الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قاعدة [76]
الشَّريكان في عين مال أو منفعة، إذا كانا محتاجين إلى دفع مضرَّة أو إبقاء منفعة
؛ أجبر أحدهما على موافقة الآخر على
(1)
الصَّحيح من المذهب.
وفيه رواية أخرى: إن أمكن أحدهما أن يستقلَّ بدفع الضَّرر؛ فعله، ولم يجبر الآخر معه، لكن إن أراد الآخر الانتفاع بما فعله شريكه؛ فله منعه حتَّى يعطيه حصَّة ملكه من النَّفقة.
وإن احتاجا إلى تجديد منفعة؛ فلا إجبار.
ويندرج تحت ذلك صور:
منها: إذا انهدم الحائط المشترك؛ فالمذهب: إجبار الممتنع منهما بالبناء مع الآخر، نصَّ عليه في رواية جماعة
(2)
، فإنَّ الإجبار هنا من جنس المعاوضة
(3)
، والمعاوضة في الأموال المشتركة واجبة لدفع
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): في.
(2)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 380).
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: يشبه المعاوضة عن حقه في شركة الإجبار، أو تقديره من جنس الإجبار على المعاوضة في قسمة الإجبار ونحوه، حيث اشتركا في دفع الضرر عن الشريك).
الضَّرر في الانتزاع بالشُّفعة وبيع ما لا يمكن قسمته.
والمعنى فيه: أنَّ المالك يستحقُّ الانتفاع بملكه، ويجب على شريكه تمكينه منه، فإذا دار الأمر بين تعطيل الحقِّ بالكليَّة وبين المعاوضة عليه؛ فالمعاوضة أولى؛ لأنه يرجع فيها إلى الانتفاع بالبدل، بخلاف التَّعطيل.
وأمَّا الرِّواية الثَّانية بعدم الإجبار؛ فهي مأخوذة من نصِّ أحمد على عدم الإجبار في بناء حيطان السُّفل إذا كان العلو لآخر وانهدم الكلُّ: أنَّه لا يجبر صاحب العلو على البناء مع صاحب السُّفل في السُّفل
(1)
.
والفرق واضح؛ لأنَّ السُّفل ملكه يختص بصاحبه، بخلاف الحائط المشترك، ولذلك عقد الخلَّال لكلِّ واحد منهما باباً، وذكر النَّصَّ بالإجبار في الحائط والنص بانتفائه في الصورة الأخرى.
وعلى تقدير ثبوت هذه الرِّواية في الحائط؛ فللشَّريك الاستبداد ببنائه من ماله بغير إذن حاكم، صرَّح به القاضي في «خلافه» ، واعتبر في «المجرد» استئذان الحاكم، ونصَّ أحمد على أنَّه يشهد على ذلك.
وله منع الشَّريك الآخر من الانتفاع بما كان له عليه من الحقوق إن أعاده بآلة جديدة من ماله، وإن أعاده بآلته الأولى؛ ففيه وجهان:
أحدهما: ليس له المنع؛ لأنَّه عين ملكهما المشترك، وهو قول القاضي في «المجرد» ، وابن عقيل، والأكثرين.
(1)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 380).
والثَّاني: له المنع حتَّى يأخذ نصف قيمة التَّالف
(1)
؛ لأنَّه متقوِّم حيث وقع مأذوناً فيه شرعاً، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى، والقاضي في «خلافه» ، وجزم به صاحب «المحرر» ، وحكاه صاحب «التَّلخيص» عن بعض المتأخِّرين من الأصحاب.
وإذا أعاده بآلة جديدة، واتَّفقا على دفع القيمة؛ جاز، لكن هل المدفوع نصف قيمة البناء، أو نصف ما أنفق عليه؟
ذكر القاضي في «خلافه» فيه روايتين، مأخذهما: هل ذلك من باب الرُّجوع بما أنفق على ملكه بإذن معتبر، أو هو معاوضة عن ملك الباني
(2)
؛ كضمان سراية العتق والاستيلاد؟
وإن امتنع الباني من القبول، وطلب رفع البناء من أصله؛ ليعيداه من مالهما؛ فقد يتخرَّج على هذا البناء، فإن قلنا: هو رجوع بما أنفق على ملكه؛ لم يكن له الامتناع، وإن قلنا: معاوضة؛ فله ذلك.
وفي «المجرَّد» و «الفصول» البناء على الإجبار ابتداءً وعدمه، فإن قلنا: يجبر؛ أجبر هنا على التَّبقية، وإلَّا فلا.
وقد يقال: هو معاوضة، سواء كان بالقيمة أو بالنَّفقة، كما أنَّ زرع الغاصب يعاوض عنه بالقيمة على رواية، وبالنَّفقة على أخرى، والإجبار على المعاوضات لإزالة الضَّرر غير مستبعد.
فإن قيل: فعندكم لا يجوز للجار منع جاره من الانتفاع بوضع خشبه على جداره؛ فكيف منعتم ههنا؟!
(1)
في (أ) و (د) و (هـ): التَّأليف.
(2)
في (أ) و (د) و (هـ): الثاني.
قلنا: إنما منعنا من عود الحقِّ القديم المتضمِّن ملك الانتفاع قهراً، سواء كان محتاجاً إليه أو لم يكن، وأمَّا التمكين من الوضع للارتفاق؛ فتلك مسألة أخرى، وأكثر الأصحاب يشترطون فيها
(1)
الحاجة.
والتزم ابن عقيل في «المفردات» تخريج رواية من هذه المسألة بمنع الجار من وضع الخشب مطلقاً، ثمَّ اعتذر بأن حقَّ الوضع هنا سقط عقوبة لامتناعه من النَّفقة الواجبة، وحمل حديث الزُّبير وشريكِه في شِرَاج الحرَّة
(2)
على مثل ذلك.
ومنها: إذا انهدم السَّقف الَّذي بين سفل أحدهما وعُلْو الآخر؛ فذكر الأصحاب في الإجبار الرِّوايتين، والمنصوص ههنا: أنَّه إن تكسَّر خشبه؛ فبناؤه بينهما؛ لأنَّ المنفعة لهما جميعاً، وظاهره الإجبار.
وإن انهدم السقف والحيطان؛ لم يجبر صاحب العلوِ على بناء الحيطان؛ لأنَّها خاصُّ ملك صاحب السُّفل، ولكنَّه يجبر على أن يبني معه السقف، فإن لم يفعل؛ أشهد عليه، ومنعه من الانتفاع به حتى
(1)
في (أ): فيه.
(2)
يشير إلى ما أخرجه البخاري (2359) ومسلم (2357) عن عروة، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: أن رجلًا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحَرَّة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر. فأبى عليه، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير:«اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك» ، فغضب الأنصاري، فقال: أن كان ابن عمتك؟! فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:«اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» ، فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} .
يعطيَه حقَّه، ويجبر صاحب السفل على بنائه؛ لأنَّه سترة له، نقل ذلك عنه أبو طالب.
ونقل عنه ابن الحكم: أنَّ صاحب السفل لا يجبر على البناء لأجل صاحب العُلْو، لكن صاحب العلو له أن يبني الحيطان ويسقُفَ عليها، ويمنع صاحب السفل من الانتفاع به حتى يعطيَه ما بنى به السُّفل، ويكون لهما جميعاً.
وهذا يحتمل: أنَّه أراد يعطيه ما بنى به الحيطان كلَّه؛ فيصير البيت لهما؛ كما كان لأحدهما سفله وللآخر علوه، وهو ظاهر كلامه.
ويحتمل: أنَّه يعطيه نصف قيمة بناء السُّفل، وتكون الحيطان مشتركة بينهما.
وكذلك حكى الأصحاب روايتين في مشاركة صاحب العلو لصاحب السفل في بناء الحيطان؛ حتى أخذ القاضي منها رواية بعدم الإجبار في الحائط المشترك، وهو بعيد؛ لأنَّ هذا المعنى لو كان صحيحاً؛ لكان الاشتراك حادثاً بعد البناء، فلا يلحق به الملك المشترك قبل البناء.
وحكى القاضي في «خلافه» في إجبار صاحب السُّفل على بناء حائطه لحقِّ صاحب العُلْوِ ثلاث روايات:
أحدها: إجباره منفردًا بنفقته، وأخذها من رواية أبي طالب، وفيه نظر؛ لأنَّ أحمد علَّل بأنَّه سترة له؛ فعلم أنَّ إجباره لحقِّ جاره لا لحقِّ صاحب العلو.
لكن قد يقال: إنَّ تضرُّر صاحب العُلْو بترك بناء السُّفل أشد من تضرر الجار بترك السترة؛ لأن هذا يمنعه حقَّه بالكليَّة، بخلاف ترك
السترة، وهذه الرواية هي المذهب عند ابن أبي موسى.
والثَّانية: يجبر على الإنفاق على وجه الاشتراك، نقلها يعقوب بن بختان؛ فقال: يشتركون على
(1)
السُّفل، وهو مروي عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه
(2)
.
والثَّالثة: لا يجبر، وهي رواية ابن الحكم.
وحكى في «المجرد» في إجبار كلٍّ منهما على أن يبني مع الآخر الحيطان روايتين.
وكذا في الإجبار على بناء السَّقف الَّذي يختصُّ بملكه صاحب العلو.
وحاصل هذا يرجع إلى أنَّه هل يلزم الإنسان بناء ملكه الخاصِّ به إذا كان انتفاع غيره به مستحَقًّا؛ كما يلزمه دفع الضَّرر عنه ببناء السُّترة؟ وهل يلزم الشَّريك في الانتفاع البناء مع المالك كالشَّريك في الملك؟
وعلى هذا يخرَّج إذا كان له على حائط جار له يحاذيه ساباط بحقٍّ، فانهدم الحائط؛ هل يجبر المالك على بنائه؟
وظاهر كلام القاضي في «خلافه» : إجباره أن يبنيه منفرداً به بغير خلاف، ولعلَّ هذا فيما إذا كان بحقِّ معاوضة.
ومثله ذكر ابن عقيل في «فنونه» فيمن له حق إجراء مائِه على سطح غيره، فعاب السطح، ولو بجريان مائِه عليه؛ لم يلزم صاحب الماء المشاركة في الإصلاح.
(1)
زاد في (د) و (هـ): الإنفاق.
(2)
لم نقف عليه.
وكذا لو كان ماء تلك الدَّار يجري إلى بئرٍ لصاحب الدار
(1)
بحقٍّ، فعابت البئر؛ لم يلزم صاحب الماء المشاركة في إصلاحها.
وتخريج ذلك كلِّه على الخلاف في السُّفل الَّذي علوه لمالك آخر متوجِّه، ويرجع إلى أنَّ الشركة في الانتفاع هل هي كالشركة في الملك؟
ومنها: القناة المشتركة إذا انهدمت
(2)
، ونصَّ أحمد على الإجبار على العمارة كما سبق، ولم يذكر ابن أبي موسى فيه خلافاً، وإنَّما ذكر الرِّوايتين في الحائط، والفرق: أنَّ الحائط تمكن قسمته، بخلاف القناة والبئر.
وطرد القاضي والأكثرون فيه الرِّوايتين.
وإذا لم نقل بالإجبار، فعَمَر أحدُهما؛ لم يكن له منع الآخر من الماء، ذكره القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل، وصاحبا «التلخيص» و «المغني» ؛ لأنَّ الماء باق على ما كان عليه من الملك أو الإباحة، وإنَّما أزال الضَّرر عن طريقه، ولا يقع الاستعمال على تلك الآلات المعمور بها.
وفي «الخلاف الكبير» له
(3)
و «التَّمام» لأبي الحسين: له المنع من الانتفاع بالقناة، ويشهد له نصُّ أحمد بالمنع من سكنى السُّفل إذا بناه صاحب العلو، ومنع الشَّريك من الانتفاع بالحائط إذا أعيد بآلاته
(1)
قوله: (لصاحب الدار) سقطت من (ب) و (ج) و (د و (و) و (ن).
(2)
في (ب) و (ج) و (و): تهدَّمت.
(3)
قوله: (له) سقط من (أ) و (ج) و (و).
العتيقة؛ لأنَّ ذلك كلَّه انتفاع بما بذل فيه الشَّريك ماله؛ فيمنع منه بغير إذنه، ولأنَّ إنفاقه على نفسه وشريكه جائزٌ؛ فيستحقُّ الرُّجوع عليه، ولا يكون به متبرِّعاً
(1)
.
ومنها: أنَّ ما يقبل القسمة من الأعيان إذا طلب أحد الشَّريكين قسمته؛ أجبر الآخر عليها وعلى التزام كُلَفها ومؤنها؛ لتكميل نفع الشَّريك.
فأمَّا ما لا يقبل القسمة؛ فإنَّه يجبر أحدهما على بيعه إذا طلب الآخر بيعه، نصَّ أحمد على ذلك في رواية الميمونيِّ؛ قال: إذا اختلفوا في القسمة؛ فليس للمضارِّ شيء، إذا كان يدخله نقصان ثمنه؛ بيع وأعطوا الثَّمن.
وكذلك نقل حنبل عن أحمد أنَّه قال: كلُّ قسمة يكون فيها ضرر لا أرى أن تقسم، مثل عبد بين رجلين، وأرض في قسمتها ضرر، ويقال لصاحبها: إمَّا أن تشتريَ، وإمَّا أن تتركه إذا كان ضرراً.
وصرَّح بذلك
(2)
ابن أبي موسى والقاضي والحلوانيُّ والشِّيرازيُّ وابن عقيل والسَّامريُّ وصاحب «التَّرغيب» ، وصرَّح بمثله في إجارة العين إذا لم يتَّفقا على المهايأة أو تشاحَّا، وكذلك قال القاضي في «خلافه» ، وأبو الخطاب في «انتصاره» .
وكثير منهم صرَّحوا بأنَّه يباع عند طلب القسمة وإن لم يطلب البيع،
(1)
من قوله: (ولأنَّ إنفاقه على نفسه) إلى هنا ضُرب عليه في (ب).
(2)
قوله: (بذلك) سقط من (أ).
ولهذا مأخذان:
أحدهما: أنَّه
(1)
إذا تعذَّر قسمة العين عدل إلى قسمة بدلها وهو القيمة، وهذا مأخذ من قال: يباع بمجرَّد طلب القسمة، وهو ظاهر كلام أحمد.
والثَّاني: أنَّ حقَّ الشَّريك في نصف القيمة - مثلاً - لا في قيمة النِّصف، فلو باع نصيبه مفرداً؛ لنقص حقُّه، ويدلُّ على أنَّ حقَّه في نصف القيمة: أنَّ الشَّرع أمر في السِّراية أن يقوَّم العبد كلُّه، ثمَّ يعطى الشُّركاء قيمة حصصهم.
وقد نصَّ الأصحاب على أنَّ للوليِّ بيع التَّركة على الصِّغار والكبار إذا كان في تبعيضها ضررٌ واحتيج إلى البيع، وما دلَّ عليه كلام بعضهم من امتناع البيع على الكبار في غير هذه الصُّورة قد يكون بناءً على أنَّ ضرر النَّقص ليس بمانع من قسمة الإجبار؛ كقول الخرقيِّ، وإنَّما المانع منها ألَّا ينتفع بالمقسوم؛ فحينئذٍ يكون عدم الإجبار على البيع في حالة نقص القيمة مبنيًّا على أنَّ القسمة ممكنة، ومع الإجبار عليها لا يقع الإجبار على البيع.
ثمَّ وجدت في «مسائل ابن منصور» عن أحمد في عبد بين رجلين أراد أحدهما أن يبيع وأبى الآخر؛ قال أحمد: يبيع كلُّ واحد منهما حصَّته
(2)
، وهذا يدلُّ على أنَّه لا إجبار على البيع مع الشَّريك.
(1)
قوله: (أنَّه) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و).
(2)
ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2822).
وهذا كلُّه في الملك المشاع المشترك، فأمَّا المتميِّز؛ كمن في أرضه غرس لغيره، أو في ثوبه صِبغ لغيره، إذا طلب أحدهما أن يبيع الآخر معه؛ ففي إجباره وجهان، أوردهما صاحب «المحرر» في غراس المستعير
(1)
؛ لأنَّه يستدام في الأرض؛ فلا يتخلَّص أحدهما من صاحبه بدون البيع، بخلاف غرس الغاصب؛ فإنَّه يتخلَّص منه بالقلع
(2)
.
وأمَّا الصِّبغ؛ ففي «المغني» وغيره في صِبغ الغاصب إن طلب مالك الثَّوب أن يبيع معه؛ لزمه، وفي العكس وجهان.
وجزم القاضي في «خلافه» بالإجبار على البيع بطلب الغاصب.
وأمَّا صِبغ المشتري إذا أفلس وأخذ البائع ثوبه، وطلب أحدهما البيع؛ أجبر الآخر عليه، وهذا لأنَّ الصِّبغ يستدام في الثوب؛ فلا يتخلَّص من الشَّركة فيه بدون البيع، وإنَّما فرَّقنا بين طلب الغاصب وغيره على وجه؛ لئلَّا يتسلَّط الغاصب بعدوانه على إخراج ملك غيره عنه قهراً.
ومنها: قسمة المنافع بالمهايأة؛ هل تجب الإجابة إليها أم لا؟
المشهور عدم الوجوب، ولم يذكر القاضي وأصحابه في المذهب سواه.
وفرَّقوا بين المهايأة والقسمة: بأنَّ القسمة إفراز أحد الملكين من الآخر، والمهايأة معاوضة حيث كانت استيفاء للمنفعة بمثلها في زمن
(1)
في (أ) و (ج) و (د): الغراس. بدل قوله: (غراس المستعير).
(2)
من قوله: (لأنَّه يستدام في الأرض) إلى هنا سقط من (أ) و (ج).
آخر، وفيها تأخير أحدهما عن استيفاء حقِّه؛ فلا يلزم، بخلاف قسمة الأعيان.
ونصَّ أحمد في رواية صالح وحنبل وأبي طالب في العبد المشترك إذا أعتق أحد الشَّريكين نصيبه أو كاتبه؛ فإنَّه يكون يوماً لنفسه ويوماً لسَّيِّده الباقي
(1)
.
وتأوَّله القاضي على التَّراضي، وهو بعيد.
وحكى أبو بكر في «التنبيه» فيه روايتين:
إحداهما: يكون يوماً لنفسه ويوماً لسيِّده.
والأخرى
(2)
: أن كسبه بينهما، وهذا يدلُّ على وقوع المهايأة حكماً من غير طلب.
وفي المسألة وجه آخر: أنَّه تجب المهايأة بالمكان دون الزَّمان؛ لانتفاء تأخُّر استيفاء أحدهما لحقِّه في المهايأة بالأمكنة، فهو كقسمة الأعيان، واختاره صاحب «المحرر» .
وعلى القول بانتفاء الوجوب مطلقاً؛ فيجوز بالتَّراضي.
وهل تقع لازمة إذا كانت مدَّتها معلومة أو جائزة؟ على وجهين.
والمجزوم به في «التَّرغيب» : الجواز.
واختار صاحب «المحرر» : اللُّزوم.
(1)
جاء في مسائل صالح (2/ 72): (عبد بين نفسين أعتق أحدهما نصيبه؟ قال - أي: الإمام أحمد -: قد عتق نصفه، وإن كان للمعتِق بقدر نصف قيمة العبد عَتَق في ماله، ويؤديه إلى الذي لم يُعتِق، وإن لم يكن في ماله كان للعبد يوم وللرجل يوم).
(2)
في (ب): والآخر.
وعلى القول بالجواز؛ لو رجع أحدهما قبل استيفاء نوبته؛ فله ذلك، وإن رجع بعد الاستيفاء؛ غرِّم ما انفرد به.
وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: (لا يفسخ
(1)
حتَّى ينقضي الدَّور ويستوفي كلُّ منهما حقَّه منه).
ويمكن أن يؤخذ ذلك من مسألة القسم، وهي أنَّ من له زوجتان، فقسم
(2)
لإحداهما، ثمَّ أراد أن يطلِّق الأخرى؛ لم يجز له حتَّى يوفِّيها حقَّها من القسم؛ لئلَّا يفوت حقها بالطلاق.
ولا يقال: هذه القسمة لازمة بخلاف المهايأة؛ لأنَّها إنَّما لزمت لأجل المساواة بين الزَّوجتين، ولهذا قال القاضي ومن اتَّبعه: إنَّ قسم الابتداء ليس بواجب.
ولو استوفى أحدهما نوبته ثمَّ تلفت المنافع في مدَّة الآخر قبل تمكُّنه من القبض؛ فأفتى الشَّيخ تقي الدين بأنَّه يرجع على الأوَّل ببدل حصَّته من تلك المدَّة الَّتي استوفاها، ما لم يكن قد
(3)
رضي بمنفعة الزَّمن المتأخِّر على أيِّ حال كان؛ جعلاً للتَّالف قبل القبض كالتَّالف في الإجارة.
قال: (وسواء قلنا: القسمة إفراز أو بيع؛ فإنَّ المعادلة معتبرة فيها
(4)
(1)
في (ب): لا ينفسخ. وفي (ج): لا تفسخ.
(2)
في (ب): فيقسم.
(3)
قوله: (قد) سقط من (أ).
(4)
في: (ب): فيهما.
على القولين، ولهذا يثبت فيها خيار العيب والتَّدليس) انتهى
(1)
.
وهذا على القول بالجواز ظاهر، ولكنَّ الشَّيخ يرجِّح اللُّزوم؛ فيخرَّج في الرُّجوع حينئذ وجهان؛ بناءً على الرِّوايتين فيما إذا تقاسم الشَّريكان الدَّين في ذمم الغرماء، ثمَّ تلف أحدهما قبل القبض؛ هل يستحقُّ صاحبه الرُّجوع على الآخر فيما قبضه أم لا
(2)
؟ على روايتين، نقلهما معاً ابن منصور في «مسائله» عن أحمد
(3)
.
ورواية الرُّجوع حملها الأصحاب على أنَّ القسمة لم تصحَّ، لكنَّ المراد
(4)
بقولهم: (لم تصحَّ)؛ أنَّها غير لازمة لا أن
(5)
القبض بها محرَّم باطل، ولهذا قالوا: لو قبض شيئاً بإذن شريكه؛ انفرد
(6)
به على الصَّحيح؛ فتكون حينئذ شبيهة
(7)
بالمهايأة.
ومنها: الزَّرع والشَّجر المشترك إذا طلب أحد الشَّريكين سقيه وهو محتاج إلى ذلك؛ أجبر الآخر عليه، ذكره القاضي، وحكاه عن أبي بكر فيما إذا أوصى
(8)
لأحدهما بزرع ولآخر بتبنه، وأخذه من مسألة
(1)
ينظر: الاختيارات الفقهية للبعلي (ص 506).
(2)
قوله: (لا): سقط من (أ).
(3)
ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2684).
(4)
في (ب): مرادهم.
(5)
قوله: (لا أنَّ) هو (ب): لأنَّ.
(6)
في (ب): لا يفرد.
(7)
في (ب): شبَّهه. وفي (هـ): شبيهاً.
(8)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): وصَّى.
الجدار، وهو أولى بالوجوب؛ لأنَّ السَّقي من باب حفظ الأصل وإبقائه؛ فهو كدعامة السَّقف إذا انكسر بعض خشبه والحائط المائل، وذلك أولى بالوجوب من بناء
(1)
السَّاقط؛ لأنَّ إعادة الحائط بعد زواله شبيه بإحداث المنفعة، لكن لمَّا كان ردًّا له إلى ما كان عليه؛ ألحق بالاستبقاء.
وألحق الشَّيخ تقيُّ الدِّين بهذا كلَّ ما فيه حفظ الأصل إذا احتيج إليه؛ مثل الحارس والنَّاظر والدَّليل على الطَّريق والرِّشوة الَّتي يحتاج إليها لدفع الظلم عن المال.
وذكر القاضي أيضاً فيمن اشترى شجراً وعليه ثمر للبائع: أنَّ أحدهما إذا طلب السَّقي لحاجة ملكه إليه؛ أجبر الآخر على التَّمكين لدخوله على ذلك، وتكون الأجرة على الطَّالب؛ لاختصاصه بالطَّلب دون صاحبه، وهذا يشمل ما إذا كان نفع السَّقي راجعاً إليهما.
وعلَّل ذلك في «المغني» : بأنَّ السَّقي لحاجته، وظاهره: اختصاصه بحالة عدم حاجة الآخر؛ فإنَّ النَّفع إذا كان لهما؛ كانت
(2)
المؤنة عليهما كبناء الجدار.
وإن عطش الأصل وخيف عليه الضَّرر بترك الثَّمر عليه؛ ففي الإجبار على القطع
(3)
وجهان، ذكرهما في «المغني» ، وعلَّل الإجبار: بأنَّ
(1)
في (ب): البناء.
(2)
في (أ): كان.
(3)
زاد في (ب): (والتَّبقية).
الضَّرر لاحق بالثمر لا محالة مع القطع والتَّبقية، والأصل ينحفظ بالقطع؛ فمراعاته أولى.
وذكر القاضي وابن عقيل فيما لو وصَّى بثمر شجرة لرجل ورقبته لآخر: أنَّه لا يجبر أحدهما على السَّقي؛ لأنَّ أحدهما لم يدخل على حفظ مال الآخر، بخلاف الثَّمر المشترى في رؤوس النَّخل.
وهذا في سقي أحدهما بخالص حقِّ الآخر، بخلاف ما
(1)
في الوصيَّة بالزَّرع والتِّبن كما سبق.
(1)
في (أ) و (ج) و (و) و (ن): ما سبق.
قاعدة [77]
من اتَّصل بملكه ملك غيره متميِّزاً عنه وهو تابع له
، ولم يمكن فصله منه بدون ضرر يلحقه، وفي إبقائه على الشركة ضرر، ولم يفصله مالكه؛ فلمالكِ الأصل أن يتملَّكه بالقيمة من مالكه، ويجبر المالك على القبول.
وإن كان يمكن فصله بدون ضرر يلحق مالك الأصل؛ فالمشهور: أنَّه ليس له تملُّكه قهراً؛ لزوال ضرره بالفصل.
ويتخرَّج على هذه القاعدة مسائل كثيرة:
منها: غراس المستأجر وبناؤه بعد انقضاء المدَّة إذا لم يقلعه المالك؛ فللمُؤْجر تملُّكه بالقيمة
(1)
؛ لأنَّه لا يملك قلعه بدون ضمان نقصه، وفيه ضرر عليه، ذكر ذلك القاضي وابن عقيل والأكثرون.
ولم يشترط أبو الخطاب ألَّا يقلعه
(2)
المالك؛ فلعلَّه جعل الخيرة لمالك الأرض دون مالك الغراس والبناء.
ومنها: غراس المستعير وبناؤه إذا رجع المعير أو انقضت مدَّة الإعارة، وقلنا: يلزم بالتَّوقيت؛ فالمنصوص عن أحمد: أنَّه يتملَّك
(1)
قوله: (القيمة) هو في (ب): بدون ضرر.
(2)
في (ب): ينقله.
بالقيمة، نقله عنه مهنَّى وابن منصور
(1)
.
وكذلك نقل عنه جعفر بن محمَّد، لكن قال في روايته: يتملَّك بالنَّفقة.
ولمالكه القلع ابتداءً، بغير خلاف، ولا يجبر عليه إذا كان فيه ضرر.
وإن لم يكن فيه ضرر؛ فتردَّد فيه كلام الأصحاب، وظاهر كلام أحمد: أنَّه لا يقلع بدون شرط
(2)
.
ومنها: غراس المشتري في الأرض المشفوعة وبناؤه؛ حيث يتصوَّر ذلك
(3)
إذا انتزع الشَّفيع؛ فإنَّه يأخذه مع الأرض بقيمته، نصَّ عليه
(4)
، ولمالكه أن يقلعَه أيضاً، ولا يجبر عليه إلَّا أن يضمن له النَّقص.
ومنها: غراس المفلس وبناؤه إذا رجع بائع الأرض فيها؛ فللمفلس والغرماء القلع، فإن أَبَوْهُ وطلب البائع التَّملُّك بالقيمة؛ ملكه، وكذا إذا طلب القلع مضموناً.
(1)
جاء في مسائل ابن منصور (6/ 3021): (قلت: رجل أمر رجلاً أن يبني له في أرضه، فيقيم سنة، أله أن يخرجه قبل السنة؟ قال أحمد: لا. قلت: فإذا جاء السنة؛ له قيمة البناء، أو يقلع بناءه؟ قال أحمد: لا، بل له قيمة بنائه، إلا أن يكون شرط عليه أن يقلع).
(2)
كتب على هامش (ن): (أي: لا يجبر على القلع).
(3)
كتب في هامش (و): (وصورته: فيما إذا قاسمه الشقص المشفوع لإظهاره له زيادة في الثمن ونحو ذلك).
(4)
جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2961): (قلت: إذا باع الشفعة فبناها، ثم جاء الشفيع بعد، فالقيمة أو يقلع بناءه. قال: جيد).
ومنها: إذا أصدقها أرضاً، فغرست فيها أو بَنَت
(1)
، ثمَّ طلَّقها قبل الدُّخول، وطلب
(2)
الرُّجوع في نصفها، وبذل نصف قيمة الغراس والبناء؛ قال الخرقيُّ: تجبر
(3)
على القبول.
وقال القاضي: يسقط حقُّه إلى القيمة
(4)
. فليست المسألة على قوله ممَّا نحن فيه.
فإن قيل: هذه المسألة والَّتي قبلها
(5)
يتملَّك فيهما
(6)
الغراس والبناء مع الأرض؛ فلا يكون
(7)
من صور مسائل القاعدة.
قيل: بل هما منها؛ فإنَّ الشَّفيع إنَّما استحقَّ انتزاع بناء المشتري وغراسه؛ لأنَّه أحدثه في حال تعلُّق حقِّه به؛ فكأنَّه قد أحدثه في ملكه.
وكذلك الزَّوجة؛ لأنَّها قبل الدُّخول لم يستقرَّ لها الملك على النِّصف؛ لتعرُّضه لعوده إلى الزَّوج باختياره تارة وبغيره أخرى.
وفي انتقال ملك النِّصف إليها خلاف مشهور؛ فلذلك
(8)
استحقَّ
(1)
زاد في (أ): (فيها).
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): فطلب.
(3)
في (أ) و (ج): يجبر.
(4)
كتب في هامش (و): (يعني قيمة نصف الأرض، ويسقط حقُّه فيها).
(5)
كتب على هامش (ن): (الَّتي قبلها هي مسألة غراس المفلس، والمصنِّف تكلَّم على مسألة غراس المشتري للأرض المشفوعة، وهي قبل قبلها).
(6)
في (أ) و (ج)(هـ): فيها.
(7)
كتب في هامش (هـ): (لعلَّه يكونان).
(8)
في (ب): فكذلك.
الزَّوج تملُّكه.
ومنها: القابض بعقد فاسد من المالك إذا غرس وبنى؛ فللمالك تملُّكه بالقيمة، كغراس المستعير، ولا يقلع إلَّا مضموناً؛ لاستناده إلى الإذن، ذكره القاضي وابن عقيل.
ومنها: غرس المشتري من الغاصب إذا لم يعلم بالحال، والمنصوص عن أحمد
(1)
: أنَّه يتملَّك بالقيمة ولا يقلع مجَّاناً، نقله عنه حرب ويعقوب بن بختان في رجل باع أرضاً من رجل، فعمل فيها وغرس، ثمَّ استحقَّها آخر، قال: يردُّ عليه قيمة الغراس
(2)
أو نفقته، ليس هذا مثل من غرس في أرض غيره.
وكذلك نقل محمَّد بن أبي حرب الجرجرائيُّ عن أحمد فيمن اشترى أرضاً، فغرس فيها وعمل، ثمَّ استحقَّها آخر: أنَّه يردُّ عليه قيمة الغراس يوم يستحقُّ، ليس هذا مثل الغرس في أرض غيره
(3)
فيقلع غرسه.
وحمل القاضي هذه النُّصوص على أنَّ له القيمة على من غرَّه
(4)
كما في المغرور بنكاح أمة؛ قال: فأمَّا المستحِقُّ للأرض؛ فلا ضمان عليه؛ لأنَّه لم يحصل منه إذن في ذلك.
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: إشارةً، كما يدلُّ على التَّسوية بينهما كلامه في القسم الرَّابع من القاعدة السَّابعة والسبعين).
(2)
في (أ): الغرس.
(3)
كتب على هامش (ن): (يعني: غصباً؛ لثبوت التَّخيير للمالك هناك لا هنا).
(4)
في (ب): غيره.
وهذا مخالف لمدلول هذه النُّصوص على ما لا يخفى، وكونه لم يحصل منه إذن لا ينفي كون الغراس محترماً، كما نقول فيمن حمل السَّيلُ إلى أرضه نَوًى، فنبت شجراً: إنَّه كغراس المستعير على أحد الوجهين، لا يقلع مجَّاناً؛ لعدم التَّعدي في غرسه، وهو اختياره؛ أعني: القاضي، وأقرَّها القاضي في موضع آخر من «خلافه» رواية، وكذلك صاحب «المحرر» .
ولكن الَّذي ذكره ابن أبي موسى والقاضي في «المجرد» وتبعه عليه المتأخرون: أنَّ للمالك قلعه مجاناً، ويرجع المشتري بالنَّقص على من غرَّه.
والصَّحيح الأوَّل، ولا يثبت عن أحمد سواه، وهو قول اللَّيث ومالك وأبي عبيد، وبه قضى عمر بن الخطاب
(1)
وعمر بن عبد العزيز
(2)
(1)
يشير إلى ما أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 366): عن معمر، عن ابن أبي نجيح - قال أبو عبيد: أحسبه - عن عمرو بن شعيب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع أقوامًا أرضًا، فجاء آخرون في زمن عمر فأحيوها، فقال لهم عمر حين فزعوا إليه: «تركتموهم يعملون ويأكلون، ثم جئتم تغيرون عليهم! لولا أنها قطيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطيتكم شيئًا» ، ثم قومها عامرة، وقومها غامرة، ثم قال لأهل الأصل:«إن شئتم فردوا عليهم ما بين ذلك، وخذوا أرضكم، وإن شئتم ردوا عليهم ثمن أديم الأرض، ثم هي لهم» ، قال: قال معمر: ولم أعلم أنهم علموا أنها لقوم حين عمروها».
(2)
يشير إلى ما أخرجه أبو عبيد في الأموال (ص 367): عن سليمان بن داود الخولاني، أن عمر بن عبد العزيز كان يقضي في الرجل إذا أخذ الأرض، فعمرها وأصلحها، ثم جاء صاحبها يطلبها، أنه يقول لصاحب الأرض:«ادفع إلى هذا ما أصلح فيها، فإنما عمل لك» ، فإن قال: لا أقدر على ذلك، قال للآخر:«ادفع إليه ثمن أرضه» .
رضي الله عنهما؛ لكنَّ عمر بن الخطاب خيَّر صاحب الأرض بين أن يعطي الغارس قيمة غرسه أو يدفع
(1)
الغارس إليه قيمة أرضه.
وكذلك قضى عمر بن عبد العزيز؛ لكنَّه إنَّما قضى بدفع قيمة الأرض إلى المالك عند عجزه عن دفع قيمة الغراس.
وقد ذكر هذه الآثار أبو عبيد في كتاب «الأموال» ، والخلَّال في كتاب القرعة من «الجامع» .
ومنها: غراس الغاصب وبناؤه، والمشهور عن أحمد: أنَّ للمالك قلعه مجَّاناً، وعليه الأصحاب.
وعنه رواية ثانية: لا يقلع، بل يتملَّك بالقيمة أيضاً، وممَّن حكاها القاضي وابن عقيل في «كتاب الرِّوايتين» لهما، وخرَّجاها في «خلافيهما» من مسألة الصِّبغ، ونصَّ عليها أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه فيمن غصب أرضاً أو داراً وبنى فيها؛ قال: يعجبني أن يَغرم البناء ويُعطِي؛ لأنَّه إن أخذ الغاصب بناءه؛ تضرَّرت
(2)
الأرض في الخراب والهدم، ويكون أيضاً ذهاب مال الغاصب في الجصِّ والآجرِّ وكلِّ شيء
(3)
.
وفي «مسائل ابن هانئ»
(4)
عن أحمد في رجل اكترى أرضاً، يغرس
(1)
قوله: (أو يدفع) هو في (ب) وباقي النسخ: (بين أن يدفع).
(2)
في (أ): تضر رب. وفي (ج) و (د) و (و): يضرُّ بربِّ. وفي (هـ): تضرر رب.
(3)
ذكرها في الروايتين والوجهين (1/ 418) ثم قال: (ونقل ابن مشيش ومهنى: يجبر على قلع البناء، وهو أصح).
(4)
مسائل ابن هانئ (2/ 25).
فيها أشجاراً، واشترط عليه ربُّ الأرض ألَّا يغرس فيها غيرَه، فغرس فيها شجراً -يعني: غير ما اشترطه - وأثمر الشَّجر، وأراد أن يقلع الغرس؛ قال: لا يقلع الشَّجر من الأرض، يضرُّ بهما جميعاً.
وعلى هذه الرِّواية؛ فلا يقلع إلَّا مضموناً؛ كغرس المستعير، كذلك حكاها القاضي وابن عقيل؛ فلذلك
(1)
يملك بالقيمة حيث لم يمكن القلع بدون ضرر
(2)
.
ومنها: إذا بنى الوارث في الأرض الموصى بها.
قال ابن أبي موسى: إن كان غير عالم بالوصيَّة؛ فهو محترم يتملَّك
(3)
بقيمته غير مقلوع وجهاً واحداً، وإن كان عالماً بالوصيَّة؛ فكذلك، ويتوجَّه أن يقلع بناؤه.
ولم يفرِّق بين ما قبل القبول وبعده؛ فإنَّ ظاهر كلامه أنَّ الوصية تملك بالموت من غير قبول، فإنَّه ذكر أنَّ من وصَّى لمن لا يعرف؛ حملت وصيَّته إلى الحاكم؛ ليفرِّقها في أبواب البرِّ، ونصَّ أحمد على ذلك أيضاً.
(1)
في (ب): فكذلك.
(2)
كتب في هامش (ج) و (د) و (هـ): (ومذهب إسحاق أنَّه يتملَّك بالقيمة قهراً، نقله عنه حرب، وروى بإسناده عن عبيد الله العنبريِّ فيمن اشترى أرضاً فغرس فيها، ثمَّ استحقَّت؛ فللمالك أن يأمره بالقلع، وإن بذل له القيمة؛ أجبر على قبولها، ولم يكن له القلع).
(3)
في (ب): متملَّك.
ولكن ما ذكره من أنَّ الوارث إذا بنى وهو عالم بالوصية أنَّ بناءه لا يقلع، يشكل على ذلك؛ لأنَّه يكون كبناء الغاصب، وأمَّا غير العالم؛ فبناؤه كبناء المشتري من الغاصب على ما سبق.
والمنصوص عن أحمد في رواية ابن منصور: أنَّ البناء للورثة
(1)
، ولم يتعرَّض لتملكه عليهم ولا لقلعه، وظاهره أنَّه محترم، وذلك يرجع إلى أنَّ الموصى له يملكه من حين القَبول.
أمَّا إن قيل: تملَّكه بالموت، أو يتبيَّن بقبوله ملكُه بالموت؛ فالبناء في الأرض مع العلم بالحال تفريط وعدوان.
ومنها: من كان في أرضه نخلة لغيره، فلَحِقَ صاحبَ الأرض ضرر بدخوله؛ قال أحمد في رواية حنبل، وذُكر له الحديث الَّذي ورد في ذلك، وأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر صاحبها أن يبيع فأبى، فأمره أن يناقل فأبى، فأمره أن يهب فأبى؛ فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أنت مضارٌّ، اذهب فاقلع نخله» .
قال أحمد: كلُّ ما كان على هذه الجهة وفيه ضرر؛ يمنع من ذلك، فإن أجاب، وإلَّا جبره السُّلطان، ولا يضرُّ بأخيه إذا كان ذلك
(2)
فيه مرفق له.
والحديث المشار إليه أخرجه أبو داود في «السُّنن»
(3)
، وأورده
(1)
جاء في مسائل ابن منصور (8/ 4375): (قلت: سئل سفيان عن رجل أوصى لرجل بثوب، فقطعه الورثة قميصاً، أو بأرض فبنوها، أو بسويق فلتُّوه؟ قال: ما زاد أخذوه. قلت: الورثة؟ قال: نعم. قال أحمد: جيد، وكلما نقص يرجع الموصى له على الورثة).
(2)
قوله: (ذلك) سقط من (أ).
(3)
أخرجه أبو داود (3636)، من حديث أبي جعفر محمد بن علي، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، وضعفه الألباني.
الخلال في «الجامع» من وجه آخر.
ولا يقال: لم يأمره بضمان النَّقص؛ فيكون كغرس الغاصب؛ فكيف يتملَّك؛ لأنَّا قد قدَّمنا الخلاف في غرس الغاصب.
وأيضاً؛ فالأمر بالقلع هنا إنما كان عند الإصرار على المضارَّة والامتناع من قبول ما يدفع ضرر المالك، ولهذا قال أصحابنا في المستعير: إذا امتنع المعير من الضَّمان مطلقاً، فطلب قيمة البناء أو الغراس
(1)
؛ أجيب إلى ذلك، وإن طلب القلع وضمان النَّقص؛ لم يُجَب.
ومن ذلك: إذا اشترى حيواناً يؤكل واستثنى رأسه أو أطرافه؛ فإنَّه يصحُّ، وإذا امتنع المشتري من الذَّبح؛ لم يجبر، وكان له قيمة المستثنى، نصَّ عليه.
ومن ذلك: من ملك ثوباً فصبغه، ثمَّ زال ملكه عنه بفسخ؛ هل يملك من عاد إليه الملك تَملُّك الصِّبغ بالقيمة أم لا؟
قال الأصحاب في بائع المفلس إذا رجع
(2)
إليه الثَّوب وفيه صِبغ: إنَّ له تملُّكه بالقيمة؛ لأنَّه معدٌّ للبيع ولا بدَّ؛ فيكون البائع أولى به؛ لاتصاله بملكه.
وأمَّا إن رجع إليه بفسخ بعيب؛ فالمشهور: أنَّه لا يملك تملُّكه قهراً.
وخرَّج ابن عقيل وجهاً آخر: أنَّه يتملَّكه بالقيمة من مسألة الخرقيِّ في الصَّداق، حيث قال: له تملُّك الصبغ بقيمته.
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): والغراس.
(2)
في (أ): دفع.
ونقل حنبل عن أحمد: أنَّ المشتري يردُّ المعيب على البائع ويأخذ منه قيمة الصِّبغ، وهذا يشعر بإجبار البائع على دفع قيمته.
وأمَّا الغاصب إذا صبغ الثَّوب؛ فهل للمالك تملُّك
(1)
الصِّبغ بقيمته قهراً أم لا؟ فيه وجهان.
واختيار القاضي وابن عقيل: عدمه.
وصحَّح بعض الأصحاب خلافه؛ لأنَّ المشهور: أنَّه لا يملك قلعه، ويملكه على وجه مضموناً، بخلاف البناء والغراس؛ فلا يتخلَّص من الضَّرر بدون تملُّكه.
فأمَّا الآثار الَّتي تقع بها الشركة، كضرب الحديد مساميرَ ونجر الخشب أبواباً؛ فإن كان ذلك من الغاصب؛ فنصَّ أحمد في رواية ابن الحكم على أنَّ المالك يدفع إليه قيمة الزِّيادة، ويتملَّكه عليه.
وكذلك قال ابن أبي موسى والشِّيرازيُّ، لكنَّهما جعلا المردود نفقة العمل دون القيمة
(2)
.
(1)
في (أ): يملك.
(2)
كتب على هامش (ن): (والَّذي في «المغني» : أنَّه لا شيء للغاصب بعمله، سواء زادت العين أو لم تزد، قال: وذكر أبو الخطاب: أنَّ الغاصب يشارك المالك بالزيادة؛ لأنَّها حصلت بمنافعه، ومنافعه أجريت مجرى الأعيان، فأشبه ما لو غصب ثوباً فصبغه، ثمَّ قال: والمذهب الأول، ذكره أبو بكر والقاضي؛ لأنَّه عمل في ملك غيره بغير إذنه، فلم يستحقَّ له عوضاً، كما لو أغلى زيتاً فزادت قيمته، أو بنى حائطاً لغيره، أو زرع حنطة إنسان في =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أرضه، والصِّبغ عين لا يزول ملك مالكه عنه بجعله مع ملك غيره، انتهى، وقد يقال: والمنافع إذا أجريت مجرى الأعيان، فهي كذلك أيضاً، وهذا موافق لرواية ابن الحكم).
وكتب على هامش (ن) أيضًا: (قد يلتحق بذلك نفقة الغاصب على المغصوب إذا كان حيواناً إذا زاد به المغصوب بسِمَن ونحوه، والأصحاب على أنَّ السِّمن للمالك مضمون على الغاصب، فينبغي أن يحمل قولهم على سمن حصل من غير علف الغاصب).
قاعدة [78]
من أدخل النَّقص على ملك غيره لاستصلاح ملكه وتخليصه من ملك غيره:
(1)
فإن لم يكن ممَّن دخل النَّقص عليه تفريطٌ بإشغال
(2)
ملكه بملك غيره؛ فالضَّمان على من أدخل النَّقص.
(3)
وإن كان منه تفريطٌ؛ فلا ضمان على من أدخل النَّقص.
(4)
وكذا إن وجد ممَّن دخل النَّقص عليه إذنٌ في تفريغ ملكه من ملك غيره
(5)
؛ حيث لا يجبر الآخر على التَّفريغ.
(6)
وإن وجد منه إذنٌ في إشغال ملكه بمال غيره، حيث لا يجبر الآخر على التَّفريغ؛ فوجهان.
(1)
كتب على هامش (ن): (قسم أوَّل).
(2)
في (ب): باشتغال.
(3)
كتب على هامش (ن): (قسم ثانٍ).
(4)
كتب على هامش (ن): (قسم ثالث).
(5)
كتب في هامش (ن): (أي: إذا حصل بالتفريغ نقص في ملك الآذن).
(6)
كتب على هامش (ن): (قسم رابع).
ويتفرَّع على ذلك مسائل كثيرة:
منها: لو باع داراً فيها ناقة لم تخرج من الباب إلَّا بهدمه؛ فإنَّه يهدم، ويضمن المشتري
(1)
النَّقص.
ومنها: لو اشترى أرضاً فيها زرع للبائع، فحصده، فإن لم يبق
(2)
له عروق أو كانت لا تضرُّ؛ فليس عليه نقلها، وإن كانت تضرُّ عروقه بالأرض؛ كالقطن والذُّرة؛ فعليه
(3)
النَّقل وتسوية الحفر، ذكره القاضي وابن عقيل.
(1)
كتب في هامش (د): (لعلَّه: للمشتري).
كتب على هامش (ن): (إنَّما كان يضمن المشتري النقص؛ لتفريطه بشرائه الدَّار وفيها الناقة، فهي من القسم الثاني).
وكتب على هامش (ن) أيضاً: (المشتري لا يضمن نقصاً؛ لأنَّه لو ضمن النَّقص؛ ضمنه لنفسه، ولا يضمن الشَّخص لنفسه، فالصَّواب أن يقال: ولا يضمن للمشتري النقص ونحو ذلك).
قلنا: في المغني جعل الضمان على البائع، قال في المغني (5/ 211):(ولو باع دارًا فيها خوابي لا تخرج إلا بنقض الباب، أو خزائن أو حيوان، وكان نقض الباب أقل ضررًا من بقاء ذلك في الدار، أو تفصيله، أو ذبح الحيوان؛ نُقِضَ، وكان إصلاحه على البائع؛ لأنه لتخليص ماله، وإن كان أكثر ضررًا، لم ينقض؛ لأنه لا فائدة فيه).
(2)
في (ب): يكن.
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: على البائع).
ومنها
(1)
: لو دخل حيوانُ غيرِه دارَه وتعذَّر إخراجه بدون هدم بعضها، أو أدخَلَت بهيمةُ غيرِه رأسها في قدره، أو وقع دينارُ غيرِه في محبرته، وتعذَّر إخراجه بدون الكسر؛ ولم يكن ذلك بتفريط أحد، فهدمت الدَّار وكسرت القدر أو المحبرة؛ فالضَّمان على صاحب الحيوان والدِّينار.
ومنها
(2)
: ما
(3)
لو حمل السَّيل إلى أرضه غرس غيره، فنبت فيها، فقلعه مالكه؛ فعليه تسوية حفره.
ومنها: لو اشترى أرضاً فغرسها، ثم أفلس ورجع بها
(4)
البائع، واختار المفلس والغرماء القلع؛ فعليهم تسوية الحفر وضمان أرش النَّقص؛ لأنَّه نقص حصل بفعلهم في ملك البائع لتخليص ملكهم منه.
ومنها
(5)
: لو غصب فصيلاً وأدخله داره، وكبر وتعذَّر إخراجه بدون هدمها؛ فإنَّها تهدم من غير ضمان؛ لتفريطه.
وكذا إذا غصب غراساً وغرسه في أرضه؛ فإنَّه يقلع ولا يضمن حفره.
(1)
كتب على هامش (ن): (هذا من القسم الأوَّل).
(2)
كتب على هامش (ن): (من القسم الأوَّل).
(3)
سقطت من (ب) وباقي النسخ.
(4)
في (ب) وباقي النسخ: فيها.
(5)
كتب على هامش (ن): (من القسم الثَّاني).
ومنها
(1)
: لو غصب ثوباً فصبغه، ثمَّ طلب قلع صِبغه - وقلنا: يملكه -؛ فعليه ضمان نقص الثَّوب بذلك، كما لو غرس الأرض الَّتي غصبها ثمَّ قلع غرسه.
ومنها
(2)
: لو أعاره أرضاً للغرس، ثم أخذ غرسه منها، فإن كان قد شرط عليه القلع؛ فلا يلزمه ضمان النَّقص بذلك ولا تسوية الحفر؛ لأنَّ المالك رضي بذلك باشتراطه له.
وإن لم يشترط القلع؛ فوجهان
(3)
:
أحدهما: لا يلزمه أيضاً، قاله القاضي وابن عقيل؛ لأنَّ الإعارة مع العلم بجواز القلع رضًا بما ينشأ عنه من الحفر.
والثَّاني: يلزمه ذلك
(4)
، وبه جزم صاحب «الكافي» ؛ لأنَّه قلع باختياره، حيث لا يجبر عليه، فقد أدخل النَّقص على ملك غيره لاستصلاح ماله.
وعلى هذا؛ فلو طلب منه المالك القلع وبذل له أرش النَّقص؛ فينبغي ألَّا يَلزمَه التَّسوية؛ لأنَّ القلع بأمر المالك، مع أنَّ كلام ابن عقيل وغيره يشعر بخلاف ذلك.
فأمَّا الإعارة للزَّرع إذا كانت عروقه الباقية تضرُّ بالأرض؛ فقد
(1)
كتب على هامش (ن): (من القسم الأوَّل).
(2)
كتب على هامش (ن): (من القسم الثَّالث).
(3)
كتب على هامش (ن): (لأنَّه من القسم الرَّابع).
(4)
في (ب): كذلك.
يقال
(1)
: يجب نقلها وتسوية الحفر؛ لأنَّ الزَّرع يجبر على تفريغ الأرض منه، بخلاف الغرس
(2)
.
وقد يقال: لا يجب؛ لأنَّ الإذن فيه مع العلم بأنَّه لا يبقى رضًا بما ينشأ من قلعه المعتاد.
ومنها: إذا آجره أرضاً للغراس وانقضت المدَّة؛ فإن كان القلع مشروطاً عند انقضائها؛ فلا ضمان
(3)
، وإن لم يكن مشروطاً؛ ففيه الوجهان أيضاً.
ولم يحك صاحب «الكافي» في الضَّمان خلافاً.
وكذلك هو ظاهر كلام القاضي في «المجرد» ، وعلَّل: بأنَّه قلع غرسه من أرض غيره الَّتي لا يد له عليها بغير أمره.
وجزم صاحب «التلخيص» بعدم الضَّمان، ولم يذكر فيه خلافاً، وعلَّل: بأنَّ المالك دخل على ذلك.
ومنها: إذا غرس المشتري في الأرض ثمَّ انتزعها الشَّفيع، فقلع المشتري غرسه؛ ففيه وجهان:
أحدهما: عليه تسوية الحفر وضمان النقص، وهو ظاهر كلام الخرقيِّ؛ لأنَّه فعله في ملك غيره؛ لتخليص ملكه.
(1)
قوله: (فقد يقال) هو في (أ): فقال.
(2)
كتب على هامش (ن): (في «المحرَّر» وغيره: تخيير المعير بين تملُّك الغراس والبناء، وبين قلعهما وضمان نقصهما، ومقتضى ذلك: أنَّ الغرس يجبر على قلعه، وليس في «المقنع» أنَّ للمعير القلع، وضمان النَّقص).
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: إذا قلعه فلا ضمان عليه لتسوية الأرض).
والثَّاني: لا يلزمه
(1)
ذلك، ذكره القاضي، وبه جزم في «الكافي» معلِّلاً بانتفاء عدوانه، مع أنَّه جزم في باب العارية
(2)
بخلافه.
والقاضي إنَّما علَّل بأنَّه نزع ملك نفسه من ملك نفسه، وهذا إنَّما يكون إذا قلع قبل تملُّك الشَّفيع لا بعده.
(1)
في (أ): لا يلزم.
(2)
كتب على هامش (ن): (والإجارة، كما تقدَّم).
قاعدة [79]
الزَّرع النَّابت في أرض الغير بغير إذنٍ صحيحٍ أقسام:
القسم الأوَّل: أن يزرع عدواناً محضاً، غير مستند إلى إذن بالكليَّة، وهو زرع الغاصب؛ فالمذهب: أنَّ المالك إن أدركه نابتاً
(1)
في الأرض؛ فله تملُّكه بنفقته أو بقيمته على اختلاف الرِّوايتين.
وإن أدركه قد حُصد؛ فلا حقَّ له فيه.
ونقل حرب عن أحمد: أنَّ له تملُّكه أيضاً.
ووهَّم أبو حفص العكبريُّ ناقلها، على أنَّ من الأصحاب من رجَّحها بناء على أنَّ الزَّرع نبت على ملك مالك الأرض ابتداءً، والمعروف في المذهب خلافه.
والمعتمد عند الأصحاب في المسألة هو حديث رافع بن خديج
(2)
.
وقد احتجَّ به أحمد تارة، وقال تارة: ما أراه محفوظاً، وذكر فيه
(1)
كتب في هامش (هـ): (لعلَّه: باقياً).
(2)
يشير إلى ما رواه أحمد (17269)، وأبو داود (3403)، والترمذي (1366)، وابن ماجه (2466)، عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء وله نفقته» .
حديثاً آخر مرسلاً من مراسيل الحسن بن محمَّد بن الحنفية
(1)
، وقال:(هو شيء لا يوافق القياس)
(2)
، وفرَّق بين زرع الغاصب وغرسه حيث يقلع غرسه؛ كما دلَّ عليه قوله:«لَيْسَ لِعرقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ»
(3)
؛ بأنَّ الزَّرع يتلف بالقلع؛ فقلعه فساد، بخلاف الغرس.
ومن الأصحاب من قرر موافقته للقياس: بأنَّ المتولِّد بين أبوين مملوكين من الآدميين يكون ملكاً لمالك الأمِّ دون مالك الأب بالاتفاق، مع كونه مخلوقاً من مائهما، وبطون الأمَّهات بمنزلة الأرض، وماء الفحول بمنزلة البذر، ولهذا سمَّى الله تعالى النِّساء: حرثاً، ولعن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من سقى ماءه زرعَ غيره
(4)
؛ فجعل الولد زرعاً، وهو لمالك أمِّه.
(1)
يشير إلى ما رواه ابن أبي شيبة (22444) عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد، قال:«مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على زرع يهتز، فسأل عنه فقالوا: رجل زرع أرضًا بغير إذن صاحبها، فأمره أن يردها ويأخذ نفقته» .
(2)
ينظر: المغني (5/ 190).
(3)
رواه أبو داود (3073)، والترمذي (1378)، وابن ماجه (2466)، والنسائي في الكبرى (5729)، عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرقٍ ظالمٍ حق» .
(4)
أخرج مسلم (1441) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتى بامرأة مجح - هي الحامل التي قربت ولا دتها - على باب فسطاط، فقال:«لعله يريد أن يلم بها» ، فقالوا: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لقد هممت أن ألعنه لعنًا يدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟» .
وأخرج أحمد (1699)، وأبو داود (2158) عن رويفع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره» يعني: إتيان الحَبَالى من السبايا.
وسرُّ ذلك: أنَّ الحيوان ينعقد من الماءين، ثمَّ يغتذي من دم المرأة؛ فأكثر أجزائه مخلوقة من الأمِّ، كذلك البذر ينحلُّ في الأرض، وينعقد الزَّرع من التُّربة والحبَّة، ثمَّ يغتذي من الأرض ومائها وهوائها؛ فيصير أكثر أجزائه من الأرض.
وإنَّما خُيِّر مالك الأرض بين تملكه وبين أخذ الأجرة؛ لأنَّه قابل لاستيفائه
(1)
بعقد الإجارة، بخلاف الإيلاد، وجُبِر حقُّ صاحب البذر بإعطائه قيمة بذره ونفقة عمله حيث كان متقوِّماً، بخلاف ما يخلق منه الولد؛ فإنَّه لا قيمة له؛ فلذلك لم يجب لأحد الأبوين شيء.
وهذا مطَّرد في جميع المتولِّدات بين شيئين؛ في الحيوان والنَّبات والمعدن؛ حتَّى لو ألقى رجل في أرض رجل شيئاً ممَّا يُنبت المعادن؛ لكان الخارج منه لربِّ الأرض كالنِّتاج والزَّرع.
وهذه الطَّريقة سلكها القاضي في «خلافه» وابن عقيل والشَّيخ تقي الدين
(2)
، وهذا ملخَّصٌ من كلامه.
القسم الثَّاني: أن يؤذن له في زرع شيء، فيزرع
(3)
ما ضرره أعظم منه؛ كمن استأجر لزرع شعير فزرع ذرة أو دُخْناً؛ فحكمه حكم الغاصب عند الأصحاب؛ لتعدِّيه بزرعه، فإنَّه غير مستند إلى إذن.
والمنصوص عن أحمد في رواية عبد الله: أنَّ عليه ضمان أجرة
(1)
في (ب) و (و): لاستبقائه.
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (29/ 124).
(3)
في (ب): فزرع.
المثل للزِّيادة
(1)
، ولم يذكر تملُّكاً؛ فإنَّ هذا الزَّرع بعضه مأذون فيه وهو قدر ضرر الزَّرع المستأجر له، والزِّيادة عليه غير مأذون فيها، وهي غير متميِّزة؛ فكيف يتملَّك المُؤْجِرُ الزَّرع كلَّه؟!
وقد ينبني ذلك على اختلاف الوجهين في قدر الواجب من الأجرة؛ هل هو الأجرة المسمَّاة مع تفاوت ما بين الأجرتين من أجرة المثل، أم الواجب أجرة المثل للجميع حيث تمحَّض عدواناً؟
والمنصوص الأوَّل، وهو قول الخرقيِّ والقاضي.
والثَّاني اختيار ابن عقيل، وحكاه القاضي عن أبي بكر، وكلامه في «التَّنبيه» يوافق الوجه الأوَّل.
فعلى الوجه الأوَّل: لا يتوجَّه أن يتملَّك المُؤْجِر الزَّرع كلَّه.
وعلى الثَّاني: يتوجَّه ذلك.
فكيف جزم القاضي بتملُّكه مع اختياره الوجه الأوَّل في الضَّمان؟!
ولو استأجر للزَّرع مدَّة معيَّنة، فزرع فيها ما لا يتناهى في تلك المدَّة، ثمَّ انقضت؛ فقال الأصحاب: حكمه بعد انقضاء المدَّة حكم
(1)
لم نقف على نص هذه الرواية في مسائل عبدالله ولا غيرها.
والذي في مسائل عبدالله (ص 404): (وسألته عن رجل استأجر من رجل أرضًا من أرض السواد عشرين جريبًا؛ عشرة يزرعها حنطة كل جريب بقفيز حنطة، وعشرة أجربة يزرعها شعيرًا كل جريب بقفيز شعير، ثم إنه زرع العشرين جريبًا كلها حنطة، ما الذي يجب لرب الأرض عليه من الإجارة والحنطة وما أضر بالأرض من الشعير؟ قال: ينظر ما يدخل على الأرض من النقصان ما بين الحنطة والشعير فنعطيه لصاحب الأرض).
زرع الغاصب للعدوان.
ثمَّ إنَّ القاضي وابن عقيل قالا: عليه تفريغ الأرض بعد المدَّة.
وليس بجار على قواعد المذهب، وإنَّما المالك مخيَّر بين تملُّكه وتركه بالأجرة، فأمَّا القلع؛ فلا.
القسم الثَّالث: أن يزرع بعقد فاسد ممَّن له ولاية العقد؛ كالمالك والوكيل والوصي والنَّاظر، إمَّا بمزارعة فاسدة أو بإجارة فاسدة؛ فقال الأصحاب: الزَّرعُ لمن زرعه، وعليه لربِّ الأرض أجرة مثله.
وذكر القاضي في «خلافه» : أنَّ أحمد نصَّ عليه في رواية حرب في البيع الفاسد، وإنَّما رواية حرب في الغرس.
وذكره الخرقيُّ أيضاً في المزارعة الفاسدة؛ لأنَّ الزَّرع هنا استند إلى إذنِ مَن له الإذن؛ فلا يكون عدواناً.
ويحتمل على هذا: التَّفريق بين إذن المالك ومن يتصرَّف لغيره بطريق المصلحة كالوصيِّ؛ فلا يعتبر
(1)
إذنه؛ لانتفاء المصلحة في العقد الفاسد.
ويحتمل أيضاً: التَّفريق بين عقود الملك كالبيع، وعقود التَّصرُّف بالإذن كالمزارعة؛ لأنَّ عقود الملك وقع العقد فيها على الملك دون الإذن، ولهذا لم يصح
(2)
تصرُّف المشتري في العقد الفاسد، بخلاف عقود التَّصرُّف؛ فإنَّ الإذن موجود في صحيحها وفاسدها، ولذلك صحَّحنا التَّصرُّف في فاسدها.
(1)
في (ب) و (د): تعتبر.
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): (يصحح)، وفي (هـ): نصحِّح.
وقد ورد في ذلك حديث مرسل من طريق الأوزاعيِّ، عن واصل بن أبي جَميل، عن مجاهد: «أنَّ أربعة اشتركوا في زرع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: قبلي الأرض، وقال الآخر: قِبَلي الفدن، وقال الآخر: قِبَلي البذر، وقال الآخر: عليَّ العمل، فلمَّا استُحْصد الزَّرع؛ تَفَاتَوْا فيه
(1)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الزَّرع لصاحب البذر، وألغى صاحب الأرض، وجعل لصاحب العمل درهماً كلَّ يوم، وجعل لصاحب الفدَّان شيئاً معلوماً»
(2)
.
وقد أنكر أحمد هذا الحديث، قال في رواية ابن القاسم:(لا يصحُّ، والعمل على غيره)
(3)
، وقال أبو داود: سمعت أحمد يذكر
(4)
هذا الحديث، فقال:(هو منكر؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جعل الزَّرع لصاحب الأرض، وفي هذا الحديث جعل الزَّرع لصاحب البذر)
(5)
.
وهذا الكلام يدلُّ على أنَّ العمل عند الإمام أحمد على أن يكون الزَّرع لصاحب الأرض في الإجارة الفاسدة والمزارعة الفاسدة.
وقال في رواية إبراهيم بن الحارث: الحديث حديث أبي جعفر الخطميِّ.
يشير إلى ما رواه أبو جعفر عن سعيد بن المسيِّب؛ قال: كان ابن
(1)
في (ب): به.
(2)
رواه ابن أبي شيبة (22563).
(3)
ينظر: المغني (5/ 317).
(4)
في (ب) و (ج) و (د) و (و): ذكر.
(5)
مسائل أبي داود (ص 391).
عمر لا يرى بها - يعني: المزارعة- بأساً؛ حتَّى بلغه عن رافع بن خديج حديث، فلقيه، فقال رافع: أتى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بني حارثة، فرأى زرعاً، فقال:«ما أحسن زرع ظُهير؛ أليس أرض ظُهير» ؟ قالوا: بلى، ولكنَّه أزرعها، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«خذوا زرعكم، ورُدُّوا عليه نفقته» ، أخرجه أبو داود والنَّسائيُّ
(1)
.
ولأبي داود معناه من حديث عبد الرَّحمن بن أبي أنعم
(2)
عن رافع بن خديج
(3)
.
وللدَّارقطنيِّ نحوه من حديث عائشة
(4)
، ولابن عديٍّ معناه من حديث جابر
(5)
، وفيهما ضعف.
وكلُّ هذه واردة في المزارعة الفاسدة لا في الغصب.
وقد رجَّح الإمام أحمد حديث أبي جعفر على حديث أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج، فيمن زرع في أرض قوم بغير إذنهم، وقال:(الحديث حديث أبي جعفر)، وقال في رواية أبي داود: (أبو إسحاق زاد
(1)
أخرجه أبو داود (3399)، والنسائي (3889)
(2)
في (هـ): نعيم. والذي في أبي داود: نعم. قال في تقريب التهذيب (ص 175): (بضم النون وسكون المهملة).
(3)
رواه أبو داود (3402) من طريق بكير يعني ابن عامر، عن ابن أبي نعم، حدثني رافع بن خديج، أنه زرع أرضًا فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها، فسأله:«لمن الزرع؟ ولمن الأرض؟» فقال: زرعي ببذري وعملي، لي الشطر، ولبني فلان الشطر، فقال:«أربيتما، فرُدَّ الأرض على أهلها، وخذ نفقتك» .
(4)
برقم (2942).
(5)
أخرجه ابن عدي في الكامل (1/ 534).
فيه: زرع بغير إذنه، وليس غيره يذكر هذا الحرف)
(1)
(2)
.
فقد بيَّن
(3)
أنَّ التَّملُّك بالنفقة إنما يثبت عنده في المزارعة الفاسدة لا في الغصب؛ فكيف لا يكون مذهبه في المزارعة الفاسدة: أن يتملَّك الزرع فيها مع ثبوت الحديث فيها بخصوصيتها دون الغصب؟! لا سيَّما وقد أنكر حديث جعل الزَّرع لربِّ البذر، وصرَّح بأنَّ العمل على غيره.
وقد خرَّج الشَّيخ تقي الدين وجهاً في المزارعة الفاسدة: أنَّها تملك بالنفقة من زرع الغاصب
(4)
. وقد رأيت أنَّ كلام أحمد إنما يدل عليه لا على خلافه.
القسم الرَّابع: أن يزرع في أرض غيره بعقد ممَّن يظنُّ أنَّ له ولاية العقد، ثمَّ يتبين
(5)
بخلافه، مثل أن يتبيَّن أنَّ الأرض
(6)
مستحقَّة للغير:
فالمنصوص: أنَّ لمالك الأرض تملُّكه بالنَّفقة أيضاً، نقله عنه الأثرم وإبراهيم بن الحارث ومهنَّى.
وهذا متوجِّه على قول القاضي ومن وافقه: إنَّ غرسه وبناءه كغرس الغاصب وبنائه.
(1)
مسائل أبي داود (ص 273).
(2)
كتب في هامش (ج) و (هـ): (وقد نسب غير أحمد الغلط إلى شريك بن عبد الله الكوفي الراوي له عن أبي إسحاق).
(3)
في (ب) و (هـ) و (و) و (ن): بيَّن.
(4)
ينظر: الاختيارات (ص 219).
(5)
في (ب) و (ج) و (هـ) و (ن): تبيَّن.
(6)
في (ب) و (ج) و (و): تبين الأرض.
فأمَّا على المنصوص هناك أنَّ بناءه وغراسه محترم؛ كغرس المستعير والمستأجر وبنائهما؛ فيتوجَّه أن يكون الزَّرع لمالكه وعليه الأجرة، ويرجع بها على الغاصب لتغريره.
وبمثل ذلك أفتى الشَّيخ تقيُّ الدِّين
(1)
؛ لكنَّه جعل الزَّرع بين المالك والزَّارع نصفين؛ بناء على أصله في اتِّجار الغاصب بالمال أنَّ الربح بينه وبين المالك.
وطَرْدُه: أن يكون زرع الغاصب كذلك، ولكن لا يُعلم
(2)
به قائلٌ.
ثمَّ وجدنا ابن أبي ليلى يقول بذلك في زرع الغاصب وفي أجرة ما بناه في الأرض المغصوبة، وقد وافقه أحمد على أجرة البناء خاصَّة.
ويشهد لهذا الوجه: أنَّ الزَّرع النَّابت في أرض الغير ممَّا حمله السَّيل لمالكه مبقًى بالأجرة؛ لحصوله من غير عدوان ولا تفريط؛ وإن كان الإذن منتفياً، وههنا مثله.
ويحتمل أن يتملَّكه مالك الأرض أيضاً؛ كالمزروع بعقد فاسد على ما دلَّ عليه كلام أحمد، وليس الامتناع من قلع الغرس مجاناً منافياً لتملُّك الزرع، فإنَّ المانع من القلع إدخال الضَّرر على مالك الغراس بالنَّقص، وهو معذور؛ لغروره، وقد يتعذَّر عليه الرُّجوع على الغاصب، والمقتضي لتملُّك الزَّرع هو انتفاء الإذن الصَّحيح، وهو موجود هنا
(3)
، ولهذا يتملَّك غراسه وإن قيل باحترامه.
(1)
ينظر: الاختيارات (ص 235).
(2)
في (ب) و (د): لم نعلم. وفي (هـ): لم يعلم.
(3)
قوله: (هنا): سقط من (أ).
القسم الخامس: أن يزرع في أرضٍ بملكه لها أو بإذن مالكها، ثمَّ ينتقل ملكها إلى غيره والزَّرع قائم فيها، وهو نوعان:
أحدهما: أن ينتقل ملك الأرض دون منفعتها المشغولة بالزَّرع في بقيَّة مدَّته؛ فالزَّرع لمالكه ولا أجرة عليه بسبب تجدُّد الملك بغير إشكال.
ويدخل تحت هذا:
من استأجر أرضاً من مالكها وزرعها، ثمَّ مات المؤْجِر وانتقلت إلى ورثته.
ومن اشترى أرضاً فزرعها ثمَّ أفلس، فإنَّ للبائع الرجوع في الأرض، والزرع للمفلس
(1)
.
ومن أصدق امرأته أرضاً فزرعتها
(2)
، ثمَّ طلَّقها قبل الدخول والزرع قائم - وقلنا: له الرجوع
(3)
-؛ فإنَّ الزَّرع مبقًى بغير أجرة
(4)
.
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: مبقًى إلى الحصاد مجَّاناً، ذكره في «الرِّعاية»).
(2)
في (أ): فزرعها.
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: لكون الزرع فيها زيادة متَّصلة، كثمر الشَّجر، فإنَّه زيادة متَّصلة قبل التَّأبير وبعده، وفيه وجهان في «التَّرغيب»، وقدم في «الفروع» أنَّه كما لم يؤبَّر، وجزم به في «المغني» في بيع الأصول والثِّمار).
(4)
زاد في (ج) و (هـ): إلى أوانه.
وكذلك حكم من زرع
(1)
في أرض يملكها، ثمَّ انتقلت إلى غيره ببيع أو غيره: يكون الزَّرع مبقًى فيها بغير أجرة إلى أوان أخذه.
والنَّوع الثَّاني: أن تنتقل الأرض بجميع منافعها عن ملك الأوَّل إلى غيره.
ومن أمثلة ذلك: الوقف إذا زرع فيه أهل البطن الأوَّل أو من آجروه، ثمَّ انتقل إلى البطن الثَّاني والزَّرع قائم:
فإن قيل: إنَّ الإجارة لا تنفسخ وللبطن الثَّاني حصَّتهم من الأجرة؛ فالزَّرع مبقًى لمالكه بالأجرة السَّابقة.
وإن قيل: بالانفساخ - وهو المذهب الصَّحيح -؛ فهو كزرع المستأجر بعد انقضاء المدَّة إذا كان بقاؤه بغير تفريط من المستأجر
(2)
؛ فيبقى بالأجرة إلى أوان أخذه.
وقد نصَّ عليه أحمد في رواية مهنَّى في مسألة الإجارة المنقضية.
وأفتى به في الوقف الشَّيخ تقي الدين، وأفتى مرَّة أخرى بأنه يجعل مزارعة بين الزَّارع وربِّ الأرض؛ لنموه من أرض أحدهما وبَذْر الآخر، وكذلك أفتى في الأقطاع المزروعة إذا انتقلت إلى مُقْطَع آخر والزَّرع قائم فيها
(3)
.
(1)
في (أ): يزرع.
(2)
كتب على هامش (ن): (أمَّا إن كان بقاؤه بتفريطه؛ خُيِّر المالك بين تملُّكه بالقيمة وبين تركه بالأجرة).
(3)
ينظر: الاختيارات (ص 257).
ومنها: الشَّفيع إذا انتزع الأرض وفيها زرع للمشتري؛ فهو محترم، وهل يستحقُّ أجرة المثل على المشتري؟ على وجهين:
أحدهما: لا يستحقُّ شيئاً، وهو المذكور في «المغني» و «التَّلخيص» .
وقال أبو البركات في «تعليقه على الهداية» : هو أصحُّ الوجهين لأصحابنا؛ إلحاقاً له ببيع الأرض المزروعة؛ فإنَّ الأخذ بالشُّفعة نوعُ بيعٍ قهريٍّ.
والثَّاني: أنَّ
(1)
له الأجرة من حين أخذه، ذكره أبو الخطاب في «انتصاره» ، وهو أظهر؛ لأنَّ حقَّ الشفيع في العين والمنفعة جميعاً؛ لوقوع العقد عليهما، وفي ترك الزرع مجاناً تفويتٌ لحقِّه من المنفعة بغير عوض؛ فلا يجوز
(2)
.
القسم السَّادس: احتمل السَّيل بذر إنسان إلى أرض غيره، فنبت فيها، فهل يلحق بزرع الغاصب؛ لانتفاء الإذن من المالك؛ فيتملَّكه بقيمته، أو بزرع المستعير أو المستأجر بعد انقضاء المدَّة؛ لانتفاء العدوان من صاحب البذر؟ على وجهين.
(1)
قوله: (أنَّ) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (و).
(2)
كتب على هامش (ن): (قد يقال: حقُّه في المنفعة الباقية، ومنفعة المشتري بالزِّراعة في معنى المنفعة المستوفاة التالفة، فلا حقَّ له فيها، كما لو أعاره أرضاً للزَّرع، فزرع، ثمَّ رجع؛ لزم تبقيته إلى الحصاد بلا أجرة عند صاحب «المحرر»، لكن قال الأصحاب: وغيره بالأجرة).
أشهرهما: أنَّه كزرع المستعير، وهو اختيار القاضي وابنه أبي الحسين وابن عقيل، وذكره أبو الخطاب عن أحمد.
لكن هل يترك في الأرض مجاناً أو
(1)
بأجرة؟ على وجهين:
أحدهما: يترك مجاناً، قاله القاضي وابن عقيل؛ لأنَّه وإن انتفى عنه إذن المالك؛ فقد انتفى عنه فعل الزَّارع؛ فيتقابلان، ولأنَّه حصل في الأرض بغير تفريط؛ فهو كالقائم في الأرض المبيعة.
والثَّاني: له الأجرة، وذكره أبو الخطاب عن أحمد؛ لأنَّه زرع حصل ابتداؤه في أرض الغير بغير إذنه
(2)
؛ فأوجب الأجرة كالمشتري من الغاصب وهو لا يعلم.
القسم السَّابع: من زرع في أرض غيره بإذن غير لازم- كالإعارة
(3)
-، ثمَّ رجع المالك؛ فالزَّرع مبقًى لمن زرعه إلى أوان أخذه
(4)
بغير خلاف.
لكن هل تجب عليه الأجرة من حين الرُّجوع أم لا؟ على وجهين:
أشهرهما: الوجوب، وهو قول القاضي وأصحابه.
(1)
في (ب): أم.
(2)
كتب على هامش (ن): (في هذا احتراز من زرع المستعير).
(3)
كتب على هامش (ن): (وفي «المقنع»: إذا أعاره أرضاً للزَّرع؛ لم يرجع إلى الحصاد، إلَّا أن يكون ممَّا يحصد قصيلاً فيحصد، وقال في «المحرَّر» بدل قوله: "لم يرجع": فرجع، ففهم منه: أنَّ له الرُّجوع، لكن يكون الزَّرع مبقى لكون ابتدائه كان بالإذن).
(4)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): حصده.
والثَّاني: انتفاؤه؛ لأنَّه دخل على الانتفاع بغير عوض، وهو اختيار صاحب «المحرَّر» ، وظاهرُ كلام أحمد في رواية صالح يشهد له
(1)
.
القسم الثَّامن: من زرع في ملكه الَّذي مُنع من التصرف فيه لحقِّ غيره؛ كالرَّاهن والمؤْجِر، وكان ذلك يضرُّ بالمستأجر وبالمرتهن؛ لتنقيصه قيمة الأرض عند حلول الدَّين؛ فهو كزرع الغاصب، وكذلك غراسه وبناؤه؛ فيقلع الجميع، ذكره القاضي في «خلافه» .
وإنَّما يقلع
(2)
الزَّرع هنا؛ لأنَّ مالك الأرض هو الزَّارع، والمتعلِّق حقُّه بها لا يمكنه تملُّكه؛ لعدم ملكه، فيتعيَّن
(3)
القلع، وفيه نظرٌ.
أمَّا في الرَّهن؛ فيمكن أن يقال: إنَّ نقص الأرض ينجبر برهنيَّة الزَّرع؛ فإنَّه من جملة نماء الأرض، فيدخل في الرَّهن، فلا يجوز قلعه لذلك، مع ما فيه من إتلاف مال الرَّاهن.
