير فاصل، فلا يسبقه السِّراية، انتهى، قلت: يشير إلى أنَّ السراية تقارن إعتاقهما وإعتاقهما مباشرة، والسِّراية تسبب، والمباشرة أقوى من التَّسبب، فتُقدَّم عليه).

(2)

في (أ): الوارث.

(3)

جاء في مسائل ابن منصور (8/ 4326): (قلت: قال سفيان: إذا تزوج في مرضه لم يحسب من الثلث؟ قال: إذا كان تزويجه إياها على أكثر مما يتزوج مثلها، فهو من الثلث، وإذا كان على مهر مثلها لم يكن من الثلث).

وجاء في مسائل صالح: (ص 278): (سألته عن رجل كانت له سُرِّيَّتان، فمرض حتى اشتد مرضه، وصار في حد ترك فيه الصلاة، فدعا قومًا فأشهدهم أنه أعتقهما وتزوجهما على مهر كذا وكذا، هل يجوز له ذلك؟ قال: إن كان تزويجه إياهما بمهر أكثر من مهر مثلهما فإن الزيادة تكون في ثلثه، وعتقهما من الثلث).

(4)

في (ب) و (ج) و (ن): مترتِّب.

ص: 433

لكن قد يُفرَّق بين أن يكون الوارث نسيباً أو زوجاً، كما فرَّق القاضي في كتاب الوصايا من «خلافه» بينهما في مسألة الإقرار؛ لأنَّ النَّسيب

(1)

سبب إرثه قائم حال الوصيَّة، بخلاف أحد الزَّوجين.

وفيما ذكره القاضي في توجيه رواية أبي طالب نظر، فإنَّ أحمد لو اعتبر حالة العقد؛ لما جعله من الثُّلث

(2)

، وإنَّما يتخرَّج من هذه الرِّواية رواية عنه: بأنَّ إقرار المريض لوارثه يعتبر من الثُّلث

(3)

، والله أعلم

(4)

.

(1)

في (ب) و (ج) و (د): النَّسب.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: فإنَّه حالة العقد لم يكن مريضاً، ويحتمل أنَّ قول القاضي محمول على ما إذا كان حالة العقد مريضاً أيضاً، فيكون عطية لغير وارث في مرضه، وهذا التَّخريج غريب، ولا يعرف من أثبت ذلك رواية، المعروف عدم صحَّة الإقرار، وفيه رواية بالصِّحَّة نقلها، وأمَّا أنَّه يصحُّ ويعتبر من الثَّلاث فلا يعرف، انتهى، وقوله: أيضاً؛ يعني: كما في حالة الإقرار، فيُحمل قوله على حالة المرض في العقد وفي الإقرار).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: بل يكون من رأس المال).

(4)

قوله: (والله أعلم) سقط من (أ) و (د) و (هـ) و (و).

ص: 434

‌قاعدة [58]

من تعلَّق به الامتناع من فعلٍ هو متلبِّس به، فبادر إلى الإقلاع عنه

، هل يكون إقلاعه فعلاً للممنوع منه، أم تركاً له فلا يترتَّب عليه شيء من أحكامه؟

هذا عدَّة أنواع:

أحدها: ألَّا يتعلَّق به حكم الامتناع بالكليَّة إلَّا وهو متلبِّس به؛ فلا يكون نزعه فعلاً للممنوع منه، فمن ذلك:

إذا حلف لا يَلبَس ثوباً وهو لابسه، أو لا يركب دابَّة وهو راكبها، أو لا يدخل داراً وهو فيها، وقلنا: إنَّ الاستدامة كالابتداء في جميع هذه الأفعال؛ فخلع الثَّوب ونزل عن الدَّابَّة، وخرج من الدَّار، في أوَّل أوقات الإمكان؛ فإنَّه لا يحنث؛ لأنَّ اليمين تقتضي الكفَّ في المستقبل دون الماضي والحال، فيتعلَّق الحكم بأوَّل أوقات الإمكان.

ومنه: ما إذا أحرم وعليه قميص؛ فإنَّه ينزِعه في الحال، ولا فديةَ عليه؛ لأنَّ محظورات الإحرام إنَّما تترتَّب

(1)

على المحرم لا على المحلِّ.

ولا يقال: إنَّه بإقدامه على إنشاء الإحرام وهو متلبِّس بمحظوراته

(1)

في (ب): ترتب. وفي (ج): ترتبت. وفي (د): يترتَّب.

ص: 435

متسبِّب إلى مصاحبة اللُّبس في الإحرام، كما لا يقال مثل ذلك في الحالف والنَّاذر؛ فإنَّه كان يمكنه ألَّا يحلف ولا ينذر حتَّى يترك التَّلبُّس بما يحلف عليه.

ومنه: ما إذا فعل فعلاً محرَّماً ساهياً

(1)

أو ناسياً ثمَّ ذكر؛ فإنَّه يجب عليه قطعه في الحال، ولا يترتَّب عليه أحكام المتعمِّد له.

النَّوع الثاني: أن يمنعه الشَّارع من الفعل في وقت معيَّن، ويعلم بالمنع، ولكن لا يشعر بوقت المنع حتَّى يتلبَّس بالفعل، فيقلع عنه في الحال، فاختلف أصحابنا في ذلك على وجهين:

أحدهما: أنَّه لا يترتَّب عليه حكم الفعل المنهيِّ عنه، بل يكون إقلاعه تركاً للفعل؛ لأنَّ ابتداءه كان مباحاً، حيث وقع قبل وقت التَّحريم، وهو اختيار أبي حفص العكبريِّ.

والثَّاني: أنَّه يكون حكمه حكم الفاعل بتركه؛ لإقدامه على الفعل، مع علمه بتحريمه في وقته، لا سيَّما مع قرب الوقت، وهذا ظاهر المذهب.

ومن صور المسألة: ما إذا جامع في ليل رمضان، فأدركه الفجر وهو مجامع، فنزع في الحال.

فالمذهب: أنَّه يفطر بذلك، وفي الكفَّارة روايتان.

واختار أبو حفص: أنَّه لا يفطر.

ولا خلاف في أنَّه

(2)

لا يأثم إذا كان حال الابتداء متيقِّناً لبقاء اللَّيل.

(1)

في (ب): جاهلاً.

(2)

قوله: (في) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن).

ص: 436

وبنى بعض الأصحاب المسألة على أصل آخر، وهو أنَّ النَّزع هل هو جزء من الجماع أو ليس من الجماع؟ وحكوا في المسألة روايتين.

واختار الشَّيخ تقيُّ الدِّين

(1)

: أنَّه لا يفطر بالنزَّع في هذه الحال، ولا بالأكل ولا غيره؛ بناءً على أنَّه إنَّما يتعلق به حكم وجوب الإمساك عن المفطرات بعد العلم بطلوع الفجر؛ فلا يكون الواقع منها في حالة الطُّلوع محرَّماً البتَّة، كما قلنا في محظورات الإحرام: إنَّها إنَّما تثبت بعد التَّلبُّس به.

وقد روي عن أحمد ما يدلُّ على ذلك، فإنَّه قال: إذا شكَّ في طلوع الفجر؛ فإنَّه يأكل حتَّى لا يشكَّ أنَّه طلع

(2)

، وفي المسألة أحاديث وآثار كثيرة تدلُّ على ذلك، والله أعلم

(3)

.

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (16/ 22)، (25/ 263).

(2)

جاء في مسائل أبي داود (ص 134): (سمعت أحمد سئل عمن شك في الفجر؟ قال: يأكل حتى يستيقن).

(3)

فمن الأحاديث: ما أخرجه أحمد (10629)، وأبو داود (2350)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده؛ فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه» ، وزاد في روايةٍ عند أحمد:«وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر» ، وهي من قول عمار بن أبي عمار كما ذكر ابن حزم، وقد ذكر ابن حزم أن الحديث محمول على أنه لم يكن يتبين لهم الفجر بعد. ينظر: المحلى 4/ 370.

ومن الآثار: ما أخرجه عبد الرزاق (7365)، وابن أبي شيبة (9058)، عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال:«إذا نظر رجلان إلى الفجر، فشك أحدهما؛ فليأكلا حتى يتبين لهما» ، وما أخرجه عبد الرزاق (7367)، وابن أبي شيبة (9067)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:«أحل الله لك الشراب ما شككت حتى لا تشك» ، وأخرجا أيضًا عن غيرهما من الصحابة والتابعين بنحو ذلك.

ص: 437

ومنها: إذا وطئ امرأته، فحاضت في أثناء الوطء، فنزع؛ فهل تلزمه الكفَّارة؟

إذا قلنا: يلزم المعذور

(1)

؛ فمن الأصحاب من خرَّجها على أنَّ النَّزع هل هو جماع أو ترك للجماع؟

ومنهم من خرَّجها على مسألة الصَّوم.

والأظهر: أنَّه إن كان يعلم بمقتضى العادة قرب وقت حيضها، ثمَّ وطئ وهو يخشى مفاجأة الحيض؛ فهو شبيه بمسألة

(2)

الصَّوم، وإلَّا فلا كفَّارة؛ لأنَّه إنَّما تعلَّق به المنع بعد وجود الحيض، وقد ترك الوطء حينئذ.

وكذلك ينبغي أن يقال في الواطئ في ليل الصِّيام: إنَّه إن ظنَّ بقاء اللَّيل وأنَّه في مهلة منه؛ لم يفطر، وإن خشي مفاجاة الفجر؛ أفطر؛ لأنَّه أقدم على مكروه أو محرَّم ابتداء.

النَّوع الثَّالث: أن يعلم قبل الشُّروع في فعل أنَّه متى شرع فيه ترتَّب عليه تحريمه وهو متلبِّس به، فهل يباح له الإقدام على ذلك الفعل؛ لأنَّ التَّحريم لم يثبت حينئذ، أم لا يباح؛ لأنَّه يعلم أن إتمامه يقع حراماً؟ فيه لأصحابنا قولان.

ومثال ذلك: أن يقول لزوجته: إن وطئتك فأنت طالق ثلاثاً، أو: فأنت عليَّ كظهر أمِّي، ومثل: أن يعلم أنَّه متى أولج في هذا الوقت؛

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

في (ب): مسألة.

ص: 438

طلع عليه الفجر وهو مولج؛ فحكى الأصحاب في مسألة الطَّلاق والظِّهار روايتين، بنوهما على أنَّ النَّزع هل هو جماع أو ليس بجماع؟

ورجَّح صاحب «المغني» التَّحريم في مسألة الطَّلاق والظِّهار

(1)

على كلا القولين

(2)

؛ لأنَّه استمتاع بأجنبيَّة

(3)

، وهو حرام، ولو كان

(4)

لمس بدنها لشهوة؛ فلمس الفرج بالفرج أولى، بخلاف الصَّائم؛ فإنَّه لا يفطر إلَّا بالوطء، ويمكن منع كون النَّزع وطئاً

(5)

.

قال

(6)

: (فإن قيل: فهذا

(7)

إنَّما يحصل ضرورة ترك الوطء الحرام.

قلنا: فإذا لم يمكن الوطء إلَّا بفعل

(8)

محرَّم؛ حرم؛ ضرورةَ ترك الحرام، كما لو اختلط لحم الخنزير بلحم مباح لا يمكنه أكله إلَّا بأكل لحم الخنزير، أو اشتبهت ميتة بمذكَّاة؛ فإنَّ الجميع يحرم) انتهى

(9)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

كتب على هامش (ن): (يعني: في أنَّ النَّزع جماع أو ليس بجماع).

(3)

كتب على هامش (ن): (هذا خاص بمسألة الطَّلاق).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: الاستمتاع).

(5)

كتب على هامش (ن): (يعني: فلا يفطر بالنَّزع).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: صاحب «المغني»).

(7)

كتب على هامش (ن): (يعني: النَّزع).

(8)

كتب على هامش (ن): (وهو النَّزع).

(9)

ينظر: المغني (7/ 559).

ص: 439

وليس هذا

(1)

مطابقاً لمسألتنا؛ فإنَّ ابتداء الوطء هنا منفرد عن الحرام متميِّز عنه، لم يشتبه بحرام ولم يختلط به، فإذا انضمَّ إلى ذلك أنَّ النَّزع ترك للحرام؛ لم يبق ههنا حرام.

وأيضاً: فإنَّ النَّزع ههنا مقارن للبينونة؛ فيمكن النِّزاع في تحريمه

(2)

كما وقع النِّزاع في ترتُّب أحكام الزَّوجيَّة معه

(3)

، وأمَّا الإيلاج، فمقارن لشرط البينونة.

فإن قيل: إنَّ المقارن للشَّرط كالمقارن للمشروط، على ما سبق تقريره في القاعدة التي قبلها؛ توجَّه تحريمه أيضاً، وإلَّا فلا.

وأيضاً: فمن يقول: النَّزع جزء من الجماع، والجماع

(4)

عبارة عن الإيلاج والنَّزع؛ يلتزم أنَّ الطَّلاق والظِّهار إنَّما يقعان بعد النَّزع لا قبله؛ فلا يحصل النَّزع في أجنبيَّة ولا مظاهر منها.

ولا يقال: يلزم على هذا

(5)

ألَّا يفطر الصَّائم بالإيلاج قبل غروب

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: اختلاط لحم الخنزير بلحم مباح، واشتباه الميِّتة بالمذكَّاة).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: تحريم النَّزع المقارن للبينونة).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: مع النَّزع المقارن للبينونة، كما لو طلَّق طلاقاً رجعيًّا بعد الإيلاج وقبل النَّزع، فهل تحصل الرجعة بالنَّزع إذا قلنا بحصولها بالوطء؟).

(4)

في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): وأن الجماع. وفي (هـ): فإن الجماع.

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: كون الجماع عبارة عن الإيلاج والنَّزع).

ص: 440

الشَّمس إذا نزع بعده؛ لأنَّ مفطرات الصَّائم لم تنحصر في الجماع وحده، بل تحصل بأمور متعدِّدة؛ فيجوز أن يحصل بأحد جزأي الجماع كما يحصل بالإنزال بالمباشرة ونحوه، بخلاف الأحكام المترتِّبة على مسمَّى الوطء

(1)

؛ فإنَّها لا تثبت إلَّا بعد تمام مسمَّى الوطء.

النَّوع الرَّابع: أن يتعمَّد الشُّروع في فعل محرَّم عالماً بتحريمه، ثمَّ يريد تركه والخروج منه وهو متلبِّس به؛ فيَشْرَع في التَّخلص منه بمباشرته أيضاً؛ كمن توسَّط داراً مغصوبة، ثمَّ تاب وندم وأخذ في الخروج منها، أو طيَّب المحرِم بدنَه عامداً، ثمَّ تاب وشرع في غسله بيده قصداً لإزالته، أو غصب عيناً، ثمَّ ندم وشرع في حملها على رأسه إلى صاحبها، وما أشبه ذلك.

والكلام ههنا في مقامين:

أحدهما: هل تصحُّ التَّوبة في هذه الحال ويزول الإثم بمجرَّدها، أم لا يزول حتَّى ينفصل عن ملابسة الفعل بالكليَّة؟ فيه لأصحابنا وجهان:

أحدهما: وهو قول ابن عقيل

(2)

: أنَّ توبته صحيحة، ويزول عنه الإثم بمجرَّدها، ويكون تخلُّصه من الفعل طاعة وإن كان ملابساً له؛ لأنَّه مأمور به فلا يكون معصية، ولا يقال: من شرط التَّوبة الإقلاع ولم يوجد؛ لأنَّ هذا هو الإقلاع بعينه.

(1)

كتب على هامش (ن): (يعني: كما في تعليق الطَّلاق أو الظهار على الوطء).

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 441

وأيضاً: فالإقلاع إنَّما يشترط مع القدرة عليه دون العجز، كما لو تاب الغاصب وهو محبوس في الدَّار المغصوبة، أو توسَّط جمعاً من الجرحى متعمِّداً، ثمَّ تاب وقد علم أنَّه إن أقام قتل من هو عليه، وإن انتقل قتل غيره، لكنَّ

(1)

هذا

(2)

من محلِّ النِّزاع أيضاً.

والوجه الثَّاني: وهو قول أبي الخطَّاب: أنَّ حركات الغاصب ونحوه في خروجه ليست طاعة ولا مأموراً بها، بل هي معصية، ولكنَّه يفعلها لدفع أكبر

(3)

المعصيتين بأقلِّهما.

وأبو الخطَّاب وإن قال: ليست طاعة؛ فهو يقول: لا إثمَ فيها، بل يقول بوجوبها، وهو معنى الطَّاعة

(4)

.

وخرَّج بعض الأصحاب الخلاف في هذه المسألة: على الخلاف في جواز الإقدام على الوطء في مسائل النَّوع الثَّالث، فإن قيل بجوازه؛ لزم أن يكون التَّرك امتثالاً من كلِّ وجه، فلا يكون معصية، وإن قيل بتحريمه؛ لزم تحريم التَّرك ههنا.

(1)

كتب على هامش (ن): (هو كلام المصنِّف).

(2)

كتب على هامش (ن): (المقيس عليه: وهو غاصب الدَّار الَّتي هو محبوس فيها، والمتوسط الجرحى إذا تابا).

(3)

في (أ) و (ج) و (هـ): أكثر.

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: حقيقتها؛ إذ هي فعل الواجب على وجه القربة، وهذا كذلك).

ص: 442

وقد يفرَّق

(1)

: بأنَّ التَّحريم ثَمَّ طارئ، وهنا مستصحب من الابتداء؛ فلا يلزم من الجواز ثَمَّ الجوازُ ههنا، ويلزم من التَّحريم هناك التَّحريم ههنا بطريق الأولى.

والمقام الثَّاني: في الأحكام المترتِّبة على هذا الأصل، وهي كثيرة:

فمنها: غسل الطِّيب للمحرم بيده يجوز؛ لأنَّه تركٌ للتَّطيُّب لا فعل له، ذكره الأصحاب، واستدلُّوا بحديث الَّذي أحرم وهو متضمِّخ بطيب، فأمره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يغسله عنه

(2)

، ولكن هذا كان جاهلاً بالحكم؛ فهو كمن تطيَّب بعد إحرامه ناسياً؛ فإنَّه يغسله بغير خلاف.

وخصَّ كثير من الأصحاب كالقاضي وغيره الحكم بالنَّاسي، وهو مشعر أنَّ العامد بخلافه، وهو متخرِّج على الخلاف السَّابق في كونه معصية.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: بين مسألة الغاصب إذا تاب وبين مسائل النَّوع الثَّالث، ومع الفرق لا يصحُّ التَّخريج المذكور).

(2)

وهو ما أخرجه البخاري (4329)، ومسلم (1180) من حديث صفوان بن يعلى بن أمية: أن يعلى كان يقول: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه، قال: فبينا النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به معه فيه ناس من أصحابه، إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمخ بطيب، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بالطيب؟ فأشار عمر إلى يعلى بيده: أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه، يغط كذلك ساعة، ثم سري عنه، فقال:«أين الذي يسألني عن العمرة آنفًا» فالتمس الرجل فأتي به، فقال:«أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزِعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك» .

ص: 443

والصَّحيح: التَّعميم؛ لأنَّ مباشرة الفعل إنَّما جازت ضرورة الخروج منه، والمحرِم لا ضرورة له في الغسل بيده، فلمَّا أذن الشَّارع فيه؛ دلَّ على أنَّ مباشرة الطِّيب لقصد إزالته ومعالجته غير ممنوع.

ومنها: إذا تعمَّد المأموم سبق إمامه في ركوع أو سجود، وقلنا: لا تبطل صلاته بمجرَّد تعمُّد السَّبق

(1)

؛ فهل يجب عليه العود إلى متابعة الإمام أم لا؟

أطلق أكثر الأصحاب وجوب العود، من غير تفريق بين العامد وغيره، كما وردت به الآثار عن الصَّحابة؛ كعمر وابنه وابن مسعود رضي الله عنهم

(2)

.

وفرَّق صاحب «المحرر» بين العامد وغيره، وقال: متى عاد العامد؛ بطلت صلاته؛ لأنَّه قد تعمَّد زيادة ركن كامل عمداً، وإنَّما يعود السَّاهي والجاهل

(3)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

أثر عمر رضي الله عنه: أخرجه عبد الرزاق (3758)، وابن أبي شيبة (4622): أن عمر رضي الله عنه قال: «أيما رجل رفع رأسه قبل الإمام في ركوع أو في سجود؛ فليضع رأسه بقدر رفعه إياه» .

وأثر ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه ابن أبي شيبة (4623): عن سليمان بن كندير، قال:«صليت إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما فرفعت رأسي قبل الإمام، فأخذه فأعاده» .

وأثر ابن مسعود رضي الله عنه: أخرجه البخاري تعليقاً (1/ 138)، ووصله عبد الرزاق (3757)، وابن أبي شيبة (4620) عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:«لا تبادروا أئمتكم بالركوع ولا بالسجود، فإن سبق أحد منكم فليضع قدر ما يسبق به» .

(3)

ينظر: المحرر (1/ 102).

ص: 444

وقد يقال: إنَّ عود العامد يتخرَّج على أنَّ العود إنَّما هو قطع للفعل المنهيِّ عنه الَّذي ارتكبه ورجوعٌ عنه إلى متابعة الإمام الواجبة؛ فلا يكون منهيًّا عنه، بل مأمورًا به؛ كالخروج من الدَّار المغصوبة ونحوها على ما سبق.

وقد يفرَّق

(1)

: بأنَّ حقيقة السُّجود وضع الأعضاء المخصوصة على الأرض، فإذا زيد هذا المقدار عمداً؛ بطلت به الصَّلاة، وأمَّا الهويُ إليه والرَّفع منه فليسا من ماهيَّته، وإنَّما هما حدَّان له؛ فلا أثر لنيَّة قطعه بالرَّفع، فإنَّ الرَّفع ليس منه

(2)

، وإنَّما هو غاية له، وفصل بينه وبين غيره، وما مضى منه ووجد لا يمكن رفعه، وهو سجود تامٌّ؛ فتبطل الصَّلاة بزيادته عمداً، وهذا قد يلزم منه أنَّ السَّبق بالرُّكن عمداً يُبطل الصَّلاة، وقد قيل: إنَّه المنصوص عن أحمد.

وعلى الوجه الآخر

(3)

؛ فيقال: لمَّا لحقه الإمام في هذا الرُّكن واجتمع معه فيه؛ اكتفى بذلك في المتابعة.

(1)

قال ابن نصر الله رحمه الله: لم يظهر هنا تفريق ولا ما هما المفرَّق بينهما، وكأن حاصله: لزوم بطلان الصَّلاة بمجرَّد وضع الأعضاء المخصوصة على الأرض عمداً، خلاف النَّاسي والجاهل، فيكون المراد: التَّفريق بين العامد وبينهما، ولم يشتمل كلامه على وجه الفرق، والفرق بينهما بالحقيقة: إنَّما هو الإساءة بالتَّعمُّد.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: السُّجود).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو القول بالصِّحَّة مع العمد).

ص: 445

‌قاعدة [59]

العقود لا تَرِد إلَّا على موجود بالفعل أو بالقوَّة، وأمَّا الفسوخ فتَرِد على المعدوم حكماً واختياراً على الصَّحيح

، وقد دلَّ عليه حديث المصرَّاة

(1)

(2)

؛ حيث أوجب الشَّارع ردَّ صاع التَّمر عوضاً عن اللَّبن بعد تلفه، وهو ممَّا ورد العقد عليه؛ فدلَّ على أنَّه حكم بفسخ العقد فيه وردِّ عوضه مع أصله والرُّجوع بالثَّمن كاملاً.

فأمَّا الانفساخ الحكميُّ بالتَّلف؛ ففي مواضع:

منها: إذا تلف المبيع المبهم قبل قبضه؛ انفسخ العقد فيه وفي عوضه، سواء كان ثمناً أو مثمناً.

ومنها: إذا تلفت الثِّمار المشتراة في رؤوس الشَّجر قبل جَدِّها بجائحة؛ فإنَّ العقد ينفسخ فيها.

ومنها: إذا تلفت العين المستأجرة قبل مضيِّ مدَّة الإجارة؛ انفسخ

(1)

وهو ما أخرجه البخاري (2150) ومسلم (1515)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:«لا تُصَرُّوا الغنم، ومن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر» .

(2)

كتب في هامش (ب): (الاستدلال بالحديث فيه نظر، فإنَّ الفسخ إنَّما ورد على الشاة لا على اللَّبن، ودخلت قيمة اللَّبن تبعاً للمصرَّاة).

ص: 446

العقد فيما بقي منها.

وأمَّا الفسخ الاختياريُّ؛ فكثير.

ومن مسائله: إذا تلف المبيع في مدَّة الخيار؛ هل يسقط الخيار، أم لا يسقط وللبائع الفسخ ويرجع بعوضه ويردُّ الثَّمن؟ على روايتين معروفتين

(1)

.

ونقل عنه أبو طالب: إن أعتقه المشتري أو تلف عنده؛ فللبائع الثَّمن، وإن باعه ولم يمكنه ردُّه؛ فله القيمة

(2)

.

ففرَّق بين التَّلف الحسيِّ والحكميِّ وبين التَّفويت مع بقاء العين؛ فأجاز الفسخ مع بقائها لإمكان الرُّجوع، بخلاف التَّلف.

وأيضاً: فتصرُّفه بالبيع في مدَّة الخيار جناية حال بها بين البائع والرُّجوع في ماله، فيملك أن يفسخ ويضمنه القيمة للحيلولة، وإلى هذا المأخذ أشار أحمد رحمه الله.

ومنها: إذا اختلف المتبايعان في الثَّمن بعد تلف المبيع، وفيه روايتان:

إحداهما: يتحالفان

(3)

، ويفسخ البيع، ويغرَّم المشتري القيمة.

والثَّانية: القول قول المشتري مع يمينه في قدر الثَّمن، ولا فسخ، اختارها أبو بكر.

(1)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: يسقط).

(2)

ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 314).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 447

ومنها: إذا تبايعا جارية بعبد أو بثوب، ثمَّ وجد أحدهما بما قبضه عيباً وقد تلف الآخر؛ فإنَّه يردُّ ما بيده ويفسخ العقد، ويرجع بقيمة التَّالف، نصَّ عليه أحمد في رواية حنبل وابن منصور، ولم يذكر الأصحاب فيه خلافاً؛ لأنَّ هنا عينًا باقية يمكن الفسخ فيها، فيقع الفسخ في التَّالف تبعاً، كما لو كان الثَّمن نقداً معيَّناً وقد تلف؛ فإنَّه لا خلاف أنَّه يردُّ السِّلعة بالعيب ويأخذ بدل الثَّمن.

ومنها: إذا تلف بعض المبيع المعيب وأراد ردَّه؛ فهل يجوز ردُّ الموجود مع قيمة المفقود ويأخذ الثَّمن؟

ظاهر كلام القاضي في «خلافه» في المسألة الَّتي قبلها جوازه؛ لأنَّ الفسخ في المفقود هنا

(1)

تابع للفسخ في الموجود.

وخرَّجه صاحب «التَّلخيص» على روايتين فيما إذا اشترى شيئاً، فبان معيباً وقد تعيَّب عنده

(2)

، فإنَّه يردُّه على إحدى الرِّوايتين، ويردُّ معه أرش العيب الحادث عنده منسوباً من قيمته لا من ثمنه، فورد الفسخ هنا على المفقود تبعاً للموجود.

واعتذر ابن عقيل عن ضمانه بالقيمة

(3)

: بأنَّه لمَّا فسخ العقد؛ صار

(1)

قوله: (هنا) سقط من (أ) و (و) و (ن).

(2)

كتب على هامش (ن): (فإنَّ تَلَف بعض المبيع عيب فيه، أشبه ما إذا تعيَّب بعيب غير تلف بعضه).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: لا بالثَّمن، كما في أرش العيب الَّذي يأخذه المشتري).

ص: 448

المبيع في يده كالمقبوض على وجه السَّوم؛ لأنَّه قبض بحكم عقد، فلذلك ضمن بالقيمة، وهذا رجوع إلى أنَّ الفسخ رفع للعقد من أصله

(1)

، وهو ضعيف.

ومقتضى هذا: أنَّ الأصل ضمانه بجزء من الثَّمن، وهو مقتضى ما ذكره القاضي وابن عقيل في مسائل التَّفليس؛ لأنَّ كلَّ جزء من المبيع مقابل بجزء من الثَّمن، فإذا لم يمكن ردُّ المبيع كلِّه؛ ردَّ الموجود منه بقسطه من الثَّمن كما في تفريق الصَّفقة.

وهذا بخلاف أرش العيب الَّذي يأخذه المشتري من البائع، فإنَّه يأخذه منسوباً من الثَّمن، واختلف الأصحاب فيه:

فمنهم من يقول: هو فسخ للعقد في مقدار العيب، ورجوع بقسطه من الثَّمن، وعلى هذا؛ فالفسخ ورد على معدوم مستحَقِّ

(2)

التَّسليم،

(1)

كتب على هامش (ن): (قد يُمنع ذلك، ويقال: بل ومع القول بأنَّه رَفْع للعقد من حينه يصير في يد البائع كالمقبوض على وجه السوم؛ لأنَّه قد تبين أنَّ الثَّمن المسمَّى قد ارتفع حكمه، ويجاب عن ذلك: بأنَّه إنَّما يفيد هذا لو كان تلف الجزء في يد المشتري بعد الفسخ، أمَّا مع تقدُّم التَّلف عليه؛ فلا بدَّ من تقدير تقدُّم الفسخ عليه؛ ليكون في حالة تلفه غير معقود عليه، ولا يحصل ذلك إلَّا بتقدير كون الفسخ رفعاً للعقد من أصله، وقد سنح لي فرق بين أرش العيب الَّذي يأخذه المشتري وأرش العيب الَّذي يأخذه البائع هنا، وذلك أنَّ الَّذي يأخذه المشتري يأخذه مع قيام عقد البيع، فلهذا كان منسوباً إلى الثَّمن لا إلى القيمة، والَّذي يأخذه البائع إنَّما يأخذه بعد رفع عقد البيع، فلا يبقى هناك من ينسب الأرش إليه، ويصير كما لو تلف هذا الجزء في يد غاصب أو مشتر من غاصب).

(2)

في (ب): يستحقُّ.

ص: 449

وهذا في المشترَى في الذِّمة كالسَّلم ظاهرٌ؛ لأنَّه كان يستحقُّه سليماً، فأمَّا في المعيَّن؛ فلم يقع العقد على غير عينه، فلا يمكن أن يكون الأرش فسخاً، إلَّا أن يقال: إطلاق العقد على العين يقتضي سلامتها؛ فكأنَّها موصوفة بصفة السَّلامة، وقد فاتت.

ومنهم من يقول: بل هو عوض

(1)

عن الجزء الفائت، وعلى هذا: فهل هو عوض عن الجزء نفسه أو عن قيمته؟

ذهب القاضي في «خلافه» : إلى أنَّه عوض عن القيمة

(2)

.

وذهب ابن عقيل في «فنونه» وابن المني: إلى أنَّه عوض عن العين الفائتة

(3)

.

(1)

في (أ) و (ج): عوض جزء.

(2)

كتب على هامش (ن): (ولعلَّه أقيس).

(3)

كتب على هامش (ن): (إذا كان المبيع في الذِّمَّة؛ لم يصحَّ القول بأنَّ أرشه معاوضة؛ لأنَّ العيب جزء من المسلَم فيه، والمسلَم فيه لا تعاوض عنه قبل قبضه، فيتعيَّن أنَّ أرشه بطريق الفسخ لثبوت العقد فيه، وإنَّما إذا كان المبيع معيَّناً، فيتَّجه فيه الإسقاط لعدم من يقول: البيع للجزء الفائت؛ إلَّا على التَّقدير السَّابق من أنَّ إطلاق العقد يقتضي سلامة العين، لكنَّ كونه يقتضي سلامتها يستلزم أنَّه إذا لم تكن سليمة أن يكون العقد شمل ما لم يكن موجوداً معها من صفاتها، فكأن العقد وقع على مجموع صفاتها، وتبيَّن أنَّ بعضها لم يكن موجوداً، فيصحُّ في الموجود بقسطه من الثَّمن، ويبطل في المفقود؛ لعدم صحَّة العقد عليه، ويتوَّجه حينئذ الخلاف في تفريق الصَّفقة فيه، وإذا كان كذلك؛ لم يصحَّ كون أرش المفقود معاوضة عنه، بل إسقاط لقسطه من الثَّمن؛ لعدم صحَّة العقد فيه، فإن تعذَّر الرُّجوع بقسطه من عين الثَّمن؛ رجع بعوضه، وهو مثله إن كان مثليًّا، وقيمته إن لم يكن مثليًّا).

ص: 450

وينبني على ذلك: جواز المصالحة عنه بأكثر من قيمته.

فإن قلنا: المضمون العين؛ فله المصالحة عنها بما شاء.

وإن قلنا: القيمة؛ لم يجز أن يصالح عنها بأكثر منها من جنسها.

ومنهم من قال: هو إسقاط لجزء من الثَّمن في مقابلة الجزء الفائت الَّذي تعذَّر تسليمه

(1)

لا على وجه الفسخ؛ لأنَّ الفسخ لا يقابل الصِّحَّة

(1)

كتب على هامش (ن): (وهذا القول لعلَّه أظهر الأقوال؛ لأنَّه لو كان فسخاً؛ استدعى انعقاد البيع على الجزء الفائت، ولا يمكن القول به؛ لتعذُّر تسليمه، ولو كان معاوضة؛ توقَّف على رضى البائع، وهو لا يتوقَّف على رضاه فتعيَّن كونه إسقاطاً، بمعنى أنَّ العقد وقع على العين المبيعة بناء على وجود الجزء فيها، فتبيَّن أنَّه مفقود، فيتبين أن البيع لم يصح فيه، ويصح في بقية أجزائها بقسطها من الثَّمن، ويسقط قسط ذلك الجزء من الثَّمن؛ لعدم صحَّة البيع فيه، ويكون من باب تفريق الصَّفقة؛ لوقوع البيع فيه على ما يجوز بيعه وعلى ما لا يجوز، ولهذا يثبت فيه خيار الرَّدِّ، ولا يلزم جريان الخلاف في صحَّة العقد للإجماع على صحَّته دون غيره من الصِّحَّة).

ص: 451

والسَّلامة، وإنَّما يقابل الأجزاء المشاعة، فإذا عقد على عين موصوفة وفات بعض صفاتها؛ رجع بما قابله من الثَّمن من غير فسخ.

وكلٌّ من هذه الأقوال الثَّلاثة قاله القاضي في موضع من «خلافه» ، وينبني على الخلاف في أنَّ الأرش فسخ أو إسقاط لجزء من الثَّمن أو معاوضة: أنَّه إن كان فسخاً أو إسقاطاً؛ لم يرجع إلَّا بقدره من الثَّمن، ويستحقُّ جزءاً من عين

(1)

الثَّمن مع بقائه، بخلاف ما إذا قلنا: هو معاوضة.

وأمَّا إن أسقط المشتري خيار الرَّدِّ بعوض بذله له

(2)

البائع وقَبِلَه؛ فإنَّه يجوز على حسب ما يتَّفقان عليه، وليس من الأرش في شيء، ذكره القاضي وابن عقيل في الشُّفعة، ونصَّ أحمد على مثله في النِّكاح في خيار المعتقة تحت عبد.

ومنها: إذا تلفت العين المعيبة كلُّها؛ فهل يملك المشتري الفسخ وردَّ بدلها أم لا؟

الَّذي عليه الأكثرون: أنَّه لا يملك ذلك

(3)

، وأشار إليه أحمد في رواية ابن منصور

(4)

، قالوا: لأنَّ الردَّ يستدعي مردوداً، ولا مردود إلَّا

(1)

في (ب): غير.

(2)

قوله: (له) سقط من (أ).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

لعله يشير إلى ما قاله إسحاق بن منصور (6/ 2850): (قلت: رجل ابتاع عبدًا فكاتبه، فوجد به عيبًا بعدما كاتبه؟ قال سفيان: ليس على البائع شيء؛ لأنه بمنزلة البيع، قال أحمد: لولا عتقه كان له أن يرجع عليه ما بين الداء والصحة)، فلم يثبت له حق الفسخ، وإنما أثبت له الأرش فقط.

ص: 452

مع بقاء العين، وظلامته تستدرك بالأرش، وهو ضعيف؛ لأنَّ البدل يقوم مقام العين.

وخرَّج القاضي في «خلافه» : جواز ذلك من ردِّ المشتري أرش العيب الحادث عنده كما تقدَّم، وذكر أنَّه قياس المذهب، وتابعه عليه أبو الخطاب في «انتصاره» ، وجزم بذلك ابن عقيل في «الفصول» من غير خلاف حكياه

(1)

.

ومنها: إذا اشترى ربويًّا بجنسه فبان معيباً، ثمَّ تلف قبل ردِّه؛ فإنَّه يملك الفسخ، ويردُّ بدلَه ويأخذ الثَّمن؛ لأنَّه لا يجوز له أخذ الأرش على الصَّحيح لمحذور الرِّبا؛ فتعيَّن الفسخ.

ومنها: الإقالة؛ هل تصحُّ بعد تلف العين؟

قال القاضي مرَّة: لا تصحُّ

(2)

(3)

؛ لأنَّها عقد يقف على الرِّضا من الجانبين؛ فهي كالبيع، بخلاف الرَّدِّ بالعيب.

ثمَّ قال في موضع آخر: قياس المذهب صحَّتها

(4)

بعد التَّلف إذا

(1)

في (ج) و (د) و (و) و (ن): حكاه.

(2)

في (ب): يصحُّ.

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

كتب على هامش (ن): (إنَّما جعل ذلك القاضي قياس المذهب، قياساً على الرَّدِّ بالعيب بعد تلف المبيع، فإنَّه أيضاً جعل قياس المذهب فيها جواز الرَّدِّ، وهما من منهج واحد؛ لكونهما فسخين، وقد ذُكرت هذه المسألة في الفوائد في مسألة هل الإقالة فسخ أو بيع؟).

ص: 453

قلنا: هي فسخ، وتابعه أبو الخطاب في «الانتصار» ، وابن عقيل في «نظريَّاته» .

وحكى صاحب «التَّلخيص» فيها وجهين، بخلاف الرَّدِّ بالعيب، وفرَّق: بأنَّ الرَّدَّ يستدعي مردوداً، بخلاف الفسخ.

وهو ضعيف؛ فإنَّ الرَّدَّ فسخ أيضاً، والإقالة تستدعي مقالاً فيه، ولكنَّ البدل يقوم مقام المبدل هنا للضَّرورة.

ومنها: الشَّركة في البيوع، وهي نوع منها، وحقيقتها: أن يشتري رجل شيئاً، فيقول لآخر: أشركتك في نصفه أو جزء مشاع منه، فقبل؛ يصحُّ ذلك

(1)

، ويكون تمليكاً منجَّزاً بعوض في الذِّمَّة.

وموضوع هذا العقد: أنَّه إن ربح المال المشترك فيه؛ فالرِّبح بينهما، ويتقاصان

(2)

بالثَّمن، ويصير المشترك شريكاً في الرِّبح، فيأخذ حصَّتَه منه، وإن تلف المال أو خسر؛ انفسخت الشَّركة؛ فيكون الخسران أو التَّلف على المشتري، فيقدَّر انفساخ الشَّركة حكماً في آخر زمن الملك قبل بيعه بخسارة أو تلفه، وإنَّما يحكم بالانفساخ بعد التَّلف والخسران؛ فيكون هذا العقد مفيداً للشَّركة في الرِّبح خاصَّة، ويكون فسخه معلَّقاً على شرط، ويُكتفَى في ذلك بمسمَّى

(3)

الشَّركة من غير

(1)

في (أ): فيصح.

(2)

في (ب): أو يتقاصَّان. وفي (هـ): ويتحاصَّان.

(3)

في (هـ): مسمَّى.

ص: 454

حاجة إلى شرط لفظيٍّ

(1)

.

وقد نصَّ أحمد على جواز هذا في رواية جماعة؛ منهم: الأثرم ومهنَّى وأحمد بن القاسم وسنديٌّ

(2)

وأبو طالب وأحمد بن سعيد

(3)

وابن منصور

(4)

وغيرهم، ونُقل مثل ذلك عن شريح والشَّعبيِّ صريحاً.

وسُئَل أحمد: هل يدخل هذا في ربح ما لم يضمن؟ فقال: هو مثل المضارب، يأخذ الرِّبح ولا ضمان عليه.

وقد أشكل توجيه كلام أحمد على القاضي؛ فحمله على محاملَ بعيدة جدًّا.

وحمله ابن أبي موسى على ظاهره، وتبعه الشِّيرازيُّ إلَّا أنَّه خرَّج وجهاً آخر: أنَّ الوضيعة عليهما كالرِّبح.

(1)

كتب على هامش (ن): (ليست هذه المسألة في شيء من مشاهير كتب الأصحاب إلَّا في «المستوعب»، فإنَّه ذكرها في أثناء كلامه في شركة الوجوه، وذكر فيها تأويل قول أحمد على تلف المبيع قبل قبضه، فليراجع منه).

(2)

هو سندي أبو بكرٍ الخواتيمي البغدادي، سمع من الإمام أحمد مسائل صالحة. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 170.

(3)

هو أحمد بن سعيد أبو جعفر الدارمي، نقل عن الإمام أحمد أشياء. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 46.

(4)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2615).

ص: 455

‌قاعدة [60]

التَّفاسخ في العقود الجائزة متى تضمَّن ضرراً على أحد المتعاقدين أو غيرهما ممَّن له تعلُّق بالعقد

؛ لم يجز ولم ينفذ، إلَّا أن يمكن استدراك الضَّرر بضمان أو نحوه؛ فيجوز على ذلك الوجه.

فمن ذلك: الموصى إليه؛ أطلق كثير من الأصحاب: أنَّ له الرَّدَّ بعد القبول في حياة الموصي وبعده.

وقيَّد ذلك صاحب «المحرر» بما إذا وجد حاكماً؛ لئلَّا يضيع إسنادها فيقع الضَّرر، وأخذها من رواية حنبل عن أحمد في الموصى يدفع الوصيَّة إلى الحاكم فيبرأ منها، قال: إن كان حاكماً؛ فنعم.

وحكى رواية أخرى: أنَّه لا يملك الرَّدَّ بعد الموت بحال، ولا قبله إن لم يُعلِمه بذلك؛ لما فيه من التَّغرير به.

وحكى ابن أبي موسى رواية: ليس له الرَّدُّ بحال إذا قَبِلَ، ومن الأصحاب من حملها على ما بعد الموت، وحكاها القاضي في «خلافه» صريحاً في الحالين.

ومنها: الوكيل في بيع الرَّهن إذا عزله الراهن يصحُّ عزله على المنصوص؛ لأنَّ الحاكم يأمره بالبيع ويبيع عليه.

وخرَّج ابن أبي موسى وجهاً آخر: أنَّه لا ينعزل؛ لأنَّ فيه تغريراً للمرتهن.

ص: 456

ويتخرَّج وجه ثالث بالفرق بين أن يوجد حاكم يأمر بالبيع أو لا؛ من مسألة الوصيَّة.

ومنها: أنَّه يجوز فسخ عقد الجعالة، لكن يستحقُّ العامل أجرة المثل؛ لبطلان المسمَّى بالفسخ، فإذا عمل به أحدٌ مستنداً إليه؛ استحقَّ أجرة المثل، كما لو سمَّى له تسمية فاسدة.

ويتخرَّج: أن يستحقَّ في جُعل الآبق المسمَّى بالشَّرع

(1)

؛ لأنه

(2)

المستحقُّ بالإطلاق، وقد صار وجود التَّسمية كالعدم.

ومنها: إذا فسخ المالك عقد المساقاة، وقلنا: هي جائزة

(3)

، فإن كان بعد ظهور الثَّمرة؛ فنصيب العامل فيها ثابت؛ لأنَّه يملكه بالظُّهور رواية واحدة؛ لأنَّ حصَّة المساقي ليست وقاية للمال، بخلاف المضارب، وكذلك لو فسخ العامل بعد الظُّهور.

وأمَّا إن كان الفسخ قبل الظُّهور: فإن كان من العامل؛ فلا شيء له لإعراضه، وإن كان من المالك؛ فعليه أجرة المثل للعامل؛ لأنَّه منعه من إتمام عقد يفضي إلى حصول المسمَّى له غالباً؛ فلزمه ضمانه، وأيضاً؛ فإنَّ ظهور الثَّمرة بعد الفسخ لعمل العامل فيها أثرٌ بالقيام عليها وخدمتها؛ فلا يذهب عمله مجَّاناً، وقد أثَّر في حصول المقصود.

ويتوجَّه على قول ابن عقيل في المضاربة: أن ينفسخ العقد بالنِّسبة

(1)

يشير إلى الحديث المرسل والآثار الواردة عن الصحابة في ذلك، وتقدم ذكرها (1/ 266).

(2)

في (ب): لأنَّ.

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 457

إلى المالك دون العامل؛ فيستحقُّ من الثَّمر المسمَّى له.

ومنها: إذا زارع رجلاً على أرضه، ثمَّ فسخ المزارعة قبل ظهور الزَّرع أو قبل البذر وبعد الحرث؛ قال ابن منصور في «مسائله»

(1)

: قلت لأحمد: الأكَّار

(2)

يريد أن يخرج من الأرض فيبيع الزَّرع، قال: لا يجوز بيعه حتَّى يبدو صلاحه، قلت: فيبيع عمل يديه وما عمل في الأرض، وليس فيها زرع، قال: لم يجب له شيء بعدُ، إنَّما يجب بعد التَّمام.

قال ابن منصور: يقول: يجب له بعد ما يبلغ الزَّرع لمَّا اشترط عليه أن يعمل حتَّى يفرغ، فأمَّا أن يكون يذهب عمل يديه وما أنفق في الأرض؛ فلا، وذلك أنَّه إذا أخرجه صاحبه أو خرج بإذنه، فإذا خرج من ذات نفسه، فليس له شيء) انتهى.

فحمل ابن منصور قول أحمد: (إنَّه لا شيء له)، على ما إذا خرج بنفسه؛ لأنَّه معرض عمَّا يستحقُّه من الأرض، بخلاف ما إذا أخرجه المالك أو خرج بإذنه.

وظاهر كلامه

(3)

: أنَّه يجب له أجرة عمله بيديه وما أنفق على الأرض من ماله، مع أنَّ كلام أحمد إنما فيه

(4)

: أنَّه لا يبيع آثار عمله؛

(1)

ينظر: (9/ 4667).

(2)

كتب في هامش (و): (الأكَّار: الفلَّاح).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: ابن منصور).

(4)

قوله: (إنما فيه) هو في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): (قد يُحمل على أنه أراد).

ص: 458

لأنَّها ليست أعياناً، وهذا لا يدلُّ على أنَّه لا حقَّ له فيها بالكليَّة، ولهذا نقول

(1)

في آثار الغاصب: إنَّه يكون شريكاً بها على أحد القولين، والمفلس ونحوه لا خلاف فيه، مع أنَّ القاضي قال في «الأحكام السُّلطانيَّة»

(2)

: قياس المذهب: جواز بيع العمارة الَّتي هي الإثارة

(3)

، ويكون شريكاً في الأرض بعمارته.

وأفتى الشَّيخ تقيُّ الدِّين فيمن زارع رجلاً على مزرعة بستانه ثمَّ أجَّرها؛ هل تبطل المزارعة؟ أنَّه إن زارعه مزارعة لازمة

(4)

؛ لم تبطل بالإجارة، وإن لم تكن لازمة؛ أعطى الفلاح أجرة عمله.

وأفتى أيضاً في رجل زرع أرضاً وكانت بُوراً وحرثها؛ فهل له إذا خرج منها فلاحة؟ أنَّه إن كان له في الأرض فلاحة لم ينتفع بها؛ فله قيمتها على من انتفع بها، فإن كان المالك انتفع بها أو أخذ عوضاً عنها من المستأجر؛ فضمانها عليه، وإن أخذ الأجرة عن الأرض

(5)

وحدها؛ فضمان الفلاحة على المستأجر المنتفع بها.

(1)

في (ب) و (د) و (ن): يقول.

(2)

(ص 210).

(3)

في (ب) و (و) و (ن): الآثار.

(4)

كتب على هامش (ن): (كأنَّه يريد لزومها على رواية كونها لازمة، والمذهب: أنَّها غير لازمة، فكأنَّه يقول: إن قلنا: المزارعة لازمة؛ لم تبطل بالإجارة، وإن قلنا: إنَّها غير الازمة؛ بطلت ولزمت المالك أجرة الفلَّاح).

(5)

قوله: (عن الأرض) سقط من (أ).

ص: 459

ونصَّ أحمد في رواية صالح

(1)

فيمن استأجر أرضاً مفلوحة وشرط عليه أن يردَّها مفلوحة كما أخذها: أنَّ له أن يردَّها عليه كما شرط، ويُخرَّج مثل ذلك في المزارعة.

ومنها: المضاربة تنفسخ بفسخ المالك لها، ولو كان المال عرضاً، ولكنْ للمضارب بيعه بعد الفسخ لتعلُّق حقِّه بربحه، ذكره القاضي في «خلافه»

(2)

، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور

(3)

.

وذكر القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل في باب الشَّركة: أنَّ المضارب لا ينعزل ما دام المال عرضاً، بل يملك التَّصرف حتَّى ينضَّ رأس المال، وليس للمالك عزله، وأنَّ هذا ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل.

وذكرا في المضاربة: أنَّه ينعزل بالنِّسبة إلى الشِّراء دون البيع، وحمل صاحب «المغني» مطلق كلامهما في الشَّركة على هذا التَّقييد

(4)

، ومعناه: أنَّ المضارَب بعد الفسخ يملك تنضيض المال، وليس للمالك

(1)

لم نجده في المطبوع من مسائل صالح.

(2)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(3)

جاء في مسائل صالح (6/ 2998): (قلت: قال سفيان في رجل أخذ مالاً مضاربةً، واشترى به بزاً، فقدم به، فقال صاحب المال: لا تبعه، وقال المضارب: أنا أبيعه، يُنْظَرُ، فإن كان فيه ربح، أُجْبِرَ صاحب المال على أن يبيع، وإن لم يكن فيه ربح لم يجبر. قال أحمد: هو كما قال).

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو القول بالنِّسبة إلى الشِّراء دون البيع).

ص: 460

منعه من ذلك إذا كان فيه ربح.

لكنَّ ابن عقيل صرَّح في موضع آخر: بأنَّ العامل لا يملك الفسخ حتَّى ينضَّ رأس المال؛ مراعاةً لحقِّ مالكه.

ثمَّ قال ابن عقيل: إذا قصد المالك بعزله الحيلة لاقتطاع الرِّبح؛ مثل أن يشتري متاعاً يرجو به الرِّبح في موسم، فيفسخ قبله ليقوِّمه

(1)

بسعر يومه ويأخذه؛ لم ينفسخ في حقِّ المضارَب في الرِّبح، وإذا جاء الموسم؛ أخذ حصَّته منه.

فجعل العقد باقياً بالنِّسبة إلى استحقاق نصيبه من الرِّبح الذي أراد المالك إسقاطه بعد انعقاد سببه بعمل المضارب؛ فهو كالفسخ بعد ظهور الرِّبح.

وقال ابن عقيل أيضاً في باب الجعالة: المضاربة كالجعالة، لا يملك ربُّ المال فسخها بعد تلبُّس العامل بالعمل. وأطلق ذلك.