وقد صرَّح القاضي في «المجرد» ، وابن عقيل في «الفصول»: بأنَّ الغراس الحادث في الأرض المرهونة بنفسه أو بفعل الرَّاهن يكون رهناً
(4)
؛ لأنَّه من نمائها، والزَّرع مثله.
ولو قيل: إنَّه لا يدخل في الرَّهن؛ فيجوز أن يؤخذ من الرَّاهن أجرةُ مثله، أو ما نقص من قيمة الأرض بسببه ويجعل رهناً.
(1)
جاء في مسائل صالح (3/ 189): (الرجل يعير الرجل الأرض يزرعها: ليس له أن يرجع حتى يدرك الزرع).
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (و): قلع.
(3)
في (ب) و (د) و (و): فتعيَّن.
(4)
قوله: (يكون رهناً): ذكر في (ب) و (و) بعد قوله: الأرض المرهونة.
وقد وقع في كلام أحمد في رواية ابن منصور، وفي كلام ابن أبي موسى: ما يدلُّ على
(1)
جواز انتفاع الرَّاهن بالرَّهن بإذن المرتهن، ويؤخذ منه الأجرة وتجعل رهناً
(2)
، وهذا في معناه.
وأمَّا المستأجر ولا سيَّما إن كان استأجر للزَّرع؛ فيجوز أن يقال: له تملُّك الزَّرع بنفقته؛ إذ هو مالك المنفعة، كما يقال مثله في الزَّرع في أرض الوقف: إنَّ الموقوف عليه يتملَّكه بالنَّفقة؛ لملكه منفعة الأرض.
ويحتمل تخريج ذلك على الوجهين في تملُّك الموقوف عليه للشُّفعة بشركة الوقف، على طريقة من علَّل ثبوتَ الشُّفعة بكونه مالكاً، وانتفاءَها بقصور ملكه؛ فكذلك هنا.
كذا القول في تملُّكه للغراس
(3)
والبناء.
وعلى هذا يتخرَّج ما
(4)
لو غُصبت الأرض الموصى بمنافعها أو
(1)
في (أ): على أنَّ.
(2)
لم نقف على نص هذه الرواية في مسائل ابن منصور، لكن جاء فيها جواز تصرف المرتهن بالرهن بإذن الراهن، ففي (6/ 3036):(قلت: قال سفيان: لو أن الراهن قال للمرتهن: الْبَسْهُ، أو أَعِرْهُ، أو أَكْرِهِ، فقد خرج من الضمان، والرهن؟ قال أحمد: له أن يكري بإذن الراهن، فإذا رجع إليه صار رهناً، ويكون الكراء للراهن، فإذا قال: الْبَسْهُ لم يجز له أن يلبسه إذا كان يأخذ الفضل، ويأخذ حقه، هو رهن على حاله، فإذا قال له: أعره فأعاره، ثم رجع إليه: فهو رهن على حاله، وإذا قال له: ضعه على يَدي عدل، فهو مقبوض للمرتهن، فإن مات الراهن، أو أفلس، كان المرتهن أحق به من الغرماء).
(3)
في (ب): الغراس.
(4)
قوله: (ما): سقط من (أ).
المستأجرة وزُرع فيها؛ فهل يملك الزَّرع
(1)
مالك الرَّقبة أو مالك المنفعة؟
(1)
في (ب): يتملَّكه. وفي (و): يتملك الزرع.
قاعدة [80]
ما يتكرَّر حمله من أصول البقول والخضراوات؛ هل هو ملحق بالزرع أو بالشجر؟ فيه وجهان
.
وينبني على ذلك مسائل:
منها: هل يجوز بيع هذه الأصول مفردة أم لا؟
إن ألحقناها بالشَّجر لتكرُّر حملها؛ جاز، وبه صرَّح القاضي وابن عقيل في موضع.
وفرَّقا في موضع آخر بين ما يتباقى منها سنين كالقطن الحجازيِّ؛ فيجوز بيع
(1)
أصوله، وما لا يتباقى إلَّا سنة ونحوها
(2)
؛ فلا يجوز بيعه إلَّا بشرط القطع؛ إلَّا أن يباع مع الأرض كالزَّرع.
ورجَّح صاحب «التلخيص» : أنَّ المقاثي ونحوها لا يجوز بيعها إلَّا بشرط القطع؛ فإنَّها مع أصولها معرَّضة للآفات كالزَّرع، وهو مقتضى كلام الخرقيِّ وابن أبي موسى.
ومنها: إذا باع
(3)
الأرض وفيها هذه الأصول، فإن قلنا: هي
(1)
في (ب) و (د): مع.
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): أو نحوها.
(3)
في (ب): باعه.
كالشَّجر؛ انبنى على أنَّ الشَّجر هل يدخل في بيع الأرض مع الإطلاق أم لا؟ وفيه وجهان.
وإن قلنا: هي كالزَّرع؛ لم تدخل في البيع وجهاً واحداً.
وللأصحاب في المسألة طريقتان
(1)
:
إحداهما: أنَّ حكمها حكم الشَّجر في تبعيَّة الأرض، وهي طريقة ابن عقيل وصاحب «المحرر» .
والثَّانية: أنَّها تتبع وجهاً واحداً، بخلاف الشَّجر؛ لأنَّ تبقيتها في الأرض معتادٌ، ولا يقصد نقلها وتحويلها؛ فهي كالمنبوذات، وهي طريقة أبي الخطَّاب، وصاحب «المغني» .
وعلى ما قررناه أولاً يخرَّج فيها طريقة ثالثة: أنَّها لا تتبع وجهاً واحداً؛ كالزَّرع
(2)
.
ومنها: إذا غصب أرضاً، فزرع فيها ما يتكرَّر حمله، فإن قيل: هو كالشَّجر؛ فللمالك قلعه مجاناً، وإن قيل: هو كالزَّرع؛ فللمالك تملُّكه بالقيمة، وفي المسألة وجهان مذكوران في «المغني» .
ومنها: لو اشترى لَقَطة ظاهرة من هذه الأصول، فتلفت بجائحة قبل القطع، فإن قيل: حكمها حكم ثمر الشَّجر؛ تلفت من ضمان البائع.
وإن قيل: هي كالزَّرع؛ خُرجِّت على الوجهين في إجاحة الزُّروع.
ومنها: لو ساقى على هذه الأصول، فإن قيل: هي كالشَّجر؛
(1)
في (ب): طريقان.
(2)
من قوله: (وعلى ما قررناه أولاً) إلى هنا سقط من (أ) و (د).
صحَّت المساقاة.
وإن قيل: هي
(1)
كالزَّرع؛ فهي مزارعة.
(1)
قوله: (هي) سقط من (ب) و (د) و (و).
قاعدة [81]
النَّماء المتَّصل في الأعيان المملوكة العائدة إلى من انتقل الملك عنه بالفسوخ
؛ يتبع الأعيان على ظاهر المذهب عند أصحابنا.
والمنصوص عن أحمد: أنَّه لا يتبع، وهو الَّذي ذكره الشِّيرازيُّ في «المبهج» ، ولم يحكِ فيه خلافاً، وهو اختيار ابن عقيل، صرَّح به في كتاب الصَّداق، والشَّيخ تقيِّ الدَّين
(1)
.
ويتبع الأصل في التَّوثقة والضَّمان على المشهور.
ويتخرَّج على ذلك مسائل:
منها: المردود بالعيب إذا كان قد زاد زيادة متَّصلة؛ كالسِّمَن وتعليم صناعة؛ فالمشهور عند الأصحاب: أنَّ الزِّيادة للبائع تبعاً لأصلها، ولا يستحقُّ المشتري عليه شيئاً.
وصرَّح ابن عقيل: بأن الزيادة للمشتري.
وكذلك قال الشِّيرازيُّ، وزاد: أنَّه يرجع على البائع بقيمة النَّماء.
وكذلك
(2)
ذكره الشَّيخ تقيُّ الدِّين، وأخذه من عموم كلام أحمد في رواية أبي طالب: إذا اشترى غنماً فنمت ثمَّ استُحقَّت؛ فالنَّماء له، قال:
(1)
ينظر: الاختيارات (ص 186).
(2)
في (ب): وهو كذلك. وقد سقطت من (د).
وهذا يعمُّ المتَّصل والمنفصل
(1)
.
قلت: وقد نصَّ أحمد على الرُّجوع بقيمة النَّماء المتصل صريحاً كما قال الشيرازي في رواية ابن منصور فيمن اشترى سلعة، فنمت عنده وكان بها داءٌ؛ فإن شاء المشتري حبسها ورجع بقدر الدَّاء، وإن شاء ردها ورجع عليه بقدر النماء
(2)
.
وتأوَّلها القاضي على أنَّ النَّماء المنفصل يردُّه معها، وهو ظاهر الفساد؛ لأنَّ الضَّمير في قوله:(رجع) يعود إلى المشتري، وفي قوله:(عليه) يعود إلى البائع، وإنَّما يرجع المشتري على البائع بقيمة النَّماء المتَّصل.
ووجه الإجبار هنا على دفع القيمة: أنَّ البائع قد أُجبِر على أخذ سلعته وردِّ ثمنها؛ فكذلك نماؤها المتَّصل بها يتبعها في حكمها وإن لم يقع عليه العقد.
والمردود بالإقالة والخيار يتوجَّه فيه مثل ذلك؛ إلَّا أن يقال: الفسخ للخيار رفع للعقد من أصله، بخلاف العيب والإقالة، وقد صرَّح بذلك القاضي وابن عقيل في «خلافيهما» ، وفيه بُعد.
ومنها: المبيع إذا أفلس مشتريه قبل نقد الثَّمن، ووجده البائع قد نما نماء متَّصلاً؛ قال القاضي وأصحابه: يرجع به، ولا شيء للمفلس، وكذلك ابن أبي موسى ذكر الرُّجوع، وهو مأخوذ ممَّا روى الميمونُّي
(1)
ينظر: الاختيارات (ص 186).
(2)
مسائل ابن منصور (6/ 2706).
وإسحاق بن إبراهيم عن أحمد: إذا زادت العين أو نقصت يرجع في الزِّيادة والنُّقصان، ولفظ رواية إسحاق: قيل له: فإن كان زاد أو نقص يوم اشتراه؟ قال: هو أحقُّ به زاد أو نقص
(1)
.
وهذا يحتمل أن يراد به زيادة السعر ونقصانه، وإن استبعد ذلك؛ فليس في استحقاق الرُّجوع
(2)
ما ينافي مطالبته بقيمة الزِّيادة، كما لو كانت الزِّيادة صِبغاً في الثَّوب.
وقال الخرقي: ليس له الرجوع.
وذكر القاضي في كتاب الهبة من «خلافه» : أنَّه منصوص أحمد؛ فيكون أسوةَ الغرماء، كما لو طلَّق الزَّوج قبل الدخول وقد زاد الصَّداقُ زيادة متصلة.
وفارق
(3)
الرَّدَّ بالعيب عند من سلَّمه: بأنَّ الرَّدَّ بالعيب قد رضي المشتري بردِّه بزيادته بخلاف المفلس، ولأنَّ الرَّدَّ بالعيب استند إلى سبب مقارن للعقد، والفسخ هنا استند إلى سبب حادث، وهو حكم الحاكم؛ فهو شبيه بالطَّلاق قبل الدُّخول.
وينتقض الأوَّل: بما لو اشترى عبداً بثوب، فوجد صاحب الثَّوب به عيباً؛ فإنَّه يرده ويأخذ العبد؛ وإن كان قد سمن.
والثَّاني: بما لو باعه عيناً بعد إفلاسه وقبل حجر الحاكم؛ فإنَّ
(1)
ينظر: مسائل ابن هانئ (2/ 22)
(2)
في (ب): الرُّجوع استحقاق.
(3)
في (ب): فارق.
حجره إنَّما هو معتبر لثبوت الفلس وظهوره، وقد سبق نصُّ أحمد بذلك.
وأيضاً: فلو باعه بعد الحجر ولم يعلم؛ فإنَّه يرجع في أحد الوجهين.
وفرَّق الأوَّلون بين رجوع البائع ههنا وبين الصَّداق: بأنَّ الصَّداق يُمْكِن الزَّوجَ الرُّجوعُ إلى بدله تامًّا، بخلاف البائع؛ فإنَّه لا يُمْكِنه الوصول إلى حقِّه تامًّا إلَّا بالرُّجوع.
وهو ضعيف؛ لأنَّ اندفاع الضَّرر عنه بالبدل لا يُسقط حقَّه من العين لو كان ثابتاً، ثمَّ يبطل بما لو كانت الزَّوجة مفلسة، فإن حقَّه لا يثبت في العين؛ فبطل الفرق.
ويتخرَّج من رواية ابن منصور في الرد بالعيب
(1)
: أن يرجع البائع ههنا ويردَّ قيمة الزيادة، كما لو صبغ المفلس الثَّوب.
ومنها: ما وهبه الأب لولده إذا زاد زيادة متَّصلة؛ فهل يمنع رجوع الأب أم لا؟ على روايتين معروفتين.
والمنصوص عن أحمد في رواية ابن منصور: امتناع الرُّجوع.
وعلى القول بجوازه؛ فلا شيء على الأب للزِّيادة؛ لأنها تابعة لما يباح له من مال ولده؛ فهو بالرُّجوع والقبض متملِّك لها.
(1)
جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2709): قلت: رجل اشترى ثوباً فقطعه قميصاً، ثم رأى به عيباً؟ قال: إذا رأى به عيباً؛ فإن شاء رد القميص ورجع البائع على المشتري بقدر النقصان من القطع، وإن شاء حبسه المشتري، ورجع على البائع بقدر الذي نقص من القيمة.
ومنها: إذا أصدقها شيئاً فزاد زيادة متَّصلة، ثمَّ طلَّقها قبل الدخول؛ لم يكن له الرجوع في نصفه، وسقط حقُّه منه إلى قيمة النِّصف، ذكره الخرقيُّ، ولم يُعلم عن أحد من الأصحاب خلافه؛ حتَّى جعله القاضي في «المجرد» رواية واحدة.
وفرَّق بينه وبين بائع المفلس: بأنَّ فسخ البائع رفعٌ للعقد من أصله، والطَّلاق قاطع للنِّكاح من حينه؛ فلا يكون للزَّوج حقٌّ في الزيادة.
وهذا ممنوع؛ فإنَّ الفسخ بالفلس رفعٌ للعقد من حينه أيضاً؛ فهو كالطَّلاق.
وخرَّج صاحب «المحرر» : الرُّجوع في النِّصف بزيادته المتَّصلة من الرِّواية المحكيَّة عن أحمد بالرُّجوع في نصف الزيادة المنفصلة وأولى، وسنذكر أصل هذه الرِّواية فيما بعد، إن شاء الله تعالى
(1)
.
ويتخرَّج وجه آخر: برجوعه في النِّصف بزيادته، وبردِّ قيمة الزِّيادة كما في الفسخ بالعيب على ما تقدَّم.
وهذا إذا كانت العين يمكن فصلها وقسمتها، وإن لم يمكن؛ فهو شريك بقيمة النِّصف يوم الإصداق.
ومنها: إذا اشترى قصيلاً
(2)
بشرط القطع، فتركه حتَّى سنبل واشتدَّ، أو ثمراً لم يبدُ صلاحه بشرط القطع، فتركه حتَّى بدا صلاحه؛ فهل
(1)
ينظر ص
…
ظظ القاعدة 82
(2)
قال في المصباح المنير (2/ 506): (القصيل: وهو الشعير يجز أخضر لعلف الدواب).
يبطل البيع بذلك أم لا؟ فيه روايتان.
أشهرهما: أنَّه يبطل، وهو اختيار الخرقيِّ، وأبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي، والأكثرين.
وللبطلان مأخذان:
أحدهما: أنَّ تأخيره
(1)
محرَّم لحقِّ الله عز وجل، فأبطل البيع؛ كتأخير القبض في الرِّبوبيَّات، ولأنَّه وسيلة إلى شراء الثَّمرة وبيعها قبل بدوِّ صلاحها، وهو محرَّم، ووسائل المحرَّم ممنوعة، وبهذا علَّل أحمد في رواية أبي طالب
(2)
.
والمأخذ الثَّاني: أنَّ مال المشتري اختلط بمال البائع قبل التَّسليم على وجه لا يتميَّز منه؛ فبطل به البيع، كما لو تلف؛ فإنَّ تلفه في هذه الحال يبطل البيع؛ لضمانه على البائع.
فعلى المأخذ الأوَّل: لا يبطل البيع إلَّا بالتَّأخير إلى بدوِّ الصَّلاح واشتداد الحبِّ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب
(3)
، وظاهر كلام الخرقيِّ، ويكون تأخيره إلى ما قبل ذلك جائزاً.
وقد نصَّ أحمد في رواية الحسن بن ثوَّاب
(4)
على أنَّه إذا أخَّره حتَّى
(1)
في (ب) و (ج) و (د): تأخُّره.
(2)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 335).
(3)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 334).
(4)
كتب على هامش (ن): (رأيتها في النُّسخة المعتمدة مضبوطة بالقلم بتشديد الواو).
تلف بعاهة قبل صلاحه: أنَّه من ضمان البائع، معلِّلاً بأنَّ هذا شيء في ملك البائع ونخله.
فلمَّا علَّل باتصاله بملك البائع؛ عُلم أنَّ البيع لم يكن منفسخاً قبل تلفه، ولا كان التَّأخير تفريطاً، ولو كان المشترَى رطبة أو ما أشبهها من النَّعناع والهندباء، أو صوفاً على ظهرٍ فتركها حتَّى طالت؛ لم ينفسخ البيع؛ لأنَّه لا نهيَ في بيع هذه الأشياء، وهذه طريقة القاضي في «المجرَّد» .
وعلى المأخذ الثَّاني: يبطل البيع بمجرَّد الزِّيادة واختلاط المالين؛ إلَّا أنَّه يعفى عن الزِّيادة اليسيرة؛ كاليوم واليومين، نصَّ
(1)
على ذلك أحمد في رواية أحمد
(2)
بن سعيد
(3)
، ولا فرق بين الثَّمر والزَّرع وغيرهما من الرَّطبة والبقول والصُّوف، وهي طريقة أبي بكر عبد العزيز، والقاضي في «خلافه» ، وصاحب «المغني» .
وبمثل ذلك أجاب أبو الحسن الخرزيُّ
(4)
فيمن اشترى خشباً ليقطعه، فتركه حتَّى اشتدَّ وغلظ: أنَّ البيع ينفسخ، ومتى تلف بجائحة
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): ونصَّ.
(2)
في (ب): علي.
(3)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 334).
(4)
هو أبو الحسن الخرزي البغدادي، كان له قدم في المناظرة ومعرفة الأصول والفروع، صحب جماعة من الحنابلة، وتخصص بصحبة أبي علي النجاد، وكانت له حلقة بجامع القصر، وأحد تلامذته: أبو طاهر بن الغباري. ينظر: طبقات الحنابلة 2/ 167.
بعد التَّمكُّن من قطعه؛ فهو من ضمان المشتري.
وهو مصرَّح به في «المجرد» و «المغني» ، وتكون الزَّكاة على البائع على هذا المأخذ بغير إشكال.
وأمَّا على الأوَّل؛ فيحتمل أن يكون على المشتري؛ لأنَّ ملكه إنَّما ينفسخ بعد بدوِّ الصَّلاح، وفي تلك الحال تجب الزَّكاة؛ فلا تسقط بمقارنة الفسخ على رأي من يرى جواز اقتران الحكم ومانعه كما سبق، ويحتمل أن يكون على البائع.
ولم يذكر الأصحاب فيه خلافاً؛ لأنَّ الفسخ ببدوِّ الصَّلاح استند إلى سبب سابق عليه، وهو تأخير القطع.
وقد يقال: ببدوِّ الصَّلاح يتبيَّن انفساخ العقد من حين التَّأخير.
ونقل أبو طالب عن أحمد فيما إذا
(1)
تركه حتَّى صار شعيراً: إن أراد الحيلة؛ فسد البيع
(2)
.
فمن الأصحاب من جعل هذه رواية ثالثة بالبطلان مع قصد التَّحيُّل على شراء الزَّرع قبل اشتداده للتَّبقية؛ كابن عقيل في «التَّذكرة» .
ومنهم من قال: بل متى تعمَّد الحيلة؛ فسد البيع من أصله، ولم ينعقد بغير خلاف، وإنَّما الخلاف فيما إذا لم يقصد الحيلة ثمَّ تركه حتَّى بدا صلاحه؛ كصاحب «المغني» .
ومنهم من قال: قصد الحيلة إنَّما يؤثر في الإثم لا في الفساد
(1)
قوله: (فيما إذا) سقط من (ب).
(2)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 334).
وعدمه، وهي طريقة القاضي.
وإذا تقرَّر هذا؛ فالزِّيادة إنَّما تعلم باختلاف القيمة؛ لعدم تميُّزها في نفسها، وهي تفاوت ما بين القيمة يوم الشِّراء وبعد الزِّيادة الحادثة بعده، كذلك قال القاضي في «المجرد» ، ونصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور كما سيأتي
(1)
، وهو متمشٍّ على المأخذ الثَّاني في الانفساخ بمجرَّد الزِّيادة بعد العقد.
وأمَّا على المأخذ الأوَّل؛ فالزِّيادة هي تفاوت ما بين القيمة قبيل
(2)
بدوِّ الصَّلاح وبعده؛ لأنَّه لم يزل على ملك المشتري إلى وقت ظهور الصَّلاح، وبذلك جزم في «الكافي» ، وحكاه في «المغني» احتمالاً عن القاضي.
وبقي الكلام في حكم الزِّيادة على الرِّوايتين.
أمَّا على رواية الانفساخ؛ ففيها روايتان:
إحداهما: أنَّها للبائع، وهي اختيار ابن أبي موسى والقاضي، ونقلها أبو طالب وغيره عن أحمد
(3)
؛ لأنَّ البيع متى انفسخ؛ يعود إلى بائعه بنمائه المتصل؛ كسمن العبد ونحوه، بل ههنا أولى؛ لأنَّه نما من تبقيته على ملكه، فحقُّه فيه أقوى.
والَّثانية: يتصدقان بها مع فساد البيع، قال القاضي في «المجرد»
(1)
ينظر: ص ..... ظظ
(2)
في (ب) و (و): قبل.
(3)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 334).
وكتاب
(1)
«الرِّوايتين»
(2)
: نقلها حنبل، قال: وهي محمولة عندي على الاستحباب؛ لوقوع الخلاف
(3)
في صحَّة العقد وفساده ومستحِق النَّماء؛ فاستحبَّ الصَّدقة به.
وأنكر الشَّيخ مجد الدِّين ثبوت هذه الرِّواية، وقال: هي سهوٌ من القاضي، قال: وإنَّما ذكرها القاضي في «خلافه» مستدلًّا بها على الصِّحَّة، فأمَّا مع الفساد؛ فلا وجه لهذا القول.
وأما ابن أبي موسى؛ فقال: وعنه يتصدَّق البائع بالفضل؛ لأنَّه نماء في غير ملكه.
وهذا التَّعليل ترد عليه الزِّيادة في المردود بالعيب ونحوه، ولكنَّ
(4)
المراد: أنَّ هذه الزِّيادة عادت إليه؛ لانفساخ العقد على وجه منهيٍّ عنه في الشرع، بخلاف الرَّدِّ بالعيب.
ثمَّ حكى رواية ثالثة: باشتراك البائع والمشتري في الزيادة.
وهذه الرِّواية ترجع
(5)
إلى القول: بأنَّ الزِّيادة المتصلة لا تتبع
(6)
في الفسخ، بل تبقى على ملك المشتري، وإنَّما شاركه البائع فيها لأنَّها نمت من ملكه وملك المشتري، ولولا ذلك؛ لانفرد بها المشتري
(7)
.
(1)
قوله: (كتاب) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و).
(2)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 334).
(3)
في (ب): الإطلاق.
(4)
في (ب) وباقي النسخ: لكنَّ.
(5)
في (أ) و (ج) و (د): يرجع.
(6)
في (أ) و (ج) و (د): يتبع.
(7)
زاد في (ب) و (و): فإن قيل: لا يلزم تخريجها على هذا الأصل.
وخصَّ ابن أبي موسى هذا الخلاف بالثِّمار، فأمَّا الزَّرع؛ فلم يذكر فيه خلافًا أنَّ الزِّيادة للبائع.
وأمَّا على رواية الصِّحَّة؛ ففي حكم الزِّيادة ثلاث روايات:
إحداهنَّ: أنَّهما يشتركان فيها، نقلها أحمد بن سعيد
(1)
؛ لحدوثها على ملكيهما كما سبق.
وحملها القاضي على الاستحباب، ولا يصحُّ.
وبالاشتراك أجاب أبو حفص البرمكيُّ فيمن اشترى خشباً للقطع، فتركه حتَّى اشتدَّ وغلظ.
والثَّانية: يتصدَّقان بها، وأخذها القاضي في «خلافه» من رواية حنبل، وتلك قد صرَّح أحمد فيها
(2)
بفساد البيع على ما حكاه القاضي أيضاً في «المجرد» وكتاب «الرِّوايتين» ، ثم قال: وهذا عندي على الاستحباب؛ للنهي عن ربح ما لم يضمن، وهذا لم يضمن على المشتري؛ فكره له ربحه، وكره للبائع؛ لحدوثه على ملك المشتري
(3)
.
وكذلك مال صاحب «المغني» إلى حملها على الاستحباب؛ لأنَّ الصَّدقة بالشُّبهات تستحبُّ
(4)
، وهذه شبهة؛ لاشتباه الأمر في مستحِقِّها، ولحدوثها بجهة محظورة.
(1)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 335).
(2)
في (ب) و (ج) و (هـ): فيها أحمد.
(3)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 335).
(4)
في (ب): مستحب. وفي (ج): يستحب. وفي (د) و (هـ): مستحبَّة.
ويشبه
(1)
هذه الرِّواية ما نصَّ عليه أحمد في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب: أنَّه يتصدَّق به، وفيمن آجر ما استأجره بربح: أنَّه يتصدق به؛ لدخوله في ربح ما لم يضمن.
والرِّواية الثَّالثة: أنَّ الزِّيادة كلَّها للبائع، نقلها القاضي في «خلافه» في مسألة زرع الغاصب، ونصَّ عليها أحمد في رواية ابن منصور فيمن اشترى قصيلاً فتركه حتَّى سنبل؛ يكون للمشتري منه بقدر ما اشترى يوم اشترى، فإن كان فيه فضلٌ؛ كان للبائع صاحب الأرض، قيل له: وكذلك النخل إذا اشتراه ليقلعه
(2)
فطلع؟ قال: كذلك في النَّخل، فإن كان فيه زيادة؛ فهو لصاحب الأرض البائع
(3)
.
ووجَّهه القاضي: بأنَّ الزِّيادة من نماء ملك البائع؛ فهي كالربح في المال المغصوب، فإنَّه لصاحب المال دون الغاصب، ويُلغى تصرُّفه فيه؛ لكونه محظوراً، كذلك ههنا.
ويمكن أن يفرَّق بينه وبين تصرُّف الغاصب: بأنَّ الغاصب إنَّما له آثار عمل؛ فألغيت، وهنا للمشتري عين مال نمت؛ فكيف يسقط حقُّه من نمائها؟!
ويجاب عنه: بأنَّ المشتري إنَّما يستحقُّ بالعقد ما وقع عليه البيع
(4)
(1)
في (أ): وتشبه.
(2)
في (ب): ليقطعه.
(3)
مسائل ابن منصور (9/ 4635).
(4)
في (ب): العقد.
من الثمرة، وما زاد على ذلك فلا حقَّ له فيه، وهذا البيع لم يتمَّ قبضه فيه
(1)
ولا دخل في ضمانه؛ فلا يستحقُّ أن يقبض غير ما وقع عليه البيع بمقتضى عقده.
وحمل القاضي قول أحمد ههنا: (وكذلك النَّخل إذا اشتراه ليقلعه): على أنَّه اشترى جذوعه ليقطعها.
وقال الشيخ مجد الدِّين: (يحتمل عندي أن يقال: بأنَّ زيادة الثَّمرة في صفتها للمشتري، وما طال من الجزَّة للبائع؛ لأنَّ هذه الزيادة لو فرضنا أن المشتري كان قد جزَّ ما اشتراه؛ لأمكن وجودها، ويكون للبائع؛ فكذلك إذا لم يَجزَّ) انتهى.
واختار القاضي خلاف ذلك كلِّه، وأنَّ الزيادة كلَّها للمشتري مع صحة العقد، وللبائع مع فساده، ولم يثبت في كتاب «الرِّوايتين» في المذهب في هذا خلافاً.
وما قاله من انفراد المشتري بالثَّمرة بزيادتها مخالف لجميع نصوص أحمد، وقياسه كذلك على سِمَن العبد غير صحيح؛ لأنَّ هذه الزِّيادة نمت من أصل البائع مع استحقاق إزالتها عنه، بخلاف سِمَن العبد وطوله.
ولو قال مع ذلك بوجوب الأجرة للبائع إلى حين القطع؛ لكان أقرب، كما أفتى به ابن بطَّة فيمن اشترى خشباً للقطع فتركه في أرض البائع حتى غلظ واشتد: أنَّه يكون بزيادته للمشتري، وعليه لصاحب
(1)
قوله: (فيه) سقط من (أ) و (و).
الأرض أجرة أرضه للمدَّة الَّتي تركها فيه، وأخذه من غرس الغاصب.
ولكن تبقية الشَّجر في الأرض له أجرة معتبرة، وكذلك الزَّرع، وأمَّا تبقية الثَّمر على رؤوس الشَّجر؛ فلا يُستحقُّ له
(1)
أجرةٌ بحال، ذكره القاضي في التفليس.
وحكم العرايا إذا تركت في رؤوس النخل حتى أثمرت حكم الثمر إذا ترك حتى يبدو صلاحه عند القاضي وأكثر الأصحاب.
ومنهم من لم يحك خلافاً في البطلان في العريَّة، بخلاف الثَّمر والزرع؛ كالحلوانيِّ وابنه.
ويفرَّق بينهما: بأن بيع العرايا رخصة مستثناة من المزابنة المحرَّمة، شرعت للحاجة إلى أكل الرُّطب وشرائه بالتَّمر، فإذا تُرك حتَّى صار تمراً؛ فقد زال المعنى الَّذي شُرعت لأجله الرُّخصة، وصار بيع تمر بتمر؛ فلم
(2)
يصحَّ إلَّا بيقين المساواة، والله أعلم.
وأمَّا العقود؛ فيتبع فيها النَّماء الموجود حين ثبوت الملك بالقَبول أو غيره؛ وإن لم يكن موجوداً حين الإيجاب أو ما يقوم مقامه.
فمن ذلك: الموصى به إذا نما نماء متَّصلاً بعد الموت وقبل القبول؛ فإنَّه يتبع العين إذا احتمله الثُّلث، ذكره صاحب «المغني» .
وقال صاحب «المحرر» : إن قلنا: لا ينتقل الملك إلَّا من حين القبول؛ فالزِّيادة محسوبة عليه من الثُّلث، وإن قلنا: يثبت من حين
(1)
قوله: (له) سقط من (ب).
(2)
في (أ) و (ج): فلا.
الموت؛ فالزِّيادة له غير محسوبة عليه من التَّرِكة؛ لأنَّها نماء ملكه
(1)
، والله أعلم.
ومنه: الشِّقص المشفوع إذا كان فيه شجرٌ فنما قبل الأخذ بالشُّفعة؛ فإنَّه يأخذه بنمائه بالثَّمن الَّذي وقع عليه العقد، ولا شيء عليه للزِّيادة.
وكذلك لو كان فيه ثمر أو زرع، فنما وقلنا: يتبع في الشُّفعة كما هو أحد الوجهين فيهما.
ولو تأبَّر الطَّلع المشمول بالبيع في يد المشتري، ثمَّ أخذه الشَّفيع؛ ففي تبعيَّته وجهان؛ لتعلُّق حقِّه بالطَّلع ونمائه.
ومنه: لو اشترى رجل من أهل الحرب ما استولوا عليه من مال مسلم، ثمَّ نما عند المشتري نماء متَّصلاً حتَّى زادت قيمته؛ فإنَّه يأخذه بالثَّمن الَّذي اشتراه به، ولا شيء عليه للزِّيادة، نصَّ عليه أحمد في رواية مهنى.
وأمَّا تبعيَّة النَّماء في عقود التَّوثقة
(2)
، فإنَّه يتبع في الرَّهن، وأموال الزكاة، والجاني، والتَّركة المتعلِّق بها حقُّ الغرماء وإن قيل بانتقال ملكها إلى الورثة؛ لأنَّ التَّعلُّق فيها إمَّا تعلُّق رهن أو جناية، والنَّماء المتَّصل تابع فيهما، صرح القاضي وابن عقيل بذلك كلِّه
(3)
في كلامهما.
(1)
كتب على هامش (ن): (الَّذي في المحرَّر: ومن قَبِل ما وصَّى له به تبينا أنَّه ملكه عقيب الموت، وقيل: هو قبل القبول للوارث، فيختصُّ بنمائه المنفصل بينهما، وقيل: هو على ملك الميِّت، فيتوفَّر بنمائه ثلثه).
(2)
في (أ) و (ج): التَّوثق. وفي (د): الموثقة.
(3)
قوله: (كلِّه) سقط من (أ).
وأمَّا عقود الضَّمان؛ فيتبع في الغصب على ظاهر المذهب.
وحكى ابن أبي موسى فيه رواية أخرى: أنَّه لا يتبع، ولا يكون النَّماء المتَّصل الحادث في يد الغاصب مضموناً إذا ردَّ الأصل كما قبضه، وقياسه العارية؛ لأنَّ الانتفاع حاصل به؛ فيصير حكمه حكم الأصل؛ كنماء العين المستأجرة.
ويتبع أيضاً في الصَّيد الَّذي في يد المحرم.
وفي نماء المقبوض بعقد فاسد وجهان معروفان.
قاعدة [82]
النَّماء
(1)
المنفصل تارة يكون
(2)
متولِّداً من عين الذَّات؛ كالولد والطَّلع والصُّوف واللبن والبيض
.
وتارة يكون
(3)
متولِّداً من غيرها واستُحقَّ بسبب العين؛ كالمهر والأجرة والأرش.
والحقوق المتعلقة بالأعيان ثلاثة: عقود، وفسوخ، وحقوق تتعلَّق بغير عقد ولا فسخ
(4)
.
فأمَّا العقود؛ فلها حالتان:
إحداهما: أن ترد على الأعيان بعد وجود نمائها المنفصل؛ فلا يتبعها النَّماء، وسواء كان من العين أو غيرها؛ إلَّا ما كان متولِّداً من العين في حال اتِّصاله بها واستتاره
(5)
وتغيُّبه فيها بأصل الخلقة؛ فإنَّه يدخل تبعًا؛ كالولد واللبن والبيض والطَّلع غير المؤبَّر، أو كان ملازماً
(1)
في (ب) و (د) و (هـ): والنَّماء.
(2)
في (أ) و (د): تكون.
(3)
في (أ): تكون.
(4)
كتب على هامش (ن): (أي: تتعلَّق بالأعيان، لكن بغير عقد ولا فسخ).
(5)
في (أ): واستناده.
للعين لا يفارقها عادة؛ كالشعر والصوف؛ فإنها تلحق
(1)
بالمتَّصل في استتباع العين.
وفي «المجرد» و «الفصول» وجه في الرهن: أنه لا يدخل فيه صوف الحيوان ولبنه، ولا ورق الشجر المقصود، وهو بعيد.
وأمَّا المنفصل البائن
(2)
؛ فلا يتبع بغير خلاف، إلا في التدبير؛ فإن في استتباع الأولاد فيه روايتين.
والحالة الثَّانية: أن يحدث النماء بعد ورود العقد على العين؛ فينقسم العقد إلى تمليك وغيره:
فأما عقود التمليكات المنجَّزة؛ فما ورد منها على العين والمنفعة بعوض أو غيره؛ فإنَّه يستلزم استتباع النَّماء المنفصل من العين وغيره؛ كالبيع، والهبة، والعتق وعوضه، وعوض الخلع، والكتابة، والإجارة، والصداق، وغيرها.
وما ورد منها على العين المجردة من غير منفعة؛ كالوصيَّة بالرَّقبة دون المنافع، والمشتري لها من
(3)
مستحِقِّها على القول بصحَّة البيع؛ فلا يتبع فيه النَّماء من غير العين.
وفي استتباع الأولاد وجهان؛ بناء على أن الولد كسب أو جزء.
(1)
في (ب): يلحق.
(2)
في (ب): اليابس.
(3)
قوله: (من): سقط من (أ).
وما ورد منها على المنفعة المجرَّدة؛ فإن عمَّ المنافع؛ كالوقف والوصية بالمنفعة؛ تبع فيه
(1)
النَّماء الحادث من العين وغيرها، إلا الولد، فإن فيه وجهين مصرَّحاً بهما في الوقف، ويخرَّجان في غيره؛ بناء على أنَّه جزء أو كسب.
وفي أرش الجناية على الطَّرف بالإتلاف احتمالان مذكوران في «الترغيب» : هل هو للموقوف عليه كالفوائد
(2)
، أو يشترى به شقصٌ يكون وقفاً كبدل الجملة؟
فإن كانت الجناية بغير إتلاف
(3)
؛ فالأرش للموقوف عليه وجهاً واحداً.
وإن كان العقد على منفعة خاصَّة لا يتأبد
(4)
؛ كالإجارة؛ فلا يتبع فيه شيء من النَّماء المنفصل بغير خلاف.
وأمَّا عقود غير التَّمليكات المنجَّزة؛ فنوعان:
أحدهما: ما يؤول إلى التَّمليك، فما كان منه لازماً لا يستقل العاقد أو من يقوم مقامه بإبطاله من غير سبب؛ فإنه يتبع فيه النماء المنفصل من العين وغيرها.
ويندرج في ذلك صور:
(1)
في (ب): يتبع فيه. وفي (و): يتبع فيها.
(2)
قوله: (كالفوائد) سقط من (أ).
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: بل بتعطيل منفعته).
(4)
في (ج) و (د) و (هـ) و (و): تتأبد.
منها: المكاتبة؛ فتملك أكسابها، وتتبعها
(1)
أولادها بمجرَّد العقد.
ومنها: المكاتب يملك أكسابه، ويتبعه أولاده من أمته؛ كما يتبع الحرَّ ولدُه من أمته، ولا يتبعه ولده من أمة لغيره.
ومنها: الموصى بعتقه إذا كسب بعد الموت وقبل إعتاق الورثة؛ فإن كسبه له، ذكره القاضي وابن عقيل وصاحب «المحرَّر» ؛ لأنَّ إعتاقه واجب لحقِّ الله تعالى، ولا يتوقَّف على قبول؛ فهو كالمعتَق، بخلاف الوصيَّة لمعيَّن.
وقال صاحب «المغني» في آخر باب العتق: كسبه للورثة؛ كأم الولد.
ولكن يمكن التَّفريق بينهما: بأنَّ أمَّ الولد مملوكة لسيِّدها، والموصى بعتقه غير مملوك للورثة؛ لأنَّ الوصيَّة تمنع انتقاله إليهم، وإذا قيل: هو على ملك الميت؛ فهو ملك تقديريٌّ لا يمنع من استحقاق الكسب.
ولو
(2)
كانت
(3)
أمة، فولدت قبل العتق وبعد الموت؛ تبعها
(4)
الولد؛ كأم الولد، هذا هو الظَّاهر
(5)
.
(1)
في (ب) و (هـ): يتبعها.
(2)
في (ب) و (ج) و (د): فلو.
(3)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): كان.
(4)
في (ب): يتبعها.
(5)
في (ب): ظاهر المذهب.
وقال القاضي في «تعليقه» : لا يعتق.
ومنها: المعلَّق عتقه بوقت أو صفة بعد الموت؛ كمن قال لعبده: إن متُّ ثم دخلت الدار فأنت حر، أو أنت حرٌّ بعد موتي بسنةٍ، وصحَّحنا ذلك؛ فكسبه بين الموت ووجود شرط العتق للورثة، ذكره القاضي وابن عقيل وصاحب «المغني» ؛ كأمِّ الولد، بخلاف الموصى بعتقه؛ لأنَّ ذاك أوجب عتقه في الحال، وهذا يتردَّد
(1)
في وجود شرط عتقه؛ فإنَّه قد يجيء الوقت المعين بعد موته وقد لا توجد الصِّفة؛ حتى ذكر في «المغني» في منع الوارث من التصرف فيه قبل الصفة احتمالين، وصرح صاحب «المستوعب» بأنَّه باقٍ على حكم ملك الميت لا ينتقل إلى الورثة كالموصى بعتقه.
وعلى هذا؛ فيتوجَّه أنَّ كسبه له، وما قيل من احتمال موته قبل الصِّفة؛ معارض باحتمال موت الموصى بعتقه قبل العتق.
وأمَّا إن كانت أمة وولدت بعد الموت؛ فهو تابع لها؛ كأمِّ الولد، صرَّح به القاضي وابن عقيل، وهو متوجِّه سواء قيل: إنَّ هذا العقد تدبير؛ كقول ابن أبي موسى والقاضي في «خلافه» ، أو قيل: إنَّه تعليق؛ كقول القاضي في «المجرَّد» وابن عقيل؛ فإنَّه تعليق
(2)
لازم مستقرٌّ، لا يمكن إبطاله؛ فهو كالكتابة، وهذا يشهد لما ذكرنا من تبعية الولد في
(1)
في (ب): متردِّد.
(2)
في (ب): تعلُّق.
الَّتي قبلها.
ومنها: الموصى بوقفه إذا نما بعد الموت وقبل إيقافه؛ أفتى
(1)
الشَّيخ تقيُّ الدين: أنَّه يصرف مصرف الوقف؛ لأنَّ نماءه
(2)
قبل الوقف كنمائه بعده
(3)
.
ونقل يعقوب بن بختان وإبراهيم بن هانئ عن أحمد فيمن جعل مالاً في وجوه البرِّ فاتَّجر به الموصي؛ قال: إن ربح؛ جعل ربحه مع المال فيما أوصى به، وإن خسر كان ضامناً
(4)
.
فهذا إن كان مراده إذا وصَّى بتفرقة عين المال؛ فواضح، وإن كان وصَّى أن يشتريَ منه ما ينمو أو يوقف أو يتصدَّق بنمائه؛ كان
(5)
كما أفتى به الشَّيخ
(6)
.
ومنها: الموصى به لمعيَّن يقف على قبوله، إذا نما
(7)
بعد الموت وقبل القبول نماء منفصلاً؛ فينبني على أنَّ الملك قبل القبول؛ هل هو
(1)
في (ب) و (د) و (هـ): فأفتى.
(2)
في (ب): نماء.
(3)
ينظر: الاختيارات (ص 274).
(4)
تنظر الرِّوايتان في الوقوف والترجل من مسائل أحمد (ص 74).
(5)
زيد في (هـ): تمليكاً.
(6)
قوله: (الشَّيخ) سقط من (ب). ومن قوله: (ونقل يعقوب بن بختان) إلى هنا سقط من (أ) و (ج) و (د) و (و).
(7)
في (أ) و (هـ): إذ النماء.
للوارث، أو للميِّت، أو للموصى له
(1)
(2)
؟ وفيه ثلاثة أوجه.
فإن قيل: إنَّه للوارث، فهو مختصٌّ بنمائه.
وإن قيل: هو على ملك الميِّت، فنماؤه من التَّركة.
وإن قيل: إنَّه للموصى له بمعنى: أنَّا نتبيَّن بقبوله مِلكَه بالموت، أو قيل: إنَّه لا يتوقف ملكه على قبول؛ فنماؤه كلُّه للموصى له.
ومنها: النَّذر والصَّدقة والوقف إذا لزمت في عين لم يَجُز لمن أخرجها عن ملكه أن يشتري شيئًا من نتاجها، نص عليه أحمد في الوقف والصَّدقة
(3)
في رواية حنبل
(4)
.
ولو اشترى عبداً فأعتقه، ثم بان به عيب فأخذ أرشه؛ فهل يملكه لنفسه، أو يجب عليه صرفه في الرقاب؟ على روايتين.
(1)
في (ب): به.
(2)
كتب على هامش (د): (قال في الإنصاف: هو للورثة على الصحيح من المذهب، قال في مسألة الموصى بوقفه: وأفتى به الشيخ تقي الدين والشيخ عماد الدين السكري الشافعي، قال الدميري: وهو الظاهر، وأجاب بعضهم بأنه للورثة. قال صاحب الإنصاف: قلت: قد تقدم في كتاب الزكاة عند السائمة الموقوفة ما يشابه ذلك، وهو إذا أوصى بدراهم في وجوه البر ليشتري بها ما يوقف؛ فاتجر بها الوصي، فقالوا: ربحه مع أصل المال فيما وصى به، وإن خسر ضمن النقص، نقله الجماعة، وقيل: ربحه إرث. انتهى كلام صاحب الإنصاف، وجزم بذلك في الإقناع وشرحه في الزكاة).
(3)
في (ب)(د) و (هـ) و (و): الصَّدقة والوقف.
(4)
ينظر: الوقوف والترجل (ص 90).
وخص القاضي الروايتين بالعتق عن الواجب إذا كان العيب لا يمنع الإجزاء؛ إلحاقًا للأرش بالولاء
(1)
.
ولو اشترى شاة فأوجبها أضحية، ثم أصاب بها عيباً، فأخذ أرشه؛ اشترى به أضحية؛ فإن لم يمكن؛ تصدَّق به، ذكره القاضي.
وفرَّق بينه وبين العتق: بأنَّ القصد من العتق تكميل أحكام العبد، وقد حصل، والقصد من الأضحية إيصالُ لحمها إلى المساكين، فإذا كان فيه عيب دخل الضَّرر عليهم؛ فوجب ردُّ أرشه عليهم جبراً لحقِّهم.
وفي «الكافي» احتمالٌ آخر: أنَّ الأرش له كما في العتق.
وأمَّا الهدي والأضاحي إذا تعيَّن، فإن قيل: إنَّ ملكه لا يزول بالتَّعيين
(2)
كقول القاضي والأكثرين؛ فهو من هذا النَّوع وإن جاز إبداله؛ لأنَّ إبداله نقل للحقِّ لا إسقاط له؛ كالوقف، ويتبعه نماؤه منه
(3)
؛ كالولد.
فإذا ولدت الأضحية؛ ذبح معها ولدها، وهل يكون أضحية بطريق التَّبع أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: هو أضحية، قاله في «المغني» ؛ فيجوز أن يأكل منه كأمِّه.
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: كما أنَّ الولاية للمعتق؛ كذلك يكون أرش العيب له أيضاً).
(2)
في (ب): التَّعيُّن.
(3)
قوله: (منه) سقط من (أ).
والثَّاني: ليس بأضحية، قاله ابن عقيل.
قال: وإن تصدَّق به صحيحاً؛ فهل يجزئ؟ فيه احتمالان؛ لتردُّده بين الصدقة المطلقة وبين أن يُحذى به حذو الأمِّ.
والأشبه بكلام أحمد: أنَّه أضحية؛ فإنَّه قال في رواية ابن مُشَيش: يذبحها وولدَها عن سبعة، وقال في رواية ابن منصور: يبدأ بأيِّهما شاء في الذَّبح، وأنكر قول من قال: لا يبدأ إلا بالأمِّ
(1)
.
وعلى هذا؛ فهل يصير الولد تابعاً لأمه، أو مستقلًّا بنفسه حتى لو باع أمه أو عابت، وقلنا: تردُّ إلى ملكه؛ فهل يرجع ولدها معها؟ على وجهين، ذكرهما في «المغني» .
ولا فرق بين أن يعين ابتداء أو عن واجب في الذِّمة على الصحيح.
وفيه وجه آخر: أن المعيَّنة عما في الذمة لا يتبعها ولدها؛ لأنَّ الواجب في الذِّمَّة واحد.
والصَّحيح الأوَّل؛ لأنَّها بالتَّعيين صارت كالمعيَّنة ابتداء.
وأمَّا اللَّبن؛ فيجوز شربه ما لم يعجفها؛ لأنَّ الأكل من لحمها جائز، فيجوز الانتفاع بغيره من منافعها، ومن دَرِّها وظهرها.
وأمَّا الصُّوف؛ فنص أحمد على كراهة جزِّه إلَّا أن يطول ويكون جزُّه نفعاً لها
(2)
، قال الأصحاب: ويتصدَّق به.
(1)
جاء في مسائل ابن منصور (5/ 2375): (قلت: سئل سفيان عن رجل اشترى بدنة فنتجت؟ قال: إذا نحرها يبدأ بالأم ثم ولدها. قال أحمد: لا تبالي بأيهما بدأت).
(2)
جاء في مسائل ابن منصور (8/ 4026): (قلت: هل تجز الضَّحِيَّة؟ قال: إذا كان ذلك ضرراً بها فذاك مكروه إلا أن يطول صوفها).
وفرَّقوا بين الصوف واللبن: بأنَّ الصوف كان موجوداً حال إيجابها؛ فورد الإيجاب عليه، واللَّبن يتجدَّد شيئاً بعد شيء؛ فهو كمنفعة ظهرها.
وقال
(1)
القاضي في «المجرد» : يستحب له
(2)
الصَّدقة بالشَّعر، وله الانتفاع به.
وذكر ابن الزَّاغونيِّ: أنَّ اللَّبن والصوف لا يدخلان في الإيجاب، وله الانتفاع بهما إذا لم يضرَّ بالهدي.
وكذلك قال صاحب «التَّلخيص» في اللَّبن.
ولو فقأ رجل عين الهدي المعيَّن ابتداء؛ أخذ منه أرشه، وتصدَّق به أيضاً، ذكره القاضي في «خلافه» ، وإن قيل: بزوال ملكه بالتعيين
(3)
- كقول أبي الخطَّاب-؛ فهو من قسم التَّمليكات المنجَّزة؛ كالعتق والوقف، وإن جاز الانتفاع ببعض منافعه؛ كمن وقف مسجداً؛ فإنَّه ينتفع به مع جملة المسلمين.
وأمَّا ما كان منها غير لازم، وهو ما يملك العاقد إبطاله، إمَّا بالقول، أو بمنع نفوذ الحقِّ
(4)
المتعلِّق به
(5)
بإزالة الملك من غير وجوب إبدال؛ فلا يتبع فيه النَّماء من غير عينه.
(1)
في (ب): وذكر.
(2)
قوله: (له): سقط من (أ) و (و).
(3)
في (ب) و (د): بالتَّعيُّن.
(4)
قوله: (الحقِّ) سقط من (ب).
(5)
في (ب) و (هـ): به لكن.
وفي استتباع الولد خلاف، ويندرج تحت ذلك صور:
منها: المدبَّرة؛ فإنَّه يتبعها ولدها على المذهب المشهور.
وعنه رواية أخرى: لا يتبعها.
وزعم أبو الخطَّاب في «انتصاره» : أنَّ هذا الخلاف منزَّل على أنَّ التَّدبير هل هو لازم أم لا؟ فإن قيل بلزومه؛ تبع الولد، وإلَّا لم يتبع، وأبى أكثر الأصحاب ذلك.
وعلى القول بالتَّبعيَّة، قال الأكثرون: يكون مدبَّراً بنفسه لا بطريق التَّبع، بخلاف ولد المكاتبة.
وقد نصَّ أحمد في رواية ابن منصور على أنَّ الأمَّ لو عَتَقت في حياة السَّيِّد؛ لم يَعتِق الولد حتَّى يموت
(1)
.
وعلى هذا لو رجع في تدبير الأمِّ، وقلنا: له ذلك؛ بقي الولد مدبَّراً، هذا قول القاضي وابن عقيل.
وقال أبو بكر في «التنبيه» : بل هو تابع محض لها؛ إن عَتَقت عَتَق، وإن رَقَّت رَقَّ، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى أيضاً.
ومنها: المعلَّق عتقها بصفة؛ إذا حملت وولدت بين التَّعليق ووجود الصِّفة؛ ففي عتقه معها وجهان معروفان، ولو لم توجد الصِّفة في الأمِّ؛ لم يعتق ولو وجدت فيه الصِّفة؛ لأنَّه تابع محض.
ومنها: الموصى بعتقها أو وقفها إذا ولدت قبل موت الموصي؛ لم يتبعها، ذكره القاضي في الموصى بعتقها، وقياسه الأخرى.
(1)
ينظر: مسائل ابن منصور (8/ 4472)
ويحتمل أن يتبع في الوصيَّة بالوقف
(1)
؛ بناءً على أنَّ المغلَّب فيه شوب التَّحرير دون التَّمليك.
ومنها: المعلَّق وقفها بالموت؛ إن قلنا: هو لازم - وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميمونيِّ
(2)
-؛ صارت كالمستولدة؛ فينبغي أن يتبعها ولدها.
وإن قلنا: ليس بلازم - وكلام أحمد في آخر رواية الميموني يشعر به، حيث قال: إن كان يتأول، ويشبِّهه بالمدبَّر؛ يعني: أنَّه يتبعه -؛ فهل يتبعها الولد كالمدبَّرة، أو لا يتبع؛ لأنَّ الوقف يغلب فيه شائبة التَّمليك؛ فهو كالموصى به؟ يحتمل وجهين.
(1)
كتب على هامش (ن): (لعلَّه بالعتق؛ لأنَّ الوصيَّة بالوقف ليس فيها شوب تحرير، فليتأمَّل).
(2)
قال في الإنصاف (16/ 399): (قال الميموني في كتابه: سألته عن الرجل يوقف على أهل بيته، أو على المساكين بعده، فاحتاج إليها، أيبيع على قصة المدبر؟ فابتدأني أبو عبد الله بالكراهة لذلك، فقال: الوقوف إنما كانت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يبيعوا ولا يهبوا. قلت: فمن شبهه وتأول المدبر عليه، والمدبر قد يأتي عليه وقت يكون فيه حرًّا، والموقوف إنما هو شيء وقفه بعده، وهو ملك الساعة؟ قال لي: إذا كان يتأول. قال الميموني: وإنما ناظرته بهذا؛ لأنه قال في المدبر: ليس لأحد فيه شيء، وهو ملك الساعة، وهذا شيء قد وقفه على قوم مساكين، فكيف يحدث به شيئًا؟ فقلت: هكذا الوقوف، ليس لأحد فيها شيء، الساعة هو ملك، وإنما استحق بعد الوفاة، كما أن المدبر الساعة ليس بحر، ثم يأتي عليه وقت يكون فيه حرًّا. انتهى).
النَّوع الثَّاني: عقود موضوعة لغير تمليك العين؛ فلا يملك بها النَّماء بغير إشكال؛ إذ الأصل لا يملك؛ فالفرع أولى
(1)
.
ولكن هل يكون النَّماء تابعاً لأصله في ورود العقد عليه وفي كونه مضموناً، أو غير مضمون؟
فإن كان العقد وارداً على العين وهو لازم؛ فحكم النَّماء حكم الأصل.
وإن كان غير لازم، أو لازماً لكنَّه معقود على المنفعة من غير تأبيد، أو على ما في الذِّمَّة؛ فلا يكون النَّماء داخلاً في العقد، وهل يكون تابعاً للأصل في الضمان وعدمه؟ فيه وجهان:
أحدهما
(2)
: أنَّه تابع له فيهما.
والثَّاني: إن شارك الأصل في المعنى الَّذي أوجب الضَّمان أو الائتمان؛ تبعه، وإلَّا فلا.
ويندرج تحت ذلك صور عديدة:
منها: المرهون؛ فنماؤه المنفصل كلُّه رهن معه، سواء كان متولِّداً من عينه كالثَّمرة والولد، أو من كسبه كالأجرة، أو بدلاً عنه كالأرش، وهو داخل معه في عقد الرَّهن؛ فيملك الوكيل في بيع الرَّهن بيعه معه؛ وإن كان حادثاً بعد العقد والتَّوكيل.
(1)
كتب على هامش (ن): (الأولويَّة قد تُمنع، فلو قيل: فكذلك الفرع؛ كان أحسن).
(2)
أشار في هامش (ن) إلى نسخة: أصحُّهما.
ومنها: الأجير؛ كالرَّاعي ونحوه؛ فيكون النَّماء في يده أمانة كأصله، ولا يلزمه رعي سخال الغنم المعيَّنة في عقد الرَّعي؛ لأنَّها غير داخلة فيه، بخلاف ما إذا كان الاستئجار على رعي غير معيَّنة؛ فإنَّ عليه رعي سخالها؛ لأنَّ عليه أن يرعى ما جرى العرف به مع الإطلاق، ذكره القاضي في «المجرد» .
ومنها: المستأجر يكون النَّماء في يده أمانة كأصله، وليس له الانتفاع به؛ لأنَّه غير داخل في العقد.
وهل له إمساكه بغير استئذان مالكه تبعاً لأصله؛ جعلاً للإذن
(1)
في إمساك أصله إذناً في إمساك نمائه، أم لا؛ كمن أطارت الرِّيح إلى داره ثوب غيره؟ خرَّجه القاضي وابن عقيل على وجهين.
ومنها: الوديعة؛ هل يكون نماؤها وديعة، أو أمانة محضة؛ كالثَّوب المطار إلى داره؟ على وجهين أيضاً.
ومنها: العارية لا يَرِدُ عقد الإعارة على ولدها؛ فليس للمستعير الانتفاع به، وهل هو مضمون كأصله أم لا؟ على وجهين ذكرهما القاضي وابن عقيل في باب الرَّهن
(2)
:
أحدهما: هو مضمون؛ لأنَّه تابع لأصله.
والثَّاني: ليس بمضمون؛ لأنَّ أصله إنَّما ضمن لإمساكه للانتفاع به،
(1)
في (ب): الإذن.
(2)
قوله: (في باب الرهن) سقط من (ب). وهو في (ج) و (و): في الرهن.
والنَّماء مُمْسَكٌ
(1)
لحفظه على المالك
(2)
، فيكون أمانة، وقالا في باب الغصب: إنَّ ولد العارية مضمون وجهاً واحداً.
ومنها: المقبوضة على السَّوم إذا ولدت في يد القابض، قال القاضي وابن عقيل: حكمه حكم أصله، إن قلنا: هو مضمون؛ فالولد مضمون، وإلَّا فلا.
ويمكن أن يخرَّج فيه وجه آخر: أنَّه ليس بمضمون، كولد العارية؛ لأنَّ أمَّه إنَّما ضمنت لقبضها بسبب الضمان، والتَّملك
(3)
والولد لم يحصل قبضه على هذا الوجه؛ فهو كالثَّوب المطار بالرِّيح إلى ملكه.
ومنها: المقبوض بعقد فاسد، وفي ضمان زيادته وجهان.
ووجَّه القاضي سقوط الضمان: بأنَّه إنَّما دخل على ضمان العين دون نمائها.
وهو منتقض بتضمينه الأجرة.
ومنها: الشَّاهدة، والضامنة، والكفيلة، لا يتعلَّق بأولادهن شيء من هذه الأحكام؛ لأنَّ هذه حقوق متعلقة بالذِّمَّة لا بالعين؛ فهي كسائر عقود المداينات، ذكره القاضي في «المجرَّد» وابن عقيل.
واختار القاضي في «خلافه» : أنَّ ولد الضَّامنة يتبعها ويباع معها
(1)
في (ب) و (هـ) و (و): ممسوك.
(2)
في (أ): المال.
(3)
كتب على هامش (ن): (لازم ذلك قبض حملها معها للضَّمان والتَّملُّك أيضاً، فهما في ذلك سواء؛ إذا لا يمكن شراؤها دون حملها).
كولد المرهونة؛ بناء على أنَّ دين المأذون له يتعلق برقبته.
وضعَّفه ابن عقيل في «نظريَّاته» ؛ لأنَّ التعلق بالرقبة هنا كتعلق الجناية؛ فلا يسري.
ومنها: من حلف لا يأكل ممَّا اشتراه فلان، فأكل من لبنه أو بيضه؛ لم يحنث؛ لأنَّ العقد لم يتعلق به، ذكره
(1)
القاضي في «خلافه» ؛ فإن اليمين ليست لازمةً، بل يخيَّر الحالف بين التزامها
(2)
وبين الحنث فيها ويكفِّرها.
وهذا بخلاف ما لو حلف لا يأكل من هذه الشَّاة؛ فإنَّه يحنث بأكل لبنها؛ لأنه لا يؤكل منها في الحياة عادة إلَّا اللَّبن.
فأمَّا نتاجها؛ ففيه نظر
(3)
.
فصل
هذا حكم النَّماء في العقود، فأمَّا
(4)
في الفسوخ؛ فلا يتبع فيها النَّماء الحاصل من الكسب بغير خلاف.
وأمَّا المتولِّد من العين؛ ففي تبعيَّته فيها روايتان في الجملة، يرجعان
(1)
في (ب): وذكره.
(2)
في (ب): إلزامها.
(3)
كتب على هامش (ن): (لعلَّه نسي الكلام على أنَّه هل هو جزء أو كسب؟).
(4)
في (ب) وباقي النسخ: وأمَّا.
إلى أنَّ الفسخ هل هو رفع للعقد من أصله، أو من حينه؟ والأصحُّ عدم الاستتباع.
ويندرج تحت ذلك صور:
منها: إذا عجَّل الزكاة، ثم هلك المال، وقلنا له: الرجوع بها؛ فإنَّه يرجع بها
(1)
.
وهل يرجع بزيادتها المنفصلة؟ على وجهين:
أظهرهما: لا يرجع.
والثَّاني: يرجع، واختاره القاضي في «خلافه» .
ومنها: المبيع في مدَّة الخيار إذا نما نماء منفصلاً، ثمَّ فسخ البيع؛ هل يرجع به البائع أم لا؟ خرَّجه طائفة من الأصحاب - كصاحبَي «التَّلخيص» و «المستوعب» - على وجهين؛ كالفسخ بالعيب.
وقد ذكر القاضي في «خلافه» ، وابن عقيل في «عُمَده»: أنَّ الفسخ بالخيار فسخ للعقد من أصله؛ لأنَّه لم يرض فيه بلزوم البيع، بخلاف الفسخ بالعيب ونحوه.
فعلى هذا: يرجع بالنَّماء المنفصل في الخيار، بخلاف العيب.
ومنها: الإقالة؛ إذا قلنا: هي فسخ؛ فالنَّماء للمشتري، ذكره القاضي في «خلافه» .
ويتخرَّج فيه وجه آخر: أنَّه يردُّه مع أصله، وحكاه أبو البركات في «تعليقه» عن القاضي في «خلافه» أيضاً.
(1)
قوله: (بها) سقط من (ب).
ومنها: الرَّدُّ بالعيب، وفي ردِّ النَّماء فيه روايتان:
أشهرهما: أنَّه لا يرده؛ كالكسب.
ونقل ابن منصور عن أحمد كلاماً يدلُّ على أنَّ اللَّبن وحده يردُّ عوضه؛ لحديث المصرَّاة
(1)
.
ونقل عنه ابن منصور أيضاً أنَّه ذَكر له قول سفيان في رجل باع ماشية أو شاة فولدت، أو نخيلاً لها ثمرة، فوجد بها عيباً أو استُحِقَّ
(2)
: أُخذ منه قيمة الثَّمرة وقيمة الولد إن كان أحدث فيهم شيئاً، أو كان باع أو استهلك، فإن كان مات أو ذهبت به الرِّيح؛ فليس عليه شيء، قال أحمد: كما قال
(3)
.
وهذا يدلُّ على أن النماء المنفصل يُرَدُّ مع وجوده، ويُرد عوضه مع تلفه إن كان تلف بفعل المشتري، وإن كان تلف بفعل الله تعالى؛ لم يضمن؛ لأنَّ المشتري لم يدخل على ضمانه؛ فيكون كالأمانة عنده.
وأمَّا إذا انتفع به؛ فإنَّه يستقرُّ الضمان عليه، فيردُّ عوضه كما دلَّ عليه حديث المصرَّاة، وكما نقول في
(4)
المتَّهب من الغاصب: أنَّه إذا انتفع بالموهوب فأتلفه؛ استقرَّ الضمان عليه.
(1)
مسائل ابن منصور (6/ 2772). وتقدم تخريج حديث المصراة .... ظظ
(2)
كتب على هامش (ن): (يعني: وفَسَخ المشتري للعيب، أو أُخِذت العين المبيعة منه للاستحقاق).
(3)
مسائل ابن منصور (6/ 2851).
(4)
قوله: (في) سقطت من (ب).
وحمل القاضي هذه الرِّواية على أنَّ
(1)
البائع كان قد دلَّس العيب، وأنَّ النَّماء كان موجوداً حال العقد.
ولكنَّ المنصوص عن أحمد في المدلَّس: أنَّه يرجع بالثمن وإن تلف المبيع؛ إلَّا أن نصه في صورة الإباق
(2)
، وهو تلف بغير فعل المشتري.
وأطلق الأكثرون ذلك من غير تفصيل بين أن يتلف بفعله أو بفعل غيره؛ لأنَّه سلَّطه على إتلافه بتغريره؛ فلا يستقر عليه الضمان كما يرجع المغرور في النِّكاح بالمهر.
وحكى طائفة من المتأخرين رواية أخرى: أنَّه لا يرجع مع التلف، بل يأخذ الأرش، ورجَّحه أبو الخطاب في «انتصاره» وصاحب «المغني» .
وهذا التَّفصيل - بين أن يكون التَّلف بانتفاعه أو بفعل الله تعالى، كما حمل عليه القاضي
(3)
رواية ابن منصور-؛ أصحُّ، وهو ظاهر كلام أبي بكر، وبذلك أجاب عن حديث المصراة.
وكذلك أجاب القاضي في «خلافه» .
ويمكن أن يقال مثل ذلك في النَّماء الحادث إذا رُدَّ بعيب - على
(1)
قوله: (أنَّ) سقط من (ب).
(2)
قال في المغني (4/ 115): قال أحمد في رجل اشترى عبدًا، فأبق من يده، وأقام البينة أن إباقه كان موجودًا في يد البائع: يرجع به على البائع بجميع الثمن الذي أخذه منه؛ لأنه غر المشتري، ويتبع البائع عبده حيث كان.
(3)
في (ب) و (د) و (هـ): القاضي عليه.
القول بردِّه - كما حملنا عليه رواية ابن منصور أوَّلاً، والله أعلم.
ومنها: فسخ البائع لإفلاس المشتري بالثَّمن؛ هل يتبعه النماء المنفصل؟ فيه روايتان:
إحداهما: يتبع، وهي المرجَّحة عند القاضي في «الخلاف» وابن عقيل، ونص أحمد في رواية حنبل فيمن اشترى جارية أو دابَّة فولدت، ثمَّ أفلس المشتري؛ رجعت إلى الأوَّل
(1)
؛ لأنَّها مال البائع وقد استحقَّها وولدها.
وهكذا ذكر
(2)
أبو بكر في «التنبيه» .
وذكر القاضي في «خلافه» لفظ هذه الرواية: أنَّ أحمد ذكر له قول مالك فيمن اشترى جارية أو دابَّة فولدت، ثمَّ أفلس المشتري: أنَّ الجارية والدَّابَّة وولدها للبائع؛ إلَّا أن يرغب الغرماء في ذلك، فيعطوه حقَّه كاملاً، ويمسكون ذلك؛ فقال أحمد: يرجع إلى الأوَّل؛ لأنَّها ماله.
وهذا لا يدلُّ على غير الرُّجوع في الجارية أو الدَّابة
(3)
، وإنَّما القائل بالرجوع في الولد مالك، وليس في كلام أحمد موافقة له
(4)
.
(1)
ينظر الروايتين والوجهين (1/ 373).
(2)
في (ب) وبقية النسخ: ذكره.
(3)
قوله: (أو الدَّابة): سقط من (أ) و (و).
(4)
كتب على هامش (ن): (يعني: الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة).
وأبو بكر كثيراً ما ينقل كلام أحمد بالمعنى الذي يفهمه منه؛ فيقع فيه تغيير شديد.
ووقع له مثل هذا في كتاب «زاد المسافر» كثيراً، مع أنَّ ابن أبي موسى وغيره تأوَّلوا الرُّجوع بالولد على أنَّه كان موجوداً في عقد البيع حملاً.
واختار هو وابن حامد وابن عقيل
(1)
: أنَّها للمفلس؛ لأنَّها نمت في ملكه، وهو ظاهر كلام الخرقيِّ، وكذلك صحَّحه القاضي في «المجرد» وابن عقيل في «الفصول» .
ومنها: اللُّقَطَةُ، إذا جاء مالكها وقد نمت نماء منفصلًا؛ فهل يسترده معها؟ على وجهين، خرَّجهما القاضي وابن عقيل من مسألة المفلس.
وفرَّق بينهما صاحب «المغني» .
ويحتمل أن يرجع هنا بالزِّيادة المنفصلة وجهاً واحداً؛ لأنَّ تملُّكها إنما كان مستنداً إلى فقد ربِّها في الظَّاهر، وقد تبيَّن خلافه؛ فانفسخ الملك من أصله؛ لظهور الخطأ في مستنده، ووجب الرجوع بما وجده منها قائماً.
وهذا هو الَّذي ذكره ابن أبي موسى، وذكر له أصلًا من كلام أحمد في طيرة فرَّخت عند قوم: أنَّهم يردُّون فراخها.
ومنها: رجوع الأب فيما وهبه لولده إذا كان قد نما نماء منفصلاً؛ هل يستردُّه معه أم لا؟ فيه
(2)
وجهان.
(1)
قوله: (وابن عقيل) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن).
(2)
في (ب) وباقي النسخ: وفيه.
ومنها: إذا وهب المريض جميع ماله في مرضه، فنما
(1)
نماء منفصلًا، ومات ولم يُجِز الورثة؛ فذكر القاضي في «خلافه»: أنَّ الموهوب له مَلَكه بالقبض، وجاز له التَّصرُّف فيه إجماعاً، وإنَّما يثبت للورثة حقُّ الفسخ فيما زاد على الثَّلث، وإذا أجازوا؛ سقط حقُّهم من الفسخ.
فعلى هذا يتخرَّج في استرجاع النَّماء وجهان:
أظهرهما: أنَّ النَّماء للمتَّهب إلى حين الفسخ؛ نبَّه على ذلك الشيخ مجد الدين.
والمعروف في المذهب: أنَّ الهبة تقع مراعاة؛ فلا يتبيَّن ملكها إلَّا حين خروجها من الثُّلث عند الموت، وإن خرج بعضها فله منها مقدار الثُّلث، ويتبعه نماؤه، والزَّائد مبني على الخلاف في الإجازة؛ هل هي تنفيذ أو عطيَّة مبتدأة.
ومنها: إذا عاد الصداق إلى الزَّوج، أو نصفه قبل الدخول، بطلاق أو فسخ، وقد نما عند الزوجة نماء منفصلاً؛ فهل يرجع بنمائه أو نصفه؟
المذهب: أنَّه لا يرجع به، ونصَّ عليه أحمد في رواية أبي داود وصالح
(2)
.
ونقل عنه ابن منصور أنه ذَكر له قول سفيان في رجل تزوَّج امرأة
(1)
في (أ): ونما.
(2)
ينظر: مسائل أبي داود (ص 231)، ولم نقف على نص رواية صالح.
على خادمة، ثمَّ زوجها غلامه فولدت أولاداً، فطلَّق امرأته قبل أن يدخل بها؛ فلها نصف قيمتها وقيمة ولدها، قال أحمد: جيِّد
(1)
.
واختلف أصحابنا في معنى هذه الرِّواية على طريقين:
أحدهما -وهو مسلك القاضي-: أنَّها
(2)
تدلُّ على أن الزوجة إنما ملكت بالعقد نصف الصَّداق؛ فيكون لها نصف نمائه، وجعل قوله:(وقيمة ولدها) مجروراً بالعطف على قوله: (نصف قيمتها)؛ أي: ونصف قيمة ولدها.
قال: وذِكْر القيمة ههنا محمولٌ على التَّراضي عليها، أو على أنَّ المراد نصف الأم ونصف الولد، ولم يُرِد القيمة.
وهذا المسلك ضعيف جداً، وفي تمام النص ما يبطله، وهو قول أحمد:(فإن أعتقها قبل أن يدخل بها؛ لا يجوز عتقه؛ لأنَّه حين تزوَّجها وجبت لها الجارية).
وهذا تصريح بأنَّها ملكت الأمة كلَّها بالعقد؛ إذ لولا ذلك لعتق نصفها بالملك، وسرى العتق إلى الباقي مع اليسار.
وكذلك سلك أبو بكر في «زاد المسافر» وابن أبي موسى في تخريج هذا النَّصِّ؛ بناء على أنَّ المرأة لا
(3)
تملك بالعقد إلَّا النصف.
(1)
ينظر: مسائل ابن منصور (4/ 1834).
(2)
في (ب): إنَّما. وفي (د) و (هـ): أنَّه.
(3)
في (ب) وبقية النسخ: لم.
ثمَّ خرَّج أبو بكر قولاً آخر
(1)
لأحمد في هذه المسألة على قوله: (تملك الصَّداق كلَّه بالعقد): أنَّ الأولاد والنَّماء لها، ويرجع بنصف قيمة الأمِّ دون الأولاد؛ يعني: الزَّوج، قال
(2)
: وبه أقول.
وهذا
(3)
اختيار صاحب «المغني» أيضاً؛ فراراً من التفريق بين الأمِّ وولدها في بعض الزمان.
وأمَّا ابن أبي موسى؛ فإنه خرج وجهاً على القول بملك الصَّداق كله بالعقد: أن الولد للمرأة؛ لحدوثه في ملكها، ولها نصف قيمة الأمِّ. فجعل للزَّوجة القيمة كما في نصِّ أحمد.
وهذا الوجه ضعيف جداً
(4)
؛ حيث تضَّمن التفريق بين الأم
(5)
وولدها بغير العتق، ومنع الزَّوجة من أخذ نصف الأمة، وهو أقرب إلى عدم التَّفريق من أخذ نصف القيمة.
وعند القاضي: إذا قيل: إنَّ الولد كلَّه لها؛ فللزوج نصف قيمة الأمة
(6)
، صرَّح به في «المجرد» .
وقال في «الخلاف» : يرجع بنصف الأمة
(7)
.
(1)
قوله: (آخر) سقط من (ب).
(2)
قوله: (قال) سقط من (ب).
(3)
في (ب): وهو.
(4)
قال في الإنصاف (21/ 176): (وهو كما قال).
(5)
في (ب) و (ج) و (د): الأمة.
(6)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): الأم.
(7)
في (ب): الأمِّ.
والطَّريق الثاني في
(1)
معنى الرِّواية: أنها تدل على أن النَّماء المنفصل يرجع به الزَّوج بالفرقة؛ تبعاً للأصل.
وهذا مسلك جماعة منهم صاحب «المحرر» ، ولكنَّه
(2)
استشكل إيجاب القيمة دون العين، وقال: لا أدري هل هو لنقص الولادة أو لغير ذلك؟! فإنَّ أحمد جعل للمرأة نصف قيمة الأمة ونصف قيمة الولد
(3)
؛ لأجل حقِّ الزوج في ملك نصف الأمة وولدها، وليس ذلك بأولى من العكس.
وقد يجاب عن ذلك: بأنَّ الطَّلاق يُرجع به نصف الأمة إلى الزَّوج؛ قهراً كالميراث؛ لأنَّه باق بعينه، لا سيَّما والأملاك القهريَّة يملك بها ما لا يملك بالعقود الاختياريَّة، فلا يجبر الزَّوج بعد ذلك على أخذ قيمته، بل يتعيَّن تكميل الملك له في الأمِّ والولد؛ حذراً من التفريق المحرم.
ويشبه هذا ما قاله الخرقيُّ فيما إذا كان الصداق أرضاً فبنت فيه، ثمَّ طلقها قبل الدخول: أن الزوج يرجع بنصف الأرض، ويتملَّك عليها البناء الذي فيه بالقيمة.
لكن أحمد في تمام هذا النص بعينه من
(4)
رواية ابن منصور ذكر مسألة البناء وصَبغ الثَّوب، وقال: للزوج نصف القيمة؛ لأَّنه استهلاك
(5)
.
(1)
قوله: (في) سقط من (ب).
(2)
في (ب): لكنَّه.
(3)
زاد في (و): بكمالها.
(4)
قوله: (من) سقط من (ب).
(5)
ينظر: مسائل ابن منصور (4/ 1834).
ففرَّق بين أن تكون المرأة وصلت الصَّداق بمالها على وجه لا ينفصل عنه إلَّا بضرر عليها، وبين أن يكون باقياً بعينه.
ففي الأوَّل يتعيَّن للزوج نصف القيمة؛ لاختلاط المالين، وفي الثَّاني يرجع بنصف العين؛ لبقائها بحالها، وإنَّما جاز
(1)
الإجبار على تكميل الملك؛ للمانع الشَّرعيِّ من التَّفريق.
ويحتمل عندي في معنى رواية ابن منصور طريقٌ ثالث، وهو أن يكون أراد أحمد أنَّ للزوجة نصف قيمة الأمة، ولها قيمة ولدها كاملة؛ لأن الولد نماء تختصُّ به الزوجة، وقد عاد إلى الزوج نصف الأم؛ فتجبر الزَّوجة على أخذ نصف قيمة الأم وقيمة الولد بكمالها؛ حذراً من التفريق، ولعل هذا أظهر مما قبله
(2)
، والله أعلم.
ومنها: من وجد عين ماله الَّذي استولى عليه الكفار في المغنم قبل القسمة وقد نما نماء منفصلاً، فإن قلنا: لم تملكه الكفَّار بالاستيلاء؛ فهو له بنمائه
(3)
.
وإن قلنا: ملكوه؛ فإنَّه يرجع فيه.
وهل يرجع بنمائه؟ يتخرَّج على وجهين؛ كبائع المفلس؛ لأنَّ حقوق الغانمين متعلِّقة بالنماء كتعلق حقوق غرماء المفلس بأمواله.
وذكر القاضي في «المجرد» : أنَّها إذا كانت أمة فوطئها الحربيُّ
(1)
في (ب) و (د) و (و) و (هـ) و (ن): جاء.
(2)
قوله: (ممَّا قبله) سقط من (أ) و (د) و (ج) و (و).
(3)
في (ب): بتمامه.
وولدت منه: أنَّ الولد غنيمة لا يرجع به المالك؛ لأنَّه حدث في ملك الحربيِّ الواطئ، فانعقد حرًّا.