وقال في «مفرداته» : إنَّما يملك المضارَب الفسخ بعد أن ينضَّ رأس المال، ويعلم رب المال أنه أراد الفسخ؛ لئلَّا يتمادى به الزَّمان فتتعطَّل

(2)

عليه الأرباح.

قال: (وهذا هو الأليق بمذهبنا، وأنَّه لا يحلُّ لأحد المتعاقدين في الشِّرَك والمضاربات الفسخ مع كتم شريكه؛ لأنَّه ذريعة إلى غاية الإضرار، وهو تعطيل المال عن الفوائد والأرباح، ولهذا لا يملك

(1)

في (أ): لتقوِّمه.

(2)

في (ب) و (د) و (ن): فيتعطَّل.

ص: 461

عندنا فسخها ورأس المال قد صار عروضاً، لكن إذا باعها

(1)

ونضَّ رأس المال؛ فسخ) انتهى.

وحاصله

(2)

: أنَّه لا يجوز للمضارب الفسخ حتَّى ينضَّ رأس المال ويُعْلِم به ربَّه؛ لئلَّا يتضرَّر بتعطيل ماله عن الرِّبح.

كما أنَّه ذكر في «الفصول» : أنَّ المالك لا يملك الفسخ إذا توجَّه المال إلى الرِّبح ولا يسقط به حقُّ العامل، وهو حسن جارٍ على قواعد المذهب في اعتبار المقاصد وسدِّ الذَّرائع.

ولهذا قلنا: إنَّ المضارب إذا ضارب لآخر من غير علم الأوَّل، وكان عليه في ذلك ضرر؛ ردَّ حقَّه

(3)

من الرِّبح في شركة الأوَّل، مع مخالفته لإطلاق الأكثرين أنَّه إذا فسخ قبل الظُّهور فلا شيء له.

وأمَّا ما ذكره في باب الجعالة؛ ففيه بُعد، إلَّا أن ينزَّل على مثل هذه الحال، مع أنَّ القاضي ذكر مثله أيضاً في باب الجعالة

(4)

.

ومنها: الشَّركة إذا فسخ أحدهما عقدها بالقول؛ انفسخت، وإن قال للآخر: عزلتك؛ انعزل المعزول وحده، ذكره القاضي، وتنفسخ مع كون المال عروضاً أو ناضًّا.

وحكى صاحب «التَّلخيص» رواية أخرى: لا ينعزل حتَّى ينضَّ

(1)

في (أ) و (ج): باعا.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: حاصل ما ذكره ابن عقيل في «مفرداته»).

(3)

في (أ): بحقه.

(4)

قوله: (مع أنَّ القاضي ذكر مثله أيضاً في باب الجعالة) سقط من (أ).

ص: 462

المال

(1)

؛ كالمضارب.

قال: (والمذهب الأوَّل)، وفرَّق بأنَّ الشَّريك وكيل، والرِّبح يدخل تبعاً، بخلاف حقِّ المضارب، فإنَّه أصليٌّ، ولا يظهر بدون البيع

(2)

.

ومنها: الوكيل إذا وكَّله في فعل شيء، ثمَّ عزله وتصرَّف قبل العلم تصرُّفاً يوجب الضَّمان؛ فهل يضمنه الموكَّل؟ فيه وجهان مذكوران فيما إذا وكَّله في استيفاء القصاص ثمَّ عزله فاستوفاه قبل العلم، قال أبو بكر: لا ضمان على الوكيل

(3)

.

فمن الأصحاب من قال: لعدم تفريطه.

ومنهم من قال: لأنَّ عفو موكِّله لم يصحَّ؛ حيث حصل على وجه لا يمكن استدراكه، فهو كما لو عفى بعد الرَّمي.

قال أبو بكر: وهل يلزم الموكِّل الضَّمان؟ على قولين:

أحدهما: لا ضمان عليه

(4)

، وَوُجِّه: بأنَّ عفوه لم يصحَّ كما ذكرنا، وبأنَّه محسن بالعفو؛ فلا يترتَّب عليه الضَّمان به.

والثَّاني: عليه الضَّمان؛ لأنَّه سلَّطه على قتل معصوم لا يعلم

(1)

في (ب) و (و): رأس المال.

(2)

كتب في هامش (أ) و (ب) و (ج) و (و) و (ن): (وحكى الحلوانيُّ [زاد في (ج) و (ن): الكبير]: رواية أنَّه لا يجوز له عزل وكيله)، وزاد في (ن):(إلا بإذنه. من هامش النسخة المعتمدة).

(3)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 463

بعصمته؛ فكان الضَّمان عليه، كما لو أمر بالقتل من لا يعلم تحريمه فقتل؛ كان الضَّمان على الآمر.

وللأصحاب طريقة ثانية: وهي البناء على انعزال الوكيل قبل العلم، فإن قلنا: لا ينعزل؛ لم يصحَّ العفو، فيقع القصاص مستحَقًّا لا ضمان فيه.

وإن قلنا: ينعزل؛ صحَّ العفو وضمن الوكيل، كما لو قتل مرتدًّا كان

(1)

أسلم ولم يعلم به، وهل يرجع على الموكِّل؟ على وجهين:

أحدهما: يرجع لتغريره.

والثَّاني: لا؛ لأنَّ العفو إحسان منه لا يقتضي الضَّمان

(2)

.

وعلى هذا؛ فالدِّية على عاقلة الوكيل عند أبي الخطاب؛ لأنَّه خطأ.

وعند القاضي في ماله؛ لأنَّه عمدٌ، وهو بعيدٌ.

وقد يقال: هو شبه عمد، كذا حكى صاحب «المغني»

(3)

.

وللأصحاب طريقة ثالثة: وهي إن قلنا: لا ينعزل؛ لم يضمن الوكيل، وهل يضمن العافي؟ على وجهين؛ بناء على صحة عفوه، وتردُّداً بين تغريره وإحسانه.

وإن قلنا: ينعزل؛ لزمته الدِّية، وهل يكون في ماله أو على عاقلته؟

(1)

في (ب) و (د): وكان. وزاد في (د) و (هـ) و (ن): قد.

(2)

من هنا يبدأ السَّقط من النُّسخة (ب)، وقد تغيَّر خطُّ النَّاسخ بعدها، إلى قوله:(الحمد لله رب العالمين فيما تجوز)

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: هذه الطَّريقة الثَّانية).

ص: 464

على وجهين، وهذه طريقة أبي الخطَّاب وصاحب «التَّرغيب» ، وزاد: وإذا قلنا: في ماله؛ فهل يرجع بها على الموكِّل؟ على وجهين.

ولو وكَّله في بيع شيء، أو وقفِه، أو في عتق عبد، ثمَّ عزَلَه، ثمَّ فعل ما وكِّل فيه قبل العلم بعزله؛ فإن قيل: لا ينعزل قبل العلم؛ فالتَّصرُّف صحيح، ولا كلام.

وإن قيل: ينعزل

(1)

؛ فالعقد باطل.

وكذلك وقف المشتري

(2)

وعتقه.

وأمَّا استغلاله؛ فقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: (لا يضمنه الوكيل؛ لانتفاء تفريطه، والمشتري مغرور، وفي تضمينه خلاف في المذهب، وإذا ضمن؛ رجع على الغارِّ على الصَّحيح، والغارُّ هنا لا ضمان عليه؛ فلا ضمان على واحد منهما) انتهى

(3)

.

وعلى القول بضمان الوكيل في ماله في مسألة استيفاء القصاص من غير رجوع: قد يتوجَّه ضمان الوكيل هنا، وفيه بعد أيضاً؛ لأنَّ الضَّمان هنا لو وجب لوجب للغارِّ، والغارُّ من شأنه أن يَضْمَن لا أنَّ يُضمَن له.

وأمَّا المشتري؛ فهو شبيه بالمشتري من المشتري من الغاصب إذا لم يعلما بالغصب، والمعروف في المذهب تضمينه، لكن لا يمكن الرُّجوع هنا على الوكيل.

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: من الوكيل).

(3)

الاختيارات (ص 209).

ص: 465

‌قاعدة [61]

المتصرُّف تصرُّفاً عامًّا على النَّاس كلِّهم من غير ولاية أحد معيَّن

، وهو الإمام؛ هل يكون تصرُّفه عليهم بطريق الوكالة لهم، أو بطريق الولاية؟ في ذلك وجهان

(1)

.

وخرَّج الآمدي روايتين؛ بناء على أنَّ خطأه هل هو على عاقلته أو في بيت المال؟

لأنَّا إذا جعلناه على عاقلته؛ فهو متصرف بنفسه.

وإن جعلناه على بيت المال؛ فهو متصرف بوكالتهم لهم وعليهم؛ فلا يضمن لهم، ولا يُهدَر خطؤه، فيجب في بيت المال.

واختيار القاضي في «خلافه» : أنَّه متصرف بالوكالة لعمومهم، وذكر في «الأحكام السُّلطانيَّة»

(2)

روايتين في انعقاد الإمامة بمجرَّد القهر من غير عقد. وهذا

(3)

يَحسُن أن يكون أصلاً للخلاف في الولاية والوكالة أيضاً.

(1)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: أنَّه بطريق الوكالة).

(2)

ينظر: الأحكام السلطانية ص 23.

(3)

كتب على هامش (ن): (من كلام المؤلِّف).

ص: 466

وينبني على هذا الخلاف

(1)

أيضاً: انعزالُه بالعزل، ذكره الآمديُّ، فإن قلنا: هو وكيل، فله أن يعزل نفسه.

وإن قلنا: هو والٍ؛ لم ينعزل بالعزل، كما أنَّ الرسول ليس له عزل نفسه، ولا ينعزل

(2)

بموت من بايعه؛ لأنَّه وكيل عن الجميع لا عن أهل البيعة وحدهم.

وهل لهم عزله؟ إن كان بسؤاله

(3)

، فحكمه حكم عزل نفسه، وإن كان بغير سؤاله؛ لم يجز بغير خلاف، هذا

(4)

ما ذكره القاضي وغيره.

وأمَّا من كان تصرُّفه مستفاداً من توليته؛ فإن كان نائباً عنه كالوزير؛ فإنَّه كالوكيل له ينعزل بعزله وبموته، وإن كان نائباً عن المسلمين كالأمير العامِّ؛ لم ينعزل بموت الإمام، ذكره القاضي في «الأحكام السُّلطانيَّة»

(5)

(6)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (وهو أنَّ تصرُّف الإمام هل هو بطريق الوكالة أو الولاية؟).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: الإمام).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: للعزل).

(4)

زاد في (ج) و (و): هو ظاهر. وزاد في (ن): ظاهر.

(5)

ينظر: الأحكام السلطانية ص 35.

(6)

كتب في هامش (و): (اختار القاضي في «الخلاف»: أنَّ القضاة بالنِّسبة إلى الإمام كالوكلاء، قال: ولهذا يملك عزله في مسألة لوليّ المرأة أن يوكِّل في مسائل النِّكاح).

ص: 467

فأمَّا القضاة؛ فهل هم نواب الإمام أو للمسلمين؟ فيه وجهان معروفان

(1)

ينبني عليهما جواز عزل الامام له وعزله لنفسه.

وظاهر كلام القاضي في «الأحكام»

(2)

: أنَّ الخلاف مطرد في ولاية الإمارة العامة على البلاد وجباية الخراج.

وأمَّا نواب القاضي؛ فنوعان:

أحدهما: من ولايته خاصَّة؛ كمن فوض إليه سماع شهادة معينة أو إحضار المستعدي عليه؛ فهم كالوكلاء ينعزلون بعزله وموته.

والثَّاني: من ولايته عامَّة؛ كخلفائه وأمنائه على الأطفال ونوابِّه على القرى؛ فهل هم بمنزلة وكلائه، أو نوَّاب المسلمين فلا ينعزلون بموته؟ على وجهين ذكرهما الآمديُّ

(3)

، وصحَّح صاحب «التَّرغيب»: عدم الانعزال.

وحكى ابن عقيل عن الأصحاب: أنَّهم ينعزلون

(4)

؛ لأنَّهم نواب للقاضي، بخلاف القضاة فإنَّهم نواب للمسلمين، ولهذا يجب على

(1)

كتب على هامش (ن): (أصحهما: أنَّهم نوَّاب المسلمين).

(2)

ينظر: الأحكام السلطانية ص 36.

(3)

كتب في هامش (و): (في «المفردات» لابن عقيل: الحاكم ولايته للمسلمين في الجملة، وإذا ولَّى حاكماً من قبله أو وكَّل وكيلاً كان نائباً عنه فيما لا يخصُّه، بل نيابة عنه في المسلمين، سواء كانت ولايته خاصَّة أو عامَّة، انتهى).

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو المذهب).

ص: 468

الإمام نصب القضاة، ولا يجب على القضاة الاستنابة.

ويجاب عنه: بأنَّ القضاء ليس بفرض كفاية على رواية، ولا يجب نصب قاضٍ بالكليَّة، وبأنَّ الوجوب لا يتعلَّق بمعيَّن، فلا أثر له في عدم نفوذ العزل، ولهذا من عنده ودائع أو عليه ديون خفيَّة، يجب عليه الوصيَّة عند الموت بأدائها، وله عزل الموصى إليه بذلك واستبداله.

وأمَّا المتصرِّف تصرُّفاً خاصًّا بتفويض من ليس له ولاية عامَّة فنوعان

(1)

:

أحدهما: أن يكون المفوِّض له ولاية على ما يتصرَّف فيه؛ كوليِّ اليتيم وناظر الوقف

(2)

، فإذا عقد عقداً جائزاً أو متوقَّع الانفساخ، كالشَّركة والمضاربة والوكالة وإجارة الوقف؛ فإنَّها لا تنفسخ بموته؛ لأنَّه متصرِّف على غيره لا على نفسه، وكذلك الوكيل إذا أذن له موكله أن يوكِّل؛ فيكون وكيله وكيلاً لموكِّله لا له.

والثَّاني: من يفوض حقوق نفسه؛ فهذه وكالة محضة.

(1)

قوله: (فنوعان) سقطت من (أ).

(2)

كتب على هامش (ن): (لم يتعرَّض المصنِّف لجواز عزل هذا المفوَّض، هل يجوز للمفوِّض أم لا؟ ولا تردُّد في جوازه؛ لأنَّه وكيل عنه بلا ريب).

ص: 469

‌قاعدة [62]

فيمن ينعزل قبل العلم بالعزل

.

المشهور

(1)

: أنَّ كلَّ من ينعزل بموت أو عزل، هل ينعزل بمجرَّد ذلك، أم يقف عزله على علمه؟ على روايتين.

وسواء في ذلك الوكيل وغيره، والإذن للزَّوجة والعبد فيما لا يملكانه بدون إذن إذا وجد بعده نهي لم يعلماه مخرَّج على الوكيل، ذكره القاضي.

وكذلك إذن المرتهن للرَّاهن في التَّصرُّف إذا منع منه قبل تصرُّف الرَّاهن ولم يعلم

(2)

.

ومن الأصحاب من فرَّق بين الوكيل وغيره.

ودخل في هذا صور:

منها: الحاكم إذا قيل بانعزاله، قال القاضي وأبو الخطَّاب: فيه الخلاف الَّذي في الوكيل

(3)

.

وفي «التلخيص» : لا ينعزل قبل العلم بغير خلاف، ورجَّحه الشَّيخ

(1)

كتب على هامش (ن): (لم يظهر المشهور من قوله ما هو).

(2)

كتب في هامش (و): (أي: الرَّاهن بالمنع).

(3)

كتب على هامش (ن): (والصَّحيح: أنَّه لا ينعزل قبل علمه بالعزل).

ص: 470

تقي الدين

(1)

؛ لأنَّ في ولايته حقًّا لله، وإن قيل: إنَّه وكيل؛ فهو شبيه بنسخ الأحكام

(2)

لا يثبت قبل بلوغ النَّاسخ على الصَّحيح، بخلاف الوكالة المحضة، قال: وهذا هو المنصوص عن أحمد.

وأيضًا؛ فإن ولاية القاضي عامة؛ لما يترتَّب عليها من عموم العقود والفسوخ؛ فتعظم البلوى بإبطالها قبل العلم، بخلاف الوكالة.

ومنها: عقود المشاركات؛ كالشَّركة والمضاربة، والمشهور: أنَّها تنفسخ قبل العلم؛ كالوكالة.

وقد ذكرنا عن ابن عقيل فيما سبق في المضاربة: أنَّها لا تنفسخ بفسخ المضارب حتَّى يعلم ربُّ المال.

ومنها: الوديعة، وقد ذكر القاضي في مواضع كثيرة من «خلافه»: أنَّ للمودِع فسخها بالقول في غيبة المودَع، وتنفسخ قبل علم المودَع بالفسخ، وتبقى في يده أمانة؛ كمن أطارت الرِّيح إلى بيته ثوباً لغيره.

ثمَّ إنه ذكر في مسألة الوكالة: أنَّ الوديعة لا يلحقها الفسخ بالقول، وإنَّما تنفسخ بالرَّدِّ إلى صاحبها، أو بأن يتعدَّى المودَع فيها، فلو قال المودَع بمحضر ربِّ الوديعة أو في غيبته: فسخت الوديعة، أو أزلت نفسي عنها؛ لم تنفسخ قبل أن تصل إلى صاحبها، ولم يضمنها.

فإمَّا أن يكون هذا تفريقاً بين فسخ المودِع والمودَع، أو يكون

(1)

ينظر: الاختيارات ص 209.

(2)

قال ابن نصر الله رحمه الله: لعلَّ وجه الشَّبه بينهما: ما فيهما من عموم حكمهما، بخلاف الوكالة.

ص: 471

اختلافاً منه في المسألة، والأوَّل أشبه؛ لأنَّ فسخ المودِع إخراج للمودَع عن الاستحفاظ وهو يملكه، وأمَّا المودَع؛ فليس له فيها تصرُّف سوى الإمساك والحفظ؛ فلا يصحُّ أن يرفعه مع وجوده.

ص: 472

ويلتحق بهذه القاعدة:

‌قاعدة أخرى [63]

وهي: أنَّ من لا يعتبر رضاه بفسخ عقد أو حَلِّه؛ لا يعتبر علمه به

.

ويندرج تحت ذلك مسائل:

منها: الطَّلاق.

ومنها: الخلع؛ فإنَّه يصحُّ مع الأجنبي على المذهب، سواء قيل: هو فسخ أو طلاق.

ولنا وجه آخر: أنَّه لا يصحُّ مع الأجنبي إذا قلنا: إنه فسخ؛ كالإقالة.

والصَّحيح خلافه؛ لأنَّ فسخ البيع اللَّازم لا يستقل به أحد المتبايعين، بخلاف النكاح؛ فإن الزوج يستقل بإزالته بالطلاق.

ومنها: العتق، ولو كان على مال نحو: أعتق عبدك وعلَّي ثمنه.

ومنها: فسخ المعتَقة تحت عبد.

ومنها: فسخ المبيع المعيب والمدلس، وكذلك الإجارة.

ومنها: فسخ العقود الجائزة بدون علم الآخر، وقد سبقت.

ومنها: الفسخ بالخيار يملكه من يملك الخيار بغير علم الآخر عند القاضي والأكثرين.

ص: 473

وخرَّج أبو الخطاب فيه وجهاً آخر: أنَّه لا ينفسخ إلَّا أن يبلغه في المدة من عزل الوكيل، وفيه نظر، فإنَّ من له الخيار يتصرَّف بالفسخ لنفسه.

وهذه الفسوخ على ضربين:

أحدهما: ما هو مجمع على ثبوت أصل الفسخ به؛ فلا يتوقف الفسخ به على حاكم؛ كسائر ما ذكرنا.

والثَّاني: ما هو مختلف فيه؛ كالفسخ بالعنَّة والعيوب وغيبة الزَّوج ونحو ذلك؛ فيفتقر إلى حكم حاكم؛ لأنَّها أمور اجتهاديَّة، فإن كان الخلاف ضعيفاً يسوغ نقض الحكم به؛ لم يفتقر الفسخ به إلى حاكم.

ويتفرَّع على ذلك: أخذ بائع المفلس سلعته إذا وجدها بعينها، وفيه وجهان بناء على نقض الحكم بخلافه، والمنصوص عن أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد: أنَّ له ذلك

(1)

.

وكذلك تزوُّج امرأة المفقود؛ فإنَّ في توقُّف فسخ نكاحها على الحاكم روايتين، قال في رواية ابن منصور

(2)

: (تتزوَّج وإن لم تأت السُّلطان، وأحبُّ إليَّ أن تأتيه)، ولعله رأى الحكم بخلافه لا يسوغ؛ لأنَّه إجماع عمر والصَّحابة

(3)

.

(1)

كتب في هامش (ن): (أي: لبائع المفلس أخذ سلعته بعد حكمه).

(2)

(4/ 1646).

(3)

أخرج عبد الرزاق (12317)، وابن أبي شيبة (16723)، عن ابن المسيب:«أن عمر وعثمان قضيا في المفقود: أن امرأته تتربص أربع سنين وأربعة أشهر وعشراً بعد ذلك، ثم تزوج، فإن جاء زوجها الأول خُيِّر بين الصداق وبين امرأته» ، وصححه ابن حزم وابن حجر. ينظر: المحلى 9/ 319، فتح الباري 9/ 431.

ص: 474

ورجَّح الشيخ تقي الدين: أنَّ جميع الفسوخ لا تتوقَّف على حاكم

(1)

.

(1)

ينظر: الاختيارات ص 320، الفتاوى الكبرى 3/ 91.

ص: 475

‌قاعدة [64]

من توقَّف نفوذ تصرفه أو سقوط الضمان أو الحنث عنه على الإذن

، فتصرَّف قبل العلم، ثمَّ تبين أنَّ الإذن كان موجوداً؛ هل يكون كتصرُّف المأذون له أو لا؟

في المسألة وجهان، يتخرَّج عليهما صور:

منها: لو تصرَّف في مال غيره بعقد أو غيره، ثمَّ تبيَّن أنَّه كان أذن له في التَّصرُّف؛ فهل يصحُّ أم لا؟ فيه وجهان.

ومنها: لو قال لزوجته: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، ثمَّ أذن لها ولم تعلم بإذنه، فخرجت؛ فهل تطلق؟ فيه وجهان، أشهرهما وهو المنصوص: أنَّها تطلق؛ لأنَّ المحلوف عليه قد وجد وهو خروجها على وجه المشاقَّة والمخالفة، فإنَّها أقدمت على ذلك، ولأنَّ الإذن هنا إباحة بعد حظر؛ فلا يثبت في حقِّها بدون علمها؛ كإباحة الشَّرع.

ولأبي الخطاب في «الانتصار» طريقة ثانية: وهي أنَّ دعواه الإذن غير مقبولة، لوقوع الطَّلاق في الظَّاهر، فلو أشهد على الإذن؛ لنفعه ذلك ولم تطلق، وهذا ضعيف

(1)

.

(1)

كتب هي هامش (هـ): (الظاهر أن وجه ضعفه لكونها لم تعلم، وفرق بين [ .. ] أم لا، بخط عبدالله بن عبد [

].

ص: 476

ومنها: لو أذن البائع للمشتري في مدَّة الخيار في التصرف، فتصرف بعد الإذن وقبل العلم؛ فهل ينفذ أم لا؟ يتخرَّج على الوجهين في التَّوكيل وأولى.

وجزم القاضي في «خلافه» : بعدم النُّفوذ.

ومنها: لو غصب طعاماً من إنسان، ثمَّ أباحه له المالك، ثمَّ أكله الغاصب غير عالم بالإذن؛ ضمن، ذكره أبو الخطاب في «الانتصار» ، وهو بعيد جدًّا.

والصَّواب: الجزم بعدم الضَّمان؛ لأنَّ الضمان لا يثبت بمجرد الاعتقاد فيما ليس بمضمون؛ كمن وطئ امرأة يظنها أجنبيَّة، فثبتتْ

(1)

زوجته؛ فإنَّه لا مهر عليه، ولا عبرة باستصحاب أصل الضَّمان مع زوال سببه، كما أنَّه لو أكل في الصوم يظن أنَّ الشَّمس لم تغرب، فتبيَّن أنها كانت غربت؛ فإنَّه لا يلزمه القضاء.

(1)

في (ج) و (ن): فتبيَّنت.

ص: 477

‌ويلحق بهذه قاعدة أخرى [65]

وهي من تصرَّف في شيء يظنُّ أنَّه لا يملكه؛ فتبيَّن أنَّه كان يملكه، وفيها الخلاف أيضاً

.

ويندرج تحتها صور:

منها: لو باع مال أبيه بغير إذنه، ثمَّ تبيَّن أنَّ أباه كان قد مات ولا وارث له سواه، وفي صحَّة تصرُّفه وجهان

(1)

، ويقال: روايتان

(2)

.

ومنها: لو طلَّق امرأةً يظنُّها أجنبيَّة، فتبيَّنت زوجته؛ ففي وقوع الطلاق روايتان

(3)

، وبناهما أبو بكر على أنَّ الصَّريح هل يحتاج إلى نية أم لا؟

(1)

كتب في هامش (ن): (أظهرهما: عدم الصحة؛ لأنه كالهازل، وبيع الهازل باطل في المشهور كما يأتي)، وعلق عليه آخر:(والذي في التلخيص: فإن باع ملك مورثه على ظن أنه حي فبان ميتًا؛ صح البيع على أظهر الوجهين).

(2)

كتب في هامش (ن): (وكذا لو وكل وكيلًا في شراء شيء، ثم باعه ظانًّا أن وكيله لم يشتره بعدُ، فتبين أنه كان قد اشتراه).

(3)

كتب في هامش (ن): (أظهرهما: وقوعه؛ لأنه كالهازل، وطلاق الهازل صحيح).

ص: 478

قال القاضي: إنما هذا الخلاف في صورة الجهل بأهليَّة المحلِّ، ولا يطَّرد مع العلم به.

ومنها: لو لقي امرأة في الطريق، فقال: تنحَّي يا حرة، فإذا هي أمته، وفيها الخلاف أيضاً، ونصَّ أحمد على ذلك

(1)

.

وفي «المغني» احتمالٌ بالتَّفريق؛ لأن هذا يقال كثيراً في الطَّريق ولا يراد به العتق.

وهذا مع إطلاق القصد، فأمَّا إن قصد به المدح بالصِّفة ونحوها؛ فليست من المسألة بشيء.

ويتنزَّل الخلاف في هذا: على أنَّ الرِّضا بغير المعلوم، هل هو رضًا معتبر؟ والأظهر عدم اعتباره.

ومنها: لو أبرأه عن مائة درهم مثلاً، معتقداً أنَّه لا شيء له عليه، ثمَّ تبين أنَّه كان له في ذمَّته مائة

(2)

، وفيها الوجهان

(3)

.

(1)

جاء في الروايتين والوجهين (2/ 165): (نقل المروذي في رجل لقي امرأة في الطريق، فقال لها: تنحي يا حرة، فإذا هي أمته؛ عتَقَت عليه. قال أبو بكر: قد أطلق القول في رواية المروذي بالعتق من غير نية، وقد نص على اعتبار النية في رواية مهنَّى، وعليه العمل، قال: لأنه لا خلاف أنه إذا أراد أن يقول لزوجته أو لأمته: اسقيني ماء، فسبق لسانه فقال: أنت طالق أو أنت حرة؛ لم يقع الطلاق والعتاق، وكذلك ههنا).

(2)

زاد في (ج) و (د) و (و) و (ن): درهم. وضُرب عليها في (أ).

(3)

كتب على هامش (ن): (ويتوجَّه: أنَّ الأظهر صحَّة الإبراء؛ لأنَّ البراءة تصحُّ مع الجهل بمقدار المُبْرَأ منه، فيتوجَّه منه: أنَّ العلم بثبوت المبرَأ منه في الذِّمَّة غير معتبر).

ص: 479

ومنها: لو جرحه جرحاً لا قصاص فيه، فعفا عن القصاص وسرايته، ثمَّ سرى إلى نفسه؛ فهل يسقط القصاص؟ يخرَّج على الوجهين، أشار إلى ذلك الشَّيخ مجد الدين في «تعليقه على الهداية» ، وبناه على أن القصاص هل يجب للميت أو لورثته كالدِّية؟

وجزم القاضي وغيره: بأنَّه لا يصحُّ العفو ههنا.

ومنها: لو تزوجت امرأة المفقود قبل الزَّمان المعتبر، ثم تبين أنَّه كان ميتاً قبل ذلك بمدَّة تنقضي فيها العدة، أو أنَّه كان طلقها؛ ففي صحَّة النِّكاح الوجهان

(1)

، ذكره القاضي.

ورجَّح صاحب «المغني» عدم الصَّحة هنا؛ لفقد شرط النكاح في الابتداء، كما لو تزوجت المرتابة قبل زوال الريبة.

ومنها: لو أمره غيره بإعتاق عبد يظنُّ أنَّه للآمر، فتبين أنه عبده؛ ففي «التَّلخيص»: يحتمل تخريجه على من أعتق عبداً في ظلمة ثمَّ تبين أنه عبده، لكن يرجع هنا على الآمر بالقيمة؛ لتغريره له.

ويحتمل ألَّا ينفذ؛ لتغريره، بخلاف ما إذا لم يغرُّه أحد؛ فإنَّه غير معذور، فينفذ عتقه لمصادفته ملكه، إذ المخاطبة بالعتق لعبد غيره شبيه بعتق الهازل والمتلاعب؛ فينفذ، وكذا في الطَّلاق.

ونظير هذه في الطَّلاق: أن يوكله رجل في تطليق زوجته، ويشير إلى امرأة معينة، فيطلقها ظنًّا أنَّها امرأة الموكِّل، ثمَّ تبين أنها امرأته.

(1)

كتب على هامش (ن): (ومنها: لو زوَّج أمة أبيه على ظنِّ أنَّه حيٌّ فبان ميِّتاً؛ ففي صحَّة النِّكاح الخلاف).

ص: 480

وقد تُخرَّج هذه المسألة على مسألة: ما إذا نادى امرأة له

(1)

، فأجابته امرأته الأخرى، فطلَّقها ينوي المناداة؛ فإنَّه تطلق المناداة وحدها، ولا تطلق المواجهة في الباطن، وفي الظَّاهر روايتان؛ فعلى هذا لا تطلق الموكَّل في طلاقها ههنا

(2)

.

وقد يُفرَّق بينهما: بأنَّ الطَّلاق هنا انصرف إلى جهة مقصودة، فلم يحتج إلى صرفه إلى غير المقصود وإن كانت مواجهة به، بخلاف ما إذا لم يكن هناك جهة سوى المواجهة؛ فإنَّ الطلاق يصير بصرفه عنها هزلاً ولعباً، ولا هزل في الطَّلاق

(3)

.

ومنها: لو اشترى آبقًا يظنُّ أنَّه لا يقدر على تخليصه، فبان

(1)

في (أ): (فإن الأظهر هنا أنَّه لا ينفذ، ولهذا إذا نادى

) وضُرب على أول الجملة.

(2)

كتب على هامش (ن): (قوله: "فعلى هذا لا تطلق الموكَّل في طلاقها" فيه نظر، بل الظَّاهر: أنَّ الصَّواب على هذا أنَّها تطلق؛ كما تطلق المناداة دون المواجهة).

(3)

كتب على هامش (ن): (كلُّ واحدة من مسألتي المناداة ومسألة التَّوكيل، لها جهة مقصودة وجهة مواجهة فلا فرق)، وكتب أيضًا:(قال السُّبكيُّ في هذه القاعدة: قال في قواعد ابن عبد السَّلام: ومنها ارتكب كبيرة في ذهنه؛ كما لو وطئ زوجته يظنُّها أجنبيَّة، قال الشَّيخ عزُّ الدِّين: تجري عليه أحكام الفاسقين لجرأته، ولا يعذَّب تعذيب زانٍ، قلت: قد صرَّح علماء الحنابلة بهذا المعنى في عدَّة مسائل، قالوا: لو اقتدى بشخص ظانًّا كفره أو حدثه فبان خلافه؛ أن عليه الإعادة).

ص: 481

بخلافه

(1)

؛ ففي صحَّة العقد وجهان؛ لاعتقاده فقد شرط الصِّحَّة، وهو موجود في الباطن.

وفي «المغني» احتمال ثالث: بالفرق بين من يعلم أنَّ البيع يفسد بالعجز عن تسليم المبيع فيفسد البيع في حقِّه؛ لأنَّه متلاعب، وبين من لا يعلم ذلك؛ فيصحُّ؛ لأنَّه لم يقدم على ما يعتقده باطلاً، وقد تبيَّن وجود شرط صحَّته.

وهذا تبيُّنٌ

(2)

أنَّ للمسألة التفاتاً إلى مسألة بيع الهازل، والمشهور بطلانه، وهو قول القاضي، وقال أبو الخطاب في «انتصاره»: هو صحيح. وهذا

(3)

يرجِّح وجه بطلان البيع في المسائل المبدوء بها.

(1)

كتب على هامش (ن): (وكذا لو كان الظَّنُّ في جانب البائع، بأن باع عبده على ظنِّ أنَّه آبق أو مكاتب، فبان قد رجع وفسخ الكتابة).

(2)

في (ج) و (ن): يُبيِّن.

(3)

كتب على هامش (ن): (الإشارة لهذا إلى الالتفات المذكور، لا إلى قول أبي الخطَّاب).

ص: 482

‌قاعدة [66]

ولو تصرَّف مستندًا إلى سبب، ثمَّ تبيَّن خطؤه

(1)

، وأنَّ السَّبب المعتمد غيره وهو موجود، فهو نوعان:

أحدهما: أن يكون الاستناد إلى ما ظنَّه صحيحاً أيضاً؛ فالتَّصرف صحيح

(2)

، مثل: أن يستدلَّ على القبلة بنجم يظنُّه الجدي، ثمَّ تبيَّن أنه نجم آخر مسامِتُه.

والثَّاني: ألَّا يكون ما ظنه مستنَداً مُستَنَداً صحيحاً، مثل: أن يشتري شيئاً ويتصرف فيه، ثم تبين أن الشراء كان فاسداً، وأنَّه ورث تلك العين.

فإن قلنا في القاعدة الأولى بالصِّحة؛ فهنا أولى.

وإن قلنا ثَمَّ بالبطلان؛ فيحتمل هنا الصِّحَّة؛ لأنَّه استند إلى سبب مسوِّغ، وكان في نفس الأمر له مسوغ غيره؛ فاستند التصرف إلى مسوغ في الباطن والظاهر، بخلاف القسم الَّذي قبله، ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله

(3)

.

(1)

زاد في (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): فيه.

(2)

زاد في (د) و (هـ): (مثل أن يتطهر مِن حدثٍ يظنه ريحاً ثم تبين أنه نوم)، وضُرب عليها في (أ).

(3)

ينظر مجموع الفتاوى 29/ 411 - 412.

ص: 483

والمذهب ههنا الصِّحَّة بلا ريب؛ لأنَّ أصحابنا اختلفوا فيما إذا وُهِب

(1)

المغصوب من غاصبه وأقبضه إيَّاه، هل يبرأ به أم لا؟ وحكى ابن أبي موسى فيه روايتين، والمشهور: أنَّه لا يبرأ، نص عليه أحمد معلِّلاً أنَّه يحمل منَّته، وربَّما كافأه على ذلك.

واختار القاضي في «خلافه» وصاحب «المغني» : أنه يبرأ؛ لأن المالك تَسلَّمه تسلُّماً تامًّا وعادت سلطنته إليه، فبرئ الغاصب، بخلاف ما إذا قدَّمه إليه فأكله؛ فإنَّه أباحه إياه، ولم يُملِّكه إيَّاه، فلم يعد إلى سلطنته وتصرُّفه، ولهذا لم يكن له التَّصرُّف فيه بالبيع والهبة، وهذا اتِّفاقٌ من أحمد وأصحابه على أنَّ تصرُّفات المالك تعود إليه بعود ملكه على طريق الهبة من الغاصب، وهو لا يعلم بالحال.

(1)

زاد في (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): الغاصب.

ص: 484

‌قاعدة [67]

من استحقَّ من شخص الرُّجوع بعين أو دين، بفسخ أو غيره

، وكان قد رجع إليه ذلك الحقُّ بهبة أو إبراء ممَّن يستحقُّ عليه الرُّجوع؛ فهل يستحقُّ الرُّجوع عليه ببدله

(1)

أم لا؟

في المسألة وجهان، ولها صور:

منها: إذا باع عيناً، ثمَّ وهب ثمنها للمشتري أو أبرأه منه، ثمَّ بان بها عيب يوجب الرَّدَّ؛ فهل له ردُّها والمطالبة بالثمن أم لا؟ على وجهين.

وكذا لو أبرأه من بعض الثمن، فهل له المطالبة بقدر ما أبرأه منه؟ على الوجهين.

واختار القاضي في «خلافه» : أنَّه إذا ردَّه؛ لم يرجع عليه بشيء ممَّا أبرأه منه.

ويتخرَّج التفريق بين الهبة والإبراء؛ فيرجع في الهبة دون الإبراء، وسنذكر أصله.

ولو ظهر المبيع معيباً بعد أن تعيَّب عنده؛ فهل له المطالبة بأرش العيب؟ فيه طريقان:

(1)

قوله: (ببدله) مثبتة في (ج) و (ن)، و (و)، وفي (أ) ذكرها في الهامش وأشار إلى أنها حاشية.

ص: 485

أحدهما: تخريجه على الخلاف في ردِّه.

والآخر: يُمنع المطالبة هنا وجهاً واحداً، وهو اختيار ابن عقيل؛ لأنَّه صار معه تبرعاً؛ فلا يملك المطالبة بزيادة عليه؛ لئلَّا تجتمع له المطالبة بالثَّمن وبعض الثَّمن، بخلاف ما إذا ردَّه، فإنَّه لا يجتمع له ذلك.

ومنها: لو تقايلا العين بعد هبة ثمنها أو الإبراء منه.

ومنها: لو أصدق زوجته عيناً، فوهبتها منه، ثمَّ طلقها قبل الدُّخول؛ فهل يرجع عليها ببدل نصفها؟ على روايتين.

فإن قلنا: يرجع؛ فهل يرجع إذا كان الصداق ديناً فأبرأته منه؟ على وجهين، أصحُّهما: لا يرجع؛ لأنَّ ملكه لم يَزُل عنه

(1)

.

ومنها: لو كاتب عبده، ثمَّ أبرأه من دين الكتابة وعَتَق؛ فهل يستحقُّ المكاتب الرُّجوع عليه بما كان له عليه من الإيتاء الواجب أم لا؟ من الأصحاب من خرَّجها على الخلاف، وضعَّف صاحب «المغني» ذلك؛ لأنَّ إسقاطه عنه يقوم مقام إيتائه، ولهذا لو أسقط عنه القدر الواجب إيتاؤه واستوفى الباقي؛ لم يلزمه أن يؤتيه شيئاً.

وأيضاً؛ فالسَّيد أسقط عن المكاتب ما وجد سبب إيتائه إيَّاه؛ فقام مقام الإيتاء، بخلاف إسقاط المرأة الصَّداق قبل الطلاق.

ومنها: لو شهد شاهدان بمالٍ لزيد على عمرو، ثمَّ رجعا وقد قبضه

(1)

كتب على هامش (ن): (ومن فروعها: لو أبرأت الزَّوجة زوجها من كسوة سنة في أوَّلها، ثمَّ أبانها في أثناء السَّنة، فهل يرجع عليها بقسط ما بقي من السَّنة؟ يتخرَّج فيها كما لو أبرأته من صداقها، ثمَّ طلَّقها قبل الدُّخول).

ص: 486

زيد من عمرو، ثمَّ وهبه له؛ لم يسقط عنهما الضَّمان.

ولو كان ديناً فأبرأه منه قبل قبضه، ثمَّ رجعا؛ لم يلزمهما شيء، ذكره القاضي في «خلافه» ، ولم يخرِّجه على الخلاف في المسائل الأولى؛ لأنَّ الضَّمان لزمهما بوجود التَّغريم، وعود العين إلى الغارم من المحكوم له بهبة لا توجب البراءة، كما لا يبرأ الغاصب بمثل ذلك في الرَّدِّ إلى المغصوب منه؛ لتحمُّل منَّته.

نعم، يتخرَّج القول بسقوط الضَّمان هنا إذا قلنا ببراءة الغاصب بإعادة المال إلى المغصوب منه هبة؛ لأنَّهما اعترفا بأنَّه قبضه عدواناً، ثمَّ ردَّه إليه هبة، وأمَّا إذا أبرأه منه قبل القبض؛ فلم يترتَّب على شهادتهما غُرْمٌ؛ فلذلك سقط عنهما الضَّمان.

ومنها: لو قضى الضَّامن الدَّين، ثمَّ وهبه الغريم ما قضاه بعد قبضه، فهل يرجع على المضمون عنه؟

ظاهر كلام الأصحاب: أنَّه لا يرجع

(1)

، ولهذا قالوا: لو قضى الدَّين بنقيصة

(2)

(3)

لم يرجع إلَّا بما قضى، وجعلوه كالمقرض

(4)

لا

(1)

كتب على هامش (ن): (صرَّح الأصحاب بالمسألة في قوله: وهبتك الحقَّ. من هامش النُّسخة المعتمدة).

(2)

في (أ): بقبضه.

(3)

كتب على هامش (هـ): (لعلَّه ببعضه).

(4)

في الأصل: (كالمقترض)، والمثبت من (ج) و (ن) و (هـ) و (و).

ص: 487

يرجع إلَّا بما غرم، لكنَّ هذا في الإبراء والمسامحة ظاهر، فأمَّا إذا قضى الدَّين بكماله، ثمَّ وهبه الغريم منه؛ فلا يبعد تخريجه على الوجهين.

ص: 488

‌قاعدة [68]

إيقاع العبادات أو العقود أو غيرهما

(1)

مع الشَّكِّ في شرط صحَّتها

؛ هل يجعلها كالمعلَّقة على تحقُّق ذلك الشَّرط أم لا؟

وهي نوعان:

أحدهما: ما يشترط فيه النِّيَّة الجازمة

(2)

، فلا يصحُّ إيقاعه بهذا التردد، ما لم يكن الشَّكُّ غلبة ظنٍّ فيكفي مثله في إيقاع العبادة أو العقد؛ كغلبة الظن بدخول الوقت، وطهارة الماء والثوب ونحو ذلك

(3)

.

ومن أمثلة ذلك

(4)

: ما إذا صلى يظنُّ نفسه محدثاً

(5)

؛ فتبين متطهراً

(6)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (قوله: "أو غيرهما" يشير به إلى نحو الطَّلاق واليمين والاختصاص).

(2)

كتب على هامش (ن): (لو قيل: "الجزم" بتحقق شرطه كان أولى وأعم).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: فلا يصحُّ؛ لاشتراط الجزم بكونه متطهِّراً، أو استصحاب حالة التَّحريم).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: هذا النَّوع).

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: مع احتمال أنَّه متطهِّر).

(6)

كتب على هامش (ن): (أي: فلا يصحُّ؛ لاشتراط الجزم بكونه متطهِّراً أو استصحاب حالة الجزم).

ص: 489

ومنها: ما لو شكَّ هل ابتدأ مدَّة مسح الخفين في السَّفر أو الحضر؟ فمسح يومًا آخر بعد انقضاء مدَّة الحضر، ثمَّ تبيَّن أنَّه ابتدأها في السفر؛ لزمه إعادة الصَّلاة للشَّكِّ.

وهل يلزمه إعادة الوضوء؟ فيه وجهان:

أحدهما: لا يلزمه، وبه جزم في «المغني» ؛ لأنَّ الوضوء يصحُّ مع الشَّكِّ في سببه؛ كمن شكَّ في الحدث، فتوضَّأ ينوي رفعه، ثمَّ تبيَّن محدثاً.

والثَّاني: يلزمه؛ لأنَّ المسح رخصة ولم تتحقَّق إباحتها؛ فلم تصحَّ؛ كمن قصر وهو يشكُّ في جواز القصر.

ومنها: لو توضَّأ من إناء مشتبه، ثمَّ تبيَّن أنه طاهر؛ لم تصحَّ طهارته في المشهور.

وقال القاضي أبو الحسين: تصحُّ. وهو يرجع إلى أنَّ الجزم بصحة الوضوء

(1)

لا يشترط كما سبق.

ومنها: لو توضَّأ شاكًّا في الحدث، أو صلَّى مع غلبة ظنِّه بدخول الوقت، ونوى الفرض إن كان محدثاً أو الوقت قد دخل، وإلَّا فالتَّجديدَ أو النَّفلَ؛ فذكر ابن عقيل: أنَّه يجزئه؛ لأنَّ هذا حكمه ولو لم ينوه، فإذا نواه لم يضرَّه.

ومنها: لو كان له مال حاضر وغائب، فأدَّى زكاةً ونوى أنَّها عن الغائب إن كان سالماً، وإلَّا فتطوع، فبان سالماً؛ أجزأه؛ لما ذكرنا.

(1)

كتب على هامش (ن): (لو قيل: بسبب الوضوء، أو بشرطه؛ كان أوفق).

ص: 490

وحكي عن أبي بكر

(1)

: أنَّه لا يجزئه؛ لأنَّه لم يخلص النية للفرض.

ويخرَّج منه وجه في الَّتي قبلها: أنَّها لا تصحُّ، وأولى؛ لأنَّه هناك لم يبن على أصل مستصحب، ولكنَّه بنى على غلبة ظنٍّ بدخول الوقت، وهو يكفي في صحَّة الصَّلاة.

ومنها: إذا نوى ليلة الشَّكِّ: إن كان غداً من رمضان فهو فَرْضِي، وإلَّا فهو نفل؛ فهل يجزئه عن رمضان إن وافق؟ يُبنى على أنَّ نية التَّعيين؛ هل تشترط لرمضان؟

فإن قلنا: تشترط، وهو المشهور في المذهب؛ لم يجزئه؛ لأنَّه لم يجزم بالتَّعيين، ولم يبن على أصل مستصحب يجوز الصِّيام فيه، بخلاف مسألة الزَّكاة.

وهذا بخلاف ما لو نوى ليلة الثَّلاثين من رمضان: إن كان غداً من رمضان فأنا صائم عنه، وإلَّا فأنا مفطر؛ فإنَّه يصحُّ صيامه في أصحِّ الوجهين؛ لأنَّه بنى على أصل لم يثبت زواله، ولا يقدح تردُّده؛ لأنَّه حكمُ صومِه مع الجزم.

والثَّاني: وهو قول أبي بكر: لا يجزئه للتردُّد.

ونقل صالح عن أبيه: أنَّه تجزئه النِّيَّة المتردِّدة مع الغيم دون الصَّحو؛ لأنَّ الصوم مع الغيم لا يخلو من تردُّد ينافي الجزم، فإذا تردَّد في النِّيَّة؛ فقد نوى حكم الصَّوم، فلا يضرُّه، بخلاف حالة الصَّحو؛ فإنَّه

(1)

في (أ): ابن أبي بكر.

ص: 491

لا يحتاج فيها إلى التَّردُّد.

والنَّوع الثَّاني: ما لا يحتاج إلى نيَّة جازمة، فالصَّحيح فيه

(1)

الصِّحَّة.

وقد سبق من أمثلته: إذا نكحت امرأة المفقود قبل أن يجوز لها النكاح، ثم تبين أنَّه كان جائزاً؛ ففي الصِّحَّة وجهان.

ومنها: لو كان له عند رجل دنانير وديعة، فصارفه عليها وهو يجهل بقاءها؛ ففيه وجهان:

أحدهما: وهو قول القاضي في «المجرد» : لا تصحُّ؛ لأنها ليست تالفة فتكون مصارفة عليها وهي في الذِّمَّة، ولا حاضرة فتكون مصارفةَ عينٍ

(2)

.

والثَّاني: وهو قول ابن عقيل: أنَّه يصح؛ لأنَّ الأصل بقاؤها، فصار كبيع الحيوان الغائب بالصِّفة؛ فإنَّه يصحُّ مع احتمال تلفه؛ لأنَّ الأصل بقاؤه

(3)

.

فقال ابن عقيل: فإن كانت باقية تقابضا، وصحَّ العقد، وإن كانت تالفة؛ تبيَّن بطلان العقد.

وهذا الَّذي قاله صحيح إذا تلفت

(4)

بغير تفريط، فأمَّا إن تلفت تلفاً

(1)

في (أ): ففيه.

(2)

في (ج) و (ن) و (و): على عين.

(3)

في (أ): بقاؤها.

(4)

في (أ): تلف.

ص: 492

مضموناً في الذِّمَّة؛ فينبني على تعيين النقود بالتَّعيين، فإن قلنا: يتعيَّن؛ لم يصح العقد، وإلَّا صحَّ، وقامت الدنانير الَّتي في الذِّمَّة مقام الوديعة، إلَّا على الوجه الَّذي يشترط فيه للصَّرف التَّعيين؛ فلا يصحُّ على ما في الذِّمَّة.

ومنها: لو وكَّله في شراء جارية، فاشتراها له، ثمَّ جحد الموكِّل الوكالة، فأراد الوكيل أن يشتريها منه، فلم يعترف بالملك، ثمَّ قال له: إن كنت أذنت لك في شرائها، فقد بعتكها؛ فهل يصحُّ أم لا؟ على وجهين:

أحدهما: لا يصحُّ؛ لأنَّ البيع لا يصحُّ تعليقه

(1)

، وهو قول القاضي وابن عقيل.

والثَّاني: يصحُّ، ذكره في «الكافي» احتمالاً؛ لأنَّه تعليق على شرط واقع يعلمانه، فلا يؤثِّر ذكره في العقد، كما لو قال: بعتك هذه إن كانت جارية، ويشهد له نصُّ أحمد في رواية ابن منصور بصحَّة بيع الغائب إن كان سالماً

(2)

، فإن هذا مقتضى إطلاق العقد؛ فلا يضرُّ تعليق البيع عليه.

(1)

كتب على هامش (ن): (وقد تقدَّم في القاعدة الثَّالثة والأربعين في المقبوض على وجه السَّوم أنَّه يحتمل أوجهاً؛ أحدها: أنَّه بيع معلَّق على شرط، وأن أحمد فعله بنفسه حين دفع نعله إلى بحر البقَّال باليمن، وقال له: يا بحر لك عندي درهم، خذ هذا النَّعل، فإن بعثنا لك بالدَّراهم من صنعاء، وإلَّا فالنَّعل بالدِّرهم، أرضيت؟ قلت: نعم، ومضى).

(2)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 3022): قلت: سئل سفيان عن رجل من أهل القرى، جاء، فاشتريت منه طعاماً، ولم أر الطعام، ونقدته الثمن؟ فلم ير بذلك بأساً، ولكن لا يسمي أجلاً، فإذا رأيته، فأنت بالخيار، ولا نرى للبائع أن يحرك الثمن، حتى ينظر أيرضى المشتري أم لا. قال أحمد: لا يحرك الثمن كما قال، والبائع مالك بعد، ما لم يكتله المشتري، فإن ربح في الثمن شيئًا؛ فالربح للمشتري).

ص: 493

ومنها: الرجعة في عقد نكاح شكَّ في وقوع الطلاق فيه.

قال أصحابنا: هي رجعة صحيحة رافعة للشَّكِّ، وهذه المسألة الَّتي أفتى فيها شريك بأنَّه يطلق ثمَّ يراجع.

ومأخذه: أنَّ الرَّجعة مع الشَّكِّ في الطلاق يصيِّرها كالمعلقة على شرط، ولا يصحُّ تعليقها؛ فلا يصحُّ تمثيل قوله بمن شكَّ في نجاسة ثوبه، فأمر بتنجيسه، ثمَّ يغسله.

ولذلك لم يصب من أدخل قوله في «أخبار المغفَّلين» ؛ فإنَّ مأخذه في ذلك خفي عنه.