لكن هذا قد يختصُّ باستيلاد المالك لها، فإن ولده ينعقد حراً، وإنَّما يطرأ عليه الرِّق بعد ذلك؛ فلا يكون من نمائها، بخلاف ما لو زوَّجها فولدت من الزوج؛ فإنه يكون من نمائها لانعقاده رقيقاً.
وقد سئل أحمد عن عبد المسلم إذا لحق بدار الحرب، ثم رجع ومعه من أموالهم؛ فتوقَّف في مستحِقِّ المال الذي معه، وقال مرَّة: هو للمسلمين، وأنكر أن يكون للسيد، وعلَّل بأن العبد ليس له غنيمة
(1)
(2)
.
قال الخلَّال: هذا هو المذهب؛ لأنَّ العبد لا غنيمة له.
وحمله القاضي على أنَّ ما يأخذه الواحد من دار الحرب يكون فيئاً، قال: فأما
(3)
إن قلنا: هو لآخذه؛ فهو هنا للسَّيِّد.
فصل
وأمَّا الحقوق المتعلِّقة بالأعيان من غير عقد ولا فسخ، فإن كانت ملكاً قهريًّا؛ فحكمه حكم سائر التَّملُّكات
(4)
.
(1)
ينظر: مسائل ابن هانئ (2/ 25).
(2)
كتب على هامش (ن): (قد يقال: هذا من كسب العبد للمباحات، وليس بغنيمة).
(3)
في (ب): وأمَّا.
(4)
في (ب): التَّمليكات.
وإن لم يكن ملكاً، فإن كانت حقًّا لازماً لا يمكن إبطاله بوجه؛ كحقِّ
(1)
الاستيلاد؛ سرى حكمه إلى الأولاد دون الأكساب؛ لبقاء ملك مالكه عليه.
وإن كان غير لازم، بل يمكن إبطاله؛ إمَّا باختيار المالك، أو برضى المستحقِّ؛ لم يتبع النَّماء فيه الأصل بحال.
ويتخرَّج على ذلك مسائل:
منها: الأمة الجانية لا تتعلق الجناية بأولادها ولا أكسابها؛ لأنَّ حقَّ الجناية ليس بالقويِّ، ولهذا لم يمنع التَّصرف عندنا، ولأنَّ حقَّ الجناية تعلق بالجانية؛ لصدور الجناية منها، وهذا مفقود في ولدها، وكسبها ملك للسَّيِّد، بخلاف المكاتبة.
ومنها: تركة من عليه دين إذا تعلَّق بها حقُّ الغرماء بموته.
فإن قيل: هي باقية على حكم ملك الميِّت؛ تعلَّق حقُّ الغرماء بالنماء أيضاً
(2)
كالمرهون، كذا ذكره القاضي وابن عقيل في كتاب القسمة.
وينبغي
(3)
أن يقال: إن قلنا: إنّ
(4)
تعلُّق الدَّين بالتَّركة تعلُّق رهنٍ يمنع التَّصرُّف؛ فالأمر كذلك، وإن قلنا: تعلُّق جناية لا يمنع التَّصرُّف؛ فلا يتعلَّق بالنماء.
(1)
في (ب): لحقِّ.
(2)
قوله: (أيضاً) سقط من (ب).
(3)
في (ب): ينبغي.
(4)
قوله: (إن) سقط من (و).
وأمَّا إن قلنا: تنتقل التَّركة إلى الورثة بمجرد الموت؛ لم يتعلَّق حقوق الغرماء بالنَّماء؛ إذ هو تعلُّقٌ
(1)
قهريٌّ؛ كالجناية، كذا ذكره
(2)
القاضي وابن عقيل.
وخرَّج الآمدي وصاحب «المغني» تعلُّق الحقِّ بالنماء مع الانتقال أيضاً كتعلق الرهن.
ويقوى هذا على قولنا: إنَّ التَّعلق
(3)
تعلق رهن.
وقد ينبني ذلك على أصل آخر، وهو أنَّ الدَّين هل هو باق في ذمة الميت، أو انتقل إلى ذمم الورثة، أو هو متعلِّق بأعيان التَّركة لا غير؟ وفيه ثلاثة أوجه:
الأوَّل
(4)
: قول الآمديِّ، وابن عقيل في «الفنون» ، وصاحب «المغني» ، وهو ظاهر كلام الأصحاب في مسألة ضمان دين الميت.
والثَّاني: قول القاضي في «خلافه» ، وأبي الخطاب في «انتصاره» ، وابن عقيل في موضع آخر.
وكذلك قال القاضي في «المجرد» ، ولكنَّه خصَّه بحالة تأجيل الدَّين؛ لمطالبة الورثة بالتَّوثقة.
والثَّالث: قول ابن أبي موسى؛ فيتوجَّه على قوله ألَّا تتعلق الحقوق
(1)
كتب في هامش: (هـ): تملُّك.
(2)
في (ب): ذكر.
(3)
في (ب): المعلَّق.
(4)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): والأوَّل.
بالنَّماء؛ إذ هو كتعلُّق الجناية.
وعلى الأوَّلين: يتوجَّه تعلُّقها بالنَّماء كالرهن.
وقد يقال: لا تتعلَّق حقوق الغرماء بالنماء إذا قلنا: تنتقل التَّركة إلى الورثة بكلِّ حال؛ إلَّا أن يقول: إنَّ الدين في ذممهم؛ لأنَّ تبعيَّة النَّماء في الرهن إنما يحكم به إذا كان النماء ملكاً لمن عليه الحقُّ، فأما إن كان ملكاً لغيره؛ لم يتبع، كما لو رهن المكاتب سيِّده؛ فإنَّ كسبه لا يكون داخلاً في الرهن؛ لأنه على ملك المكاتب.
وكذا ينبغي أن يقال فيمن استعار شيئاً ليرهنه؛ فرهنه: إنَّ نماءه لا يدخل في الرَّهن لذلك.
وقد يقال: التَّركة تعلَّق الحقُّ بها تعلُّقاً قهريًّا مع انتقال ملكها إلى الورثة؛ فكذلك نماؤها.
ويجاب عنه: بأنَّ التَّعلُّق حالة الانتقال إنَّما يثبت لضعف المانع منه
(1)
؛ حيث اقترن التَّعلقُ ومانعه وهو الانتقال، فأمَّا بعد الانتقال واستقرار الملك؛ فلا تعلُّق
(2)
؛ لسبق المانع واستقراره، والله أعلم.
وأمَّا تعلُّق الضمان بالأعيان للتَّعدي؛ فيتبع فيه النَّماء المنفصل إذا كان داخلاً تحت اليد العدوانيَّة.
فمن ذلك: الغصب، يضمن فيه النَّماء المنفصل على المذهب، ولم يحك ابن أبي موسى في ضمانه خلافاً، مع حكايته الخلاف في المتَّصل.
(1)
في (ب): فيه.
(2)
في (ب) و (د) و (هـ): يتعلَّق.
ولا يظهر الفرق بينهما؛ فالتَّخريج متوجِّه.
بل قد يقال: ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور الَّتي سقناها في الرَّدِّ بالعيب يدلُّ على عدم الضَّمان، حيث سوَّى بين ظهور العيب والاستحقاق.
ومنه: الأمانات إذا تعدَّى فيها ثمَّ نمت؛ فإنَّه يتبعها في الضَّمان.
ومنه: صيد الحرم والإحرام؛ يُضمن نماؤه المنفصل إذا دخل تحت اليد الحسيَّة، وإن
(1)
لم يدخل تحت اليد، لكنَّه هلك بسبب إمساك الأمِّ؛ ففيه خلاف مشهور.
تنبيه:
اضطرب كلام الأصحاب في الطَّلع والحمل؛ هل هما زيادة متصلة أو منفصلة؟
أمَّا الطَّلع؛ فللأصحاب فيه طرق:
أحدها: أنَّه زيادة متَّصلة، سواء أُبِّر أو لم يؤبَّر، وبه جزم القاضي وابن عقيل في كتاب الصَّداق، وأنَّ الزَّوج يجبر على قبوله إذا بذلته الزَّوجة بكلِّ حال.
وكذا ذكر صاحب «الكافي» في كتاب الصَّداق، وجعل كلَّ ثمرة على شجرها زيادة متَّصلة.
وصرَّح القاضي في «المجرد» في باب الغصب: بأنَّ الزَّيادة المتصلة التي يمكن إفرادها؛ كصَبغِ الثَّوب
(2)
، وتزويق الدَّار، والمسامير في
(1)
في (هـ): فإن.
(2)
في (ب): في الثوب.
الباب؛ هل يجبر على قبولها؟ يخرَّج على وجهين:
أصحُّهما: يجبر، وهو قول الخرقيِّ في الصَّداق
(1)
.
والثَّاني: أنَّه زيادة منفصلة بكلِّ حال، أبِّر أو لم يؤبَّر؛ لأنَّه يمكن فصله وإفراده بالبيع.
كذلك أطلقه القاضي وابن عقيل أيضاً في موضع من التَّفليس والرَّدِّ بالعيب.
وصرح صاحب «المغني» بإبدائه
(2)
احتمالاً، وحكاه في «الكافي» عن ابن حامد.
والثَّالث
(3)
: أنَّ المؤبَّر زيادة منفصلة، وغير المؤبَّر زيادة متصلة، صرَّح به القاضي وابن عقيل أيضاً في التَّفليس والرد بالعيب، وذكر أنَّه منصوص عن أحمد؛ اعتباراً بالتَّبعيَّة في البيع وعدمها.
الرَّابع: أنَّ غير المؤبر زيادة متَّصلة بغير خلاف، وفي المؤبَّر وجهان، وهذه طريقة صاحب «التَّرغيب» في الصَّداق.
والخامس: أنَّ المؤبَّر زيادة منفصلة وجهاً واحداً، وفي غير المؤبر وجهان، واختيار ابن حامد: أنَّها منفصلة، وهي طريقة «الكافي» في التَّفليس.
وأمَّا الحمل؛ فقال القاضي وابن عقيل في الصَّداق: هو زيادة متَّصلة.
(1)
زاد في (ب) قوله: (وبه جزم القاضي وابن عقيل في كتاب الصَّداق، وأنَّ الزَّوج يجبر على قبوله إذا بذلته الزَّوجة بكلِّ حال) وهو مكرر، وقد تقدم قريبًا.
(2)
في (ب): بإبداله.
(3)
في (ب) و (د) و (هـ): الثَّالث.
قال القاضي: ويجبر الزوج على قبولها إذا بذلتها المرأة.
وخالفه ابن عقيل في الآدميات؛ لأنَّ الحمل فيهنَّ نقص من جهة وزيادة من جهة، بخلاف البهائم؛ فإنَّه فيها زيادة محضة.
قال
(1)
القاضي في التفليس
(2)
: ينبني على أنَّ الحمل هل له حكم أم لا؟ فإن قلنا: له حكم؛ فهو زيادة منفصلة، وإلَّا فهو زيادة متَّصلة؛ كالسِّمَن.
وفي «التَّلخيص» : الأظهر أنَّه يتبع في الرُّجوع
(3)
؛ كما يتبع في البيع والحبِّ إذا صار زرعاً، والبيضة إذا صارت فَرُّوجاً
(4)
.
فأكثر الأصحاب على أنَّها داخلة في النَّماء المتَّصل، كذلك قال القاضي وابن عقيل في الفلس والغصب.
وذكر صاحب «المغني» وجهاً آخر، وصحَّحه: أنَّه من باب تغيُّر
(1)
في (ب) وباقي النسخ: وقال.
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (هـ): الفلس.
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: الرُّجوع على المفلس بعين ماله الَّذي وجده).
(4)
كتب على هامش (ن): (لم يتعرَّض المصنِّف لما اقتضاه كلام التَّلخيص في الرَّدِّ بالعيب، وهو كون الحمل زيادة منفصلة، فإنَّه قال: النَّماء الحادث من عين المبيع، كثمرة الشَّجرة، وحمل الحيوان ولبنه، إذا حدث بعد البيع، ثمَّ ظهر على عيب، فهل له ردُّ الأصل وإمساك النَّماء؟ فيه روايتان، انتهى، وقد عرفت أنَّ المذهب: أنَّ له ذلك).
العين بما يزيل الاسم؛ لأنَّ الأوَّل استحال.
وكذا ذكر ابن عقيل في موضع آخر.
وفي «المجرد» : لو حلف لا يأكل بيضة؛ فصارت فرُّوجاً، أو حبًّا فصار سنبلاً: أنَّه لا يحنث بأكله؛ لزوال الاسم.
وهذا إنَّما يتوجَّه على قول ابن عقيل في مسألة تعارض الاسم والتَّعيين، فأمَّا على المشهور؛ فينبغي أن يحنث، وبه جزم القاضي في «خلافه» ، وأشار
(1)
إليه ابن عقيل في «الفصول» ؛ كما
(2)
لو حلف لا يأكل هذا التَّمر فصار دبساً.
وقد يفرق
(3)
: ببقاء حلاوة التَّمر ولونه، بخلاف الأول
(4)
.
ولو اشترى بيضة فوجد فيها فرُّوجاً؛ فالبيع باطل، نصَّ عليه في رواية ابن منصور
(5)
، وهو يشهد للقول بأنَّ البيض والفرُّوج عينان متغايرتان؛ فيكون كما إذا تبايعا دابَّة يظنُّان أنَّها حمارٌ، فإذا هي فرس.
والقصيل إذا صار سنبلاً؛ فهو زيادة متَّصلة، وإذا اشتدَّ الحبُّ؛ فليس بعده زيادة لا متصلة ولا منفصلة، ذكره القاضي.
(1)
في (ب): وكذلك أشار.
(2)
قوله: (كما) سقط من (ب).
(3)
في (ب): وقد يفرق بين مسألة البيضة. وفي (ج) و (د) و (هـ): في مسألة البيضة.
(4)
في (ب): في الدبس بخلاف الفروج. مكان قوله: (الأول).
(5)
ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2714).
قاعدة [83]
إذا انتقل الملك عن النخل بعقد أو فسخ تتبع فيه الزِّيادة المتصلة دون المنفصلة
، أو بانتقال استحقاق؛ فإن كان فيه طلع مؤبَّر؛ لم يتبعه في الانتقال، وإن
(1)
كان غير مؤبَّر؛ تبعه.
كذا قال القاضي في كتاب التَّفليس من «المجرَّد» ، قال: وسواء كان الانتقال بعوض اختياريٍّ؛ كالبيع والصُّلح والنِّكاح والخلع، أو بعوض قهريٍّ؛ كالأخذ بالشُّفعة ورجوع البائع في عين ماله بالفلس، وبيع الرَّهن بعد أن أطلع بغير اختيار الرَّاهن، والرجوع في الهبة بشرط الثَّواب، أو كان الانتقال بغير عوض، سواء كان اختياريًّا؛ كالهبة والصَّدقة، أو غير اختياريٍّ؛ كالرُّجوع في الهبة للأب.
وهو ظاهر كلامه في بيع الأصول والثِّمار أيضاً؛ لأنَّه جعل الكلَّ كالبيع سواء، وصرَّح بذلك صاحب «الكافي» في العقود والفسوخ.
وأمَّا ابن عقيل؛ فإنَّه أطلق في الفسخ للإفلاس والرُّجوع في الهبة أنَّ الطَّلع يتبع الأصل
(2)
، ولم يفصِّل؛ وعلَّل: بأنَّ الفسخ رفع للعقد من أصله.
(1)
في (أ): فإن.
(2)
في (ب): أنْ يتبع الطلع الأصل.
وصرَّح صاحب «المغني» في البيع بأن الفسخ يتبع الطَّلع فيه أصله، سواء أبِّر أو لم يؤبر؛ لأنَّه نماء متصل، فأشبه السِّمَن، وصرَّح بدخول الإقالة والفسخ بالعيب في ذلك، وهو موافق لكلام الأصحاب في الصَّداق.
وقد قدَّمنا
(1)
أنَّ صاحب «المغني» ذكر احتمالاً في الفسخ بالفلس
(2)
ونحوه: أنَّه لا يتبع فيه الطَّلع، سواء أُبِّر أو لم يؤبر؛ لتميُّزه وإمكان إفراده بالعقد؛ فهو كالمنفصل، بخلاف السِّمن ونحوه.
وهذا عكس ما ذكره في البيع، وهو مع ذلك موافق لإطلاق كثير من الأصحاب أنَّ الثَّمرة لا تُردُّ مع الأصل بالعيب من غير تفصيل، وكذا في الفلس.
فتحرَّر من هذا: أنَّ العقود كالبيع، والصلح، والصداق، وعوض الخلع، والإجارة
(3)
، والهبة، والرَّهن؛ يفرَّق فيها بين حالة التَّأبير وعدمه، ونصَّ عليه أحمد في الرَّهن في رواية ابن الحكم.
إلَّا أنَّ في الأخذ بالشُّفعة وجهاً آخر سبق ذكره: أنَّه يتبع فيه المؤبَّر إذا كان في حال البيع غير مؤبَّر، لأنَّ الأخذ يستند إلى البيع؛ إذ هو سبب الاستحقاق.
وأمَّا الفسوخ؛ ففيها ثلاثة أوجه:
(1)
ينظر ص ....
(2)
في (أ): في الفلس.
(3)
في (ب) و (د) و (هـ): والأجرة.
أحدها: أنَّ الطلع يتبع فيها مع التَّأبير وعدمه؛ بناء على أنَّ الطلع زيادة متَّصلة بكل حال، أو على أن الفسخ رفع للعقد من أصله.
والثَّاني: لا يتبع بحال؛ بناء على أنه زيادة منفصلة وإن لم يؤبَّر.
والثَّالث: إن كان مؤبَّراً تبع، وإلَّا فلا؛ كالعقود.
هذا كلُّه على القول بأنَّ النماء المنفصل لا يتبع في الفسوخ.
أمَّا إن قيل بتبعيَّته؛ فلا إشكال في أنَّ الطَّلع يتبع، سواء أبِّر أو لم يؤبر.
وكذلك إن قيل: إنَّ الفسوخ لا تتبع فيها الزِّيادة المتَّصلة؛ فإنَّ الطَّلع لا يتبع فيها بكلِّ حال.
وأمَّا الوصية والوقف؛ فالمنصوص عن أحمد: أنَّه يدخل فيهما
(1)
الثَّمرة الموجودة يوم الوصية إذا بقيت إلى يوم الموت، من غير تفريق بين أن يؤبَّر أو لا يؤبر.
نقل عنه أبو بكر بن صدقة
(2)
في الرَّجل يوصي بالكرم أو البستان لرجل، ثمَّ يموت وفي الكرم حمل، قال: (إذا كان أوصى به وفيه حمل؛ فهو للموصى له
(3)
.
وقال في رواية محمد بن موسى، وسئل عن الرَّجل يوصي بالبستان
(1)
في (ب) و (هـ) و (و): فيها.
(2)
هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن صدقة، أبو بكر، نقل عن الإمام أحمد مسائل وأشياء كثيرة، توفي سنة (293 هـ). ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 64.
(3)
قوله: (له) سقط من (أ) و (ج) و (هـ). وينظر: الوقوف والترجل للخلال ص 61.
أو الكرم لرجل، ثمَّ يموت وفي الكرم أو البستان حمل؛ لمن الحملُ؟ قال: (إن كان يوم أوصى به له
(1)
فيه حمل؛ فهو له)
(2)
.
فأطلق
(3)
أنَّه يدخل في الوصيَّة، ولم يفصِّل، وقد تُوَجَّه: بأنَّ الوصيَّة عقد تبرُّعٍ لا يستدعي عوضاً؛ فدخل فيها كلُّ متَّصل، بخلاف عقود المعاوضات.
وعلى هذا؛ فالهبة المطلقة كذلك، وهو خلاف ما ذكره الأصحاب، وكذلك الوقف المنجَّز وأولى.
ويحتمل: أن يختصَّ ذلك بما فيه معنى القربة من الصَّدقة والوقف والوصية
(4)
.
وأمَّا اعتبار وجوده يوم الوصية - مع أنَّ الملك يتراخى إلى ما بعد الموت-؛ فلأنَّ العقد إذا انعقد؛ كان سبباً لنقل الملك، وإنَّما تأخَّر تأثيره إلى حين الموت، فإذا وجد الموت استند الملك إلى حال الإيصاء.
ولهذا لو وصَّى له بأمة حامل، ثمَّ مات الموصي قبل الوضع؛ فالولد للموصى له بغير خلاف، وسواء قلنا: إنَّ للحمل حكماً، وأنَّه كالمنفصل، أوْ لا.
وأمَّا إن تجدَّد مستحِقٌّ من أهل الوقف وفي النَّخل طلع؛ فههنا حالتان:
(1)
قوله: (له) سقط من (أ).
(2)
ينظر: الوقوف والترجل ص 61
(3)
في (ب): وأطلق.
(4)
في (ب): الوقف والوصية.
إحداهما: أن يكون استحقاقه من غير انتقال من غيره، والمنصوص عن أحمد: أنَّه إن حدث استحقاقه بعد التَّأبير؛ لم يستحقَّ من الثَّمر شيئاً، وإن كان قبله؛ استحقَّ.
قال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن رجل أوقف نخلاً على ولدِ قومٍ وولدِه ما توالدوا، ثمَّ وُلد مولود؛ قال:(إن كان النَّخل قد أُبِّر؛ فليس له في ذلك شيء، وهو ملك الأوَّل، وإن لم يكن أبِّر؛ فهو معهم، وكذلك الزَّرع إذا بلغ الحصاد؛ فليس له شيء، وإن كان لم يبلغ الحصاد؛ فله فيه)
(1)
.
وكذلك صرَّح الأصحاب بالفرق بين المؤبَّر وغيره ههنا، منهم ابن أبي موسى والقاضي وأصحابه؛ معلِّلين بتبعيَّة غير المؤبر في العقود؛ فكذا في الاستحقاق.
وعلَّل بعض الأصحاب: بأنَّ غير المؤبَّر في حكم المعدوم؛ لاستتاره وكُمُونِه
(2)
، والمؤبر في حكم الموجود؛ لبروزه وظهوره، وهو شبيه بقول من يقول: إنَّ الحمل ليس له حكم ما لم يظهر.
الحالة الثَّانية: أن يخرج بعض أهل الاستحقاق لموت أو غيره وينتقل نصيبه إلى غيره، قال يعقوب بن بختان: سئل أحمد عن رجل مات، فقال: ضيعتي الَّتي بالثَّغر لمواليَّ الَّذين بالثَّغر، وضيعتي الَّتي
(1)
ينظر: الوقوف والترجل ص 60.
(2)
قال في الصحاح (6/ 2188): (كَمَنَ يَكْمُنُ كُموناً: اختفى، ومنه الكَمينُ في الحرب).
ببغداد لمواليَّ الَّذين ببغداد وأولادهم؛ فلمن بالثَّغر أن يأخذوا من هذه الضَّيعة الَّتي ههنا؟ قال: (لا، قد أفرد هذه من هذه)، فقيل له: فقَدِم بعضُ مَن بالثَّغر إلى ههنا، وخرج مِن ههنا بعضُهم إلى ثَمَّ، وقد أبِّرت النَّخل؛ ألهم فيها شيء؟ قال:(لا)، فقيل: فإن وُلد لأحدهم ولدٌ بعد ما أبِّرت؟ فقال: (وهذا أيضاً شبيه بهذا)، كأنَّه رأى ما
(1)
قبل التَّأبير جائزٌ، أو كما قال
(2)
.
وهذا موافق لنصِّه السَّابق في أنَّ تجدُّد المستَحِقِّ للوقف بعد التَّأبير لا يقتضي استحقاقه منه.
وأمَّا خروج الخارج من البلد؛ فلم يشمله جوابه
(3)
، وانقطاع حقِّ المستحقِّ بموته أو زوال صفة الاستحقاق شبيه بانفساخ العقد المزيل للملك قهراً، وقد سبق الخلاف فيه، لا سيَّما على قولنا
(4)
: إنَّ الوقف ملك للموقوف عليه؛ فيصير موته كانفساخ ملكه في الأصل؛ فيخرَّج في تبعية الطَّلع له الخلاف السَّابق.
فإن قيل بالتَّفريق بين ما قبل التَّأبير وبعده؛ فلأنَّ الطَّلع إذا لم يؤبَّر في حكم الحمل في البطن واللَّبن في الضَّرع؛ فلا يكون له حكم بملك ولا غيره حتَّى يظهر.
(1)
في (ب): ما كان.
(2)
ينظر: الوقوف والترجل ص 60.
(3)
كتب على هامش (ن): (بل قد شمله جوابه، فليتأمَّل).
(4)
في (ب): قوله.
وإن سُلِّم أنَّ له حكماً بالملك؛ فالمستحِقُّ الحادث لمَّا شارك في غير المؤبَّر مع ظهوره على ملك الأوَّلين؛ دلَّ على أنَّ ملكهم لم يستقرَّ عليه، بخلاف المؤبَّر؛ فإنَّ ملكهم استقرَّ عليه، فمن زال استحقاقه قبل استقرار الملك؛ سقط حقُّه.
فصل
هذا كلُّه في حكم ثمر النَّخل.
فأمَّا غيره من الشَّجر؛ فما كان له كِمام ينفتح فيظهر ثمره كالقطن؛ فهو كالطَّلع.
وألحق أصحابنا به: الزُّهور الَّتي تخرج منضمَّة ثمَّ تنفتح؛ كالورد
(1)
، والياسمين، والبنفسج، والنَّرجس.
وفيه نظر؛ فإنَّ هذا المنضمَّ هو نفس الثَّمرة أو قشرها الملازم لها؛ كقشر الرُّمَّان؛ فظهوره ظهور للثَّمرة، بخلاف الطَّلع؛ فإنَّه وعاء للثَّمرة يزول عنها قريباً، وكلام الخرقيِّ يدلُّ على ذلك؛ حيث قال:(وكذلك بيع الشَّجر إذا كان فيه ثمر بادٍ، وبدوُّ الورد ونحوه ظهوره من شجره، وإن كان منضمًّا)
(2)
.
وللأصحاب وجهان في الورق المقصود؛ كورق التُّوت، هل يعتبر
(1)
في (ب): كاللوز.
(2)
ينظر: مختصر الخرقي ص 65.
تفتُّحه كالثَّمر، أو يتبع الأصل بمجرَّد ظهوره؟ وهذه الزُّهور بمعناه.
ومنه: ما يظهر نَوْرُه
(1)
ثمَّ يتناثر فيظهر ثمره؛ كالتُّفاح والمشمش، ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: إن تناثر نوره؛ فهو للبائع، وإلَّا فلا، وبه جزم القاضي في «خلافه» ؛ لأنَّ ظهور ثمره يتوقَّف على تناثر نوره.
والثَّاني: أنَّه بظهور
(2)
نوره للبائع، ذكره القاضي احتمالاً؛ جعلاً للنَّور كما في الطَّلع؛ لأنَّ الطَّلع ليس هو عين الثَّمرة، بل هي مستترة فيه، فتكبَرُ
(3)
في جوفه وتظهر حتَّى تصير تلك في طرفها، وهي قمع الرَّطبة.
والثَّالث: هو للبائع بظهور الثَّمرة وإن لم يتناثر النَّور، كما إذا كبِر قبل انتثاره، وهو ظاهر كلام الخرقيِّ واختيار صاحب «المغني» ، وهو أصحُّ، وقياس ما في بطن الطَّلع على النَّور لا يصحُّ؛ لأنَّ النَّور يتناثر، وما في جفِّ
(4)
الطَّلع ينمو ويتزايد حتَّى يصير ثمراً.
ومنه: ما تظهر
(5)
ثمرته من غير نور، فهو للبائع بظهوره، سواء كان
(1)
قال في المطلع (ص 292): (النَور بفتح النون: الزهر على أي لون كان، وقيل: النور ما كان أبيض، والزهر ما كان أصفر).
(2)
في (ب) و (د): يظهر.
(3)
في (ب) و (د): فيكبر. وفي (هـ): فيكون.
(4)
في (أ) و (هـ): خفِّ. والصواب المثبت، قال في لسان العرب (9/ 28):(والجف: غشاء الطلع إذا جف، وعم به بعضهم فقال: هو وعاء الطلع، وقيل: الجف قيقاءة الطلع وهو الغشاء الذي على الوليع).
(5)
في (ب) و (و): يظهر.
له قشر يبقى فيه إلى أكله؛ كالرُّمَّان والموز، أو له قشران؛ كالجوز واللَّوز، أو لا قشر له؛ كالتِّين والتُّوت.
وقال القاضي: ما له قشران لا يكون للبائع إلَّا بتشقُّق قشره الأعلى.
وردَّه صاحب «المغني» : بأنَّ تشقُّقه في شجره نادر، وتشقُّقه قبل كماله يفسده، بخلاف الطَّلع.
وفي «المبهج» : الاعتبار بانعقاد لبِّه، فإن لم ينعقد؛ تبع أصله، وإلَّا فلا.
وأمَّا الزَّرع الظَّاهر في الأرض إذا انتقل الملك فيها بالبيع ونحوه؛ فهو للبائع؛ لأنَّه ليس من أجزاء الأرض، وإنَّما هو مودع فيها، فأشبه الثَّمرة المؤبَّرة، قال في «المغني»:(لا أعلم فيه خلافاً)
(1)
.
وفي «المبهج» للشِّيرازيِّ: إن كان الزَّرع بدا صلاحه؛ لم يتبع، وإن لم يبدُ صلاحه؛ فعلى وجهين: فإن قلنا: لا يتبع؛ أخذ البائع بقطعه إلَّا أن يستأجر الأرض من المشتري إلى حين إدراكه، وأمَّا إذا بدا صلاحه؛ فإنَّه يبقى في الأرض من غير أجرة إلى حين حصاده.
وهذا غريب جدًّا، مخالف لما عليه الأصحاب، مع أنَّ كلام أحمد في استحقاق الوقف يشهد له؛ حيث قال: إن ولد مولود من أهل الوقف قبل أن يبلغ الحصاد؛ استحقَّ، وإلَّا لم يستحقَّ؛ لأنَّه قد انتهى نموُّه وزيادته ببلوغه الحصاد
(2)
.
(1)
ينظر: المغني 4/ 57.
(2)
تقدم كلام أحمد في رواية جعفر بن محمد قريبًا ص .... (ما توالدوا)
وهكذا قال ابن أبي موسى، لكنَّه عبر بالاستحصاد وعدمه.
وأمَّا صاحب «المغني» ؛ فقال: (ما كان من الزَّرع لا يتبع الأرض في البيع؛ فلا حقَّ فيه للمتجدِّد؛ لأنه كالثَّمر المؤبر، وأمَّا ما كان يتبع في البيع - وهو ما لم يظهر ممَّا يتكرَّر حمله من الرِّطاب
(1)
والخضروات-؛ فيستحِقُّ فيه المتجدِّد)
(2)
.
وقياس المنصوص في الزرع: أن يستحقَّ المتجدِّد في الوقف من الثَّمر حتى يبدو صلاحه، ويجوز بيعه مطلقاً.
ولكنَّ أحمد فرَّق بينهما كما تقدم؛ فاعتبر في الزَّرع بلوغ الحصاد، وفي الثَّمر التأبير
(3)
.
(1)
في (ب): الرَّطبات. وفي (د): الرُّطبان. وفي (و): الوطات.
(2)
لم نقف على نص كلامه في المغني، والظاهر أن المؤلف ذكره بمعناه، فإن ابن قدامة أورد رواية جعفر بن محمد عن أحمد ثم علق عليها بقوله:(وإنما قال ذلك لأنها قبل التأبير تتبع الأصل في البيع، وهذا المولود يستحق نصيبه من الأصل فيتبعه حصته من الثمرة، كما لو اشترى ذلك النصيب من الأصل، وبعد التأبير لا تتبع الأصل، ويستحقها من كان له الأصل، فكانت للأول؛ لأن الأصل كان كله له، فاستحق ثمرته، كما لو باع هذا النصيب، منها، ولم يستحق المولود منها شيئا كالمشتري. وهكذا الحكم في سائر ثمر الشجر الظاهر، فإن المولود لا يستحق منه شيئًا، ويستحق مما ظهر بعد ولادته، وإن كان الوقف أرضًا فيها زرع يستحقه البائع؛ فهو للأول، وإن كان مما يستحقه المشتري؛ فللمولود حصته منه؛ لأن المولود يتجدد استحقاقه للأصل، كتجدد ملك المشتري فيه). ينظر: المغني 6/ 16.
(3)
كتب في هامش (أ): (قوله: "فاعتبر
…
" إلخ: أي: اشترط، كما صرَّح به "مص" في حاشية «المنتهى» ، هـ).
ونصُّه مع ذلك في استحقاق الموصى له بالشَّجر: الثَّمر الموجود فيه حال الوصيَّة، من غير تفريق بين أن يبدوَ صلاحه أو لا يبدو، مشكلٌ.
وأفتى الشَّيخ تقي الدين: بأن الثمر إنما يستحقُّه من بدا الصَّلاح في زمن استحقاقه، حتَّى لو مات البطن الأوَّل وقد أطلع الثَّمر بعمله، ثمَّ بدا صلاحه بعد موته؛ فإنَّه يكون للبطن الثَّاني
(1)
.
وقال في شجر الحور
(2)
الموقوف: (أنَّه إن أدرك أوإن قطعه في حياة البطن الأوَّل؛ فهو له، فإن مات وبقي في الأرض مدَّة حتى زاد؛ كانت الزِّيادة حادثة في منفعة الأرض الَّتي للبطن الثَّاني، ومن الأصل الَّذي لورثة الأوَّل؛ فإمَّا أن يقسم الزيادة بينهما على قدر القيمتين، وإمَّا أن يعطي الورثةُ أجرةَ الأرض للبطن الثَّاني، وإن غرسه البطن الأوَّل من مال الوقف ولم يدرك إلَّا بعد انتقاله إلى البطن الثَّاني؛ فهو لهم، وليس لورثة الأوَّل فيه شيء)
(3)
.
واعلم أنَّ ما ذكرناه في استحقاق الموقوف عليه ههنا: إنَّما هو إذا
(1)
ينظر: الاختيارات الفقهية ص 258.
(2)
الحور: شجرة لها خشبة يقال لها: البيضاء. والحوز والجوز كلاهما تصحيف. ينظر: المغرب ص 133، لسان العرب 4/ 220.
(3)
ينظر: الاختيارات الفقهية ص 258.
وزاد في (ب) عبارة تقدمت قريبًا وهي: (فاعتبر في الزَّرع بلوغ الحصاد، وفي الثمر التأبير، ونصُّه مع ذلك في استحقاق الموصى له بالشجرِ الثمرَ الموجود فيه حال الوصية، من غير تفريق بين أن يبدو صلاحه أو لا يبدو مشكل).
كان استحقاقه بصفة محضة؛ مثل كونه ولداً أو فقيراً أو نحوه
(1)
.
أمَّا إذا كان استحقاق الوقف عوضاً عن عمل، وكان المغلُّ كالأجرة ينبسط على جميع السَّنة؛ كالمقاسمة القائمة مقام الأجرة، أو كان استغلال الأرض لجهة الوقف من ماله؛ فإنَّه يستَحِقُّ كلُّ من اتَّصف بصفة الاستحقاق في ذلك العام منه، حتَّى من مات في أثنائه
(2)
استَحَقَّ بقسطه، وإن لم يكن الزَّرع قد وُجد، حتَّى لو تأخر إدراك ذلك العام إلى أثناء العام الذي بعده؛ لم يستحِقَّ منه من تجدَّد استحقاقه في عام الإدراك، واستحَقَّ منه من مات
(3)
في العام الَّذي قبله، وبنحو ذلك أفتى الشَّيخ تقي الدين رحمه الله
(4)
.
وأفتى الشيخ شمس الدين ابن أبي عمر
(5)
: بأنَّ الاعتبار في ذلك بسنة المغلِّ دون السَّنة الهلالية، في جماعة مقدّرين
(6)
في قرية حصل
(1)
في (ب) و (د): ونحوه.
(2)
في (أ): من أبنائه.
(3)
قوله: (من مات) سقط من (أ).
(4)
قال في الاختيارات (ص 259): (ومن نزل في مدرسة ونحوها استحق بحصته من المغل، ومن جعله كالولد فقد أخطأ).
(5)
هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، الجماعيلي، شمس الدين، ابن الشيخ أبي عمر، ويعرف عند الأصحاب بالشارح، لأنه مؤلف كتاب:(الشرح الكبير)، تفقه على والده وعمه موفق الدين ابن قدامة، ودرس وأفتى، وأقرأ العلم زمانًا طويلًا، قال الذهبي:(ستين سنة)، وانتهت إليه رياسة المذهب في عصره، بل رياسة العلم في زمانه، توفي سنة 682 هـ. ينظر: تاريخ الإسلام 15/ 469، ذيل الطبقات 4/ 172.
(6)
في (هـ): مقرَّبين. وهي كذلك في ذيل الطبقات (4/ 185).
لهم حاصل من قريتهم الموقوفة عليهم، فطلبوا أن يأخذوا ما استحقوه عن الماضي - وهو مغلُّ سنة خمس وأربعين مثلًا-؛ فهل يصرف إليهم النَّاظر بحساب سنة خمس الهلاليَّة، أو بحساب سنة المغلِّ، مع أنَّه قد نزل بعد هؤلاء المتقدِّمين جماعة شاركوا في حساب سنة المغلِّ، فإنْ أخذ أولئك على حساب السَّنة الهلاليَّة؛ لم يبق للمتأخرين إلَّا شيء يسير؟
فأجاب: بأنَّه لا يحتسب إلَّا بسنة المغلِّ دون الهلاليَّة، ووافقه جماعة من الشَّافعيَّة والحنفية على ذلك
(1)
.
(1)
من قوله: (وأفتى الشيخ شمس الدين
…
) إلى هنا سقط من (أ) و (ج) و (د) و (و). وقد ذكر ابن رجب هذه الفتوى في ذيل الطبقات 4/ 185، وذكر أن الذين وافقوه هم: أبو شامة، وابن رزين الشافعي، وسليمان الحنفي.
قاعدة [84]
الحمل؛ هل له حكم قبل انفصاله أم لا
؟
حكى القاضي وابن عقيل وغيرهما في المسألة روايتين، قالوا: والصَّحيح من المذهب أنَّ له حكماً.
وهذا الكلام على إطلاقه قد يستشكل، فإنَّ الحمل يتعلَّق به أحكامٌ كثيرة ثابتة بالاتَّفاق؛ مثل: عزل الميراث له، وصحَّة الوصية له، ووجوب الغرَّة بقتله، وتأخير إقامة الحدِّ واستيفاءِ القصاص من أمِّه حتَّى تضعه، وإباحة الفطر لها إذا خشيت عليه، ووجوب النَّفقة لها إذا كانت بائناً، وإباحة طلاقها وإن كانت
(1)
موطوءة في ذلك الطُّهر قبل ظهوره، إلى غير ذلك من الأحكام، ولم يريدوا إدخال هذه الأحكام في محلِّ الروايتين.
وفصل القول في ذلك: أنَّ الأحكام المتعلِّقة بالحمل نوعان:
أحدهما: ما يتعلق - بسبب الحمل - بغيره: فهذا ثابت بالاتفاق؛ لأنَّ الأحكام الشَّرعية تتعلق على الأسباب الظاهرة، فإذا ظهرت أمارات الحمل؛ كان وجوده هو الظَّاهر، فيترتَّب
(2)
عليه أحكامه في الظَّاهر، ثمَّ
(1)
في (أ): إن كانت
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (ن): فترتبت. وفي (هـ): فترتُّب.
إن خرج حيًّا؛ تبيَّنا ثبوت تلك الأحكام في الباطن، وإن بان أنَّه لم يكن حمل أو خرج ميتاً؛ تبيَّنَّا فساد ما يتعلَّق من الأحكام به أو بحياته؛ كإرثه ووصيَّته.
وهذه الأحكام كثيرة جدًّا، بعضها
(1)
متَّفق عليه، وبعضها فيه اختلاف
(2)
.
فمنها: إذا ماتت كافرةٌ وفي بطنها حملٌ محكوم بإسلامه؛ لم تدفن في مقابر الكفَّار؛ لحرمة الحمل.
ومنها: إخراج الفطرة عن الحمل، وهي مستحبَّة، وفي وجوبها طريقان للأصحاب:
منهم: من جزم بنفي الوجوب.
ومنهم من قال: في المسألة روايتان.
ومنها: فطر الحامل إذا خافت على جنينها من الصَّوم؛ ويجب عليها القضاء والكفارة، وهل الكفارة من مالها، أو بينها وبين من يلزمه نفقة الحمل؟ على احتمالين، ذكرهما ابن عقيل في «فنونه» .
ومنها: إذا اشترى جارية فبانت حاملاً؛ فنصَّ أحمد في رواية أبي طالب: (أنَّ البائع إن أقرَّ بوطئها رُدَّت إليه؛ لأنَّها أم ولد له، وإن أنكر؛ فإن شاء المشتري ردَّها، وإن شاء
(3)
لم يردها).
(1)
في (ب) و (د) و (هـ): وبعضها.
(2)
في (ب): اختلاف أحكامه.
(3)
قوله: (وإن شاء) هو في (ب): وإن لم يشأ.
فأبطَلَ البيع مع إقرار البائع بالوطء بمجرَّد تبيُّن الحمل.
وقال ابن عقيل: عندي لا يجب الرَّدُّ حتَّى تضع ما تصير به الأمة أمَّ ولد؛ لجواز ألَّا يكون كذلك.
وهذا تفريع على قولنا: بصحَّة البيع قبل الاستبراء، فأمَّا على الرِّواية الأخرى؛ فالبيع من أصله باطل؛ لعدم استبراء البائع.
ومنها: لو وطئ الرَّاهن أمته المرهونة فأحبلها؛ خرجت من الرَّهن، ولزمه قيمتها يكون رهناً، كذا
(1)
قاله كثير من الأصحاب.
ومنهم من قال: بتأخير
(2)
الضَّمان حتى تضع؛ فيلزمه قيمتها يوم أحبلها.
ومنها: إذا وطئ جارية من المغنم فحملت؛ فإنَّها تقوم عليه في الحال، وتصير مستولدة له، هذا هو المنصوص عن أحمد.
وقال القاضي في «خلافه» : لا تصير مستولدة؛ بناءً على أنَّ الغنيمة لا تملك بدون القسمة، لكن يمنع من بيعها؛ لكونها حاملاً بحرٍّ، ولا تؤخَّر قسمتها، فتعيَّن أن تحسب عليه من نصيبه لذلك.
ومنها: إذا قال لزوجته: إن كنت حاملاً فأنت طالق؛ فالمنصوص عن أحمد في رواية مهنَّى: (أنه ينظر النِّساء إليها، فإن خفي عليهنَّ، فإن جاءت به لتسعة أشهر أو لستَّة أشهر؛ حنث)
(3)
.
(1)
قوله: (كذا) سقط من (أ).
(2)
في (ب) و (ج) و (هـ) و (و): يتأخَّر.
(3)
لم نقف على الرواية، وقد ذكر ابن قدامة في المغني (7/ 456) رواية من رواية أبي طالب:(إذا قال لامرأته: متى حملت فأنت طالق: لا يقربها حتى تحيض، فإذا طهرت وطئها، فإن تأخر حيضها أريت النساء من أهل المعرفة، فإن لم يوجدن أو خفي عليهن؛ انتظر عليها تسعة أشهر غالب مدة الحمل).
فأوقع الطَّلاق بشهادة النِّساء بالحمل، أو بولادتها لغالب مدَّة الحمل عند خفائه.
وصحَّح القاضي في موضع من «الجامع» هذه الرِّواية.
وقال أكثر الأصحاب: إن ولَدَت لأكثر من نهاية مدَّة الحمل؛ لم تطلُق، وإن ولدت لدون أكثر مدَّة الحمل: فإن كان لم يطأها بعد اليمين؛ طلَقت، وإن وطئها بعد اليمين، فإن ولدت لدون ستة أشهر من أوَّل
(1)
الوطء؛ طلَقت، وإن ولدت لأكثر منه؛ فوجهان:
أشهرهما: لا تطلُق، وجعله القاضي في «المجرد» وجهاً واحداً؛ لاحتمال العلوق به من الوطء المتجدد.
والثَّاني: تطلُق؛ لأنَّ الأصل عدمه.
وفيه وجه آخر: لا تطلق حتَّى تضعه لدون ستَّة أشهر بكلِّ حال؛ لأنَّه لا يتيقن وجوده عند اليمين بدون ذلك، والطَّلاق لا يقع مع الشَّك والاحتمال.
ومنها: إذا كان لرجل زوجة لها ولد من غيره، فمات ولا أب له، وقد كان تقدَّم من الزَّوج وطء هذه الزَّوجة؛ فإنه يُمنع من وطئها بعد موت ولدها حتَّى يتبيَّن هل هي حامل من وطئه المتقدِّم أم لا؛ لأجل ميراث الحمل من أخيه.
(1)
في (ب): حين.
وكذلك إذا كان عبد تحته حرَّة قد وطئها، وله أخ حرٌّ، فيموت أخوه الحرُّ؛ فإنَّه يُمنع من وطء زوجته حتَّى يتبين هل هي حامل أم لا؛ لأجل ميراث الحمل من عمِّه.
ثمَّ إن جاءت بولد لدون ستة أشهر من حين الموت؛ فإنَّه يرث بلا إشكال.
وإن جاءت به لأكثر من ستَّة أشهر ولأقل من أكثر مدَّة الحمل؛ فإن كفَّ الزَّوج عن الوطء من حين الموت ورث الحمل؛ لأنَّ الظاهر أنَّها كانت حاملاً.
قال أحمد في رواية ابن منصور، في رجل تزَّوج امرأة لها ابنٌ من غيره فيموت ابنها: إن
(1)
جاءت بولد دون ستَّة أشهر من يوم مات ابنها؛ ورَّثناه، وإن جاءت بالولد بعد ستة
(2)
أشهر؛ لم نورِّثه إلا ببينة، ويكفُّ عن امرأته إذا مات ولدها، فإن لم يكفَّ، فجاءت
(3)
بولد لأكثر من ستَّة أشهر؛ فلا أدري أهو أخوه أم لا؟
(4)
.
(1)
في (أ): فإن.
(2)
في (ب): الستة.
(3)
في (أ): وجاءت.
(4)
في مسائل ابن منصور (4/ 1751): قال سفيان في رجل تزوج امرأة ولها ابن من غيره فيموت ابنها: إن جاءت بالولد دون ستة أشهر من يوم مات ابنها ورّثناه، وإن جاءت بالولد بعد ستة أشهر لم نورّثه إلا ببينة.
قال أحمد: يكف عن امرأته، فإن لم يكف فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر فلا أدري هو أخوه أم لا؟
فجعل أول الكلام من قول سفيان، وأقره عليه أحمد.
وظاهر هذا: أنَّه إن كفَّ عن الوطء ورث الولد.
وإن لم يكفَّ؛ فإن جاءت بالولد بعد الوطء لدون ستَّة أشهر ورث أيضاً، وكان كمن لم يطأ، وإن جاءت به لستَّة أشهر فصاعداً؛ فظاهر كلام أحمد الَّذي ذكرناه: أنَّه لا يرث، وبه جزم القاضي في «المجرد» ؛ إلَّا أن يقر الورثة أنَّها كانت حاملاً يوم مات
(1)
ولدها.
وقال في «الجامع الكبير» : يحتمل وجهين، خرَّجهما من مسألة تعليق الطَّلاق على الحمل الَّتي تقدمت
(2)
.
النَّوع الثَّاني: الأحكام الثَّابتة للحمل في نفسه، من ملك، وتملُّك، وعتق، وحكم بإسلام، واستلحاق نسب ونفيه، وضمان، ونفقة.
وهذا النَّوع هو مراد من حكى الخلاف في الحمل؛ هل له حكم أم لا؟
وبعض هذه الأحكام ثابتة بغير خلاف، ولنذكر جملة من هذه الأحكام:
فمنها: وجوب النَّفقة له؛ فتجب النفقة للحمل
(3)
على الأب وإن كانت أمه لا نفقة لها؛ كالبائن بالاتفاق.
وهذه النَّفقة للحمل لا لأمِّه على أصحِّ الرِّوايتين
(4)
، وهي اختيار
(1)
في (ب): موت.
(2)
ينظر ص
…
(3)
في (ب): نفقة الحمل.
(4)
كتب على هامش (ن): (قال في «المغني» : والثَّانية تجب لها من أجله؛ لأنَّها تجب مع الإعسار واليسار، فكانت لها كنفقة الزَّوجات، ولأنَّها لا تسقط بمضيِّ الزَّمان، فأشبهت نفقتها في حياته، انتهى.
وفيه ما يقتضي أنَّ النَّفقة عليه ولو كان معسراً، وأنَّها لا تسقط بمضي الزَّمان على الرِّوايتين، وخلاف ما ذكره هنا في الأولى).
الخرقيِّ وأبي بكر، ولهذا تدور معه وجوداً وعدماً
(1)
.
فعلى هذه؛ تجب مع نشوز الأمِّ، وكونها حاملاً من وطء شبهة أو نكاح فاسد.
ويجب على سائر من تجب عليه نفقة الأقارب مع فقد الأب بالموت أو الإعسار، ذكره القاضي في «خلافه» ، وصاحب «المحرَّر» .
ويسقط بيسار الحمل إذا حكم له بمال، ذكره القاضي أيضاً في «الخلاف» ، وظاهر كلامه في كتاب الرِّوايتين بخلاف
(2)
ذلك.
ويجب الإنفاق في مدَّة الحمل، ولا يقف على الوضع، نصَّ عليه أحمد
(3)
.
(1)
كتب على هامش (ن): (لا يلزم من دورانها معه وجوداً أو عدماً كونها له، بل ذلك لكونه سبباً لوجوبها لأمِّه؛ إذ لو كانت له؛ لم يجعل الوضع غاية له، ولم تسقط بانفصاله، ولتقدرت بقدر تغذيه من أمِّه لا بقدر كفايتها، ولما وجبت كسوتها، ولما وجبت مع الإعسار، ولسقطت بمضي الزَّمان، وقد علَّله في «المغني» بهذين الفرعين الأخيرين، فذكر ذلك على أنَّها محل وفاق).
(2)
في (ب) وباقي النسخ: يخالف.
(3)
ينظر: الهداية لأبي الخطاب ص 497.
وخرَّج الآمديُّ وأبو الخطاب وجهاً إذا قلنا: لا حكم للحمل: أنَّه لا تجب النَّفقة حتى ينفصل، فيرجع بها.
وهو ضعيف مصادم لقوله تعالى: {وإن كنَّ أولات حمل فأنفقوا عليهنَّ حتى يضعن حملهن} .
وأمَّا أمُّ الولد إذا مات عنها سيِّدها وهي حامل؛ فليست من هذا القبيل، وإن كان أبو الخطَّاب ذكر في وجوب النَّفقة لها لأجل الحمل روايتين، بل نفقة هذه من جنس نفقة الحامل المتوفَّى عنها، وفيها أيضاً روايتان.
وليس ذلك مبنيًّا على أنَّ النَّفقة للحمل أو للحامل كما زعم ابن الزاغونيِّ وغيره؛ فإنَّ نفقة الأقارب تسقط بالموت، ولكن هذا من باب وجوب النفقة على المحبوسة لحقِّ الزَّوج من ماله؛ كنفقة البائن الحائل
(1)
.
نعم، يتوجَّه أن يقال: إن قلنا: النَّفقة للحامل؛ وجبت نفقة أمِّ الولد والمتوفَّى عنها من التَّركة؛ لأنَّهما محبوستان لحق الزوج، فإذا وجبت لهما نفقة فهي من ماله، وإن قلنا: النَّفقة للحمل؛ فهي على الورثة كما سبق، وهذا عكس ما ذكره ابن الزاغونيِّ ومن وافقه.
وفي نفقة أمِّ الولد الحامل ثلاث روايات عن أحمد:
إحداها: لا نفقة لها، نقلها حرب وابن بختان
(2)
.
(1)
في (ب): الحائل البائن. وفي (هـ): الحامل البائن. وفي (و): البائن الحامل.
(2)
جاء في مسائل حرب (2/ 597): قلت لأحمد: أم الولد إذا مات عنها سيدها هل ينفق عليها؟ قال: (لا، وإن كانت حاملًا أيضًا لم ينفق عليها).
والثَّانية: ينفق عليها من نصيب ما في بطنها، نقلها محمَّد بن يحيى الكحَّال
(1)
.
والثَّالثة: إن لم يكن ولدت من سيِّدها قبل ذلك؛ فنفقتها من جميع المال إذا كانت حاملاً، وإن كانت ولدت من سيِّدها
(2)
قبل ذلك؛ فهي في عداد الأحرار، ينفق عليها من نصيبها
(3)
، نقلها عنه جعفر بن محمَّد
(4)
، وهي مشكلة جداً.
ومعناها عندي -والله أعلم-: أنَّها إذا كانت حاملاً ولم تضع من سيِّدها قبل ذلك؛ فنفقتها من جميع المال؛ لما ذكرنا من حبسها على سيِّدها بالحمل، فتكون النَّفقة عليه حيث لم يثبت استيلادها بعد، ويجوز ألَّا تصير أمَّ ولد بالكليَّة وتسترقَّ، فإذا أنفق عليها من جميع المال، فإن تبيَّن عتقها؛ فقد استوفت الواجب لها، وإن رقَّت؛ لم يذهب على الورثة شيء، حيث أنفق على رقيقهم من مالهم، وإن كانت ولدت قبل ذلك من سيِّدها؛ فقد ثبت لها حكم الاستيلاد في حياة
(1)
ذكرها في الفروع 9/ 310.
والكحال: هو محمد بن يحيى الكحال، أبو جعفر البغدادي المتطبب، كانت عنده عن الإمام أحمد مسائل كثيرة حسان مشبعة، وكان من كبار أصحابه، وكان يقدمه ويكرمه. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 328.
(2)
قوله: (من سيِّدها) سقطت من (أ) و (ج) و (د) و (هـ).
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: نصيب ولدها).
(4)
ذكرها في الفروع 9/ 310.
السَّيِّد، وهو معنى قوله:(هي في عداد الأحرار)، وحينئذ تَعتِق بموت السَّيِّد بلا ريب؛ فإيجاب نفقتها على ولدها أولى من إيجابها من مال سيِّدها، ويزيده إيضاحاً في المسألة الآتية.
ومنها: وجوب نفقة الأقارب على الحمل من ماله، وقد نصَّ أحمد في رواية الكحَّال: أنَّ نفقة أمِّ الولد الحامل من نصيب ما في بطنها، ذكره القاضي في «خلافه»
(1)
.
واستشكله الشيخ مجد الدين؛ قال: لأنَّ الحمل إنَّما يرث بشرط خروجه حيًّا، ويوقف نصيبه؛ فكيف يتصرَّف فيه قبل تحقُّق الشَّرط؟!
ويجاب عنه: بأنَّ هذا النص يشهد لثبوت ملكه بالإرث من حين موت مورثه
(2)
، وإنَّما خروجه حيًّا يتبيَّن به وجود ذلك، فإذا حكمنا له بالملك ظاهراً؛ جاز التَّصرُّف فيه بالنفقة الواجبة عليه وعلى من تلزمه نفقته، لا سيَّما والنَّفقة على أمِّه يعود نفعها إليه، كما يُتصرَّف في مال المفقود إذا غلب على الظنِّ هلاكه، ويُقسَّم ماله بين ورثته، وإن جاز أن يكون حيًّا، بل هو الأصل، حتَّى لو قدم حيًّا، وقد استُهلِك مالُه في أيدي الورثة؛ ففي ضمانه روايتان، فكذا
(3)
يقال في مال الحمل.
ويشهد له: إذا أنفق الزَّوج على البائن يظنُّها حاملاً، ثم تبين أنَّها لم
(1)
جاء في الروايتين والوجهين (2/ 240): وقال أيضاً في رواية أبي جعفر بن محمد بن يحيى المتطبب - وهو الكحَّال - في الرجل يموت فيخلف أم ولد حامل: من أين ينفق عليها؟ قال: (من مال ما في بطنها، يؤخذ بالحصص).
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): موروثه.
(3)
في (ب) و (د) و (هـ): وكذا.
تكن حاملاً؛ ففي الرُّجوع روايتان أيضاً.
وقد يحمل إيجاب
(1)
النَّفقة للأمِّ من نصيب الحمل على أنَّ الأمَّ ترجع به على نصيبه إذا وضعته حيًّا، وفيه بعدٌ.
ومنها: ملكه بالميراث وهو متَّفق عليه في الجملة، لكن هل ثبت له الملك بمجرَّد موت مورِّثه
(2)
وتبيَّن ذلك بخروجه حيًّا، أو لم
(3)
يثبت له الملك حتَّى ينفصل حيًّا؟
فيه خلاف بين الأصحاب، وهذا الخلاف مطَّرد في سائر أحكامه الثَّابتة له؛ هل هي معلَّقة بشرط انفصاله حيًّا فلا يثبت قبله، أو هي ثابتة له في حال كونه حملاً، لكن ثبوتها مراعًى بانفصاله حيًّا؛ فإذا انفصل حيًّا
(4)
تبيَّنا ثبوتها من حين وجود أسبابها؟
وهذا هو تحقيق معنى
(5)
قول من قال: هل الحمل له حكم أم لا؟ والَّذي يقتضيه نصُّ أحمد في الإنفاق على أمِّه من نصيبه: أنَّه يثبت له الملك بالإرث من حين موت أبيه، وصرَّح بذلك ابن عقيل وغيره من الأصحاب.
ونُقل عن أحمد ما يدلُّ على خلافه أيضاً؛ فروى عنه جعفر بن محمَّد في نصرانيٍّ مات وامرأته نصرانيَّة وكانت حبلى، فأسلمت بعد
(1)
في (ب): أصحاب.
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): موروثه.
(3)
في (ب): لا.
(4)
قوله: (حيًّا) سقط من (ب) و (د) و (هـ).
(5)
في (ب): معنى تحقيق.
موته ثمَّ ولدت: هل يرث
(1)
؟ قال: (لا)، وقال:(إنَّما مات أبوه وهو لا يعلم ما هو، وإنَّما يرث بالولادة)، وحكم له بحكم الإسلام
(2)
(3)
.
وقال محمَّد بن يحيى الكحَّال: قلت لأبي عبد الله: مات نصرانيٌّ وامرأته حامل، فأسلمت بعد موته؛ قال:(ما في بطنها مسلم)، قلت: يرث أباه إذا كان كافراً وهو مسلم؟ قال: (لا يرثه)
(4)
.
فصرَّح بالمنع من إرثه من أبيه، معلِّلاً بأنَّ إرثه يتأخَّر إلى ما بعد ولادته؛ لأنَّه قبل ذلك مشكوك في وجوده، وإذا تأخَّر توريثه إلى ما بعد الولادة؛ فقد سبق الحكم بإسلامه زمن الولادة؛ إما بإسلام أمِّه كما دل عليه كلام أحمد هنا، أو بموت أبيه على ظاهر المذهب، والحكم بالإسلام لا يتوقَّف على العلم به، بخلاف التَّوريث، وهذا يرجع إلى أنَّ التَّوريث يتأخَّر عن موت الموروث إذا انعقد سببه في حياة الموروث، وأصول أحمد تشهد لذلك في إسلام القريب الكافر قبل قسمة الميراث.
وأمَّا على ما صرَّح به ابن عقيل وغيره، وهو مقتضى رواية الكحَّال في النَّفقة؛ فيرث الحمل بموت أبيه منه وإن قلنا: يحكم بإسلامه بموت أحد أبويه؛ كما سبق تقريره في قاعدة اقتران الحكم ومانعه.
وأمَّا إن قيل: لا يحكم بإسلامه بموت أحدهما؛ فتوريثه واضح؛ إذ
(1)
في (ب): ترث.
(2)
ينظر: أحكام أهل الملل والردة، للخلال، ص 332.
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: وهو في بطن أمِّه).
(4)
ينظر: أحكام أهل الملل والردة، ص 331.
اختلاف الدِّين متأخِّر عن التَّوريث، وتخريج
(1)
كلام أحمد على ما ذكرناه واضح لا خفاء به، وقد ألمَّ به بعض الأصحاب.
وأمَّا القاضي والأكثرون؛ فاضطربوا في تخريج كلام أحمد في منع الميراث، وللقاضي في تخريجه ثلاثة أوجه:
الأوَّل: أنَّ إسلامه قبل قسمة الميراث أوجب
(2)
منعه من التَّوريث؛ كما أنَّ إسلام الكافر قبل قسمة ميراث المسلم توجب توريثه؛ اعتباراً بالقسمة في التَّوريث والمنع.
وهذه طريقة القاضي في «المجرَّد»
(3)
وابن عقيل في «الفصول» ، وهي ظاهرة الفساد؛ لأنَّ إسلام قريب الكافر بعد موته
(4)
وثبوت إرثه لا يسقط توريثه منه بغير خلاف، فإنَّ توريث المسلم قبل القسمة يثبت ترغيباً في الإسلام وحثًّا عليه
(5)
، وهذا المقصود ينعكس ههنا
(6)
.
(1)
في (ب): ويتخرَّج. وفي (د) و (هـ): ويخرَّج.
(2)
في (أ) و (د) و (هـ): أوجبت.
(3)
قوله: (في المجرَّد) سقط من (أ).
(4)
كتب على هامش (ن): (أي: بعد موت الكافر وبعد ثبوت إرثه منه؛ لاتفاق دينهما حالة موت الموروث).
(5)
كتب على هامش (ن): (أي: بخلاف إسلام قريب المسلم بعد موته وقبل قسمة ميراثه).
(6)
كتب على هامش (ن): (أي: لأنه لو سقط توريثه من قريبه بإسلامه كان فيه تنفير عن الإسلام، بخلاف إسلام الكافر قبل قسمة ميراث قريبه المسلم، فإن توريثه منه فيه ترغيب في الإسلام وحث عليه، فلا يقاس فرع على أصل يخالفه في علة حكمه).
والثَّاني: أنَّ هذه الصورة من جملة صور توريث الطِّفل المحكوم بإسلامه بموت أبيه منه، ونصُّه هذا يدلُّ على عدم التَّوريث؛ فتكون رواية ثانية في المسألة.
وهذه طريقة القاضي في كتاب الرِّوايتين، وهي ضعيفة؛ لأنَّ أحمد صرَّح بالتعليل بغير ذلك، ولأنَّ توريث الطِّفل من أبيه الكافر - وإن حُكم بإسلامه بموته - غير مختلف فيه، حتَّى نقل ابن المنذر وغيره عليه الإجماع
(1)
؛ فلا يصحُّ حمل كلام أحمد على ما يخالف الإجماع
(2)
.
والثَّالث: أنَّ الحكم بإسلام هذا الطَّفل حصل بشيئين: موت أبيه، وإسلام أمِّه، وهذا الثَّاني مانع قويٌّ؛ لأنَّه متَّفق عليه، فلذلك منع الميراث، بخلاف الولد المنفصل إذا مات أحد أبويه؛ فإنَّه يحكم بإسلامه ولا يمنع إرثه؛ لأنَّ المانع فيه ضعيف للاختلاف فيه.
(1)
قال ابن المنذر في الإجماع (ص 74): (وأجمعوا على أن الرجل إذا مات وزوجته حبلى، أن الولد الذي في بطنها يرث، ويورث إذا خرج حيًّا فاستهل).
(2)
جاء في هامش (ن): (أي: وإنما يورَّث الحمل من أبيه، فليس مجمعاً عليه؛ لأنه حالة موت أبيه لم يكن يُعلم ما هو؛ هل هو ممن يصلح كونه وارثاً لوجود الحياة فيه، أو لا يصلح؛ إما لأنه لم تنفخ فيه الروح، أو لأنه قد مات قبل موت أبيه فلم يثبت استحقاقه للإرث، ولا كونه أهلاً له، بخلاف الطفل المولود حين موت أبيه، فإنه أهل للإرث بغير خلاف).
وهذه طريقة القاضي في «خلافه» ، وهي ضعيفة أيضاً
(1)
، ومخالفة لتعليل أحمد؛ فإنَّ أحمد إنَّما عَلَّل بسبق المانع
(2)
لتوريثه، لا بقوَّة المانع وضعفه، وإنَّما ورَّث أحمد من
(3)
حُكم بإسلامه بموت أحد أبويه؛ لمقارنة المانع
(4)
لا لضعفه.
ومنها: ثبوت الملك له بالوصيَّة، وفيه الخلاف السَّابق في التَّوريث، واختيار
(5)
القاضي: أنَّ الوصيَّة له تعليقٌ على خروجه حيًّا، والوصيَّة قابلة للتَّعليق، بخلاف الهبة.
وابن عقيل تارة وافق شيخه، وتارة خالفه وحكم بثبوت الملك من حين موت الموصي وقبول الوليِّ له.
(1)
جاء في هامش (ن): (لم يبين المصنف وجه ضعف هذه الطريقة، ولا يلزم من مخالفتها لتعليل أحمد ضعفها).
(2)
جاء في هامش (ن): (وهو قوله: "إنما مات أبوه وهو لا يُعلم ما هو، وإنما يرث بالولادة").
(3)
في (ب): من ما.
(4)
جاء في هامش (ن): (أي: لمقارنة المانع، وهو اختلاف الدين للمقتضي، وهو اتحاد الدين حالة الموت فمقارنة المانع للمقتضي أوجب ضعف المانع عن المنع فأثَّر اقتضاء المقتضي للإرث لقوته؛ لأنه لولا قوته لما قارن المانع، ولأن المقتضي له قوة بكونه أصلاً سابقاً والمانع طارئ عليه، والطارئ ضعيف بالنسبة إلى الأصيل الثابت).
(5)
في (ب) و (د): واختار.
وصرَّح به أبو المعالي التَّنوخيُّ
(1)
، وبأنَّه ينعقد الحول عليه من حين الحكم بالملك إذا كان مالاً زكويًّا، وكذلك في المملوك بالإرث.
وحكى وجهاً آخر: أنَّه لا يجري في حول الزَّكاة حتَّى يوضع؛ للتَّردد في كونه حيًّا مالكاً؛ فهو كالمكاتب، ولا يعرف هذا التَّفريع في المذهب.
ومنها: الإقرار المطلق للحمل؛ هل يصحُّ أم لا؟ على وجهين.
قال التَّميميُّ: لا يصحُّ.
وقال ابن حامد والقاضي: يصحُّ.
واختُلِف في مأخذ البطلان:
فقيل: لأنَّ الحمل لا يَملِك إلَّا بالإرث والوصيَّة، فلو صحَّ الإقرار له لملك بغيرهما، وهو فاسد، فإنَّ الإقرار كاشف للملك ومبيِّن له، لا موجب له.
وقيل: لأنَّ ظاهر الإطلاق ينصرف إلى المعاملة ونحوها، وهي مستحيلة مع الحمل.
وهو ضعيف؛ لأنَّه إذا صحَّ له
(2)
الملك بوجه؛ حمل الإقرار مع الإطلاق عليه.
(1)
هو أسعد، ويسمى محمد بن المنجى بن بركات بن المؤمل التنوخي الدمشقي، القاضي وجيه الدين أبو المعالي، أخذ الفقه عن الشيخ عبد القادر الجيلي، وعن عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج، له مصنفات منها: الخلاصة في الفقه، والنهاية في شرح الهداية، توفي سنة 606 هـ. ينظر: ذيل الطبقات 3/ 98.
(2)
قوله: (الملك له) سقط من (د)، وهي في (ب): أنَّ الملك.
وقيل: لأنَّ الإقرار للحمل تعليق له على شرط الولادة؛ لأنَّه لا يَملِك بدون خروجه حيًّا، والإقرار لا يقبل التَّعليق، وهذه طريقة ابن عقيل، وهي أظهر، وترجع المسألة حينئذ إلى ثبوت الملك له وانتفائه كما سبق.
ومنها: استحقاق الحمل من الوقف، والمنصوص عن أحمد كما سبق
(1)
: أنَّه لا يستحق حتَّى يوضع، وهو قول القاضي والأكثرين.
وقال ابن عقيل: يثبت له استحقاق الوقف في حال كونه حملاً، حتَّى صحَّح الوقف على الحمل ابتداء.
وقياس قوله في الهبة
(2)
كذلك؛ إذ تمليك الحمل عنده تمليك منجَّز لا معلَّق.
وإنَّما منع القاضي صحَّة الهبة له؛ لأنَّ تمليكه تعليق
(3)
على خروجه حيًّا، والهبة لا تقبل التَّعليق.
وأفتى الشَّيخ تقي الدين: باستحقاق الحمل من الوقف أيضاً
(4)
.
ويُمكن التَّفريق على المنصوص بين الوقف وغيره من الإرث والوصية والهبة: بأنَّ الوقف إنَّما المقصود منه منافعه وثمراته وفوائده، وهي مستحَقَّة على التَّأبيد لقوم بعد قوم، والحمل ليس من أهل الانتفاع؛ فلا يستحِقُّ منه شيئاً مع وجود المنتفعين به حتَّى يولد ويحتاج إلى
(1)
ص ....
(2)
قوله: (وقياس قوله في الهبة) هو في (ب): تعلّق.
(3)
في (ب): أن تمليكه تعلَّق.
(4)
قوله: (أيضًا) سقط من (ب). وينظر: الاختيارات (ص 257).
الانتفاع معهم، بخلاف الملك الَّذي يختصُّ به واحد معيَّن لا يشاركه فيه غيره؛ فإنَّ هذا يثبت للحمل، ولا يجوز انتزاعه منه مع وجوده.
ويلزم من ذلك صحَّة
(1)
الوقف على الحمل المعيَّن دون استحقاقه مع أهل الوقف.
ومنها: الأخذ للحمل بالشُّفعة إذا مات مورِّثه
(2)
بعد المطالبة بها
(3)
؛ قال الأصحاب: لا يؤخذ له.
ثمَّ منهم من علَّل: بأنَّه لا يتحقَّق وجوده.
ومنهم من علَّل: بانتفاء ملكه.
ويتخرَّج وجه آخر: بالأخذ له بالشُّفعة؛ بناء على أنَّ له حكماً وملكًا.
ومنها: اللِّعان على الحمل، وفيه روايتان ذكرهما القاضي في «خلافه» ، وفي كتاب «الرِّوايتين»:
إحداهما: لا يصحُّ نفيه ولا الالتعان عليه؛ لأنَّه غير متحقِّق
(4)
، نقلها أبو طالب ونقلها حنبل
(5)
والميمونيُّ عن أحمد؛ وعلَّل باحتمال كونه ريحاً
(6)
، وهذا هو المذهب عند الأصحاب.
(1)
في (ب): قسمة.
(2)
في (ب) وبقية النسخ: موروثه.
(3)
قوله: (بها) سقط من (ب) و (د) و (هـ).
(4)
قوله: (لأنه غير متحقق) سقط من (أ).
(5)
في (ب): وحنبل.
(6)
ذكر القاضي في الروايتين والوجهين (2/ 195)، الروايات الثلاث عن أحمد، قال:(نقل أبو طالب والميموني وغيره: لا يلاعن بالحمل، لعله من علة ثم ينفش)، ثم قال:(قال أبو بكر الخلال: روى الجماعة؛ حنبل وأبو طالب وغيره: لا يلاعن بالحمل).
والثَّانية: يلاعن بالحمل، نقلها ابن منصور عن أحمد
(1)
، قال الخلَّال:(هو قولٌ أوَّل)، وذكر النَّجَّاد
(2)
: أنَّه هو
(3)
المذهب، واختاره صاحب «المغني» ، وقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نفى الولد عن المتلاعنين وكان حملاً
(4)
.
(1)
جاء في مسائل ابن منصور (4/ 1696): قلت: العبد إذا تزوج الحرة أو الأمة، أو الحر اليهودية أو النصرانية؛ يلاعنها؟ قال أحمد:(كلا الزوجين يلاعن، إنما هي نفي الولد)، قال:(وإذا كان قاذفاً، فكانت حاملاً أو لم تكن؛ يلاعنها).
ونقل القاضي عن الخلال أنه اعترض على مدلول هذه الرواية فقال: (وعندي أن ما نقله إسحاق لا يدل على اللعان على الحمل؛ لأن قوله: (إذا كان قاذفاً، وكانت حاملاً أو لم تكن حاملاً؛ لاعنها) معناه: يلاعن لإسقاط الحد لا لنفي النسب؛ لأن اللعان وجوبه يتعلق بوجود الحمل، والحمل غير متيقن؛ لأنه يجوز أن يكون في جوفها ريح أو علة فيتوهم أنه حمل، فلم يجز إيجاب اللعان بالشك).
وقد جاء في مسائل ابن منصور ما يشير إلى ذلك (4/ 1862)، قال: قلت: سئل سفيان عن رجل قال لامرأته: ما في بطنك ليس مني؟ تترك حتى تضع. قال أحمد: (نعم، إذا وضعت إن نفاه لاعنها، وإن ادعاه فالولد ولده).
(2)
هو أبو بكر أحمد بن سلمان بن الحسن بن إسرائيل النجاد الحنبلي البغدادي، شيخ العراق، سمع من جماعة من أصحاب أحمد؛ كابنه عبد الله، وأبي داود، وإبراهيم الحربي وغيرهم، وأخذ عنه: غلام الخلال والخرقي وغيرهما، توفي سنة (348 هـ). ينظر: طبقات الحنابلة 2/ 7، سير أعلام النبلاء 15/ 502.
(3)
قوله: (هو) سقط من (أ) و (ج) و (و).
(4)
قوله: (وقد ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه نفى الولد عن المتلاعنين، وكان حملاً) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ).
والحديث أخرجه مسلم (1492) من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه في ملاعنة عويمر العجلاني لامرأته، قال سهل:«فكانت حاملًا، فكان ابنها يدعى إلى أمه، ثم جرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها» .
وعلى هذا الخلاف يخرَّج صحَّة استلحاق الحمل والإقرار به؛ لأنَّ لحوق النَّسب أسرع ثبوتاً من نفيه.
والمنصوص عن أحمد في رواية ابن القاسم: أنَّه لا يلزم الإقرار به، وهو متنزِّل على قوله: إنَّه لا ينتفي باللِّعان عليه
(1)
.
ومنها: وجوب الغرَّة
(2)
بقتله إذا ألقته أمُّه ميتاً من الضرب، وهو ثابت بالسنة الصحيحة، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من اعترض
(3)
على ذلك معلِّلاً بأنَّه لم يشارك الأحياء في صفاتهم الخاصَّة من الأكل والشُّرب والاستهلال، وأن ذلك يقتضي إهداره، ونسبه إلى أنَّه من إخوان الكهَّان؛ حيث تكلَّم بكلام مسجع باطل في نفسه
(4)
.
(1)
ذكر القاضي في الروايتين والوجهين (2/ 196): أن أحمد قال في رواية ابن القاسم: (إذا أقر بحمل ثم رجع بعد الولادة أو قبل؛ لاعن بعد أن تضع، فأما إن ولدته فأقر به لم أقبل رجوعه أبداً).
(2)
الغرة: العبد أو الأمة، وأصل الغرة: البياض الذي يكون في وجه الفرس، ومعناه عند الفقهاء: ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية من العبيد والإماء. ينظر: النهاية في غريب الحديث 3/ 353.
(3)
في (ب): أعرض.
(4)
أخرجه البخاري (5758)، ومسلم (1681)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فأصاب بطنها وهي حامل، فقتلت ولدها الذي في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، «فقضى: أن دية ما في بطنها غرة عبد أو أمة»، فقال ولي المرأة التي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما هذا من إخوان الكهان» .
والعجب كلُّ العجب ممن يدعي التَّحقيق ويرتضي لنفسه مشاركة هذا المعترض، ويقول: القياس يقتضي إهداره.
وليس
(1)
كما ظنَّه؛ فإن هذا الجنين إمَّا أن يكون صادفه الضَّرب وفيه حياة، أو يكون ذلك قبل وجود الحياة فيه، ولا يجوز أن يكون قد فارقته الحياة؛ لأنَّه لو مات لم يستقرَّ في البطن، وحينئذ؛ فالجاني إمَّا أن يكون قتله، أو منع انعقاد حياته؛ فيضمنه
(2)
بالغرَّة؛ لتفويت انعقاد حياته كما ضمن المغرور ولده بالغرَّة لتفويت انعقادهم أرقَّاء، ولم يضمنوا كمال الدِّية والقيمة.
وأيضاً؛ فإنَّ دلائل حياته وسقوطه ميتاً عقيب الضَّربة؛ كالقاطع بأنَّها هي التي قتلته، ولعلَّ ذلك الظَّنَّ فوق مرتبة
(3)
اللَّوث
(4)
الموجب للقسامة.
وإن ماتت أمُّه قبله؛ فموتها سبَّب قتله بالاختناق وفقد التَّغذي،
(1)
في (ب): ليس.
(2)
في (ب) و (د): فضمنه.
(3)
في (ب): مرتبة فوق.
(4)
قال في تحرير ألفاظ التنبيه (ص 339): (اللَّوْث- بفتح اللام وإسكان الواو-: وهو قرينة تقوي جانب المدعي وتغلب على الظن صدقه، مأخوذ من اللوث، وهو القوة).
وذلك يوجب الضَّمان.
ولا يشترط الانفصال إلَّا لثبوت الضَّمان في الظاهر، فلو ماتت الأمُّ وجنينها؛ وجب ضمانهما، لكن اشترط أحمد في رواية ابن منصور الانفصال
(1)
؛ قال في امرأة قُتلت وهي حامل
(2)
: (إذا لم يُلْقَ الجنينُ؛ فليس فيه شيء)
(3)
.
قال القاضي والأصحاب: يكفي أن يظهر منه يد أو رجل، أو يكون
(4)
قد انشقَّ جوفها فشوهد الجنين وإن لم ينفصل؛ لأنَّ العلم بحاله يحصل بذلك.
وقال أحمد في رواية أبي طالب: (إذا
(5)
كان الجنين في بطن أمِّه، فقتلت الأمُّ ومات الجنين؛ فعلى العاقلة دية الأمِّ ودية الجنين)، ولم يَشترِط له
(6)
الانفصال.