فأمَّا الرَّجعة مع الشَّكِّ في حصول الإباحة بها؛ كمن طلَّق وشكَّ: هل طلَّق ثلاثاً أو واحدة، ثم راجع في العدة؛ فيصح عند أكثر أصحابنا؛ لأنَّ الأصل بقاء النكاح، وقد شكَّ في انقطاعه، والرَّجعة استبقاء له؛ فيصح مع الشَّكِّ في انقطاعه.

وعند الخرقيِّ: لا يصح؛ لأنَّه قد تيقن سبب التَّحريم، وهو الطلاق، فإنه إن كان ثلاثاً؛ فقد حصل التَّحريم بدون زوج وإصابة، وإن كان واحدة؛ فقد حصل به التَّحريم بعد البينونة بدون عقد جديد؛ فالرَّجعة في العدَّة لا يحصل بها الحلُّ إلَّا على هذا التَّقدير فقط؛ فلا

ص: 494

يزيل الشَّكَّ مطلقاً، فلا يصحُّ؛ لأنَّ تيقُّن سبب وجود التَّحريم مع الشَّكِّ في وجود المانع منه؛ يقوم مقام تحقق وجود الحكم مع الشك في وجود المانع

(1)

؛ فيستصحب حكم السبب كما يعمل بالحكم، ويلغى المانع المشكوك فيه كما يلغى مع تيقُّن وجود حكمه.

وقد استشكل كثير من الأصحاب كلام الخرقيِّ وتعليله؛ بأنَّه تيقَّن التَّحريم، وشكَّ في التَّحليل، وظنوا أنَّه يقول بتحريم الرَّجعية، وليس بلازم؛ لما ذكرنا.

ومنها: لو حكم الحاكم في مسألة مختلف فيها بما يرى أنَّ الحقَّ في غيره؛ أثم وعصى بذلك، ولم ينقض حكمه إلَّا أن يكون مخالفاً لنصٍّ صريح، ذكره ابن أبي موسى.

وقال السَّامريُّ: بل ينقض حكمه؛ لأنَّ شرط صحَّة الحكم موافقة الاعتقاد، ولهذا لو حكم بجهل لنقض حكمه، مع أنَّه لا يعتقد بطلان ما حكم به، فإذا اعتقد بطلانه؛ فهو بالرَّدِّ أولى.

وللأصحاب وجهان فيما ينقض فيه حكم الجاهل والفاسق:

أحدهما: ينقض جميع أحكامه؛ لفقد أهليَّته، وهو قول أبي الخطَّاب وغيره.

الثَّاني: ينقض كلُّها، إلَّا ما وافق الحقَّ المنصوص والمجمع عليه، وينقض ما وافق الاجتهاد؛ لأنَّه ليس من أهله، وهو اختيار صاحب «المغني» .

(1)

قوله: (منه؛ يقوم مقام تحقق وجود الحكم مع الشك في وجود المانع) سقط من (أ) و (د).

ص: 495

ويشبه هذا؛ قولنا في الوصيِّ الفاسق إذا قسَّم الوصيَّة، فإن أعطى الحقوق لمستحِقٍّ معيَّن يصحُّ قبضه؛ لم يضمنه؛ لأنَّه يجب إيصاله إليه وقد حصل، وإن كان لغير معيَّن؛ فوجهان.

ومنها: الحكم بإسلام من اتُّهم بالرِّدَّة إذا أنكر وأقرَّ بالشهادتين؛ فإنَّه حكم صحيح، وإن حصل التردد في مستنده؛ هل هو الإسلام المستمر على ما يدَّعيه، أو الإسلام المجدَّد على تقدير صحَّة ما اتُّهم به؟

وقد قال الخرقي: ومن شُهد عليه بالرِّدَّة، فقال: ما كفرت، فإن شَهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله؛ لم يكشف عن شيء، قال في «المغني»:(لأنَّ هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي؛ فكذلك المرتد)، قال:(ولا حاجة في ثبوت إسلامه إلى الكشف عن صحَّة ردَّته).

ونقل محمَّد بن الحكم عن أحمد فيمن أسلم من أهل الكتاب ثمَّ ارتدَّ، فشهد قوم عدول أنَّه تنصَّر أو تهوَّد، وقال هو: لم أفعل، أنا مسلم، قال: أقبل قوله، ولا أقبل شهادتهم. وذكر كلاماً معناه أنَّ إنكاره أقوى من الشُّهود

(1)

.

(1)

جاء في أحكام أهل الملل والردة للخلال (ص 423): عن بكر بن محمد بن الحكم، عن أبيه، عن أبي عبد الله، وسمعه يقول: لو أن نصرانيًّا أو يهوديًّا أسلم، ثم تهود أو تنصر، فشهد قوم عدول أنه قد تنصر أو تهود، وقال هو: إني لم أفعل، أنا مسلم. قال:(أقبل بقوله، ولا أقبل شهادتهم). قال أبي: أريد أن أستتيبه وهو أكبر عندي من الشهود!.

ص: 496

وكذلك نقل عنه أبو طالب في رجل تنصَّر، فأُخِذَ، فقال: لم أفعل؛ قال: يقبل منه. وعلل بأنَّ المرتدَّ يستتاب لعلَّه يرجع، فيقبل منه، فإذا أنكر بالكلِّيَّة؛ فهو أولى بالقبول

(1)

.

وليس في هذه الرواية أنَّه ثبت عليه الرِّدَّة، ولا فيها أنَّه وُجِدَ منه غير إنكار الرِّدَّة.

وأمَّا مسألة محمد بن الحكم؛ ففيها أنَّه قال: أنا مسلم، وذلك يحصل به الإسلام؛ فهو كالشهادتين.

وظاهر كلام أحمد يدلُّ على أنَّ إنكاره يكفي في الرجوع إلى الإسلام، ولم تثبت

(2)

عليه الرِّدَّة بالبيِّنة، وهو خلاف قول أصحابنا.

وأمَّا إن ثبت كفره بإقراره عليه، ثمَّ أنكر؛ ففي «المغني»: يحتمل أن لا يقبل إنكاره، وإن سلَّمنا؛ فلأنَّ الحدَّ هنا وجب بقوله، فقُبِل رجوعه عنه، بخلاف ما ثبت بالبيِّنة كما في حدِّ الزِّنى.

(1)

جاء في أحكام أهل الملل والردة للخلال (ص 423): عن أبي طالب: أنه سأل أبا عبد الله عن رجل تنصر فأخذ، فقال: لم أفعل؟ قال: (هو إذا تنصر يعرض عليه ثلاثة أيام لعله يرجع، فكيف إذا قال: لم أفعل؟ يقبل منه).

(2)

في (ج) و (ن) و (و): ولو ثبتت.

ص: 497

‌قاعدة [69]

العقد الوارد على عمل معيَّن:

إمَّا أن يكون لازماً ثابتاً في الذِّمَّة بعوض؛ كالإجارة: فالواجب تحصيل ذلك العمل، ولا يتعين أن يعمله المعقود معه إلَّا بشرط أو قرينة تدلُّ عليه.

وإمَّا أن يكون غير لازم، وإنَّما يستفاد التَّصرُّف فيه بمجرَّد الإذن: فلا يجوز للمعقود معه أن يقيم غيره مقامه في عمله إلَّا بإذن صريح أو قرينة تدلُّ عليه.

ويتردَّد بين هذين من كان تصرفه بولاية، إمَّا ثابتة بالشرع كوليِّ النِّكاح، أو بالعقد كالحاكم ووليِّ اليتيم.

فأمَّا الأوَّل؛ فله صور:

منها: الأجير المشترك، فيجوز له الاستنابة في العمل؛ لأنَّه ضامن تحصيله، لا عمله بنفسه.

واستثنى الأصحاب من ذلك: أن يكون العمل متفاوتاً

(1)

كالنَّسخ؛ فليس له الاستنابة فيه بدون إذن المستأجر صريحاً.

ونقلت من خط القاضي على ظهر جزء من «خلافه» قال: نقلت من

(1)

كتب على هامش (و): (يعني: أن الأغراض فيه متفاوتة).

ص: 498

«مسائل ابن أبي حرب الجرجرائي» : سمعت أبا عبد الله سئل، قال: دفعت ثوباً إلى خيَّاط، فقطعه، ثمَّ دفعه إلى آخر ليخيطه، قال: هو ضامن.

ولعلَّ هذا فيما دلَّت الحال على وقوع العقد فيه على خياطة المستأجر لجودة صناعته وحذقه وشهرته بذلك؛ فلا يرتضي المستأجر بعمل غيره.

والمذهب: الجواز بدون القرينة، وعليه بنى الأصحاب صحَّة شركة الأبدان، حتَّى أجازوها مع اختلاف الصَّنائع على أحد الوجهين.

وكذلك لو استأجر أجيراً لعمل وهو لا يحسنه، ففي الصِّحَّة وجهان؛ لأنَّ العقد وقع على ضمان تسليم العمل وتحصيله، لا على المباشرة.

ومنها: لو أصدقها عملاً معلوماً مقدراً بالزَّمان أو بغيره، وقلنا: يصحُّ ذلك؛ فهو كالأجير المشترك.

وأما الثاني، وهو المتصرف بالإذن المجرد؛ فله صور:

منها: الوكيل، وفي جواز توكيله بدون إذنٍ روايتان معروفتان، إلَّا فيما اقتضته دلالة الحال، مثل أن يكون العمل لا يباشره مثله، أو يعجِز عنه لكثرته؛ فله الاستنابة بغير خلاف.

لكن هل له الاستنابة في الجميع، أو في القدر المعجوز عنه خاصة؟ على وجهين.

والأوَّل اختيار صاحب «المغني» .

ص: 499

والثَّاني قول القاضي وابن عقيل.

ومنها: العبد المأذون له، وفيه طريقان:

أحدهما: أنَّه كالوكيل، وهو المذكور في «الكافي» ؛ لأنَّه استفاد التَّصرُّف بالإذن؛ كالوكيل.

والثَّاني: ليس له الاستنابة بدون إذن أو عرف بغير خلاف، وهو ما ذُكِر في «التلخيص» ؛ لقصور العبد في أملاكه وتصرُّفاته، فلا يملك التَّصرُّف بدون إذن أو قرينة.

ومنها: الصَّبيُّ المأذون له، وهو كالوكيل، ذكره في «الكافي» .

ومنها: الشَّريك والمضارب، وفيهما طريقان:

أحدهما: أنَّ حكمهما حكم الوكيل على الخلاف فيه، وهي طريقة القاضي والأكثرين

(1)

.

والثاني: يجوز لهما التَّوكيل بدون إذن، وهو المجزوم به في «المحرر» ، وكذلك رجَّحه أبو الخطَّاب في «رؤوس المسائل» ؛ لعموم تصرُّفهما، وكثرته، وطول مدَّته غالباً، وهذه قرائن تدلُّ على الإذن في التَّوكيل في البيع والشراء.

وكلام ابن عقيل يُشعِرُ بالتَّفريق بين المضارب والشَّريك؛ فيجوز للشَّريك التَّوكيل؛ لأنَّه علَّل بأنَّ الشَّريك استفاد بعقد الشركة ما هو دونه، وهو الوكالة؛ لأنَّها أخصُّ، والشَّركة أعمُّ، فكان له الاستنابة في

(1)

زاد في (أ): (والثانية: يجوز على الخلاف فيه، وهي طريقة القاضي والأكثرين) وهي تكرار.

ص: 500

الأخصِّ، بخلاف الوكيل؛ فإنَّه استفاد بحكم العقد مثل العقد، وهذا يدل على إلحاقه المضارب

(1)

بالوكيل.

وهذا الكلام في توكيلهما في البيع والشراء، فأمَّا دفع المضارب المالَ مضاربةً إلى غيره؛ فلا يجوز بدون إذن صريح، نص عليه أحمد

(2)

، وعلل بأنَّه إنَّما ائتمنه على المال؛ فكيف يسلِّمه إلى غيره؟!

وحُكِي فيه رواية أخرى بالجواز.

وأمَّا الثالث، وهو المتصرف بالولاية:

فمنه ولي اليتيم، وفيه طريقان:

أحدهما: أنه كالوكيل، وهي طريقة القاضي وابن عقيل وصاحب «المغني» ؛ لأن تصرفه بالإذن؛ فهو كالوكيل.

الثاني: أنه يجوز له التوكيل، بخلاف الوكيل، ورجحه القاضي، وابن عقيل أيضًا في كتاب الوصايا، وأبو الخطاب، وجزم به في «المحرر» ؛ لأنه متصرف بالولاية، وليس وكيلًا محضًا؛ فإنه متصرف بعد الموت، بخلاف الوكيل، ولأنه تعتبر عدالته وأمانته، وهذا شأن الولايات، ولأنه لا يمكنه الاستئذان، وتطول مدته ويكثر تصرفه، بخلاف الوكيل.

هذا في توكيله، فأما في وصيته إلى غيره؛ ففيها روايتان مشهورتان،

(1)

في (أ): الضارب.

(2)

جاء في مسائل عبد الله (ص 294): (قيل لأبي: الرجل يأخذ المال مضاربة بالثلث والربع، فيدفعه إلى غيره بأكثر من ذلك؟ قال: إن أذن له صاحبه، وإلا فلا).

ص: 501

واختار المنع أبو بكر والقاضي.

ومنه: الحاكم؛ هل له أن يستنيب غيره من غير إذن له في ذلك؟ وفيه طريقان:

أحدهما: طريق القاضي في «المجرد» و «الخلاف» له: أنه كالوكيل على ما مر فيه.

والثاني: وهو طريق القاضي في «الأحكام السلطانية» ، وابن عقيل، وصاحب «المحرر»: أن له الاستخلاف قولًا واحدًا.

ونص عليه أحمد في رواية مهنى؛ بناء على أن القاضي ليس بنائب للإمام، بل هو ناظر للمسلمين لا عمن ولَّاه، ولهذا لا ينعزل بموته ولا بعزله على ما سبق؛ فيكون حكمه في ولايته حكم الإمام، بخلاف الوكيل، ولأن الحاكم يضيق عليه تولي جميع الأحكام بنفسه، ويؤدي ذلك إلى تعطيل مصالح النَّاس العامَّة، فأشبه من وُكِّل فيما لا يمكنه مباشرته عادة؛ لكثرته.

ومنه: ولي النكاح:

فإن كان مجبِرًا، فلا إشكال في جواز توكيله؛ لأن ولايته ثابتة شرعًا من غير جهة المرأة، ولذلك لا يعتبر معه إذنها.

وإن كان غير مجبِر؛ ففيه طريقان:

أحدهما: أنه كالوكيل، وهو طريق القاضي؛ لأنه متصرف بالإذن.

والثاني: أنه يجوز له التوكيل قولًا واحدًا، وهو طريق صاحب «المغني» و «المحرر» ؛ لأن ولايته ثابتة بالشرع من غير جهة المرأة، فلا

ص: 502

تتوقف استنابته على إذنها؛ كالمجبِر، وإنما افترقا في اعتبار إذنها في صحة النكاح، ولا أثر له ههنا.

ص: 503

‌قاعدة [70]

الفعل المتعدِّي إلى مفعول، أو المتعلِّق بظرف أو بمجرور

؛ إذا كان مفعوله أو متعلَّقه عامًّا؛ فهل يدخل الفاعل الخاصُّ في عمومه، أم يكون ذكر الفاعل قرينة مخرجة له من العموم، أو يختلف ذلك بحسب القرائن؟

(1)

فيه خلاف في المذهب، والمرجَّح فيه التَّخصيص؛ إلَّا مع التَّصريح بالدخول أو قرائن تدلُّ عليه.

ويترتَّب على ذلك صور متعدَّدة:

منها: النهي عن الكلام والإمام يخطب؛ لا يشمل الإمام على المذهب المشهور.

ومنها: الأمر بإجابة المؤذِّن؛ هل يشمل المؤذن نفسه؟ المنصوص ههنا: الشمول

(2)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (قال شيخنا قاضي القضاة محبُّ الدِّين - ابن نصر الله -: لو قيل غير هذه العبارة؛ كان أبين للمراد، مثل أن يقال: العام إذا عُلِّق حكم له على فعل بعض أفراده، هل يشمل عمومه من علَّق على فعله أو يختصُّ بمن عداه؟).

(2)

كتب على هامش (ن): (ويؤيِّد النَّص حديث: «إذا قال الإمام: ولا الضَّالِّين، فقولوا: آمين»، وحديث: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربَّنا ولك الحمد»، فإنَّ الإمام داخل في عموم المأمورين في الحديثين بغير خلاف).

علق محشٍ آخر عليه بقوله: (مع أنه يُمنع أن استفادة ذلك مما ذكره، بل من حديث أبي داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلَّى الله عليه إذا تلا {غير المغضوب عليهم ولا الضَّالِّين}؛ قال: آمين، حتَّى يسمع من يليه من الصفِّ الأوَّل، ولفظ ابن ماجه: «حتَّى يسمعها أهل الصفِّ الأوَّل، فيرتجُّ بها المسجد»).

ص: 504

والأرجح: عدمه؛ طرداً للقاعدة.

ومنها: إذا أَذِن لعبده في التِّجارة؛ لم يملك أن يؤجر نفسه.

وللمنع مأخذ آخر: وهو أنَّ المنافع ليست من أموال التِّجارة، ذكره القاضي

(1)

.

ومنها: إذا أَذِن السيد لعبده أن يُعتق عن كفارته من رقيق السَّيِّد؛ لم يملك أن يُعتق نفسه.

وخرَّجها أبو بكر على وجهين، وهذا يتمشَّى على طريقته وطريقة

(1)

كتب على هامش (ن): (في كون هذا مأخذ المسألة نظر؛ إذ هما مسألتان، أحدهما: أن يأذن له في التَّصرُّف في مال معيَّن، فهذا هو الَّذي يتنزَّل عليه كلام القاضي، والثَّانية: أن يأذن له في التَّصرُّف في جميع ماله، فهذا هو الَّذي يتَّجه فيه الخلاف في جواز تصرُّفه في نفسه؛ لأنه من جملة ماله، والمنع منه؛ لأنَّ خطابه مخرِج له ممَّا أذن له فيه).

ص: 505

ابن حامد والمتقدمين: أن تكفير العبد بالمال لا ينبني على ملكه بالتمليك، بل يكفِّر به بإذن السيد وإن لم يملكه، وإلَّا فلو ملك نفسه؛ لانعتقت عليه قهراً، ولم يجزئه عن الكفارة

(1)

.

ومنها: هل يكون الرجل

(2)

مصرفاً لكفَّارة نفسه? في المسألة روايتان.

ثمَّ من الأصحاب من يحكيهما في غير كفارة الجماع في رمضان؛ لورود النَّصِّ فيها.

ومنهم من حكاها

(3)

في الجميع، وجعل ذلك خصوصاً للأعرابيِّ أو إسقاطاً للكفَّارة عنه؛ لعجزه، وكونها لا تفضل عنه.

واختلفوا في محلِّ الخلاف؛ فقيل: هو إذا كفَّر الغير عنه بإذنه؛ هل يجوز له أن يصرفها إليه أم لا? بناء على أن التكفير من الغير لا يستلزم

(1)

كتب على هامش (ن): (ويحتمل أن يكون من ذلك ما لو قال: "نساء العالمين طوالق".

ومنه لو قال لزوجته: إن فعلت مع أحد حراماً؛ فأنت طالق، فطلَّقها طلقة رجعيَّة وجامعها، وقلنا: الرَّجعيَّة محرَّمة، فيحتمل دخوله في العموم فيقع، ويحتمل أن يقال: لا يقع؛ لأنَّ غرض المعلِّق منعها عن الغير لما يلحقه بذلك من النَّقاصة والمعرَّة).

(2)

في (أ): للرجل.

(3)

كتب على هامش (ن): (لعلَّه حكاهما).

ص: 506

دخولها في ملكه قبل ملك الفقير لها؛ كما تقدَّم مثله في العتق.

وقيل: بل إذا تصدق عليه بها لفقره؛ هل يجوز له أن يأكلها وتكون كفَّارة أم لا؟ وهي طريقة ابن أبي

(1)

موسى.

ومنها: هل يكون الرَّجل مصرفاً لزكاته?

إذا أخذها السَّاعي منه؛ فقد برئت ذمته منها، فله أن يعيدها إليه بعد ذلك، هذا هو المنصوص عن أحمد واختيار القاضي؛ لأنَّ عودها إليه ههنا بسبب متجدِّد؛ هو

(2)

كإرثه لها.

ولا نقول: إنَّه قبضها عن زكاة ماله؛ لأنَّه بريء من زكاة ماله بقبض السَّاعي، وإنَّما يأخذها من جملة الصَّدقات المباحة له.

قال أبو بكر: مذهب أحمد لا يحلُّ له أخذها، ذكره في زكاة الفطر، وعلَّل بأنَّها طهرة؛ فلا يجوز له أن يطهر بما قد تطهَّر به.

وهكذا الخلاف في ردِّ الإمام خُمُس الفيء والغنيمة على من أخذه منه.

وأمَّا إسقاطها قبل القبض؛ فلا يجوز؛ لأنَّ الإبراء من الدَّين لا يسقط الزَّكاة ولا الخُمُس

(3)

، بل يجب فيهما القبض

(4)

، بخلاف

(1)

قوله: (أبي) سقطت من (أ).

(2)

في (ج) و (ن) و (و): فهو.

(3)

كتب على هامش (ن): (هذا تعليل للحكم بنفسه، فليتأمَّل).

(4)

كتب على هامش (ن): (لعلَّ سبب ذلك تعلُّقهما بالعين لا بالذِّمة، بخلاف الخراج والعشر فإنَّهما متعلِّقان بالذِّمة فقط).

ص: 507

الخراج والعشر المأخوذ من تجَّار أهل الكتاب؛ لأنَّه فيء، فيجوز للإمام إسقاطه عمن هو واجب عليه إذا رأى فيه المصلحة، وكذلك خُمُس الرِّكاز إذا قيل: هو فيء.

ومنها: هل يكون الواقف مصرفاً لوقفه؛ كما إذا وقف على الفقراء ثمَّ افتقر؟ فإنَّه يدخل على الأصح، ونص عليه أحمد في رواية المروذيِّ.

وكذا لو انقطع مصرف الوقف، وقلنا: يرجع إلى أقاربه وقفاً، وكان

(1)

الواقف حيًّا؛ هل يرجع إليه؟

على روايتين حكاهما ابن الزاغونيِّ في «الإقناع» .

وجزم ابن عقيل في «المفردات» بدخوله.

وكذلك لو وقف على أولاده وأنسالهم أبداً، على أنَّه من توفي منهم عن غير ولد؛ رجع نصيبه إلى أقرب النَّاس إليه، فتوفِّي أحد أولاده عن غير ولد، والأب الواقف حيٌّ؛ فهل يعود نصيبه إليه لكونه أقرب النَّاس إليه أم لا؟ تُخرَّج على ما قبلها.

والمسألة ملتفتة إلى دخول المخاطب في خطابه.

ومنها: الوكيل في البيع؛ هل له الشِّراء من نفسه؟ فيه روايتان معروفتان.

وللمنع مآخذ:

أحدها: التُّهَمة وخشية ترك الاستقصاء في الثَّمن.

(1)

في (أ) و (ج): فكان.

ص: 508

والثَّاني: أنَّ سياق التَّوكيل في البيع يدلُّ على إخراجه من جملة المشترين؛ لأنَّه جعله بائعاً، فلا يكون مشترياً.

وهذان المأخذان ذكرهما القاضي وغيره.

والثَّالث: أنَّه لا يجوز أن يتولَّى طرفي العقد واحدٌ بنفسه، ويأخذ بإحدى يديه من الأخرى، فإذا وكَّل رجلاً يشتري له؛ جاز، نقل ذلك حنبل عن أحمد

(1)

.

فعلى المأخذ الأوَّل: لا يجوز له البيع ممَّن يتَّهم بمحاباته أيضاً، وهو ممن لا تقبل شهادته له.

ومنهم من خصَّه بمن له عليه ولاية، وهو ولده الصَّغير، دون من لا ولاية له عليه، وهي طريقة القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل، وصاحب «المغني» .

وعلى الثَّاني والثَّالث: يجوز له البيع من غيره إذا كان أهلاً للقبول.

ويجوز على المأخذ الثَّالث أيضاً أن يوكِّل من يشتري له، لاندفاع محذور اتِّحاد الموجب والقابل.

وإن وكَّل من يبيع السِّلعة ويشتريها هو؛ فذكر ابن أبي موسى: أنَّه إذا كان مأذوناً له في التَّوكيل في البيع؛ جاز الشِّراء من وكيله قولاً واحداً؛ بناء على أنَّ هذا الوكيل الثَّاني وكيل للموكِّل الأوَّل؛ فكأنَّه اشترى السِّلعة من مالكها.

(1)

جاء في الروايتين والوجهين (1/ 398): (وقد نقل حنبل: لا يشتري الوصي لإحدى يديه من الأخرى، لكن يوكل رجلاً، فإذا قام على ثمن في السوق اشتراه).

ص: 509

وإن كان لم يأذن له في التَّوكيل؛ انبنى على جواز توكيله بدون إذنٍ، فإن أجزناه؛ صحَّ البيع، وإلَّا فلا.

ويحتمل أن يكون مأخذ الصِّحة: أنَّ الوكيل الثَّاني وكيل للموكِّل، ويدلُّ عليه تعليله بذلك في صورة الإذن في مسألة النِّكاح.

ويحتمل أن يعتبر التَّوكيل؛ لئلَّا يتحدَّ الموجب والقابل، مع أنَّ هذا منتقض بالأب في مال ولده الطفل.

وأمَّا رواية الجواز؛ فاختلف في حكاية شروطها على طرق:

أحدها: أنَّه تشترط الزِّيادة على الثَّمن الَّذي ينتهي إليه الرَّغبات في النِّداء.

وفي اشتراط أن يتولَّى النِّداء غيره وجهان، وهي طريقة القاضي في «المجرد» وابن عقيل.

والثَّاني: أنَّ المشترط التَّوكيل المجرد، كما هي طريقة ابن أبي موسى والشِّيرازيِّ.

والثَّالث: أنَّ المشترط أحد أمرين: إمَّا أن يوكِّل من يبيعه على قولنا بجواز ذلك، وإمَّا الزِّيادة على ثمنه في النِّداء، وهي طريقة القاضي في «خلافه» وأبي الخطَّاب.

وأمَّا إن باع الوكيل، واشترط على المشتري أن يشركه فيه؛ فهل يجوز أم لا؟ على روايتين:

إحداهما: يجوز، نقلها أبو الحارث في الوكيل يبيع ويستثني لنفسه الشركة: أرجو ألَّا يكون به بأس.

ص: 510

والثَّانية: يكره، نقلها ابن منصور في رجل يدفع إليه الثَّوب يبيعه، فإذا باعه؛ قال: أشركني فيه، قال: أكره هذا

(1)

.

فأمَّا إن أذن له الموكِّل في الشِّراء من نفسه، فإنَّه يجوز، قال كثير من الأصحاب: روايةً واحدةً، بخلاف النِّكاح.

وحكى الشيخ مجد الدين فيه وجهاً آخر بالمنع؛ قال: وهل يكون حضور الموكِّل وسكوته كإذنه؟ يحتمل وجهين، أشبههما بكلام أحمد: المنع.

ونقل أحمد بن نصر الخفَّاف

(2)

عن أحمد، فيمن له على رجل خمسون ديناراً، فوكَّله في بيع داره ومتاعه ليستوفي حقَّه، فباعها بدراهم ليصارف نفسه ويأخذها بالدَّنانير: لم يجز، ولكن يبيعها ويستقضي ويأخذ حقَّه.

قال القاضي: ظاهر كلامه أنَّه لا يجوز له بيعها بغير جنس حقِّه ليستوفي منه؛ لأنَّ التُّهمة موجودة في عقد الصَّرف من نفسه لنفسه، وإنَّما أذن له في الاستيفاء، ولم يأذن له في المصارفة، فإذا باعها بجنس حقِّه؛ فله الاستيفاء منها بالإذن؛ لأنَّ يده كيد موكِّله؛ فهو

(3)

يقبض من يد غيره لنفسه.

ولكن هذه العلَّة موجودة في شراء الوكيل من نفسه.

(1)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2658).

(2)

هو أحمد بن نصر، أبو حامد الخفاف، ذكره أبو بكر الخلال فقال: كان عنده جزء فيه مسائل حسان أغرب فيها. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 82.

(3)

كتب في هامش (أ): (فلم)، وعليها إشارة نسخة.

ص: 511

وكذلك حَكى في «الخلاف» في المسألتين روايتين.

وجعلها صاحب «التَّلخيص» رواية بجواز توكيل الوكيل في إيفاء نفسه من جنس حقِّه خاصَّة.

وأنكر الشيخ مجد الدين أن يكون فيها دلالة على المنع من البيع بغير جنس الحقِّ، لا سيما إن كان جنس الحقِّ غير نقد البلد، وحمل قول أحمد ببيعها على الدَّراهم الَّتي هي الثَّمن، وبنى ذلك على قولنا بمنع الوكيل من البيع من نفسه، فأمَّا على قولنا بجوازه؛ فإنَّه يجوز له هنا مصارفته نفسه.

ومنها: شراء الوكيل لموكِّله من ماله، وحكمه حكم شراء الوكيل من مال موكِّله، ذكره ابن أبي موسى وغيره.

وفي «مسائل ابن هانئ» عن أحمد، فيمن بعث إليه بدراهم ليشتري بها من بعض المواضع، فيبعث إليهم مما عنده، ويبالغ في الاستقصاء، قال: لا يعجبني أن يبعث إليهم بما عنده حتَّى يبين أنَّه قد بعث إليهم من المتاع الَّذي عنده

(1)

.

ومنها: شراء الوصيِّ من مال اليتيم، وحكمه حكم شراء الوكيل، وفيه روايتان منصوصتان، ولم يذكر ابن أبي موسى سوى المنع.

وكذلك حكم الحاكم وأمينه في مال اليتيم.

ويتوجَّه التفريق بين الحاكم وغيره؛ بأنَّ الحاكم ولايته غير مستندة إلى إذن؛ فتكون عامَّة، بخلاف من استندت ولايته إلى إذن من غيره في

(1)

ينظر: مسائل ابن هانئ (2/ 16).

ص: 512

التَّصرُّف، فإنَّ إطلاق الإذن له يقتضي أن يتصرَّف مع غيره لا مع نفسه كما سبق، وقد اعتمد القاضي على هذا الفرق بين تصرُّف الأب وغيره.

ومنها: الوكيل في نكاح امرأة؛ ليس له أن يتزوَّجها لنفسه على المعروف من المذهب.

وذكر ابن أبي موسى: أنَّه إن أذن له الوليُّ في التَّوكيل فوكَّل غيره فزوَّجه؛ صحَّ.

وكذا إن لم يأذن له، وقلنا: للوكيل أن يوكِّل مطلقاً.

فأمَّا من له ولاية بالشَّرع؛ كالوليِّ والحاكم وأمينه؛ فله أن يزوِّج نفسه وإن قلنا: ليس لهم أن يشتروا من المال، ذكره القاضي في «خلافه» ، وفرَّق: بأنَّ المال القصد منه الرِّبح، وهذا يقع فيه التُّهمة، بخلاف النِّكاح؛ فإنَّ القصد منه الكفاءة وحسن العشرة، فإذا وجد ذلك؛ صحَّ.

وألحق أيضاً الوصي بذلك، وفيه نظر، فإن الوصيَّ يشبه الوكيل؛ لتصرفه بالإذن.

وسواء في ذلك اليتيمة وغيرها، صرَّح به القاضي في ذلك، وذلك حيثُ يكون لها إذنٌ معتبر.

ومتى زوَّج أحد من هؤلاء نفسه بإذن المرأة من غير توكيل، بل مباشرة لطرفَيِ العقد؛ ففي صحَّته روايتان.

وإن وكَّل في أحد الطَّرفين؛ فقال أكثر الأصحاب: يصحُّ رواية واحدة.

ص: 513

وأنكر ذلك ابن عقيل، وقال: متى قلنا: لا يصحُّ أن يتولاه بنفسه؛ لم يصحَّ عقد وكيله له؛ لأنَّ وكيله قائم مقام نفسه.

واستثنى من ذلك: الإمام إذا أراد أن يتزوَّج امرأة ليس لها وليٌّ؛ فإنَّه يتزوَّجها بولاية أحد نوَّابه؛ لأنَّ نوَّابه نوَّاب عن المسلمين لا عنه فيما يخصُّه.

ومنها: إذا عمل أحد الشَّريكين في مال الشَّركة عملاً يملك الاستئجار عليه، ودفع الأجرة، فهل له أن يأخذ الأجرة أم لا؟ على روايتين.

ومنها: الموصى

(1)

إليه بإخراج مال لمن يحجُّ أو يغزو؛ ليس له أن يأخذه ويحجَّ به ويغزو، نصَّ عليه أحمد في رواية أبي داود، وقال: هو متعدٍّ؛ لأنَّه لم يأمره

(2)

.

وهذا تصريح بأنَّ مأخذ المنع: عدم تناول اللَّفظ له.

ومنها: المأذون له أن يتصدَّق بمال؛ هل له أن يأخذ منه لنفسه إذا كان من أهل الصَّدقة؟

(1)

في (أ): الوصي.

(2)

جاء في مسائل أبي داود (ص 185): (سمعت أحمد سئل: أيحج الوارث عن الميت إذا أوصى به؟ قال: لا.

قلت لأحمد: فإن أوصاه أن يحج عنه؟ قال: ولا؛ لأنه كأنه وصية لوارث.

وسمعته سئل يحج عنه الوصي؟ قال: لا يحج الوصي عن الميت، وقال مرة أخرى، قال: إن لم يأمره كأنه منفذ، أي: لا يفعل، قلت: فإن أوصى بدواب في السبيل للوصي أن يغزو عليها؟ فرآه مثل الحج سواء).

ص: 514

المذهب: أنهَّ لا يجوز، ونصَّ عليه أحمد في رواية ابن بختان.

وذكر في «المغني» احتمالين آخرين:

أحدهما: يجوز مطلقاً.

والثَّاني: الرُّجوع إلى القرائن، فإن دلَّت قرينة على الدُّخول؛ جاز الأخذ، أو على عدمه؛ لم يجز، ومع التَّردُّد يحتمل وجهين.

والجواز مخرَّج من مسألة شراء الوكيل، وأولى؛ إذ لا عوض ههنا يُبتغى، وهو أمين على المال يتصرَّف فيه بالمصلحة، ولكن الأولى سدُّ الذريعة؛ لأنَّ محاباة النفس لا تؤمن.

وعلى هذا؛ فهل له أن يعطيه من لا تقبل شهادته له؟ فيه وجهان:

أشهرهما: المنع.

والثَّاني: الجواز، اختاره صاحبا «المغني» و «المحرر» .

ومنها: إذا وكَّل غريمه أن يُبْرِئ غرماءه؛ لم يدخل فيهم مطلق العقد، فإن سمَّاه أو وكَّله وحده؛ جاز ذلك؛ كما قلنا في البيع من نفسه على الأصح، ذكره في «شرح الهداية» ، وعزاه إلى القاضي وابن عقيل، قال: والفرق على الوجه الآخر افتقار البيع إلى الإيجاب والقبول، يعني: بخلاف الإبراء.

ومنها: لو قال في الأيمان ونحوها من التَّعليقات: من دخل داري، أو قال: من دخل دارك؛ لم يدخل المتكلِّم في الصورة الأولى، ولا المخاطب في الثَّانية، ذكره القاضي وغيره.

ومنها: الأموال الَّتي تجب الصَّدقة بها

(1)

شرعاً للجهل بأربابها؛

(1)

في (أ): الصدقة فيها. وفي (هـ): بها الصَّدقة.

ص: 515

كالمغصوب والودائع؛ لا يجوز لمن هي في يده الأخذ منها على المنصوص.

وخرَّج القاضي جواز الأكل له منها إذا كان فقيراً، على الرِّوايتين في شراء الوصيِّ من نفسه، كذا نقله عنه ابن عقيل في «فنونه» ، وأفتى به الشيخ تقي الدين في الغاصب الفقير إذا تاب

(1)

.

وعلى المذهب؛ يتخرَّج في إعطاء من لا تقبل شهادته له الوجهان.

والمنصوص عن أحمد: أنَّه لا يحابي بها أصدقاءه، بل يعطيهم أسوة غيرهم، نقله عنه صالح

(2)

.

وكذا نقل عنه المروذيُّ إذا دفعها إلى أقاربَ له محتاجين: إن كان على طريق المحاباة لا يجوز، وإن كان لم يحابهم؛ فقد تصدَّق

(3)

.

ونقل عنه حرب: إذا كان له إخوانٌ محاويجُ

(4)

قد كان يَصِلهم؛ أيجوز له أن يدفعها إليهم؟ فكأنَّه استحبَّ أن يعطي غيرهم، وقال: لا

(1)

ينظر: مجموع الفتاوى (30/ 328).

(2)

جاء في مسائل صالح (ص 281): (وسألته عن رجل له أهل بيت لا يقيمون الصلوات، ولا يعرفون السنن والفرائض، وفي جيرانه قوم يقيمون الصلاة والفرائض والسنن، أيضع زكاة ماله في جيرانه هؤلاء أو في أهل بيته؟ قال: ينبغي له أن يعلمهم الفرائض والسنن، وزكاته هم أولى بها حينئذ، وإذا كانت حاجتهم وحاجة غيرهم سواء فالقرابة أولى، ويقال: لا يحابى بها قريب ولا تمنع من بعيد، وإنما هو حق الله في المال).

(3)

في (أ) و (ج) و (د): يصدَّق.

(4)

قوله: (محاويج) سقطت من (أ).

ص: 516

يحابي بها أحداً.

والظَّاهر أنَّه جعل إعطاءهم مع اعتبار صلتهم محاباةً، فلذلك استحبَّ العدول عنهم بالكليَّة.

تنبيه:

لو وصَّى لعبده بثُلث ماله؛ دخل في الوصيَّة ثلث العبد نفسه؛ فيَعتِق عليه، نصَّ عليه، ويكمُلُ عتقه من باقي الوصيَّة؛ لأنَّ ملكه للوصية مشروط بعتقه، فلذلك دخل في عموم المال الموصى به؛ ضرورة صحَّة الوصيَّة له

(1)

.

(1)

هنا ينتهي السَّقط من (ب).

ص: 517

‌قاعدة

(1)

[71]

فيما يجوز الأكل منه من الأموال بغير إذن مستحقِّيها

.

وهي نوعان: مملوك

(2)

تعلَّق به حقُّ الغير، ومملوك للغير.

فأمَّا الأوَّل: فهو مال الزَّكاة، فيجوز الأكل ممَّا تتوق إليه النُّفوس ويشقُّ الانكفاف عنه من الثِّمار بقدر ما يحتاج إليه من ذلك، ويطعم الأهل والضِّيفان، ولا تحتسب زكاته.

ولذلك يجب على الخارص أن يدع في خرصه الثُّلث أو الرُّبع بحسب ما تقتضيه الحال من كثرة الحاجة وقلَّتها؛ كما دلَّت عليه السنة

(3)

، فإن استبقيت ولم تؤكل رطبةً؛ رجع عليهم بزكاتها.

وأمَّا الزُّروع؛ فيجوز الأكل منها بقدر ما جرت العادة بأكله فريكاً

(4)

(1)

في (ب) و (ن): الحمد لله ربِّ العالمين. قاعدة. وهي في (ج): والله أعلم. قاعدة.

(2)

كتب على هامش (ن): (مملوك للآكل).

(3)

يشير إلى ما أخرجه أحمد (15713)، وأبو داود (1605)، والترمذي (643)، والنسائي (2491) عن عبد الرحمن بن مسعود، قال: جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إذا خرصتم، فجدوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا، أو تجدوا الثلث، فدعوا الربع» .

(4)

بُرٌّ فريك: هو الذي فرك ونقي، والفريك: طعام يفرك ثم يلت بسمن أو غيره. ينظر: المحكم (7/ 7)، لسان العرب (10/ 473).

ص: 518

ونحوه، نصَّ عليه أحمد، وليس له الإهداء منها.

وخرَّج القاضي في الأكل منها وجهين؛ من الأكل من الزُّروع الَّتي ليس لها حافظ.

وأمَّا الثَّاني: فينقسم إلى ما له مالك معيَّن وإلى ما له مالك غير معيَّن.

فأمَّا ما له مالك غير معيَّن

(1)

؛ كالهدي

(2)

والأضاحي؛ فيجوز لمن هي في يده - وهو المهدي والمضحِّي - أن يأكل منها ويدَّخر ويُهدي؛ كما دلت عليه السُّنَّة.

وهل يجوز أكل أكثر من الثلث أم لا؟ على وجهين، أشهرهما الجواز.

وهل المستحب أن يقسم الهدي أثلاثاً كالأضاحي، أو يتصدق به كله إلا بما يأكله منه؟ على وجهين.

وأمَّا ما له مالك معيَّن؛ فهو نوعان:

أحدهما: أن يكون له عليه ولاية:

فإن كانت الولاية عليه لحظِّ نفسه كالرَّهن، فإنَّه يجوز له الأكل ممَّا بيده إذا كان دَرًّا، والانتفاع بظهره إذا كان مركوباً؛ لكن بشرط أن يعاوض عنه بالنَّفقة.

وإن كانت الولاية لمصلحة المولَّى عليه؛ فالمنصوص: جواز الأكل

(1)

قوله: (فأمَّا ما له مالك غير معيَّن) سقط من (أ).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: المتطوع به).

ص: 519

منه أيضاً بقدر عمله.

ويتخرَّج على ذلك صور:

منها: وليُّ اليتيم يأكل مع الحاجة بقدر عمله، وهل يردُّه إذا أيسر؟ على روايتين.

واختار ابن عقيل: أنَّه يأكل مع الحاجة وعدمها.

ولو فرض الحاكم له شيئاً؛ جاز له أخذه مجاناً بغير خلاف، هذا ظاهر كلام القاضي.

ونصَّ أحمد في رواية البرزاطي في الأمِّ الحاضنة: أنَّها لا تأكل من مال

(1)

ولدها إلَّا للضَّرورة، إلَّا أن يفرض لها الحاكم في المال حقَّ الحضانة.

ووجهه: أنَّ من أعطاه غيره؛ فله الأخذ مع الغنى، بخلاف الأخذ بنفسه، ولهذا جاز للوصيِّ الأخذ إذا شرط له الأب مع غناه، وجاز للوليِّ أن يدفع مال اليتيم مضاربة إلى من يعمل فيه بجزء من ربحه، ولم يجز له إذا عمل فيه بنفسه أن يأخذ، ولهذا المعنى جاز الأخذُ لعامل الزَّكاة مع الغنى؛ لأنَّ المعطي له هو الإمام.

ومنها: أمين الحاكم أو الحاكم إذا نظر في مال اليتيم.

قال القاضي مرَّة: لا يأكل، وفرَّق بينه وبين الوصيِّ: بأن الأب له أن يجعل للوصيِّ جُعْلاً مع وجود متبرِّعٍ بالنظر في مال اليتيم، والوصيُّ متصرف بإذنه وتوليته، بخلاف أمين الحاكم؛ فإنَّه لو وجد متبرِّعاً

(1)

قوله: (مال) سقط من (أ).

ص: 520

بالحفظ؛ لم يجز له أن يجعل لأحد جُعْلاً عليه.

وقال مرَّة: له الأكل كوصيِّ الأب، وأخذه من نصِّ أحمد على أنَّ الحاكم يأخذ على القضاء أجراً بقدر شغله، وقال: هو مثل وليِّ اليتيم

(1)

(2)

.

وأمَّا الأب؛ فقال القاضي: ليس له الأكل لأجل عمله؛ لغناه عنه بالنَّفقة الواجبة في ماله، ولكن له الأكل منه بجهة التَّملُّك عندنا.

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (7/ 3715): (قلت: يأخذ القاضي أجرًا على القضاء؟ قال: ما يعجبني، وإن كان؛ فبقدر شغله، مثل والي مال اليتيم).

(2)

كتب على هامش (ن): (تشبيهه بولي اليتيم؛ يقتضي أنَّه لا يأخذ إلَّا مع الحاجة، لكن قوله:"يأخذ على القضاء أجراً"، هل يكون الأخذ من المحكوم له، أو من المحكوم عليه، أو منهما، أو من بيت المال؟ وحمله على بيت المال بعيد؛ إذ ذلك يجوز مع الغنى، فليس كولي اليتيم، وأخذ ذلك من الخصمين قويٌّ لدفع التُّهمة بأخذه من أحدهما.

ووجه أخذه من المحكوم عليه: أنَّه بمثابة توفية الحقِّ الَّذي عليه، ومؤونة ذلك عليه؛ كما لو كان مكيلاً أو موزوناً، فإنَّ أجرة ذلك عليه، وكأجرة المقتصِّ فإنَّها على الجاني، وكذلك أجرة من يقيم الحد على المحدود، ويحتمل أنَّها على المحكوم له؛ لأنَّ نفع ذلك له أشبه وكيله في خلاص حقِّه، وفي المغني: فإن لم يكن للقاضي رزق، فقال للخصمين: لا أقضي عليكما حتَّى تجعلا لي رزقاً عليه؛ جاز، ويحتمل ألَّا يجوز. من خطِّ شيخنا قاضي القضاة محب الدِّين البغدادي).

ص: 521

وضعَّف ذلك الشَّيخ تقيُّ الدِّين رحمه الله تعالى.

ومنها: ناظر الوقف والصَّدقات، ونصَّ أحمد على جواز أكله

(1)

، نقل عنه أبو الحارث أنَّه قال في والي الوقف: إن أكل منه بالمعروف فلا بأس، قيل له: فيقضي منه دينه؟ قال: ما سمعنا فيه شيئاً

(2)

.

وكذلك نقل عنه حرب في رجل أوصى إلى رجل بأرض أو صدقة للمساكين، فدخل الوصيُّ الحائط أو الأرض، فتناول بطيخة أو قثَّاء أو نحو ذلك، قال: لا بأس بذلك إذا كان القيِّم بذلك أكل.

وترجم عليه بعض الأصحاب -وأظنُّه أبا حفص العكبريَّ-: (الوصيُّ يأكل من الوقف الَّذي يليه).

وهذا ظاهر في أنَّه لا يشترط له الحاجة، وخرَّجه أبو الخطاب على عامل اليتيم.

ونقل الميمونيُّ عن أحمد: أنَّه ذكر حديث عمر حين وقف فأوصى إلى حفصة

(3)

، ثمَّ قال أحمد: لمن وَلِيَه أن يأكل

(4)

منه بالمعروف إذا كان

(5)

اشترط ذلك

(6)

.

ومفهومه: المنع من الأكل بدون الشَّرط.

(1)

في (أ): الأكل.

(2)

ينظر: الوقوف والترجل من مسائل الإمام أحمد لأبي بكر الخلال (ص 24).

(3)

أخرجه أبو داود (2879)، وأصله في البخاري (2737)، ومسلم (1632).

(4)

قوله: (لمن وليه أن يأكل) هو في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): (وَلِيَه يأكل).

(5)

قوله: (كان) سقطت من (ب).

(6)

ينظر: الوقوف والترجل لأبي بكر الخلال (ص 24).

ص: 522

فأمَّا الوكيل في الصدقة؛ فلا يأكل منها شيئاً، نقل يعقوب ابن بختان عن أحمد في رجل في يده مال للمساكين وأبواب البرِّ، وهو فقير محتاج إليه: فلا يأكل منه، إنَّما أُمِر أن ينفذ.

وصرَّح القاضي في «المجرد» : بأنَّ من أُوصي إليه بتفرقة مال على المساكين أو دفع إليه رجل في حياته مالاً ليفرِّقه صدقة؛ لم يجز أن يأكل منه شيئاً بحقِّ قيامه؛ لأنَّه منفذ، وليس بعامل منمٍّ مثمِّر.

ومنها: الوكيل والأجير، والمعروف منعهما من الأكل؛ لاستغنائهما عنه بطلب الأجرة من المؤجر والموكِّل، لا سيما والأجير قد أخذ الأجرة على عمله.

ونقل حنبل عن أحمد في الوليِّ والوصيِّ إذا كانا يصلحان ويقومان بأمره، فأكلا بالمعروف: فلا بأس به، بمنزلة الوكيل والأجير.

قال القاضي في «خلافه» : وظاهر هذا جواز الأكل للوكيل، انتهى

(1)

.

ونقل العبَّاس بن محمَّد الخلَّال عن أحمد، فيمن كانت في يده أرض من أرض الخراج؛ هل يأكل ممَّا أخرجت من زرع أو ثمر إذا كان الإمام يأخذهم بالخراج مِساحة، أو صيَّرها في أيديهم مقاسمة على النصف أو الربع؛ قال: يأكل، إلَّا أن يخاف السُّلطان

(2)

.

(1)

قوله: (انتهى) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (و).

(2)

ينظر: الأحكام السلطانية للقاضي (ص 184).

ص: 523

وهذا يدلُّ على جواز أكل الشَّريك والعامل في المساقاة ونحوهما من الزُّروع والثِّمار بغير إذن

(1)

.

النّوع الثَّاني: ما لا ولاية له عليه؛ فيجوز الأكل منه للضَّرورة بلا نزاع.

وأمَّا مع عدمها؛ فيجوز فيما تتوق إليه النُّفوس مع عدم الحفظ والاحتراز عليه، وذلك في صور:

منها: الأكل من الأطعمة في دار الحرب، وإطعام الدَّواب المعدَّة للرُّكوب.

فإن كانت للتِّجارة؛ ففيه روايتان.

وإن كانت للتَّصيُّد بها؛ فوجهان.

وسواء كان محتاجاً إليه أو لم يكن في أشهر الطَّريقتين.

وفي الثَّانية: لا يجوز إلا للحاجة بقدرها.

وفي ردِّ عوضه في المغنم روايتان، وهي طريقة ابن أبي موسى.

واختلف الأصحاب في محلِّ الجواز:

فقيل: محلُّه ما لم يحرزه الإمام، فإذا أحرزه أو وكَّل به من يحفظه؛ لم يجز الأكل إلَّا لضرورة، وهي طريقة الخرقيِّ؛ لأنَّ إحرازه منع من التَّناول منه، وأمَّا قبل الإحراز؛ فإنَّ حفظه يشقُّ ويُتسامَح بمثله عادة.

وقيل: يجوز الأكل ما داموا في أرض الحرب، وإن أحرز، ما لم يُقسم، وهي طريقة القاضي.

(1)

من قوله: (ونقل العبَّاس بن محمَّد الخلَّال) إلى هنا سقط من (أ) و (ج) و (د) و (و).

ص: 524

وإن فَضَلت منه فضلة؛ فهل يجب ردُّها مطلقاً، أو بشرط كثرتها؟ على روايتين.

ومنها: إذا مرَّ بثمر غير محوط ولا عليه ناظر؛ فله أن يأكل منه مع الحاجة وعدمها، ولا يَحمِل، على الصَّحيح المشهور من المذهب.

ولا فرق بين المتساقط على الأرض وما على الشجر؛ كما دلَّت عليه السُّنَّة

(1)

؛ وتنزيلاً لتركه بغير حفظ مع العلم بتوقان نفوس المارَّة إليه منزلة

(2)

الإذن في الأكل منه؛ لدلالته عليه عرفاً، مع العلم بتسامح غالب النُّفوس في بذل يسير الأطعمة، بخلاف المحفوظ بناظر أو حائط، فإنَّ ذلك بمنزلة المنع منه

(3)

.