ولو ماتت امرأة، وشوهد بجوفها حركة، ثمَّ عُصر جوفها، فخرج الجنين ميتاً؛ فهل يضمنه العاصر؟ على احتمالين ذكرهما القاضي
(1)
في (ب): الانتقال.
(2)
قوله: (قال في امرأة قتلت وهي حامل) سقط من (ب).
(3)
ينظر: مسائل ابن منصور (7/ 3564)، ولفظه:(قلت: إذا قتلت المرأة عمداً أو خطأ وهي حامل؟ قال أحمد: إذا لم تلق الجنين فليس فيه شيء، وأما إذا ألقت الجنين ميتاً ففيه غرة، وإذا ألقته حياً ثم مات ففيه الدية).
(4)
في (ب): يكون في امرأة.
(5)
في (ب): إذا قتلت وهي حامل.
(6)
قوله: (له): سقط من (ب) و (و).
وأبو الخطَّاب في «خلافهما» :
أحدهما: يضمنه؛ لأنَّ
(1)
الظَّاهر أنه مات بجناية العصر.
والثَّاني: لا يضمن؛ لأنَّه ينخنق
(2)
بموت أمه؛ فلا تبقى حياته بعدها.
وهل يختصُّ الضَّمان بجنين الآدميَّة، أم يتعدى إلى غيرها من الحيوانات؟
ذهب أكثر الأصحاب إلى الاختصاص؛ لأنَّ ضمان الجنين الميت على خلاف القياس، قالوا: وإنَّما يجب ضمان ما نقص من أمِّه بالجناية، ونصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور
(3)
.
وقال أبو بكر: يجب ضمان جنين البهائم بعُشر قيمة أمِّه؛ كجنين الأمة.
وقياسه: جنين الصيد في الحرم والإحرام، والمشهور: أنَّه يضمن بما نقص أمَّه أيضاً؛ لأنَّ غير الأدميِّ لا يُضمن بمقدَّر، وإنَّما يُضمن بما نقص.
ولو ألقت البهيمة بالجناية جنيناً حيًّا ثمَّ مات؛ فاحتمالان ذكرهما القاضي وابن عقيل في الرَّهن:
أحدهما: يضمن قيمة الولد حيًّا لا غير.
(1)
في (أ): لأنَّه.
(2)
في (ب) و (د) و (هـ): يتحقَّق. وفي (ج): منخنق. وزاد في (هـ): موته.
(3)
جاء في مسائل ابن منصور (7/ 3460): قلت: جنين الدابة؟ قال: (قدر ما ينقص).
والثَّاني: عليه أكثر الأمرين من قيمته أو ما نقصت الأمُّ.
وكذلك ذكر صاحب «المغني» في الأمة إذا أسقطت الجنين: هل يجب ضمانه فقط، أو يجب معه ضمان نقصها، أو ضمان أكثر الأمرين؟ ثلاثُ احتمالات.
والمذهب هو الأوَّل، ولم يذكر القاضي سواه.
وخرَّج الشيخ مجد الدين: أنَّ جنين الأمة يُضمن بما نقصت أمُّه لا غير؛ بناءً على قولنا: إنَّ
(1)
الرقيق لا يضمن بمقدَّر، بل بما نقص بكلِّ حال.
ولو قتل صيداً ماخضاً؛ ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يفديه بمثله من النَّعم ماخضٍ، وهو قول أبي الخطاب.
والثَّاني: يفديه بقيمة مثله؛ لأنَّ لحم الماخض يفسد، فقيمة المثل أزيد من قيمة لحمه، وهو قول القاضي.
والثَّالث: يجزئه أن يفديه بمثله غير ماخض؛ لأنَّ هذه الصَّفة عيب في اللَّحم، فلا تعتبر في المثل كسائر العيوب، ذكره في «المغني» احتمالاً.
ومنها: هل يوصف قتل الجنين بالعمديَّة أم لا؟
قال أحمد في رواية ابن منصور في امرأة شربت دواء، فأسقطت: (إن كانت تعمَّدت؛ فأحبُّ إليَّ أن تعتق رقبة، وإن سقط حيًّا ثمَّ مات؛ فالدِّية على عاقلتها لأبيه، ولا يكون
(2)
لأمِّه شيء؛ لأنَّها القاتلة)، قيل
(1)
في (ب): قوله؛ لأن.
(2)
في (ب): تكون.
له: فإن شربت عمداً؟ قال: (هو شبه العمد، شربت ولا تدري تُسقِط أم لا؟ عسى لا تُسقِط، الدِّية على العاقلة.
(1)
والظَّاهر أنَّه لم يجعله عمداً؛ للشَّكِّ في وجوده، لا للشَّكِّ في الإسقاط بالدَّواء؛ لأنَّه قد يكون الإسقاط به معلوماً؛ كما أنَّ القتل بالسُّمِّ ونحوه معلومٌ.
ومن هذه الرِّواية أخذ الأصحاب رواية وجوب الكفَّارة بقتل العمد، ولا يصحُّ ذلك؛ فإنَه صرَّح بأنَّه ليس بعمد، وإنَّما هو شبه عمد.
ومنها: عتق الجنين؛ هل ينفذ من حينه، أو يقف على خروجه حيًّا؟ في المسألة روايتان:
إحداهما: ينفذ من حينه، وهو المذهب.
والثَّانية: لا يعتق حتَّى تضعه حيًّا، نصَّ عليها
(2)
في رواية ابن منصور؛ قال
(3)
: (لا يجب العتق إلَّا بالوِلاد
(4)
، هو عبد حتَّى يُعلم أنَّه حيٌّ أو ميت)
(5)
.
وكذلك الخلاف إذا عتق تبعاً لعتق أمِّه، أو بملكه ممَّن يعتق عليه برحم.
ويتفرَّع على هذا الأصل فروع:
(1)
ينظر: مسائل ابن منصور (7/ 3378).
(2)
في (أ): عليه. وفي (ج): عليهما.
(3)
في (ب) و (ج): وقال.
(4)
قال في تاج العروس (9/ 325): (ولدت المرأة، تلد ولادًا وولادة).
(5)
ينظر: مسائل ابن منصور (7/ 3602).
الفرع الأوَّل: لو زوَّج ابنه بأمته، فولدت ولداً بعد موت الجدِّ سيِّد الأمة.
فإن قلنا: يعتق الحمل؛ فقد عتق على جدِّه، نصَّ عليه أحمد في رواية أبي طالب وصالح.
وإن قلنا: لا يعتق حتَّى توضع؛ فهو تركة موروثة عن سيِّده؛ فيرث منه أبوه وأعمامه بقدر حصصهم، ويعتق عليهم بالملك، نصَّ عليه أحمد في رواية المروذيِّ، وهذا لأنَّا وإن قلنا: ليس للحمل حكم؛ فالمعنى: أنَّه لا يثبت له حكم الأولاد المستقلِّين، وإلَّا فهو موجود حقيقة، ومودع في أمِّه، فالملك فيه قائم.
وطرد القاضي وابن عقيل الخلاف في ثبوت ملكه أيضاً، وذكرا في الوصايا: أنَّه لو وصَّى بأمة لزوجها وهي حامل منه فولدت، فإن قلنا: للحمل حكم؛ فهو موصى به معها يتبعها في الوصيَّة، وإن قلنا: لا حكم له؛ لم يدخل في الوصيَّة، وكان ملكاً لمن ولدته في ملكه؛ لأنَّه حينئذ ثبت له حكم بظهوره.
فإن ولدته في حياة الموصي؛ فهو له، أو بعد موته وقبل القبول
(1)
؛ فهو لمن حكمنا له بالملك
(2)
في تلك الحال، على الخلاف فيه، وإن ولدته بعد قبوله؛ فهو له ويعتق عليه.
(1)
قوله: (وقبل القبول) سقط من (ب).
(2)
في (ب) و (د) و (هـ): بالملك له.
وهذا يقتضي ههنا: أنَّا إذا قلنا: لا حكم للحمل ولا يعتق على جدِّه، فمات الجدُّ ووضع بعد موته: أنَّه
(1)
إن كان وضعه بعد القسمة؛ فهو ملك لمن حصلت الأَمَة له، وإن كان قبل القسمة؛ فهو مشترك بينهم، لا لأنَّه موروث لهم عن أبيهم، بل لأنَّه نماء ملكهم المشترك.
فظهر بهذا أنَّ للأصحاب
(2)
في معنى كون الحمل له حكم أو لا حكم له، طريقين:
أحدهما: أنَّه هل هو كجزء من أجزاء أمِّه، أو كالمعدوم وإنَّما يحكم بوجوده بالوضع؟
والثَّاني، وهو المنصوص: أنَّه مملوك منفصل عن أمِّه ومودع فيها، ولكن هل يثبت له حكم الولد المستقلِّ بدون انفصاله، أو لا يثبت له ذلك حتَّى ينفصل؟
الفرع الثَّاني: إذا أعتق الأمة الحامل؛ عتق حملها معها، ولكن هل يقف عتقه على انفصاله، أو يعتق من حين عتق أمه على ما تقدم؟.
وقياس ما ذكره القاضي وابن عقيل: أنَّه لا يعتق بالكليَّة
(3)
؛ إذ هو كالمعدوم قبل الوضع.
وهو بعيد جداً، فإنَّ أسوأ ما يقدَّر في الحمل أنَّه ورد عليه العتق في حالٍ مَنع من نفوذه مانع، فوقف على زواله؛ كعتق المريض لكلِّ رقيقه؛
(1)
قوله: (أنَّه) سقط من (أ) و (و) و (ن).
(2)
زاد في (أ): له.
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: لا من حينه ولا موقوفًا على انفصاله حيًّا).
فإنَّه يقف على إجازة الورثة، ومن أصلنا أنَّ العتق قبل الملك يصحُّ تعليقه عليه على ظاهر المذهب، فإن كان أصله موجوداً في ملكه؛ صحَّ تعليقه بغير خلاف عند المحقِّقين؛ كمن قال لأمته: كلُّ ولد تلدينه حرٌّ، وهذا المعتِق قد باشر بالعتق أمتَه وحَمْلُها متَّصلٌ بها؛ فوقف نفوذ عتقه على صلاحيَته للعتق
(1)
بظهوره.
وقد صرَّح القاضي في «خلافه» بأنَّه لو أُعتق الحمل وكان عَلَقة؛ عتق وإن لم يكن مملوكاً حينئذ؛ نظرًا إلى هذا المعنى، والله أعلم
(2)
.
الفرع الثَّالث: أَعتق الأمة واستثنى حملها؛ صحَّ وكان الولد رقيقاً، نصَّ عليه في رواية جماعة
(3)
، وتوقَّف فيه في رواية ابن الحكم.
وخرَّج ابن أبي موسى والقاضي: أنَّه لا يصحُّ استثناؤه؛ بناءً على أنَّه كجزء من أجزائها.
وخرَّجوه أيضاً من عدم صحَّة استثنائه في البيع، ولا يصحُّ؛ لأنَّ البيع تنافيه الجهالة، بخلاف العتق.
(1)
في (ب): صلاحية العتق.
(2)
كتب على هامش (ج) و (و) و (ن): (ويحصل له الملك وإن كان علقة، ذكره صاحب المغني في الروضة)، زاد في (ن):(من هامش النسخة المعتمدة).
(3)
جاء في رواية ابن منصور (6/ 2721): (قلت: الأمة تباع ويُستثنى ما في بطنها؟ قال: إذا علم أنه ولد فله ثنياه، وكذلك إذا أعتقها واستثنى ما في بطنها: فهو جائز).
الفرع الرَّابع: أَعتق الموسر أمة له، حملُها لغيره؛ فهل يعتق بالسِّراية أم لا؟
إن قلنا: إنَّه يستقلُّ
(1)
بنفسه؛ لم يسرِ إليه العتق، وإنَّما دخل مع الأمِّ إذا كان مملوكاً لمالكها تبعاً لاتِّصاله بالأم واجتماعهما في ملكه، كما يتبع الطَّلع المؤبَّر للنَّخل في العقد إذا كان ملكاً لمالكها، ولا يتبع إذا كان ملكاً لغيره، وهو
(2)
اختيار السَّامريِّ وصاحبي «التَّلخيص» و «المحرر» .
وقال القاضي، والشريف أبو جعفر، وأبو الخطَّاب: يعتق، ويضمنه لمالكه؛ بناء على أنَّه كجزء منها.
الفرع الخامس: لو أعتق الحمل وحده نفذ، وهل يعتق من حينه، أو يقف على خروجه حيًّا؟ مبنيٌّ على ما سبق.
وأشار القاضي وابن عقيل في ديات الأجنَّة إلى خلافٍ لنا في صحَّة عتقه وحده؛ بناء على أنَّه كالمعدوم، وهو ضعيف.
وقياس قول من قال: (هو كجزء منها): أن يسري عتقه إليها، وهو ضعيف أيضاً.
وينبني على هذا الفرع: لو ضرب بطن أمة حامل، فأعتق السَّيِّد حملها بعد الجناية، أو أعتقه السَّيِّد، ثمَّ جُنِيَ عليه، ثمَّ انفصل ميتاً أو انفصل حيًّا، ثم مات عقيب الانفصال، فهذا مبنيٌّ
(3)
على أنَّ العتق هل
(1)
في (ب) وباقي النسخ: مستقل.
(2)
في (ب) وباقي النسخ: وهذا.
(3)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): ينبني.
حصل قبل الانفصال، أو لم يحصل إلَّا بعده؟
وعلى
(1)
أصل آخر، وهو إذا جَرح رقيقاً، ثمَّ عَتق، فسرى إلى نفسه، فمات؛ هل يضمنه بدية حرٍّ، أو بقيمة عبد؟ على روايتين.
فإذا عُلم هذا؛ فههنا صور أربعة:
أحدها: أن يُجنى عليه، ثمَّ يعتق، ثمَّ ينفصل ميتاً؛ فينبني على أنَّ العتق هل حصل له حال كونه حملاً أم لا؟
فإن قلنا: لم يحصل له العتق
(2)
؛ وجب ضمانه بضمان جنين مملوك عُشر قيمة أمِّه.
وإن قلنا: قد عتق؛ انبنى على الخلاف في اعتبار الضَّمان بحال السِّراية أو الجناية؟ فإن قلنا: الاعتبار بحال الجناية؛ فكذلك، وإن قلنا: بحال السِّراية؛ ففيه غرَّة ضمان جنين حرٍّ.
وقيل
(3)
: يضمنه ضمان رقيق وجهاً واحداً، كذلك ذكر القاضي وابن عقيل؛ إذ لم يتحقَّق عتقه؛ لجواز تلفه قبله.
وحكيا أيضاً فيما لو أعتق الأمَّ بعد الجناية ثمَّ ألقت جنينها: وجهين مخرَّجين من الاختلاف في اعتبار حال
(4)
السِّراية أو الجناية، والفرق بينهما غير متوجِّه.
(1)
في (ب) و (د): على.
(2)
في (ب): العتق حينئذٍ.
(3)
قوله: (وقيل) سقط من (ب).
(4)
في (ب) و (د) و (هـ): حالة.
الصَّورة
(1)
الثَّانية: إن يُجنى عليه، ثمَّ يعتق، ثمَّ ينفصل حيًّا، ثمَّ يموت؛ فقد حصل له العتق بغير خلاف؛ فينبني على الخلاف في اعتبار الضَّمان؛ هل هو بحالة السِّراية، أو الجناية كما تقدَّم؟
وفي «مسوَّدة شرح
(2)
الهداية»: يضمنه بدية حرٍّ رواية واحدة، وهو سهو.
الصُّورة الثَّالثة: أن يعتق أوَّلاً، ثم يُجنى عليه، ثمَّ ينفصل حيًّا؛ فيجب ضمانه بدية حرٍّ إن قلنا: عتق وهو حمل.
وإن قلنا: لم يعتق إلَّا بعد الانفصال، انبنى على الخلاف في اعتبار الضَّمان؛ هل هو بحالة الجناية أو السِّراية.
فإن قلنا: بحالة السِّراية؛ ضمنه بدية حرٍّ، وإلَّا ضمنه ضمان رقيق.
وظاهر كلام صاحب «المحرر» : أنَّه يجب ضمانه بدية حرٍّ وجهاً واحداً؛ لأنَّ الجناية وقعت بعد العتق المباشر، ووجد الموت بعد النُّفوذ، وفيه نظر.
والأظهر: أنَّه كمن جُنِيَ عليه بعد التعليق ثمَّ مات بعد وجود الصِّفة.
والصُّورة الرَّابعة: أن يعتق، ثمَّ يُجنى عليه، ثمَّ ينفصل ميتاً، فإن قلنا: عتق وهو حمل؛ ضمنه ضمان جنينٍ حرٍّ
(3)
.
(1)
في (ب) و (د) و (هـ): والصُّورة.
(2)
قوله: (شرح) سقط من (ب).
(3)
في (أ) و (و): الحر. مكان قوله: (جنين حر).
وإن قلنا: لم يعتق؛ ضمنه ضمان جنينٍ رقيقٍ، ونصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور؛ معلِّلاً بأنَّه لم يعتق بعد
(1)
.
وفي «الخلاف الكبير» و «المحرر» : أنَّ حرباً نقل ذلك أيضاً عن أحمد
(2)
.
وليس كذلك، وإنَّما حكاه أحمد في روايته عن الزُّهريِّ، وقال: ما أدري كيف وجهُه؟
وقال القاضي وابن عقيل: إذا قلنا: لا يصحُّ عتق الحمل؛ فوجوده كالعدم في جميع هذه الصُّور، وهو ضعيف كما سبق.
ومنها: ورود العقود على الحامل؛ كالبيع والهبة والوصيَّة والإصداق؛ قال القاضي وابن عقيل: إن قلنا: للحمل حكم؛ فهو داخل في العقد، ويأخذ قسطاً من العوض، وإن قلنا: لا حكم له؛ لم يأخذ قسطاً، وكان بعد وضعه حكمه حكم النَّماء المنفصل
(3)
، فلو رُدَّت
(1)
جاء في مسائل ابن منصور (7/ 3602): قلت: قال الزهري في رجل أعتق ما في بطن جاريته، فضربها رجل فوقع ميتاً: ديته دية المملوك. قال سفيان: وكذلك نقول. قال أحمد: (لا يجب عليه العتق، إلا بالولادة، وهو عبد حتى يعلم أنه حي أو ميت).
(2)
ذكر القاضي رواية حرب أيضًا في الروايتين والوجهين (2/ 290): قيل له: رجل أعتق ما في بطن أمه، فأعتقت، فأسقطت جنيناً. قال:(فيه دية مملوك)، قال أحمد:(لا يجب العتق إلا بالولادة، وهو عبد حتى يعلم أنه حي أو ميت). قيل له: إذا ضربها فأسقطت حيًّا ثم مات؟ قال: (هذا حر، عليه دية حر كاملة)، وذكرها في المحرر (2/ 147).
(3)
في (أ): المتصل.
العين بعيب أو إفلاس أو طلاق، فإن قلنا: له حكم؛ ردَّ مع الأصل، وإلَّا كان حكمه حكم النَّماء.
وقياس المنصوص عن أحمد في الحمل: أنَّه لا يعتق، وأنَّه تركة موروثة؛ يقتضي أنَّ حكمه حكم الأجزاء، لا حكم الولد المنفصل؛ فيجب ردُّه مع العين وإن قلنا: لا حكم له؛ إذ المراد بذلك: أنَّه لا يثبت له حكم الأولاد؛ لا أنَّه معدوم، وهذا أصحُّ، وهو ظاهر كلام الأكثرين في مسألة الفلس.
ولا فرق بين ما يعتبر له القبض من العقود؛ كالرَّهن والهبة وغيرها
(1)
، وما لا يعتبر قبضه ويحصل قبضه تبعاً لأمِّه، ذكره القاضي في «خلافه» .
ويتخرَّج على هذا الأصل: مسألة اشتراط الحمل في المبيع
(2)
، والسَّلم في
(3)
الحيوان الحامل، وغير ذلك.
ومنها: جنين الدَّابَّة المذكَّاة؛ هل يحكم بذكاته معها قبل الانفصال أم لا؟
قال ابن عقيل في «فنونه» : لا يحكم بذكاته إلَّا بعد الانفصال.
وظاهر كلام أحمد خلافه؛ فإنَّه قال: (هو ركن من أركانها)
(4)
،
(1)
قوله: (وغيرها) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ).
(2)
في (أ) و (هـ): البيع.
(3)
قوله: (والسَّلم في) هو في (ب): وفي.
(4)
جاء في مسائل أبي داود (ص 341): (سمعت أحمد قال: لا بأس بالجنين أشعر أو لم يشعر، ما أحسن ما قال إبراهيم: إنما هو ركن من أركانه).
وفرَّق بين الجنين والولد المنفصل: بأنَّ الجنين فيه غرَّة، والولد فيه الدِّية؛ فعلم أنَّه ليس له حكم الأولاد، وهذا يرجِّح أنَّه جزء من الأم، وأنَّ تذكيته تابع لتذكيتها.
وأمَّا إن قيل: إنَّه ولد مستقل؛ ففيه نظر
(1)
، وقد ينبني على ذلك أنَّه هل يجب إراقة دمه إذا خرج أم لا؟
وكلام أحمد في ذلك يدلُّ على روايتين، وأكثر النُّصوص عنه تدلُّ على الاستحباب فقط، وفي بعضها ما يشعر بالوجوب، وهذا ينزع إلى أنَّه ولد مستقلٌّ، لكن عفي عن موته بغير تذكية؛ لاتِّصاله بأمه عند تذكيتها، ثم وجب سفح دمه ليحصل مقصود التَّذكية فيه.
ومنها: إذا ماتت الحامل وصلَّى عليها؛ هل ينوي الصَّلاة على حملها؟
قال ابن عقيل في «فنونه» : لا؛ وعلَّل بالشَّكِّ في وجوده، وهذا متوجِّه على القول بأنَّه كالمعدوم قبل الانفصال، وعلى القول بأنَّه كالجزء من الأمِّ أيضاً.
وأمَّا إن قيل: بأنَّه ولد مستقلٌّ؛ فيه نظر.
وقد يقال: شرط ثبوت الأحكام له؛ ظهوره، ولم يوجد، فهذا متوجِّه.
(1)
في (أ) و (و): فيه نظر.
قاعدة [85]
الحقوق خمسة أنواع:
أحدها: حقُّ ملك، كحقِّ السَّيِّد في مال المكاتب، ومال القنِّ إذا قلنا: يملك بالتَّمليك، وكذلك ما
(1)
يمتنع إرثه لمانع؛ كالتركة المستغرقة بالدين على رواية، وكالمحرِم إذا مات موروثه وفي ملكه صيد على أحد الوجهين.
الثَّاني
(2)
: حقُّ تملك؛ كحقِّ الأب في مال ولده، وحقِّ القابل للعقد إذا أوجب له، وحقِّ العاقد في عقد يملك فسخه ليعيد ما خرج
(3)
عنه إلى ملكه، مع أنَّ في هذا شائبة من حقِّ الملك، وحقِّ الشَّفيع في الشقص.
وههنا صور مختلف فيها؛ هل يثبت فيها الملك، أو حقُّ التَّملُّك؟
فمنها: حقُّ المضارب في الرِّبح بعد الظُّهور وقبل القسمة، وفيه روايتان:
إحداهما: أنَّه ملكه بالظُّهور.
(1)
قوله: (وكذلك ما) هو في (ج) و (د) و (هـ): وما. وقوله: (ما) سقط من (ب).
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): والثَّاني.
(3)
في (ب): يخرج.
والثَّانية
(1)
: لم يملكه، وإنَّما ملك أن يتملَّكه، وهو حقٌّ متأكِّد حتى لو مات ورث عنه، ولو أتلف المالك المال؛ غرم نصيبه، وكذلك الأجنبيُّ.
ولو أسقط المضارب حقَّه منه
(2)
:
فإن قلنا: هو ملكه؛ لم يسقط.
وإن قلنا: لم يملكه بعد؛ ففي «التَّلخيص» احتمالان:
أحدهما: يسقط؛ كالغنيمة.
والثَّاني: لا؛ لأن الربح ههنا
(3)
مقصود وقد تأكد سببه، بخلاف الغنيمة، فإن مقصود الجهاد إعلاء كلمة الله، لا المال.
ومنها: حقُّ الغانم في الغنيمة قبل القسمة، وفيه وجهان:
أحدهما -وهو المنصوص، وعليه جمهور الأصحاب-: أنَّه يثبت الملك فيها بمجرَّد الاستيلاء، لكن؛ هل يشترط الإحراز أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: لا يشترط، وتملك بمجرد تقضِّي الحرب، وهو قول
(1)
في (ب): الثَّانية.
(2)
كتب على هامش (ن): (فائدة حسنة: وقد كان شيخنا قاضي القضاة محب الدين البغدادي رحمه الله يفتي فيمن يسقط حقه من شيء يملكه، كأن يقول: أسقطت حقي من هذا الثوب أو هذا المتاع؛ أنه لا يسقط، ومن هنا يؤخذ الحكم).
(3)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): هنا.
القاضي في «المجرد» ، ومن تابعه على طريقته.
والثَّاني: يشترط، وهو قول الخرقيِّ وابن أبي موسى؛ كسائر المباحات، ورجَّحه صاحب «المغني» .
فعلى هذا؛ لا يستحق منها
(1)
إلَّا من شهد الإحراز.
وأمَّا على الأوَّل؛ فاعتبر القاضي والأكثرون شهود آخر الوقعة، وقالوا: لا يستحقُّ من لم يشهده.
وفصَّل في «الأحكام السلطانية» بين الجيش وأهل المَدَد، فأما الجيش؛ فيستحقون بحضور جزء من الوقعة إذا كان تخلُّفهم عن الباقي لعذر؛ كموت الغازي أو كموت
(2)
فرسه، وأمَّا المدد، فيعتبر لاستحقاقهم شهود انجلاء الحرب، ونصَّ أحمد في رواية يعقوب بن بختان فيمن قتل في المعركة: تعطى ورثته نصيبه.
والوجه الثَّاني: لا يملك
(3)
الغنيمة إلَّا باختيار الملك، وهو اختيار القاضي في «خلافه» .
فعلى هذا؛ إنما يثبت لهم حقُّ التملُّك كالشَّفيع، فمن مات منهم قبل اختيار التَّملُّك أو المطالبة؛ فلا حقَّ له، ذكره صاحب «الترغيب» .
وظاهر كلام القاضي في «خلافه» في باب الشفاعة: أنَّ الحقَّ ينتقل إلى الورثة بدون القَبول والمطالبة، وإن قالوا: اخترنا القسمة؛ لزمت حقوقهم ولم تسقط بالإعراض، ذكره صاحب «التَّرغيب» ، بخلاف ما
(1)
في (ب) و (د) و (هـ): فيها.
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): موت.
(3)
في (ب) و (ج) و (ن): تملك.
إذا أسقطوا حقوقهم قبل الاختيار؛ فإنَّه يسقط على الوجهين؛ لضعف الملك وعدم استقراره، ويصير فيئاً، فإن أسقط البعض دون البعض؛ فالكلُّ لمن لم يُسقط حقَّه.
ومنها: حقُّ من وَجَد ماله بعينه في المغنم قبل القسمة ممَّا ملكه الكفَّار بالاستيلاء عليه؛ فإنَّه يثبت له فيه حقُّ التَّملك عند الأصحاب.
وخرَّجه الشَّيخ تقيُّ الدِّين على الخلاف في حقِّ الغانمين
(1)
.
ومنها: حقُّ الزوج في نصف الصداق
(2)
إذا طلَّق
(3)
قبل الدخول؛ هل يثبت له فيه الملك قهراً، أو يثبت له حقُّ التملك فلا يملك بدونه؟ فيه وجهان
(4)
.
والأوَّل هو المنصوص.
وعلى الثَّاني؛ فيكفي فيه المطالبة واختيار التَّملُّك على ظاهر كلام أبي الخطاب؛ كرجوع الأب.
(1)
قال في الاختيارات (ص 452): (والتحقيق: أنه فيه بمنزلة سائر الغانمين في الغنيمة، وهل يملكونها بالظهور أو بالقيمة؟ على وجهين).
(2)
كتب على هامش (ن): (ظاهر هذا: أن الخلاف ثابت، سواء كان الصداق باقيًا بصفته، أو قد زاد، أو نقص، وظاهر كلام المحرر: أن الخلاف خاص بما إذا كان باقيًا بصفته).
(3)
في (أ): أطلق.
(4)
كتب على هامش (ن): (الصواب أن يقال: أن يكون مالكًا؛ لأن النزاع في الملك لا في اختصاص الملك به وبغيره).
وزعم صاحب «الترغيب» : أنَّ هذا الخلاف مرتَّب على الخلاف في عفو الَّذي بيده عقدة النكاح؛ هل هو الزَّوج أو الوليُّ.
وليس كذلك، ولا يلزم من طلب العفو من الزَّوج أن يكون هو المالك، فإنَّ العفو يصحُّ عمَّا يثبت فيه حقُّ التَّملُّك؛ كالشفعة، وليس في قولنا: إنَّ الَّذي بيده عقدة النِّكاح هو الأب؛ ما يستلزم أنَّ الزوج لم يملك نصف المهر؛ لأنَّه إنَّما يعفو عن النِّصف المختصِّ بابنته، فأمَّا النِّصف الآخر؛ فلا تعرُّض لذكره بنفي ولا إثبات.
والعجب أنَّه حكى بعد ذلك في صحَّة عفو الزَّوج عن النِّصف - إذا قلنا: قد دخل في ملكه- وجهين.
والصَّحيح المشهور: أنَّه يصحُّ عفوه وإن كان مالكاً، كما يصحُّ عفو الزَّوجة مع ملكها، ثمَّ إن القرآن مصرِّح بذلك؛ فكيف يسوَّغ الخلاف فيه حينئذ
(1)
؟!
لكن إن كان الصَّداق ديناً؛ صحَّ الإبراء منه بسائر ألفاظ المبارأة، من الإبراء والإسقاط والهبة والعفو والصَّدقة والتَّحليل، ولا يشترط له قبول، وإن كان عيناً
(2)
وقلنا: لم يملكه، وإنَّما يثبت له حقُّ التَّملُّك؛ فكذلك.
وكذلك يصحُّ عفو الشفيع عن الشفعة، ذكره
(3)
القاضي وابن عقيل.
(1)
قوله: (مصرِّح بذلك؛ فكيف يسوَّغ الخلاف فيه حينئذ) هو في (ب) و (ج) و (ن) و (د) و (هـ): بنص القرآن.
(2)
في (ب): غنيًّا.
(3)
في (ب): وذكره.
وإن قلنا: ملك نصف الصَّداق؛ صحَّ بلفظ الهبة والتَّمليك.
وهل يصحُّ بلفظ العفو؟ على وجهين:
أحدهما: لا يصحُّ، قاله ابن عقيل.
والثَّاني: يصحُّ، قاله القاضي، ورجَّحه صاحب «المغني» ، وهو الصَّحيح؛ لأنَّ عقد الهبة عندنا
(1)
ينعقد بكلِّ لفظ يفيد معناه، من غير اشتراط إيجاب ولا قبول بلفظ معيَّن.
وقال القاضي وابن عقيل: يشترط ههنا الإيجاب والقبول والقبض.
وحكى صاحب «الترغيب» في اشتراط القبول وجهين، والصَّحيح أنَّ القبض لا يشترط في الفسوخ؛ كالإقالة ونحوها، وصرَّح به
(2)
القاضي في «خلافه» .
وكذلك
(3)
يصحُّ رجوع الأب في الهبة من غير قبض، وكذلك فسخ عقد الرَّهن وغيره.
ومنها: حقُّ الملتقط في اللُّقَطَةِ بعد حول التَّعريف، وفيه وجهان:
أشهرهما: أنَّه يثبت له الملك بغير اختياره، واختاره القاضي وقال:(إنَّه ظاهر كلام أحمد).
والثَّاني: لا يدخل حتَّى يختار، وهو اختيار أبي الخطَّاب؛ فيكون حقُّه فيها حقَّ تملُّك.
(1)
قوله: (عندنا) سقط من (أ).
(2)
قوله: (به) سقط من (ب).
(3)
في (أ): ولذلك.
ومنها: الموصى له بعد موت الموصي، وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّه يثبت له الملك، وقيل: إنَّه ظاهر كلام أحمد.
والثَّاني: إنَّما يثبت له حقُّ التملُّك بالقبول، وهو المشهور عند الأصحاب.
ومنها: من نبت في أرضه كلأ أو نحوه من المباحات، أو توحَّل فيها صيد أو سمك ونحوه؛ فهل يملكه بذلك؟ في المسألة روايتان معروفتان.
وأكثر النُّصوص عن أحمد تدل على الملك.
وعلى الرِّواية الأخرى إنَّما يثبت له
(1)
حقُّ التَّملك، وهو مقدم على غيره بذلك؛ إذ لا يلزمه أن يبذل من الماء والكلأ إلَّا الفاضل عن حوائجه.
ولو سبق غيره وحقَّق سبب الملك بحيازته إليه؛ فقال القاضي والأكثرون: يملكه.
وخرَّج ابن عقيل: أنَّه لا يملكه؛ لأنَّه سبب منهي عنه؛ فلا يفيد الملك.
ويشبه
(2)
هذا: الخلاف في الطَّائفة الَّتي تغزو بدون إذن الإمام؛ هل يملكون شيئاً من غنيمتهم أم لا؟
وقرَّر
(3)
القاضي في موضع من «خلافه» أنَّ الأسباب الفعليَّة تفيد
(1)
قوله: (له) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ).
(2)
في (ب): وشبه.
(3)
في (ب): وفرَّق.
الملك وإن كانت محظورة؛ كأخذ المسلم أموال أهل الحرب غصباً وإن دخل إليهم بأمان
(1)
، بخلاف القوليَّة.
وفي موضع آخر: صرَّح بخلاف ذلك، وأنَّه لا يملك به المسلم، وهو الصَّحيح من المذهب.
ومنها: متحجِّر الموات؛ المشهور: أنَّه لا يملكه بذلك.
ونقل صالح عن أبيه ما يدلُّ على أنه يملكه بذلك
(2)
.
وعلى الأوَّل؛ هو
(3)
أحقُّ بتملكه بالإحياء، فإن بادر الغير وأحياه؛ ففي ملكه وجهان معروفان.
وهذا
(4)
كلُّه فيمن انعقد له سبب التَّملُّك وصار التَّملُّك واقفاً على اختياره.
فأمَّا إن ثبتت له رغبة في التَّملُّك ووعد به ولم ينعقد السَّبب؛ كالمستام والخاطب إذا رُكن إليهما؛ فلا يجوز مزاحمتهما أيضاً، ولكن يصحُّ على المنصوص.
وخرَّج القاضي وجهاً بالبطلان من البيع على بيعه.
والفرق بينهما واضح؛ لأنَّ الحقَّ في البيع انعقد وأخذ به، ولا كذلك هنا، ولأنَّ المفيد للملك هنا العقد والمحرَّم سابق عليه؛ فهو
(1)
قوله: (إليهم بأمان) هو في (ب): بأمان إليهم.
(2)
قوله: (بذلك) سقطت من (ب) وبقية النسخ.
وفي مسائل صالح (3/ 113): (وقال: من حجر أرضًا ليست لأحد؛ فهي له).
(3)
في (ب) و (ج) و (د) و (ن): فهو.
(4)
في (ب) و (د) و (هـ): هذا.
كاستيلاد الأب والشَّريك، يحصل به الملك بالعلوق لمَّا كان المحرم -وهو الوطء- سابقاً عليه.
النَّوع الثَّالث: حقُّ الانتفاع، ويدخل فيه صور:
منها: وضع الجار خشبه على جدار جاره إذا لم يضرَّ به؛ للنَّصِّ الوارد فيه
(1)
.
ومنها: إجراء الماء في أرض غيره إذا اضطرَّ إلى ذلك في إحدى الرِّوايتين؛ لقضاء عمر رضي الله عنه به
(2)
.
قال الشَّيخ تقي الدين: (وكذلك إذا احتاج أن يجري ماءه في طريق مائه، مثل أن يجري مياه سطوحه أو غيرها في قناة لجاره، أو يسوق في
(1)
وهو ما أخرجه البخاري (2463)، ومسلم (1609)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره» ، ثم يقول أبو هريرة:«ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم» .
(2)
أخرج مالك (2/ 711)، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه: أن الضحاك بن خليفة ساق خليجًا له من العريض، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فقال له الضحاك: لم تمنعني، وهو لك منفعة تشرب به أولًا وآخرًا، ولا يضرك، فأبى محمد، فكلَّم فيه الضحاك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد: لا، فقال عمر:«لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع، تسقي به أولًا وآخرًا، وهو لا يضرك» ، فقال محمد: لا والله. فقال عمر: «والله ليمرن به ولو على بطنك» ، فأمره عمر أن يمر به، ففعل الضحاك. وصححه الألباني وقال:(سند صحيح على شرط الشيخين). ينظر: الإرواء 5/ 253.
قناة عذبة ماء ثمَّ يقاسمه جاره
(1)
(2)
.
ولو وضع على النَّهر عبَّارة تجري فيها الماء؛ خرَّجها
(3)
الأصحاب على الرِّوايتين
(4)
.
ونقل أبو طالب عن أحمد في قوم اقتسموا داراً وكانت
(5)
لها أربعة سطوح يجري الماء عليها، فلمَّا اقتسموا أراد أحدهم أن يمنع من جريان الماء للآخر عليه، وقال: هذا قد صار لي، وليس بيننا شرط؛ فقال أحمد: يردُّ الماء إلى ما كان عليه
(6)
، وإن
(7)
لم يشرط
(8)
ذلك، ولا يضرُّ به.
وحمل طائفة من أصحابنا هذه الرِّواية على أنَّه يحصل عليه ضرر يمنعه من جريان الماء، وأنَّه يحتاج إلى أن ينقض
(9)
سطحه ويستحدث له مسيلاً، فجعل له أن يجريه على رسمه الأوَّل كذلك كما يجري ماؤه
(1)
هكذا في النسخ، والذي في مجموع الفتاوى:(جاز) مكان (جاره)، و (غدير) مكان (عذبة).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى 30/ 17.
(3)
في (ب) و (ج) و (ن): فخرَّجها. وفي (هـ): خرَّجهما.
(4)
في (ب) و (ن): روايتين.
(5)
في (ب): كانت.
(6)
قوله: (عليه) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ)، وضرب عليها في (و).
(7)
في (ب): إن.
(8)
في (ب) و (هـ): يشترط.
(9)
في (أ) و (د) و (و): ينقل.
في أرض غيره لذلك
(1)
، أو يضع خشبه على جداره، كذا ذكره ابن عقيل وغيره.
وحمله بعضهم على أنَّ الدَّار إذا اقتسمت
(2)
كانت مرافقها كلُّها باقية مشتركة بين الجميع كالاستطراق في طريقها، ولهذا قلنا: لو حصل الطَّريق في حصَّة أحد المقتسمين ولا منفذ للآخر؛ لم تصحَّ القسمة، وعلى هذا حمله صاحب «شرح الهداية» .
وخرَّج صاحب «المغني» من مسألة أبي طالب وجهاً في مسألة الطَّريق بصحَّة القسمة وبقاء حقِّ الاستطراق فيه للآخر.
وبينهما فرق؛ فإنَّ الطَّريق لا يراد منه سوى الاستطراق؛ فالاشتراك فيه يزيل معنى القسمة والاختصاص، بخلاف إجراء الماء على السَّطح؛ فإنَّه لا يمنع صاحب السَّطح من الانفراد بالانتفاع به بسائر وجوه الانتفاعات المختصَّة بالملك، والله أعلم.
ومنها: لو باع أرضاً فيها زرع يحصد مرَّة واحدة ولم يبدُ صلاحه، أو شجراً عليه ثمر لم يبد صلاحه؛ كان ذلك مبقًّى في الشَّجر والأرض إلى وقت الحصاد والجداد بغير أجرة، ولو أراد تفريغ الأرض من الزَّرع لينتفع بها إلى وقت الجداد أو يُؤْجِرها؛ لم يكن له ذلك، كما لا يملك الجار إعارة غيره ما يستحقُّه من الانتفاع بملك جاره.
وكذلك لو باع زرعاً قد
(3)
بدا صلاحه في أرض؛ فإنَّ عليه إبقاءه
(1)
في (ب) و (ج) و (هـ) و (ن): للحاجة.
(2)
في (ب): انقسمت.
(3)
قوله: (قد) سقط من (ب) و (د) و (ج) و (هـ) و (ن).
إلى وقت صلاحه للحصاد.
فأمَّا إن باع شجرة؛ فهل يدخل مَنبتها في البيع؟ على وجهين، ذكرهما القاضي
(1)
.
وحكي عن ابن شاقْلا: أنَّه لا يدخل، وأنَّ ظاهر
(2)
كلام أحمد الدُّخول؛ حيث قال فيمن أقرَّ بشجرة لرجل: هي له بأصلها
(3)
.
وعلى هذا؛ لو انقلعت؛ فله إعادة غيرها مكانها، ولا يجوز ذلك على قول ابن شاقلْا؛ كالزَّرع إذا حصد؛ فلا يكون له
(4)
في الأرض سوى حقِّ الانتفاع.
النَّوع الرَّابع: حقُّ الاختصاص، وهو عبارة عمَّا يختصُّ مستحِقُّه بالانتفاع به، ولا يملك أحد مزاحمته فيه، وهو غير قابل للتَّموُّل
(5)
والمعاوضات.
ويدخل في ذلك صور:
(1)
كتب على هامش (ن): (فإن قلنا: لا يدخل، فهل تبقى مجانًا، أي: بلا أجرة، أو بأجرة إذ مَغرسها للبائع؟ ظاهر كلام التلخيص والفروع: الأول، وصرح صاحب الرعاية: بالثاني).
(2)
في (ب): وأن الظَّاهر.
(3)
كتب في هامش: (هـ): (قال في «الفروع»: ورواية ماهان: هي له بأصلها، فإن ماتت أو سقطت لم يكن له موضعها).
(4)
قوله: (له): سقط من (ب) و (د).
(5)
في (ب): الشُّمول.
منها: الكلب المباح اقتناؤه؛ كالمعلَّم لمن يصطاد به، فإن كان ممَّن لا يصطاد به، أو كان الكلب جِرواً يحتاج إلى التَّعليم؛ فوجهان.
ومنها: الأدهان المنجَّسة
(1)
المنتفع بها بالإيقاد وغيره على القول بالجواز.
فأمَّا نجسة العين؛ كدهن الميتة؛ فالمذهب المنصوص: أنَّه لا يجوز الانتفاع بها
(2)
.
ونقل ابن منصور عن أحمد ما يدلُّ على جوازه.
(3)
ومنها: جلد الميتة المدبوغ إذا قيل بجواز الانتفاع به في اليابسات.
فأمَّا ما لا يجوز الانتفاع به من النَّجاسات بحال؛ فلا يدَ ثابتةٌ عليه، وآية ذلك: أنَّه لا يجب ردُّه على من انتزعه ممَّن هو في يده، بخلاف ما فيه نفع مباح؛ فإنَّه يجب ردُّه.
نعم؛ لو غصب خمراً، فتخلَّلت في يد الغاصب؛ وجب ردُّها، ذكره القاضي وابن عقيل والأصحاب؛ لأنَّ يد الأوَّل لم تَزُل عنها بالغصب؛ فكأنَّها تخلَّلت في يده.
واختلفت عبارات الأصحاب في زوال الملك بمجرَّد التَّخمُّر؛ فأطلق الأكثرون الزَّوال؛ منهم القاضي وابن عقيل.
وظاهر كلام بعضهم: أنَّ الملك لم يزل، ومنهم صاحب «المغني»
(1)
في (أ) و (و): النجسة.
(2)
في (ب) وبقية النسخ: به.
(3)
جاء في مسائل ابن منصور: (8/ 3994): (قلت: تطلى السفن بشحم الميتة؟ قال: إذا كان لا يمسه بيده، يأخذ بعود).
في كتاب الحجِّ، وفي كلام القاضي ما يدلُّ عليه.
وبكلِّ حال؛ فلو عادت خلًّا؛ عاد الملك الأوَّل بحقوقه من ثبوت الرَّهنيَّة وغيرها، حتَّى لو خلَّف خمراً وديناً، فتخلَّلت الخمر؛ قُضي دينه منه، ذكره القاضي في «المجرَّد» في الرَّهن.
وذكر هو وابن عقيل أيضاً فيه: لو وهب الخمر وأقبضها، أو أراقها فجمعها آخر، فتخلَّلت في يد الثَّاني؛ فهل هي ملك له أو للأوَّل؟ على احتمالين، وفرَّقا بين ذلك وبين الغصب
(1)
: بأنَّ الأوَّل زالت يده عنها بالإراقة والإقباض، وثبتت يد الثَّاني، بخلاف الغصب.
ورجَّح صاحب «المغني» : أنَّ الرَّهن لا يبطل بتخمير العصير.
وهذا كلُّه يدلُّ على ثبوت اليد على الخمر؛ لإمكان عودها مالاً.
ومنها: مرافق الأملاك؛ كالطُّرق والأفنية ومسيل المياه
(2)
ونحوها؛ هل هي مملوكة، أو يثبت فيها حقُّ الاختصاص؟ في
(3)
المسألة وجهان:
أحدهما: ثبوت حقِّ الاختصاص فيها من غير ملك، وبه جزم القاضي وابن عقيل في باب إحياء الموات وفي الغصب، ودلَّ عليه نصوص أحمد فيمن حفر في فنائه بئراً: أنَّه متعدٍّ بحفره في غير ملك
(4)
.
(1)
في (ب): الغاصب.
(2)
في (ب): الماء.
(3)
في (ب) و (د): وفي. وفي (ن): ففي
(4)
قال القاضي في الأحكام السلطانية (ص 225): (وقال في رواية الحسن بن ثواب، فيمن حفر بئرًا في فنائه فعطب رجل، يعني بها: لزمه).
وطرد القاضي ذلك حتَّى في حريم البئر، ورتَّب عليه أنَّه لو باعه الأرض بفنائها؛ لم يصحَّ البيع؛ لأنَّ الفناء لا يختصُّ به، إذ استطراقه عامٌّ، بخلاف ما لو باع بطريقها.
وأورد ابن عقيل احتمالاً: بصحَّة البيع بالفناء؛ لأنَّه من الحقوق، فهو كمسيل المياه.
والوجه الثَّاني: الملك، وصرَّح به الأصحاب في الطُّرق، وجزم به في الكلِّ صاحب «المغني» ، وأخذه من نصِّ أحمد والخرقيِّ على ملك حريم البئر
(1)
.
ومنها: مرافق الأسواق المتَّسِعة الَّتي يجوز البيع والشِّراء فيها؛ كالدَّكاكين المباحة ونحوها؛ فالسَّابق إليها أحقُّ بها.
وهل ينتهي حقُّه بانتهاء النَّهار، أو يمتد إلى أن ينقل قماشه عنها؟ على وجهين، وظاهر كلام أحمد في رواية حرب: الأوَّل؛ لجريان
(2)
العادة بانتفاء
(3)
الزِّيادة عليه
(4)
.
وعلى الثَّاني: لو
(5)
أطال الجلوس؛ فهل يُصرف أم لا؟ على
(1)
جاء في مسائل عبد الله (ص 315): (سمعت أبي يقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا ميتة": إذا حفر فيها بئرًا فله حريمها).
(2)
في (ب) و (و): بجريان.
(3)
في (ب): بانتقال.
(4)
قال القاضي في الأحكام السلطانية (ص 226): (قال في رواية حرب، وقد سئل عن الرجل يسبق إلى دكاكين السوق، فقال: إذا لم يكن لأحد فمن سبق إليه غدوة فهو له إلى الليل. قال: وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى).
(5)
في (ب) و (د) و (هـ): فلو.
وجهين؛ لأنَّه يفضي إلى الاختصاص بالحقِّ المشترك.
ومنها: الجلوس في المساجد ونحوها، لعبادة أو مباح؛ فيكون الجالس أحقَّ بمجلسه إلى أن يقوم عنه باختياره قاطعاً للجلوس، أمَّا إن قام لحاجة عارضة ونيَّته العود؛ فهو أحقُّ بمجلسه.
ويُستثنى من ذلك: الصَّبيُّ إذا قام في صفٍّ فاضل أو في وسط الصَّفِّ؛ فإنَّه يجوز نقْلُه عنه، صرَّح بذلك
(1)
القاضي، وهو ظاهر كلام أحمد
(2)
، وعليه حُمل فعل أبيِّ بن كعب بقيس بن عُبَاد
(3)
.
النَّوع الخامس: حقُّ التَّعلُّق؛ لاستيفاء الحقِّ، وله صور:
منها: تعلُّق حقِّ المرتهن بالرَّهن، ومعناه: أنَّ جميع أجزاء الرَّهن محبوس بكلِّ جزء من الدَّين حتَّى يُستَوْفَى جميعه.
ومنها: تعلُّق حقِّ الجناية بالجاني، ومعناه: أنَّ حقَّه انحصر في ماليَّته، وله المطالبة بالاستيفاء منه، ويتعلَّق الحقُّ بمجموع الرَّقبة لا بقدر الأرش منها
(4)
في
(5)
ظاهر كلام الأصحاب، ويباع جميعه في الجناية، ويستوفى منه الحقُّ ويُرَدُّ الفضل على السَّيِّد.
(1)
في (ب) و (د) و (هـ): به.
(2)
قال في المغني (2/ 160): (قال أحمد: يلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن، وتؤخر الصبيان والغلمان، ولا يلون الإمام).
(3)
رواه أحمد (21265)، والنسائي (808).
(4)
في (ب): بها.
(5)
في (ب) و (ج) و (ن): على.
وذكر القاضي في «المجرَّد» : أنَّ ظاهر كلام أحمد: أنَّه لا يُرَدُّ عليه شيء
(1)
، وهذا صريح في تعلُّق الحقِّ بالجميع.
وللأصحاب في العبد المرهون إذا جنى وكان في قيمته فضلٌ عن الأرش؛ هل يباع جميعه، أو بمقدار الأرش؟ فيه وجهان؛ لكن بيع جميعه يندفع به عن السَّيِّد ضرر نقص القيمة بالتَّشقيص.
ومنها: تعلُّق حقِّ الغرماء بالتَّركة؛ هل يمنع انتقالها بالإرث؟ على روايتين.
وهل هو كتعلُّق الجناية أو كالرَّهن؟ اختلف كلام الأصحاب في ذلك، وصرَّح الأكثرون
(2)
بأنَّه كتعلُّق الرَّهن
(3)
، ويفسَّر بثلاثة أشياء:
أحدها: أنَّ تعلُّق الدَّين بالتَّركة وبكلِّ جزء منها، فلا ينفكُّ منها شيء حتَّى يُوفَّى الدَّين كلُّه، وصرَّح بذلك القاضي في «خلافه» إذا كان
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: من ثمن العبد، قال في المغني: ولعله يذهب إلى أنه دفع إليه عوضًا عن الجناية، فلم يبق لسيده شيء فيه، كما لو ملَّكه إياه عوضًا عن الجناية، قال: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يستحق أكثر من أرش جنايته كما لو جنى عليه حر).
(2)
كتب على هامش (ن): (ومال إليه كثير، وهو الذي ذكره القاضي في تعليقته [ ..... ] استطرادًا).
(3)
كتب على هامش (ن): (لكن الذي أورده الشيخ في المغني، - وقال ابن حمدان: إنه الأقيس -: أنه كتعلق حق المجني عليه بالعبد الجاني، وهو الذي صححه في الفروع).
الوارث واحداً، قال
(1)
: وإن كانوا جماعة؛ انقسم
(2)
عليهم بالحصص، وتُعلَّق
(3)
كلُّ حصَّةٍ من الدَّين بنظيرها من التَّركة وبكلِّ جزء منها، فلا ينفكُّ شيء منها حتَّى توفَّى جميع تلك الحصَّة.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدَّين مستغرقاً للتَّركة أو غير مستغرق، صرَّح به جماعة، منهم صاحب «التَّرغيب» في التَّفليس.
والثَّاني: أنَّ الدَّين في الذِّمَّة، ويتعلَّق بالتَّركة، وهل هو في ذمَّة الميت أو الورثة؟ على وجهين سبق ذكرهما
(4)
.
والثَّالث: أنَّه يمنع صحَّة التَّصرف، وفي ذلك وجهان أيضاً سبقا.
وهل يتعلَّق حقُّهم بالمال من حين المرض أم لا؟ تردَّد الأصحاب في ذلك.
ونقل الميمونيُّ عن أحمد فيمن عليه دين يحيط
(5)
بجميع التَّركة
(6)
؛ يجوز له أن يُعتق أو يهب؛ أعني: الميت؟ قال: نعم، قلت: هذا ليس له مال! قال: أليس ثلثه له؟ قلت: ليس هذا المال له، قال: أليس هو السَّاعةَ في يده؟ قلت: بلى! ولكنَّه لغيره، قال: دعها؛ فإنَّها مسألة فيها
(1)
في (ب): وقال.
(2)
في (أ): يقسَّم.
(3)
في (أ) و (ن): ويتعلَّق.
(4)
جاء في هامش (ن): (أي: قاعدة النماء وهي الثمانون [ ..... ]).
(5)
في (ب): محيط.
(6)
في (ب): ما ترك. وفي (هـ): ما تركه.
لَبْس، والَّذي كان عنده على ما ناظرته أنَّ ذا جائز.
واستشكل القاضي هذه الرِّواية فيما قرأته بخطِّه، وجعل ظاهرها صحَّة الوصيَّة بالثُّلث مع الدَّين، وحملها على أحد وجهين: إمَّا أن يكون حكم المريض مع الغرماء كحكمه مع الورثة؛ لتعلُّق حقِّ الجميع بماله، فلا يكون ممنوعاً من التَّصرُّف بالثُّلث مع واحد منهما، أو أنْ يقفَ صحَّة تصرُّفه على إجازة الغرماء.
وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: هي تدلُّ على أنَّ الغرماء لا يتعلَّق حقُّهم بالمال إلَّا بعد الموت؛ لأنَّ حقَّهم في الحياة في ذمَّته، والورثة لا يتعلَّق حقُّهم بالمال مع الدَّين؛ فيبقى الثُّلث الَّذي ملَّكه الشَّارع التَّصرف فيه لا مانع له من التَّصرف فيه؛ فينفذ تصرفه فيه منجَّزاً لا معلَّقاً بالموت، بخلاف الزَّائد على الثُّلث إذا لم يكن عليه دين؛ فإنَّ حقَّ الورثة يتعلَّق به في مرضه؛ إذ لا حقَّ لهم في ذمَّته
(1)
.
قلت: وتردَّد كلام القاضي وابن عقيل في «خلافيهما»
(2)
في المريض؛ هل لورثته منعه من إنفاق جميع ماله في الشَّهوات أم لا؟ ففي موضع جزمَا بثبوت المنع لهم؛ لتعلُّق حقوقهم بماله
(3)
، وأنكرَا ذلك في مواضع.
ومنها: تعلُّق حقِّ الموصى له بالمال، هل يمنع الانتقال إلى الورثة
(1)
لم نقف عليه.
(2)
في (ب): خلافهما.
(3)
في (أ): بذلك.
أم لا
(1)
؟ جعل
(2)
طائفة من الأصحاب حكمه حكم الدَّين، ومنهم أبو الخطَّاب في «انتصاره» وأبو الحسين في «فروعه» ، ويشهد لذلك قول طائفة من الأصحاب: إنَّ الموصى به قبل القبول على ملك الورثة.
وجزم القاضي في «خلافه» بعدم انتقاله إلى الورثة، مفرِّقاً بين الدَّين والوصيَّة: بأنَّ حقَّ الموصى له في عين التَّركة، ولا تملك الورثة إبدال حقِّه، بخلاف الدَّين؛ فإنَّ حقَّ صاحبه في التَّركة والذِّمَّة، وللورثة التَّوفيةُ من غيره.
وأخذ ذلك ممَّا رواه ابن منصور عن أحمد فيمن أوصى أن يخرج من ماله كذا وكذا في كذا وكذا سنة؛ قال: لا يقسَّم المال حتَّى ينفِّذوا ما قال، إلَّا أن يضمنوا أن يخرجوا؛ فلهم أن يقسِّموا البقية
(3)
.
وكذلك في «المجرَّد» و «الفصول» في باب الشَّركة: أنَّ الموصى له إن كان معيَّناً؛ فهو شريكٌ في قدر ما وصِّي له به، وإن كان غير معيَّن؛ كالفقراء والمساكين؛ لم يجز للورثة التَّصرُّف حتىَّ يُفردوا نصيب الموصى له.
وممَّا يدلُّ على عدم انتقاله إلى الورثة: أنَّ المشهور عندنا صحَّة الوصيَّة بالزَّائد على الثُّلث إن أجازه الورثة
(4)
، وأنَّ إجازة الورثة لها تنفيذٌ، لا ابتداء عطيَّة.
(1)
قوله: (أم لا) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن).
(2)
في (ب): فجعل.
(3)
ينظر: مسائل ابن منصور (9/ 4753).
(4)
قوله: (إن إجازة الورثة) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (و). وزاد في (و): في.
ومنها: تعلُّق الزَّكاة بالنِّصاب؛ هل هو تعلُّق شركة، أو ارتهان، أو تعلُّق الاستيفاء كالجناية؟ اضطرب كلام الأصحاب في ذلك اضطراباً كثيراً، ويتحصَّل منه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّه تعلُّق شركة، وصرَّح به القاضي في موضع من «شرح المذهب» ، وظاهر كلام أبي بكر يدلُّ عليه، وقد بيَّنته في موضع آخر.
(1)
والثَّاني: تعلُّق استيفاء، وصرَّح به غير واحد، منهم القاضي.
ثمَّ منهم من يشبِّهه بتعلُّق الجناية، ومنهم من يشبِّهه بتعلُّق الدَّين بالتَّركة.
والثَّالث: أنَّه تعلُّق رهن.
وينكشف هذا النِّزاع بتحرير مسائل:
منها: أنَّ الحقَّ هل يتعلَّق بجميع النِّصاب، أو بمقدار الزَّكاة منه غير معيَّن؟ وقد نقل القاضي وابن عقيل الاتِّفاق على الثَّاني.
ومنها: أنَّه مع التَّعلُّق بالمال؛ هل يكون ثابتاً في ذمَّة المالك أو
(2)
لا؟ ظاهر كلام الأكثرين: أنَّه على القول بالتَّعلُّق بالعين لا يثبت في الذِّمَّة منه شيء، إلَّا أن يتلف المال أو يتصرَّف فيه المالك بعد الحول.
وظاهر كلام أبي الخطَّاب وصاحب المحرَّر في «شرح الهداية» : أنَّا إذا قلنا: الزَّكاة في الذِّمَّة؛ فيتعلَّق بالعين تعلُّق استيفاء محض كتعلُّق
(1)
ينظر: الفائدة الخامسة من الفائدة الثانية من الفوائد الملحقة بالقواعد ( .... ).
(2)
في (ب) و (د) و (هـ): أم.
الدِّيون بالتَّركة، وهو اختيار الشَّيخ تقيِّ الدِّين
(1)
، وهو حسن.
ومنها: منع التَّصرُّف، والمذهب: أن لا منع، كما سبق
(2)
.
ومنها - أعني: صور تعلُّق الحقوق بالأموال -: تعلُّق حقِّ غرماء المفلس بماله بعد الحجر، وهو تعلُّق استحقاق الاستيفاء منه.
ومنها: تعلُّق ديون الغرماء بمال المأذون له، وقد ذكر القاضي في «المجرَّد»: أنَّ هذا التَّعلُّق هل يصحِّح شراء السَّيِّد
(3)
منه كمال المكاتب
(1)
قوله: (الشَّيخ تقي الدِّين) سقط من (ج). وقوله: (تقي الدين) سقط من (ب). وزاد في (ج): شيخ الإسلام ابن تيمية.
(2)
ينظر: ص
…
(3)
كتب على هامش (ن): (وقد ذكر الشيخ في المقنع معنى ذلك، فقال: وإذا باع السيد من عبده المأذون له شيئًا؛ لم يصح في أحد الوجهين، ويصح في الآخر إذا كان عليه دين بقدر قيمته، انتهى، والبيع منه بمثابة الشراء منه، وحصل من كلام الشيخ زيادة قيد: استغراق الدين لقيمة العبد؛ لأنه يصير مستحَقًّا لأرباب الديون، فيصير كعبد غيره، ولا يخفى أن هذه المسألة - أعني مسألة استغراق دين العبد لقيمته - غير مسألة تعلق حقوق الغرماء بالمال الذي بيد المأذون، فإن كان مراد المصنف ذلك، فهما مسألتان، والمعروف في المذهب: أن ديونه تتعلق بذمة السيد، لا بالمال الذي بيده، وإن كان مراد المصنف بمال المأذون مالية رقبته؛ فهي هذه المسألة، وفي الرعاية: محل الروايتين في تعلق دين المأذون ما إذا عجز ما بيده عنه، ونازعه الزركشي: بأنه قد يقال: تتعلق بذمة السيد ولو كان بيده مال إذا وَلِيَه، وتصرف لسيده كالوكيل).
مع سيِّده، أو لا كالمرهون بالنِّسبة إلى الرَّاهن
(1)
؟ على احتمالين.
وهذا لا يتوجَّه
(2)
على ظاهر المذهب، وهو تعلُّق ديونه بذمَّة السَّيِّد، وإنَّما يتوجَّه على قولنا: يتعلَّق برقبة العبد
(3)
، وقد صرَّح في «الخلاف الكبير» ببناء المسألة على هذا.
ومنها: تعلُّق حقوق الفقراء بالهدي والأضاحي المعيَّنة، ويُقدَّمون بما يجب صرفه إليهم منها على الغرماء في حياة الموجِب وبعد وفاته.
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: فإن الراهن لا يصح شراؤه من عبده المرهون، مع تعلق حق المرتهن به ومما في يده لو كان الجميع رهنًا).
(2)
كتب على هامش (ن): (أي: هذا التصحيح لشراء السيد منه، أو هذا الخلاف في هذا).
(3)
كتب على هامش (ن): (لأنه يصير مستحَقًّا لأرباب الديون، فيصير كعبد غيره، فيتوجه الخلاف في صحة شراء سيده منه).
قاعدة [86]
الملك أربعة أنواع: ملك عين ومنفعة، وملك عين بلا منفعة، وملك منفعة بلا عين، وملك انتفاع من غير ملك المنفعة
.
أما النَّوع الأوَّل: فهو عامَّة الأملاك الواردة على الأعيان المملوكة بالأسباب المقتضية لها؛ من بيع وهبة وإرث وغير ذلك.
واعلم أنَّ ابن عقيل ذكر في «الواضح في أصول الفقه» إجماع الفقهاء على أنَّ العباد لا يملكون الأعيان، وإنَّما يملك الأعيان خالقها سبحانه وتعالى، وأنَّ العباد لا يملكون سوى الانتفاع بها على الوجه المأذون فيه شرعاً، فمن كان مالكاً لعموم الانتفاع؛ فهو المالك المطلق، ومن كان مالكاً لنوع منه؛ فملكه مقيَّد ويختصُّ باسم خاصٍّ يمتاز به؛ كالمستأجر والمستعير وغير ذلك، وكذلك ذكر ابن الزَّاغونيِّ في كتاب «غرر البيان» ، ورجَّحه الشَّيخ تقيُّ الدِّين رحمه الله
(1)
.
فعلى هذا: جميع الأملاك إنَّما هي ملك انتفاع، ولكنَّ التَّقسيم ههنا وارد على المشهور.
النَّوع الثَّاني: ملك العين بدون منفعة، وقد أثبته الأصحاب في الوصيَّة بالمنافع لواحد وبالرَّقبة لآخر أو تركها للورثة، وقد قال أحمد
(1)
تنظر المسألة في: منهاج السنة 4/ 414.
في رواية مهنَّى فيمن أوصى بخدمة عبد أو ظهر دابَّة يُركب
(1)
أو بدار تسكن؛ فقال: الدَّار لا بأس بها، وأكره العبد والدَّابَّة؛ لأنَّهما يموتان.
قال أبو بكر: الذي أقول به: أنَّ الوصية تصحُّ في جميع ذلك؛ لأنَّ الدَّار تخرب أيضاً
(2)
.
وحمل القاضي كلام أحمد على الكراهة دون إبطال الوصيَّة.
وقال
(3)
الشَّيخ تقيُّ الدِّين: لم يرد أحمد أنَّ الوصيَّة لا تجوز إلَّا بما يدوم نفعه، فإنَّ هذا لا يقوله أدنى من له نظر في الفقه فضلاً عن أن يكون مثل هذا الإمام، وإنَّما أراد أنَّ العبد والدَّابَّة إذا أوصى
(4)
بمنافعهما على التَّأبيد، فلم يترك للورثة ما ينتفعون به؛ فلا يجوز أن يحسب ذلك عليهم من الميراث، فإنَّه لا فائدةَ في الرَّقبة المجرَّدة عن المنافع، بل هو ضرر محض، وقد شرط الله سبحانه لجواز الوصيَّة عدم المضارَّة، لكن إن قصد الموصي إيصال جميع المنافع إلى الموصى له، فهذه وصيَّة بالرَّقبة، فلا تحسب
(5)
على الورثة منها شيء، ولا يصحُّ الإيصاء معها بالرَّقبة.
وإن قصد مع ذلك إبقاء الرَّقبة للورثة أو الإيصاء بها لآخر؛ بطلت
(1)
قوله: (تركب) سقط من (ب).
(2)
كتب في هامش (ن): (في تعليل أبي بكر شيء).
(3)
في (ب) و (د) و (و) و (ن): قال.
(4)
في (ب): وصَّى.
(5)
في (ب) و (هـ): يحسب.
الوصيَّة؛ لامتناع أن تكون المنافع كلُّها لشخص والرَّقبة لآخر، ولا سبيل إلى ترجيح أحد الأمرين، فيبطلان.
أمَّا إن وصَّى في وقت بالرَّقبة لشخص، وفي آخر بالمنافع لغيره؛ فهو كما لو وصَّى بعين لاثنين في وقتين
(1)
.
واستدلَّ على أنَّ تمليك جميع المنافع تمليكٌ للعين
(2)
بالرُّقبى والعمرى؛ فإنَّها تمليك للرَّقبة؛ حيث كانت تمليكاً
(3)
للمنافع في الحياة، وهذا المعنى منتفٍ في الوصيَّة بسكنى الدَّار؛ لأنَّ هذا تمليك منفعة خاصَّة ينتهي بموت الموصى له وبخراب
(4)
الدَّار؛ فيعود الملك
(5)
إلى الورثة كما يعود الملك في السُّكنى في الحياة.
والنَّوع الثَّالث: ملك المنفعة بدون عين، وهو ثابت بالاتِّفاق، وهو ضربان:
أحدهما: ملك مؤبَّد، ويندرج تحته صور:
منها: الوصيَّة بالمنافع كما سبق، ويشمل جميع أنواعها إلَّا منفعة البضع، فإنَّ في دخولها في الوصيَّة وجهين
(6)
.
(1)
ذكر بعضه في الاختيارات الفقهية (ص 279).
(2)
في (ب): تملك العين.
(3)
في (ب): تملكًا.
(4)
في (أ): (بخراب) بدون الواو.
(5)
كتب على هامش (و): (أي: ملك المنافع).
(6)
كتب في هامش (ن): (قال في الفروع: ولا يطأ، وفي الترغيب: وجهان).
ومنها: الوقف؛ فإنَّ منافعه وثمراتِه مملوكةٌ للموقوف عليه، وفي ملكه لرقبته وجهان معروفان لهما فوائد متعدِّدة.
ومنها: الأرض الخراجيَّة المقرَّة في يد من هي في يده بالخراج، يملك منافعها على التَّأبيد.
والضَّرب الثَّاني: ملك غير مؤبَّد.
فمنه: الإجارة، ومنافع المبيع المستثناة في العقد مدَّة معلومة.
ومنه: ما هو غير مؤقَّت، لكنَّه غير لازم؛ كالعارية على وجه، وإقطاع الاستغلال
(1)
.
النَّوع الرَّابع: ملك الانتفاع المجرَّد، وله صور متعدِّدة:
منها: ملك المستعير؛ فإنَّه يملك الانتفاع لا المنفعة، إلَّا على رواية ابن منصور عن أحمد: أنَّ العارية المؤقَّتة تلزم
(2)
، كذا قال الأصحاب.
ويمكن أن يقال: لزوم العارية المؤقَّتة إنَّما يدلُّ على وجوب الوفاء ببذل الانتفاع لا على تمليك المنفعة.
(1)
كتب على هامش (ن): (فائدة حسنة: وهو أن المقطَع يملك المنفعة لا أن ينتفع).
(2)
لعله يشير إلى ما جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2774): قال الثوري: كل إنسان استعار شيئاً فرهنه بإذن صاحبه، فذهب الرهن، رد المستعير إلى صاحبه قيمة المتاع الذي كان رهنه به. قال أحمد:(نحن نقول: العارية مؤداة، وإن كان أرهنه بإذن صاحبه، فلا بد له من أن يؤديه "على اليد ما أخذت حتى تؤدي")، والرهن لازم، فلما أذن له برهنه صارت الإعارة زمان الرهن لازمة. وأشار إلى ذلك ابن قدامة في المغني (4/ 259).
ومنها: المنتفِع بملك جاره من وضع خشب وممرٍّ في دار ونحوه، وإن كان بعقد صلح؛ فهو إجارة.
ومنها: إقطاع الإرفاق؛ كمقاعد الأسواق ونحوها.
ومنها: الطَّعام في دار الحرب قبل حيازته؛ يملك الغانمون الانتفاع به بقدر الحاجة.
وقياسه: الأكل من الأضحية، والثَّمر المعلَّق ونحوه.
ومنها: أكل الضَّيف لطعام المَضيف؛ فإنَّه إباحة محضة لا يحصل به الملك بحال على المشهور عندنا.
وعن أحمد رواية بإجزاء الإطعام في الكفَّارات، وينزل
(1)
على أحد قولين: إمَّا أنَّ المُضيَّف يملك ما قدِّم إليه؛ وإن كان ملكاً خاصًّا بالنِّسبة إلى الأكل، وإمَّا أنَّ الكفَّارة لا يشترط فيها تمليك.
ومنها: عقد النِّكاح، وتردَّدت عبارات الأصحاب في مورده؛ هل هو الملك أو الاستباحة؟
فمن قائل: هو الملك، ثمَّ تردَّدوا: هل هو ملك منفعة البضع أو ملك الانتفاع بها؟
وقيل: بل هو الحلُّ لا الملك، ولهذا يقع الاستمتاع من جهة الزَّوجة مع أنَّه لا ملك لها.
وقيل: بل
(2)
المعقود عليه ازدواج كالمشاركة، ولهذا فرَّق الله
(1)
كتب على هامش (و): (أي: إجزاء الإطعام في الكفارة للضيف).
(2)
في (أ) و (و): بل هو.
سبحانه بين الازدواج وملك اليمين، وإليه ميل الشَّيخ تقيِّ الدِّين
(1)
؛ فيكون من باب المشاركات دون المعاوضات.
(1)
جاء في نظرية العقد (ص 173): أن شيخ الإسلام ذكر خلاف الفقهاء في المعقود عليه في النكاح، هل هو ملك البضع، أو حل الانتفاع، أو العقد نفسه من جنس المشاركة التي يعبر عنها بالازدواج، لا من جنس المعاوضات؟ وأنه مال إلى الأخير. ولم نقف على كلام شيخ الإسلام في كتبه.
قاعدة [87]
فيما يقبل النَّقل والمعاوضة من الحقوق الماليَّة والأملاك
.
أمَّا الأملاك التَّامَّة؛ فقابلة للنَّقل بالعوض وغيره في الجملة.
وأمَّا ملك المنافع؛ فإن كان بعقد لازم؛ مَلَك فيه نقل الملك بمثل العقد الذي مَلَك به أو دونه، دون ما
(1)
هو أعلى منه، ومَلَك
(2)
المعاوضة عليه أيضاً، صرَّح القاضي بذلك في «خلافه» .
ويندرج تحت هذا صور:
منها: إجارة المستأجر جائزة على المذهب الصَّحيح، بمثل الأجرة وأكثرَ وأقلَّ.
ومنها: إجارة الوقف.
ومنها: إجارة المنافع الموصى بها، وصرَّح به
(3)
القاضي في «خلافه» .
ومنها: إجارة المنافع المستثناة في عقد البيع.
ومنها: إجارة أرض العَنْوة الخراجيَّة، والمذهب الصَّحيح:
(1)
في (ب): فوق ما.
(2)
في (ب) و (ج) و (هـ) و (و): ويملك.
(3)
في (ب) و (د) و (هـ) و (و): بها.
صحَّتها، وهو نصُّ أحمد، ولكن استحبَّ المزارعة فيها على الاستئجار
(1)
.
وحكى القاضي وابن عقيل رواية أخرى بالمنع
(2)
؛ كرِباع مكَّة
(3)
، وقد أشار أحمد في رواية حنبل إلى كراهة منعها
(4)
(5)
، وسنذكره في موضعه.
ومنها: إعارة العارية المؤقَّتة إذا قيل بلزومها وملك المنفعة فيها؛ فإنَّه يجوز، ولا يجوز الإجارة؛ لأنَّها أعلى، صرَّح به القاضي في «خلافه» .
(1)
جاء في مسائل ابن هانئ (2/ 30): (سئل عن الرجل يستأجر أرضًا من السواد؟ قال: يزارع رجلًا أحب إلي من أن يستأجر أرضًا).
(2)
كتب على هامش (ن): (قد يوجه المنع: بأن من هي في يده بالخراج، يملك منفعتها على التأبيد، لكن ملكه لذلك لازم من جهة الإمام، جائز من جهته، بدليل: أنه لو أراد تركها فالظاهر أن له ذلك، وعقد الإجارة لازم من الطرفين، فهو أعلى من العقد بالخراج، بل قد يقال: إن عقد الخراج جائز من الطرفين؛ لأن الإمام لو أراد أخذ الأرض ممن هي في يده؛ فالظاهر أن له ذلك).
(3)
في (ب): ملكه.
(4)
جاء في هامش (ن): (لعله: بيعها).
(5)
قال القاضي في الأحكام السلطانية (ص 188): وقال في رواية حنبل: (مكة إنما كره إجارة بيوتها؛ لأنها عنوة، دخلها النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف، فكره من كره ذلك من أجل العنوة، فلما كانت عنوة كان المسلمون فيها شرعًا واحدًا).
وأمَّا إجارة
(1)
إقطاع الاستغلال الَّتي موردها
(2)
منفعة الأرض دون رقبتها؛ فلا نقل فيها نعلمه، وكلام القاضي قد يشعر بالمنع؛ لأنَّه جعل مناط صحَّة الإجارة للمنافع لزوم العقد، وهذا منتف في الإقطاع.
وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: يجوز، وجعل الخلاف فيه مبتدعاً، وقرَّره بأنَّ الإمام جعله للجند عوضاً عن أعمالهم؛ فهو كالمملوك بعوض، ولأنَّ إذنه في الإيجار عرفيٌّ
(3)
؛
(1)
جاء في هامش (ن): (قد تقدم في القاعدة التي قبل هذه أن الأرض المقرَّة في يد من هي في يده بالخراج؛ يملك منافعها على التأبيد، فكيف يصح إجارتها لغير من هي في يده؟! فيجب حمل كلام المصنف في إجارة إقطاع الاستغلال على ما كان من الأراضي غير خراجي، أو كان خراجيًّا وليس مقَرًّا بيد أحد معين، كالذي يسميه المصريون المشاع، فأما ما له فلاحُ قرار فإنه يكون مالكاً لمنافعه، فليس لمقطِعه إجارته، نعم قد يقال: يجوز له الزيادة في خراجه؛ لأن الإمام أقامه في ذلك مقامه، والصحيح: أن للإمام ذلك على الأصح).
(2)
جاء في هامش (ن): (لعل صوابه: "الذي مورده"؛ ليكون متعلقاً بالإقطاع لا بالإجارة، فإن الإجارات كلها موردها المنفعة دون الرقبة، فلا خصوصية لهذه الإجارة بذلك، بخلاف الإقطاع فإنه قد يكون مورده الرقبة).
(3)
جاء في هامش (ن): (قوله: "عرفي
…
إلخ" لكن قد يقال: سلمنا، إلا أن الإمام نفسه ليس له إيجارها إذا كانت خراجية؛ لأن المنافع وهي مملوكة لمن الأرض في يده، فلا يحق إجارتها إلا لمن الأرض في يده بالخراج؛ لأنه مالك منفعتها بالخراج، نعم للإمام الزيادة في الخراج والنقص منه على الأصح).
فجاز كما لو صرَّح به
(1)
.
ولو تهايأ الشَّريكان على الأرض، وقلنا: لا يلزم؛ فهل لأحدهما إجارة حصَّته؟
الأظهر جوازه؛ لأنَّ المهايأة إذا فسخت؛ عاد الملك مشاعاً؛ فيخرَّج على الخلاف في إجارة المشاع
(2)
.
وأمَّا ملك الانتفاع وحقوق الاختصاص سوى البضع وحقوق التَّملك؛ فهل تصحُّ نقل الحقِّ فيها أم لا؟
إن كانت لازمة؛ جاز النَّقل لمن يقوم مقامه فيها بغير عوض، وفي جوازه بعوض خلاف.
ويستثنى من ذلك: الحقوق الثَّابتة دفعاً لضرر الأملاك؛ فلا يصحُّ النَّقل فيها بحال، ويصحُّ المعاوضة على إثباتها وإسقاطها، ويندرج في ذلك مسائل:
(1)
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (28/ 85): (وما علمت أحدًا من علماء المسلمين - لا أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم - قال: إن إجارة الإقطاع لا تجوز، وما زال المسلمون يؤجرون الأرض المقطعة من زمن الصحابة إلى زمننا هذا؛ لكن بعض أهل زماننا ابتدعوا هذا القول؛ قالوا: لأن المقطع لا يملك المنفعة؛ فيصير كالمستعير إذا أكرى الأرض المعارة، وهذا القياس خطأ لوجهين) ثم ذكر الوجهين.
(2)
كتب على هامش (ن): (قوله: "في إجارة المشاع" فإذا كان [ .... ] حصته من شريكه لم يضره فسخ المهايأة، وإن كان أجرتها من غيره؛ فإنها تنفسخ).