وفي المذهب رواية ثانية: بجواز الأكل من المتساقط دون ما على الشَّجر؛ لأنَّ المسامحة في المتساقط أظهر؛ لتسرُّع

(4)

الفساد إليه، ولم يثبتها القاضي.

(1)

وردت فيه عدة أحاديث، منها ما أخرجه أحمد (11159) وابن ماجه (2300): عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا أتيت على راع، فناده ثلاث مرار، فإن أجابك، وإلا فاشرب في غير أن تفسد، وإذا أتيت على حائط بستان، فناد صاحب البستان ثلاث مرات، فإن أجابك، وإلا فكل في أن لا تفسد» .

(2)

في (أ): بمنزلة.

(3)

جاء في هامش (ب): (حاشية بخط المؤلف: ونقل صالح عن أبيه: أن الأكل رخصة للمسافر دون الحاضر، وإن كان مرَّ في أرضه على الماء ثمرة؛ ردها إلى صاحبها إن عرفه، وإلا تصدق به، إنما الرخصة للمسافر).

(4)

في (أ): لتسريع.

ص: 525

ورواية ثالثة: بمنع الأكل مطلقاً إلَّا مع الحاجة؛ فيؤكل حينئذ مجاناً بغير عوض

(1)

.

وعلى المذهب المشهور؛ هل يلحق الزَّرع ولبن المواشي بالثِّمار؟ على روايتين، فإنَّ الأكل من الزَّرع

(2)

وحلب اللبن من الضَّرع إنَّما يفعل للحاجة لا للشَّهوة.

(1)

زاد في (ن): نقل عنه الميمونيُّ في المحوط: إن كان يتناول منها، وأثبتها القاضي في «خلافه» رواية.

(2)

في (أ): الزروع.

ص: 526

‌قاعدة [72]

اشتراط النَّفقة والكسوة في العقود تقع على وجهين: معاوضة، وغير معاوضة

.

فأمَّا المعاوضة: فتقع في العقود اللَّازمة، ويملك فيها الطَّعام والكسوة كما يملك غيرهما

(1)

من الأموال المعاوض بها.

فإن وقع التَّفاسخ قبل انقضاء المدة؛ رجع بما عجَّل منها، إلَّا في نفقة الزَّوجة وكسوتها؛ فإنَّ في الرجوع بهما ثلاثة أوجه، ثالثها: يرجع بالنَّفقة دون الكسوة

(2)

.

فمنها: الإجارة، فيجوز استئجار الظِّئر بطعامها وكسوتها على الصَّحيح، ومن الأصحاب من لم يحكِ فيه خلافاً.

ومنها: استئجار غير الظِّئر بالطَّعام والكسوة، وفيه روايتان، أصحُّهما: الجواز؛ كالظِّئر.

ومنها: البيع، فلو باعه ثوباً بنفقة عبده شهراً؛ صحَّ، ذكره القاضي في «خلافه» .

ومنها: النِّكاح، تقع الكسوة والنَّفقة فيه عوضاً عن تسليم المنافع،

(1)

في (أ) و (هـ): غيرها.

(2)

في (أ): والكسوة.

ص: 527

ولا يحتاج إلى شرطها في العقد، كما لا يحتاج فيه إلى ذكر المهر الَّذي يحصل به أصل الاستباحة، ولو شرطت عليه نفقة ولدها وكسوته؛ صحَّ، وكان من المهر

(1)

.

وأمَّا غير المعاوضة: فهو إباحة النَّفقة للعامل ما دام متلبِّساً بالعمل، ويقع ذلك في العقود الجائزة؛ إمَّا بأصل الوضع، أو لأنَّه لا يجوز المعاوضة عنه بالشَّرع.

ويندرج تحت ذلك صور:

منها: المضاربة؛ فيجوز اشتراط المضارَب النفقة والكسوة في مدَّة المضاربة.

ومنها: الشَّركة.

(1)

كتب على هامش (ن): (ظاهر هذا: أنَّه لا يشترط مع ذلك تعيين مدة؛ كنفقة الزوجة، بل يكون ذلك مؤقَّتاً ببقاء العقد.

وقوله: "وكان من المهر" يحتمل أن يقال: بل يكون لاحقاً بنفقتها الَّتي هي عوض عن تسليم المنافع؛ لكونها من جنسها، فإلحاقها بها أشبه، ولو صرح بذلك فشرطت نفقة ولدها وكسوتها في مقابلة التَّسليم؛ هل يصحُّ ذلك؟ يحتمل المنع؛ لأنَّ الواجب لها في مقابلة منافعها نفقتها وكسوتها، واحتملت جهالة ذلك بالنَّصِّ، فاشتراطُ زائدٍ عليه، لم يجب بالشرع، فلا يحتمل جهالته).

وفي الإنصاف (20/ 398): (قال ابن نصر الله في «حواشيه»: "وظاهره: لا يشترط مع ذلك تعيين مدة، كنفقة الزوجة وكسوتها، فإنه ذكرها بعدها" انتهى. قلت: ليس الأمر كذلك، والفرق بين المسألتين واضح).

ص: 528

ومنها

(1)

: الوكالة.

ومنها: المساقاة والمزارعة إذا قلنا: بعدم لزومهما

(2)

.

وما بقي معهم من النَّفقة المأخوذة والكسوة بعد فسخ هذه العقود؛ هل يستقرُّ ملكهم عليه أم لا؟

يحتمل ألَّا يستقر؛ لأنَّ ما يتناوله إنما هو على وجه الإباحة لا الملك، ولهذا قال الأصحاب: إذا اشترط المضارَب التَّسرِّي من مال المضاربة، فاشترى أمة منه؛ ملكها، ويكون

(3)

ثمنها قرضاً عليه؛ لأنَّ الوطء لا يستباح بدون الملك، بخلاف المال؛ فإنَّه يستباح بالبذل والإستباحة

(4)

، كما يستبيح المرتهن الانتفاع بالرَّهن بشرطه في عقد البيع، نصَّ عليه أحمد، وتكون

(5)

إباحة.

وأشار أبو بكر عبد العزيز إلى رواية أخرى: يملك

(6)

المضارب الأمة بغير عوض.

وعلى هذا؛ فيحتمل أن تكون النفقة والكسوة تمليكاً، فلا يرد ما فضل منهما.

(1)

مكان قوله: (ومنها) في (أ): و.

(2)

في (هـ) و (و): لزومها.

(3)

في (و): فيكون.

(4)

في (ب): والإباحة.

(5)

في (د) و (هـ): ويكون.

(6)

في (هـ) و (و): بملك.

ص: 529

ويحتمل أن يفرَّق بين اليسير والكثير

(1)

؛ كما في المأخوذ من المغنم

(2)

.

ومنها: إذا أخذ الحاجُّ نفقة من غيره ليحجَّ عنه؛ فإنَّه عقدٌ جائز، والنَّفقة فيه إعانة على الحجِّ لا أجرة، وينفق على نفسه بالمعروف إلى أن يرجع إلى بلده، وإن فضلت فضلة ردَّها، نصَّ عليه.

وكذا إن كانت الحجَّة عن ميت؛ إمَّا أن

(3)

تكون حجَّة الإسلام، أو أوصى بأن يحجَّ عنه حجَّة

(4)

، فإنَّ فاضل النَّفقة يستردُّه الورثة إلَّا أن يعيِّن الموصي في وصيَّته إعطاء مقدار معيَّن لمن يحجُّ عنه حجَّة، فإنَّ الفاضل يكون له في المعروف من المذهب.

ونقل ابن منصور عن أحمد: إذا قال: حُجُّوا عنِّي بألف درهم حجَّة؛ يحجُّ عنه حجَّة، وما فضل يردُّ إلى الورثة

(5)

.

وهذا يدلُّ على أنَّه لا يجوز أن يدفع إلى من يحجُّ أكثر من نفقته، ولم يجعل الباقي وصيَّة؛ لأنَّ الحاج هنا غير معين، فلا تصحُّ الوصية له، بخلاف ما إذا كان معيَّناً.

ووجه المذهب: أن الموصى له يتعيَّن لحجِّه

(6)

فيصير معلوماً.

(1)

في (أ): الكثير واليسير.

(2)

في (و): الغنم.

(3)

في (ب) وباقي النسخ: بأن.

(4)

قوله: (حجَّة) سقط من (ب) و (ج) و (و) و (ن).

(5)

مسائل ابن منصور (5/ 2369).

(6)

في (ب) و (ج) و (ن): بحجه.

ص: 530

وإن قال: حجُّوا عنِّي بألف، ولم يقل: حجَّة؛ فالمذهب: أنَّها تصرف في حجَّة بعد أخرى حتَّى تنفذ.

وحكى ابن أبي موسى رواية أخرى: أنَّه يحجُّ عنه حجَّة واحدة بنفقة المثل والباقي للورثة.

ومنها: إذا أخذ الحاجُّ من الزكاة ليحجَّ به؛ فإنه يجوز؛ بناء على قولنا: إنَّ الحج من السبيل، فإن حجَّ ثمَّ فضلت فضلة؛ فهل يستردُّ أم لا؟

الأظهر: استردادها؛ كالوصيَّة، وأولى؛ لأنَّ هذا المال يجب صرفه في مصارفه المعيَّنة شرعاً، ولا يجوز الإخلال بذلك، بخلاف فاضل الوصيَّة، فإنَّ الحقَّ فيه للورثة، ولهم تركه.

وقياس قول الأصحاب في الغازي: أنَّه لا يستردُّ.

وظاهر كلام أحمد في رواية الميمونيِّ: أنَّ الدَّابَّة لا تستردُّ، ولا يلزم مثله في النَّفقة؛ لأنَّ الدَّابَّة قد صرفت في سبيل الله، بخلاف فاضل النَّفقة، ويملكها بخروجه من بلده

(1)

، بخلاف الغازي، نصَّ عليه في رواية الميمونيِّ.

وعلَّل بأنَّه من حين يخرج فهو ابن سبيل، له حقٌّ في الزكاة، والغازي إنما أعطي للغزو؛ فلا يملك بدونه

(2)

، وهذا يرجع إلى أنَّ من

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: يملك الحاجُّ الدَّابة الَّتي أخذها من الزكاة بخروجه).

(2)

كتب على هامش (ن): (قد يقال في الغازي أيضاً: إنَّه مِن حين يخرج فهو ابن سبيل، فيستويان في الملك بالخروج؛ لوجود سبب مبيح، غير السبب المأخوذ له).

ص: 531

أخذ لسبب، فانتفى وخلفه سبب آخر مبيح للأخذ؛ أنَّ له الإمساك بالسَّبب الثَّاني، وفيه خلاف بين الأصحاب.

ومنها: إذا أخذ الغازي نفقة أو فرساً ليغزو عليها؛ فإنَّه يجوز، ويكون عقداً جائزاً لا لازماً، وهو إعانة على الجهاد، لا استئجارٌ عليه

(1)

، فإن رجع والفرس معه؛ ملكها، ما لم تكن وقفاً أو عاريةً، نصَّ عليه أحمد

(2)

، ولا يملكها حتَّى يغزوَ.

قال القاضي في «خلافه» : ويكون تمليكاً بشرط.

ومعناه: أنَّه تمليك مراعًى بشرط الغزو، فإن غزا؛ تبيَّنَّا أنه ملكه بالقبض؛ فإنَّ قاعدة المذهب: أنَّ الهبة لا تقبل التَّعليق، وكذلك عقود المعاوضات

(3)

.

وإن فضل معه من الكسوة؛ فهو كالفرس.

وإن فضل من النَّفقة؛ ففيه روايتان:

إحداهما: يملكها أيضاً، نقلها عليُّ بن سعيد

(4)

.

(1)

في (أ): على الجهاد.

(2)

جاء في الوقوف والترجل (ص 103): (حدثنا حنبل قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إذا حمل الرجل على الدابة يغزو عليها ولم تكن حبيسًا، فغزا عليها غزاة كانت له).

(3)

كتب على هامش (ن): (عقود المعاوضات لا تقبل التعليق؛ كالبيع، والهبة، والإجارة، ونحو ذلك).

(4)

هو علي بن سعيد بن جرير النسوي، أبو الحسن، روى عن الإمام أحمد جزأين مسائل. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 224.

ص: 532

والثَّانية: يردُّ الفاضل في الغزو؛ إلَّا أن يؤذن له في الاستعانة به في غزوة أخرى، نقلها حنبل.

والفرق بين النَّفقة وغيرها: أنَّ الدَّابَّة قد صرفت في سبيل الله واستعملت فيه، وكذلك الكسوة؛ فحصل المقصود بها، بخلاف ما فضل من النَّفقة.

فأمَّا إن أخذ من الزَّكاة، ثمَّ فضلت فضلة:

فقال الخرقيُّ والأكثرون: لا تستردُّ

(1)

.

وحكى صاحب «المحرَّر» وغيره وجهين.

وقد قدَّمنا الفرق بين مال الزَّكاة وغيره.

ونصَّ أحمد في رواية المروذيِّ على أنَّ الدَّابة تكون له، ولا يلزم مثله في النَّفقة؛ لما قدَّمنا.

(1)

في (أ): يستردُّ.

ص: 533

‌قاعدة [73]

اشتراط نفع أحد المتعاقدين في العقد على ضربين:

أحدهما: أن يكون استئجاراً له مقابلاً بعوض؛ فيصحُّ على ظاهر المذهب؛ كاشتراط المشتري على البائع خياطة الثَّوب، أو قصارته، أو حمل الحطب ونحوه، ولذلك يزاد به الثَّمن.

والثَّاني: أن يكون إلزاماً له لما لا يلزمه بالعقد، بحيثُ يجعل ذلك من مقتضى العقد ولوازمه مطلقاً، ولا يقابل بعوض؛ فلا يصحُّ.

وله أمثلة:

منها: اشتراط مشتري الزَّرع القائمِ في الأرض حصادَه على البائع؛ فلا يصحُّ، ويفسد به العقد، ذكره الخرقيُّ؛ لأنَّ حصاد الزَّرع قد يتوهَّم أنَّه من تمام التسليم

(1)

الواجب على البائع، كما ظنَّه

(2)

بعض الفقهاء.

وحكى ابن أبي موسى في فساده به وجهين

(3)

ومنها: اشتراط أحد المتعاقدين في المساقاة أو المزارعة على

(1)

في (أ) و (هـ): تسليم.

(2)

في (ب): ذكره، وفي (ن): قاله.

(3)

قوله: (وحكى ابن أبي موسى في فساده به وجهين) ذُكر في (أ) و (ج) و (د) بعد قوله فيما تقدم: (ذكره الخرقي).

ص: 534

الآخر ما لا يلزمه بمقتضى العقد؛ فلا يصحُّ، وفي فساد العقد به خلاف.

ويتخرَّج صحَّة هذه الشُّروط أيضاً من الشُّروط في النِّكاح وغيرها، وهو ظاهر كلام أكثر المتأخِّرين، ولذلك

(1)

استشكلوا مسألة الخرقيِّ في حصاد الزَّرع.

ومنها: شرط إيفاء المسلَم فيه في غير مكان العقد، وحُكي في صحَّته روايتان.

والمنصوص عن أحمد: فسادُه في رواية مهنَّى، وأومأ إليه في رواية ابن منصور، وقال: ليس في حديث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم تسمية المكان

(2)

.

يشير بذلك إلى أنَّ السَّلم يشترط فيه أن يذكر في العقد أوصاف المسلَم

(3)

فيه، وقدره، وزمان محلِّه، كما دلَّ عليه الحديث

(4)

، وليس فيه ذكر مكان إيفائه؛ فاشتراط ذكر مكانه يوهم أنَّ ذلك من جنس ذكر زمانه، وأنَّه مستحَقٌّ بنفس العقد، بخلاف غيره من البيوع الَّتي لا يذكر في عقودها شيء من ذلك.

(1)

في (ب): وكذلك.

(2)

مسائل ابن منصور (6/ 2836).

(3)

في (ب): المتسلَّم.

(4)

يشير إلى ما أخرجه البخاري (2240) ومسلم (1604) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال:«من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم» .

ص: 535

‌قاعدة [74]

فيمن يستحقُّ العوض عن عمله بغير شرط

.

وهو نوعان:

أحدهما: أن يعمل العمل ودلالة حاله تقتضي المطالبة بالعوض.

والثَّاني: أن يعمل عملاً فيه غناء عن المسلمين، وقيام بمصالحهم العامة، أو فيه استنقاذ لمال معصوم من الهلكة.

أمَّا الأوَّل؛ فيندرج تحته صور كثيرة؛ كالملَّاح، والمكاري، والحجَّام، والقصَّار، والخيَّاط، والدَّلَّال، ونحوهم ممَّن يرصد نفسه للتَّكسُّب بالعمل، فإذا عمل؛ استحقَّ أجرة المثل؛ وإن لم يسمَّ له شيء، نصَّ عليه.

وأمَّا الثَّاني؛ فيدخل تحته صور:

منها: من قتل مشركاً في حال الحرب مغرِّراً بنفسه في قتله؛ فإنَّه يستحقُّ سَلَبه بالشَّرع لا بالشرط في أصحِّ الرِّوايتين.

ومنها: العامل على

(1)

الصَّدقات؛ فإنَّه يستحقُّ أجرة عمله بالشرع، قال أحمد في رواية صالح: العاملين عليها الَّذين جعل الله لهم الثَّمن

(1)

في (أ): في.

ص: 536

في كتابِه: السُّلطانُ

(1)

(2)

.

وقال في رواية حنبل: يكون لهم الَّذي يراه الإمام.

وظاهر هذا: أنَّه يجب ذلك له بالشَّرع، ويجوز له أخذه مع الغنى، بخلاف وليِّ اليتيم على المشهور؛ لأنَّ العامل يعطيه الإمام ما وجب له بالشَّرع؛ إمَّا مقدَّراً أو غير مقدَّرٍ، والوليُّ يأخذ لنفسه

(3)

، وقد أمره الله بالاستعفاف مع الغنى.

وأيضاً؛ فأموال الزَّكاة حقٌّ لغير معيَّنِين، بخلاف مال اليتيم.

وأيضاً؛ فمال الزَّكاة يستحقُّه مع الغنى جماعة؛ فالعامل الَّذي حصَّل الزَّكاة وجباها أولى.

وأيضاً؛ فالعامل هو الَّذي جمع المال وحصَّله، بخلاف وليِّ اليتيم.

وذكر القاضي في «الأحكام السُّلطانيَّة» : أنَّ قياس المذهب: أنَّ العامل لا يستحقُّ إذا لم يشرط له جُعل؛ إلَّا أن يكون معروفاً بأخذ الأجرة على عمله.

(1)

كتب على هامش (ن): (صفة لـ"كتابه"، ويحتمل أنه خبر "الَّذين").

ثم عُلِّق عليه: (الَّذي يظهر أنَّه خبر لقوله: "العاملين" الموصوف بقوله: "الذين" إلى آخره، وما في الحاشية كلام ساقط).

(2)

جاء في مسائل صالح (ص 145): (وسألته عن هذه الآية {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل} ، قال أبي: الصدقات زكاة الإبل والبقر والغنم

، والعاملين عليها السلطان).

(3)

في (ب) وباقي النسخ: بنفسه.

ص: 537

والأوَّل أصحُّ؛ لأنَّ حقَّه ثابت بالنَّصِّ؛ فهو كجُعْل ردِّ الإباق وأولى؛ لورود القرآن به.

ومنها: من ردَّ آبقاً على مولاه؛ فإنَّه يستحقُّ على ردِّه جُعلاً بالشَّرع، سواء شرطه أو لم يشرطه على ظاهر المذهب، وفيه أحاديث مرسلة وآثار

(1)

، والمعنى فيه الحثُّ على حفظه على سيِّده وصيانة العبد عمَّا يخاف من لحاقه بدار الحرب والسَّعي في الأرض بالفساد، ولهذا المعنى اختصَّ الوجوب بردِّ الآبق دون غيره من الحيوان والمتاع.

وسواء كان معروفاً بردِّ الأُبَّاق أو لم يكن، إلَّا السَّلطان؛ فإنَّه لا شيء له، نصَّ عليه في رواية حرب

(2)

؛ لانتصابه للمصالح، وله حقٌّ في بيت المال على ذلك

(3)

، ولذلك لم يكن له الأكل من مال اليتيم كما سبق.

ومنها: من أنقذ مال غيره من التَّلف؛ كمن خلَّص عبد غيره من فلاة مهلكة، أو متاعه من موضع يكون هلاكه فيه محقَّقاً أو قريباً منه؛ كالبحر وفم السَّبُع

(4)

؛ فنصَّ أحمد على وجوب الأجرة له في المتاع.

وذكره القاضي وابن عقيل وصاحب «المغني» في العبد أيضاً.

وحكى القاضي فيه احتمالاً بعدم الوجوب؛ كاللُّقَطَةِ.

(1)

تقدم ذكرها ص ...... ؟؟

(2)

جاء في الفروع (7/ 184): (ونقل حرب: لا يستحقه إمام؛ لأنه ينبغي له رده على ربه).

(3)

في (أ): ذلك صحة.

(4)

قوله: (وفم السَّبع) هو في (أ): والسَّبع.

ص: 538

وأورد في «المجرد» عن نصِّ أحمد فيمن خلَّص من فم السَّبع شاة أو خروفاً أو غيرهما؛ فهو لمالكه الأوَّل، ولا شيء للمخلِّص.

والصَّحيح الأوَّل؛ لأنَّ هذا يخشى هلاكه وتلفه على مالكه، بخلاف اللُّقَطة.

وكذلك لو انكسرت السَّفينة، فخلَّص قومٌ الأموال من البحر؛ فإنَّه تجب لهم الأجرة على الملَّاك، ذكره في «المغني» ؛ لأنَّ فيه حثًّا وترغيباً في إنقاذ الأموال من الهلكة، فإنَّ الغوَّاص إذا علم أنه يستحق الأجرة؛ غرر بنفسه وبادر إلى التخليص، بخلاف ما إذا علم أنَّه لا شيء له؛ فهو في معنى ردِّ الآبق.

وفي «مسودة شرح الهداية» لأبي البركات: (وعندي أنَّ كلام أحمد على ظاهره في وجوب الأجرة في تخليص المتاع من المهالك دون الآدميِّ؛ لأنَّ الآدميَّ أهلٌ في الجملة لحفظ نفسه) انتهى.

وفيه نظر؛ فقد يكون صغيراً أو عاجزاً، وتخليصه أهمُّ وأولى من المتاع، وليس في كلام أحمد تفرقة.

فأمَّا من عمل في مال غيره على غير ما ذكرنا؛ فالمعروف من المذهب: أنَّه لا أجرة له.

ونقل أبو جعفر الجرجانيُّ

(1)

عن أحمد في رجل عمل في قناة رجل بغير إذنه؛ قال: لهذا الَّذي عمل نفقته إذا عمل ما يكون منفعةً لصاحب القناة

(2)

.

(1)

في (ب) و (ج) و (و): الجرجرائيُّ.

(2)

ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 368).

ص: 539

وهذه تتخرَّج على أصلين:

أحدهما: أنَّ الغاصب يكون شريكاً بآثار عمله.

والثَّاني: أنَّه يجبر على أخذ قيمة آثار عمله من المالك؛ ليتملَّكها عليه.

وصرَّح القاضي في «خلافه» : بأنَّه يكون شريكاً بآثار عمله إذا زادت به القيمة حتَّى في غسل الثَّوب ونحوه، وذكر نصَّ أحمد في العمل في القناة من رواية حرب وابن هانئ، وتبعه على ذلك جماعة من الأصحاب.

وحمل ابن عقيل في «مفرداته» هذه النُّصوص على أنَّ العامل هنا في القناة كان شريكاً فيها.

وليس في النصوص شيء يُشعِر بذلك.

ومن الأصحاب من أقرَّ النصوص على ظاهرها، وجعل هذا الحكم مطَّرداً في كلِّ من عمل عملاً لغيره فيه مصلحة له وهو محتاج إليه؛ كحصاد زرعه، والاستخراج من معدِنه ونحوِ ذلك؛ تخريجاً من العمل في القناة، ومنهم الحارثيُّ.

وكأنَّهم جعلوه بمنزلة تصرف الفضوليِّ

(1)

؛ فللمالك حينئذ أن يُمضيَه ويردَّ عوضه، وهو أجرة المثل، وله أن لا يمضيَه فيكون العامل شريكاً بالعمل.

وقد قال القاضي في «بعض تعاليقه» - وقرأته بخطِّه - في الأجير

(1)

في (ب): للفضوليِّ.

ص: 540

إذا عمل في

(1)

العين المستأجر عليها دون ما شرط عليه

(2)

: إنَّ المالك مخيَّر؛ إن شاء ردَّ عمله وأخذ الأجرة وصار الأجير شريكًا بعمله، وإن شاء قَبِل العمل، ورجع على الأجير بالأرش.

وذكر نصَّ أحمد في رواية الميمونيِّ بالرُّجوع بالأرش، ثمَّ حمله على أنَّه كان قد رضي بالعمل.

وقال القاضي في «خلافه» : قياس المذهب إذا لم يأت الحائك بالثَّوب على الصِّفة المشروطة: إن شاء ضمَّنه قيمة الغزل ولا أجرة له، وإن شاء ضمَّنه قيمته منسوجاً وعليه الأجرة، وتكون الأجرة ههنا ما زاد على قيمة الغزل.

ثم ذكر رواية الميمونيِّ هذه، وقال: هي محمولة على أن صاحب الثوب اختار تقويمه معمولاً، والتزم قيمة الصنعة التي هي دون التي وافقه عليها.

وهذا الَّذي قاله بعيدٌ جدًّا أن يضمِّن المالك للصَّانع

(3)

قيمة الثَّوب مع بقائه، ولا يصحُّ حمل كلام أحمد على ما قاله؛ لأنَّ أحمد قال:(ينظر ما بينهما فيرجع به على الصَّانع)، وهذا تصريح بالرُّجوع عليه بالأرش خاصَّة.