منها: ما يثبت
(1)
عليه يد الاختصاص؛ كالكلب والزَّيت النَّجس المنتفع به؛ فإنَّه تنتقل اليد فيه بالإرث، والوصيَّة، والإعارة في الكلب.
وفي الهبة وجهان، اختار القاضي عدم الصِّحَّة، وخالفه صاحب «المغني» .
وليس بينهما خلاف في الحقيقة؛ لأنَّ نقل اليد في هذه الأعيان بغير عوض جائز؛ كالوصيَّة، وقد صرَّح به
(2)
القاضي في «خلافه» .
وأمَّا إجارة الكلب؛ فالمذهب: أنَّها لا تصحُّ؛ لأنَّها معاوضة ولا ماليَّة فيه.
وحكى أبو الفتح الحلوانيُّ
(3)
فيها وجهين، وكذلك خرَّج أبو الخطاب وجهاً بالجواز؛ فتكون معاوضة عن نقل اليد.
ويردُّه النَّهي عن بيعه، وقد كان يمكن جعله معاوضة عن نقل اليد.
ومنها: المستعير لا يملك نقل حقِّه من الانتفاع، إلَّا أن يقول بلزوم العاريَّة كما سبق.
ومنها: مرافق الأملاك من الأفنية والأزقَّة المشتركة؛ تصحُّ إباحتها، والإذن في الانتفاع بها كالإذن في فتح باب ونحوه، قال في
(1)
في (ب) و (ج) و (هـ): ثبت. وفي (و): ثبتت.
(2)
قوله: (به) سقط من (ب).
(3)
هو محمد بن علي بن محمد بن عثمان بن المراق الحلواني، أبو الفتح، كان من فقهاء الحنابلة ببغداد، تفقه على: يعقوب البرزبيني، وأبي جعفر الشريف، له كتاب:"كفاية المبتدي في الفقه"، ومصنف آخر في الفقه أكبر منه، ومصنف في أصول الفقه، توفي سنة (505 هـ). الطبقات 2/ 257، ذيل الطبقات 1/ 246.
«التَّلخيص» : ويكون إعارةً على الأشبه.
وتجوز المعاوضة عن فتح الأبواب ونحوها، ذكره في «المغني» و «التَّلخيص» ، وهو شبيه بالمصالحة بعوضٍ على إجراء الماء في أرضه، أو فتح الباب في حائطه، أو وضع الخشب على جداره ونحوه.
وهذا متوجِّه على القول بملك هذه المرافق، أمَّا على القول بعدم الملك؛ فهو شبيه بنقل اليد بعوض كما سبق.
وكذلك ذكر الأصحاب جواز المصالحة عن الرَّوشن
(1)
الخارج في الدِّرب المشترك.
وأمَّا الشَّجرة؛ ففيها خلاف معروف؛ لكونها لا تدوم على حالة واحدة.
وأمَّا الانتفاع بأفنية الأملاك والمساجد بغير إذنٍ من الملَّاك والإمام؛ فإن كان فيه ضرر لم يجز، وإلَّا ففي جوازه روايتان، ذكره القاضي في «الأحكام السُّلطانيَّة» .
وتجوز المصالحة بعوض على إسقاط حقِّه من وضع الخشب على جداره ونحوه
(2)
، ذكره في «المجرد» .
ومنها: متحجِّر الموات، ومن أقطعه الإمام مواتاً ليحييه؛ لا يملكه
(1)
قال في تحرير ألفاظ التنبيه (ص 300): (الرَوشن: بفتح الراء، وهو الخارج من خشب البناء).
(2)
كتب على هامش (ن): (لكن هل يسقط ويختص سقوط ذلك به، أو يسقط بذلك حقه وحق من يملك داره بعده؟ من خط قاضي القضاة).
بمجرَّد ذلك على المذهب، لكن يثبت له فيه حقُّ التَّملُّك؛ فيجوز له نقل الحقِّ إلى غيره بهبة وإعارة، وينتقل إلى ورثته من بعده؟
وهل له المعاوضة عنه؟ على وجهين، أصلهما المعاوضة عن
(1)
الحقوق؛ فإنَّ هذا حقُّ تملُّك كما سبق، وفارق الشُّفعةَ، فإنَّ النَّقل فيها ممتنع؛ لأنَّها من حقوق الأملاك؛ فهي ممَّا استثني من القاعدة.
قال أحمد في رواية ابن منصور: الشُّفعة لا تباع ولا توهب
(2)
.
وحمل القاضي قوله: (لا تباع) على أنَّ المشتري ليس له أن يصالح الشَّفيع عنها بعوض؛ قال: لأنَّه خيار لا يسقط إلى مال؛ فلم يجز أخذ العوض عنه؛ كخيار الشَّرط والمجلس، بخلاف خيار القصاص والعيب؛ لأنَّه يسقط إلى الدِّية والأرش.
والأظهر: حمل قول أحمد: (لا تباع ولا توهب) على أنَّ الشَّفيع ليس له نقلها إلى غيره بعوض ولا غيره، فأمَّا مصالحته للمشتري؛ فهو كالمصالحة عن ترك وضع الخشب على جداره ونحوه.
وذكر القاضي في باب الشُّفعة أيضاً: أنَّ خيار العيب يجوز المصالحة عنه بعوض، وعلَّل بأنَّ العيب يمنع لزوم العقد، ومع عدم اللُّزوم تجوز الزِّيادة في الثَّمن والنَّقص منه.
فجعل الصُّلح ههنا إسقاطاً من الثَّمن كالأرش، وعلى قياسه: خيار
(1)
في (ب): عنه عن.
(2)
جاء في مسائل ابن منصور (6/ 3021): (قلت: قال: الشفعة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث؟ قال أحمد: نعم).
الشَّرط والمجلس؛ لأنَّ التَّصرُّف في الثَّمن بالنَّقص والزِّيادة فيه ممكن.
ومنها: الكلأ والماء في الأرض المملوكة - إذا قلنا: لا يملكان بدون الحيازة -؛ فللمالك الإذن في الأخذ، وليس له المعاوضة عند أكثر الأصحاب.
ووقع في «المقنع» و «المحرر» ما يقتضي حكاية روايتين في جواز المعاوضة، وإن قلنا بعدم الملك، ولعلَّه من باب المعاوضة عمَّا يستحقُّ تملُّكه؛ فيلتحق بالقاعدة.
ومنها: مقاعد الأسواق ومجالس المساجد ونحوها؛ يصحُّ نقل الحقِّ فيها بغير عوض؛ لأنَّ الحقَّ فيها لازم بالسَّبق.
ولو آثر بها رجلاً
(1)
فسبق غيره فجلس؛ فهل يكون أحقَّ من المؤثَر أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: نعم؛ لأنَّ حقَّ القائم زال بانفصاله؛ فصار الحقُّ ثابتاً بالسَّبق.
والثَّاني: لا؛ لأنَّه لو قام لحاجة ونحوها؛ لم يسقط حقُّه، فكذا إذا آثر غيره؛ لأنَّه أقامه مقام نفسه.
وبنى بعضهم هذا الخلاف على القول بعدم كراهة
(2)
الإيثار بالقُرَب، فأمَّا إن قلنا بكراهته؛ فالسَّابق أحقُّ به وجهاً واحداً.
وفرَّق بعضهم بين مجالس المساجد ونحوها، ومقاعد الأسواق؛
(1)
قوله: (رجلاً) سقط من (ب).
(2)
في (ب) و (ج) و (و) و (هـ) و (ن): كراهية.
فأجاز النَّقل في المقاعد خاصَّة؛ لأنَّها منافع دنيويَّة، فهي كالحقوق الماليَّة.
ومنها: الطَّعام المباح في دار الحرب؛ يجوز نقل اليد فيه إلى من هو من أهل الاستحقاق من المغنم أيضاً؛ لاشتراك الكلِّ في استحقاق الانتفاع، ولا يكون ذلك تمليكاً؛ لانتفاء ملكه بالأخذ، حتَّى لو احتاج إلى صاع من برٍّ جيِّد وعنده صاعان رديئان؛ فله أن يبدلهما بصاع؛ إذ هو مأخوذ على الإباحة دون التَّمليك، صرَّح به القاضي وابن عقيل.
ومنها: المباح أكله من مال الزَّكاة والأضاحي؛ يجوز إطعامه الضِّيفان
(1)
ونحوهم؛ لاستقرار الحقِّ فيه، بخلاف طعام الضِّيافة، ولا تجوز المعاوضة عن شيء من ذلك.
ومنها: منافع الأرض الخراجيَّة؛ فيجوز نقلها بغير عوض إلى من يقوم مقامه فيها، وينتقل إلى الوارث؛ فيقوم مقام مورِّثه
(2)
فيها.
وكذلك يجوز جعلها مهراً، نصَّ عليه في رواية عبد الله
(3)
.
ونصَّ في رواية ابن هانئ وغيره: على جواز دفعها إلى الزَّوجة عوضاً عمَّا تستحقُّه عليه من المهر
(4)
، وهذا معاوضة عن منافعها المملوكة.
(1)
في (ب) و (ج) و (هـ): للضِّيفان.
(2)
في (ب) وباقي النسخ: موروثه.
(3)
جاء في مسائل عبد الله (ص 377): (سألت أبي عن رجل تزوج امرأة على أرض من أرض السواد، ثم طلقها، فقال: إن كان دخل بها؛ دفع إليها الأرض، وإن لم يكن دخل؛ فلها نصف الأرض).
(4)
جاء في مسائل ابن هانئ (2/ 10): (وسئل عن الرجل تكون له ضيعة بالسواد، وعليه دين، فيبيع فيها ويقضي دينه؟ قال: لا يبيع ضيعة بالسواد. قيل له: فإن كان لامرأته عليه مهر؟ قال: أرى أن يدفع إليها بمالها من الأرض، ولا يبيعها).
فأمَّا البيع؛ فكرهه أحمد ونهى عنه
(1)
.
واختلف قوله في بيع العمارة الَّتي فيها؛ لئلَّا يتَّخذ طريقاً إلى بيع رقبة الأرض الَّتي لا تملك، بل هي إمَّا وقف وإمَّا فيء للمسلمين جميعاً
(2)
.
ونصَّ في رواية المروذيِّ
(3)
: على أنَّه يبيع آلات عمارته بما يساوي عرضاً
(4)
، وكره أن يبيع بأكثر من ذلك لهذا المعنى.
وكذلك نقل عنه ابن هانئ: أنَّه قال: يُقوِّم دكانه وما
(5)
فيه من غلق وكلَّ شيء يحدثه فيه؛ فيعطى ذلك، ولا أرى أن يبيع سكنى دار ولا دكانٍ
(6)
.
(1)
قال القاضي في الأحكام السلطانية (ص 205): (فقال في رواية المروذي، وقد سئل عن الرجل يريد الخروج إلى العراق، ترى له أن يبيع داره؟ فلم ير له، وقال: لا يفعل.
وقال في رواية إسحاق، وقد سئل عن الرجل يكون له الضيعة في السواد، وعليه دين، هل يبيع ويقضي دينه؟ قال لا.
وقال أيضًا في رواية محمد بن أبي حرب مثل ذلك. وقال في رواية حنبل: السواد وقف، ولا أرى بيع أرضه، ولا شراءه. فقد نقل الجماعة عنه المنع على الإطلاق).
(2)
ينظر: الأحكام السلطانية (ص 206).
(3)
في (ب): نصُّ رواية المروذي.
(4)
قوله: (عرضاً) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن).
(5)
في (ب) و (د): ما.
(6)
جاء في مسائل ابن هانئ (2/ 3): (وسئل أبو عبد الله عن الرجل يبيع سكنى دكانه؟ قال: يُقوِّم ما فيه مثل غلق، وكل شيء استحدثه فيه، فيعطى بحساب ذلك، ولا أرى أن يأخذ سكنى دار ولا دكان).
ورخَّص في رواية عنه في شرائها دون بيعها
(1)
؛ لأنَّ شراءها استنقاذ لها بعوض ممَّن يتعدَّى بالتَّصرف فيها، وهو جائز.
ورخَّص في رواية المروذيِّ أيضاً في بيع ما يحتاج إليه للنَّفقة منها، وإن كان فيه فضل عن النَّفقة تصدَّق به
(2)
.
وكلُّ هذا بناءً على أنَّ رقبة هذه الأرض ومنافعها
(3)
وقفها عمر رضي الله عنه
(4)
.
ومن الأصحاب من حكى رواية أخرى
(5)
: بجواز البيع مطلقاً؛ كالحلوانيِّ وابنه، وكذلك خرَّجها ابن عقيل من نصِّ أحمد على صحَّة وقفها
(6)
، ولو كانت وقفاً؛ لم يصحَّ وقفها.
(1)
جاء ذلك في رواية مهنَّى وغيره، قال في الأحكام السلطانية (ص 206):(وقد أجاز شراء ما تدعو الحاجة إليه منها، وقد أطلق القول في رواية مهنى، وقد سأله عن بيع أرض السواد وشرائها: فرخص في الشراء، ولم يعجبه البيع).
(2)
لم نقف على رواية المروذي، وقال في الأحكام السلطانية (ص 206):(وقال أيضًا في رواية أبي طالب: يشتري ما يقوته ويقوت عياله، فما كان أكثر من القوت فلا).
(3)
قوله: (ومنافعها) سقط من (ب) و (ج) و (هـ) و (و).
(4)
قال في الأحكام السلطانية (ص 205): (وقد نص أحمد على أن عمر لم يقسمه بين الغانمين، بل وقفه، فقال في رواية حنبل: أوقفه عمر ولم يقسمه، أشار علي عليه بذلك. وقال في رواية المروذي: إنما أذهب إلى أن السواد وقف، وعمر ترك السواد ولم يقسمه)، وذكر في ذلك روايات أخرى عن أحمد رحمه الله.
(5)
قوله: (أخرى) سقط من (أ) و (ج) و (هـ) و (ن).
(6)
جاء عن أحمد في صحة وقف أرض السواد ما قاله الخلال في الوقوف والترجل (ص 63): (أخبرنا أبو بكر قال: سمعت أبا عبد الله وسأله رجل قال: إن أبي مات وقد دخل لهؤلاء، وقد ورثت أرضين أو قال: أرضًا، يعني من أرض السواد؟ فقال: أوقفها على قرابتك أو قال: أهل بيتك ومن عرفت من أهل الستر).
وكذلك وقع في كلام أبي بكر، وابن شاقْلا، وابن أبي موسى: ما يقتضي الجواز، وله مأخذان:
أحدهما: أنَّ الأرض ليست وقفاً، وهو مأخذ ابن عقيل.
وعلى هذا؛ فإن كانت مقسومة؛ فلا إشكال في ملكها، وإن كانت فيئاً لبيت المال - وأكثر كلام أحمد يدلُّ عليه -؛ فهل يصير وقفاً بنفس الانتقال إلى بيت المال أم لا؟ على وجهين.
فإن قلنا: لا يصير وقفاً؛ فللإمام بيعها وصرف ثمنها في المصالح، وهل له إقطاعها إقطاع تمليك؟ على وجهين، ذكر ذلك القاضي في «الأحكام السُّلطانيَّة» .
والمأخذ الثَّاني: أنَّ البيع هنا وارد على المنافع دون الرَّقبة، فهو نقل للمنافع
(1)
المستحَقَّة بعوض.
وهذا اختيار الشيخ تقي الدين
(2)
، ويدلُّ عليه من كلام أحمد أنَّه أجاز دفعها عوضاً عن المهر، ويشهد له ما تقدَّم من المعاوضة عن المنافع في مسائل متعدِّدة.
وإن كان القاضي وابن عقيل والأكثرون صرَّحوا بعدم
(3)
صحَّة بيع
(1)
في (ب) و (هـ): المنافع.
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (29/ 204) وما بعدها.
(3)
في (ب): بقدم.
المنافع المجرَّدة.
والتَّحقيق في ذلك أنَّ المنافع نوعان:
أحدهما: منافع الأعيان المملوكة الَّتي تقبل المعاوضة مع أعيانها؛ فهذه قد جوَّز الأصحاب بيعها في مواضع.
منها: أصل وضع الخراج على أرض العنوة إذا قيل: هي فيء؛ فإنَّه ليس بأجرة، بل هو شبيه بها ومتردِّد بينها وبين البيع.
ومنها: المصالحة بعوض على وضع الأخشاب وفتح الأبواب ومرور المياه ونحوها، وليس بإجارة محضة؛ لعدم تقدير المدَّة، وهو شبيه بالبيع.
ومنها: لو أعتق عبده
(1)
، واستثنى خدمته سنة؛ فهل له أن يبيعها منه؟ على روايتين، ذكرهما ابن أبي موسى، وهما منصوصتان عن أحمد.
ولا يقال: هو لا
(2)
يملك بيع العبد في هذه الحال؛ لأنَّ هذه المنافع كان يملك
(3)
المعاوضة عنها في حال الرِّقِّ، وقد استبقاها بعد زواله؛ فاستمرَّ حكم المعاوضة عليها كما يستمرُّ حكم وطء المكاتبة إذا استثناه في عقد الكتابة، وهل الكتابة إلَّا عقد معاوضة على المنافع؟!
النَّوع الثَّاني: المنافع الَّتي ملكت مجرَّدة عن الأعيان، أو كانت
(1)
في (ب): عبدًا.
(2)
قوله: (لا) سقط من (ب).
(3)
في (أ): تملك.
أعيانها غير قابلة للمعاوضة؛ فهذا محلُّ الخلاف الَّذي نتكلم فيه ههنا، والله أعلم.
قاعدة [88]
في الانتفاع وإحداث ما يُنتفع به في الطُّرق المسلوكة في الأمصار والقرى وهوائها وقرارها
.
أمَّا الطَّريق نفسه:
فإن كان ضيِّقاً، أو أحدث فيه ما يضرُّ بالمارة؛ فلا يجوز بكلِّ حال.
وأمَّا مع السَّعة وانتفاء الضَّرر:
فإن كان المحدَث فيه متأبِّداً؛ كالبناء والغراس؛ فإن كان لمنفعة خاصَّة بآحاد
(1)
النَّاس؛ لم يجز على المعروف من المذهب، وإن كان لمنفعة عامَّة؛ ففيه خلاف معروف: منهم من يطلقه
(2)
، ومنهم من يخصُّه بحالة انتفاء إذن الإمام فيه.
وإن كان غير متأبِّد ونفعه خاصٌّ؛ كالجلوس وإيقاف الدَّابَّة: ففيه خلاف أيضاً.
وأمَّا القرار الباطن؛ فحكمه حكم الظَّاهر على المنصوص.
(1)
في (ب): لآحاد.
(2)
كتب على هامش (و): (يعني: عدم الجواز).
وأمَّا الهواء؛ فإن كان الانتفاع به خاصًّا بدون إذن الإمام؛ فالمعروف منعه، وبإذنه فيه خلاف.
ويندرج تحت ذلك مسائل كثيرة:
منها: إذا حفر في طريقٍ واسعٍ بئراً، فإن كان لنفع المسلمين؛ ففيه طريقان:
أحدهما: إن كان بإذن الإمام؛ جاز، وإن كان بدون إذنه؛ فروايتان
(1)
، قاله القاضي وابن عقيل وصاحب «المحرر» .
والثَّاني: فيه روايتان على الإطلاق، قاله أبو الخطاب وصاحب «المغني» ؛ إذ البئر مَظِنَّة العطب.
وإن كان الحفر لنفسه ضمن بكلِّ حال؛ ولو كان في فنائه، نصَّ عليه
(2)
، ولا يجوز إذن الإمام فيه عند الأصحاب.
وفي «الأحكام السُّلطانيَّة» للقاضي: إنَّ له التَّصرف في فنائه بما شاء من حفر وغيره إذا لم يضرَّ، وأمَّا في فناء غيره؛ فإن أضرَّ بأهله؛ لم يجز، وإن لم يضرَّ؛ جاز، وهل يعتبر إذنهم أو إذن الإمام في فناء المسجد؟ على وجهين.
ومنها: إذا بنى مسجدًا في طريق واسع ولم يضرَّ بالمارَّة؛ قال الأكثرون من الأصحاب: إن كان بإذن الإمام؛ جاز، وإلَّا فروايتان.
(1)
قوله: (فروايتان) هو في (ب) و (ج) و (د): (ففيه روايتان).
(2)
قال القاضي في الأحكام السلطانية (ص 225): (وقال في رواية الحسن بن ثواب، فيمن حفر بئرًا في فنائه فعطب رجل - يعني بها -: لزمه).
وقال أحمد في رواية ابن الحكم: أكره الصَّلاة في المسجد الَّذي يؤخذ من الطريق إلَّا أن يكون بإذن الإمام.
(1)
ومنهم من أطلق الرِّوايتين، وكلام أحمد أكثره غير مقيَّد، قال في رواية المروذيِّ: المساجد الَّتي في الطرُّقات حكمها أن تهدم
(2)
.
وقال إسماعيل الشَّالنجيُّ: سألت أحمد عن طريق واسع للمسلمين عنه غنًى، وبهم إلى أن يكون هناك مسجد حاجة؛ هل يجوز أن يبنى هناك مسجد؟ قال: لا بأس بذلك إذا لم يضرَّ بالطريق
(3)
.
قال
(4)
: وسألت أحمد: هل يبنى على خندق مدينة المسلمين مسجد للمسلمين عامَّة؟ قال: لا بأس بذلك إذا لم يضرَّ بالطَّريق.
قال الجوزجانيُّ في «المترجم»
(5)
: والَّذي عنى أحمد من الضَّرر بالطَّريق: ما وقَّت النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الأذرع. كذا قال.
ومراده: أنَّه يجوز البناء إذا فضل من الطَّريق سبعة أذرع.
والمنصوص عن أحمد أنَّ قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا اختلفتم في الطَّريق؛
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى 30/ 403.
(2)
ينظر: الأحكام السلطانية ص 306.
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى 30/ 403.
(4)
في (د): وقال. وقد سقطت من (ب).
(5)
هو إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو إسحاق السعدي الجوزجاني، خطيب دمشق وإمامها وعالمها، حدث عن يزيد بن هارون وأبي عاصم النبيل وآخرين، وله المصنفات المشهورة المفيدة، منها:"المترجم" فيه علوم غزيرة وفوائد كثيرة، توفي 265 هـ. ينظر: تاريخ دمشق لابن عساكر 7/ 278، البداية والنهاية 14/ 544.
فاجعلوه سبعة أذرع»
(1)
، في أرض مملوكة لقوم أرادوا البناء فيها، وتشاجروا في مقدار ما يتركونه منها
(2)
للطَّريق.
وبذلك فسره ابن بطَّة وأبو حفص العكبريُّ والأصحاب، وأنكروا جواز تضييق الطَّريق الواسع إلى أن يبقى منه سبعة أذرع.
ومنها: بناء غير المساجد في الطُّرقات؛ فإن كان البناء للوقف على المسجد؛ فهو كبناء المسجد، قاله الشَّيخ تقيُّ الدِّين
(3)
.
وكذا إن كان لمصلحة عامَّة؛ كخان مسبَّل
(4)
ونحوه.
وإن كان لمنفعة تختصُّ بآحاد النَّاس؛ فالمشهور: عدم جوازه؛ لأنَّ الطَّريق مشترك؛ فلا يملك أحد إسقاط الحقِّ المشترك فيه
(5)
والاختصاص به، ولا يملك الإمام الإذن في ذلك.
وفي كتاب الطُّرقات لابن بطَّة: إن بعض الأصحاب أفتى بجوازه، وأخذه من نصِّ أحمد في بناء المسجد، والفرق واضح؛ لأنَّ المسجد حقُّ الاشتراك فيه باقٍ، غير أنَّه انتقل من استحقاق المرور إلى
(1)
أخرجه بهذا اللفظ أحمد (2098)، من مسند ابن عباس رضي الله عنهما، وفي (10135)، من مسند أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد أخرجه البخاري (2473)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:«قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا تشاجروا في الطريق بسبعة أذرع» .
(2)
في (ب): فيها.
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى (30/ 402).
(4)
في (ب): سبيل.
(5)
في (أ): منه.
استحقاق اللُّبث للعبادة
(1)
.
وكلام أحمد يدلُّ على المنع، قال في رواية ابن القاسم: إذا كان الطَّريق قد سلكه النَّاس وصُيِّر طريقاً؛ فليس لأحد أن يأخذ منه شيئاً قليلاً ولا كثيراً.
وقال في رواية العباس بن موسى
(2)
: إذا نضب الماء عن جزيرة؛ لم يبن فيها؛ لأنَّ فيها
(3)
ضرراً، وهو أنَّ الماء يرجع
(4)
.
قال القاضي: معناه: إذا بنى في طريق المارَّة، فيضرُّ بالمارَّة في ذلك الطَّريق؛ فلم يجوِّزه.
وكره في رواية ابن بختان أن يطحن في الغروب، وقال: ربَّما غرقت السُّفن.
وقال في رواية مثنَّى: إذا كانت في طريق النَّاس؛ فلا يعجبني
(5)
.
والغروب: كأنَّها طاحونة، تصنع في النَّهر الَّذي تجري فيه السُّفن.
وكره شراء ما يُطحن فيها.
وذكر ابن عقيل في الغربة في النَّهر: إن كان وضعها بإذن الإمام، والطَّريق واسع، والجريان معتدل بحيث يمكن الاحتراز منه؛ جاز، وإلَّا
(1)
في (ب): المعتاد.
(2)
هو عباس بن محمد بن موسى الخلال، بغدادي، كان من أصحاب الإمام أحمد الأولين الذين كان أبو عبد الله يعتد بهم. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 239.
(3)
في (ب) و (ج) و (د): فيه.
(4)
ينظر: الأحكام السلطانية ص 212.
(5)
ينظر: الروايتين والوجهين 1/ 453.
لم يجز.
ولعلَّ الغربة -كالسَّفينة- لا يتأبَّد، بخلاف البناء.
وحكم الغراس حكم البناء، وقد قال أحمد في النَّخلة المغروسة في المسجد: إنَّها غُرست بغير حقٍّ؛ فلا أحبُّ الأكل منها، ولو قلعها الإمام كان أولى.
ومن الأصحاب من أطلق فيها الكراهة؛ كصاحب «المبهج»
(1)
، وجعل ثمرها لجيران المسجد الفقراء.
ونصَّ أحمد في رواية ابن هانئ وابن بختان، في دار السَّبيل يُغرَس فيها كرمٌ؛ قال: إن كان يضرُّ بهم؛ فلا.
وظاهره: جوازه مع انتفاء الضَّرر، ولعلَّ الغرس كان لجهة
(2)
السَّبيل أيضاً.
ومنها: اختصاص آحاد النَّاس في الطَّريق بانتفاع لا يتأبَّد.
فمن ذلك: الجلوس للبيع والشِّراء؛ فقال الأكثرون: إن كان الطَّريق واسعاً، ولا ضرر في الجلوس بالمارَّة؛ جاز بإذن الإمام ودون إذنه، وإلَّا لم يجز، وللإمام
(3)
أن يقطعه من شاء.
وذكر القاضي في «الأحكام السُّلطانيَّة» في جوازه بدون إذن الإمام روايتين.
(1)
في (ب): المنهج.
(2)
في (ب) و (د): بجهة.
(3)
في (ب): (للإمام) بدون الواو.
وحكى في كتاب «الرِّوايتين» في المسألة روايتين: بالجواز
(1)
والمنع، وحملهما
(2)
على اختلاف حالين؛ فالجواز إذا لم يضرَّ بالمارة، والمنع إذا أضرَّ، وجعل حقَّ الجلوس كحقِّ الاستطراق؛ لأنَّه لا يعطِّل حقَّ المرور بالكليَّة؛ فهو كالقيام فيها لحاجة.
وأظنُّ ابن بطة حكى قبله
(3)
روايتين مطلقتين في الجواز وعدمه، وكذلك ذكر صاحب «المقنع» في الجلوس في الطَّريق الواسع؛ هل يوجب ضمان ما عثر به؟ على وجهين، وذلك يدلُّ على الخلاف في جوازه.
وأمَّا القاضي؛ فقال: لا يضمن بالجلوس رواية واحدة.
ومن ذلك: لو ربط دابَّته أو أوقفها في الطرَّيق، والمنصوص: منعه.
قال في رواية أبي الحارث: إذا أقام دابَّته
(4)
في
(5)
الطَّريق؛ فهو ضامن لما جنت، ليس له في الطريق حقٌّ
(6)
.
وكذلك نقل عنه أبو طالب وحنبل ضمان جناية الدَّابَّة إذا ربطها في الطَّريق
(7)
.
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): الجواز.
(2)
في (ب)(ج) و (د) و (و) و (ن): ثمَّ حملهما. وفي (هـ): ثمَّ حملها.
(3)
في (ب) و (و): فيه.
(4)
في (ب) و (د) و (ن): دابَّة.
(5)
في (ب) وباقي النسخ: على.
(6)
ينظر: الروايتين والوجهين للقاضي 2/ 350.
(7)
نقل القاضي رواية أبي طالب في الروايتين والوجهين 2/ 350.
وكذلك أطلق ابن أبي موسى وأبو الخطاب من غير تفريق بين حالة الضِّيق والسَّعة؛ ومأخذه: أنَّ طبع الدَّابَّة الجناية بفمها أو برجلها، فإيقافها في الطَّريق كوضع الحجر ونصب السِّكين فيه.
وحكى القاضي في كتاب «الرِّوايتين» رواية أخرى بعدم الضَّمان إذا وقف في طريق واسع؛ لقول أحمد في رواية أحمد بن سعيد: إذا وقف على نحو ما يقف النَّاس، أو في موضع يجوز أن يقف في مثله، فنفحت بيد أو رجل؛ فلا شيء عليه، قال القاضي: ظاهره أنَّه لا ضمان إذا كان واقفاً لحاجة وكان الطَّريق واسعاً
(1)
، فهو كالقيام فيها لحاجة
(2)
.
وأمَّا الآمديُّ؛ فحمل المنع على حالة ضيق الطَّريق، والجواز على حالة سعته، فالمذهب
(3)
عنده: الجواز مع السَّعة وعدم الإضرار رواية واحدة.
ومن المتأخرين من جعل المذهب: المنع رواية واحدة.
وصرَّح صاحب «التلخيص» بجريان الخلاف في صورتي القيام والرَّبط.
وخالف بعض المتأخرين، وقال: الرَّبط عدوان بكلِّ حال.
وربط السَّفينة وإرساؤها في النَّهر المسلوك؛ قال ابن عقيل: إن كان
(1)
كتب على هامش (ن): (ظاهر كلامه: اشتراط أحد الأمرين لا كليهما).
(2)
قوله: (فهو كالقيام فيها لحاجة) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن). ينظر: الروايتين والوجهين 2/ 350.
(3)
في (ب) و (هـ): والمذهب.
بإذن الإمام والطَّريق واسع والجريان معتدل؛ جاز، وإلَّا لم يجز.
وخالف بعض الأصحاب في اعتبار إذن الإمام في هذا؛ لتكرُّره، قال الميمونُّي: ملت أنا وأبو عبد الله إلى الزَّواريق - يعني: في دجلة -، فاكترى زورقاً من الزَّواريق، فرأيته يتخطَّى زواريق عدَّة لأناس، ولم أره استأذن أحداً منهم؛ قال بعض الأصحاب: لأنَّه حريم دجلة، وهو مشترك بين المسلمين، فلما ضيَّقوه؛ جاز المشي عليه.
وعلى قياس ذلك: لو وُضع في المسجد سريرٌ ونحوه؛ جازت الصَّلاة عليه من غير استئذان، بخلاف ما إذا بسط فيه مصلًّى، وقلنا: لا يثبت به السَّبق؛ فإنَّه يُرفع ويُصلَّى موضعه، ولا يصلَّى عليه؛ لأنَّ رفعه لا مشقَّة فيه.
ومن ذلك: الانتفاع بالطَّريق بإلقاء الكناسة والأقذار، فإن كانت
(1)
نجاسة؛ فهو كالتَّخلي في الطريق، وهو منهيٌّ عنه، لكن هل هو نهي كراهة أو تحريم؟ كلام الأصحاب مختلف في ذلك.
وإن كان ممَّا يحصل به الزَّلق؛ كرشِّ الماء وصبِّه، وإلقاء قشور البطيخ، أو يحصل به العثور كالحجر؛ فلا يجوز، والضَّمان واجب به، وقد نصَّ عليه أحمد في رشِّ الماء.
قال في «التَّرغيب» : إلَّا أن يرشَّه؛ ليسكن الغبار؛ فهو مصلحة عامَّة، فيصير كحفر البئر للسَّابلة، وفيه روايتان.
ومنها: الحفر في الطَّريق، وهو ممنوع، سواء تركه ظاهراً أو غطَّاه
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): كان.
وأسقف
(1)
عليه، قال المرُّوذيُّ: سألت أبا عبد الله عن الرَّجل يحفر في فنائه البئر أو المخرج المعلَّق؟ قال: لا، هذا طريق المسلمين
(2)
، قلت: إنَّما هي بئر تحفر ويُسدُّ رأسها، قال: أليس في طريق المسلمين؟! أكره هذا كلَّه
(3)
.
فمنع من التَّصرُّف في باطن الطَّريق بالحفر.
ونقل عنه ابن هانئ وابن بختان والفضل بن زياد: في رجل في داره شجرة، فنبت من عروقها شجرة في دار رجل آخر: لمن الشَّجرة؟ قال: ما أدري ما هذا؟ ربَّما كان ضرراً على صاحب الأرض
(4)
.
قال القاضي: وظاهر هذا أنَّه إذا لم يكن فيها ضرر، وهو أن تكون
(5)
عروقها تحت الأرض، لا يؤخذ بقلعها؛ لأنَّ الضَّرر إنَّما يكون بظهورها على وجه الأرض، انتهى.
وفيه نظر ظاهر
(6)
، وصرَّح ابن عقيل في «الواضح في أصول الفقه» بوجوب إزالة عروق شجره
(7)
من أرض غيره.
(1)
في (أ): وسقف.
(2)
في (ب) و (و): للمسلمين.
(3)
ينظر: الأحكام السلطانية ص 307.
(4)
نقلها القاضي عن ابن هانئ في الأحكام السلطانية ص 301.
(5)
في (ب) و (هـ): يكون.
(6)
قوله: (ظاهر) سقط من (أ).
(7)
في (ب): الشَّجرة. وفي (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): شجرته.
ومنها: إشراع الأجنحة والساباطات والخشب والحجارة في الجدار إلى الطَّريق؛ فلا يجوز، ويضمن به، نصَّ عليه أحمد في رواية أبي طالب وابن منصور ومهنَّى وغيرهم
(1)
، ولم يعتبر إذن الإمام في ذلك، وكذا ذكر القاضي في «المجرَّد» ، وصاحب «المغني» .
وقال القاضي في «خلافه» والأكثرون: يجوز بإذن الإمام مع انتفاء الضَّرر به.
وفي «شرح الهداية» للشَّيخ مجد الدِّين في كتاب الصَّلاة: إن كان لا يضرُّ بالمارة جاز.
وهل يفتقر إلى إذن الإمام؟ على روايتين:
إحداهما: يفتقر؛ لأنَّه ملك مشترك بين المسلمين؛ فلا يجوز تخصيصه بجهة خاصَّة إلَّا للإمام.
والثَّانية: لا يفتقر؛ لأنَّ منفعة الطَّريق المرور، وهو لا يختلُّ
(2)
بذلك.
وأمَّا الميازيب ومسيل المياه؛ فكذلك عند الأصحاب، قال المروذيُّ: سُقِّف لأبي عبد الله سطح الحاكة، وجعل مسيل الماء إلى الطَّريق، وبات تلك اللَّيلة، فلما أصبح قال: ادع إليَّ النَّجَّار يحوِّل الميزاب إلى الدَّار، فدعوته له، فحوَّله
(3)
.
(1)
جاء في مسائل ابن منصور (7/ 3447): قلت: البوري، والحجر، والعمود، وأشباه ذلك يكون بالطريق؟ قال أحمد:(كلما كان في غير حقهم يضمن ما أصاب).
(2)
في (ب): يحتمل. وفي (هـ): يخلُّ.
(3)
تنظر الرواية: في مجموع الفتاوى 30/ 401.
وهذا لا يدلُّ على التَّحريم؛ لأنَّه لو اعتقده محرماً لم يفعله ابتداء، وإنَّما حوَّله؛ تورعاً لحصول الشُّبهة فيه.
وفي «المغني» احتمال بجوازه مطلقاً مع انتفاء الضَّرر، واختاره طائفة من المتأخِّرين.
وقال الشَّيخ تقي الدِّين: إخراج الميازيب إلى الدَّرب النَّافذ هو السُّنَّة
(1)
، وذكر حديث العبَّاس في ذلك
(2)
.
والمانعون يقولون: ميزاب العبَّاس وضعه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بيده؛ فكان أبلغ من إذنه فيه
(3)
، ولا كلام فيما أذن فيه
(4)
الإمام، والله أعلم
(5)
.
(1)
قال في الإنصاف (13/ 184): (فعلى هذا، لا ضمان).
(2)
أخرجه أحمد (1790)، وعبد الرزاق (15264)، وأبو داود في المراسيل (406)، والبيهقي (11363)، من طرق: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نزع ميزابًا كان للعباس في المسجد، فقال العباس:«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وضعه بيده» ، فقال عمر: فلا يكونن لك سلمًا إليه إلا ظهري، قال: فانحنى له عمر، فركب العباس على ظهره، فأثبته. وقال ابن أبي حاتم في العلل (4/ 248): سألت أبي عنه فقال: (هو خطأ)، وقال ابن حجر في التلخيص (3/ 110):(رواه البيهقي من أوجه أخر ضعيفة أو منقطعة)، وضعفه الألباني في الإرواء 5/ 256، وحسنه محقِّقَا المسند بطرقه.
(3)
كتب على هامش (و): (فعل النبي صلى الله عليه وسلم يحصل لأمته التأسي به، إذ لا دليل على التخصيص، ولو كان وضعه مما يشترط فيه إذن الإمام لبينه؛ لأنه محل الحاجة، ولا يجوز تأخير البيان عن علمها، فحينئذ توجه الاستدلال بحديث العباس على ما ذكر).
(4)
في (ب): به.
(5)
قوله: (والله أعلم) سقط من (ب) و (د).
قاعدة [89]
أسباب الضَّمان ثلاثة: عقد، ويد، وإتلاف
.
أمَّا عقود الضَّمان؛ فقد سبق ذكرها
(1)
، وكذلك سبق ذكر الأيدي الضَّامنة.
وأمَّا الإتلاف؛ فالمراد به: أن يباشر الإتلاف بسببٍ يقتضيه؛ كالقتل والإحراق، أو ينصب سبباً عدوانيًّا
(2)
، فيحصل به الإتلاف؛ كأن يحفر بئراً في غير ملكه عدواناً، أو يؤجِّج ناراً في يوم ريح عاصف، فيتعدَّى إلى إتلاف مال الغير، أو كان المال محتبساً بشيء وعادته الانطلاق؛ فيزيل احتباسه، وسواء كان له اختيار في انطلاقه أو لم يكن؛ فدخل تحت ذلك ما إذا حلَّ وكاء زقٍّ مائع فاندفق، أو فتح
(3)
قفصاً عن طائر فطار، أو حلَّ قيد عبد آبق فهرب، هذا هو الَّذي ذكره ابن حامد والقاضي والأكثرون؛ لأنَّه تسبَّب إلى الإتلاف بما يقتضيه عادة.
واستثنى ابن عقيل في «فنونه» : ما كان من الطُّيور يألف البروج
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: في القاعدة الثالثة والأربعين).
(2)
في (ب): شيئًا عدوانًا.
(3)
في (أ): وفتح.
ويعتاد العود؛ فقال: لا ضمان في إطلاقه وإن لم يعد؛ لأنَّ العادة جارية بعوده؛ فليس إطلاقه إتلافاً.
وقال أيضاً في «الفنون» : الصَّحيح التَّفرقة بين ما يُحال الضَّمان على فعله؛ كالآدميِّ، وما لا يُحال عليه الضَّمان؛ كالحيوانات والجمادات، فإذا حلَّ قيد العبد؛ لم يضمن؛ لأنَّ العبد له اختيار، ويصحُّ إحالة الضمان عليه؛ فيقطع مباشرتُه للتَّلف تَسبُّبَ مطلقِه.
وهذا الَّذي قاله إنَّما يصحُّ لو كان العبد من أهل الضَّمان لسيِّده، فأمَّا إذا لم يكن من أهل الضَّمان للسَّيِّد؛ تعيَّن إحالة الضَّمان على المتسبب، ولهذا قال الأصحاب: إنَّ جناية العبد المغصوب على سيِّده مضمونة على الغاصب، حيث لم يكن العبد من أهل الضمان للسيد، فأُحيل على الغاصب؛ لتعدِّيه بوضع يده عليه، مع أنَّه ليس سبباً للجناية.
ولكن خرَّج ابن الزاغونيِّ في «الإقناع» وجهاً آخر: أنَّه لا ضمان على الغاصب؛ لأنَّ الجناية من أصلها غير قابلة للتَّضمين؛ لتعلُّقها
(1)
بالرَّقبة المملوكة للمجنيِّ عليه؛ فلا يلزم الغاصبَ منها شيء، ولا يلزم مثله في مُطْلِق العبد؛ لأنَّه متسبب إلى الإتلاف، فإذا لم يمكن إحالة الضَّمان على المباشر أحيل على المتسبِّب؛ صيانةً للجناية على مال المعصوم عن الإهدار مهما أمكن.
وخرَّج الآمديُّ وجهًا آخر: أنَّ جناية العبد على سيِّده مضمونة عليه
(1)
في (ب): ليعلِّقها.
في ذمَّته، يتبع بها بعد عتقه.
وههنا فرع يتردَّد
(1)
فيه بين ضمان اليد والإتلاف: وهو ما إذا حفر بئراً عدواناً أو نصب شبكة أو منجلاً للصَّيد، ثمَّ مات، ثمَّ وقع في البئر حيوان مضمون، أو عثر بآلات الصَّيد حيوان مضمون؛ فإن جعلناه من باب الإتلاف؛ ضمن من التَّركة، وبه صرَّح القاضي في «المجرَّد» وابن عقيل في «الفصول» في باب الرَّهن؛ حتَّى قالا: لو بيعت التَّركة لفُسِخ في قدر الضَّمان منها؛ لسبق سببه، ولو كانت التَّركة عبداً فأعتقه الورثة قبل الوقوع؛ ضمنوا قيمة العبد؛ كالمرهون، صرَّح به القاضي في «الخلاف» .
وإن جعلناه من ضمان اليد؛ فهل يجعل كيده المشاهدة بعد الموت، أو يجعل اليد لمن انتقل الملك إليه؟ يحتمل وجهين أصلهما اختلاف الأصحاب فيما لو نصب شبكة فوقع فيها صيد بعد موته؛ هل هو تركةٌ موروثةٌ؛ جعلاً لها كيده المشاهدة، أو هو ملك للورثة؛ لأنه صار
(2)
كأيديهم؟
والذي صرَّح به القاضي وابن عقيل: أنَّه تركة موروثة.
وقال أبو الخطَّاب في «الانتصار» : بل
(3)
هو ملك للوارث بانتقال ملك الشَّبكة إليه، كما يتولَّد من النِّتاج الموروث ويثمر من الشَّجر
(4)
.
(1)
في (ب) و (ج) و (هـ): متردِّد. وفي (ن): تردد.
(2)
في (ب): صارت.
(3)
في (ب): هل.
(4)
قوله: (بانتقال ملك الشَّبكة إليه، كما يتولَّد من النِّتاج الموروث ويثمر من الشَّجر) سقط من (ب).
وأمَّا في العدوان المجرَّد؛ فيحتمل أن ينقطع حكمه بالموت، ويحتمل أن يكون ضمانه من تركة المتعدِّي؛ لانعقاد سببه في حياته.
ويشبه ذلك: الاختلاف
(1)
فيمن مال حائطه، فطولب بنقضه، فباعه، ثمَّ سقط؛ هل يسقط عنه الضَّمان؟ فيه وجهان سبق ذكرهما.
وهل يجب الضَّمان على من انتقل إليه الملك
(2)
إذا استدامه أم لا؟ الأظهر وجوبه عليه؛ كمن اشترى حائطاً مائلاً؛ فإنَّه يقوم مقام البائع فيه، فإذا طولب بإزالته فلم يفعل؛ ضَمِن على رواية.
ولو حفر عبده بئراً عدواناً بغير إذنه، ثمَّ أعتقه، ثمَّ تلف بها مالٌ أو غيره؛ ففي «المغني»: الضَّمان على العبد؛ لاستقلاله بالجناية.
وفي «التَّلخيص» : هو على السَّيِّد بقدر قيمة العبد فما دون؛ لثبوته عليه
(3)
قبل العتق بذلك؛ فقد وجد السَّبب في ملكه، فلا ينتقل، وهو بعيد.
تنبيه: لو أتلف الغاصب المغصوب؛ ضمنه ضمان إتلافٍ ويدٍ.
وقد نصَّ أحمد على أنَّ من أمسك صيداً في الحرم، ثمَّ كفَّر عنه، ثمَّ ذبحه: أنَّه يجزئه.
وهذا يدلُّ على أنَّه جعله ضمان يد، وإلَّا لما جاز تقديم كفَّارة الإتلاف عليه، ويدلُّ أيضاً على جواز تقديم الكفَّارة، وإن كان يمكن أن
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): الخلاف.
(2)
في (ب) وباقي النسخ: الملك إليه.
(3)
في (ب): على العبد.
توجبها معصيته
(1)
.
وفيه وجه بالمنع ذكره القاضي في «تعليقه» ؛ لأنَّ التَّقديم رخصة؛ فلا تستباح بمحرَّم
(2)
.
(1)
في (و): موجبها معصيته. مكان قوله: (يمكن أن توجبها معصيته)
(2)
من قوله: (تنبيه) إلى هنا سقط من (أ).
قاعدة [90]
الأيدي المستولية على مال الغير بغير إذنه ثلاثة:
يدٌ يمكن أن يثبت باستيلائها الملك؛ فينتفي الضَّمان عمَّا تستولي عليه، سواء حصل الملك به أو لم يحصل.
ويدٌ لا يثبت لها الملك وينتفي عنها الضَّمان.
ويدٌ لا يثبت لها الملك ويثبت عليها الضَّمان.
أمَّا الأولى؛ فيدخل فيها صور:
منها: استيلاء المسلمين على أموال أهل الحرب.
ومنها: استيلاء أهل الحرب على أموال المسلمين؛ لأنَّهم يملكون علينا بالاستيلاء، وهو المشهور عند الأصحاب.
وينتفي الضَّمان عنهم فيما لم يملكوه أيضاً ممَّا تثبت
(1)
عليه الأيدي؛ كأمِّ الولد، وما لم يحوزوه إلى دارهم وما شرد إليهم من دوابِّ المسلمين وأرقَّائهم
(2)
على قولنا: إنَّهم لا يملكون ذلك.
ومنها: استيلاء الأب على مال الابن، فإن كان استيلاء يحصل به الملك؛ فلا إشكال في انتفاء الضَّمان، وإن كان على غير وجه
(1)
في (ب) و (د): ثبت.
(2)
في (ب) و (هـ): أرقابهم.
التَّمليك
(1)
؛ فلا يثبت به الضَّمان ولو أتلفه على أصحِّ الوجهين، وهو المذهب عند صاحب «المحرَّر»
(2)
.
وأمَّا اليد الثَّانية؛ فيدخل فيها صور:
منها: من له ولاية شرعية بالقبض.
ومنها: من قبض المال لحفظه على المالك؛ فإنَّه لا يضمنه، وقد نصَّ أحمد فيمن أخذ آبقاً ليردَّه على سيِّده، فهرب منه: أنَّه لا ضمان عليه
(3)
، لكن
(4)
أخذ الآبق فيه إذن شرعيٌّ
(5)
.
وفي «التَّلخيص» وجه آخر بالضَّمان في المستنقذ من الغاصب للردِّ
(6)
؛ لعدم الولاية، وهو ضعيف.
(1)
(ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): التَّملُّك.
(2)
كتب على هامش (ن): (ومقابله - وهو الوجه الآخر - هو مقتضى عبارة «المقنع»؛ لأنه قال: وليس للابن مطالبة أبيه بدين، ولا قيمة متلف، ولا أرش جناية).
(3)
جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2779): قلت: رجل أخذ عبداً آبقاً، فأبق منه؟ قال: ليس عليه شيء.
وفي مسائل عبد الله (ص 310)، قال: سألت أبي عن الآبق إذا أخذه الرجل ثم أبق منه؟ قال: (ليس عليه شيء).
(4)
كتب على هامش (ن): لعله: لأن.
(5)
يشير إلى ما رواه ابن أبي شيبة (2190) عن سعيد بن المسيب: «أن عمر رضي الله عنه جَعَل في جُعْل الآبق ديناراً أو اثني عشر درهماً» . وروي نحوه عن علي وابن مسعود. تقدم تخريج ذلك ..... ظظ
(6)
في (ب): الرَّد.
ولو كان القابض حاكماً؛ فهو أولى بنفي الضَّمان؛ لعموم ولايته.
وفي «التَّلخيص» فيما إذا حمل المغصوب إليه ليدفعه إلى مالكه؛ هل
(1)
يلزمه قبوله؟ على وجهين، وصحَّح اللُّزوم، وهو تفريق بين الحاكم وغيره.
وفي «المجرد» و «الفصول» و «المغني» : ليس للحاكم انتزاع مال الغائب المغصوب إلَّا أن يكون له ولاية عليه بوجه ما؛ مثل أن يجده في تركة ميت ووارثه غائب؛ فله الأخذ؛ لأنَّ له ولاية على تركة الميت بتنفيذ
(2)
وصاياه وقضاء ديونه، أو يجدها في يد سارق فيقطعه وينتزع منه العين تبعاً لولاية القطع.
والمسألة مذكورة في مسألة وجوب القصاص للغائب، ومسألة قطع السَّارق لمال الغائب.
ومنها: الطَّائفة الممتنعة عن حكم الإمام؛ كالبغاة؛ لا يضمن الإمام وطائفته ما أتلفوه عليهم حال الحرب.
وفي تضمينهم ما أتلفوه على الإمام في تلك الحال روايتان، أصحُّهما: نفي الضَّمان؛ إلحاقاً لهم بالمحاربين
(3)
.
وأمَّا أهل الرِّدَّة إذا لحقوا بدار الحرب، أو اجتمعوا بدار منفردين ولهم مَنَعةٌ؛ ففي تضمينهم روايتان أيضاً، واختار أبو بكر: عدم
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): فهل.
(2)
في (ب) و (ن): لتنفيذ.
(3)
في (ب) وباقي النسخ: بأهل الحرب.
التَّضمين؛ إلحاقاً لهم بأهل دار الحرب
(1)
.
وأمَّا اليد الثَّالثة؛ فهي اليد العادِيَةُ الَّتي يترتَّب عليها الضَّمان.
(1)
في (أ): أهل الحرب.
قاعدة [91]
يضمن بالعقد وباليد الأموال المحضة المنقولة إذا وجد فيها النَّقل
.
فأمَّا غير المنقول؛ فالمشهور عند الأصحاب: أنَّه يضمن بالعقد وباليد أيضاً، كما يضمن في عقود التَّمليكات بالاتِّفاق.
ونقل ابن منصور عن أحمد: أنَّ العقار لا يضمن بمجرَّد اليد في الغصب من غير إتلاف
(1)
،
وكذلك قال أبو حفص العكبريُّ في العارية فيما قرأته بخطِّ القاضي.
وأمَّا المنقول؛ فإن حصل نقله؛ ترتَّب عليه ضمان اليد والعقد.
وإن لم يوجد النَّقل؛ فهل يضمن بالعقد؟ فيه كلام سبق في أحكام المقبوض
(2)
.
(1)
جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2687): (قلت: فإن غصب سفينة فغرقت؟ قال: يغرم، وأما إذا غصب أرضاً فزرعها فأصابها غرق من قبل الغاصب؛ غرم قيمة الأرض، وإن كان شيئاً من السماء فليس عليه شيء، فإن أصاب الزرع شيء: فعلى الغاصب كرى الأرض لرب الأرض بقدر ما شغل الأرض).
قال ابن قدامة: (وظاهر هذا: أنها لا تضمن بالغصب) ينظر: المغني 5/ 179.
(2)
في (ب) و (ج) و (د): القبوض.
وأمَّا اليد المجرَّدة؛ فقال القاضي في «خلافه» : لا يتوقَّف الضَّمان بها على النَّقل أيضاً كالعقد، وكما يصير المودع ضامناً بمجرَّد جحود الوديعة من غير نقل ولا إزالة يد.
ورتَّب على ذلك: أنَّه لو باع الغاصب العين المغصوبة، وخلَّى بينها وبين المشتري، فتلفت قبل النَّقل، ثمَّ جاء المالك: أنَّ له تضمين المشتري، قال: وإن سلمناه؛ - يعني: منع تضمينه
(1)
-؛ فلأنَّه لم يحصل كمال الاستيلاء، وهو النَّقل فيما يمكن نقله.
وجزم ابن عقيل في «نظرياته» : بأنَّ المشتري ههنا لا يضمنه ضمان غصب، وإن كان يضمنه في البيع الصَّحيح ضمان عقد بمجرَّد التَّخلية؛ وقاسه على العقار، فإنَّ البائع إذا خلَّى بينه وبين المشتري؛ صار من ضمانه بالعقد، ولو ظهر له مستحقٌّ لم يضمنه بذلك ضمان غصب، وإنَّما تردَّد في هذا؛ لأنَّه فرع متردِّد بين الضَّمان بالعقد وباليد.
وفي «التلخيص» : إثبات اليد فيما ينقل بالنَّقل، إلَّا في الدَّابَّة فإنَّ ركوبها كاف، وكذلك الجلوس على الفرش؛ لأنَّه غاية الاستيلاء، وصرَّح القاضي في «خلافه» بمثل ذلك في الدَّابَّة.
وأمَّا غير الأموال المحضة؛ فنوعان:
أحدهما: ما فيه شائبة الحريَّة؛ لثبوت بعض أحكامها دون حقيقتها؛ كأمِّ الولد والمكاتب والمدبَّر؛ فيضمن باليد على ما ذكره القاضي والأصحاب.
(1)
في (ب): تضمُّنه.
وكذلك يضمن بالعقد الفاسد في قياس المذهب، قاله أبو البركات في «تعليقه على الهداية» .
والثَّاني: الحرُّ المحض؛ هل تثبت عليه اليد، فيترتَّب عليها الضَّمان أم لا؟
المعروف من المذهب: أنَّ الحرَّ لا تثبت عليه اليد؛ فلا يضمن بها بحال، ولو كان تابعاً لمن يثبت
(1)
عليه اليد؛ كمن غصب أمة حاملاً بحرِّ، ذكره القاضي في «خلافه» بما يشعر أنَّه محلُّ وفاق.
وحكى القاضي أيضاً
(2)
في «خلافه» ، وتابعه صاحب «المحرر» في ثبوت اليد على الحرِّ الصَّغير وضمانه بالتلف تحتها روايتين منصوصتين
(3)
؛ لشبهه بالعبد، حيث يتمكَّن من دعوى نسبه مع جهالته ودعوى رقِّه.
وقال القاضي في مواضع متعدِّدة من «خلافه» : تثبت اليد على الحرِّ الكبير بالعقد دون اليد.
وبنى على ذلك: أنَّ الأجير الخاصَّ إذا سلَّم نفسه إلى مستأجره فلم يستعمله؛ استقرَّت له الأجرة؛ لتلف منافعه تحت يده.
وكذلك يجب المهر بالخلوة في النِّكاح الفاسد عندنا؛ لدخول
(1)
في (ب): ثبت. وفي (هـ): ثبتت.
(2)
قوله: (أيضاً) سقط من (ب).
(3)
قال في المحرر (2/ 136): (ومن غصب صغيرًا فهلك عنده بحية أو صاعقة؛ ففيه ديته، وإن هلك بمرض لم يضمنه، نقله أبو الصقر. وعنه: يضمنه، نقله ابن منصور).
المنفعة تحت اليد بالتَّمكن من الاستيفاء.
وكذلك لو تداعى اثنان زوجيَّة امرأة، وأقاما البيِّنة، وهي في يد أحدهما؛ فهي له؛ ترجيحاً باليد، كذا ذكره القاضي، وإنَّما يتوجَّه على قولنا بتقديم بيِّنة الدَّاخل.
وحكى صاحب «التَّلخيص» وجهاً بثبوت اليد على منافع الحرِّ دون ذاته، ورتَّب عليه صحَّة إجارة المستأجر للأجير الخاصِّ.
وجزم الأزجيُّ في «النِّهاية» بصحَّته، وبنى عليه جواز إجارة الكافر للمسلم المستأجر معه، وذكر احتمالين.
وبنى صاحب «التَّلخيص» أيضاً على ذلك: مسألة
(1)
غصب الحرِّ وحبسه عن العمل، فإنَّ في وجوب ضمان أجرته وجهين.
تنبيه: من الأصحاب من قال: منفعة البُضع لا يدخل تحت اليد، وبه جزم القاضي في «خلافه» وابن عقيل في «تذكرته» وغيرهما، وفرَّعوا عليه صحَّة تزويج الأمة المغصوبة، وأنَّ الغاصب لا يضمن مهرها ولو حبسها عن النِّكاح حتى فات بالكبر.
وخالف ابن المنيِّ، وجزم في «تعليقه» بضمان مهر الأمة بتفويت النِّكاح، وذكر في الحرَّة تردُّداً؛ لامتناع
(2)
ثبوت اليد عليها.
وقد يتفرَّع على ذلك: أنَّ الأمة الموطوءة بغير إذن المالك لو حملت، ثمَّ تلفت من الولادة؛ ضمنها الواطئ، بخلاف الحرَّة إذا زنى
(1)
قوله: (مسألة) سقط من (ب) و (ج) و (هـ).
(2)
في (ب): لانتفاع.
بها كرهاً، فحملت، ثمَّ ماتت من الطَّلق؛ قال في «التَّلخيص»: لأنَّ الاستيلاد كأنَّه
(1)
إثبات يد، وهلاك تحت اليد المستولية على الرَّحم، والحرَّة لا تدخل تحت اليد، ومجرَّد السَّببِ ضعيفٌ.
وفي «المغني» : يضمنها مطلقاً لحصول
(2)
التَّسبُّب في التَّلف.
(1)
قوله: (كأنَّه) سقط من (ب).
(2)
في (ب) و (ج) و (هـ) و (و): بحصول.
قاعدة [92]
هل تثبت
(1)
يد الضَّمان مع ثبوت يد المالك أم لا؟ في المسألة خلاف
.
وقد قال أحمد في رواية ابن الحكم فيمن أسره أهل الحرب ومعه جاريته: إنَّها ملكه، مع أنَّ مذهبه المشهور عنه: أنَّ الكفَّار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء.
والأظهر: أنَّه إن زال امتناع المالك وسلطانه؛ ثبت الضَّمان، وإلَّا فلا.
ويتفرَّع على ذلك مسائل:
منها: لو غصب دابة عليها مالكها ومتاعه؛ ففي «الخلاف الكبير» : لا يضمن.
وكذا
(2)
قال الأصحاب: لو استولى على حرٍّ كبير لم يضمن ثيابه؛ لأنَّها في يد المالك.
ولو كان الحرُّ صغيراً، وقلنا: لا تثبت اليد عليه؛ ففي ثيابه وجهان؛
(1)
في (ب): ثبت.
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): وكذلك.
نظراً إلى أنَّ يده لا قوَّة لها على المنع، وهذا يشهد لاعتبار بقاء الامتناع
(1)
في انتفاء الضَّمان.
ومنها: لو استأجر الدَّابَّة إلى مسافة فزاد عليها، أو لحمل شيء فزاد عليه، وهي في يد المُؤْجِر فتلفت؛ قال في «المجرد»: يضمن؛ لتعدِّيه بالزِّيادة، وسكوت المالك لا يمنع الضَّمان؛ كمن خرق ثوبه وهو لا يمنع.
وفي «التَّلخيص» : لا يضمن إذا تلفت بفعل الله تعالى، وإن تلفت بالحمل؛ ففي تكميل الضَّمان عليه وتنصيفه وجهان.
ويتوجَّه التفريق بين أن يكون قادراً على الامتناع، أو لا يكون كذلك؛ فيجب الضَّمان مع عدم القدرة؛ كمن غصب دابَّة وأكره المالك على أن يحمل له عليها متاعه، فإنَّ هذا زيادة عدوان؛ فلا يسقط به الضَّمان.
ومنها: الأجير المشترك إذا جنت يده على العين المستأجَر على العمل فيها، ويد صاحبها ثابتة عليها؛ فلا ضمان، قاله القاضي في «المجرَّد» ، قال: لأنَّه ليس بأكثر من الغاصب، والغاصب لا يضمن ما دام يد صاحبه ثابتة عليه، انتهى.
ومراده بثبوت
(2)
يد صاحبه: ثبوت سلطنته وتصرُّفه، ولهذا لو أعاد الغاصب المغصوب إلى يد المالك على وجه لا يعود تصرُّفه إليه؛ مثل:
(1)
في (ب): الانتفاع.
(2)
في (ب) و (هـ) و (ن): ثبوت.
إن رهنه عنده، أو استأجره للعمل فيه؛ لم يبرأ بذلك على الصَّحيح؛ إلَّا أن يعلم أنَّه ملكه.
ومنها: لو دخل دار إنسان بغير إذنه أو جلس على بساطه بغير إذنه، والمالك جالس في الدَّار أو على البساط؛ ففي «الخلاف الكبير»: لا ضمان؛ وعلَّل بانتفاء الحيلولة ورفع اليد.
وكذلك قال فيمن ركب دابَّة غيره: إن حال بينه وبينها ورفع يده عنها؛ ضمن، وهذا يرجع إلى اشتراط القهر والحيلولة للضَّمان.
وفي «التَّلخيص» : لو دخل دار المالك وهو فيها قاصداً للغصب؛ فهو غاصب للنِّصف؛ لاجتماع يدهما واستيلائهما، بشرط قوَّة الدَّاخل وتمكُّنه من القهر، وإن كان المالك غائباً؛ فالدُّخول غصب بكلِّ حال؛ لحصول الاستيلاء به.
وذكر بعض أصحابنا في «خلافه» : أنَّ الجالس على بساط غيره بغير إذنه يكون ضامناً لما جلس عليه منه، والدَّاخل إن دخل بنيَّة الغصب؛ صار غاصباً.
ومنها: لو أردف المالكَ خلفه على الدَّابة، فتلفت؛ فهل يضمن الرَّديف نصف القيمة؛ لكونه مستعيراً، أم لا؛ لثبوت يد المالك عليها؟ ذكر في «التَّلخيص» احتمالين، وصحَّح الثَّاني.
تنبيه: لو كانت العين ملكاً لاثنين، فرفع الغاصب يد أحدهما ووضع يده موضع يده، وأقرَّ الآخر على حاله؛ فهل يكون غاصباً لنصيب من رفع يده خاصَّة، أم هو غاصب لنصف العين من الشَّريك مشاعاً؟
قال القاضي وابن عقيل: هو غاصب لنصف من رفع يده فقط، ورجَّحه الشيخ تقي الدين، مستدلًّا بأنَّ «الأعمال بالنِّيَّات»
(1)
.
فعلى هذا، لو استغلَّ
(2)
الغاصب والشَّريك الملك، أو انتفعا به؛ لم يلزم هذا الشَّريكَ لشريكه المُخرَجِ شيءٌ، ولو
(3)
باعا العين؛ صحَّ في نصيب الشَّريك البائع كلِّه، وبطل في النِّصف الذي باعه الغاصب.
والمنصوص عن أحمد يدلُّ على خلاف ذلك؛ لأنَّه نصَّ في رواية حرب على أنَّ من غصب من قوم ضيعة، ثمَّ ردَّ إلى أحدهم نصيبه مشاعاً؛ لم يَطِبْ للمردود عليه الانفرادُ بما رَدَّ عليه، وهو يشبه أصله المنصوص عنه في منع إجارة
(4)
المشاع من غير الشَّريك؛ لتعذُّر تسليمه بانفراده.
فعلى هذا ليس للشَّريك الَّذي لم يرفع يده التَّصرفُ إلَّا في الرُّبع خاصَّة، والرُّبع الآخر حقٌّ لشريكه المغصوب منه، ولم يجتمع ههنا يد المالك مع يد الغاصب في شيء.
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى (30/ 345).
(2)
في (ب) و (ج) و (د): اشتغل.
(3)
في (ب) و (هـ) و (و): فلو.
(4)
في (أ): إجازة.
قاعدة [93]
من قبض مغصوباً من غاصبه، ولم يعلم أنَّه مغصوب؛ فالمشهور بين الأصحاب:
أنَّه بمنزلة الغاصب في جواز تضمينه ما كان الغاصب يضمنه من عين ومنفعة.
ثمَّ إن كان القابض قد دخل على ضمان عين أو منفعة؛ استقرَّ ضمانها عليه، ولم يرجع على الغاصب.
وإن ضمَّنه المالك ما لم يدخل على ضمانه، ولم يكن حصل له بما ضمنه نفع؛ رجع به على الغاصب.
وإن كان حصل له به نفع؛ فهل يستقرُّ ضمانه عليه، أم يرجع به على الغاصب؟ على روايتين.
هذا ما ذكره القاضي والأكثرون، وفي بعضه
(1)
خلاف نشير إليه في موضعه
(2)
إن شاء الله تعالى
(3)
.
(1)
في (أ): بعضٍ.
(2)
قوله: (في موضعه) سقط من (ب).
(3)
زاد في (ج) و (د): (الخلاف المشار إليه ضابطه: هل يستقر الضَّمان على المباشر لإتلافه أو التَّلف تحت يده، أم على الغارِّ؛ لتسبُّبه إلى تضمين من لم يلتزم الضَّمان؟ على وجهين.
وهل يجوز مطالبة من لا يستقرُّ عليه الضَّمان، ثمَّ يرجع هو على من يستقرُّ عليه؟ [على وجهين على القول بجوازه.
فإذا طولب به وضمنه؛ فهل يرجع به على الآخر أم يستقرَّ عليه لأنَّه أخذ] منه بحق؟ على وجهين أيضاً، وفيه وجه ثالث، وهو إن كان المطالب به الغاصب لم يرجع، ولو كان استقراره على غيره؛ لقوَّة عدوانيته، بخلاف ما إذا طولب الآخر؛ فإنَّه يرجع على الغاصب، ذكره أبو الخطَّاب في مسائل الطَّعام، وفيه رواية [أخرى] مخرَّجة: أنَّه لا يستقرُّ على القابض ضمان شيء بالكليَّة، سواء دخل على الضَّمان أم لا، ويستقرُّ الضَّمان على الغاصب في ذلك كلِّه).
ما بين معقوفين سقط من (د).
وهذه الأيدي القابضة من الغاصب مع عدم العلم بالحال عشرة
(1)
:
الأولى: الغاصبة، ويتعلَّق بها الضَّمان كأصلها، ويستقرُّ عليها مع التَّلف تحتها، ولا يطالب بما زاد على مدَّتها.
الثَّانية: الآخذة لمصلحة الدَّافع؛ كالاستيداع والوكالة بغير جُعْل؛ فالمشهور: أنَّ للمالك تضمينها، ثمَّ يرجع بما ضمنت على الغاصب؛ لتغريره.
(1)
كتب على هامش (ن): (فاتته يد حادية عشرة، وهي القابضة للمغصوب ليرده إلى مالكه، وقد أشار إليها في الرعاية: أنها لا تضمن شيئاً.
وفاتته أيضاً: اليد القابضة من القابضة من الغاصب، ولم أجد فيها نصًّا للأصحاب هل يرجع القابض الثاني بما يضمنه على القابض الأول أو على الغاصب؟ وفي «الرعاية»:"إذا زوجَّ الأمةَ المغصوبةَ المشتري أو المتَّهبُ مَن جُهِل غصبها فدى ولده، وفي رجوعه به على الغاصب وبالمهر وأرش البكارة روايتان"، وهذا ظاهره: أن رجوع الزوج على الغاصب ابتداء، لا على المشتري والمتَّهب، وهو الظاهر؛ لأن الغرور لم يحصل منهما، بل من الغاصب).
وفيه وجه آخر: باستقرار الضَّمان عليها؛ لتلف المال
(1)
تحتها من غير إذن، صرَّح به القاضي في «المجرَّد» في باب المضاربة، وسيأتي أصله.
ويتخرَّج وجه آخر: أنَّه لا يجوز تضمينها بحال، من الوجه المحكيِّ كذلك في المرتهن ونحوه، وأولى.
وخرَّجه الشيخ تقيُّ الدِّين من مودَع المودَع، حيث لا يجوز له الإيداع، فإنَّ الضَّمان على الأوَّل وحده
(2)
، كذلك قال القاضي في «المجرد» وابن عقيل في «الفصول» ، وذكرا أنَّه ظاهر كلام أحمد.
ومن الأصحاب من منع ظهوره.
وعلى تقدير أنَّه كذلك: فرَّقوا
(3)
بين مودع المودع ومودع الغاصب؛ بأنَّ الموجِب للضَّمان في الأوَّل القبض، وهو سبب واحد؛ فلا يجب به الضَّمان من جهتين، بخلاف مودع الغاصب؛ فإنَّ قبضه صالحٌ لتضمينه
(1)
في (أ): المال عليها.
(2)
في الاختيارات (ص 236): (قال في المحرر: ومن قبض مغصوبًا من غاصبه ولم يعلم؛ فهو بمنزلته في جواز تضمينه العين والمنفعة، لكنه يرجع إذا غرم على غاصب بما لم يلزمه ضمانه خاصة.
قال أبو العباس: يتخرج ألا يضمن الغاصب ما لم يلتزمه، على قولنا: إنه لا يقلع غرسه وبناءه حتى يضمن نقصه ويرجع به على البائع، وعلى ظاهر كلامه في المنع ومن تضمين مودع المودع إذا لم يعلم على إحدى الروايتين في المغرور: لا يضمن الأولاد بل يضمنهم الغار ابتداء).
(3)
في (ب) و (و) و (ن): ففرقوا.
حيث كان
(1)
الضَّمان مستقرًّا على الغاصب قبله، وبأنَّ الضَّمان ترتَّب على التَّقبيض؛ فهو متأخِّر عنه، والتَّقبيض
(2)
وقع من يدٍ أمينة ولا عدوان فيه؛ لعدم العلم، فاختصَّ الضَّمان بالتَّعدي، بخلاف مودع الغاصب؛ لقبضه من يد ضامنة قبل القبض.
واعلم أنَّ ما ذكره الأصحاب في الوكالة والرَّهن: أنَّ الوكيل والأمين
(3)
في الرَّهن إذا باعا وقبضا الثَّمن، ثمَّ بان المبيع مستحقًّا؛ لم يلزمهما شيء؛ لا يناقض هذه المسألة كما يتوهَّمه من قصر فهمه؛ لأنَّ مراد الأصحاب بقولهم:(لم يلزم الوكيل شيء) أنَّه لا يطالبه المشتري بالثَّمن الذي أقبضه إيَّاه؛ لأنَّ حقوق العقد تتعلَّق بالموكِّل دون الوكيل، أمَّا أنَّ الوكيل لا يطالبه المستحقُّ للعين بالضَّمان؛ فهذا لم يتعرَّضوا له ههنا البتَّة
(4)
، وهو بمعزل عن مسألتهم بالكليَّة.
الثَّالثة: القابضة لمصلحتها
(5)
ومصلحة الدَّافع؛ كالشَّريك
(1)
قوله: (كان) سقط من (ب).
(2)
في (ب) وباقي النسخ: القبض.
(3)
في (ب): الأمين.
(4)
كتب على هامش (ن): (والحق وجوب الضمان على الوكيل، وإذا ضمَّنوا مودَع الغاصب لقبضه من يد ضامنه قبل القبض؛ فضمان الوكيل من باب أولى، ولأن وكيل الغاصب منفرد باليد، بخلاف من نقد الدراهم للغاصب؛ لأن الناقد لا يد له في الحقيقة؛ لأنه لم ينفرد باليد، بل هو [ .... ] من الغاصب، فلا يد له البتة، تأمله. كاتبه عبد الله بن هشام).
(5)
في (ب): لمصلحتهما.
والمضارب والوكيل بجُعْل والمرتهن؛ فالمشهور: جواز تضمينها أيضاً، ويرجع بما ضمنت
(1)
؛ لدخولها على الأمانة.
وذكر القاضي في «المجرد» ، وابن عقيل، وصاحب «المغني» في الرَّهن احتمالين آخرين:
أحدهما: أنَّه يستقر الضمان على القابض؛ لتلف مال الغير تحت يده الَّتي لم يؤذن لها في القبض؛ فهي كالعالمة بالحال، وحكوا هذا الوجه في المضارب أيضاً.
والثَّاني: لا يجوز تضمينها بحال؛ لدخولها على الأمانة.
وينبغي أن يكون هذا هو المذهب، وأنَّه لا يجوز تضمين القابض ما لم يدخل على ضمانه في جميع هذه الأقسام؛ فإنَّ المنصوص عن أحمد فيمن اشترى أرضاً فغرس فيها، ثمَّ ظهرت مستحقَّة: أنَّه لا يملك المستحقُّ قلعه إلَّا مع ضمان نقصه؛ كالغراس المحترم الصادر عن إذن المالك
(2)
.
فجعل المغرور كالمأذون له؛ فلا يضمن ابتداء ما لم يلتزم ضمانه.
وكذلك نقل حرب وغيره
(3)
عن أحمد في المغرور في النِّكاح: أنَّ فداء ولده على من غرَّه، ولم يجعل على الزَّوج مطالبة
(4)
.
(1)
في (أ): تضمنه. وفي (و): ضمنته.
(2)
ذكر في الإنصاف (15/ 242)، أنها من رواية ابن هانئ، ويعقوب بن بختان، ومحمد بن أبي حرب الجرجرائي.
(3)
قوله: (وغيره) سقط من (أ) و (ج) و (هـ).
(4)
جاء في مسائل حرب الكرماني (1/ 343): قلت لأحمد: فرجل تزوج امرأة، وظن أنها حرة، فأصاب منها أولادًا، فإذا هي أمة. قال:(يفرق بينهما، وأولاده أحرار، ولكن يفديهم، وإن كان غره إنسان فعلى الذي غره أن يفدي ولده).
ونقل القاضي في الروايتين والوجهين (1/ 412) عن جعفر بن محمد في المغرور إذا استولد الأمة: (يفديهم، ويرجع بذلك على من غره).
وقريب من ذلك ما نقل عنه مهنَّى فيمن بعث رجلاً إلى رجل له عنده مال، فقال له: خذ منه ديناراً، فأخذ منه أكثر
(1)
: أنَّ الضَّمان على المرسِل؛ لتغريره، ويرجع هو على الرَّسول.
وحكى القاضي وغيره في المضاربة وجهاً آخر: أنَّ الضَّمان في هذه الأمانات يستقرُّ على من ضمن منهما، فأيُّهما ضمن لم يرجع على الآخر
(2)
.
الرَّابعة: القابضة لمصلحتها خاصَّة، إمَّا باستيفاء العين؛ كالقرض
(3)
، أو باستيفاء المنفعة؛ كالعارية؛ فهي داخلة على الضَّمان في العين دون المنفعة، فإذا ضمنت العين والمنفعة؛ رجعت على الغاصب بضمان المنفعة؛ لأنَّ ضمانها كان بتغريره.
وفي المذهب رواية ثانية: لا يرجع بضمان المنفعة إذا تلفت بالاستيفاء، ويستقرُّ الضَّمان عليها في مقابلة الانتفاع؛ لاستيفائها بدله، كيلا يجتمع لها العوض والمعوض.
وأصل الرِّوايتين: الرِّوايتان في رجوع المغرور بالمهر على من غرَّه.
(1)
قوله: (فأخذ منه أكثر) سقط من (أ).
(2)
من قوله: (وحكى القاضي وغيره في المضاربة) إلى هنا سقط من (أ).
(3)
في (ب): كالعوض.
وإن ضمن الغاصب المنفعة ابتداء؛ ففيه طريقان:
أحدهما: البناء على الرِّوايتين، فإن قلنا: لا يرجع القابض عليه إذا ضمن ابتداء؛ رجع الغاصب هنا عليه، وإلَّا فلا، وهو
(1)
طريق أبي الخطاب ومن اتَّبعه، والقاضي وابن عقيل في موضع.
والثَّاني: أنَّه لا يرجع الغاصب على القابض قولاً واحداً، وقاله القاضي وابن عقيل في موضع آخر.
وأمَّا العين؛ فلا يرجع بضمانها حيث دخلت على ضمانها.
وعلى الاحتمال الأوَّل في القسم الَّذي قبله: يستقرُّ ههنا عليها ضمان العين والمنفعة، سواء تلفت المنفعة باستيفاء أو بتفويت.
وعلى الاحتمال الآخر - وهو أنَّه لا يجوز تضمينها بالكليَّة -: فلا تطالب
(2)
هذه بضمان ما لم تلتزم
(3)
ضمانه ابتداء، ويستقرُّ عليها ضمان ما دخلت على ضمانه، سواء ضمنته ابتداء أو ضمنه الغاصب
(4)
.
ويتخرَّج لنا
(5)
وجه آخر: أنَّه لا يستقرُّ عليها ضمان شيء بحال، وسنذكر أصله في القسم الَّذي بعده.
الخامسة: القابضة تملُّكاً بعوض مسمًّى عن العين بالبيع؛ فهي داخلة على ضمان العين دون المنفعة، فإذا ضمنت قيمة العين والمنفعة؛
(1)
قوله: (وهو طريق) هو في (ب): وطريق. وفي (هـ): وهي طريقة.
(2)
في (ب): يطالب.
(3)
في (ب) و (ج): يلتزم. وفي (هـ): يلزم.
(4)
قوله: (سواء ضمنته ابتداء أو ضمنه الغاصب) سقط من (ب)(ج) و (د) و (هـ) و (و).
(5)
في (ب): لها.
لم ترجع بما ضمنت من قيمة العين؛ لدخولها على ضمانها، لكنها تستردُّ
(1)
الثَّمن من الغاصب؛ لأنَّه لم يملكه، لانتفاء صحة العقد، وسواء كانت القيمة الَّتي ضمنت للمالك وفق الثَّمن أو دونه أو فوقه على ما اقتضاه كلام الأصحاب ههنا، وفي البيع الفاسد، وفي ضمان المغرور للمهر
(2)
.
وفي «التَّلخيص» احتمال: إن كانت القيمة أزيد؛ رجعت بالزِّيادة على الغاصب حيث لم تدخل على الضَّمان بأكثر من الثمن المسمى، وبه جزم ابن المنِّي في «خلافه» ، وقد سبق في قاعدة ضمان العقود الفاسدة بالمسمَّى أو بعوض المثل ما يشبه هذا.
ولو طالب المالك الغاصب بالثَّمن كلِّه إذا كان أزيد من القيمة؛ فقياس المذهب: أنَّ له ذلك، كما نصَّ عليه أحمد في المتَّجر في الوديعة من غير إذن: أنَّ الرِّبح للمالك
(3)
.
ثمَّ من الأصحاب من يبنيه على القول بوقف العقود على الإجازة،
(1)
في (ب) وباقي النسخ: ولكنه يسترد.
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): المهر.
(3)
جاء في مسائل صالح (3/ 246): قلت: الرجل يكون عنده وديعة، فينفقها ويدفع مثلها إلى صاحبها، هل يطيب له ربحها، فإن أعلمه وأحله له؟ قال:(إذا كانت عند رجل وديعة؛ لم ينفقها إلا بإذن ربها، فإن اتجر فيها؛ فالربح لصاحبها إلا أن يطيبه له).
وفي مسائل عبد الله (ص 313): سألت أبي عن رجل غصب عبدًا فاستغله. قال: (أقول: يرد الغلة، ولو غصب مالًا فتجر فيه؛ يرد المال والربح على صاحبه، وكذلك الوديعة أيضًا يردهما المال والربح جميعًا).
وهي طريقة القاضي في «خلافه» وابن عقيل، ومنهم من يطلق ذلك.
وكذا في المضارب إذا خالف.
وعنه رواية أخرى: يتصدَّق بالرِّبح؛ لأنَّه ربح ما لم يضمن.
وهل للمضارب أجرة المثل؟ على روايتين، وطردهما أبو الفتح الحلوانيُّ في «الكفاية» في الغاصب.
وحكى صاحب «المغني» في باب الرَّهن رواية أخرى: باستقرار الضَّمان على الغاصب في البيع؛ فلا يرجع على المشتري بشيء ممَّا
(1)
ضمنه، وحكاه في «الكافي» في باب المضاربة وجهاً، وصرَّح القاضي بمثل ذلك في «خلافه» في مسألة رجوع المغرور بالمهر.
وهو عندي قياس المذهب؛ حيث قلنا في إحدى الرِّوايتين برجوع المغرور بنكاح الأمة على من غرَّه مع استيفائه منفعة البضع واستهلاكها ودخوله على ضمانها، ولهذا طرد محقِّقو الأصحاب هذا الخلاف فيما إذا زوَّجها الغاصبُ ووطئها الزَّوج؛ هل يرجع بالمهر على الغاصب سواء ضمَّنه المالك المهر أو لم يضمِّنه
(2)
؟
وأيضاً؛ فإن المنصوص عن أحمد: أنَّ البائع إذا دلَّس العيب، ثمَّ تلف عند المشتري؛ فله الرُّجوع بالثَّمن
(3)
.
(1)
في (ب) و (هـ): بما. وفي (د): ما.
(2)
كتب على هامش (ن): (في «التلخيص»: لا يرجع الزوج بالمهر؛ لدخوله على التزامه).
(3)
ذكر في الإنصاف (11/ 365) أنها من رواية حنبل.
وكذلك لو نقص أو تعيَّب وهو موجود؛ فإنَّه يرده بغير شيء، ويأخذ الثَّمن، إلَّا أن يكون حصل له انتفاع بما نقصه، فإنَّه يردُّ عوضه على أحد الوجهين؛ إلحاقاً له بلبن المصرَّاة، مع أنَّه قد دخل على ضمان العين بالثَّمن، ولكن سقط عنه؛ لتدليس البائع العيب
(1)
، وهو لا يمنع صحَّة العقد على الصَّحيح من المذهب، فلَأَن لا يستقرَّ الضَّمان على المشتري من الغاصب مع تدليس الغاصب عليه وعدم صحَّة العقد أولى.
وأمَّا المنافع إذا ضمنها المالك للمشتري - بناء على أنَّ منافع المغصوب مضمونة، وهو المذهب -؛ فيرجع بذلك على الغاصب؛ لدخوله على استيفائها في ملكه بغير عوض، وسواء انتفع بها أو تلفت تحت يده.
وعن أحمد رواية أخرى: لا يرجع بما انتفع به؛ لاستيفائه عوضَه كما تقدَّم، وهي اختيار أبي بكر وابن أبي موسى.
وحكم الثَّمرة والولد الحادث من المبيع حكم المنافع، إذا ضمنها رجع ببدلها على الغاصب، وكذلك الكسب، صرَّح به القاضي في «خلافه» ؛ إلَّا أن يكون انتفع بشيء من ذلك؛ فيخرَّج على الرِّوايتين.
وقد أشار أحمد إلى هذا في رواية ابن منصور؛ فيمن باع ماشية أو شاة فولدت، أو نخلاً لها ثمرة، فوجد بها عيباً أو استُحِقَّ: أخذ منه قيمة الثَّمرة وقيمة الولد، إن كان أحدث فيهم شيئاً، أو كان باع، أو
(1)
في (ب): العين.
استهلك، فإن كان مات أو ذهبت
(1)
به الرِّيح؛ فليس عليه شيء
(2)
.
فأوجب عليه ضمان ما انتفع به من الثَّمرة والنِّتاج، دون
(3)
ما تلف في يده بغير فعله، ولم يذكر رجوعاً على الغاصب، وظاهر كلامه: أنَّ ما تلف في يده من النَّماء؛ فليس للمالك تضمينه ابتداء؛ لأنَّه لم يدخل على ضمانه ولم ينتفع به، وهذا يقوِّي التَّخريج المذكور في القسم الَّذي قبله.
وكذلك ظاهر كلام ابن أبي موسى: أنَّه لا يضمن المشتري إلَّا ما يستقرُّ عليه ضمانه، سواء دخل على ضمانه، أو لم يدخل عليه لكن انتفع به؛ كالخدمة ومهر المشتراة، وأمَّا قيمة الأولاد؛ فيرجع بها عنده؛ لأنَّ نفعها لغيره لا له.
وأوجب على الغاصب قيمة غرس المشتري غير مقلوع إذا قلعه المالك، ومراده: ما نقص بقلعه، وإنَّما أجاز للمالك قلع الغراس من غير ضمان نقصه؛ لأنَّ ذلك ليس من باب تضمين القابض من الغاصب، بل هو من باب امتناع المالك من الضَّمان له، فإنَّ تفريغ الأرض من الغراس الَّذي لم يأذن فيه لا بدَّ من تمكينه منه، ولا ضمان عليه فيه، حيث لم يأذن فيه، وإنَّما الضَّمان على الغارِّ؛ لتعدِّيه، كما أنَّ تضمين القابض ما لم يلتزم
(4)
ضمانه ممتنعٌ، حيث أمكن تضمين
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): ذهب.
(2)
ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2851).
(3)
في (أ) و (و): بدون.
(4)
في (ب) و (د) و (هـ): يلزم.
الغاصب؛ لالتزامه الضَّمان
(1)
وتعدِّيه.
فظهر بهذا أنَّ الَّذي يدلُّ عليه كلام أحمد أنَّ القابض لا يضمن إلَّا ما حصل له به نفع
(2)
فيضمنه.
وهل يرجع به؟ على روايتين؛ كرجوع المغرور في النِّكاح بالمهر
(3)
.
تنبيه: لو أقرَّ المشتري للبائع بالملك؛ فلا رجوع له عليه.
ولو أقرَّ بصحَّة البيع؛ ففي الرُّجوع احتمالان ذكرهما القاضي.
وقد يخرَّج كذلك في الإقرار بالملك حيث علم أنَّ مستنده اليد، وقد بان عدوانها.
اليد السادسة: القابضة
(4)
عوضاً مستحَقًّا بغير عقد البيع؛ كالصَّداق، وعوض
(5)
الخلع والعتق والصُّلح عن دم عمد
(6)
إذا كان معيَّناً، أو كان القبض وفاءً لدين مستقرٍّ في الذِّمة؛ من ثمن مبيع، أو أجرة، أو صداق، أو قيمة متلف ونحوه، فإذا تلفت هذه الأعيان في يد من قبضها، ثمَّ استُحِقَّت؛ فللمستحِقِّ الرُّجوع على القابض ببدل العين
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): للضَّمان.
(2)
قوله: (وتعدِّيه؛ فظهر بهذا أنَّ الَّذي يدلُّ عليه كلام أحمد أنَّ القابض لا يضمن إلَّا ما حصل له به نفع) ذُكر في (ب) بعد قوله: (عدوانها) الآتي قريبًا.
(3)
في (ب): بالمهر في النِّكاح.
(4)
في (أ): القابضة عدواناً. ثم شطب على قوله: (عدوانًا).
(5)
قوله: (وعوض) سقط من (ب).
(6)
قوله: (دم عمد) هو في (ب): عمل.
والمنفعة على ما تقرَّر.
ويتخرَّج وجه آخر: أنْ لا مطالبة له عليه، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى في الصَّداق، والباقي مثله.
وعلى القول بالتَّضمين؛ فيرجع على الغاصب بما غرم من قيمة المنافع؛ لتغريره؛ إلَّا ما انتفع به؛ فإنَّه مخرَّج على الرِّوايتين.
وأمَّا قيم الأعيان؛ فمقتضى ما ذكره القاضي ومن اتَّبعه: أنَّه لا يرجع بها؛ لأنَّه دخل على أنَّها مضمونة عليه بحقِّه، وسواء كانت القيمة المضمونة وفق حقِّه أو دونه أو أزيد منه، إلَّا على الوجه المذكور في البيع بالرُّجوع بفضل القيمة.
ثمَّ إن كان القبض وفاءً عن دين ثابت في الذِّمة؛ فهو باق بحاله، وإن كان عوضاً معيَّناً في العقد؛ لم ينفسخ العقد ههنا باستحقاقه، ولو قلنا: إنَّ النِّكاح على المغصوب لا يصحُّ؛ لأنَّ القول بانتفاء الصِّحَّة مختصٌّ بحالة العلم، كذلك ذكره ابن أبي موسى، ويرجع على الزَّوج بقيمة المستحَقِّ في المنصوص، وهو قول القاضي في «خلافه» .
وقال في «المجرد» : يجب مهر المثل.
وأمَّا عوض الخلع والعتق والصُّلح عن دم العمد؛ ففيها وجهان:
أحدهما: يجب الرُّجوع فيها بقيمة العوض المستحقِّ، وهو المنصوص؛ لأنَّ هذه العقود لا تنفسخ باستحقاق أعواضها؛ فيجب قيمة العوض، وهو قول القاضي في أكثر كتبه، وجزم به صاحب «المحرر» .
والثَّاني: تجب قيمة المستحقِّ في الخلع والصُّلح عن الدَّم، بخلاف
العتق؛ فإنَّ الواجب فيه قيمة العبد؛ لأنَّ العبد له قيمة في نفسه، فيرجع بقيمته، بخلاف البُضع والدَّم؛ فإنَّ القيمة لعوضهما لا لهما، وهو قول القاضي في البيع في «خلافه»
(1)
.
ويشبه قول أصحابنا فيما إذا جعل عتق أمته صداقها، وقلنا: لا ينعقد به النِّكاح، وأبت أن تتزوَّجه على ذلك: أنَّ عليها قيمة نفسها، لا قيمة مهر مثلها.
وعلى الوجه المخرَّج في البيع أنَّ المغرور يرجع بقيمة العين على الغاصب: فههنا كذلك.
اليد السَّابعة: القابضة بمعاوضة عن المنفعة، وهي يد المستأجر؛ فقال القاضي والأكثرون: إذا ضمنت المنفعة؛ لم يرجع بها.
ولو زادت أجرة المثل على الأجرة المسمَّاة؛ ففيه ما مرَّ من زيادة قيمة العين على الثَّمن، وإذا ضمنت قيمة العين؛ رجعت بها على الغاصب لتغريره.
وفي «تعليقة أبي البركات على الهداية» : يتخرَّج لأصحابنا وجهان:
أحدهما: أنَّ المستأجر لا ضمان عليه بحال؛ كقول الجمهور.
والثَّاني: يضمن العين، وهل القرار عليه؟ لنا وجهان: أحدهما: عليه. والآخر: على الغاصب، وهو الَّذي ذكره القاضي في «خلافه» ، انتهى.
(1)
في (ب) و (و) و (ن): البيوع من خلافه.
والوجه الأوَّل منزَّل على القول بأنَّ المغرور لا يضمن شيئاً ابتداء ولا استقراراً.
والوجه الآخر في قرار ضمان العين عليه؛ يتنزَّل على الوجه المذكور في استقرار الضَّمان على المرتهن ونحوه بتلف العين تحت يده.
اليد الثَّامنة: القابضة للشركة، وهي المتصرِّفة في المال بما ينمِّيه بجزء من النَّماء؛ كالشَّريك والمضارب
(1)
والمزارَع والمساقى، ولهم الأجرة على الغاصب؛ لعملهم له بعوض لم يسلم.
فأمَّا المضارب والمزارع بالعين المغصوبة وشريك العنان، فقد دخلوا على أن لا ضمان عليهم بحال، فإذا ضمنوا على المشهور؛ رجعوا بما ضمنوا، إلَّا حصَّتهم من الرِّبح؛ فلا يرجعون بضمانها؛ لدخولهم على ضمانها عليهم بالعمل، كذلك ذكره القاضي وابن عقيل في المساقى، والمزارع نظيره.
أمَّا المضارب والشَّريك؛ فلا ينبغي أن يستقرَّ عليهم ضمان شيء بدون القسمة، سواء قلنا: ملكوا الرِّبح بالظهور أوْ لا؛ لأنَّ حصَّتهم وقاية لرأس المال، وليس لهم الانفراد بالقسمة؛ فلم يتعيَّن لهم شيء مضمون.
وحكى الأصحاب في المضارب للمضارب بغير إذنٍ وجهاً آخر: أنَّه لا يرجع بما ضمنه؛ بناءً على الوجه المذكور باستقرار الضَّمان على من تلف المال بيده.
(1)
كتب على هامش (ن): (تقدم ذكر المضارب في صور اليد الثالثة).
ويتخرَّج وجه آخر: أنَّه لا يملك المالك تضمينهم بحال؛ لدخولهم على الأمانة.
وقد ذكرنا فيما
(1)
تقدَّم حكم ضمان الشَّريك والمضارب للمال، وإنَّما أعدناه ههنا؛ لذكر النَّماء
(2)
.
وأمَّا المساقى إذا ظهر الشَّجر مستحقًّا بعد تكملة العمل؛ فللعامل أجرة المثل لعمله على الغاصب.
وأمَّا الثَّمر إذا تلف؛ فله حالتان:
إحداهما: أن يتلف بعد القسمة؛ فللمالك تضمين كلٍّ من الغاصب والعامل ما قبضه، وله أن يضمِّن الكلَّ للغاصب، فإذا ضمَّنه الكلَّ؛ رجع على العامل بما قبضه لنفسه؛ لأنَّه أخذ العوض؛ فهو كالمشتري من الغاصب.
وفي «المغني» احتمال: لا يرجع عليه لتغريره، فأشبه من قال لغيره: كُلْ هذا فإنَّه طعامي، ثمَّ بان مستحَقًّا.
وهو قريب من الوجه السَّابق باستقرار ضمان المبيع على الغاصب بكلِّ حال.
وهل للمالك أن يضمِّن العامل جميع الثَّمرة؟ ذكر القاضي فيه احتمالين:
(1)
في (ب): كما
(2)
قوله: (وقد ذكرنا فيما تقدَّم حكم ضمان الشَّريك والمضارب للمال، وإنَّما أعدناه ههنا؛ لذكر النَّماء) سقط من (أ).
أحدهما: نعم؛ لأنَّ يده ثبتت على الكلِّ مشاهدة بغير حقٍّ، ثمَّ يرجع العامل على الغاصب بما قبضه من الثَّمر على المشهور، وبالكلِّ على الاحتمال المذكور.
والثَّاني: لا؛ لأنَّه لم يكن قابضاً على الحقيقة، وإنَّما كان مراعياً حافظاً.
ويشهد لهذا: ما قاله ابن حامد فيما إذا اختلف المساقى والمالك في قدر المشروط للعامل من الثَّمر، وأقاما بيِّنتين: أنَّه يقدم بيِّنة العامل؛ لأنَّه خارج، والمالك هو الدَّاخل؛ لاتِّصال الثَّمر بملكه.
ولو اشترى ثمرة شجر شراء فاسداً، وخلَّى البائع بينه وبينه على شجره؛ لم يضمنه بذلك؛ لعدم ثبوت يده عليه، ذكر بعض أصحابنا أنَّه محلُّ وفاق
(1)
.
الحالة الثَّانية: أن يتلف الثَّمر قبل القسمة؛ إمَّا على الشَّجر، أو بعد جَدِّه؛ ففي «التَّلخيص» في مطالبة العامل بالجميع احتمالان، وكذا لو تلف بعض الشَّجر.
وهو ملتفت إلى أنَّ يد العامل هل تثبت على الشَّجر والثَّمر الذي عليه أم لا؟
والأظهر: أن لا؛ لأنَّ الضمان عندنا لا ينتقل في الثَّمر المعلَّق على شجرة بالتَّخلية.
إلَّا أن يقال: يده ههنا على الثَّمر حصلت تبعاً لثبوت يده على
(1)
من قوله: (ويشهد لهذا ما قاله ابن حامد) إلى هنا سقط من (أ).
الشَّجر؛ فيقال: وفي ثبوت يده على الشَّجر هنا
(1)
تردُّد ذكرناه آنفاً، حتَّى لو تلف بعض الشَّجر؛ ففي تضمينه للعامل الاحتمالان، صرَّح به في «التَّلخيص» أيضاً.
ولو اشترى شجرة بثمرها؛ فهل يدخل الثَّمر في ضمانه تبعاً لشجره؟ قال ابن عقيل في «فنونه» : لا يدخل.
ويتخرَّج وجه آخر بدخوله
(2)
؛ تبعاً لانقطاع عُلَق البائع عنه من السَّقي وغيره.
وبكلِّ حال؛ فيتوجَّه أن يضمن العامل الثَّمر التَّالف بعد جداده واستحفاظه، بخلاف ما على الشَّجر.
اليد التَّاسعة: القابضة تملُّكاً لا بعوض؛ إمَّا للعين بمنافعها بالهبة والوقف والصَّدقة والهديَّة والوصية، أو للمنفعة؛ كالموصى له بالمنافع.
فالمشهور: أنَّها ترجع بما ضمنته بكلِّ حال؛ لأنَّها دخلت على أنَّها غير ضامنة لشيء؛ فهي مغرورة، إلَّا ما حصل لها به نفع؛ ففي رجوعها بضمانه الرِّوايتان.
ويتخرَّج وجه آخر: أنَّها لا تضمن ابتداء ما لا يستقر ضمانها عليه
(3)
.
(1)
في (أ): الشَّجرة.
(2)
قوله: (ويتخرَّج وجه آخر بدخوله) هو في (ج) و (د) و (هـ) و (و): والمذهب دخوله. وضرب عليها في (ب).
(3)
كتب على هامش (ن): (لعله: ضمانه عليها).
وذكر القاضي وابن عقيل رواية: أنَّها لا ترجع بما ضمنته بحال، وهو منزَّل على القول باستقرار الضَّمان على من تلف تحت يده، وإن كان أميناً كما سبق.
ثمَّ اختلف الأصحاب في محلِّ الرِّوايتين في الرُّجوع بما انتفعت به على طرق ثلاثة:
إحداهنَّ: أنَّ محلَّهما إذا لم يقل الغاصب: هذا ملكي، أو ما يدلُّ عليه؛ فإن قال ذلك؛ فالقرار عليه بغير خلاف؛ لاعترافه باستقرار الضَّمان عليه ونفيه عن القابض، وهي طريقة «المغني» .
والثَّانية: إن ضمَّن المالكُ القابضَ ابتداء؛ ففي رجوعه على الغاصب الرِّوايتان مطلقاً، وإن ضمَّن الغاصبَ ابتداء، فإن كان القابض
(1)
قد أقرَّ بالملكيَّة؛ لم يرجع على القابض رواية واحدة، ولو قلنا: إنَّ ما ينتفع به يستقرُّ عليه ضمانه
(2)
؛ لأنَّه بإقراره بالملك معترف بأنَّ المستحِقَّ ظالم له بالتَّغريم؛ فلا يرجع بظلمه على غير ظالمه، وهي طريقة القاضي.
والثَّالثة: الخلاف في الكلِّ من غير تفصيل، وهي طريقة أبي الخطاب وجماعة.
واليد
(3)
العاشرة: المتلفة للمال نيابة عن الغاصب؛ كالذَّابح
(1)
قوله: (القابض) سقط من (أ) و (ن).
(2)
قوله: (عليه ضمانه) هو في (ب) و (د) و (هـ) و (و): ضمانه عليه. وقوله: (ضمانه) سقط من (ج).
(3)
في (ب) و (ج) و (د) و (و) و (ن): اليد. وقوله: (واليد) سقط من (هـ).
للحيوان والطَّابخ له؛ فلا قرار عليها بحال، وإنَّما القرار على الغاصب؛ لوقوع الفعل له، فهو كالمباشر، كذا قال القاضي وابن عقيل والأصحاب.
ويتخرَّج وجه آخر: بالقرار عليها فيما أتلفته؛ كالمودَع إذا تلف تحت يده، وأولى؛ لمباشرتها للإتلاف.
ويتخرَّج وجه آخر: لا ضمان عليها بحال، من نصِّ أحمد فيمن حفر لرجل في غير ملكه بئراً؛ فوقع فيها إنسان، فقال الحافر: ظننت أنَّها في ملكه؛ فلا شيء عليه.
(1)
وبذلك جزم القاضي وابن عقيل في كتاب الجنايات، مع
(2)
اشتراك الحافر والآمر في التَّسبب وانفراد الحافر بمباشرة السَّبب، وإنَّما سقط الضَّمان عنه
(3)
؛ لعدم علمه بالحال، وههنا أولى؛ لاشتراكهما في ثبوت اليد.
ولو أتلفته على وجه محرَّم شرعاً عالمة بتحريمه؛ كالقاتلة للعبد المغصوب، والمحرِقة للمال بإذن الغاصب؛ ففي «التَّلخيص»: يستقرُّ عليها الضَّمان؛ لأنَّها عالمة بالتَّحريم؛ فهي كالعالمة بأنَّه مال الغير.
(1)
ذكرها ابن القيم في بدائع الفوائد (4/ 81).
(2)
في (ب): ومع.
(3)
في (ب): عنه الضَّمان.
ورجَّح الحارثيُّ
(1)
دخولها في قسم المغرور؛ لأنَّها غير عالمة بالضَّمان؛ فتغرير الغاصب لها حاصل، والله أعلم.
(1)
هو مسعود بن أحمد بن مسعود بن زيد بن عياش الحارثي البغدادي، ثم المصري، تفقه على ابن أبي عمر المقدسي وغيره، وبرع وأفتى، وأقرأ المذهب ودرس، ورأس الحنابلة، من مصنفاته: شرح قطعة من كتاب "المقنع" لابن قدامة، من العارية إلى آخر الوصايا، قال ابن رجب:(وكلامه في الحديث أجود من كلامه في الفقه؛ فإنه كان أجود فنونه، وكان سنيًّا أثريًّا، متمسكًا بالحديث)، توفي سنة 711 هـ. ينظر: ذيل الطبقات 4/ 387.
قاعدة [94]
وقبض مال الغير من يدٍ قابضة بحقٍّ بغير إذن مالكه؛ إن كان يجوز له إقباضه
؛ فهو أمانة عند الثَّاني إن كان الأوَّل أميناً، وإلَّا فلا.
وإن لم يكن إقباضه جائزاً؛ فالضَّمان عليهما.
ويتخرَّج فيه وجه آخر: ألا يضمَن غيرُ الأوَّل.
ويندرج تحت ذلك صور:
منها: مودَع المودَع، فإن كان حيث يجوز الإيداع؛ فلا ضمان على واحد منهما، وإن كان حيث لا يجوز؛ فالضَّمان على الأوَّل، وفي الثَّاني وجهان سبق ذكرهما.
ومنها: المستأجر من المستأجر، فإن كان حيث يجوز الإيجار؛ بأن كان لمن يقوم مقامه في الانتفاع؛ فلا ضمان، وإلَّا ثبت الضَّمان عليهما، وقراره في العين على الأوَّل.
ويتخرَّج وجه آخر: أن لا ضمان على الثَّاني بحال من المودَع.
ومنها: مضارَب المضارَب - حيث يجوز -؛ فهو أمين.
وهل الثَّاني مضارَب للمالك والأوَّل وكيل في العقد لا شيء له من الرِّبح، أو هو مضارَب للأوَّل فالرِّبح بينهما؟ على وجهين:
جزم القاضي في «المجرَّد» بالأوَّل.
ثمَّ اختار الثَّاني فيما إذا دفعه مضاربة وقلنا: لا يجوز له ذلك.
وحيث مُنع من دفعه مضاربة؛ فللمالك تضمين أيِّهما شاء، ويرجع الثَّاني على الأوَّل إن
(1)
لم يعلم بالحال؛ لدخوله على الأمانة.
وفيه وجه آخر: لا يرجع؛ لحصول التَّلف تحت يده، وقد سبق أصله.
ويتخرَّج: ألَّا يضمن الثَّاني بحال.
وإن علم بالحال، فهل هو كالغاصب لا أجرة له، أو كالمضارب المتعدِّي له أجرة المثل؟ يحتمل وجهين، قاله صاحب «التَّلخيص» ، وحكاهما صاحب «الكافي» روايتين من غير تقييد بحالة العلم.
ومنها: وكيل الوكيل حيث لا يجوز له التَّوكيل، وهو كالمضارب في
(2)
الضَّمان.
ومنها: المستعير من المستعير، فإن قلنا بجوازه؛ فكلٌّ منهما ضامن للعين دون المنفعة؛ لدخوله على ذلك على بصيرة.
وإذا تلفت
(3)
عند الثَّاني؛ ضمَّنه المالك كما لو كان هو المعير له، ولم يرجع على الأوَّل؛ لانتفاء التغرير.
وإن قلنا بالمنع - وهو المشهور -؛ فللمالك مطالبة كلٍّ منهما بضمان العين والمنفعة والقرار على الثَّاني؛ لحصول التلف في يده إن
(1)
في (ب): وإن.
(2)
في (ب): وفي.
(3)
في (ب) و (و) و (ن): تلف.
كان عالماً بالحال، ومع عدم العلم يستقرُّ عليه ضمان العين دون المنفعة؛ فإنَّه يستقرُّ ضمانها على الأوَّل لتغريره، كذا قال الأصحاب.
ويتخرَّج وجه آخر: أنَّه لا يضمن الثَّاني إذا لم يعلم بالحال.
ومنها: المستعير من المستأجر، قال في «التلخيص»: هو أمين على
(1)
الصَّحيح؛ لقبضه من يد أمين؛ فلا يكون ضامناً
(2)
.
ومنها: المشتري من الوكيل المخالف مخالفة يفسد بها البيع إذا تلف المبيع في يده؛ فللموكِّل تضمين القيمة من شاء من الوكيل والمشتري على المشهور، ثمَّ إن ضمن الوكيل؛ رجع على المشتري؛ لتلفه في يده.
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): في.
(2)
جاء في هامش (ن): (وحكى في الفروع في المسألة وجهين، ولم يرجح شيئاً).
قاعدة [95]
من أتلف مال غيره وهو يظن أنَّه له، أو تصرَّف فيه يظن لنفسه ولاية عليه
، ثمَّ تبيَّن خطأ ظنِّه:
فإن كان مستنداً إلى سبب ظاهر من غيره، ثمَّ تبيَّن خطأ المتسبِّب، أو أقرَّ
(1)
بتعمده للجناية: ضمن المتسبِّب.
وإن كان مستنداً إلى اجتهاد مجرَّد؛ كمن دفع مالاً تحت يده إلى من يظنُّ أنَّه مالكه، أو أنَّه يجب الدَّفع إليه، أو أنَّه يجوز ذلك، أو دفع ماله الَّذي يجب عليه إخراجه لحقِّ الله تعالى إلى من يظنُّه مستحِقًّا، ثمَّ تبين الخطأ: ففي ضمانه قولان.
وإن تبيَّن أنَّ المستند لا يجوز الاعتماد عليه، ولم يتبيَّن أنَّ الأمر بخلافه: فإن تعلَّق به حكم فنُقِض؛ فالضَّمان على المتلف، وإلَّا فلا ضمان.
ويندرج تحت هذه الجملة مسائل:
منها: أن يشهد شاهدان بموت زيد، فيقسم ماله بين ورثته، ثمَّ يتبيَّن
(2)
بطلان الشَّهادة بقدومه حيًّا؛ فنصَّ أحمد في رواية الميمونيِّ:
(1)
في (ب): أقرَّه.
(2)
في (ب) وباقي النسخ: تبيَّن.
أنَّهما يضمنان المال، ولم يتعرَّض للورثة
(1)
، وظاهر كلامه استقرار الضمان
(2)
على الشُّهود واختصاصهم
(3)
به، وهو في الجملة موافق لقوله المشهور عنه في تقرير الضَّمان على الغارِّ كما سبق.
وقال القاضي: يحتمل أن يكون أغرم الورثة، ورجعوا بذلك على الشُّهود لتغريرهم، ولا ضمان هنا على الحاكم؛ لأنَّه مُلجأ إلى الحكم من جهة
(4)
الشهود.
ونقل أبو النَّضر العجليُّ
(5)
عن أحمد في حاكم رجم رجلاً بشهادة أربعة بالزِّنى، ثمَّ تبين أنَّه مجبوب
(6)
: أنَّ الضَّمان على الحاكم، ولعلَّ تضمينه ههنا لتفريطه؛ إذ المجبوب
(7)
لا يخفى أمره غالباً؛ فترك الفحص عن حاله تفريط.
ومنها: لو حكم الحاكم بمال، ثمَّ رجع الشُّهود وصرَّحوا بالخطأ، أو التَّعمُّد لشهادة الزَّور؛ فإن الضَّمان يختصُّ بهم لاعترافهم، ولا
(1)
ذكرها شيخ الإسلام كما في الاختيارات (ص 501).
(2)
في (أ): ضمانه.
(3)
في (ب) و (د) و (ن): أو اختصاصهم.
(4)
قوله: (من جهة) هو في (ب): جرحه.
(5)
هو إسماعيل بن عبد الله بن ميمون بن عبد الحميد بن أبي الرجال أبو النضر العجلي، مروزي الأصل، سمع من الإمام أحمد ونقل عنه مسائل كثيرة، توفي سنة 270 هـ. ينظر: تاريخ بغداد 7/ 269، طبقات الحنابلة 1/ 105.
(6)
في (ب) و (ن): مجنون.
(7)
في (ب) و (ن): المجنون.
ينقض حكم الحاكم بمجرَّد ذلك، ولا يرجع على المحكوم له بشيء؛ كما لو باع عيناً أو وهبها
(1)
أو أقرَّ بها لرجل، ثمَّ أقرَّ بها بعد ذلك لآخر؛ فإنَّه لا يقبل إقراره على الأوَّل، ويضمَن للثَّاني
(2)
.
ومنها: أن يحكم الحاكم بمال ويُستَوفَى، ثمَّ تبيَّن أنَّ الشُّهود فسَّاق أو كفَّار؛ فإنَّ حكمه في الباطن غير نافذ بالاتفاق، نقله
(3)
أبو الخطاب في «انتصاره» .
وأمَّا في الظاهر؛ فهو نافذ، وهل يجب نقضه؟ المذهب: وجوبه، وهو قول الخرقيِّ والقاضي
(4)
؛ لتبيُّن انتفاء شرط الحكم، فلم يصادف محلًّا، ثمَّ يجب ضمان المال على المحكوم له به؛ لإتلافه له مباشرة.
قال القاضي: ولو كان المحكوم له معسراً، فللمستحقِّ مطالبة الإمام، وقرار الضَّمان على المحكوم له، ولا شيء على المزكِّين بحال.
ولو حكم لآدميٍّ بإتلاف نفس أو طرف؛ فطريقان:
أحدهما: هو كالمال؛ لأنَّ المستوفي هو المحكوم له، والإمام ممكِّن لا غير، وهي طريقة «المحرَّر» .
والثَّاني: يضمنه الحاكم، صرَّح به القاضي في «المجرد» ، وهو وفق إطلاق الأكثرين؛ لأنَّ المحكوم له لم يقبض شيئاً؛ فنسب الفعل إلى خطأ
(1)
في (ب): ووهبها.
(2)
في (ب): الثَّاني.
(3)
في (ب): نقله عنه.
(4)
قوله: (والقاضي) سقط من (ب) و (و) و (ن).
الإمام، كما لو كان المستوفَى حقًّا لله عز وجل؛ فإنَّ ضمانه على الإمام.
وحكى القاضي وغيره رواية أخرى: أنَّه لا ينقض الحكم إذا بان
(1)
الشُّهود فسَّاقاً، ويضمن الشُّهود؛ كما لو رجعوا عن الشَّهادة.
وهذا ضعيف جداً، ولا أصل لذلك في كلام أحمد، وإنَّما أخذوه من رواية الميمونيِّ في المسألة الأولى، وتلك لا فسق فيها؛ لجواز غفلة الشُّهود، وإنَّما ضمنوا؛ لتبيُّن بطلان شهادتهم بالعيان؛ فهو أعظم من الرُّجوع، ولا يمكن بقاء الحكم بعد تبيُّن فساد المحكوم به عياناً
(2)
، ولا يصحُّ إلحاق الفسق في الضَّمان بالرُّجوع؛ لأنَّ الرَّاجعين اعترفوا ببطلان شهادتهم وتسبُّبهم إلى انتزاع مال المعصوم، وقولهم غير مقبول على نقض الحكم؛ فتعيَّن تغريمهم، وليس ههنا اعتراف ينبني عليه التَّغريم؛ فلا وجه له؛ فالصَّواب: الجزم بأنَّه لا ضمان على أحد على القول بأنَّ الحكم لا ينقض، كما جزم به في «المحرر» .
ومنها: إذا أوصى
(3)
إلى رجل بتفريق ثلثه، ففعل، ثمَّ تبيَّن أنَّ عليه ديناً مستغرِقاً للتَّركة؛ ففي ضمانه روايتان
(4)
،
ولكن هنا لم يتصرَّف في
(1)
في (أ): كان.
(2)
كتب على هامش (ن): (هذا يقتضي أن المسألة الأولى يُنقض فيها الحكم، وليس منافياً لما تقدم من ضمان الشهود).
(3)
في (ب) و (ج) و (د): (وصَّى).
(4)
كتب على هامش (ن): (قال في «المحرر»: لم يضمن الوصي ما فرقه، وعنه: يضمن).
وكتب على هامشها أيضًا: (ومثل هذه المسألة: إذن كل واحد من شريكي العنان للآخر في إخراج زكاته، فأخرجا معاً، فجزموا هناك بضمان كل واحد منهما زكاة صاحبه، ولم يحكوا فيه الروايتين، ويطلب الفرق).
ملك الغرماء، بل فيما تعلَّق
(1)
به حقُّهم، ولكنَّه تعلُّق قويٌّ، لا سيَّما إن قلنا: لم ينتقل إلى الورثة، ولهذا قال أحمد في رواية ابن منصور: التَّركة هي للغرماء لا للورثة
(2)
، ولهذا لا يملك الورثة التَّصرُّف فيها إلَّا بشرط الضَّمان.
وخرَّج
(3)
الشيخ تقيُّ الدين على هذا الخلاف: كلَّ من تصرف بولاية في مال، ثمَّ تبيَّن أنَّه مستحَقٌّ.
ومنها: لو وصَّى لشخص بشيء، فلم يُعْرَف الموصى له؛ صرفه
(4)
الوصيُّ أو الحاكم فيما يراه من أبواب البرِّ.
فإن جاء الموصى له وأثبت ذلك؛ فهل يضمن المفرِّق ما فرَّقه؟ على
(1)
في (أ): يتعلَّق. وفي (هـ): بما تعلَّق.
(2)
جاء في مسائل ابن منصور (8/ 4500): قلت: سئل سفيان عن رجل مات وترك أربع بنين، وترك داراً وعليه دين، فجاء الغرماء يبيعون الدار، فقال أحد بنيه: أنا أُعطي ربع ما على أبي، ودعوا لي ربع الدار؟ قال: تباع كلها، وليس له ذلك. قال أحمد:(هذه الدار للغرماء، وولده لا يرثون شيئاً حتى يؤدوا الدين).
(3)
في (أ): وصرَّح.
(4)
في (ب): فرَّقه.
روايتين، قال ابن أبي موسى: أظهرهما: لا ضمان عليه
(1)
.
وقال أبو بكر في «الشَّافي» : إن فعله الوصيُّ بإذن الحاكم لم يضمن، وإن كان بدون إذنه ضمن.
ومنها: لو اشترى الورثة عبداً من التركة وأعتقوه تنفيذاً لوصيَّة موروثهم بذلك، ثمَّ ظهر دين مستغرِق؛ فإنَّهم يضمنون للغرماء، ذكره القاضي وابن عقيل.
ويتخرَّج فيه وجه آخر: بانتفاء الضَّمان من مسألة الوصيِّ.
(2)
ومنها: لو اشترى المضارَب مَن يعتق على ربِّ المال
(3)
؛ صحَّ، وعتق عليه، وهل يضمن العامل؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يضمن بكلِّ حال، سواء كان عالماً بالحال أو جاهلاً، قاله القاضي في «المجرَّد» ، وأبو الخطاب.
والثَّاني: إن كان جاهلاً لم يضمن، وإن كان عالماً ضمن؛ كما لو عامل فاسقاً أو مماطلاً، أو سافر سفراً مخوفاً، أو دفع الوصيُّ أو أمين
(4)
الحاكم مالَ اليتيم مضاربة إلى من ظاهره العدالة، فبان بخلافه؛
(1)
كتب على هامش (ج) و (ن) و (هـ): (وهذه المسألة متوجهة على أصل أبي بكر وابن أبي موسى: من أن الوصية تملك بموت الموصي من غير قبول). وزاد في (ن): (من هامش النسخة المعتمدة).
(2)
كتب على هامش (ن): (والفرق بينهما: أن الوصي لا يشترط في نفوذ تصرفه ضمان الدين، والورثة يشترط ذلك في تصرفهم في التركة).
(3)
زاد في (ج) و (د) و (هـ): بغير إذنه.
(4)
في (ب) و (ج) و (و) و (ن): وأمين.
فإنَّه لا ضمان في ذلك كلِّه إلَّا مع العلم، وهو قول أبي بكر في «التَّنبيه» ، والقاضي في «خلافه» .
والثَّالث: لا ضمان بكلِّ حال، حكاه أبو بكر.
وعلى الضَّمان؛ فهل يضمنه بالثَّمن المشترى، أو بقيمة المثل ويكون شريكاً في الربح الزَّائد؟ على قولين ذكرهما أبو بكر.
ومنها: إذا دفع القصَّار ثوب رجل إلى غيره خطأً، فتصرَّف فيه المدفوع إليه بقطع، أو لُبْسٍ يظنُّه ثوبه؛ فنقل حنبل عن أحمد في قصَّارٍ أبدل الثَّوب، فأخذه صاحبه فقطعه وهو لا يعلم أنَّه ثوبه؛ قال: على القصَّار إذا أبدل، قيل له: فإن كان مالاً فأنفقه؟ قال: ليس هذا مثل المال الَّذي
(1)
أنفقه؛ لأنَّه مال تلف
(2)
.
ففرَّق بين المال إذا أنفق وتلف، وبين الثَّوب إذا قطع؛ لأنَّ العين ههنا
(3)
موجودة فيمكن الرُّجوع فيها، ويضمن نقصها القصَّار بجنايته
(4)
خطأ.
وظاهر كلامه: أنَّه لا يضمن القاطع؛ لأنَّه مغرور، ولم يدخل على الضَّمان.
أما إن دفع إليه دراهم غيره يظنُّه صاحبها، فأنفقها؛ فالضَّمان على المنفق وإن كان مغروراً؛ لتلف المال تحت يده بانتفاعه به، وذلك مقرِّر
(1)
في (ب): على الذي.
(2)
نقلها ابن أبي يعلى في التمام 2/ 78.
(3)
في (ب): هنا.
(4)
في (ب) و (ج) و (هـ): لجنايته.
للضمان مع التَّعزير في إحدى الرِّوايتين.
ونقل محمَّد بن الحكم عن أحمد في هذه المسألة أنَّه ذُكر له قول مالك: لا يغرم الَّذي لبسه، ويغرم الغسَّال لصاحب الثَّوب، فقال: لا يعجبني ما قال، ولكن إذا هو لم يعلم، فلبسه؛ فإنَّ عليه ما نقص، ليس على القصَّار شيء
(1)
.
فأوجب هنا الضَّمان على اللَّابس لاستيفائه المنفعة، دون الدَّافع؛ لأنَّه لم يتعمَّد الجناية، فكان إحالةُ الضَّمان على المستوفي للنَّفع أولى.
وهذه الرِّواية توافق ما قبلها في تقرير الضَّمان على المنتفع، لا سيَّما والدَّافع هنا معذور، وإنَّما ضمن القصَّار القطع؛ لأنَّه تلف لم يحدث من انتفاع القابض؛ فكان ضمانه على الدَّافع لتسبُّبه إليه، فالرِّوايتان إذن متَّفقتان.
ومن الأصحاب من جعلهما مختلفتين: في أنَّ الضَّمان هل هو على القصَّار، أو على المدفوع إليه؟
ثمَّ منهم من حمل رواية ضمان القصَّار على أنَّه كان أجيراً مشتركاً، فيضمن جناية يده، ورواية عدم ضمانه على أنَّه كان أجيراً خاصًّا؛ فلا يضمن جنايته ما لم يتعمدها، وأشار القاضي في «المجرَّد» إلى ذلك.
ومنها: لو دفع الملتقط اللُّقَطَة إلى واصفها، ثمَّ أقام غيرُه البيِّنة أنها له، فإن كان الدَّفع بحكم حاكم؛ فلا ضمان على الدَّافع، وإن كان بدونه؛ فوجهان:
(1)
نقلها ابن أبي يعلى في التمام 2/ 78.
أحدهما: لا ضمان؛ لوجوب الدَّفع عليه، فلا ينسب إلى تفريط.
والثَّاني: عليه الضَّمان، وهو قول القاضي، ثمَّ يرجع به على الواصف؛ إلَّا أن يكون قد أقرَّ له بالملك.
أمَّا لو دفع الوديعة إلى من يظنُّه صاحبها، ثمَّ تبيَّن الخطأ؛ فقال الأصحاب: يضمن لتفريطه.
ويتخرَّج فيه وجه آخر: أنَّ الضَّمان على المتلف وحده، وهو ظاهر ما نقله حنبل عن أحمد في مسألة القصَّار.
ولو قتل من يظنُّه قاتل أبيه؛ لاشتباهه به في الصُّورة؛ قُتل به لتفريطه في اجتهاده، ذكره ابن عقيل في «مفرداته» .
ويتخرَّج: أن لا قَوَدَ، وأنَّه يضمن بالدِّية، كما لو قطع يسار قاطع يمينه ظانًّا أنَّها اليمين
(1)
؛ فإنَّه لا قَوَد
(2)
، وسواء كان الجاني عاقلاً أو مجنوناً، وفي وجوب الدية له وجهان.
ومنها: لو مضى على المفقود زمن يجوز فيه قسمة ماله، فقُسِم، ثمَّ قدم؛ فذكر القاضي أنَّ أبا بكر حكى في ضمان ما تلف في أيدي الورثة منه روايتين.
والمنصوص عن أحمد في رواية الميمونيِّ، وابن منصور،
(1)
كتب على هامش (ن): (والظاهر أن القول قوله في ظنه؛ لأنه لا يُعلم إلا من قبله).
(2)
كتب على هامش (ن): (ليست هذه كمسألة القتل؛ لأن القطع هنا وقع في الجاني، بخلاف القتل فإنه في غير الجاني).
وأبي داود
(1)
: عدم الضَّمان
(2)
، وهو الَّذي ذكره أبو بكر في «التنبيه» .
ووجهه: أنَّه جاز اقتسام المال في الظَّاهر والتَّصرف فيه، ولهذا يباح لزوجته أن تتزوَّج، وإذا قدم خُيِّر بينها وبين المهر؛ فجعل التَّصرُّف فيما يملكه من مال وبضع موقوفاً على تنفيذه وإجازته ما دام موجوداً، فإذا تلف؛ فقد مضى الحكم فيه ونفذ، فإنَّ إجازته وردَّه
(3)
إنمَّا يتعلَّق بالموجود لا بالمفقود.
وقد نصَّ أحمد في رواية أبي طالب على أنَّه إذا قدم بعد أن تزوجت زوجته وماتت؛ فلا خيار له ولا يرثها
(4)
.
ويشبه ذلك: اللُّقطة إذا قدم المالك بعد الحول والتَّملُّك وقد تلفت؛ فالمشهور: أنَّه يجب ضمانها للمالك.
وذكر ابن أبي موسى رواية أخرى: أنَّه لا يجب الضَّمان مع التَّلف، وإنَّما يجب الرَّدُّ مع بقاء العين.
ومنها: لو قبضت المطلقة البائن النَّفقة، تظنُّ أنَّها حامل، ثمَّ بانت
(1)
قوله: (وأبي داود) سقط من (ب) و (ج) و (و).
(2)
جاء في مسائل ابن منصور (4/ 1970): قلت: مال المفقود كسبيل امرأته؟ قال: (نعم، إذا قُسم ماله ثم جاء)، قال:(ما وجده أخذه، وما استهلك فليس عليهم شيء، إنما قُسم بحق هو لهم، ليس على الورثة شيء).
وفي مسائل أبي داود (ص 245): سمعت أحمد سئل عن المفقود قدم وقد اقتسم ميراثه؟ قال: (ما أدركه بعينه أخذه).
(3)
في (ب): ردَّه.
(4)
نقلها ابن مفلح في الفروع (9/ 251).
حائلاً
(1)
؛ ففي الرُّجوع عليها روايتان
(2)
.
ومنها: لو غاب الزَّوج، فأنفقت الزَّوجة من ماله، ثمَّ تبيَّن موته؛ فهل يرجع عليها بما أنفقته بعد موته؟ على روايتين.
ومنها: لو دفع زكاة ماله أو كفَّارته إلى من يظنُّه فقيراً، فبان أنَّه غنيٌّ؛ ففي وجوب الضمان عليه روايتان؛ أصحُّهما: أن لا ضمان
(3)
.
وكذلك لو كان العامل هو الدَّافعَ، قاله القاضي في «الأحكام السُّلطانيَّة» .
وقال في «المجرَّد» : لا يضمن الإمام بغير خلاف؛ لأنَّه أمين، ولم يفرِّط؛ لأنَّ هذا لا يمكن الاحتراز منه.
وإن بان عبداً أو كافراً أو هاشميًّا؛ فقيل: هو على الخلاف، وبه جزم ابن عقيل في «الفنون» .
وكذلك ذكر القاضي في آخر «الجامع الصغير» ؛ إلَّا أنَّه خرَّج الخلاف في الضَّمان هنا على القول بعدمه في الغِنى.
وقيل: لا يجزئه رواية واحدة؛ لظهور التَّفريط في الاجتهاد، فإنَّ هذه الأوصاف لا تخفى، بخلاف الغنى.
(1)
في (أ) و (ج): حاملاً.
(2)
كتب على هامش (ن): (أرجحهما: الرجوع).
(3)
كتب على هامش (ن): (ومن مسائل هذه القاعدة: إذا أذن كل واحد من شريكي العنان للآخر في إخراج زكاته، فأخرجا معاً أو مرتبين).
وإن بان بأنَّه
(1)
نسيب نفسه؛ فطريقان:
أحدهما: لا يجزئ قولاً واحداً، كما لو بان عبد نفسه
(2)
.
والثَّاني: هو كما لو بان غنيًّا.
والمنصوص ههنا الإجزاء؛ لأنَّ المانع خشية المحاباة؛ وهو منتفٍ مع عدم العلم.
قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: وعلى قياس ذلك مال الفيء والخمس، والأموال الموصى بها والموقوفة، إذا ظنَّ المتصرِّف فيها أنَّ الآخذ مستحِقٌّ فأخطأ.
(1)
في (ب) و (ج) و (هـ) و (و): أنَّه.
(2)
قوله: (كما لو بان عبد نفسه) سقط من (ب) و (و).
قاعدة [96]
من وجب عليه أداء عين مال، فأدَّاه عنه غيره بغير إذنه
؛ هل يقع موقعه وينتفي الضَّمان عن المؤدِّي؟
هذا على قسمين:
أحدهما: أن تكون العين ملكاً لمن وجب عليه الأداء، وقد تعلَّق بها حقُّ الغير:
فإن كان المتصرِّف له ولاية التَّصرُّف؛ وقع الموقع ولا ضمان، ولو كان الواجب ديناً.
وإن لم يكن له ولاية:
فإن كانت العين متميِّزة بنفسها؛ فلا ضمان ويجزئ.
وإن لم تكن متميِّزة من بقيَّة ماله؛ ضمن ولم يجزئ، إلَّا أن يجيز المالك التَّصرُّف، ونقول بوقف عقود الفضوليِّ على الإجازة.
ويتفرَّع على هذا مسائل:
منها: لو امتنع من وفاء دينه وله مال، فباع الحاكم ماله ووفَّاه عنه؛ صحَّ، وبرئ منه ولا ضمان.
ومنها: لو امتنع من أداء الزكاة، فأخذها الإمام منه قهراً؛ فإنَّها تجزئ عنه ظاهراً وباطناً في أصحِّ الوجهين، وهو ظاهر كلام أحمد
والخرقيِّ؛ لأنَّ للإمام ولاية على الممتنع، وهذا حقٌّ تدخله النِّيابة، فوقع موقعه.
ومنها: لو تعذَّر استئذان من وجبت عليه الزَّكاة؛ لغَيبة أو حبس، فأخذ السَّاعي الزَّكاة من ماله؛ سقطت عنه.
ومنها: وليُّ الصبي والمجنون يخرج عنهما الزَّكاة ويجزئ؛ كما يؤدِّي عنهما سائر الواجبات الماليَّة من النَّفقات والغرامات.
ومنها: إذا عيَّن أضحية، فذبحها غيره عنه بغير إذنه
(1)
؛ أجزأت عن صاحبها، ولم يضمن الذَّابح شيئاً، نصَّ عليه؛ لأنَّها متعيِّنة للذَّبح ما لم يبدلها، وإراقة دمها واجب
(2)
؛ فالذَّابح قد عجَّل الواجب، فوقع موقعه
(3)
.
ولا فرق عند الأكثرين بين أن تكون معيَّنة ابتداء، أو عن واجب في الذِّمَّة.
وفرَّق صاحب «التَّلخيص» بين ما وجب في الذِّمَّة وغيره
(4)
، وقال: المعيَّنة عن واجب في الذِّمَّة يشترط لها نيَّة المالك عند الذَّبح، فلا يجزئ ذبح غيره لها بغير إذنه؛ فيضمن.
ومنها: لو أحرم وفي يده المشاهدة صيد، فأطلقه غيره بغير إذنه؛ فقال القاضي والأكثرون: لا يضمن؛ لأنَّه فعل الواجب عليه، كما لو
(1)
قوله: (بغير إذنه) سقط من (أ).
(2)
في (أ) و (د) و (و): وجب.
(3)
في (أ): الموقعة.
(4)
قوله: (بين ما وجب في الذِّمَّة وغيره) سقط من (ب).
أدَّى عنه دينه في هذه الحال.
وفي «المبهج» للشيرازيِّ: أنَّه يضمن؛ لأنَّ ملكه لم يزل عنه، وإرسال الصَّيد إتلاف يوجب الضَّمان؛ فهو كقتله، اللَّهم إلَّا أن يكون المرسِل حاكماً أو وليَّ صبيٍّ؛ فلا ضمان للولاية.
وهذا كلُّه بناءً على قولنا: يجب عليه إرساله وإلحاقه بالوحش، وهو المنصوص.
وأمَّا
(1)
إن قلنا: يجوز له نقل يده إلى غيره بإعارة أو إيداع، كما قاله القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل في باب
(2)
العارية؛ فالضَّمان واجب بغير إشكال
(3)
.
ومنها: لو نذر الصَّدقة بمال معيَّن، فتصدَّق به عنه غيره؛ ففيه وجهان:
أحدهما: لا ضمان عليه؛ كالأضحية، وهو اختيار أبي الخطَّاب في «الانتصار» ، سواء قيل بزوال ملكه وامتناع الإبدال كما اختاره، أو ببقاء الملك وجواز الإبدال؛ إذ لا فرق بين الدَّراهم المنذورة وبين الأضحية في ذلك.
والثَّاني: الضَّمان، وهو قول القاضي وابن عقيل.
ويشكل الفرق بينه وبين الأضحية، لا سيَّما والنُّقود لا تتعيَّن بالتَّعيين
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): أمَّا.
(2)
قوله: (باب): سقط من (أ) و (و).
(3)
كتب على هامش (ن): (ظاهره: ولو كان المرسل حاكمًا).
في العقود على إحدى الرِّوايتين، بخلاف الحيوان.
وقد يقال في الفرق: إنَّ الأضحية إنَّما يجوز إبدالها بخير منها، والنُّقود متساوية غالباً؛ فلا معنى لإبدالها
(1)
.
وقد أشار القاضي إلى الفرق: بأنَّ النَّذر يحتاج إخراجه إلى نيَّة كالزَّكاة.
وهذا ممنوع، بل نقول في نذر الصَّدقة بالمعيَّن ما نقول في الأضحية المعيَّنة.
وأمَّا إذا أدَّى غيره زكاته الواجبة من ماله أو نَذْرِه الواجب في الذِّمَّة، أو كفَّارته من ماله بغير إذنه، حيث لا ولاية له عليه؛ فإنَّه يضمن في المشهور؛ لأنَّه لا يسقط به فرض المالك؛ لفوات النِّيَّة المعتبرة منه وممَّن يقوم مقامه.
وخرَّج الأصحاب نفوذه بالإجازة من نفوذ تصرُّف الفضوليِّ بها.
وهذا الَّذي ذكرناه
(2)
في العبادات؛ كالزَّكاة والأضحية والنَّذر؛ إنَّما هو إذا نواه المخرِج عن المالك.
فأمَّا إن نوى عن نفسه، وكان عالماً بالحال؛ فهو غاصب محض، فلا يصحُّ تصرُّفه لنفسه بأداء الزَّكاة، ولا بذبح الأضحية والهدي ولا غيرهما؛ لأنَّه وقع من أصله تعدِّياً، وذلك ينافي التَّقرُّب.
وخرَّج بعض الأصحاب وجهاً: بوقفه على الإجازة، من القول
(1)
من قوله: (لا سيَّما والنُّقود لا تتعيَّن بالتَّعيين) إلى هنا سقط من (ب) و (و).
(2)
في (أ): ذكرنا.
بوقف تصرُّف الغاصب.
وربَّما ذكره بعضهم رواية في الزَّكاة.
وخرَّجه ابن أبي موسى وجهاً في العتق، لكن إذا التزم ضمانه في ماله، وهذا شبيه بتصرُّف الفضوليِّ.
وهل يجزئ عن المالك في هذه الحال أم لا؟ حكى القاضي والأكثرون في الأضحية روايتين.
والصَّواب: أنَّ الرِّوايتين تتنزَّل على اختلاف حالين لا على اختلاف قولين؛ فإن نوى الذَّابح الذَّبح عن نفسه مع علمه بأنَّها أضحية الغير؛ لم تجزئ؛ لغصبه واستيلائه على مال الغير وإتلافه له عدواناً، وإن كان يظنُّ الذَّابح أنَّها أضحيته؛ لاشتباهها عليه؛ أجزأت عن المالك.
وقد نصَّ أحمد على الصُّورتين في رواية ابن القاسم وسندي، مفرِّقاً بينهما مصرِّحاً بالتَّعليل المذكور، وكذلك الخلَّال فرَّق بينهما وعقد لهما بابين منفردين؛ فلا تصحُّ التَّسوية بعد ذلك.
ومتى قيل بعدم الإجزاء؛ فعلى الذَّابح الضَّمان، لكن هل يضمن أرش الذَّبح أو كمال القيمة؟
أمَّا على رواية تحريم ذبيحة الغاصب؛ فضمان القيمة متعيِّن.
وأمَّا على القول بالحلِّ - وهو المشهور-؛ فقد يقال: إن كانت معيَّنة عن واجب في الذِّمَّة؛ فحكم هذا الذَّبح حكم عطبها، وإذا عطبت؛ فهل ترجع إلى ملكه؟ على روايتين.
فإن قيل: برجوعها إلى ملكه؛ فعلى الذَّابح أرش نقص الذَّبح خاصَّة.
وإن قيل: لا ترجع إلى ملكه؛ فالذَّبح حينئذ بمنزلة إتلافها بالكليَّة؛ فيضمن الجميع، ويشتري المالك بالقيمة ما يذبحه عن الواجب عليه، ويصرف الكلَّ مصرف الأضحية
(1)
.
وإن كانت معيَّنة ابتداء أو تطوُّعاً؛ فقد فوَّت على المالك التَّقرُّب بها، وكونها أضحية أو هدياً، لكن على وجه لا يلزمه بدلها.
فيحتمل أن يتصدَّق بلحمها، كالعاطب دون محلِّه، ويأخذ أرش الذَّبح من الذَّابح ويتصدَّق به.
ويحتمل أن يضمنه قيمتها، وهو أظهر؛ لأنَّه فوَّت عليه التَّقرُّب بها، على وجه لا يعود إليه منها شيء؛ فهو كإتلافها.
وأمَّا إذا فرَّق الأجنبيٌّ اللَّحم؛ فقال الأصحاب: لا يجزئ؛ لأنَّ أحمد قال في رواية ابن منصور فيما إذا ذبح كلُّ واحد أضحية الآخر يعتقد أنَّها أضحيته: إنَّهما يترادَّان اللَّحم
(2)
.
قالوا: وإن تلف؛ فعليه ضمان قيمته.
وأبدى ابن عقيل في «فنونه» احتمالاً بالإجزاء؛ لأنَّ التَّفرقة ليست واجبة على المالك، بدليل ما لو ذبحها فسرقت.
ويشهد له قول أحمد في رواية المروذيِّ وغيره، في رجل اشترى لقوم نسكاً، فاشترى لكلِّ واحد شاة، ثمَّ لم تُعرف هذه من هذه؛ قال: يتراضيان ويتحالّان
(3)
، ولا بأس أن يأخذ كلُّ واحد شاة بعد التَّحليل.
(1)
في (ب): ويتصدَّق بالكلِّ. مكان قوله: (ويصرف الكلَّ مصرف الأضحية).
(2)
ينظر: مسائل ابن منصور (8/ 4029).
(3)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): يتحالَّان.
فدلَّ على أنَّ التَّفريق إذا وقع عن غير قصد ولا تعمُّد أنه يجزئ، ولولا ذلك لم تجز التَّضحية بهذه الأضحية المشتبهة، وقد يكون عن واجب في الذِّمَّة، ويحمل قوله:(يترادَّان اللَّحم) مع بقائه.
القسم الثَّاني: أن يكون الواجب أداؤه غير مملوك له؛ فأدَّاه الغير إلى مستحِقِّه، فإن كان مستحِقُّه معيَّناً؛ فإنَّه يجزئ ولا ضمان، وإن لم يكن معيَّناً؛ ففي الإجزاء خلاف.
ويندرج تحت ذلك مسائل:
منها: الغصوب والودائع إذا أدَّاها أجنبيٌّ إلى المالك؛ أجزأت ولا ضمان.
ومنها: إذا اصطاد المحرِم صيداً في إحرامه، فأرسله غيره من يده؛ فلا ضمان.
ومنها: إذا دفع أجنبيٌّ عيناً موصًى بها إلى مستحِقٍّ معيَّن؛ لم يضمن، ووقعت موقعها.
وكذا لو كانت الوصيَّة بمال غير معيَّن، بل مقدَّر.
وإن كانت لغير معيَّن؛ ففي الضَّمان وجهان.
ونصَّ أحمد في رواية حنبل فيمن بيده وديعة موصًى
(1)
بها لمعيَّن: أنَّ المودَع يدفعها إلى الموصى له والورثة، قيل له: فإن دفعها إلى الموصى له يضمن؟ قال: أخاف. قيل له: فيعطيه القاضي؟ قال: لا، ولكن يدفعه إليهم.
(1)
في (ب) وباقي النسخ: وصي.
ونصَّ أحمد
(1)
في رواية مهنَّى على ضمانه بالدَّفع إلى الموصى له، وهذا محمول على أنَّ الوصيَّة لم تثبت ظاهراً.
وصرَّح الأصحاب بأنَّه لو كان عليه دين ووصَّى به صاحبه لمعيَّن؛ كان مخيَّراً بين دفعه إلى الورثة والموصى له؛ لأنَّه صار حقًّا له؛ فهو كالوارث المعيَّن.
وعلى هذا يتخرَّج دفع مال الوقف إلى مستحِقِّه المعيَّن مع وجود النَّاظر فيه
(2)
.
(1)
قوله: (أحمد) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ).
(2)
كتب على هامش (ن): (بخط شيخنا قاضي القضاة رحمه الله: مال الوقف أمانة عند الناظر، فهو داخل في عموم المسألة الأولى، وهي قوله: "منها الغصوب والودائع").
قاعدة [97]
من بيده مال أو في ذمَّته دين يَعرف مالكه، ولكنَّه غائب يرجى قدومه
؛ فليس له التَّصرُّف فيه بدون إذن الحاكم، إلَّا أن يكون يسيراً تافهاً؛ فله الصَّدقة به عنه، نصَّ عليه في مواضع
(1)
.
وإن كان قد أيس من قدومه؛ بأن مضت مدَّة يجوز فيها أن تتزوَّج
(2)
امرأته، ويقسم ماله، وليس له وارث؛ فهل يجوز التَّصرُّف في ماله بدون إذن الحاكم؟
قد يتخرجَّ على وجهين، أصلهما الرِّوايتان في امرأة المفقود: هل تتزوَّج
(3)
بدون إذن
(4)
الحاكم أم لا؟
(1)
جاء في مسائل عبد الله (ص 311): سمعت أبي سئل عمن كان في يديه شيء من الأموال الحرام، قال:(فعليه أن ينفذه إلى من هو له، فإن لم يعرف صاحبه فإن سبيله الصدقة عن صاحبه، فإن جاء يومًا ضمن ذلك).
وجاء في مسائل صالح (ص 288): سألت أبي عن رجل ظلم قومًا مالًا، وقد تاب، وهو يريد رده، وقد مات هؤلاء القوم ولا ورثة لهم، ولا يعرف الذين ظلمهم، كيف يصنع؟ قال:(إذا كان لا يعرف من ظلم ولا يعرف له وارثًا؛ تصدق به).
(2)
في (ب) وباقي النسخ: تزوَّج.
(3)
في (ب) و (هـ) و (ن): تزوَّج.
(4)
قوله: (إذن) سقط من (أ) و (ج) و (د).
والمنصوص في رواية صالح: جواز التَّصدُّق به، ولم يعتبر حاكماً.
وإن لم يَعرف مالكه بل جهل؛ جاز التَّصدُّق به عنه بشرط الضَّمان بدون إذن حاكم قولاً واحداً على أصحِّ الطَّريقين.
وعلى الثَّانية فيه روايتان، وهي طريقة القاضي في «كتاب الرِّوايتين» ، وفي موضع من «المجرد» .
وجزم في موضع آخر منه: بتوقُّف التَّصرُّف على إذن الحاكم، والأولى أصحُّ.
ويتخرَّج على هذه القاعدة مسائل:
منها: اللُّقَطَةُ الَّتي لا تملك إذا أجزنا الصَّدقة بها
(1)
، أو الَّتي يخشى فسادها إذا أراد التَّصدُّق بها؛ فالمنصوص جواز الصَّدقة بها من غير حاكم.
وذكر أبو الخطَّاب رواية أخرى: أنَّه إن كان يسيراً؛ باعه وتصدَّق به، وإن كان كثيراً؛ رفعه إلى السُّلطان، وقال: نقلها مهنَّى.
ورواية مهنَّى إنَّما هي فيمن باع من رجل شيئاً، ثمَّ مات المشتري قبل قبضه، وخشي البائع فساده، وهذا ممَّا له مالك معروف ويمكن الاطِّلاع على معرفة ورثته؛ فليست المسألة، نبَّه على ذلك الشَّيخ مجد الدِّين.
(1)
كتب على هامش (ن): (وهي ما سوى الأثمان على الرواية التي تقول: لا يملكها، فهل له الصدقة بها؟ على روايتين، وعلى رواية جواز ذلك: فشَرْطه ضمانه عليه إذا جاء ربها).
ومنها: اللَّقيط إذا وُجد معه مال؛ فإنَّه ينفق عليه منه بدون إذن الحاكم
(1)
، ذكره ابن حامد.
قال أبو الخطَّاب: وروى عنه أبو الحارث ما يدلُّ على أنَّه لا ينفق عليه إلَّا بإذن الحاكم.
قال الشَّيخ مجد الدين: وهذه الرِّواية إنَّما هي في المودَع أنَّه لا ينفق على زوجة المستودِع وأهله في غيبته إلَّا بإذن الحاكم
(2)
.
وليس هذا نظير مسألتنا؛ لأنَّ الولاية هنا على معروف، فنظيره من وجد طفلاً معروف النَّسب وأبوه غائب
(3)
.
ومنها: الرُّهون الَّتي لا يُعرف أهلها، نصَّ أحمد على جواز الصَّدقة بها
(4)
في رواية أبي طالب وأبي الحارث وغيرهما
(5)
.
(1)
في (ب) وباقي النسخ: حاكم.
(2)
كتب على هامش (ن): (ومع ذلك، فقال الشيخ مجد الدين في «محرره»: ولحاضنه أن ينفق عليه منه بدون الحاكم، وعنه: يجب استئذانه).
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: ومعه ما ينفق عليه منه).
(4)
كتب على هامش (ن): (لكن هل يتصدق بها كلها، أو يستوفي دينه منها ويتصدق بالفاضل فيه؟ روايتان ثابتتان في آخر هذه القاعدة).
(5)
جاء في الروايتين والوجهين (1/ 370): قال في رواية أبي طالب في رجل عنده رهون لا يعرف صاحبها، وقد أتى عليها حين:(يبيعها ويتصدق بثمنها، فإن جاء صاحبها عرفها، ولا يأخذ ما أنفق على الرهن إذا باعه).
قال في رواية أبي الحارث: (يبيعه ويتصدق بالفضل، فإذا جاء صاحبه كان مخيراً بين الأجر، وبين أخذ ما بقي من الثمن).
وتأوَّله القاضي في «المجرد» وابن عقيل: على أنَّه تعذَّر إذن الحاكم؛ لما روى عنه أبو طالب أيضاً: إذا كان عنده رهن وصاحبه غائب وخاف فساده؛ يأتي إلى السُّلطان ليأمر ببيعه، ولا يبيعه بغير إذن السُّلطان.
(1)
وأنكر ذلك الشَّيخ مجد الدين وغيره، وأقرُّوا النُّصوص على وجوهها؛ فإن كان المالك معروفاً لكنَّه غائب؛ رفع أمره إلى السلطان، وإن كان مجهولاً؛ جاز التَّصرُّف فيه بدون حاكم، وإن كان
(2)
علم صاحبه لكنَّه أيس منه؛ تصدَّق به
(3)
عنه، نصَّ عليه في رواية أبي الحارث
(4)
.
ومنها: الودائع الَّتي جُهل ملَّاكها؛ يجوز التَّصدُّق بها بدون حاكم، نصَّ عليه.
وكذلك إن فقد ولم يُطَّلَع على خبره وليس له ورثة؛ تُصدِّق به، نصَّ عليه، ولم يعتبر حاكماً.
قال القاضي في «المجرَّد» : فيحتمل أن يحمل على إطلاقه؛ لأنَّه من فعل المعروف، ويحتمل أن يحمل عند تعذُّر إذن الحاكم؛ لأنَّ هذا المال مصرفه إلى بيت المال، وتفرقة مال بيت المال موكول إلى اجتهاد الإمام، انتهى.
(1)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 370).
(2)
قوله: (كان) سقط من (ب) و (ج) و (ن).
(3)
قوله: (به) سقط من (أ).
(4)
وهي المتقدم ذكرها. ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 370).
والصَّحيح: الإطلاق، وبيت المال ليس بوارث على المذهب المشهور، وإنَّما يحفظ فيه المال الضَّائع، فإذا أُيِسَ من وجود صاحبه؛ فلا معنى للحفظ، ومقصود الصَّرف في مصلحة المالك يحصل بالصَّدقة به عنه، وهو أولى من الصَّرف إلى بيت المال؛ لأنَّه ربَّما صُرف عند فساد بيت المال إلى غير مصرفه.
وأيضاً؛ فالفقراء مستحِقُّون من مال بيت المال، فإذا وصل إليهم هذا المال على غير يد الإمام؛ فقد حصل المقصود، ولهذا قلنا على أحد الوجهين: إذا فرَّق الأجنبيُّ الوصية، وكانت لغير معيَّن كالفقراء؛ فإنَّها تقع الموقع، ولا تضمن؛ كما لو كانت الوصيَّة لمعيَّن.
وعلى هذا الأصل: يتخرَّج جواز أخذ الفقراء
(1)
الصَّدقة من يد من ماله حرام؛ كقطَّاع الطَّريق، وأفتى القاضي بجوازه.
ونصَّ أحمد في رواية صالح على أن من
(2)
كانت عنده وديعة، فوكَّل في دفعها، ثمَّ مات، وجُهل ربُّها، وأيس من الاطِّلاع عليه؛ يتصدق بها عنه الوكيل، وورثه الموكِّل في البلد الَّذي كان صاحبها فيه حيث يرون أنَّه كان، وهم ضامنون إذا ظهر له وارث.
واعتبار الصدقة في موضع المالك - مع الجهل به -؛ قد نصَّ على مثله في الغصب وفي مال الشُّبهة
(3)
.
(1)
في (ب) و (ج): الفقير.
(2)
قوله: (على أنَّ من) هو في (ب) وباقي النسخ: فيمن.
(3)
تقدم بعضها في أول القاعدة.
واحتجَّ بأن عمر جعل الدِّية على أهل القرية؛ يعني: إذا جهل القاتل
(1)
.
وجه الحجَّة منه: أنَّ الغرم لمَّا اختصَّ بأهل المكان الَّذي فيه الجاني؛ لأنَّ الظَّاهر أنَّ الجاني أو عاقلته المختصِّين بالغرم لا يخلو المكان عنهم؛ فكذلك الصَّدقة بالمال المجهول مالكه ينبغي أن تختصَّ بأهل مكانه؛ لأنَّه أقرب إلى وصول المال إليه إن كان موجوداً أو إلى ورثته، ويراعى في ذلك الفقر؛ لأنَّها صدقة؛ كما يراعى في وضع الدِّية الغنى.
ومنها: الغصوب الَّتي جهل ربُّها، فيتصدَّق بها أيضاً، وقد نصَّ على ذلك في رواية جماعة
(2)
.
ولم يذكر أكثر الأصحاب فيه خلافاً.
وطرد القاضي في «كتاب الرِّوايتين» فيه الخلاف؛ بناءً على أنَّه مستحَقٌّ لبيت المال.
وكذلك حكم المسروق ونحوه، نصَّ عليه.
ولو مات المالك ولا وارث له يعلم؛ فكذلك يتصدَّق به عنه، نصَّ عليه أيضاً.
(1)
أخرج ابن أبي شيبة (27851)، والبيهقي في الكبرى (16450)، عن الشعبي، قال: وُجد قتيل بين حيين من همدان، بين وادعة وخيوان، فبعث معهم عمرُ المغيرةَ بن شعبة، فقال:«انطلق معهم، فقس ما بين القريتين، فأيهما كانت أقرب فألحق بهم القتيل» .
(2)
تقدم ذكر بعضها في أول القاعدة.
تنبيهان:
أحدهما: الدُّيون المستحَقَّة كالأعيان؛ يتصدَّق بها عن مستحِقِّيها، نصَّ عليه.
مع أنَّه نصَّ على أنَّ من قال لغريمه: تصدَّق عني بديني الَّذي لي عليك؛ لم يبرأ بالصَّدقة عنه، ولو وكَّله في قبضه من نفسه حيث لم يتعيَّن المدفوع ملكاً له؛ فإنَّ الدَّين لا يتعيَّن ملكه فيه بدون قبضه أو قبض وكيله.
وفرَّق القاضي في «خلافه» بين أن يكون المأمور بالدَّفع إليه معيَّناً أو غير معيَّن؛ فإن كان معيَّناً؛ برئ بالدَّفع إليه كالوكيل.
وخرَّج في «المجرد» المسألة على بيع الوكيل من نفسه؛ نظراً إلى أنَّ العلَّة هي القبض من نفسه، حيث وكَّله المالك في التَّعيين والقبض.
وقد أطلق ههنا جواز الصَّدقة به عنه، فإمَّا أن يكون هذا رواية ثانية بالجواز مطلقاً، أو محمولاً على حالة تعذُّر وجود المالك أو وكيله، وهو الأقرب.
وكذلك نصَّ في رواية أبي طالب فيمن عليه دين لرجل وقد مات، وعليه ديون للنَّاس، فقضى عنه دينه بالدَّين الذي عليه:(أنَّه يبرأ به في الباطن).
والثَّاني: إذا أراد من بيده عين جهل مالكها أن يتملَّكها ويتصدَّق بقيمتها عن مالكها؛ فنقل صالح عن أبيه الجواز فيمن اشترى آجرًّا، وعلم أنَّ البائع باعه ما لا يملك، ولا يُعرف له أربابٌ: أرجو إن أخرج
قيمة الآجرِّ وتصدَّق
(1)
به أن ينجوَ من إثمه.
وقد يتخرَّج فيه خلافٌ من جواز شراء الوكيل من نفسه.
ويشهد له اختلاف الرِّواية عنه فيمن له دين وعنده به رهن، وانقطع خبر صاحبه وباعه؛ هل له أن يستوفيَ دينه منه ويتصدَّق بالفاضل، أم يتصدَّق به كلِّه؟ على روايتين؛ لأنَّ فيه استيفاءً للحقِّ بنفسه من تحت يده.
واختار ابن عقيل جوازه مطلقاً، وخرَّجه من بيع الوكيل من نفسه، ومن مواضع أخر.
(1)
في (ب) وباقي النسخ: فتصدَّق.
قاعدة [98]
من ادَّعى شيئاً ووصفه؛ دُفِعَ إليه بالصِّفة إذا جهل ربُّه، ولم تثبت عليه يدٌ مِن جهة مالكه
، وإلَّا فلا.
ويتخرَّج على ذلك مسائل:
منها: اللُّقطة يجب دفعها إلى واصفها، نصَّ عليه
(1)
.
وإن وصفها اثنان؛ فهي لهما.
وقيل: يقرع بينهما.
وإن استقصى أحدهما الصِّفات، واقتصر الآخر على القدر الَّذي يجزئ في الدَّفع؛ فوجهان مخرَّجان من التَّرجيح بالنَّسَّاج والنَّتَّاج
(2)
(3)
،
(1)
جاء في مسائل ابن هانئ (2/ 128): قال ابن هانئ: سألته عن الرجل يصيب اللقطة فيعرفها، فيجيء إنسان فيقول: هي لي، أيعطيه؟ قال:(لا يعطيه، إلا أن يعطي علامتها وعفاصها ووكاءها وعددها، فلا بأس أن يعطي).
(2)
النسَّاج: من نسجتُ الثوب نَسْجًا، من باب ضرب، والفاعل: نسَّاج. ينظر: المصباح المنير 2/ 602.
والنتاج: إذا ولي الرجل ناقةً ماخِضاً ونِتاجها حتى تضع، قيل: نَتَجَها نَتجاً ونِتاجاً. ينظر: العين 6/ 92.
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: فيما إذا تعارض بينتان، وإحداهما ذَكَرت سبب الملك؛ ككونها نتجت في ملكه، أو كونها من نسجه، وفي الترجيح بذلك روايتان مشهورتان. من خط مولانا قاضي القضاة).
ذكره ابن عقيل في «مفرداته» .
ومنها: الأموال المغصوبة والمنهوبة والمسروقة؛ كالموجودة مع اللُّصوص وقطَّاع الطَّريق ونحوهم؛ يكتفى فيها بالصِّفة
(1)
.
ومنها: تداعي المُؤْجِر والمستأجر دِفناً في الدَّار؛ فهو لواصفه منهما، نصَّ عليه في رواية الفضل بن زياد.
ومنها: اللَّقيط إذا تنازع اثنان أيُّهما التقطه، وليس في يد أحدهما؛ فمن وصفه منهما فهو أحقُّ به.
ومنها: من وجد ماله في الغنيمة قبل القسمة؛ فإنَّه يستحقُّه بالوصف ونحوه ممَّا يدلُّ على أنَّه له، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل.
وسئل: أيزيد على ذلك
(2)
بينة؟ قال: لا بدَّ من بيانٍ يدلُّ على أنَّه له، وإن علم ذلك دفعه إليه الأمير، انتهى.
وقد قضى سعد بن أبي وقاص في هذا بالعلامة المحضة
(3)
.
(1)
زاد في (هـ): ذكره القاضي في خلافه.
(2)
قوله: (ذلك) سقط من (أ).