وأيضاً؛ فلو غصب غزلاً ونسجه؛ لم يملك المالك إلزامه به ويطالبه

(1)

قوله: (في): سقط من (أ) و (د) و (هـ).

(2)

في (ب): على.

(3)

في (أ): الصانع.

ص: 541

بالقيمة؛ فكيف يملك مطالبة الأجير بذلك؟!

وذكر ابن عقيل في هذه المسألة: أنَّ المالك يملك استرجاع الأجرة المسمَّاة ودفع أجرة المثل، ثمَّ ذكر احتمالًا بالرُّجوع بالأرش؛ كما هو المنصوص، والله أعلم.

ومتى كان العمل في مال الغير إنقاذاً له من التَّلف المشرِف عليه؛ كان جائزاً؛ كذبح الحيوان المأكول إذا خيف موته، صرَّح به صاحب «المغني» ، ويفيد هذا أنَّه لا يضمن ما نقص بذبحه.

ص: 542

‌قاعدة [75]

فيمن يرجع بما أنفق على مال غيره بغير إذنه

(1)

.

وهو نوعان:

أحدهما: من أدَّى واجباً عن غيره.

والثَّاني: من أنفق على ما تعلَّق به حقُّه من مال غيره.

فأمَّا النّوع الأوَّل؛ فيندرج تحته صور:

منها: إذا قضى عنه ديناً واجباً بغير إذنه؛ فإنَّه يرجع به عليه في أصحِّ الرِّوايتين، وهي المذهب عند الخرقيِّ وأبي بكر والقاضي والأكثرين.

واشترط القاضي: أن ينوي الرجوع، ويُشهد على نيَّته عند الأداء، فلو نوى التَّبرُّع أو أطلق النِّيَّة؛ فلا رجوع له.

واشترط أيضاً: أن يكون المدين ممتنعاً من الأداء، وهو يرجع إلى أن لا رجوعَ إلا عند تعذُّر إذنه.

وخالف في ذلك صاحبا

(2)

«المغني» و «المحرَّر» ، وهو ظاهر إطلاق

(1)

كتب على هامش (ن): (لو قيل: أنفق عن غيره؛ كان أنسب؛ ليصحَّ كونه جنساً للنوعين، فإنَّ من قام عن غيره بواجب لا يصحُّ أن يقال فيه: إنَّه أنفق على مال غيره).

(2)

في (أ) و (هـ): صاحب.

ص: 543

القاضي في «المجرَّد» والأكثرين.

وهذا في ديون الآدميِّين، فأمَّا ديون الله عز وجل؛ كالزكاة والكفارة؛ فلا يرجع بها من أدَّاها عمن هي عليه، وعلَّل القاضي ذلك: بأنَّ أداءها بدون إذن من هي عليه لا تصحُّ؛ لتوقُّفها على نيَّته، ويلزم على هذا لو حجَّ رجل عن ميت بدون إذن وليه، وقلنا: يصح، أو أعتق عنه في نذر، أو أطعم عنه في كفَّارة، وقلنا: يصحُّ؛ أنَّ له الرجوع بما أنفق؛ لسقوط اعتبار الإذن هنا، ويكون كأداء أحد الخليطين الزكاة من ماله عن الجميع.

ومنها: لو اشترى أسيراً حرًّا مسلماً من أهل دار الحرب، ثمَّ أطلقه، أو أخرجه إلى دار الإسلام؛ فله الرُّجوع عليه بما اشتراه به، سواء أذن له أو لم يأذن؛ لأنَّ الأسير يجب عليه افتداء نفسه؛ ليتخلَّص من الأسر، فإذا فداه غيره؛ فقد أدى عنه واجباً فيرجع به عليه، وأكثر الأصحاب لم يحكوا في الرُّجوع ههنا خلافاً.

وحكى القاضي في كتاب الرِّوايتين

(1)

رواية أخرى: يتوقَّف الرجوع على الإذن.

وهل يُعتبر للرُّجوع ههنا نيته

(2)

، أم يكفي إطلاق النِّيَّة؟ على وجهين:

أحدهما: تعتبر نيَّة الرُّجوع؛ كقضاء الدِّيون، وهو ظاهر كلام القاضي.

(1)

زاد في (ب): (فيه).

(2)

في (أ): نية.

ص: 544

والثَّاني: يرجع ما لم ينو التَّبرع، وبه جزم في «المحرَّر» ؛ للأثر المرويِّ عن عمر رضي الله عنه

(1)

، ولأنَّ إفتكاك

(2)

الأسرى مطلوب شرعاً؛ فيرغَّب فيه بتوسعة طرق الرجوع؛ لئلَّا تقلَّ الرغبة فيه.

ومنها: نفقة الرقيق والزوجات والأقارب والبهائم

(3)

إذا امتنع من تجب عليه النَّفقة، فأنفق عليهم غيره بنيَّة الرُّجوع؛ فله الرُّجوع

(4)

؛ كقضاء الدُّيون

(5)

، جزم به القاضي في «خلافه» ، وابن عقيل في «مفرداته» .

(1)

لعله يشير إلى ما أخرجه البيهقي (2/ 335) عن الشعبي، قال: أعان أهل ماه أهل جلولاء على العرب، وأصابوا سبايا من سبايا العرب، ورقيقًا ومتاعًا، ثم إن السائب بن الأقرع - عامل عمر بن الخطاب - غزاهم، ففتح ماه، فكتب إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه، وفي رجل أصاب كنزًا بأرض بيضاء، فكتب عمر:«إن المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يخذله، فأيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه ومتاعه بعينه؛ فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما اقتسم فلا سبيل إليه، وأيما حرٍّ اشتراه التجار؛ فإنه يرد عليهم رؤوس أموالهم، وأن الحر لا يباع ولا يشترى» .

(2)

في (أ): افكاك. وفي (هـ): فكاك. وفي (و): انفكاك.

(3)

قوله: (الأقارب والبهائم) سقط من (أ).

(4)

كتب على هامش (ن): (هل الامتناع عبارة عن عدم حصول الإنفاق منه على أي وجه كان، أو شرطه أن يكون قد طولب بالنفقة، فلم ينفق؟ يحتمل وجهين، والأظهر: الأوَّل؛ قياساً على من أدَّى الدَّين عن المدين، فإنَّه لا يشترط فيه ذلك عند الأكثرين خلافاً للقاضي، كما تقدَّم).

(5)

قوله: (كقضاء الدُّيون) سقط من (أ).

ص: 545

ومنها: لو أنفق على عبده الآبق في حال ردِّه إليه؛ فإنَّه يرجع بما أنفق، نصَّ عليه

(1)

، وجزم به الأكثرون من غير خلاف؛ فإنَّه يستحقُّ جُعلاً على الرَّدِّ عوضاً عن بذله منافعه؛ فلأنْ يجب له العوض عمَّا بذله من المال في ردِّه أولى.

واشترط أبو الخطاب وصاحب «المحرَّر» العجز عن استئذان المالك، وضعَّفه صاحب «المغني» .

ولا يتوقَّف الرجوع على تسليمه، فلو أبقَ منه قبل ذلك؛ فله الرُّجوع بما أنفق عليه، نصَّ عليه أحمد في رواية عبد الله، وصرَّح به الأصحاب.

وكذلك حكم العبد المنقطع بمهلكة.

وحكى أبو بكر وابن

(2)

أبي موسى في الرُّجوع بنفقته روايتين.

ولو أراد استخدامه بدل النَّفقة؛ ففي جوازه روايتان، حكاهما أبو الفتح الحلوانيُّ في «الكفاية» ؛ كالعبد المرهون.

ومنها: نفقة اللُّقطة

(3)

، حيواناً كانت أو غيره، ممَّا يحتاج في حفظه إلى مؤنة وإصلاح، فإن كانت بإذن حاكم رجع بها؛ لأنَّ إذنَه قائمٌ مقام إذن

(4)

الغائب.

(1)

جاء في مسائل عبدالله (ص 310): (سمعت أبي يقول: إذا أخذ الآبق فأنفق عليه، ثم أبق يرجع على سيده بالنفقة، ولا شيء عليه).

(2)

في (أ): ابن.

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: في حول التعريف).

(4)

قوله: (إذن) سقط من (أ).

ص: 546

وإن لم يكن بإذنه؛ ففيه الرِّوايتان

(1)

.

ومنهم من رجَّح ههنا عدم الرُّجوع؛ لأنَّ حفظها لم يكن متعيِّناً، بل كان مخيَّراً بينه وبين بيعها وحفظ ثمنها.

وذكر ابن أبي موسى: أنَّ الملتقط إذا أنفق غير متطوِّع بالنفقة؛ فله الرُّجوع بها، وإن كان محتسباً

(2)

؛ ففي الرجوع روايتان.

ومنها: نفقة اللَّقيط، خرجها بعض الأصحاب على الرِّوايتين.

ومنهم من قال: يرجع ههنا قولاً واحداً، وإليه ميل صاحب «المغني» ؛ لأنَّ له ولاية على الملتقَط، ونصَّ أحمد أنَّه يرجع بما أنفقه على بيت المال.

ومنها: الحيوان المودَع إذا أنفق عليه المستودَع ناوياً للرُّجوع، فإن تعذَّر استئذان مالكه؛ رجع، وإن لم يتعذَّر؛ فطريقان

(3)

:

إحداهما: أنَّه على الرِّوايتين في قضاء الدَّين، وأولى؛ لأنَّ للحيوان حرمة في نفسه توجب تقديمه على قضاء الديون أحياناً، وهي طريقة صاحب «المغني» .

(1)

علق في الإنصاف (16/ 221): (يعني اللتين فيمن أدى حقًّا واجبًا عن غيره بغير إذنه، ونوى الرجوع، والصحيح من المذهب الرجوع، على ما تقدم في باب الضمان، فكذا هنا).

(2)

كتب على هامش (ن): (المحتسب المتطوِّع، وجريان الخلاف في ذلك غريب).

(3)

في (ب) و (ج) و (د) و (و): فطريقتان.

ص: 547

والثَّانية: لا يرجع قولاً واحداً، وهي طريقة «المحرَّر» ؛ متابعة لأبي الخطاب

(1)

.

لكن من اعتبر للرجوع في قضاء الدَّيون

(2)

تعذَّر الإذن؛ فهنا أولى.

ومن

(3)

لم يعتبر ذلك في الدَّين واعتبره ههنا؛ فرَّق: بأنَّ قضاء الدَّين فيه إبراء لذمته

(4)

وتخليص له من الغريم، وههنا اشتغال الذمة

(5)

بدين لم تكن

(6)

مشتغلة به.

وهو ضعيف، وينتقض بنفقة الأقارب كما تقدَّم، فإنَّ المطالبة هنا متوجِّهة من الحاكم بإلزامه؛ فقد خلَّصه من ذلك وعجَّل براءته منه، وقضاء الدَّين لم تبرأ به ذمَّته بالكليَّة، بل هي مشغولة بدين المؤدِّي عنه.

وأيضاً؛ فإنَّ الإذن في الإنفاق على الحيوان المؤتمن عليه عرفيٌّ؛ فيتنزَّل منزلة اللَّفظيِّ.

ومنها: نفقة طائر غيره إذا عشَّش في داره، قال أحمد في رواية المروذيِّ، في طَيْرةٍ أفرخت عند قوم من الجيران: فالفراخ تتبع الأمَّ، يُردُّون على أصحابها، فإن كان قد أعلف الفراخ مدَّة مقامها في يده

(1)

علَّق عليه في الإنصاف (16/ 20): (وهذه الطريقة هي المذهب، وهي طريقة صاحب «التلخيص»، و «الفروع»، و «الوجيز»، وغيرهم).

(2)

في (ب) و (ج) و (د)(و) و (ن): الدّون.

(3)

في (أ): ومتى. وفي (د) و (هـ) و (و): وأمَّا من.

(4)

في (أ): الذمة.

(5)

في (ب) وباقي النسخ: إشغال لذمته.

(6)

في (أ): يكن.

ص: 548

متطوِّعاً؛ لم يرجع، وإن لم يتطوَّع يحتسب

(1)

بالنَّفقة؛ أخذ من صاحبها ما أنفق

(2)

، ولم يفرِّق بين إمكان الاستئذان وعدمه.

وخرَّج القاضي رواية أخرى: بعدم الرُّجوع بكلِّ حال، من نظيرها في المرتهن وغيره.

وأمَّا النّوع الثَّاني: وهو ما يرجع فيه بالإنفاق على مال غيره لتعلُّق حقِّه به؛ فله صور:

منها: إنفاق أحد الشَّريكين على المال المشترك مع غيبة الآخر أو امتناعه، قال أحمد في رواية ابن القاسم في رجلين بينهما أرض أو دار أو عبد يحتاج إلى أن ينفق على ذلك، فيأبى الآخر؛ قال: ينظر في ذلك، فإن كان يضرُّ بشريكه

(3)

ويمتنع ممَّا يجب عليه؛ ألزم ذلك وحكم به عليه، ولا يُضرُّ بهذا، ينفق ويحكم به عليه.

ويتفرَّع على هذه المسألة فروع، من جملتها: إذا كان بينهما حائط مشترك أو سقف، فانهدم، وطلب أحدهما أن يبنيَ الآخر معه:

فالمذهب: أنَّه يجبر على ذلك.

وفيه رواية أخرى: لا يجبر؛ فينفرد الطَّالب بالبناء ويمنع الشَّريك من الانتفاع حتَّى يأخذ منه ما يخصُّ حصَّته من النفقة، نص عليه؛ لأنَّ من جاز له البناء في ملك غيره لم يكن متبرعاً به؛ كالوصيِّ والحاكم في

(1)

كتب على هامش (ن): (يصحُّ كونه بدلاً من يتطوَّع).

(2)

ينظر: المغني (6/ 105)

(3)

في (أ): شريكه.

ص: 549

ملك اليتيم.

ومن صور النَّوع: إذا جنى العبد المرهون، ففداه المرتهن بغير إذن الرَّاهن؛ قال أكثر الأصحاب؛ كالقاضي وابن عقيل وأبي الخطاب وغيرهم: إن لم يتعذَّر استئذانه؛ فلا رجوع، وإن تعذَّر؛ خُرِّج على الخلاف في نفقة الحيوان المرهون؛ لأنَّ الفداء هنا لمصلحة الرَّهن واستبقائه، وذلك واجب على الرَّاهن لحقِّ المرتهن.

وقال صاحب «المحرر» : لا يرجع بشيء، وأطلق؛ لأنَّ المالك لم يجب عليه الافتداء والتَّسليم

(1)

ههنا.

وكذلك لو سلَّمه؛ لم تلزمه قيمته لتكون رهناً، وقد وافق الأصحاب على ذلك، وإنَّما خالف فيه ابن أبي موسى.

ومنها: مؤنة الرَّهن، من كري مخزنه، وإصلاحه، وتشميسه، ونحو ذلك ممَّا يلزم الرَّاهن إذا قام بها المرتهن بدون إذنه مع تعذُّره؛ فهي جارية مجرى نفقة الحيوان المرهون على ما سيأتي، صرَّح به الأصحاب؛ لأنَّ ذلك ممَّا لا بدَّ منه لحفظ ماليَّة الرَّهن، فصار واجباً على الرَّاهن؛ لعلاقة حقِّ المرتهن

(2)

.

(1)

قوله: (والتَّسليم) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و).

(2)

كتب على هامش (ن): (سأل سائلٌ عن رجل رهن عند شخص قماشاً، فهل يجب على المرتهن أن [ .... ] القماش المرهون أم لا؟ فأجبته: أنَّه لا يجب على المرتهن شيء من ذلك، حتَّى لو تركه فتلف؛ لا يضمن، ومن هنا تؤخذ المسألة، بل هي صريح فيها، والله أعلم).

ص: 550

ومنها: لو خربت الدَّار المرهونة، فعَمَرها المرتهن بغير إذن؛ فقال القاضي في «المجرَّد» وصاحبا «المغني» و «المحرر»: لا يرجع إلَّا بأعيان آلته؛ لأنَّ عمارة الدَّار لا تجب على المالك.

والمجزوم به في «الخلاف الكبير» للقاضي: أنَّه يرجع؛ لأنَّه من مصلحة الرَّهن.

وقال ابن عقيل: (يحتمل عندي أن يرجع بما يحفظ به أصل ماليَّة الدَّار؛ لحفظ وثيقته؛ لأنَّها نفقة لحفظ مالية وثيقته، وذلك غرض صحيح) انتهى.

ولو قيل: إن كانت الدَّار بعد ما خرب منها تحرز قيمة الدَّين المرهون به؛ لم يرجع؛ لأنَّه لا حاجة له إلى عمارتها حينئذٍ؛ وإن كانت دون حقِّه أو وفق حقِّه، ويخشى من تداعيها للخراب شيئاً فشيئاً حتَّى تنقص عن مقدار الحقِّ؛ فله أن يَعْمُر ويرجع؛ لكان متوجِّهاً

(1)

.

ومنها: عمارة المستأجر في الدَّار المستأجرة لا يرجع بها، نصَّ عليه أحمد في غلق الدَّار إذا عمله السَّاكن.

ويحتمل الرُّجوع؛ بناء على مثله في الرَّهن، ولكن حكى صاحب «التلخيص»: أنَّ المؤجِر يجبر على الترميم بإصلاح منكسر وإقامة مائل، فأمَّا تجديد البناء والأخشاب؛ فلا يلزمه؛ لأنَّه إجبار على تسليم

(2)

عين لم يتناولها العقد، وللمستأجر الخيار، قال: (ويحتمل أن يلزمه

(1)

قال في الإنصاف (12/ 501): (وهو قوي).

(2)

قوله: (تسليم) سقط من (أ).

ص: 551

التَّجديد) انتهى.

فعلى القول

(1)

الأوَّل: لا يمكن القول برجوع المستأجر بما أنفق على التَّجديد.

وعلى الثَّاني: يحتمل الرُّجوع.

‌فصل

وقد يجتمع النَّوعان في صور، فيؤدِّي عن ملك غيره واجباً يتعلَّق به حقُّه، وفي ذلك طريقان:

أحدهما: أنَّه على روايتين أيضاً، وهي طريقة الأكثرين.

والثَّاني: أنَّه يرجع ههنا رواية واحدة، وهي طريقة القاضي في «خلافه» .

فمن ذلك: أن ينفق المرتهن على الرَّهن

(2)

بإطعام أو كسوة إذا كان عبداً أو حيواناً؛ ففيه الطَّريقان؛ وأشهرهما: أنَّه على الرِّوايتين، كذلك قال القاضي في «المجرد» و «الرِّوايتين» ، وأبو الخطَّاب وابن عقيل والأكثرون.

والمذهب عند الأصحاب: الرُّجوع، ونصَّ عليه أحمد في رواية أبي الحارث، وكذلك نقل عنه ابن القاسم وابن هانئ

(3)

: أنَّه يركب

(1)

قوله: (القول) سقط (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و).

(2)

في (ب) و (ج): الرَّاهن.

(3)

ينظر: مسائل ابن هانئ (3/ 34).

ص: 552

ويحلب بقدر نفقته، ولم يعتبر إذناً؛ كما دلَّ عليه النَّصُّ الصَّحيح

(1)

.

وأيضاً؛ فالإذن في الإنفاق ههنا عرفيٌّ

(2)

، فيقوم مقام اللَّفظيِّ، وبالمرتهن إليه حاجة لحفظ وثيقته؛ فصار كبناء أحد الشَّريكين الحائط

(3)

المشترك.

ونقل عنه ابن منصور فيمن ارتهن دابَّة فعلفها بغير إذن صاحبها: فالعلف على المرتهن؛ مَن أمره أن يعلف؟!

(4)

.

وكذلك نقل عنه مهنى

(5)

في كفن العبد المرهون، لكن الكفن من النَّوع الأوَّل.

وهذه الرِّواية ظاهر ما أورده ابن أبي موسى.

وحمل القاضي في كتاب «الخلاف» هذا النَّصَّ على أنَّ الرَّاهن كان حاضراً، وأمكن استئذانه، وعلف بدون إذنه.

وقد صرَّح القاضي: بأنَّ الرُّجوع مشروط بتعذُّر الاستئذان، وكذلك أبو الخطَّاب وابن عقيل وصاحب «المحرر» ، مع أنَّه وافق طريقة

(1)

يشير إلى ما أخرجه البخاري (2512) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» .

(2)

في (أ): غير عرفي.

(3)

كتب في هامش (أ): الحائط مفعول (صار). لكاتبه عثمان.

(4)

في (أ): على أن يعلف.

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 3001).

(5)

في (أ): ابن هانئ ههنا.

ص: 553

«الخلاف» في الرُّجوع قولاً واحداً، بخلاف ما ذكر في الضَّمان.

وضعَّف صاحب «المغني» اعتبار الإذن؛ طرداً لما ذكره في الضَّمان.

ومنها: إذا هرب الجمَّال وترك الجمال، فأنفق عليها المستأجر بدون

(1)

إذن حاكم؛ ففي الرُّجوع الرِّوايتان.

ومقتضى طريقة القاضي: أنَّه يرجع رواية واحدة.

ثمَّ إنَّ الأكثرين اعتبروا هنا استئذان الحاكم، بخلاف ما ذكروه في الرَّهن، واعتبروه أيضاً في المودَع واللُّقَطَة.

وفي «المغني» إشارة إلى التَّسوية بين الكلِّ في عدم الاعتبار، وأنَّ الإنفاق بدون إذنه مخرَّج على الخلاف في قضاء الدَّين.

وكذلك اعتبروا الإشهاد على نيَّة الرُّجوع.

وفي «المغني» وغيره وجه آخر: أنَّه لا يعتبر، وهو الصَّحيح.

ومنها: إذا هرب المساقي قبل تمام العمل استُؤجر عليه من يتمُّه، والحكم فيه حكم الجمَّال

(2)

؛ إلَّا أن للمالك الفسخ ولو قلنا بلزوم المساقاة؛ لتعذُّر

(3)

استيفاء المعقود عليه.

ومنها: إذا غاب الزَّوج، فاستدانت الزَّوجة للنفقة على نفسها وأولادها الصِّغار نفقة المثل من غير زيادة؛ فإنَّها ترجع، نصَّ عليه في رواية أبي زرعة الدِّمشقيِّ

(4)

، ولم يعتبر إذن الحاكم.

(1)

في (أ): بغير.

(2)

قوله: (حكم الجمال) هي في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): كالجمال.

(3)

في (أ): لتعذر لزوم.

(4)

هو عبد الرحمن بن عمرو بن صفوان، أبو زرعة الدمشقي، إمام في زمانه، رفيع القدر، حافظ عالم بالحديث والرجال، وصنف من حديث الشام مالم يصنفه أحد، وسمع من أحمد مسائل مشبعة محكمة، توفي سنة 280 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 205.

ص: 554

واعتبر

(1)

صاحب «المحرر» في لزوم نفقة الأقارب: أن يستدان عليه بإذن الحاكم، مع قوله:(إنَّها لا تلزم بفرض الحاكم)، وفيه نظر.

وفي «التَّرغيب» : ليس لغير الأب الاستقراض إلَّا بإذن الحاكم؛ حتَّى ولا للزَّوجة في حقِّها وحقِّ ولدها الصَّغير، وإنَّما للزَّوجة الأخذ من مال زوجها الموسر عند الامتناع إذا قدرت عليه قدر كفايتها.

وحكى في أخذها لولدها وجهين؛ قال: وليس لها الإنفاق على الطِّفل من ماله لو كان له مال بدون إذن وليِّه؛ لانتفاء ولايتها عليه.

وهذا كلُّه مخالف لظاهر نصِّ أحمد المتقدِّم ولقواعد المذهب؛ فإنَّ المذهب: أنَّها تأخذ لنفسها ولولدها، ونصَّ أحمد على أنَّها تقبض الزَّكاة لولدها الطِّفل، وقد سبق قول القاضي

(2)

وغيره أنَّ من أنفق على أقارب غيره الَّذين يلزم نفقتهم؛ فإنَّه يرجع بذلك عليه كما يرجع عليه بقضاء الدَّين الواجب عليه.

وذكر ابن أبي موسى: أنَّ الزَّوجة

(3)

إذا استدانت على زوجها نفقة المثل مع غيبته؛ فإنَّها ترجع عليه، ولم يعتبر إذن حاكم، مع أنَّه لم يحك خلافاً في سقوط نفقة الزَّوجة بمضيِّ الزَّمان بدون

(4)

فرض الحاكم لها

(5)

.

(1)

في (ب) و (و): واعتبره.

(2)

في (ب): للقاضي.

(3)

قوله: (أنَّ الزَّوجة) سقط من (أ).

(4)

في (أ): وقد. وفي (ن): من غير.

(5)

زاد في (ب) هنا قوله: (بناء على أنَّها لا تسقط بمضيِّ الزَّمان في أشهر الرِّوايتين) وقد ضرب عليها في (أ)، وسقطت من (ج) و (د) و (و) و (ن).

ص: 555

ومنها: إذا أعاره شيئاً ليرهنه، ثمَّ افتكَّه المعير بقضاء الدَّين؛ فإنَّه يرجع ههنا قولاً واحداً على ظاهر كلام القاضي.

ومنها: لو قضى أحد الورثة الدَّين عن الميِّت ليزول تعلُّقه بالتَّركة؛ فإنَّه يرجع أيضاً، ولم يذكر القاضي فيه خلافاً.

وهذه المسألة والَّتي قبلها قد لا يطَّرد فيهما الخلاف؛ لأنَّ الإنفاق ههنا لاستصلاح ملك المنفِق؛ فهو كإنفاق الشَّريك على عمارة الحائط يرجع به بغير خلاف، وإنَّما الخلاف إذا كان الإنفاق لاستصلاح ما تعلَّق به حقُّ المنفق؛ إلَّا أنَّ الأصحاب صرَّحوا

(1)

باطِّراد الخلاف في صورة المساقاة مع تعلُّق الاستصلاح فيها بعين مال المنفق.

(1)

في (أ) و (هـ): خرجوا.

ص: 556