(3)
أخرج ابن أبي شيبة (33358)، عن الركين، عن أبيه، أو عن عمه قال: حُبس لي فرس، فأخذه العدو، قال: فظهر عليه المسلمون، قال: فوجدته في مربط سعد، قال: فقلت: فرسي، قال: بينتك، قلت: أنا أدعوه فيحمحم، قال: إن أجابك فلا أريد منك بينة.
قاعدة [99]
ما تدعو الحاجة إلى الانتفاع به من الأعيان
(1)
ولا ضرر في بذله
؛ لتيسُّره وكثرة وجوده، أو المنافع المحتاج إليها
(2)
؛ يجب بذله مجَّاناً بغير عوض
(3)
.
ويندرج تحت ذلك مسائل:
منها: الهرُّ لا يجوز بيعه على أصحِّ الرِّوايتين
(4)
، وفي
(5)
«صحيح مسلم» النَّهي عنه
(6)
، ومأخذ المنع ما ذكرنا.
ومنها: الماء الجاري والكلأ يجب بذل الفاضل منه للمحتاج إلى
(1)
قوله: (الأعيان) هي في (ب) و (و) و (ن): الأموال والأعيان.
(2)
قوله: (أو المنافع المحتاج إليها) سقط من (ب) و (و) و (ن).
(3)
زاد في (ج) و (د) و (هـ): في الأظهر.
(4)
كتب على هامش (ن): (الذي اختاره الخرقي واحتج له صاحب «المغني»: جواز بيعها، وكذا قدمه في «المقنع»، وتبعه «الوجيز»، وأطلق «المحرر» الروايتين. بهامشه).
(5)
قوله: (وفي) هو في (ب) و (هـ) و (و) و (ن): وثبت في.
(6)
أخرج مسلم (1569) عن أبي الزبير، قال: سألت جابرًا، عن ثمن الكلب والسنور؟ قال:«زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك» .
الشُّرب وإسقاء بهائمه.
وكذلك زروعه على الصَّحيح أيضًا.
وسواء قلنا: يملكه من هو في أرضه أو لا.
والصَّحيح: أنَّ مأخذ المنع من بيعه ما ذكرنا
(1)
، لا أنَّه غير مملوك بملك الأرض؛ فإنَّ النُّصوص متكاثرة عن أحمد بملك المباحات النَّابتة في الأرض.
ويشهد له أيضاً ما نصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور في اللُّقاط: (لا أرى لصاحب الأرض أن يبيعه
(2)
، النَّاسُ فيه سواء)
(3)
، مع أنَّه مملوك له بلا إشكال، ولا يقال: زال ملكه عنه بمصيره منبوذاً مرغوباً عنه؛ لأنَّ المنع والبيع ينافي ذلك.
ومنها: وضع الخشب على جدار الجار إذا لم يضرَّ به.
وكذلك إجراء الماء في أرضه على إحدى الرِّوايتين.
ومنها: إعارة الحليِّ، ظاهر كلام أحمد وجماعة من الأصحاب وجوبه، وصرَّح به بعض المتأخرين.
(1)
كتب على هامش (ن): (قوله: "إن مأخذ المنع من بيعه ما ذكرنا"، يقتضي أنه منع بيعه لوجوب بذله عند الحاجة، وفي وجوب ذلك نظر؛ فإن الكلب لا يجوز بيعه ولا يجب بذله عند الحاجة؛ إذ لو وجب بذله لكان أولى بالذكر من الهر).
(2)
في (ب) و (ن): يمنعه.
(3)
مسائل ابن منصور (9/ 4730).
واختار بعضهم وجوب بذل الماعون، وهو ما خفَّ قدره وسهل؛ كالدَّلو والفأس والقِدر والمُنْخُل، وإعارة الفحل للضِّراب، وهو اختيار الحارثيِّ، وإليه ميل الشَّيخ تقيِّ الدِّين
(1)
.
ومنها: المصحف تجب إعارته لمن احتاج إلى القراءة فيه ولم يجد مصحفاً غيره، نقله القاضي في «الجامع الكبير» ، وذكر ابن عقيل في كلام له
(2)
مفرد أنَّ الأصحاب علَّلوا قولهم: لا يقطع بسرقة المصحف؛ بأنَّ
(3)
له فيه حقَّ النَّظر لاستخراج أحكام الشَّرع إذا خفيت عليه، وعلى صاحبه بذله.
لذلك قال ابن عقيل: وهذا
(4)
تعليل يقتضي التَّسوية بين سرقته وسرقة كتب السُّنن؛ فإنَّها مضمَّنة
(5)
من الأحكام أمثال ذلك، والحاجة إليها داعية، وبذلها للمحاويج إليها من القضاة والحكَّام وأهل الفتاوى واجب على مالكها، انتهى.
ومنها: ضيافة المجتازين، والمذهب وجوبها، وأمَّا إطعام المضطرين؛ فواجب، لكن لا يجب بذله مجَّاناً، بل بالعوض.
وأمَّا المنافع المضطرُّ إليها كمنفعة الظَّهر للمنقطعين في الأسفار، وإعارة ما يضطرُّ إليه؛ ففي وجوب بذلها مجَّاناً وجهان.
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى (28/ 98).
(2)
قوله: (له) سقط من (ب).
(3)
في (ب): لأنَّ.
(4)
في (ب): وكذا.
(5)
في (ب): متضمنة.
واختار الشيخ تقي الدِّين: (أنَّ المضطرَّ إلى الطعام إن كان فقيراً؛ وجب بذله له مجَّاناً؛ لأنَّ إطعامه فرض كفاية؛ فلا يجوز أخذ العوض عنه، بخلاف الغنيِّ؛ فإنَّ الواجب معاوضته فقط)
(1)
، وهذا حسن.
وحكى الآمديُّ رواية: أنَّه لا يضمن المضطرُّ الطَّعام الَّذي أخذه من صاحبه قهراً؛ لمنعه إيَّاه.
ومنها: رباع مكَّة، لا يجوز بيعها ولا إجارتها على المذهب
(2)
المنصوص.
واختلف في مأخذه؛ فقيل: لأنَّ مكَّة فتحت عنوة، فصارت وقفاً أو فيئاً؛ فلا ملك فيها لأحد، وعلى هذا؛ فينبني الخلاف في البيع
(3)
والإجارة على الخلاف في فتحها عنوة أو صلحاً.
وقيل: بل لأنَّ الحرم حريم البيت والمسجد الحرام، قد
(4)
جعله الله للنَّاس؛ سواء العاكف فيه والباد؛ فلا يجوز لأحد التَّخصيص بملكه وتحجره، بل الواجب أن يكون النَّاس فيه شرعاً واحداً؛ لعموم الحاجة إليه، فمن احتاج إلى ما بيده منه سكنه، وإن استغنى عنه وجب بذل فاضله للمحتاج
(5)
إليه، وهو مسلك ابن عقيل في «نظريَّاته» ، وسلكه
(1)
ينظر: الاختيارات (ص 465).
(2)
قوله: (المذهب) سقط من (أ).
(3)
في (أ): المبيع.
(4)
في (ب) وباقي النسخ: وقد.
(5)
في (أ): للحاجة.
القاضي في «خلافه» أيضاً
(1)
.
واختاره الشَّيخ تقيُّ الدِّين
(2)
، وتردَّد كلامه في جواز البيع؛ فأجازه مرَّة؛ كبيع أرض العنوة عنده، ويكون نقلاً لليد بعوض
(3)
، ومنع منه أخرى؛ إذ الأرض وأنقاض البناء من الحرم غير مملوك للباني، وإنَّما له التَّأليف، وقد رُجِّح به بتقديمه في الانتفاع؛ كمن بنى في أرض مسبلة للسُّكنى بناء من ترابها وأحجارها.
ونقل ابن منصور عن أحمد ما يدلُّ على جواز البيع دون الإجارة
(4)
، وتأوَّله القاضي.
وعلى هذا المأخذ؛ فقد يختصُّ المنع بالقول بفتحها عنوة لمصير الأرض فيئاً، وقد نصَّ أحمد في رواية حنبل على أنَّ علَّة الكراهة أنَّها فتحت عنوة
(5)
؛ فصار المسلمون فيها شركاً
(6)
واحداً، قال: (وعمر إنَّما
(1)
كتب على هامش (ن): (كان الأولى تقديم سلوك القاضي له على سلوك ابن عقيل؛ لأن ابن عقيل بعد القاضي وتلميذه، فالظاهر أنه أخذه عنه).
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (17/ 490).
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى (17/ 490)، الاختيارات (ص 179).
(4)
جاء في مسائل ابن منصور (5/ 2305): (قلت: تكره أجور بيوت مكة وشراءها والبناء بمنى؟ قال: أخبرك أني أتوقى الكراء، وأما الشراء فقد اشترى عمر رضي الله عنه دار السجن، وأما البناء بمنى فإني أكرهه).
(5)
ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 363).
(6)
كتب على هامش (ن): (لعله شرعاً).
ترك السَّواد لذلك)، قال:(ولا يعجبني منع منازل السَّواد ولا أرضيهم)
(1)
، وهذا نصٌّ بكراهة
(2)
المنع في سائر أراضي العنوة.
وبكلِّ حال؛ فلا يجب الإسكان في دور مكَّة إلَّا في الفاضل عن حاجة السَّاكن، نصَّ عليه
(3)
.
(1)
ذكرها المصنف في كتابه الخراج (ص 115).
(2)
في (أ): كراهة.
(3)
قال القاضي في الأحكام السلطانية (ص 191): (وقال أيضًا في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث: "أما ما يقول بعض الناس: ينزلون معهم، فإنما يكون هذا إذا كان عنده فضل كثير، وكانت دارًا عظيمة فيها دور، مثل دار صفوان بن أمية وما أشبهها، فأما رجل له منزل فيه حرمته؛ فلا ينبغي لأحد أن ينزل عليه وهو كاره". واستعظم ذلك ممن قاله).
قاعدة [100]
(1)
الواجب بالنَّذر هل يلحق بالواجب بالشَّرع أو بالمندوب
(2)
؟
فيه خلاف تتنزَّل عليه مسائل:
(1)
سقطت هذه القاعدة والتي تليها من (ب).
(2)
كتب على هامش (ن): (وما يتفرَّع على ذلك: أنه لا يجوز له إذا نوى بتيمُّمه منذورة أن يصلِّي فريضة في الصحيح، وقال الشيخ تقي الدين: ظاهر كلامهم لا فرق بين ما وجب بالشَّرع وما وجب بالنذر؛ أي: فهما مثلان يفعل كل منهما بنية كالآخر.
ومن ذلك: أن لا يجوز له أن يصلي المنذورة على الدابة إذا كان مريضاً، ولم يجز له صلاة الفرض عليها على اقتضاء إطلاقهم، أو يتجه فيه خلاف.
وكذا لا يجوز له مع القدرة على القيام أن يصلِّي المنذورة قاعداً على صريح كلامهم، ويتَّجه فيه ما ذكر.
ومن ذلك: أنه لو نذر الصوم فيجب تبييت النية من اللَيل، كأجر ثوابه، ويتَّجه من هذا الأصل أن يصحَّ من النَّهار كالتَّطوع، وهل يجب عليه إمساك بقيَّة النَّهار إذا أفطر فيه عامدًا كما في رمضان أم لا؟ لم أرَ ذلك في كلامهم، ويتَّجه فيه ما ذكر).
منها: الأكل من أضحيّة النَّذر، وفيه وجهان، اختار أبو بكر الجواز
(1)
.
ومنها: فعل الصَّلاة المنذورة في وقت النَّهيِ، وفيه وجهان، أشهرهما الجواز.
ومنها: نذر صيام أيَّام التَّشريق والصَّلاة في وقت النَّهيِ، وفيه وجهان أيضاً.
واختار ابن عقيل: أنَّه كنذر المعصية؛ لأنَّ الملتَزَم بالنَّذر هو التَّطوع المطلق.
ومنها: لو نذر صلاة؛ فهل تجزئه ركعة، أو لا بدَّ من ركعتين؟ على روايتين.
ومنها: لو نذر عتق رقبة؛ لم يجزئه إلَّا سليمة، ذكره القاضي؛ حملاً له على واجب الشَّرع.
ويحتمل أنَّه يجزئه ما يقع عليه الاسم؛ كالوصيَّة؛ فإنَّ القاضي سلَّمها، مع أنَّ المنصوص عن أحمد فيمن وصَّى بعتق رقبة: لا يعتق عنه إلَّا مسلمة.
(1)
كتب على هامش (ن): (ومال إليه صاحب «المغني»، قاله الزركشيُّ).
قاعدة [101]
من خُيِّر بين شيئين، وأمكنه الإتيان بنصفيهما معاً؛ فهل يجزئه أم لا
؟
فيه خلاف يتنزَّل عليه مسائل:
منها: لو أعتق في الكفَّارة نصفي رقبتين، وفيها وجهان.
وقيل: إن كان باقيهما حرًّا؛ أجزأ وجهاً واحداً؛ لتكميل الحريَّة به.
وخرَّجوا على الوجهين: لو أخرج في الزَّكاة نصفي شاتين
(1)
.
وزاد صاحب «التلخيص» : لو أهدى نصفي شاتين. وفيه نظر؛ إذ المقصود من الهدي اللَّحم، ولهذا أجزأ فيه شقص من بدنة، وقد روي عن أحمد ما يدلُّ على الإجزاء ههنا.
ومنها: لو أخرج الجبران في زكاة الإبل شاة وعشرة دراهم؛ فهل يجزئه؟ على وجهين.
ومنها: لو كفَّر يمينه بإطعام خمسة مساكين وكسوة خمسة؛ فإنَّه يجزئ على المشهور.
وفيه وجه مذكور في «شرح الهداية» في زكاة الفطر.
(1)
كتب على هامش (ن): (هل يلتحق بذلك إجزاء نصفي شاتين لمن عليه شاة في فدية ونحوها؟)
ومنها: لو أخرج في الفطرة صاعاً من جنسين؛ والمذهب الإجزاء.
ويتخرَّج فيه وجه آخر.
ومنها: لو كفَّر في محظورات الحجِّ بصيام
(1)
يومٍ وإطعام أربعة مساكين؛ فالأظهر منعه
(2)
.
وفي «أحكام القرآن» للقاضي: يحتمل الجواز؛ لأنَّها على التَّخيير، بخلاف كفَّارة اليمين
(3)
.
وعلى قياس هذا: لو أعتق في كفَّارة اليمين ثلث رقبة
(4)
، وأطعم أربعة مساكين، وكسا أربعة: أنَّه يجزئه. وفيه بُعْد.
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: كفَّارة الحجِّ الحلق ونحوها؛ ممَّا يقوم فيها صيام يوم عن إطعام مسكينين).
(2)
كتب على هامش (ن): (كون الأظهر منعه؛ فيه نظر، وقد يوجَّه بأنَّ الصِّيام بدنيٌّ والإطعام ماليٌّ، فلا يُلَفَّق منهما، بخلاف الإطعام والكسوة فإنَّهما ماليَّان).
(3)
كتب على هامش (ن): (قوله: "بخلاف كفَّارة اليمين"؛ لأنَّ الصِّيام في كفَّارة اليمين ليس على التَّخيير مع بقيَّة خصالها، بخلاف الصِّيام في فدية الأذى؛ فإنَّه يخيَّر بينه وبين الإطعام).
(4)
كتب على هامش (ن): (قوله: "ثلث رقبة"، لو قيل: خُمس رقبة مع إطعام أربعة مساكين وكسوة أربعة كان ظاهراً، ولعلَّ المصنِّف نظر إلى أنَّ الكسوة والإطعام لا يتبعَّضان في الواحد، فكمل ثلث المساكين في الإطعام والكسوة بجعلهم أربعة أربعة؛ إذ ثُلث العشرة ثلاثة وثُلث، ويلتحق بذلك إخراج ثُلث شاة وإطعام مسكينين وصيام يوم في فدية الحلق ونحوه).
ومنها: لو أخرج عن أربعمائة من الإبل أربع حقاق وخمس بنات لبون؛ جاز بغير خلاف عندنا
(1)
؛ لأنَّه عمل بمقتضى قوله: «في كلِّ أربعين بنت لبون، وفي كلِّ خمسين حقَّة»
(2)
، لأنَّ هذه واجبات متعدِّدة؛ فهي ككفَّارات متعدِّدة.
فإن أخرج بتشقيص؛ كما لو أخرج عن مائتين حقَّتين وبنتي لبون ونصفاً؛ فهو كإخراج نصفي شاتين على ما سبق.
(1)
قال في الإنصاف (6/ 412): (لو كانت إبله أربعمائة، فعلى المنصوص: لا يجزئ غير الحقاق. وعلى قول الأصحاب: يخير بين إخراج ثمان حقاق، أو عشر بنات لبون، فإن أخرج أربع حقاق وخمس بنات لبون؛ جاز. قال في «الفروع»: هذا المعروف، وجزم به الأئمة. ثم قال: فإطلاق وجهين سهو. قال في «القاعدة الحادية بعد المائة»: جاز بغير خلاف. قلت: ذكر الوجهين ابن تميم).
(2)
أخرجه البخاري (1454) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
قاعدة [102]
من أتى بسبب يفيد الملك أو الحلَّ أو يسقط الواجبات
(1)
على وجه محرَّم
، وكان مما تدعو النُّفوس إليه؛ ألغي ذلك السَّبب
(2)
، وصار وجوده كالعدم، ولم يترتَّب عليه أحكامه.
ويتخرَّج على ذلك مسائل كثيرة:
منها: الفارُّ من الزَّكاة قبل تمام الحول بتنقيص النِّصاب أو إخراجه عن ملكه؛ تجب عليه الزَّكاة.
ولو أكثر صرف أمواله في تملُّك ما لا زكاة فيه؛ كالعقار والحليِّ؛ فهل ينزل منزلة الفار؟ على وجهين.
ومنها: المطلِّق في مرضه لا يَقطع طلاقُه حقَّ الزَّوجة من إرثها منه، إلَّا أن تنتفي التُّهَمة بسؤال الزَّوجة ونحوه؛ ففيه روايتان.
ومنها: القاتل لمورِّثه
(3)
لا يرثه، وسواء كان متَّهماً أو غير متَّهم عند أكثر
(4)
الأصحاب.
(1)
من قوله في القاعدة السابقة: (الواجب بالنَّذر هل يلحق) إلى هنا نهاية السقط من (ب).
(2)
في (ب) و (و) و (ن): الشَّرط.
(3)
في (ب) وباقي النسخ: لموروثه.
(4)
قوله: (أكثر) سقط من (أ).
وحكى ابن عقيل في «مفرداته» و «عمد الأدلَّة» وجهاً: أنَّه متى انتفت التُّهَمة؛ كقتل الصَّبيِّ والمجنون؛ لم يمتنع الإرث، قال: وهو أصحُّ عندي.
ومنها: قتل الموصى له الموصيَ؛ فإنَّه يبطل الوصيَّة رواية واحدة على أصحِّ الطَّريقين.
ومنها: السَّكران بشرب الخمر عمداً يُجعل كالصَّاحي في أقواله وأفعاله فيما عليه في المشهور من المذهب.
بخلاف من سكر ببنج ونحوه، أو أزال عقله؛ بأن ضرب رأسه فجنَّ؛ فإنَّه لا يقع طلاقه على المنصوص؛ لأنَّ ذلك ممَّا لا تدعو إليه النُّفوس، بل في الطَّبع وازع عنه، ولذلك لا يجب عليه قضاء الصَّلاة إذا جُنَّ في هذه الحالة على الصَّحيح.
ومنها: تخليل الخمر لا يفيد حلَّه ولا طهارته على المذهب الصَّحيح.
ومنها: ذبح الصَّيد في حقِّ المحرم لا يبيحه بالكليَّة، وذبح المحلِّ للمحرم لا يبيحه للمحرم المذبوح له أيضاً، وفي حلِّه لغيره من المحرِمين وجهان.
ولا يَرِد على هذا ذبح الغاصب والسَّارق؛ لأنَّ ذبحهما لا يترتَّب عليه الإباحة لهما؛ فإنَّه باق على ملك المالك ولا إباحة بدون إذنه، مع أنَّ أبا بكر التزم تحريمه مطلقاً، وحكاه رواية.
ويلتحق بهذه القاعدة:
قاعدة
(1)
من تعجَّل حقَّه، أو ما أبيح له قبل وقته على وجه محرَّم؛ عوقب بحرمانه
.
ويدخل فيها من مسائل:
الأولى: مسألة قتل الموروث والموصى له.
ومنها: الغالُّ من الغنيمة يُحرَم سهمَه منها على إحدى الرِّوايتين.
ومنها: من تزوَّج امرأة في عدَّتها؛ حرُمت عليه على التَّأبيد على رواية.
ومنها: من تزوَّجت بعبدها؛ فإنَّه يحرم عليها على التَّأبيد؛ كما روي عن عمر رضي الله عنه، نصَّ عليه أحمد في رواية عبد الله
(2)
.
ذكره الخلَّال في أحكام العبيد عن الخضر بن المثنَّى الكنديِّ عنه، والخضر هذا مجهول، ينفرد عن عبد الله برواية المناكير الَّتي لا يتابع عليها
(3)
.
(1)
هذه القاعدة غير مرقمة في (أ).
(2)
جاء في مسائل عبد الله (ص 323): (حدثني أبي، قال حدثنا هشيم، قال أخبرنا حصين عن بكر بن عبد الله، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى الأمصار: أيما امرأة تزوجت عبدها بغير بينة ولا ولي؛ فاضربوها، وفرقوا بينهما).
وأخرجه سعيد ابن منصور (1/ 224)، وابن أبي شيبة (28761).
(3)
من قوله: (ومنها: من تزوَّجت بعبدها) إلى هنا سقط من (ب).
ومنها: من اصطاد صيداً قبل أن يحلَّ من إحرامه؛ لم يحلَّ له وإن تحلَّل، حتَّى يرسله ويطلقه.
وأمَّا إذا قتل الغريمُ غريمَه؛ فإنَّه يحلُّ دينه عليه، كما لو مات، صرَّح به جماعة من الأصحاب.
ويتخرَّج فيه وجه آخر: أنَّه لا يحلُّ؛ طرداً للقاعدة.
قاعدة [103]
الفعل الواحد يُبنى بعضه على بعض مع الاتِّصال المعتاد، ولا ينقطع بالتَّفرُّق اليسير
.
ولذلك صور:
منها: مكاثرة الماء القليل النَّجس بالماء الكثير يعتبر له الاتِّصال المعتاد، دون صبِّ القلَّتين دفعة واحدة.
ومنها: الوضوء إذا اعتبرنا له الموالاة؛ لم يقطعه التَّفرُّق اليسير.
وهل الاعتبار فيه بالعرف، أو بجفاف الأعضاء؟ على روايتين.
ومنها: الصَّلاة؛ يجوز البناء عليها إذا سلَّم منها ساهياً مع قرب الفصل، ولا تبطل بذلك.
ومنها: المسافر إذا أقام مدَّة يومين؛ فهو سفر واحد، يبنى بعضه على بعض، وإن زاد لم يبن.
ومنها: إذا ترك العمل في المعدِن التَّركَ المعتاد أو لعذر، ولم يقصد الإهمال، ثم عاد إلى الاستخراج؛ ضمَّ الثَّاني إلى الأوَّل في النِّصاب.
ومنها: الطَّواف إذا تخلَّله صلاة مكتوبة أو جنازة؛ يُبنى عليه؛ سواء قلنا: الموالاة فيه سنَّة أو شرط، على أشهر الطَّريقين للأصحاب.
ومنها: لو حلف: لا أكلت إلَّا أكلة واحدة في يومي هذا؛ فأكل
متواصلاً؛ لم يحنث، وإن تفرَّق التَّفرُّق المعتاد على الأكلة الواحدة؛ ولو طال زمن الأكل، وإن قطع ثمَّ عاد بعد طول الفصل؛ حنث، ذكره القاضي في «خلافه» في القطع في السَّرقة.
وقياسه: لو حلف لا وطئها إلَّا مرَّة واحدة، فإنَّ الوطء في العرف عبارة عن الوطء التَّام المستدام إلى الإنزال، ولا يبعد أن يقال مثل ذلك فيمن رتَّب حكماً على مطلق الوطء.
وفي «الترغيب» : أنَّه ظاهر كلام أصحابنا فيما إذا قال: إن وطئتك فوالله لا وطئتك.
ولكنَّ المنصوص الحنث بالتقاء الختانين.
وقد ذكر القاضي وجهاً: أنَّه لا حدَّ على من أكمل الوطء المعلَّق عليه الطَّلاق الثَّلاث بإتمامه إلى الإنزال.
ومنها: لو أخرج السَّارق من الحرز بعض النِّصاب، ثمَّ دخل وأخرج باقيه، وكلٌّ منهما بانفراده لا يبلغ نصاباً، فإن لم يطل الفصل بينهما؛ قطع.
وإن طال؛ ففيه وجهان ذكرهما القاضي في «خلافه «، وصاحب «المحرَّر» ، وعمُّه في «التَّرغيب» ، وقال:(اختار بعض شيوخي أنَّه لا قطع مع طول الفصل).
ومنها: إذا ترك المرتضع الثَّدي بغير اختياره، ثمَّ عاد إليه قبل طول الفصل؛ فهي رضعة واحدة عند ابن حامد.
وكذا ذكر الآمدي: أنَّه لو قطع باختياره لتنفُّس أو إعياء يلحقه ثمَّ
عاد ولم يطل الفصل؛ فهي رضعة واحدة، قال:(ولو انتقل من ثدي إلى آخر ولم يطل الفصل؛ فإن كان من امرأة واحدة؛ فهي رضعة واحدة، وإن كان من امرأتين؛ فوجهان).
وحكى أبو الخطاب عن ابن حامد نحو
(1)
ذلك في جميع الصُّور، إلَّا في صورة المرأتين، وذكر أيضاً أنَّه ظاهر كلام الخرقي، وحكى عن أبي بكر أنَّها تكون رضعتين في جميع ذلك، وأنَّه ظاهر كلام أحمد.
(1)
في (ب): يجوز.
قاعدة [104]
الرِّضا بالمجهول قدراً، أو جنساً، أو وصفاً؛ هل هو رضًا معتبرٌ لازم
؟
إن كان الملتزَم عقداً أو فسخاً يصحُّ إبهامه بالنِّسبة إلى أنواعه، أو إلى
(1)
أعيان من يرد عليه؛ صحَّ الرِّضا به، ولزم بغير خلاف.
وإن كان غير ذلك؛ ففيه خلاف.
فالأوَّل له صور:
منها: أن يُحرِم بمثل ما أحرم به فلان، أو بأحد الأنساك؛ فيصحُّ.
ومنها: طلَّق إحدى زوجاته؛ فيصحُّ، وتُعَيَّن بالقرعة على المذهب.
ومنها: أعتق أحد عبيده؛ فيصحُّ، ويُعيَّن بالقرعة أيضاً على الصَّحيح.
وأمَّا الثَّاني؛ فله صور:
منها: إذا طلَّق بلفظ أعجمي من لا يفهم معناه، والتزم مُوجَبَه عند أهله؛ ففي لزوم الطَّلاق له وجهان.
والمنصوص في رواية أبي الحارث: أنَّه لا يلزمه الطَّلاق، وهو قول القاضي وابن عقيل والأكثرين.
(1)
قوله: (إلى) سقط من (أ).
ومنها: إذا طلَّق العجمي بلفظ الطَّلاق، ولم يفهم معناه، ولكنه التزم مُوجَبَه عند العرب، وفيه الخلاف.
ومنها: إذا أعتق العجمي أو العربي بغير لغته، ولم يفهم معناه، وفيه الخلاف.
ونصَّ أحمد في رواية عبد الله: أنَّه لا يلزمه العتق
(1)
.
ومنها: إذا قال لامرأته: أنت طالق مثل ما طلَّق فلان زوجته، ولم يعلم عدده؛ فهل يلزمه مثل طلاق فلان بكلِّ حال، أو لا يلزمه أكثر من واحدة؟ فيه وجهان.
ومنها: إذا قال: أيمان البيعة تلزمني لأفعلنَّ كذا، ولم يعلم ما هي، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: لا تنعقد يمينه بالكليَّة.
والثَّاني: تنعقد إذا التزمها ونواها، وبه أفتى أبو القاسم الخرقيُّ فيما حكاه عنه ابن بطَّة.
قال أبو القاسم: (وكان أبي يتوقَّف فيها ولا يجيب بشيء).
والثَّالث: ينعقد فيما عدا اليمين بالله بشرط النِّيَّة؛ بناء على أنَّ اليمين بالله لا تصحُّ بالكناية.
وفيه وجه رابع، وهو ظاهر كلام القاضي في «خلافه»: أنَّه يلزمه موجَبُها، نواها أو لم ينوها، وصرَّح به في بعض «تعاليقه» ، وقال: لأنَّ
(1)
جاء في مسائل عبدالله (395): (قال أبي: وكذلك أقول؛ إن كان يفهم الفارسية عتقت، وإن كان لا يفهم لم تعتق؛ لأنه لا يدري).
مِن
(1)
أصلنا وقوعَ الطَّلاق والعتاق بالكتابة
(2)
بالخطِّ وإن لم ينوه.
ومنها: لو قال: أيمان المسلمين تلزمني؛ ففي «الخلاف» للقاضي: يلزمه اليمين بالله والطَّلاق والعتاق والظِّهار والنَّذر، نوى ذلك أو لم ينوه، وهو مفرَّع على قوله في أيمان البيعة.
قال الشَّيخ مجد الدِّين: (وذِكْرُه اليمين بالله والنَّذر مبني على قولنا بعدم تداخل كفَّارتهما، فأمَّا على قولنا بالتَّداخل؛ فيجزئه لهما كفَّارة يمين).
وقياس المشهور عن أصحابنا في يمين البيعة: أنَّه لا يلزمه شيء حتَّى ينويه بالكلية
(3)
ويلتزمه، أو لا يلزمه شيء بالكليَّة حتَّى يعلمه، أو يفرَّق بين اليمين بالله وغيرها، مع أنَّ صاحب «المحرَّر» لم يحك خلافاً في اللُّزوم ههنا، وإن لم ينوها؛ لأنَّ أيمان المسلمين معروفة بينهم، لا سيَّما اليمين بالله وبالطَّلاق والعتاق، بخلاف أيمان البيعة.
ومنها: البراءة من المجهول:
وأشهر الرِّوايات: صحَّتها مطلقاً، سواء جهل المبرِئ قدره أو وصفه، أو جهلهما معاً، وسواء عرفه المبرَأ أو لم يعرفه.
والثَّانية: لا يصحُّ إذا عرفه المبرَأ، سواء علم
(4)
المبرِئ بمعرفته أو لم يعلم.
(1)
في (أ): متى.
(2)
في (ب) وباقي النسخ: بالكناية.
(3)
قوله: (بالكليَّة) زيادة من (ب).
(4)
في (أ) و (و): عرف.
وفيه تخريج آخر
(1)
: أنَّه إن علم بمعرفته به
(2)
؛ صحَّ، وإن ظنَّ جهله به؛ لم يصحَّ؛ لأنَّه غارٌّ له.
والثَّالثة: لا تصحُّ البراءة من المجهول وإن جهلاه، إلَّا فيما تعذَّر علمه للضَّرورة.
وكذلك البراءة من الحقوق في الأعراض والمظالم.
ومنها: البراءة من
(3)
عيوب المبيع إذا لم يُعيَّن منها شيء، وفيه روايتان:
أشهرهما: أنَّه لا يبرأ.
والثَّانية: يبرأ إلَّا من عيب علمه، فكتمه؛ لتغريره وغشِّه.
وخرَّج أبو الخطَّاب وجهاً آخر بالصِّحَّة مطلقاً، من البراءة من المجهول.
ومنها: إجازة الوصيَّة المجهولة، وفي صحَّتها وجهان.
(1)
قوله: (آخر) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن).
(2)
في (أ): فيه.
(3)
في (أ): عن.
قاعدة [105]
في إضافة الإنشاءات والإخبارات إلى المبهمات
.
أمَّا الإنشاءات؛ فمنها العقود، وهي أنواع:
أحدها: عقود التَّمليكات المحضة؛ كالبيع، والصُّلح بمعناه، وعقود التَّوثُّقات؛ كالرَّهن والكفالة، والتَّبرُّعات اللَّازمة بالعقد أو بالقبض بعده؛ كالهبة والصَّدقة.
فلا تصحُّ
(1)
في مبهم من أعيان متفاوتة؛ كعبد من عبيد، وشاة من قطيع، وكفالة أحد هذين الرجلين، وضمان أحد هذين الدَّينين، وفي الكفالة احتمال؛ لأنَّه تبرُّع؛ فهو كالإباحة والإعارة.
وتصحُّ في مبهم من أعيان متساوية مختلطة؛ كقفيز من صبرة، ورطل من زبرة.
فإن كانت
(2)
متميِّزة متفرِّقة؛ ففيه احتمالان ذكرهما في «التلخيص» ، وظاهر كلام القاضي الصِّحَّة؛ فإنَّه ذكر في «الخلاف» أنَّه يصحُّ إجارة
(1)
في (ب) و (د): يصحُّ.
(2)
كتب على هامش (ن): (أي: الأعيان الَّتي تقع عليها هذه العقود).
عين من أعيان متقاربة النَّفع
(1)
؛ لأنَّ المنافع لا تتفاوت كالأعيان.
وإن كانت مختلفة من جنس واحد؛ كصبرةٍ مختلفةِ الأجزاء؛ فوجهان:
أحدهما: البطلان؛ كالأعيان المتميِّزة.
والثَّاني: الصِّحَّة، وله من كلِّ نوع بحصَّته.
والثَّاني: عقود معاوضات غير متمحِّضة؛ كالصَّداق، وعوض الخلع، والصُّلح عن دم العمد؛ ففي صحَّتها على مبهم من أعيان مختلفة وجهان، أصحُّهما: الصِّحَّة.
وفي الكتابة طريقان:
أحدهما: أنَّها كذلك، وهي طريقة القاضي.
والثَّاني: لا يصحُّ وجهاً واحداً؛ لأنَّ عوضها مال محض.
والثَّالث: عقد تبرُّعٍ معلَّقٌ بالموت؛ فيصحُّ في المبهم بغير خلاف؛ لما دخله من التَّوسُّع؛ كعبد من عبيده وشاة من قطيعه.
وهل تُعيَّن بتعيين الورثة أو بالقرعة؟ على روايتين.
ومثله: عقود الإباحات؛ كإعارة أحد هذين الثَّوبين، وإباحة أحد هذين الرَّغيفين.
وكذلك عقود المشاركات والأمانات المحضة، مثل أن يقول: ضارب بإحدى هاتين المائتين - وهما في كيسين- ودع الأخرى عندك
(1)
كتب على هامش (ن): (نحو: دابَّة من دواب، وبيت من بيوت، متقاربة النَّفع).
وديعة، أو ضارب من هذه المائة بخمسين؛ فإنَّه يصحُّ؛ للتَّماثل، ذكره صاحب «التَّلخيص» .
وأمَّا
(1)
إن كان الإبهام في المتملِّك
(2)
:
فإن كان على وجه يؤول إلى العلم؛ كقوله: أعطوا أحد هذين كذا؛ صحَّت الوصيَّة، كما لو قال في الجعالة: من ردَّ عبدي فله كذا.
وإن كان على وجه لا يؤول إلى العلم؛ كالوصيَّة لأحد هذين؛ ففيه روايتان، وعلى الصِّحَّة يُميَّز بالقرعة.
ومنها الفسوخ؛ فما وضع منها على التَّغليب والسِّراية؛ صحَّ في المبهم؛ كالطَّلاق والعتاق.
وخرَّج صاحب «التَّلخيص» وجهاً في الوقف: أنَّه كالعتق؛ لما فيه من التَّحرير.
والمذهب خلافه؛ لأنَّ الوقف عقد تمليك؛ فهو بالهبة أشبه.
وأمَّا الإخبارات:
فما كان منها خبراً دينيًّا، أو كان يجب به حقٌّ على المخبِر؛ قُبل في المبهم.
وإن تعلَّق به وجوب حقٍّ له على غيره؛ لم يقبل إلَّا فيما يظهر فيه عذر الاشتباه؛ ففيه خلاف.
وإن تعلَّق به وجوب الحقِّ على غيره لغيره؛ فحكمه حكم إخبار من
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): فأمَّا.
(2)
في (ب) و (هـ): المملِّك.
وجب عليه الحقُّ.
ويتخرَّج على ذلك مسائل:
منها: لو أخبره أن كلباً ولغ في أحد هذين الإنائين لا بعينه؛ قُبِل، وصار كمن اشتبه عليه طاهر بنجس.
وكذلك لو أخبره بنجاسة أحد الثَّوبين، أو أنَّ أحد هذين اللَّحمين ميتة والآخر مذكَّاة، ونحو ذلك.
ومنها: الإقرار؛ فيصحُّ بالمبهم، ويلزم بتعيينه، مثل أن يقول: أحد هذين ملك لفلان، أو له عندي درهم أو دينار
(1)
.
ويصحُّ للمبهم؛ كما لو أقرَّ أنَّه أعتق أحد هذين العبدين، أو أعتقه موروثه.
وكذلك إذا أقرَّ أنَّه زوَّج إحدى بناته من رجل ولم يسمِّها، ثمَّ مات؛ فإنَّها تُميَّز بالقرعة على المنصوص.
وكذا لو أقرَّ أنَّ هذه العين الَّتي في يده لأحد هذين وديعة ولا أعلمه عيناً؛ فإنَّهما يقترعان عليها، نصَّ عليه.
وكذا لو أقرَّ أنَّه باع هذه العين من أحد هذين، وهما يدَّعيانها؛ فإنَّهما يقترعان عليها، ولو كانت في يد أحدهما، نصَّ عليه في رواية ابن منصور في رجلين ادَّعى كلٌّ منهما أنَّه اشترى من رجل ثوباً، وقال أحدهما: اشتريته بمائة، وقال الآخر: بمائتين، وأقرَّ البائع أنَّه باعه بمائتين ولم يعيِّن؛ فإنَّه يقرع بينهما وإن أقاما بينتين وكان الثَّوب في يد
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: وفي البلد نقود لم يغلب أحدها).
أحدهما
(1)
، وهو اختيار أبي بكر، ولا اعتبار بهذه اليد للعلم بمستندها.
وعنه رواية أخرى ثانية: أنَّها يد معتبرة؛ فتكون العين لصاحبها.
ومع تعارض البيِّنتين يخرج على الخلاف في بيِّنة الدَّاخل والخارج.
ومنها: الدَّعوى بالمبهم؛ فإن كانت بما
(2)
يصحُّ وقوع العقد عليه مبهماً؛ كالوصيَّة والعبد المطلق في المهر ونحوه؛ فإنَّها تصحُّ.
وقال
(3)
في «التَّرغيب» : وألحق أصحابنا الإقرار بذلك، قال: والصَّحيح عندي أنَّ دعوى الإقرار بالمعلوم لا تصحُّ
(4)
؛ لأنَّه ليس بالحقِّ ولا مُوجَبِه؛ فكيف بالمجهول؟!
وأمَّا الدَّعوى على المبهم؛ فلا تصحُّ، ولا تسمع، ولا يثبت بها قسامة ولا غيرها، فلو قال: قَتَل أبي أحدُ هؤلاء الخمسة؛ لم يسمع.
قال في «التَّرغيب» : ويحتمل أن تُسمع للحاجة؛ فإنَّ مثله يقع كثيراً،
(1)
مسائل ابن منصور (6/ 2934).
(2)
في (أ) و (د): مما.
(3)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): قال.
(4)
كتب على هامش (ن): (لأن الإقرار هو لفظ المقرِّ، وليس نفس الحقِّ، ولا موجَبَ الحق الَّذي به وجب الحقُّ، كالبيع مثلاً، فإنَّ الإقرار كاشف لحقٍّ سابق، فلا يصحُّ أن يقال: ادَّعى عليه أنه أقرَّ لي بكذا، إنَّما يقول: ادَّعى عليه بكذا بشرط كونه يعلم حقيَّة ما ادَّعاه، لا لكون المدَّعى عليه أقرَّ به، فإنَّ الإنسان قد يقرُّ بما ليس بحقٍّ).
ويحلف كلُّ واحد منهم، قال: وكذلك يجري في دعوى الغصب والإتلاف والسَّرقة، ولا يجري في الإقرار والبيع إذا قال: نسيت؛ لأنَّه مقصِّر.
ومنها: الشَّهادة بالمبهم؛ فإن كان المشهود به يصحُّ مبهماً؛ صحَّت الشَّهادة به؛ كالعتق والطَّلاق والإقرار والوصيَّة، وإلَّا لم يصحَّ
(1)
، لا سيَّما الشَّهادة الَّتي لا تصحُّ بدون دعوى؛ فإنَّها تابعة للدَّعوى في الحكم.
أمَّا إن شهدت البيِّنة أنَّه أعتق، أو طلَّق، أو أبطل وصيَّة معيَّنة، وادَّعت نسيان عينها؛ ففي القبول وجهان، حكاهما في «المحرَّر» .
وجزم ابن أبي موسى بقبول الشَّهادة بالرُّجوع عن إحدى الوصيَّتين مطلقاً.
وكذلك حُكي عن أبي بكر.
ونقل ابن منصور عن أحمد في شاهدين شهدا على رجل أنَّه أخذ من يتيم ألفاً، وشهد آخران على آخر أنَّه هو الَّذي أخذها: يأخذ الوليُّ بأيِّهما شاء.
ولعلَّ المراد: أنَّه إذا صدَّق إحدى البيِّنتين؛ حكم له بها.
(1)
في (ب): تصحُّ.
فصل
ولو تعلَّق الإنشاء باسم لا يتميَّز به مسمَّاه لوقوع الشَّركة فيه:
فإن لم ينو به في الباطن معيَّناً؛ فهو كالتَّصريح بالإبهام.
وإن نوى به معيَّناً؛ فإن كان العقد ممَّا لا يشترط له الشَّهادة؛ صحَّ، وإلَّا ففيه خلاف.
والإخبار تابع للإنشاء في ذلك.
ويتخرَّج على ذلك مسائل:
منها: ورود عقد النِّكاح على اسم لا يتميَّز مسمَّاه؛ لا يصحُّ، فلو قال: زوَّجتك بنتي وله بنات؛ لم يصحَّ
(1)
.
وأمَّا إن عيَّنا في الباطن واحدة، وعقدا العقد عليها باسم غير مميِّز، نحو أن يقول: بنتي، وله بنات، أو يسمِّيها باسم، وينويا في الباطن غير مسمَّاه
(2)
؛ ففي الصِّحة وجهان:
اختار القاضي: الصِّحَّة في موضع
(3)
.
(1)
كتب على هامش (ن): (وكذا لو قال له: زوَّجتك فاطمة، ولم يقل: بنتي؛ لم يصحَّ؛ لكثرة الفواطم، بخلاف الطَّلاق؛ فلو قال: هند طالق؛ طلقت، ولم يتبعه بقوله زوجتي، فما الفرق؟ قاله عبد الله بن هشام).
(2)
كتب على هامش (ن): (يجوز أن يكون له بنتان أحدهما زينب، والأخرى خديجة فيسمِّيها خديجة، وينويان زينب لمعنى اقتضى ذلك).
(3)
قوله: (الصِّحَّة في موضع) هو في (ب) وباقي النسخ: في موضع الصَّحِّة.
وأبو الخطَّاب، والقاضي في موضع آخر
(1)
: البطلان.
ومأخذه: أنَّ النِّكاح يشترط له الشَّهادة، ويتعذَّر الإشهاد على النِّيَّة.
وعن أبي حفص العكبريِّ: إن كانت المسمَّاة غلطاً لا يحلُّ نكاحها؛ لكونها مزوَّجة، أو غير ذلك
(2)
؛ صحَّ النِّكاح، وإلَّا فلا.
ولو وقع مثل هذا في غير النِّكاح ممَّا لا يشترط له الشَّهادة؛ فإن قلنا في النِّكاح: يصحُّ؛ ففي غيره أولى، وإن قلنا في النِّكاح: لا يصحُّ؛ فمقتضى تعليل من علَّل باشتراط الشَّهادة أن يصحَّ في غيره ممَّا لا يعتبر الإشهاد عليه لصحَّته.
ومنها: الوصيَّة لجاره محمَّد، وله جاران بهذا الاسم؛ وله حالتان:
إحداهما: أن يعلم بقرينة أو غيرها أنَّه أراد واحداً منهما معيَّناً، وأشكل علينا معرفته؛ فههنا تصحُّ الوصيَّة بغير تردُّد، ويخرج المستحِقُّ منهما بالقرعة على قياس المذهب في اشتباه المستحقِّ للمال بغيره من الزَّوجة المطلَّقة والسِّلعة المبيعة وغيرهما.
والحالة الثَّانية: أن يُطْلِق، وقد يذهل عن تعيين أحدهما بعينه؛ فهو كالوصيَّة لأحدهما مبهماً، ولذلك حكى الأصحاب في الصِّحَّة روايتين.
ولكنَّ المنصوص عن أحمد الصِّحَّة، قال صالح: سألت أبي عن رجل مات وله ثلاثة غلمان، ثلاثتهم اسمهم فرج، فأوصى عند موته،
(1)
قوله: (والقاضي في موضع آخر) مكانها في (ب) و (ج) و (هـ) و (و): وغيره.
(2)
كتب على هامش (ن): (أي: غير مزوَّجة).
فقال: فرج حرٌّ، وفرج له مائة، وفرج ليس له شيء. فقال
(1)
: يقرع بينهم، فمن أصابته القرعة؛ فهو حرٌّ، وأمَّا صاحب المائة؛ فلا شيء له، وذلك أنَّه عبد، والعبد هو وماله لسيِّده.
وهذا يدلُّ على صحَّة الوصيَّة مع اشتراك الاسم؛ لأنَّه إنَّما علَّل البطلان ههنا بكونه عبداً؛ فدلَّ على أنَّه لو كان حرًّا لاستحقَّ.
وزعم صاحب «المغني» أنَّ رواية صالح تدلُّ على بطلان الوصيَّة، وخالفه صاحب «المحرَّر» .
ونقل حنبل: قال أبو عبد الله في رجل له غلامان اسمهما واحد، فأوصى عند موته، فقال: فلان حرٌّ بعد موتي، لأحد الغلامين، وله مائتا درهم، وفلان ليس هو حرٌّ، واسمهما واحد؛ قال: يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة؛ فهو حرٌّ، وأمَّا صاحب المائتين؛ فليس له شيء، وذلك أنَّه عبد، والعبد وماله لسيِّده
(2)
.
وهذه تدلُّ على مثل ما دلَّت عليه رواية صالح، لكنَّ السُّؤال يقتضي أن الموصى له بالمائتين هو العتيق، والجواب يدلُّ على خلافه.
ومن ثمَّ زعم صاحب «المحرَّر»
(3)
أنَّها تدلُّ على بطلان الوصيَّة
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): قال.
(2)
ينظر المغني (6/ 225).
(3)
كتب في هامش (هـ): (لعلَّه المغني)، وقد قال في المغني (6/ 225) بعد ذكر الرواية:(ووجه ذلك والله أعلم: أن الوصية بالمائتين وقعت لغير معين، ولا تصح الوصية إلا لمعين).
للإبهام. وليس كذلك؛ لأنَّه إنَّما علَّل بكونه عبداً لم يعتق.
وتأوَّلها القاضي وابن عقيل على أنَّ الوصيَّة لم تصحَّ؛ لكونه عبداً حال الإيصاء، ولا تكفي حريَّته حال الاستحقاق، وعلى هذا فلا تصحُّ الوصيَّة لأمِّ الولد والمدبَّر.
وهو ضعيف جدًّا، وجواب أحمد إنَّما يتنزَّل على أنَّ الموصى له بالدَّراهم غير المعتَق.
ونقل يعقوب بن بختان: أنَّ أبا عبد الله سئل عن رجل له ثلاثة غلمان، اسم كلِّ واحد منهم فرج؛ فقال: فرج حرٌّ، ولفرج مائة درهم، فقال: يقرع بينهم، فمن خرج سهمه؛ فهو حرٌّ، والَّذي أوصى له بالمائة لا شيء له؛ لأنَّ هذا ميراث.
وهذه الرِّواية من جنس ما قبلها، حيث عَلَّل فيها بطلان الوصيَّة بكون العبد الموصى له ميراثاً للورثة.
فهذه الرِّوايات الثلاثة
(1)
الَّتي ساقها الخلَّال في «الجامع» ، وكلُّها دالَّة على الصِّحَّة، وهو قول القاضي.
وساقها أبو بكر في «الشَّافي» على أنَّ الموصى له بالدَّراهم هو المعتق، وأنَّ أحمد صحَّح الوصيَّة له في رواية صالح، وأبطلها في رواية حنبل، قال أبو بكر: وبالصِّحَّة أقول.
وفي «الخلَّال» أيضاً عن مهنَّى: أنَّ أحمد قال في رجلين شهدا على رجل أنَّه أوصى عند موته، فقال: لفلان بن فلان من أصحاب فلان
(1)
في (أ) و (د) و (و): التامة.
ألف درهم، أو أحاله بها والشُّهود لا يعرفون فلان بن فلان، كيف يصنعون وقد مات الرجل؟ فقال: ينظرون في أصحاب فلان فيهم فلان بن فلان من أصحاب فلان، قلت: فإن جاء رجلان، فقال كلُّ واحد منهما: أنا فلان بن فلان من أصحاب فلان؛ قال: فلا يدفع إليهم شيء، حتَّى يكون رجل واحد.
والظَّاهر أنَّ أحمد لم يتوقَّف في الدَّفع إلَّا ليتيقن المستحقَّ من غيره، لا لصحَّة الوصيَّة؛ فإنهَّا ههنا لمعيَّن في نفس الأمر، وإنمَّا اشتبه علينا لاشتراك الاسمين؛ فلذلك وقف الدَّفع على معرفة عين المستحقِّ إذا رُجي انكشافُ الحال، وأمَّا مع الإياس من ذلك؛ فيتعيَّن تعيين المستحقِّ بالقرعة، قاله بعض أصحابنا المتقدِّمين، وهو الحقُّ.
ومنها: اشتباه المدَّعى عليه إذا كتب القاضي إلى قاضٍ ببلد آخر: إنَّ لفلان على فلان بن فلان المسمَّى الموصوف كذا، فأحضره المكتوب إليه بالصِّفة والنَّسب، فادَّعى أنَّ له مشاركاً في ذلك، ولم يثبت؛ حَكَم عليه.
وإن ثبت له مشارك في الاسم والنَّسب والصِّفة؛ وقف حتَّى يُعلم الخصم منهما، ولم يجز القضاء مع عدم العلم.
أمَّا لو كان المدَّعى المكتوب فيه حيوانًا أو عبداً موصوفاً، ولم يثبت له مشارك؛ ففيه وجهان:
أشهرهما: أنَّه يسلَّم إلى المدَّعي مختوم العنق، ويؤخذ منه كفيل حتَّى يأتي القاضي الكاتب فيشهد الشُّهود على عينه، ويقضى له به،
ومتَّى لم يشهدوا على عينه؛ وجب ردُّه إلى الحاكم الَّذي سلَّمه، ويكون في ضمان الَّذي أخذه؛ لأنَّه أخذه بغير استحقاق.
والوجه الثَّاني: لا يسلَّم إلَّا بالشَّهادة على عينه.
والفرق بينها وبين الَّتي قبلها: أنَّ الحرَّ قد طابق قول المدَّعى اسمه ونسبه وصفته، فيبعد الاشتراك في ذلك، والعبد والحيوان إنَّما حصل الاتِّفاق في وصفه أو في وصفه واسمه، والوصف كثير الاشتباه وكذلك الاسم.
ونظير هذا ما ذكروه في شهادة الأعمى أنَّه إن عرف المشهود عليه باسمه ونسبه؛ قبلت شهادته، وإن عرفه برؤية قَبْل عمَاه فوصفه؛ ففي قبولها وجهان؛ لأنَّ الوصف المجرَّد يحصل فيه الاشتراك.
ومنها: لو كان له ابنتان اسمهما واحد، فوهب لإحداهما شيئاً، أو أقرَّ لها، ثمَّ مات ولم يبيِّن، فقال القاضي في بعض تعاليقه: قياس المذهب: إخراج المستحقَّة منهما بالقرعة؛ كما لو أقرَّ أنَّه زوَّج إحدى بناته، ثمَّ مات ولم يبيِّن.
وهذا صحيح؛ لأنَّ الهبة والإقرار هنا وقع لمعيَّن في الباطن، وإنمَّا أشكل علينا الوقوف عليه، فيميَّز بالقرعة.
ومنها: لو وجد في كتاب وقف: أنَّ فلانًا
(1)
وقف على فلان وبني بنيه، واشتبه؛ هل المراد ببني
(2)
بنيه: جمع ابن، أو بني بنته؛ واحدة البنات؟
(1)
في (ب) وباقي النسخ: رجلًا.
(2)
في (ب): بني.
قال ابن عقيل في «فنونه» : يكون بينهما عندنا؛ لتساويهما؛ كما في تعارض البيِّنات.
وقال
(1)
الشَّيخ تقيُّ الدِّين: ليس هذا من تعارض البيِّنات، بل هو بمنزلة تردُّد البيِّنة الواحدة، ولو كان من تعارض البيِّنات؛ فالقسمة عند التَّعارض رواية مرجوحة، وإلَّا فالصَّحيح: إمَّا التَّساقط وإمَّا القرعة، فيحتمل أن يقرع ههنا؛ لأنَّ الحقَّ ثبت لإحدى الجهتين، ولم تعلم عينها، ويحتمل أن يرجَّح بنو البنين؛ لأنَّ العادة أنَّ الإنسان إذا وقف على ولد بنته لا يخصُّ بنيها الذُّكور، بل يعمُّ أولادها، بخلاف الوقف على ولد الذُّكور فإنَّه يخصُّ ذكورهم كثيراً كآبائهم، ولأنَّه لو أراد ولد البنت لسمَّاها باسمها أو لشرَّك بين ولدها وولد سائر بناته، قال: وهذا أقرب إلى الصَّواب.
وأفتى فيمن وقف على أحد أولاده، وله عدَّة أولاد، وجهل اسمه: أنَّه يميَّز بالقرعة.
(1)
في (ب) وباقي النسخ: قال.
قاعدة [106]
ينزَّل المجهول منزلة المعدوم، وإن كان الأصل بقاءه
، إذا يئس من الوقوف عليه أو شقَّ اعتباره.
وذلك في مسائل:
منها: الزَّائد على ما تجلسه المستحاضة من أقلِّ الحيض أو غالبه إلى منتهى أكثره حكمه حكم المعدوم، حيث حكمنا فيها للمرأة بأحكام الطَّاهرات كلِّها، فإنَّ مدَّة الاستحاضة تطول، ولا غاية لها تنتظر، بخلاف الزَّائد على الأقلِّ في حقِّ المبتدأة على ظاهر المذهب، حيث تقضي الصَّوم الواقع فيه قبل ثبوت العادة بالتَّكرار؛ لأنَّ أمره ينكشف بالتَّكرار عن قرب.
وكذلك النِّفاس المشكوك فيه؛ تقضي فيه الصَّوم؛ لأنَّه لا يتكرر.
ومنها: اللُّقطة بعد الحول؛ فإنَّها تتملَّك
(1)
لجهالة ربِّها، وما لا يتملَّك منها
(2)
يتصدَّق به عنه على الصَّحيح
(3)
.
(1)
كتب على هامش (ن): (قوله: (تتملَّك) يشعر بأنَّه لا يملكها حتَّى يختار تملُّكها، والمذهب خلافه).
(2)
كتب على هامش (ن): (وهو ما سوى الأثمان، ولقطة الحرم على رواية فيهما).
(3)
كتب على هامش (ن): (شطب في النُّسخة المعتمدة على قوله: "على الصَّحيح" وما بعده، إلى قوله: "ومنها مال من لا يعلم له وارث"، وصورة المشطوب منها بعد قوله: (ونحوها، ومنها امرأة المفقود لغيبة ظاهرها الهلاك فيما بعد أربع سنين، وذكر نحو خمسة أسطر كلاماً تاماً كما في هذه النُّسخة، لكنَّه رجع عنه، وتعرَّض لذكر هذا النَّوع في القاعدة الثامنة والخمسين بعد المائة).
وكذلك الودائع والغصوب ونحوها.
ومنها: امرأة المفقود لغيبة ظاهرها الهلاك فيما بعد أربع سنين تباح للأزواج، وكذلك يقسم ماله بين الورثة؛ كالميِّت.
لكن هل يثبت له أحكام المعدوم من حين فقده، أو لا يثبت إلَّا من حين إباحة أزواجه وقسمة ماله؟ على وجهين.
ينبني عليهما: لو مات له في مدَّة انتظاره من يرثه؛ فهل يحكم بتوريثه منه أم لا؟
ونصَّ أحمد على أنَّه يزكَّى ماله بعد مدَّة انتظاره، معلِّلا بأنَّه مات وعليه زكاة، وهذا يدلُّ على أنَّه لا يحكم له
(1)
بأحكام الموتى إلَّا بعد المدَّة، وهو الأظهر.
ومنها: مال من لا يعلم له وارث؛ فإنَّه يوضع في بيت المال؛ كالضَّائع، مع أنَّه لا يخلو من بني عمٍّ أعلى؛ إذ النَّاس كلُّهم بنو آدم، فمن كان أسبق إلى الاجتماع مع الميِّت في أب من آبائه؛ فهو عصبته، ولكنَّه مجهول فلم يثبت له حكم، وجاز صرف ماله في المصالح.
(1)
قوله: (له) سقط من (أ).
وكذلك لو كان له مولىً معتِق؛ لورثه في هذه الحال، ولم يلتفت إلى هذا المجهول.
ولنا رواية أخرى: أنَّه ينتقل إلى بيت المال إرثاً لهذا المعنى، فإن أريد أنَّ اشتباه الوارث بغيره يوجب الحكم بالإرث للكلِّ؛ فهو مخالف لقواعد المذهب، وإن أريد أنَّه إرث في الباطن لمعيَّن؛ فيحفظ ميراثه في بيت المال، ثمَّ يصرف في المصالح للجهل بمستحقِّه عيناً، فهو والأوَّل بمعنًى واحد.
وينبني على ذلك مسألة اقتصاص الإمام ممن قتل من لا وارث له، وفي المسألة وجهان:
منهم من بناهما على أنَّ بيت المال هل هو وارث أو لا؟
ومنهم من قال: لا ينبني على ذلك، ثمَّ لهم طريقان:
أحدهما: أنَّه لا يقتصُّ ولو قلنا بأنَّه وارث؛ لأنَّ في المسلمين الصَّبيَّ والمجنون والغائب، وهي طريقة أبي الخطاب.
والثَّاني: يجوز الاقتصاص وإن قلنا: ليس بوارث؛ لأنَّ ولاية الإمام ونظره في المصالح قائم مقام الوارث، وهو مأخذ ابن الزَّاغوني.
ومنها: إذا اشتبهت أخته بنساء أهل مصر؛ جاز له الإقدام على النِّكاح من نسائه، ولا يحتاج إلى التَّحرِّي في ذلك على أصحِّ الوجهين.
وكذلك لو اشتبهت ميتة بلحم أهل مصر أو قرية، أو اشتبه حرام قليل بمباح كثير ونحو ذلك
(1)
؛ إلَّا أن يكثر الحرام ويغلب؛ فتخرج
(1)
كتب على هامش (ن): (ومن ذلك: اشتباه إناء نجس بآنية أهل قرية، أو بأوان كثيرة طاهرة، فإنَّ كلام المصنِّف يشمله، وأطلق الأصحاب حكم ذلك، وتعليلهم يدلُّ على أنَّ مرادهم بكثرة المياه الطَّاهر والثِّياب الطَّاهرة ما لم تبلغ كثرتها إلى حدٍّ يشقُّ اعتباره، كما صرَّحوا به في الثِّياب على قول ابن عقيل في محلِّ الخلاف، وهو الكثرة الَّتي لا يشقُّ معها تكرار الصَّلاة، فأمَّا إذا كانت الكثرة يشقُّ معها ذلك؛ ألحقت المسألة بهذه القاعدة بطريق الأولى، بل لا يتوَّجه فيه خلاف حينئذٍ).
المسألة على تعارض الأصل والظَّاهر؛ كثياب الكفَّار وأوانيهم.
ومنها: طين الشَّوارع محكوم بطهارته على الصَّحيح المنصوص.
ومنها: إذا طلَّق واحدة من نسائه وأنسيها؛ فإنَّها تميَّز بالقرعة، ويحلُّ له وطء البواقي على المذهب الصَّحيح المشهور.
وكذلك لو أعتق واحدة من إمائه.
ومنها: إذا أحرم بنسك وأنسيه، ثمَّ عيَّنه بقران؛ فإنه يجزئه عن الحجِّ.
وهل يجزئه عن العمرة؟ على وجهين:
أشهرهما عند المتأخِّرين: لا يجزئه؛ لجواز أن يكون أحرم بحجٍّ أوَّلاً ثمَّ أدخل عليه العمرة بنيَّة القران؛ فلا تصحُّ عمرته.
والثَّاني: يجزئه؛ لأنَّه إنَّما يمنع من إدخال العمرة على الحجِّ مع العلم، فأمَّا مع عدمه؛ فلا؛ تنزيلاً للمجهول كالمعدوم؛ فكأنَّه ابتدأ الإحرام بهما من حين التعيين.
قاعدة [107]
تمليك المعدوم والإباحة له نوعان:
أحدهما: أن يكون بطريق الأصالة؛ فالمشهور: أنَّه لا يصحُّ.
والثَّاني: أن يكون بطريق التَّبعية؛ فيصحُّ في الوقف والإجازة.
وهذا إذا صرَّح بدخول المعدوم، فأمَّا إن لم يصرِّح، وكان المحلُّ لا يستلزم المعدوم؛ ففي دخوله خلاف.
وكذا لو انتقل الوقف إلى قوم فحَدَث من يشاركهم.
ويتخرَّج على هذه القاعدة مسائل:
منها: الإجازة لفلان ولمن يولد له، فإنَّه يصحُّ، وفعل ذلك أبو بكر بن أبي داود، وهو من أعيان أصحابنا
(1)
، أجاز لشخص ولولده ولحبل الحبلة.
ومنها: الإجازة لمن يولد لفلان ابتداء، فأفتى القاضي فيها بالصِّحَّة، نقله عنه أبو بكر الخطيب.
(1)
هو عبد الله بن سليمان بن الأشعث بن إسحاق، أبو بكر بن أبي داود السجستاني، رحل به والده من سجستان فطوَّف به شرقًا وغربًا، وأسمعه من علماء ذلك الوقت، سمع منه: أبو بكر الشافعي، والدارقطني، وأبو حفص بن شاهين، وأبو عبد الله بن بطة وغيرهم، توفي سنة (316 هـ). ينظر: طبقات الحنابلة 2/ 51.
وقياس قوله في الوقف: عدم الصِّحَّة.
ومنها: الوقف على من يولد له
(1)
؛ فصرَّح القاضي في «خلافه» بأنَّه لا يصحُّ؛ لأنَّه وقف على من لا يملك في الحال، واقتصر عليه؛ فلم يصحَّ؛ كالوقف على العبد.
وقال أحمد في رواية صالح: الوقف يكون: أن يوقفه على ولده، أو من يكون من أقاربه، فإذا انقرضوا؛ فهو صدقة على المساكين أو من رأى
(2)
.
قال الشَّيخ مجدُ الدِّين: (ظاهره يعطي صحَّة الوقف ابتداء على من يولد له، أو يوجد من أقاربه، وهذا عندي وقف معلَّق بشرط) انتهى.
ويمكن أن يحمل على أنَّ مراده من يكون موجوداً من أقاربه، فتكون (كان) ناقصة، وخبرها محذوفاً.
ومنها: لو وقف على ولده وولد ولده أبداً، أو ومن يولد له؛ فيصحُّ
(1)
كتب على هامش (ن): (قال في «التَّلخيص»: ولو قال: أوقفت على من سيولد لي؛ فهو منقطع الأوَّل، وحكمه حكم منقطع الآخر، كما سبق، والَّذي سبق قوله: ولو وقف على جهة ينقطع آخرها، كما إذا وقف على قوم بعينهم، ولم يذكر المصرف بعدهم؛ فإنَّه يصحُّ؛ وإذا انقرضوا لم ينقطع الوقف على مقتضاه، ثمَّ ذكر الخلاف فيمن يُصرف إليه).
(2)
جاء في الوقوف والترجل (ص 28): (أخبرني محمد بن علي، حدثنا صالح أنه قال لأبيه: الوقف كيف يكون؟ قال: يكون أن يوقفه على ولده أو من رأى من أقاربه، فإذا انقرضوا فهو صدقة للمساكين).
بغير إشكال، نصَّ عليه
(1)
.
ومنها: لو وقف على ولده، وله أولاد موجودون، ثمَّ حدث له ولد آخر؛ ففي دخوله روايتان.
وظاهر كلام أحمد دخوله في المولود قبل تأبير النَّخل، وقد سبق، وهو قول ابن أبي موسى أيضاً، وظاهر كلام القاضي وابن عقيل، وأفتى به ابن الزَّاغونيِّ.
ومنها: لو وقف على ولده، ثمَّ على ولدهم أبداً، على أنَّ من مات عن ولد فنصيبه لولده، ومن مات عن غير ولد؛ فنصيبه لمن في درجته، فكان في درجته عند موته اثنان مثلاً، فتناولا نصيبه، ثمَّ حدث ثالث؛ فهل يشاركهم؟
يُخرَّج فيه وجهان من الَّتي قبلها، والدُّخول هنا أولى، وبه أفتى ابن أبي عمر المقدسيُّ؛ لأنَّ الوقف على الأولاد قد يلحظ فيهم أعيان الموجودين عند الوقف، بخلاف الدَّرجة والطَّبقة؛ فإنَّه لا يلحظ فيه إلَّا مطلق الجهة.
وعلى هذا؛ لو حدث من هو أعلى من الموجودين، وكان في الوقف استحقاق الأعلى فالأعلى؛ فإنَّه ينتزعه
(2)
منهم.
فأمَّا حكم الوصيَّة؛ فإنَّها لا تصحُّ لمعدوم بالأصالة؛ كمن تحمل هذه الجارية، صرَّح به القاضي وابن عقيل.
وفي دخول المتجدِّد بعد الوصيَّة وقبل موت الموصي روايتان.
(1)
الوقوف والترجل (ص 28).
(2)
في (ب) و (ج) و (هـ): ينزعه.
وذكر القاضي أيضاً فيمن وصَّى لمواليه، وله مدبَّرون وأمَّهات أولاد؛ أنَّهم يدخلون، وعلَّل بأنَّهم مَوالٍ حال الموت، والوصيَّة تعتبر بحال الموت.
وخرَّجه الشَّيخ تقيُّ الدِّين على الخلاف في المتجدِّد بين الوصيَّة والموت، قال: بل هذا متجدِّد بعد الموت فمنعه أولى.
وهذا الَّذي قاله متوجِّه
(1)
إن علَّقنا
(2)
الوصيَّة بصدق الاسم، فأمَّا إن كان قصد الموصي الوصيَّة لأعيان رقيقه، فسمَّاهم باسم يحدث لهم؛ فإنَّهم يستحقُّون الوصيَّة بغير توقُّف.
وأفتى
(3)
أيضاً بدخول المعدوم في الوصيَّة تبعاً؛ كمن وصَّى بغلَّة ثمره للفقراء إلى أن يحدث لولده ولد فيكون له، وهو قريب من تعليق الوصيَّة بشرط آخر
(4)
بعد الموت.
والمنصوص عن أحمد في رواية أحمد بن الحسين بن حسَّان
(5)
فيمن أوصى أن يتصدَّق في سكَّة فلان بكذا وكذا، فسكنها قوم بعد موت الموصي، قال: إنَّما كانت الوصيَّة للَّذين كانوا، ثمَّ قال: ما أدري
(1)
في (ب): يتوجَّه.
(2)
في (ب): علَّلنا.
(3)
كتب في هامش (ن): (يعني الشيخ تقي الدين).
(4)
زيد في (ن): كان الشرط الأول عدم الولد والثاني وجوده.
(5)
هو أحمد بن الحسين بن حسان، من أهل سر من ري، صحب الإمام أحمد وروى عنه أشياء. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 39.
كيف هذا؟ قيل: فيشبه هذا الكُورة
(1)
؟ قال: لا، الكُورة وكثرة أهلها خلاف هذا المعنى، ينزل قوم ويخرج قوم، يقسم بينهم.
ففرَّق بين الكُورة والسِّكَّة؛ لأنَّ الكُورة لا يلحظ الموصي فيها قوماً معيَّنين؛ لعدم انحصار أهلها، وإنَّما المراد تفريق الوصيَّة الموصى
(2)
بها، فيستحقُّ المتجدِّد فيها، بخلاف السِّكَّة، فإنَّه قد يلحظ أعيان سكَّانها الموجودين لحصرهم.
ويفارق الوقف في ذلك الوصيَّة؛ لأنَّ الوقف تحبيس وتسبيل يتناول المتجدِّد من الطِّباق، فكذا من الطَّبقة الواحدة، بخلاف الوصيَّة فإنَّها تمليك، فيستدعي موجوداً في الحال.
(1)
الكورة: المدينة والصقع، والجمع: كور. ينظر: الصحاح (2/ 810)، لسان العرب (5/ 156).
(2)
قوله: (الموصى) سقط من (أ) و (د) و (و) و (ن).
قاعدة [108]
ما جُهل وقوعه مترتِّباً أو متقارناً؛ هل
(1)
يحكم عليه بالتَّقارن أو بالتَّعاقب
؟
فيه خلاف، والمذهب: الحكم بالتَّعاقب؛ لبُعْد
(2)
التَّقارن.
ويندرج تحت ذلك صور:
منها: المتوارثون إذا ماتوا جملة بهدم أو غرق أو طاعون، وجهل تقارن موتهما وتعاقبه؛ حكمنا بتعاقبه على المذهب المشهور، وورَّثنا كلَّ واحد منهما من الآخر من تلاد ماله، دون ما ورثه من صاحبه.
وخرَّج أبو الخطَّاب رواية أخرى: بعدم التَّوارث؛ للشَّكِّ في شرطه.
وكذلك لو علم سبق أحدهما بالموت وجهل عينه، أو علم عينه ثمَّ نسي على المذهب، لكن هذا يستند إلى أنَّ يقين الحياة لا تشترط للتَّوريث.
ومنها: إذا أقيم في المصر جُمعتان لغير حاجة، وشكَّ هل أحرم بهما معاً فيبطلان وتعاد الجمعة، أو أحرم بهما مترتِّبتين؛ فيصلِّي الظُّهر؟ على وجهين:
(1)
في (ب) و (د) و (هـ): فهل.
(2)
في (ب): لتعذُّر.
أصحُّهما: تعاد الظُّهر؛ لأنَّ التَّقارن مستبعد.
وعلى الثَّاني: تعاد الجمعة؛ إمَّا لاحتمال المقارنة، أو تنزيلاً للمجهول كالمعدوم.
ومنها: إذا زوَّج الوليَّان، وجهل هل وقع العقدان معاً؛ فيبطلان، أو مترتِّبين فيصحَّح أحدهما بالقرعة؟ ففيه وجهان أيضاً:
أحدهما: يبطلان؛ لاحتمال التَّقارن.
والثَّاني: لا؛ لاستبعاده
(1)
.
ومنها: إذا أسلم الزَّوجان الكافران قبل الدُّخول، واختلفا هل أسلما معاً أو متعاقبين؛ فهل القول قول مدَّعي التَّقارن فلا ينفسخ النِّكاح، أو مدَّعي التَّعاقب؛ لأنَّ الظَّاهر معه؟ على وجهين، يرجعان إلى تعارض الأصل والظَّاهر.
ومنها: إذا كان في يد رجل عبد، فادَّعى رجلان كلٌّ منهما أنَّه باعه هذا العبد بألف، وأقاما بذلك بيِّنتين، ولم يؤرِّخا؛ فهل يصحُّ العقدان، ويلزمه الثَّمنان؛ لجواز أن يكونا في عقدين في وقتين
(2)
مختلفين، وجد استرجاع العبد بينهما، أو تتعارض البيِّنتان؛ لجواز أن يكونا عقداً واحداً، فيسقطان، والأصل براءة ذمَّته؟ على وجهين.
(1)
كتب على هامش (ن): (ومن هذه القاعدة: ما إذا أذن كل واحد من شريكي العنان لشريكه في إخراج زكاته، فأخرجها وجهل هل وقع الإخراج معاً أو مترتِّباً؟ فذكر في شرح «المحرَّر»: أنَّ حكم ذلك حكم ما إذا علم وقوعهما معاً، ولم أجد المسألة في كلام غيره، وهو متَّجه).
(2)
قوله: (في وقتين) سقط من (أ)، وهو في (و): زمنين. وفي (ن): زمانين.
قاعدة [109]
المنع من واحد مبهم من أعيان، أو معيَّن مشتبه بأعيان يؤثر الاشتباه فيها المنع
؛ يمنع التَّصرُّف في تلك الأعيان قبل تمييزه.
والمنع من الجمع يمنع التَّصرُّف في القدر الَّذي يحصل به الجمع خاصَّة، فإن حصل الجمع دفعة واحدة؛ منع من الجميع مع التَّساوي، فإن كان لواحد منها
(1)
مزيَّة على غيره؛ بأن يصحَّ وروده على غيره ولا عكس؛ اختصَّ الفساد به على الصَّحيح.
والمنع من القدر المشترك كالمنع من الجميع يقتضي العموم.
وللأوَّل أمثلة:
منها: إذا طلَّق واحدة مبهمة؛ مُنع من وطء زوجاته حتَّى تُميَّز
(2)
بالقرعة على الصَّحيح.
وحكى رواية أخرى: أنَّه يميِّزها بتعيينه.
ومنها: إذا أعتق أمة من إمائه مبهمة؛ مُنع من وطء واحدة منهنَّ حتَّى يُميِّز
(3)
المعتَقة بالقرعة.
(1)
في (أ) و (ن): منهما.
(2)
في (أ) و (د): يميَّز.
(3)
في (ب)(ج): تميَّز.
وفيه وجه بالتَّعيين.
ومنها: إذا اشتبهت المطلَّقة ثلاثاً بزوجاته؛ مُنع من وطء واحدة منهنَّ حتَّى يميِّز
(1)
المطلَّقة، وتميُّزها
(2)
بالقرعة على ظاهر المذهب.
ومنها: لو اشتبهت أخته بعدد محصور من الأجنبيَّات؛ مُنع من التَّزوُّج بكلِّ واحدة منهنَّ حتَّى يعلم أخته من غيرها.
ومنها: إذا اشتبهت ميتة بمذكَّاة؛ فإنَّه يمنع من الأكل منهما حتَّى يعلم المذكَّاة.
ومنها: اشتباه الآنية النَّجسة بالطَّاهرة، يمنع من الطَّهارة بواحد منها حتَّى يتيقَّن عين الطَّاهر.
ومنها: لو حلف بالطَّلاق لا يأكل تمرة، فاختلطت في تمر
(3)
؛ فإنَّه يمنع من أكل تمرة منه حتَّى يعلم عين التَّمرة، وإن كنَّا لا نحكم عليه بالحنث بأكل واحدة.
ومنها: لو حلف بطلاق زوجاته ألَّا يطأ واحدة منهنَّ، ونوى واحدة
(4)
مبهمة؛ فإنَّه يمنع من الوطء حتَّى يميِّزها بالقرعة.
وقيل: بتعيينه.
ومنها: لو أعطينا الأمان لواحد من أهل حصن، أو أسلم واحد منهم، ثمَّ تداعوه؛ حرم قتلهم بغير خلاف.
(1)
في (ب) و (ن): تميَّز.
(2)
في (ب) و (ج) و (هـ): تمييزها.
(3)
في (أ) و (د): ثمر.
(4)
قوله: (واحدة) سقط من (أ).
وفي استرقاقهم وجهان:
أحدهما: وهو المنصوص: أنَّه يحرم مع التَّداعي
(1)
.
والثَّاني: أنَّه يخرج واحد منهم بالقرعة ويرقُّ الباقون، وهو قول أبي بكر والخرقيِّ، ورجَّحه ابن عقيل في روايتيه؛ إلحاقاً له باشتباه المعتَق بغيره، وكما لو أقرَّ أنَّ أحد هذين الولدين من هذه الأمة ولده، ثمَّ مات ولم يوجد قافة؛ فإنَّا نقرع لإخراج الحريَّة، وإن كان أحدهما حرَّ الأصل.
والصَّحيح الأوَّل؛ لأنَّ أهل الحصن لم يسبق لهم رقٌّ، فإرقاقهم إلَّا واحداً يؤدِّي إلى ابتداء الإرقاق مع الشَّكِّ في إباحته، بخلاف ما إذا كان أحد المشتبهين رقيقاً؛ فأخرج غيره بالقرعة، فإنَّه إنَّما يستدام الرقُّ مع الشَّكِّ في زواله.
وللثَّاني أمثلة:
منها: إذا ملك أختين أو أمًّا وبنتاً؛ فالمشهور: أنَّ له الإقدام على وطء واحدة منهما ابتداء، فإذا فعل؛ حرمت الأخرى.
وعن أبي الخطَّاب: أنَّه يمنع من وطء واحدة منهنَّ حتَّى يحرِّم الأخرى، ونقل ابن هانئ عن أحمد ما يدلُّ عليه، وهو راجع إلى تحريم إحداهما مبهمة.
والأوَّل أصحُّ؛ لأنَّ المحرَّم هو ما يحصل به الجمع.
(1)
جاء في مسائل ابن هانئ (2/ 121): (سألت أبا عبد الله عن القوم يكونون في حصن، فيستأمن منهم عشرة، فينزل عشرة غيرهم، فيقولون: لنا كان الأمان، ثم نزل عشرة آخرون، فيقولون: لنا كان الأمان، قلت: فلمن هو منهم؟ قال: يؤمنون كلهم).
ومنها: إذا وطئ الأختين واحدة بعد الأخرى؛ فهل يمنع من وطئهما جميعاً حتَّى يحرِّم إحداهما؛ لثبوت استفراشهما جميعاً، أم تباح له الأولى إذا استبرأ الثَّانية؛ لأنَّها أخصُّ بالتَّحريم، حيث كان الجمع حاصلاً بوطئها؟
على وجهين، والأظهر ههنا الأوَّل؛ لثبوت الفراش لهما جميعاً، فيكون الممنوع منهما واحدة مبهمة.
ومنها: إذا أسلم الكافر وتحته أكثر من أربع نسوة، فأسلمن أو كنَّ كتابيَّات؛ فالأظهر: أنَّ له وطء أربع منهنَّ، ويكون اختياراً منه؛ لأنَّ التَّحريم إنَّما يتعلَّق بالزِّيادة على الأربع.
وكلام القاضي قد يدلُّ على هذا، وقد يدلُّ على تحريم الجميع قبل الاختيار.
ومنها: لو قال لزوجاته الأربع: والله لا وطئتكنَّ، وقلنا: لا يحنث بفعل البعض:
فأشهر الوجهين: أنَّه لا يكون مولياً حتَّى يطأ ثلاثاً؛ فيصير حينئذ مولياً من الرَّابعة، وهو قول القاضي في «المجرَّد» وأبي الخطَّاب؛ لأنَّه يمكنه وطء كلِّ واحدة منهنَّ من غير حنث، فلا تكون يمينه مانعة، بخلاف ما إذا وطئ ثلاثاً؛ فإنَّه لا يمكنه وطء الرَّابعة بدون حنث.
والثَّاني: هو مولٍ في الحال من الجميع، وهو قول القاضي في «خلافه» ، وابن عقيل في «عمده» ، وقالا: هو ظاهر كلام أحمد.
ومأخذ الخلاف: أنَّ الحكم المعلَّق بالهيئة الاجتماعية هل هو حكم
على ما يتمُّ به مسمَّاها حسب، أو على مجموع الأجزاء في حالة الاجتماع دون الانفراد؟
فعلى الثَّاني: يكون مولياً من الجميع، ويتوقَّف حنثه بوطء كلِّ واحدة على وطء البواقي معها.
ومنها: إذا زنى بامرأة وله أربع نسوة؛ ففي «التَّعليق» للقاضي: يمنع من وطء الأربع حتَّى يظهر بالزَّانية حمل
(1)
.
واستبعده الشَّيخ مجد الدِّين
(2)
، وهو كما قال؛ لأنَّ التَّحريم هنا لأجل الجمع بين خمس، فيكفي فيه أن يمسك عن واحدة منهنَّ، وصرَّح به صاحب «التَّرغيب» .
وقد ذكر صاحب «المغني» مثله فيمن أسلم على خمس نسوة ففارق واحدة؛ فإنَّه يمسك عن وطء واحدة منهنَّ حتَّى تستبرئ المفارَقة.
ومنها: إذا تزوَّج خمساً أو أختين في عقد واحد؛ فالنِّكاح باطل؛ لأنَّ الجمع حصل به، ولا ميزة للبعض على البعض؛ فبطل، بخلاف ما إذا تزوَّجهنَّ في عقود متفرِّقة.
وذكر القاضي في «خلافه» احتمالاً بالقرعة فيما إذا زوَّج الوليَّان من
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: وتضعه، أو حتَّى تستبرئ).
(2)
كتب على هامش (ن): (قال في «المحرَّر»: ومن وطئ امرأة بشبهة أو زنى؛ لم يجز في العدَّة أن يتزوَّج أختها ولا يطأها إن كانت زوجته، نصَّ عليه، وفي وطء أربع سواها بالزَّوجيَّة، وابتداء العقد على أربع وجهان؟ انتهى. أحد الوجهين: يحرم).
رجلين دفعة واحدة، وهذا مثله، ولكن هذا لعله يخالف الإجماع، قاله الشَّيخ مجد الدِّين، ولكنه يعتضد بالرِّواية الَّتي نقلها ابن أبي موسى فيمن قال لعبيده: أيُّكم جاءني بخبر كذا وكذا؛ فهو حرٌّ، فأتاه به اثنان معاً؛ عتق واحد منهما بالقرعة
(1)
.
وكذلك لو قال: أوَّل غلام يطلع عليَّ فهو حرٌّ، أو أوَّل امرأة تطلع عليَّ فهي طالق، فطلع عليه عبيده كلُّهم، ونساؤه كلُّهنَّ؛ أنَّه تَطْلُق ويَعْتِق واحد منهم بالقرعة، نصَّ عليه في رواية مهنَّى
(2)
، وأقرَّه القاضي وصاحب «المغني» في موضع منه على ظاهره، وتأوَّلاه مرَّة على أنَّهم اطَّلعوا واحداً بعد واحد، وأشكل السَّابق، وهذا هو الأظهر؛ لأنَّه المعتاد وغيره بعيد.
أمَّا إن كان لبعضهم مزيَّة؛ فله صور:
منها: إذا تزوَّج أمًّا وبنتاً في عقد واحد؛ ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل النِّكاحان معاً، وهو قول القاضي وابن عقيل وصاحب «المغني»
(3)
.
والثَّاني: يبطل نكاح الأمِّ وحدها
(4)
، حكاه صاحب «الكافي» ، وبه
(1)
ينظر: الإرشاد لابن أبي موسى (ص 440).
(2)
ينظر: المغني (10/ 339).
(3)
في (ب) و (هـ) و (و): الكافي. وهي مشطوب عليها في (أ).
(4)
كتب على هامش (ن): (جزم في «المغني» بفساد النِّكاح فيها، ولم يحكِ فيه خلافاً، وحكى في «الكافي» وجهين، وقدَّم منهما: الفساد فيها أيضاً).
جزم صاحب «المحرَّر» ؛ لأنَّ نكاح البنت لا يُمنع بنكاح
(1)
الأمِّ إذا عري عن الدُّخول، بخلاف العكس فكان نكاح الأمِّ أولى بالإبطال.
ومنها: لو أسلم الكافر على أمٍّ وبنت لم يدخل بواحدة منهما؛ فالمذهب: أنَّه ينفسخ نكاح الأمِّ وحدها، وتحرم على التَّأبيد، ويثبت نكاح البنت، نصَّ عليه أحمد فيما ذكره القاضي في «خلافه» ، واتَّفق الأصحاب عليه.
وبناه القاضي على أنَّ أنكحة الكفَّار صحيحة، فإذا صحَّ النِّكاح في البنت؛ صارت أمُّها من أمَّهات نسائه، فحرمت عليه، قال: ولو لم يكن صحيحاً فيهما؛ كان له أن يختار أيَّهما شاء.
وهذا يخالف
(2)
ما قرَّره في «الجامع الكبير» : أنَّ العقد الفاسد في النِّكاح يحرِّم ما يحرِّمه الصَّحيح، وهذا النِّكاح غايته أنَّه فاسد؛ لأنَّه مختلف في صحَّته.
والمنصوص عن أحمد في رواية أبي طالب: أنَّه يفرَّق بينه وبين الأمِّ والبنت؛ لأنَّهما
(3)
قد حرمتا عليه
(4)
.
(1)
في (ب) و (ن): نكاح.
وكتب في هامش (ن): (صوابه: لأن نكاح الأم لا يمنع نكاح البنت)، وكتب أيضًا:(أو يقال: لا يمنعه نكاح الأم، ويصح الكلام).
(2)
في (أ): بخلاف.
(3)
قوله: (لأنَّهما) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ).
(4)
ينظر: أحكام أهل الملل والردة من الجامع لمسائل الإمام أحمد بن حنبل (ص 155).
وهذا محمول على ما إذا وجد الدُّخول بهما؛ لأنَّه قال في تمام الرِّواية: (إذا كان تحته أختان؛ فُرِّق بينه وبين إحداهما، وإذا كان تحته فوق أربع؛ فرِّق بينه وبين الزِّيادة)، فدلَّ على أنَّه لم يجعله كابتداء العقد.
ومنها: لو تزوَّج صغيرة وكبيرة، ولم يدخل بها حتَّى أرضعت الصَّغيرة؛ فسد نكاح الكبيرة؛ لمصيرها من أمَّهات نسائه.
وفي الصَّغيرة روايتان:
إحداهما: يفسد نكاحها أيضاً، كمن عقد على أمٍّ وبنت ابتداء.
والثَّانية: لا يبطل، وهي أصحُّ.
ومسألة الجمع في العقد قد سبق الخلاف فيها، وعلى التَّسليم فيها؛ فالفرق بينها وبين مسألتنا: أنَّ الجمع ههنا حصل في الاستدامة دون الابتداء، والدَّوام أقوى من الابتداء، فهو كمن أسلم على أمٍّ وبنت.
ومنها: لو كان تحت ذميٍّ أربع نسوة، ثمَّ استُرقَّ للحوقه بدار الحرب أو غيره، قال الشّيخ مجد الدِّين: يحتمل أن يتخيَّر منهنَّ اثنتين؛ كما لو أسلم عبد وتحته أربع، ويحتمل أن يبطل نكاح الجميع؛ كالرَّضاع الحادث المحرِّم للجمع.
ومنها: لو تزوَّج حرَّة وأمة في عقد، وهو فاقد لشرط نكاح الإماء؛ فإنَّه يبطل نكاح الأمة وحدها على الأصحِّ؛ لأنَّ الحرَّة تمتاز عليها بصحَّة ورود نكاحها عليها في مثل هذه الحال، ولا عكس.
وللثَّالث - وهو المنع من القدر المشترك - أمثلة:
منها: لو قال لزوجاته: والله لا وطئت إحداكنَّ، ناوياً بذلك الامتناع من وطء مسمَّى إحداهنَّ، وهو القدر المشترك بين الجميع؛ فيكون مولياً من الجميع، مع أنَّ العموم يستفاد أيضاً من كونه مفرداً مضافاً.
أمَّا لو قال: لا وطئت واحدة منكنَّ؛ فالمذهب الصَّحيح: أنَّه يعمُّ الجميع، وهو قول القاضي والأصحاب؛ بناء على أنَّ النَّكرة في سياق النَّفيِ تفيد العموم.
وحكى القاضي عن أبي بكر: أنَّه يكون مولياً من واحدة غير معيَّنة، وأخذه من قوله:(إذا آلى من واحدة منهنَّ وأشكلت عليه؛ أخرجت بالقرعة)، ولا يصحُّ هذا الأخذ كما لا يخفى.
وحكى صاحب «المغني» عن القاضي كذلك.
والقاضي مصرِّح بخلافه، فإنَّه قال:(هو إيلاء من الجميع رواية واحدة)، لكنَّه قال:(متى وطئ واحدة منهنَّ؛ انحلَّت اليمين من الكلِّ، بخلاف ما إذا قال: لا وطئت كلَّ واحدة منكنَّ، أو لا وطئتكنَّ؛ فإنَّه إذا وطئ واحدة منهنَّ؛ حنث، وبقي الإيلاء من البواقي وإن لم يحنث بوطئهنَّ؛ لأنَّ حقَّهنَّ من الوطء لم يستوفَ).
والفرق بين الصُّور الثَّلاث: أنَّ قوله: (لا أطأ كلَّ واحدة منكنَّ)، أو (لا أطؤكنَّ) في قوَّة أيمان متعدِّدة؛ لإضافته إلى متعدِّد، بخلاف قوله:(لا أطأ واحدة منكنَّ)، فإنَّه مضاف إلى مفرد منكَّر موضوع
بالأصالة لنفيِ الوحدة، وعمومه عموم بدل لا شمول، فاليمين فيه واحدة، فتنحلُّ
(1)
بالحنث بوطء واحدة.
ولكن مقتضى هذا التَّفريق: أن تتعدَّد الكفَّارة في الصُّورتين الأوليَيْن بوطء كلِّ واحدة، وهو قياس إحدى الرِّوايتين في الظِّهار من نسائه بكلمة واحدة، أنَّ الكفَّارة تتعدَّد.
ويمكن أن يقال: النَّكرة في سياق النَّفي إن قيل: إنَّها تعمُّ بوضعها كما تعمُّ صيغ الجموع؛ فالصُّور الثَّلاث متساوية، وإن قيل: إنَّ عمومها جاء ضرورة نفي الماهيَّة؛ فالمنفيُّ بها واحد لا تعدُّد فيه، وهو الماهيَّة المطلقة، فيتَّجه تفريق القاضي المذكور، والله تعالى أعلم.
ومنها: إذا قال: إن خرجت من الدَّار مرَّة بغير إذني فأنت طالق، ونوى بذلك القدر المشترك بين المرَّات؛ اقتضى العموم بغير إشكال.
وإن أطلق؛ فقال القاضي في «خلافه» : تتقيَّد يمينه بمرَّة واحدة، وسلَّم أنَّه لو أذن لها مرَّة، فخرجت بإذنه، ثمَّ خرجت بعد ذلك بغير إذنه؛ لم تطلق.
وخالفه أبو الخطَّاب وابن عقيل في «خلافيهما» ، وهو الحقُّ.
ثمَّ اختلف المأخذ؛ فقال ابن عقيل: ذِكر المرَّة تنبيه على المنع من الزِّيادة عليها.
وظاهر كلام أبي الخطَّاب: أنَّ العموم أتى من دخول النَّكرة في النَّفي.
(1)
في (أ) و (د): فينحلُّ.
ولا حاجة إلى ذلك كلِّه؛ فإنَّ اليمين عندنا إنَّما تنحلُّ بالحنث، ولو خرجت مائة مرَّة بإذنه؛ لم تنحلَّ اليمين بذلك عندنا، والمحلوف عليه قائم، وهو خروجها مرَّة بغير إذنه؛ فمتى وجد؛ ترتَّب عليه الحنث.
قاعدة [110]
من ثبت له أحد أمرين:
فإن اختار أحدهما؛ سقط الآخر.
وإن أسقط أحدهما؛ ثبت الآخر.
وإن امتنع منهما:
فإن كان امتناعه ضرراً على غيره؛ استوفي له الحقُّ الأصليُّ الثَّابت له إذا كان ماليًّا.
فإن لم يكن حقًّا ثابتاً؛ سقط.
وإن كان الحقُّ غير ماليٍّ؛ أُلزم بالاختيار.
وإن كان الحقُّ
(1)
واجباً له وعليه؛ فإن كان مستحِقُّه غير متعيِّن
(2)
؛ حبس حتَّى يعينه ويوفيه، وإن كان مستحِقُّه معيَّناً؛ فهل يحبس أو يستوفى منه الحقُّ الَّذي عليه؟ فيه خلاف.
وإن كان حقًّا عليه وأمكن استيفاؤه منه؛ استوفي.
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): حقًّا.
(2)
كتب على هامش (ن): (كذا في الأصل، وصوابه: معيَّن).
وإن كان عليه حقَّان أصل وبدل، فامتنع من البدل؛ حكم عليه بالأصل
(1)
.
ويندرج تحت هذه القاعدة صور:
منها: لو عفا مستحِقُّ القصاص عنه، وقلنا: الواجب أحد أمرين؛ تعيَّن له المال.
ولو عفا عن المال؛ ثبت له القَوَد.
ومنها: لو اشترى شيئاً، فظهر على عيب فيه، ثمَّ استعمله استعمالاً يدلُّ على الرِّضا بإمساكه
(2)
؛ لم يسقط حقُّه من المطالبة
(3)
بالأرش عند ابن عقيل؛ لأنَّ العيب موجِب لأحد شيئين، إمَّا الرَّدُّ وإمَّا الأرش، فإسقاط أحدهما لا
(4)
يسقط به الآخر.
وقال ابن أبي موسى والقاضي: يسقط الأرش أيضاً. وفيه بُعْد.
ومنها: لو أتاه الغريم بدينه في محلِّه، ولا ضرر عليه في قبضه؛ فإنَّه يؤمر بقبضه أو إبرائه، فإن امتنع
(5)
؛ قبضه له الحاكم، وبرئ غريمه.
ومنها: لو امتنع الموصى له من القبول والرَّدِّ؛ حكم عليه بالرَّدِّ،
(1)
كتب على هامش (و): (المستوفي لذلك كله فيما ذكر المصنف هو الحاكم).
(2)
قوله: (بإمساكه) سقط من (أ) و (و).
(3)
قوله: (من المطالبة) سقط من (ب).
(4)
في (أ): لم.
(5)
كتب على هامش (و): (يعني: من القبض والإبراء).
وسقط حقُّه من الوصيَّة
(1)
.
ومنها: لو تحجَّر مواتاً، وطالت مدَّته ولم يحيه، ولم يرفع يده عنه
(2)
؛ فإنَّ حقَّه يسقط منه
(3)
.
ومنها: لو أسلم على أختين، أو أكثر من أربع نسوة، وامتنع من الاختيار؛ حُبس وعزِّر حتَّى يختار
(4)
.
ومنها: لو أخَّرت المعتَقة تحت عبدٍ الاختيارَ حتَّى طالت المدَّة؛ أجبرها الحاكم على اختيار الفسخ أو الإقامة بالتَّمكين من الاستمتاع.
ومنها: لو أبى المولي بعد المدَّة أن يفيء أو يطلِّق
(5)
؛ فروايتان:
إحداهما: يحبس
(6)
حتَّى يفيء أو يطلِّق.
والثَّانية: يفرِّق الحاكم بينهما.
(7)
(1)
زيد في (ن): لأن حقه لم يكن ثابتاً.
(2)
كتب على هامش (و): (أُلزِم بأن يختار أحدهما).
(3)
كتب على هامش (ن): (لكونه لم يكن ثابتاً).
(4)
كتب على هامش (ن): (لأنَّ الحقَّ غير ماليٍّ).
(5)
كتب على هامش (ن): (قوله: "أن يفيء أو يطلِّق" الصَّواب أن يقال: أن يفيء ويطلِّق، فإنَّه لو امتنع من أحدهما فقط؛ لم يكن فيه روايتان).
(6)
كتب على هامش (ن): (هذه المسألة مثال لما يكون الحقُّ واجباً له وعليه، ومستحِقُّه معيَّن، ولم يذكر مثال ما مستحِقُّه غير معيَّن، وقد قدَّمه في ترجمة القاعدة، فليطلب له مثال).
(7)
كتب على هامش (ن): (هذا مثال للحقِّ الَّذي عليه، وقد أمكن استيفاؤه منه عند امتناعه).
ومنها: لو حلَّ دين الرَّهن وامتنع من توفيته، وليس ثَمَّ وكيل في البيع؛ باعه الحاكم ووفَّى الدَّين منه.
ومنها: لو ادُّعي عليه، فأنكر، وطُلب منه اليمين، فنكل عنها؛ قُضي عليه بالنُّكول، وجُعل مُقِرًّا؛ لأنَّ اليمين بدل عن الإقرار أو عن البذل، فإذا امتنع من البدل
(1)
؛ حكم عليه بالأصل
(2)
.
ومنها: لو نكل المدَّعى عليه عن الجواب بالكليَّة؛ فإن كانت الدَّعوى ممَّا يقضى فيها بالنُّكول؛ فهل يقضى عليه به هنا، أم يحبس حتَّى يجيب؟ على وجهين.
وإن كانت ممَّا لا يُقضى فيها بالنُّكول؛ كالقتل والحدِّ؛ فهل يحبس حتَّى يقرَّ
(3)
، أو يخلَّى سبيله؟ على وجهين.
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: وهو اليمين).
(2)
كتب على هامش (ن): (أي: وهو الإقرار أو البذل).
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: أو يجيب بالإنكار).
قاعدة [111]
إذا كان الواجب بسببٍ واحدٍ أحدَ شيئين، فقامت حجَّة تثبت بها أحدهما دون الآخر؛ فهل يثبت به أم لا؟ على روايتين
.
ويخرَّج عليها مسائل:
منها: إذا قلنا: موجب قتل العمد أحد شيئين، فإذا ادَّعى أولياء المقتول على وليِّ القاتل في القسامة، فنكل؛ فهل يلزمه الدِّيَة؟ على روايتين.
ومنها: لو ادَّعى جراحة عمد على شخص، وأتى بشاهد وامرأتين؛ فهل تلزمه دِيَتها؟ على الرِّوايتين.
والصَّحيح فيهما
(1)
: عدم وجوب الدِّيَة؛ لئلَّا يلزم أن يجب بالقتل الدِّيَة عيناً.
وأمَّا إن قلنا: موجَب القتل القصاص عيناً، فالدِّيَّة بدل؛ فلا يجب بما لا يجب به المبدل.
ومنها: لو شهد رجل وامرأتان بقتل عبدٍ عبداً عمداً؛ فهل يثبت بذلك غرم قيمة العبد دون القود؟ على روايتين حكاهما صاحب «المحرَّر» ، وذكر أنَّ رواية وجوب القيمة رواها ابن منصور.
(1)
في (أ) و (ج) و (و): فيها.
وتأملت رواية ابن منصور فإذا ظاهرها: أنَّ القاتل كان حرًّا؛ فلا تكون جنايته موجبة للقود؛ فلا تكون المسألة من هذا القبيل، بل من نوع آخر، وهو إذا كانت الجناية موجبة للمال عيناً، وقامت بها بيِّنة يثبت بها المال دون أصل الجناية
(1)
؛ فهل يجب بها المال؟ على روايتين.
كما لو كانت الجناية عمداً
(2)
توجب المال دون القود، وأتى عليها بشاهد وامرأتين، أو ادَّعى قتل كافر في الصَّفِّ وأتى بشاهد وحلف معه؛ فهل يستحقُّ بذلك سَلَبه؟ على الرَّوايتين.
(1)
كتب في هامش (ج) و (هـ): (جناية الخطأ في «الهداية» و «المقنع» يقبل فيها شاهد ويمين، ورجل وامرأتان رواية واحدة، وحكى صاحب «شرح الهداية» عن أبي بكر: لا يثبت إلَّا برجلين، وحكى في «المحرَّر» روايتين). زاد في (ن): (من النسخة المعتمدة).
(2)
زاد في (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): خطأ أو عمدًا.
قاعدة [112]
إذا اجتمع للمضطر محرَّمان، كلُّ واحدٍ
(1)
منهما لا يباح بدون الضَّرورة
؛ وجب تقديم أخفِّهما مفسدة، وأقلِّهما ضرراً؛ لأنَّ الزِّيادة لا ضرورة إليها؛ فلا تباح.
ويتخرَّج على ذلك مسائل:
منها: إذا وجد المحرِم صيداً وميتة؛ فإنَّه يأكل الميتة، نصَّ عليه أحمد
(2)
؛ لأنَّ في أكل الصَّيد ثلاث جنايات: صيده، وذبحه، وأكله، وأكل الميتة فيها جناية واحدة.
وعلى هذا: لو
(3)
وجد لحم صيد ذبحه مُحْرِم وميتة؛ فإنَّه يأكل لحم الصَّيد، قاله القاضي في «خلافه» ؛ لأنَّ كلًّا منهما فيه جناية واحدة، ويتميَّز الصَّيد بالاختلاف في كونه مذكًّى.
وفي هذا نظر؛ فإنَّ أكل الصَّيد جناية على الإحرام، ولهذا يلزمه بها الجزاء عند الحنفيَّة
(4)
، وهو مستغنٍ عن ذلك بالأكل من الميتة
(5)
.
(1)
قوله: (واحد) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ).
(2)
ينظر: مسائل ابن هانئ (2/ 134).
(3)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): فلو.
(4)
ينظر: المبسوط للسرخسي (4/ 86)، الهداية (1/ 169).
(5)
في (أ): بأكل الميتة.
ثمَّ وجدت أبا الخطَّاب في «انتصاره» اختار أكل الميتة معلِّلًا بما ذكرنا.
ولو وجد بيض صيد؛ فظاهر كلام القاضي: أنَّه يأكل الميتة، ولا يكسره ويأكله؛ لأنَّ كسره جناية؛ كذبح الصَّيد.
ومنها: نكاح الإماء والاستمناء، كلٌّ منهما إنَّما يباح للضَّرورة، ويقدَّم نكاح الإماء كما نصَّ عليه ابن عبَّاس
(1)
؛ لأنَّه مباحٌ بنصِّ الكتاب، والآخر متردَّد فيه.
وقال ابن عقيل في «مفرداته» : الاستمناء أحبُّ من نكاح الأمة. وفيه نظر
(2)
.
وأمَّا نكاح الإماء ووطء المستحاضة؛ فقال ابن عقيل في روايتيه: إنَّما يباح وطء المستحاضة عند خوف العنت، وعدم الطَّول لنكاح غيرها
(3)
.
وظاهر هذا: أنَّ نكاح الأمة
(4)
مقدَّم عليه، ويوجَّه بما ذكرنا من النَّصِّ على إباحة نكاح الإماء دون وطء المستحاضة، فإنَّه في معنى وطء
(1)
روى عبدالرزاق (13588)، وابن أبي شيبة (17489) عن أبي يحيى، قال: رأيت رجلًا سأل ابن عباس، فقال: يا ابن عباس! إني رجل أعبث بذكري حتى أنزل، قال: فقال ابن عباس: «أف أف، هو خير من الزنى، ونكاح الإماء خير منه» .
(2)
قال في الإنصاف (26/ 466): (وهو كما قال).
(3)
كتب على هامش (و): (أي: سواء كانت أمة أو حرة).
(4)
في (ب): الإماء.
الحائض؛ لكونه دم أذىً.
ومنها: من أبيح له الفطر لشبقه، ولم يمكنه الاستمناء، واضطر إلى الجماع؛ فله فعله.
فإن وجد زوجة مكلَّفة صائمة، وأخرى حائضاً؛ ففيه احتمالان ذكرهما صاحب «المغني «:
أحدهما: وطء الصَّائمة أوْلى؛ لأنَّ أكثر ما فيه أنَّها تفطر لضرر غيرها، وذلك جائز؛ كفطرها لأجل الولد، وأمَّا وطء الحائض؛ فلم يعهد في الشَّرع جوازه، فإنَّه حرِّم للأذى، ولا يزول الأذى بالحاجة إليه.
والثَّاني: يخيَّر؛ لتعارض مفسدة وطء الحائض من غير إفساد عبادة عليها، وإفساد صوم الطَّاهرة.
(1)
والأوَّل هو الصَّحيح؛ لما ذكرنا من إباحة الفطر لأسباب، دون وطء الحائض.
ومنها: إذا ألقي في السَّفينة نارٌ، واستوى الأمران في الهلاك - أعني: المقام في النَّار، وإلقاء النُّفوس في الماء- فهل يجوز إلقاء النُّفوس في الماء
(2)
، أو يلزم المقام؟
على روايتين، والمنقول عن أحمد في رواية مهنَّى أنَّه قال: (أكره
(1)
كتب على هامش (ن): (قد يؤخذ من هذا التَّعليل: أنَّه لو لم يجد إلَّا حائضاً؛ جاز له وطؤها، وكذا لو لم يجد إلَّا صائمة).
(2)
قوله: (في الماء) سقط من (أ).
طرح نفوسهم في البحر)
(1)
، وقال في رواية أبي داود:(يصنع كيف شاء)، قيل له: هو في اللُّجِّ لا يطمع في النَّجاة، قال:(لا أدري)
(2)
، فتوقَّف.
ورجَّح ابن عقيل وغيره: وجوب المقام مع تيقُّن الهلاك فيهما
(3)
؛ لئلَّا يكون قاتلاً لنفسه، بخلاف ما إذا لم يتيقَّنوا ذلك؛ لاحتمال النَّجاة بالإلقاء.
(1)
ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 379).
(2)
ينظر: مسائل أبي داود (ص 331).
(3)
كتب على هامش (و): (أي: في المقام والإلقاء).
قاعدة [113]
إذا وجدنا جملة ذات أعداد موزَّعة على جملة أخرى؛ فهل تتوزَّع أفراد الجملة الموزَّعة على أفراد الأخرى
، أو كلُّ فرد منها على مجموع الجملة الأخرى؟
هذه على قسمين:
الأوَّل: أن يوجد قرينة تدلُّ على تعيين أحد الأمرين، فلا خلاف في ذلك.
فمثال ما دلَّت القرينة فيه على توزيع الجملة على الجملة الأخرى، فيقابل كلُّ فرد كامل بفرد يقابله، إمَّا لجريان العرف، أو دلالة الشَّرع على ذلك، وإمَّا لاستحالة ما سواه
(1)
:
أن يقول لزوجتيه: إن أكلتما هذين الرَّغيفين فأنتما طالقتان، فإذا أكلت كلُّ واحدة منهما رغيفاً؛ طلقتا؛ لاستحالة أكل كلِّ واحدة للرَّغيفين.
أو يقول لعبديه: إن ركبتما دابَّتيكما، أو لبستما ثوبيكما، أو تقلَّدتما سيفيكما، أو اعتقلتما رمحيكما، أو دخلتما بزوجتيكما؛ فأنتما حرَّان؛ فمتى وجد من كلِّ واحد ركوب دابَّته، أو لبس ثوبه، أو تقلُّد سيفه، أو
(1)
كتب على هامش (و): (أي: سوى توزيع الجملة على الجملة الأخرى).
رمحه، أو الدُّخول بزوجته؛ ترتَّب عليهما العتق؛ لأنَّ الانفراد بهذا عرفيٌّ، وفي بعضه شرعيٌّ
(1)
، فيتعيَّن صرفه إلى توزيع الجملة على الجملة، ذكره في «المغني» .
ومثال ما دلَّت القرينة فيه على توزيع كلِّ فرد من أفراد الجملة على جميع أفراد الجملة الأخرى: أن يقول رجل لزوجتيه: إن كلَّمتما زيداً وكلَّمتما عمراً
(2)
؛ فأنتما طالقتان، فلا يطلقان حتَّى تكلِّم
(3)
كلُّ واحدة منهما زيداً وعمراً.
والقسم الثَّاني: ألَّا
(4)
يدلَّ دليل على إرادة أحد التَّوزيعين؛ فهل يحمل التَّوزيع عند هذا الإطلاق على الأوَّل أو الثَّاني؟ في المسألة خلاف.
والأشهر: أنَّه يوزَّع كلُّ فرد من أفراد الجملة على جميع أفراد الجملة الأخرى إذا أمكن، وصرَّح بذلك القاضي، وابن عقيل، وأبو الخطَّاب في مسألة الظِّهار من نسائه بكلمة واحدة، ولذلك لا يذكر الخلاف إلَّا في بعض الصُّور، ويجب طرده في سائرها ما لم يَمنع منه مانع.
(1)
كتب على هامش (و): (وهو الدخول بزوجتيهما).
(2)
في (ب): وعمرًا.
(3)
في (أ) و (ج) و (د) و (ن): يكلِّم.
(4)
في (أ): لا.
ولذلك أمثلة كثيرة:
منها: قوله صلى الله عليه وسلم في تعليل مسحه على الخفَّين: «إنِّي أدخلتهما وهما طاهرتان»
(1)
هل المراد: أنَّه أدخل كلَّ واحدة من قدميه الخفَّين، وكلُّ واحدة منهما طاهرة، أو المراد: أنَّه أدخل كِلا القدمين الخفَّين، وكلُّ قدم في حال إدخالها طاهرة؟
وينبني على ذلك مسألة ما إذا غسل إحدى رجليه ثمَّ أدخلها الخفَّ، ثمَّ غسل الأخرى وأدخلها الخفَّ:
فعلى التَّوزيع الأوَّل - وهو توزيع المفرد على الجملة-: لا يجوز المسح؛ لأنَّه في حال إدخال الرِّجل الأُولى الخفَّ لم تكن الرِّجلان طاهرتين.
وعلى الثَّاني -وهو توزيع المفرد على المفرد- يصحُّ.
وفي المسألة روايتان عن أحمد، ولكنَّ القائل بأنَّ الحدث الأصغر لا يتبعَّض، وأنَّه لا يرتفع إلَّا بعد استكمال الطَّهارة يمنع طهارة الرِّجل الأولى عند دخولها الخفَّ.
نعم، وُجدت طهارتهما عند استكمال لبس الخفَّين، وذلك من باب توزيع الجملة على الجملة
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري (206)، ومسلم (274) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(2)
كتب في هامش (ج) و (هـ): (قيل للقاضي: لوقال: إن قربت امرأتيك، وهما طاهران، فأعطهما درهمين- في (ج): درهم-، لم تقتض كونهما طاهرين في حال قرب إحداهما، ولو قال - في (ج): قالا-: إذا مررت بزيد وعمرو، وهما قائمان أو قاعدان، أو مصلِّيان؛ فأعطهما درهماً، لم يقتض كونهما جميعاً على هذه الصِّفة في حال مروره بأحدهما، فلم يجب عنه، ولكنَّه سلَّمه).
ومنها: مسألة مُدِّ عجوة، وهي قاعدة عظيمة مستقلَّة بنفسها، فلنذكر ههنا مضمونها ملخَّصاً.
فنقول: إذا باع ربويًّا بجنسه ومعه من غير جنسه
(1)
، من الطَّرفين أو أحدهما؛ كمدِّ عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم، أو مدِّ عجوة ودرهم بمدِّي عجوة، أو بدرهمين؛ ففيه روايتان:
أشهرهما: بطلان العقد، وله مأخذان:
أحدهما: وهو مسلك القاضي وأصحابه؛ أنَّ الصَّفقة إذا اشتملت على شيئين مختلفي القيمة؛ يقسَّط الثَّمن على قيمتهما، وهذا يؤدِّي ههنا إمَّا إلى يقين التَّفاضل، وإمَّا إلى الجهل بالتَّساوي، وكلاهما مبطل للعقد في أموال الرِّبا.
وبيان ذلك: أنَّه إذا باع مدًّا -يساوي درهمين- ودرهماً، بمدَّين يساويان
(1)
كتب على هامش (ن): (أعمُّ من أن يكون غير جنسه ربويًّا كالمسألة المفروضة، أو غير ربويٍّ، كمائة درهم، وليس في مقابلة ما بقي دراهم كما يأتي).
ثلاثة دراهم؛ كان الدِّرهم في مقابلة ثلثي مدٍّ، ويبقى مدٌّ في مقابلة مدٍّ وثلث، وذلك ربًا.
وكذلك إذا باع مدًّا -يساوي درهمين- ودرهماً، بمدِّين يساويان ثلاثة دراهم؛ فإنَّه يتقابل الدِّرهم بثلثي مدٍّ، ويبقى مدٌّ وثلث في مقابلة مدٍّ
(1)
.
وأمَّا إن فرض التَّساوي؛ كمدٍّ -يساوي درهماً- ودرهم، بمدٍّ يساوي درهمين
(2)
؛ فإنَّ التَّقويم ظنٌّ وتخمين، فلا يتيقَّن معه المساواة
(3)
، والجهل بالتَّساوي ههنا كالعلم بالتَّفاضل.
فلو فرض أن المدَّين من شجرة واحدة أو زرع واحد، وأنَّ الدِّرهمين من نقد واحد؛ ففيه وجهان ذكرهما القاضي في «خلافه» احتمالين:
أحدهما: الجواز؛ لتحقق المساواة.
والثاني: المنع؛ لجواز أن يتغيَّر أحدهما قبل العقد، فتنقص قيمته وحده.
وصحَّح أبو الخطَّاب في «انتصاره» المنع؛ قال: لأنَّا لا نقابل مدًّا بمدٍّ ودرهماً بدرهم، بل نقابل مدًّا بنصف مدٍّ ونصف درهم، ولذلك لو خرج مستحقًّا؛ لاستردَّ ذلك، وحينئذٍ؛ فالجهل بالتَّساوي قائم.
(1)
في (ج) و (ن) و (و) و (هـ): وكذلك إذا باع مدًّا -يساوي درهمًا- ودرهمين، بمدِّين يساويان ثلاثة دراهم؛ فإنَّه يتقابل الدِّرهم بمدٍّ وثلث، ويبقى ثلثا مدٍّ في مقابلة مدٍّ.
(2)
قوله: (درهمين) هو في (ج) و (د) و (هـ) و (و): درهماً ودرهم.
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: والحال أنَّه لا بدَّ من العلم بالمساواة، ولا يكفي غلبة الظَّنِّ في ذلك).
هذا ما ذكروه في تقرير هذه الطَّريقة، وهو عندي ضعيف؛ لأنَّ المنقسم هو قيمة
(1)
الثَّمن على قيمة المثمن، لا أجزاء أحدهما على قيمة الآخر.
ففيما إذا باع مدًّا -يساوي درهمين- ودرهماً، بمدَّين يساويان ثلاثة، لا نقول: الدَّرهم مقابل بثلثي مدٍّ، بل نقول: ثلث الثَّمن مقابِل لثلث المثمن
(2)
، فيقابل ثلث المدَّين بثلث مدٍّ وثلث درهم، ويقابل ثلثا المدَّين بثلثي مدٍّ وثلثي درهم، فلا ينفكُّ مقابلة كلِّ جزء من المدَّين بجزء من المدِّ والدِّرهم.
ولهذا لو باع شقصاً وسيفاً بمائة درهم وعشرة دنانير؛ لأخذ الشَّفيع الشِّقص بحصته من الدَّراهم والدَّنانير.
نعم، يحتاج إلى معرفة ما يقابل الدِّرهم أو المدَّ من الجملة الأخرى
(1)
كتب على هامش (ن): (ينبغي أن يزاد على هذا: "أو أجزاء الثَّمن على أجزاء المثمن"، ثمَّ يعقِّب بقوله: "لا أجزاء أحدهما على قيمة الآخر").
(2)
كتب على هامش (ن): (وفي هذا مقابلة لجزء الثَّمن بجزء المثمن، وليس قسمه قيمة أحدهما على قيمة الآخر، ومقتضى قول القاضي وأصحابه: توزيع أجزاء أحدهما على قيمة الآخر، والمصنِّف ضعَّف مسلك القاضي؛ بأنَّ المنقسم قيمة أحدهما على قيمة الآخر، ثمَّ إنَّه ههنا قسَّم أجزاء أحدهما على أجزاء الآخر فخالف تفريعه لتأصيله، والمتعيِّن أن يقال: التَّوزيع إما للأجزاء فيكون على الأجزاء، أو للقيمة فتكون على القيمة، أما توزيع قيمة على أجزاء فلا).
إذا ظهر أحدهما مستحقًّا أو رُدَّ بعيب أو غيره؛ ليُردَّ ما قابله من عوضه، حيث كان المردود ههنا معيَّناً مفرداً.
أمَّا مع صحَّة العقد في الكلِّ واستدامته؛ فإنَّا نوزِّع أجزاء الثَّمن على أجزاء المثمن بحسب
(1)
القيمة، وحينئذٍ؛ فالمفاضلة المتيقَّنة كما ذكروه منتفية.
وأمَّا أنَّ المساواة غير معلومة؛ فقد يُعلم في بعض الصُّور كما تقدَّم
(2)
.
(3)
والمأخذ الثَّاني: أنَّ ذلك ممنوع؛ سدًّا لذريعة الرِّبا، فإنَّ اتِّخاذ ذلك حيلة على الرِّبا الصَّريح واقع كبيع مائة درهم في كيس بمائتين؛ جعلًا للمائة في مقابلة الكيس، وقد لا يساوي درهماً، فمنع ذلك وإن كانا مقصودين؛ حسماً لهذه المادة، وفي كلام أحمد إيماء إلى هذا المأخذ.
والرِّواية الثَّانية: يجوز ذلك بشرط أن يكون مع الرِّبويِّ من غير جنسه مع الطَّرفين
(4)
، أو يكون مع أحدهما، ولكنَّ المفرد أكثر من
(1)
في (أ): حسب.
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): سبق.
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: فيما إذا كان المدَّان من شجرة واحدة أو زرع واحد، والدِّرهمان من نقد واحد).
(4)
كتب على هامش (ن): (إطلاق هذه الرِّواية يشمل ما إذا كان ما مع الرِّبويِّ من الطَّرفين مختلف القدر، نحو: مدِّ عجوة ودرهم بمدِّ عجوة ودرهمين، خلافاً لما سيأتي عن السَّامريِّ من اشتراط تساويهما).
الَّذي معه غيره، نصَّ عليه
(1)
أحمد في رواية جماعة
(2)
؛ جعلاً لغير الجنس في مقابلة الجنس، أو في مقابلة الزِّيادة.
ومن المتأخِّرين -كالسَّامريِّ - من شرط فيما إذا كان مع كلِّ واحد من غير جنسه من الجانبين التَّساوي؛ جعلاً لكلِّ جنس في مقابلة جنسه، وهو أولى من جعل الجنس في مقابلة غيره، لا سيَّما مع اختلافهما في القيمة.
وعلى هذه الرِّواية؛ فإنَّما يجوز ذلك ما لم يكن حيلة على الرِّبا، وقد نصَّ أحمد على هذا الشَّرط في رواية حرب، ولا بدَّ منه
(3)
.
وعلى هذه الرِّواية: يكون التَّوزيع ههنا للأفراد على الأفراد، وعلى الرِّواية الأولى هو من باب توزيع الأفراد على الجمل، أو توزيع الجمل على الجمل.
وللأصحاب في المسألة طريقة ثانية: وهي أنَّه لا يجوز بيع المحلَّى
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): عليها.
(2)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 322).
(3)
جاء في التعليقة للقاضي (3/ 271): (وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية أبي حرب الجرجرائي: إذا دفع دينارًا كوفيًا ودرهمًا، وأخذ دينارًا شاميًا، فإن كان وزن الدينارين سواء؛ فلا يجوز، إلا أن ينقص أحد الدينارين، فيعطيه بحسابه فضة.
وقال في رواية ابن منصور في بيع الزبد باللبن الذي فيه زبدة، فقال: إذا كان الزبد أكثر من الزبد الذي في اللبن، فيكون بعضه في مقابلة الزبد الذي في اللبن، وبعضه في مقابلة المخيض.
وقد نقل مهنى عنه خلاف هذا، فقال: أكره بيع الزبد باللبن. فمنع منه على الإطلاق).
بجنس حليته قولاً واحداً، وفي بيعه بنقد آخر روايتان، ويجوز بيعه بعَرض رواية واحدة، وهذه طريقة أبي بكر في «التَّنبيه» ، وابن أبي موسى، والشِّيرازيِّ، وأبي محمَّد التَّميميِّ، وأبي عبد الله الحسين الهمذانيِّ في كتاب «المقتدى»
(1)
.
ومن هؤلاء من جزم بالمنع من بيعه بنقد من جنسه وغير جنسه؛ كأبي بكر في «التَّنبيه» ، وقال الشَّيرازيُّ:(والأظهر المنع)
(2)
.
ومنهم من جزم بالجواز في بيعه بغير جنسه؛ كالتَّميميِّ.
ومنهم من حكى الخلاف؛ كابن أبي موسى.
ونقل البرزاطيُّ عن أحمد ما يشهد لهذه الطَّريقة في حليٍّ صيغ من مائة درهم فضَّة ومائة نحاس: أنَّه لا يجوز بيعه كلُّه بالفضَّة ولا بالذَّهب، ولا بوزنه من الفضَّة والنُّحاس، ولا يجوز بيعه حتَّى تخلص الفضَّة من النُّحاس، ويبيع كلَّ واحد منهما وحده.
وفي توجيه هذه الطَّريقة غموض، وحاصله: أنَّ بيع المحلَّى بنقد بجنسه قبل التَّمييز والتَّفصيل بينه وبين حليته يؤدِّي إلى الرِّبا؛ لأنَّه بيع ربويٌّ بجنسه من غير تحقُّق مساواة؛ لأنَّ بعض الثَّمن يقابل العرض، فيبقى الباقي مقابلاً للرِّبويِّ، ولا يتحقَّق مساواته له.
وأمَّا مع تميُّز الرِّبويِّ ومعرفة مقداره؛ فإنَّما منعوا منه إذا ظهر فيه
(1)
هو الحسين بن الهمذاني، أبو عبد الله، شمس الحفاظ، له كتاب "المقتدى" في الفقه في المذهب، قال ابن رجب:(ولا أعلم من حاله غير هذا). ينظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/ 10.
(2)
قوله: (وقال الشِّيرازيُّ: الأظهر المنع). هو في (أ): (والشِّيرازيُّ، والأظهر: المنع)
وجه الحيلة، أو كان التَّفاضل فيه متيقَّناً؛ كبيع عشرة دراهم مكسَّرة بثمانية صحاح، وفَلْسين أو ألفٍ صحاحاً بألف مكسَّرة، وثوب أو ألف صحاحاً ودينار؛ بألف ومائة مكسَّرة، هكذا ذكره ابن أبي موسى.
وأمَّا بيعه بنقد آخر أو بربويٍّ من غير جنسه، ولكن علَّة الرِّبا فيهما واحدة؛ فالخلاف فيه مبنيٌّ على الخلاف في بيع الموزونات أو المكيلات بعضها ببعض جزافاً، وفي جوازه روايتان، واختيار أبي بكر وابن أبي موسى والقاضي في «خلافه»: المنع، وعلَّلوه: بأنَّه لو استُحِقَّ أحدهما لم يدرِ بما يرجع على صاحبه، فيؤدِّي إلى الرِّبا من جهة العقد.
وهكذا علَّل أهل هذه الطَّريقة المنع في هذه المسألة، وفيه ضعف، فإنَّ المستحقَّ لم يصحَّ العقد فيه، وعوضه ثابت في الذِّمة، فتجوز المصالحة عنه كسائر الدُّيون المجهولة.
وهذا الخلاف يشبه الخلاف في اشتراط العلم برأس مال السَّلم، وضبط صفاته، وأنَّه إذا أسلم
(1)
جنسين؛ لم يجز حتَّى يبيِّن قسط كلِّ واحد منهما، فإنَّ السَّلم والصَّرف متقاربان، وهذا كلُّه في الجنسين.
فأمَّا بيع نوعي جنس بنوع منه، ففيه طريقان:
أحدهما: أن حكم نوعي الجنس حكم الجنسين، وهو طريق القاضي وأصحابه؛ نظراً إلى توزيع العوض بالقيمة، فيؤدِّي ذلك ههنا إلى يقين المفاضلة؛ إذ ليس ههنا شيء من غير الجنس يجعل في مقابلة الفاضل.
(1)
كتب على هامش (ن): (لعلَّه: في).
والثَّاني: الجواز ههنا، وهو طريق أبي بكر رحمه الله، ورجَّحه صاحبا «المغني» و «التَّلخيص» ؛ نظراً إلى أنَّ الجودة والرَّداءة لا تعتبر في الرَّبويَّات مع اتِّحاد النَّوع، فكذا في الجنس الواحد، والتَّقسيط إنَّما يكون في غير أموال الرِّبا، أو في غير الجنس الواحد
(1)
، بدليل ما
(2)
لو باع نوعاً بنوع يشتمل على جيِّد ورديء؛ كان المذهب: جوازه.
ولكن ذكر أبو الخطَّاب في «انتصاره» فيه احتمالاً بالمنع، ونقل ابن القاسم عن أحمد: إن كان نقداً؛ لم يجز، وإن كان ثمراً؛ جاز.
والفرق: أنَّ أنواع الثِّمار يكثر اختلاطها، ويشقُّ تمييزها، بخلاف أنواع النُّقود.
وهذا كلُّه فيما إذا كان الرِّبويُّ مقصوداً بالعقد، فإن كان غير مقصود بالأصالة، وإنَّما هو تابع لغيره؛ فهذا ثلاثة أنواع:
أحدها: ما لا يقصد عادة، ولا يباع مفرداً؛ كتزويق الدَّار ونحوه؛ فلا يمنع من البيع بجنسه بالاتِّفاق.
(3)
الثاني: ما يقصد تبعاً لغيره، وليس
(4)
أصلاً لمال الرِّبا؛ كبيع العبد ذي المال بمال من جنسه، إذا كان المقصود الأصلي هو العبد، وفيه ثلاث طرق:
(1)
قوله: (الواحد) سقط من (ب) و (ج) و (هـ) و (و) و (ن).
(2)
قوله: (ما) سقط من (أ).
(3)
ينظر: المغني (4/ 30).
(4)
كتب على هامش (ن): (أي: وليس غيره المتبوع).
إحداها
(1)
: أنَّه يصحُّ رواية واحدة، سواء قلنا: إنَّ العبد يملك أو لا يملك، وهي طريقة أبي بكر، والخرقيِّ، والقاضي في «خلافه» ، وابن عقيل في موضع من «فصوله» ، وصاحب «المغني» ، وهي المنصوصة عن أحمد.
والثَّانية: البناء على ملك العبد، فإن قلنا: يملك؛ صحَّ؛ لأنَّ المال ملك العبد
(2)
؛ فليس بداخل في عقد البيع؛ كمال المكاتب لا يدخل معه في بيعه، وإن قلنا: لا يملك؛ اعتبر له شروط البيع، وهي طريقة القاضي في «المجرَّد» ، وأبي الخطَّاب في «انتصاره» .
والثَّالثة: طريقة صاحب «المحرَّر»
(3)
؛ إن قلنا: لا يملك؛ لم تعتبر له شروط البيع، وإن قلنا: يملك؛ فإن كان مقصوداً؛ اعتبر له ذلك، وإلَّا فلا.
وأنكر القاضي في «المجرَّد» أن يكون القصد وعدمه معتبراً في صحَّة العقد في الظَّاهر، وهو عدول عن قواعد المذهب وأصوله.
(1)
في (ب): أحدها.
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): للعبد.
(3)
كتب على هامش (ن): (عبارة «المحرَّر»: وإن باعه وشرط المشتري ماله، وقلنا: يملكه؛ صحَّ شرطه وإن كان مجهولاً، وإن قلنا: لا يملكه؛ اعتبر علمه وسائر شروط البيع، إلَّا إذا كان قصده العبد لا المال، فلا يشترط، ولا يخفى مباينة هذا لما حكاه المصنِّف، فإنَّ عبارة «المحرَّر» موافقة للطَّريق الثَّاني، وهو الَّذي قبل هذه الطَّريقة).
النَّوع الثَّالث: ما لا يقصد، وهو
(1)
تابع لغيره، وهو أصل لمال الرِّبا إذا بيع
(2)
بما فيه منه، وهو ضربان:
أحدهما: أن يمكن إفراد التَّابع بالبيع؛ كبيع نخلة عليها رطب برطب، وفيه طريقان:
أحدهما: وهو طريق القاضي في «المجرَّد» : المنع؛ لأنَّه مال مستقلٌّ بنفسه، فوجب اعتبار أحكامه بنفسه منفرداً عن حكم الأصل.
والثَّاني: الجواز، وهو طريق أبي بكر، والخرقيِّ، وابن بطَّة، والقاضي في «الخلاف» ، كما سبق في بيع العبد ذي المال، واشترط ابن بطَّة وغيره أن يكون الرُّطب غير مقصود، وكذلك شرط في بيع النَّخلة الَّتي عليها ثمر لم يبدُ صلاحه أن يكون الثَّمر غير مقصود.
ونصَّ أحمد عليه في رواية إبراهيم بن الحارث والأثرم، وتأوَّله القاضي لغير معنىً.
ومعنى قولنا: غير مقصود؛ أي: بالأصالة، وإنَّما المقصود الأصليُّ الشَّجر، والثَّمر مقصود تبعاً.
والضَّرب الثَّاني: ألَّا يكون التَّابع ممَّا يجوز إفراده بالبيع؛ كبيع شاة لبون بلبن، أو ذات صوف بصوف، وبيع التَّمر بالنَّوى، فيجوز ههنا عند القاضي في «المجرَّد» ، وابن حامد، وابن أبي موسى.
ومنع منه أبو بكر، والقاضي في «خلافه» .
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: التَّابع).
(2)
كتب على هامش (ن): (أي: إذا بيع المتبوع بالَّذي فيه مِنْه، كبيع نخلة ذات تمر بتمر، وشاة ذات لبن بلبن).
وقد حُكي في المسألة روايتان عن أحمد
(1)
.
ولعلَّ المنع يتنزَّل على ما إذا كان الرِّبويُّ مقصوداً، والجواز على عدم القصد، وقد صرَّح باعتبار عدم القصد ابن عقيل وغيره، ويشهد له تعليل الأصحاب كلِّهم الجواز بأنَّه تابع غير مقصود.
واعلم أنَّ هذه المسائل مقتطعة عن مسائل مدِّ عجوة، فإنَّ القول بالجواز فيها لا يتقيَّد بزيادة المفرد على ما معه غيره.
وقد نصَّ عليه أحمد في بيع العبد الَّذي له مال بمال دون الَّذي معه، وقاله القاضي في «خلافه» في مسألة العبد والنَّوى بالتَّمر، وكذلك المنع فيها مطلق عند الأكثرين.
ومن الأصحاب من خرَّجها أو بعضها على مسائل مدِّ عجوة، ففرَّق بين أن يكون المفرد أكثر من الَّذي معه غيره أو لا، وقد صرَّح به طائفة من الأصحاب؛ كأبي الخطَّاب وابن عقيل في مسألة العبد ذي المال، وكذلك حكى أبو الفتح الحلوانيُّ رواية في بيع الشَّاة ذات الصُّوف واللَّبن بالصُّوف واللَّبن أنَّه يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر ممَّا في الشَّاة من جنسه، ولعلَّ هذا مع قصد اللَّبن والصُّوف بالأصالة، والجواز مع عدم القصد، فيرتفع الخلاف حينئذٍ، والله أعلم.
وإن حُمل على إطلاقه؛ فهو متنزِّل على أنَّ التَّبعيَّة ههنا لا عبرة بها، وأنَّ الرِّبويَّ التَّابع لغيره كالمستقلِّ بنفسه، والله أعلم
(2)
.
(1)
ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 324).
(2)
قوله: (والله أعلم) زيادة من (ب).
ومنها: إذا باع رجل عبدين له من رجلين
(1)
بثمن واحد؛ فإنَّ المبيع يقع شائعاً بينهما؛ فيكون لكلِّ واحد
(2)
منهما نصف كلِّ
(3)
عبد.
ولا يتخرج
(4)
هنا وجه آخر: أن يكون لكلِّ واحد عبد؛ لأنَّه يلزم من ذلك عدم تعيين المبيع؛ فيفسد البيع.
نعم، لو كان العقد مما يصحُّ مبهماً؛ كالوصيَّة والمهر والخلع
(5)
؛ توجَّه هذا التَّخريج فيه.
ولو أقرَّ لرجل بنصف عبدين، ثمَّ فسَّره بعبد معيَّن؛ قُبِل، بخلاف ما إذا أقرَّ له بنصف هذين العبدين، ثمَّ فسَّره بأحدهما، ذكره صاحب «التَّرغيب» ؛ لأنَّ الأوَّل مطلق، فيصحُّ تفسيره بمعيَّن؛ كما لو قال لزوجته: أنت طالق نصف طلقتين؛ فإنَّها تطلق واحدة.
وأمَّا إذا وصَّى له بثلث ثلاثة أعبد، ثمَّ استُحِقَّ منهم اثنان؛ فهل يستحقُّ ثلثَ الباقي أو كلَّه
(6)
؟ فيه وجهان.
(1)
في (أ): رجل.
(2)
في (ب) و (د) و (و) و (ن): رجل.
(3)
قوله: (كلِّ) سقط من (أ).
(4)
في (أ): ولا يخرَّج.
(5)
كتب على هامش (ن): (كما لو وصَّى بعبدين لرجلين، أو أمهرهما لامرأتين).
(6)
كتب على هامش (ن): (أي: إذا لم يجاوز ثُلث قيمتهم، كما قيده به في «المحرَّر»).
وهذا قد يتوهَّم منه قبول التَّفسير بعبد مفرد مع التَّعيين
(1)
، وليس كذلك، بل مأخذ هذين الوجهين أنَّه هل يدخل العبيدَ ونحوَهم قسمةُ الإجبار أم لا؟ وفيه وجهان، والمنصوص دخولها.
ومنها: إذا رهنه اثنان عينين أو عيناً لهما صفقة واحدة على دين له عليهما، مثل أن يرهناه داراً لهما على ألف درهم له عليهما؛ فنصَّ أحمد في رواية مهنَّى على أنَّ أحدهما إذا قضى ما عليه ولم يقض الآخر؛ أنَّ الدَّار رهن على ما بقي
(2)
.
وظاهر هذا: أنَّه جعل نصيب كلِّ واحد منهما
(3)
رهناً بجميع الحقِّ؛ توزيعاً للمفرد على الجملة، لا على المفرد، وبذلك جزم أبو بكر في «التَّنبيه» ، وابن أبي موسى، وأبو الخطَّاب، وهو المذهب عند صاحب «التَّلخيص» .
قال القاضي في «الخلاف» : هذا بناء على الرِّواية الَّتي تقول: إنَّ عقد الاثنين مع الواحد في حكم الصَّفقة الواحدة، فأمَّا إذا قلنا بالمذهب الصَّحيح: إنَّهما في حكم عقدين؛ كان نصيب كلِّ واحد منهما
(4)
مرهوناً بنصف الدَّين.
قال: ويجوز أن يكون كلٌّ منهما لمَّا رهن صار كفيلاً عن صاحبه؛
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: من عبيد معيَّنين).
(2)
ينظر: المغني (4/ 301).
(3)
قوله: (منهما) زيادة من (أ).
(4)
قوله: (منهما) زيادة من (أ).
فلا ينفكُّ الرَّهن في نصيبه
(1)
حتَّى يؤدِّيَ جميع ما عليه.
وتأوَّله أيضاً في موضع آخر على أنَّ كلَّ واحد منهما كان كفيلاً ضامناً عن صاحبه، فإذا قضى أحدهما؛ لم ينفكَّ حقُّه من الرَّهن؛ لأنَّه مطالب بما ضمنه، قال: وأمَّا إن لم يضمن كلُّ واحد منهما ما على صاحبه؛ فله الرُّجوع بقدر حصَّته.
وليس في كلام أحمد ما يدلُّ على الضَّمان، وقد نبَّه على ذلك الشَّيخ مجد الدِّين، وقال: على هذا
(2)
يصحُّ الرَّهن ممَّن ليس الدَّين عليه، وعلى الأوَّل لا يصحُّ.
وتأوَّل القاضي أيضاً في «المجرَّد» ، وابن عقيل، وصاحب «المغني» كلام أحمد على أنَّ الرَّهن انفكَّ في نصيب الموفي للدَّين، لكن ليس للرَّاهن مقاسمة المرتهن؛ لما عليه من الضَّرر، لا بمعنى أنَّ العين تكون كلُّها رهناً.
وبمثل ذلك تأوَّل صاحب «المغني» ما قاله أبو الخطَّاب والحلوانيُّ وغيرهما فيمن رهن عند رجلين، فوفَّى أحدهما؛ أنَّه يبقى جميعه رهناً عند الآخر.
وتأويله على المنع من المقاسمة ضعيف؛ لوجهين:
أحدهما: أنَّ أحمد نصَّ على أنَّ الدَّار رهن على ما بقي.
(1)
في (ب): نصفه.
(2)
كتب على هامش (ن): (الإشارة إلى أنَّ الضَّمان ليس شرطاً في ذلك، والمراد بالأوَّل هو تأويل القاضي).
والثَّاني: أنَّ انفكاك أحد النَّصيبين وقبض صاحبه له لا يتوقَّف على المقاسمة؛ فإنَّ الشَّريك يقبض نصيبه من المشترك من غير اقتسام، ويكون قبضاً صحيحاً؛ إذ القبض يتأتَّى في المشاع.
ويشبه هذه المسألة ما إذا كاتب عبدين له صفقة بعوض واحد، ثمَّ أدَّى أحدهما حصَّته من الكتابة؛ هل يعتق أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: يعتق، وهو اختيار القاضي وأصحابه؛ لأنَّه أدَّى ما يخصُّه؛ فهو كما لو أدَّى أحد المشترِيَيْن حصَّته من الثَّمن؛ فإنَّه يتسلَّم نصيبه تسلُّماً مشاعاً عند الأصحاب.
وما ذكره في «المغني» من منع التَّسليم
(1)
في هذه المسألة
(2)
؛ فهو يرجع إلى أنَّه لا يتسلَّم العين كلَّها، وهذا صحيح، وقد صرَّح
(3)
به القاضي في «الخلاف» و «الجامع الصَّغير «.
والوجه الثَّاني: أنَّه لا يعتق واحد منهما حتَّى يؤدِّيا جميع مال الكتابة، وهو قول أبي بكر وابن أبي موسى، ونقل مهنَّى عن أحمد ما يشهد له.
واختلف في
(4)
مأخذه؛ فقيل: لأنَّ الكتابة عتقٌ
(5)
معلَّق بشرط؛ فلا يقع إلَّا بعد كمال شرطه، وهو ههنا أداء جميع المال.
(1)
في (ب): التَّسلُّم.
(2)
قوله: (في هذه المسألة) سقط من (أ) و (و).
(3)
قوله: (وقد صرَّح) هو في (أ): وصرَّح.
(4)
قوله: (في) سقط من (ب).
(5)
قوله: (الكتابة عتق) هو في (ب) و (د): عتق الكتابة.
وهذا بعيد على أصل أبي
(1)
بكر؛ لأنَّه يرى أنَّ الكتابة عقد معاوضة محضة لا تعليق فيها بحال.
وقيل: لأنَّ كلَّ واحد منهما
(2)
كفيلٌ ضامن عن صاحبه، فلا يعتق حتَّى يؤدِّيَ جميع ما عليه.
وقيل: لأنَّها صفقة واحدة، فلا تتبعَّض، وهذا قد يرجع إلى الضَّمان أيضاً، كأنَّه التزم كلُّ واحد منهما الألف عنه وعن صاحبه؛ فيكون توزيعاً للمفرد على الجملة؛ إذ لو لم يلزم أحدَهما أداءُ جميع المال؛ لما وقف عتقه على أدائه.
وقد اختلف كلام القاضي وابن عقيل في ضمان كلٍّ منهما عن الآخر، فنفياه تارة، وأثبتاه أخرى.
ونقل ابن منصور عن أحمد في رجل له على قوم حقٌّ، إن كتب في كتابهم: أيُّهم شئت أخذت بحقِّي: يأخذ أيَّهم شاء
(3)
.
ومفهومه: أنَّ الغرماء لا ضمان بينهم بدون الشَّرط بكلِّ حال
(4)
.
ومنها: لو وضع المتراهنان الرَّهن على يدي عدلين، وكان عينين منفردتين، أو كان ممَّا ينقسم؛ كالمكيل والموزون؛ فهل لهما اقتسامه وانفراد كلِّ واحد منهما بحفظ نصفه أم لا؟ على وجهين:
(1)
قوله: (أبي) سقط من (أ).
(2)
في (أ) و (ن): منهم.
(3)
مسائل ابن منصور (6/ 2769).
(4)
قوله: (بكلِّ حال) هو في (ب): بحال.
أحدهما: يجوز ذلك، قاله القاضي في «المجرَّد» ؛ توزيعاً للمفرد على المفرد؛ فيكون كلُّ واحد منهما أميناً على نصفه، وصرَّح القاضي بذلك.
وعلى هذا: فلو دفع أحدهما النِّصف المقسوم الَّذي بيده إلى الآخر، فتلف في يده؛ فهل يضمنه؟ على احتمالين ذكرهما القاضي؛ لأنَّه انفرد به بعد القسمة، بخلاف ما إذا سلَّم الكلَّ قبل القسمة؛ فإنه لا يضمن، كذا قال القاضي.
وقال مرَّة أخرى: يضمن نصفه أيضاً.
والثَّاني: لا يجوز اقتسامه، بل يتعيَّن حفظه كلّه
(1)
على كلِّ واحد منهما مجتمعين، وهو قول القاضي في «خلافه» ، وابن عقيل، وصاحبي «المغني» و «التَّلخيص» ؛ لأنَّ المتراهنين إنَّما رضيا بحفظهما جميعاً؛ فلا يجوز لهما الانفراد؛ كالوصِيَّيْن والوكيلين في البيع.
وعلى هذا نخرِّج الوديعة لاثنين، والوصيَّة بالنِّسبة إلى الحفظ خاصَّة دون التَّصرُّف؛ فإنَّه لا يستقلُّ أحدهما بشيء منه.
وقد روي عن أحمد ما يدلُّ على جواز انفراد كلِّ واحد منهما بنصف التَّصرُّف، فنقل عنه حرب فيمن قال لرجلين: تصدَّقا عنِّي بألفي درهم من ثلثِي، فأخذ كلُّ واحد ألفاً فتصدَّق بها على حدة؛ ليكون أسهل عليهما؛ فلم ير به بأساً.
وهذا قد يختصُّ بالصَّدقة؛ لحصول المقصود منها بالانفراد،
(1)
قوله: (كلّه) سقط من (أ) و (د).
بخلاف غيرها من التَّصرُّفات الَّتي يقصد فيها
(1)
الحظُّ والغبطة والكسب
(2)
.
قال في «التَّلخيص» : (ولو وكَّل اثنين في المخاصمة؛ لم يكن لواحد الاستبداد بها؛ كالوصيَّين ووكيلي التَّصرُّف، ويحتمل أن يكون له؛ لأنَّ العرف في الخصومة يقتضيه، بخلاف غيرها) انتهى.
وقال أيضاً: (ولو تعدَّد المعيَّن؛ فاحتمالان). يعني: في تعدُّد الصَّفقة واتِّحادها.
ومنها: الضَّمان، فإذا ضمن اثنان دَيْن رجل لغريمه؛ فهل كلُّ واحد منهما ضامن لجميع الدَّين أو بالحصَّة؟ على وجهين:
أحدهما: كلُّ واحد منهما ضامن للجميع، نصَّ عليه أحمد في رواية مهنَّى في رجل له على رجل ألف درهم؛ فكفل بها كفيلان، كلُّ واحد منهما كفيل ضامن؛ فأيُّهما شاء أخذ بجميع حقِّه
(3)
.
وكذلك قال أبو بكر فيمن قال في السَّفينة لرجل: ألقِ متاعك في البحر على أنَّي ورُكْبان السَّفينة ضمناء، فألقاه؛ ضمنه دونهم، إلَّا أن يتطوَّعوا بالضَّمان معه
(4)
.
وقد يكون مأخذ أبي بكر: أنَّ هذا من باب التَّغرير؛ فإنَّه إنَّما ألقاه ظنًّا منه أنَّ قيمته تُرَدُّ عليه اعتماداً على قول هذا القائل؛ فلذلك لزمه
(1)
في (ب) و (د) و (ن): بها.
(2)
في (ب) و (ن): والتكسب.
(3)
ينظر: المغني (4/ 422).
(4)
ينظر: المغني (4/ 422).
الضَّمان كلُّه.
وعلى هذا: فيفرَّق بين أن يكون صاحب المتاع عالماً بالحكم أو جاهلاً به.
والوجه الثَّاني: أنَّ الضَّمان بالحصَّة إلَّا أن يصرِّحوا بما يقتضي خلافه، مثل أن يقولوا: ضمنَّا لك وكلُّ واحد منَّا الألف الَّتي لك على فلان، فإنَّ كلَّ واحد يلزمه الألف حينئذٍ، وأمَّا مع إطلاق ضمان الألف منهم؛ فبالحصَّة، وهذا قول القاضي في «المجرَّد» ، و «الخلاف» ، وصاحب «المغني» .
وذكر ابن عقيل في المسألة احتمالين، وبناه القاضي: على أنَّ الصَّفقة تتعدَّد بتعدُّد الضَّامنين؛ فيصير الضَّمان موزَّعاً عليهما.
وعلى هذا: فلو كان المضمون ديناً متساوياً على رجلين، فهل يقال: كلُّ واحد
(1)
منهما ضامن لنصف الدَّينين، أو كلٌّ منهما ضامن لأحدهما بانفراده؟
إذا قلنا: بصحَّة ضمان المبهم؛ يحتمل وجهين، والأوَّل أشبه بكلام الأصحاب.
وشبيه بهذه المسألة: ما إذا كفل اثنان شخصاً لآخر، فسلَّمه أحدهما إلى المكفول له؛ فهل يبرأ الكفيل الآخر أم لا؟ على وجهين:
أشهرهما: أنَّه لا يبرأ؛ لأنَّهما كفالتان، والوثيقتان إذا انحلَّت إحداهما بغير توفية؛ بقيت الأخرى؛ كالضَّامنين إذا أبرئ أحدهما،
(1)
قوله: (واحد) سقط من (أ).
وهذا قول القاضي وأصحابه.
والثَّاني: يبرأ؛ لأنَّ التوفية قد وجدت بالتَّسليم
(1)
؛ فهو كما لو سلَّم المكفول نفسه، أو وفَّى أحد الضَّامنين الدَّين، وهو احتمال في «الكافي» ، وقوَّاه الأزجيُّ في «نهايته» ، وهو ظاهر كلام السَّامريِّ في «فروقه» ، وهو يعود إلى أنَّها كفالة واحدة.
والأظهر: أنَّهما إن كفلا كفالة اشتراك بأن قالا: كفلنا لك زيداً نسلُّمه إليك، فإذا سلَّمه أحدهما؛ برئ الآخر؛ لأنَّ التَّسليم الملتزم واحد؛ فهو كأداء أحد الضَّامنين للمال، وإن كفلا
(2)
كفالة انفراد واشتراك؛ بأن قالا
(3)
: كلُّ واحد منَّا كفيل لك بزيد؛ فكلٌّ منهما ملتزم له إحضاراً؛ فلا يبرأ بدونه ما دام الحقُّ باقياً على المكفول؛ فهو كما لو كفلاه في عقدين متفرِّقين، وهذا قياس قول القاضي في ضمان الرَّجلين للدَّين.
واعلم أنَّ عقود التَّوثُّقات والأمانات إذا اشتملت على جمل؛ فإنَّه يمكن فيها توزيع أفراد الجملة أو أجزائها على أفراد الجملة المقابلة لها، أو على أجزاء العين المقابلة لها؛ فيقابل كلُّ مفرد لمفرد، أو كلُّ مفرد لجزء، أو كلُّ جزء لجزء.
ويمكن توزيع كلِّ فرد من الجملة على مجموع أفراد الجملة
(1)
في (ب): بالتّسلُّم.
(2)
في (ب) و (د) و (و): كفلاه.
(3)
في (أ): قال.
الأخرى، أو أجزائها؛ فيثبت الاشتراك بالإشاعة، ويكون العقد على هذين الاحتمالين واحداً.
ويمكن أن يثبت حكم التَّوثقة والأمانة بكماله لكلِّ فرد فرد؛ فيكون ههنا عقود متعدِّدة.
وقد ذكرنا في هذه المسائل التَّفريع على هذه الاحتمالات الثَّلاث.
فأمَّا عقود التَّمليكات: فلا يتأتَّى فيها الاحتمال الثَّالث، ولو قيل بتعدُّد الصَّفقة فيها بتعدُّد المتعاقدين؛ لاستحالة أن يكون الملك ثابتاً في عين واحدة لمالكين على الكمال، وإنَّما يقع التَّردُّد فيها بين الاحتمالين الأوَّلين، ويستثنى من ذلك صورتان:
إحداهما: أن يوصي بعين لزيد، ثمَّ يوصي بها لعمرو، ونقول: ليس برجوع، كما هو المشهور من المذهب؛ فيكون كلٌّ منهما مستحقًّا للعين بكمالها، ويقع التَّزاحم فيها فيشتركان في قسمتها، فلو مات أحدهما قبل الموصي، أو رَدَّ؛ لاستحقها الآخر بكمالها.
والثَّانية: أن يقف على قوم معيَّنين أو موصوفين، ثمَّ على آخرين بعدهم؛ فإنَّ كلَّ واحد من الطَّبقة الأولى مستحقٌّ لجميع الوقف بانفراده، حتَّى لو لم يبق في الطَّبقة سواه؛ لاستحقَّ الوقف كلَّه، هكذا ذكره القاضي والأصحاب.
وقد نصَّ أحمد في رواية يوسف بن موسى ومحمَّد بن عبيد الله المنادي؛ فيمن وقف ضيعة على ولده وأولادهم وأولاد أولادهم أبداً ما تناسلوا، فإن حدث بواحد منهم حدث الموت؛ دُفع ذلك إلى ولد ولده
-يعني: الواقف - وولد أولادهم يجري ذلك عليهم ما تناسلوا، وقد وُلد لهؤلاء القوم الَّذين وقف عليهم أولادٌ يدخلون مع آبائهم
(1)
في القسمة، أو يصير هذا الشَّيء إليهم بعد موت آبائهم، ومن مات منهم ولم يخلِّف ولداً يرجع نصيبه إلى إخوته أم لا؟ قال: يجري ذلك على الولد وولد الولد، يتوارثون ذلك حتَّى لا يكون للميِّت ولد، فيُردُّ على الباقين من إخوته
(2)
.
وظاهر كلامه: أنه
(3)
يكون ترتيب أفراد بين كلِّ ولد ووالده؛ لقوله: (يتوارثون ذلك)، وجعل قول الواقف:(من مات عن ولد؛ فنصيبه لولده) مقتضياً لهذا الترتيب، ومخصِّصاً لعموم أوَّل الكلام المقتضي للتَّشريك.
وقد زعم الشَّيخ مجد الدِّين أنَّ كلام القاضي في «المجرَّد» يدلُّ على خلاف ذلك، وأنَّه يكون مشتركاً بين الأولاد وأولادهم، ثم يضاف
(4)
إلى كلِّ ولد نصيب والده بعد موته، وليس في كلام القاضي ما يدلُّ على ذلك لمن راجعه وتأمَّله.
وأمَّا قوله: (حتَّى لا يكون للميت ولد، فيردُّ على الباقين من إخوته) فيعني به: أنَّ من مات عن غير ولد؛ فنصيبه لإخوته، وهذا قد يدلُّ لما
(1)
في (أ) و (ب): أولادهم. وفي هامش (ب): (أي: آبائهم)
(2)
ينظر: الوقوف والترجل للخلال (ص 58).
(3)
في (أ) و (و): أنَّ.
(4)
في (أ): ويضاف.
ذكره الأصحاب: أنَّ من مات من طبقة؛ انتقل نصيبه إلى الباقين منها بإطلاق الوقف.
وقد يقال: لا دلالة فيه على ذلك؛ لأنَّ هذا الواقف وقف على ولده وولد ولده أبداً بالتَّشريك، فلو تركنا هذا؛ لشركنا بين البطون كلِّها.
لكنَّه استثنى من ذلك: أنَّ من مات عن ولد؛ فنصيبه لولده، ففهم منه: أنَّ الولد لا يستحقُّ مع والده، فبقي ما عداه داخلاً في عموم أوَّل الكلام، فاستحقاق الإخوة ههنا متلقًّى من كلام الواقف.
ومثل هذا لا نزاع فيه، إنَّما النِّزاع فيما إذا لم يدل كلام الواقف عليه.
ولا يقال: قد دلَّ كلام الواقف عليه حيث جعله بعد تلك الطَّبقة لطبقة أخرى، فلم يجعل للثَّانية حقًّا فيه مع وجود الأولى؛ فدلَّ على أنَّ الأولى هي المستحقَّة ما دامت موجودة؛ لأنَّه قد يجاب عنه: بأنَّ نفي استحقاق الثَّانية مع وجود الأولى لا يدلُّ على أنَّ الأولى هي المستحقَّة لجميعه؛ لجواز صرفه مصرف المنقطع، إلَّا أنَّ هذا بعيد من مقصود الواقف.
والأظهر من مقصوده ما ذكر، فعلى هذا يكون عوده إلى بقيَّة الطَّبقة مستفاداً من معنى كلام الواقف.
ويشبه ذلك: ما لو وقف على فلان، فإذا انقرض أولاده؛ فعلى المساكين، فهل يكون بعد موت فلان لأولاده، ثمَّ بعدهم للمساكين، أو يصرف بعد موت فلان مصرف المنقطع حتَّى ينقرض أولاده، ثمَّ
يصرف للمساكين؟ على وجهين مذكورين في «الكافي» ، والأوَّل قول القاضي وابن عقيل.
ولنا في المسألة مسلك آخر، وهو أن يقال: الوقف تحبيس للمال في وجوه البرِّ، والموقوف عليهم هم المصرف المعيَّن لاستحقاقه، فلا يمتنع أن يستحقَّه كلُّ واحد منهم بانفراده، ويقع التَّزاحم فيه عند الاجتماع، بخلاف التَّمليكات المحضة، فإنَّه يستحيل أن يملك كلُّ واحد من المملَّكين جميع ما وقع فيه
(1)
التَّمليك.
وهذا على قولنا: إنَّ الموقوف عليه لا يملك عين الوقف؛ أظهر.
ويتعلَّق بهذا من مسائل التَّوزيع: ما إذا وقف على أولاده ثمَّ على أولاد أولاده أبداً، فهل يقال: لا ينتقل إلى أحد من أولاد أولاده إلَّا بعد انقراض جميع أولاده، أو ينتقل بعد كلِّ ولد إلى ولده؟
المعروف عند الأصحاب: الأوَّل، وهو الَّذي ذكره القاضي وأصحابه ومن اتَّبعهم.
وحكى الشَّيخ تقيُّ الدِّين رحمه الله وجهاً آخر بالثَّاني، ورجَّحه
(2)
.
فعلى الأوَّل؛ يكون من باب توزيع الجملة على الجملة.
وعلى الثاَّني؛ هو من باب توزيع المفرد على المفرد
(3)
.
(1)
في (ب): به.
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى (31/ 81).
(3)
قوله: (الفرد على الفرد) كذا في (أ)، وهو في (ب) وباقي النسخ: المفرد على المفرد.
ويشهد لهذا من كلام أحمد ما رواه عنه يوسف بن موسى ومحمد بن عبيد الله المنادي في رجل أوقف ضيعة، على أن لعلي بن إسماعيل رُبُعَ غلتها ما دام حيًّا، وربع منها لولد عبد الله، وولد محمد، وولد أحمد بينهم بالسَّويَّة، وإن مات علي بن إسماعيل؛ فوَزِّعوا هذين الرُّبعين بين ولده وولد الثَّلاثة المذكورين؛ ففعلوا ذلك، ثمَّ إنَّ بعض ولد علي بن إسماعيل مات وترك ولداً؛ كيف يُصنع بنصيبه؟ يدفع إلى ولده، أو يردُّ على شركائه؟ ولم يقل الميِّت: إن مات علي بن إسماعيل دفع إلى ولد ولده، إنَّما قال: ولد علي ابن إسماعيل.
قال أحمد: يدفع ما جعل لولد علي بن إسماعيل إلى ولده، فإن مات بعض ولد علي بن إسماعيل؛ دفع إلى ولده أيضًا؛ لأنَّه قال: بين ولد علي بن إسماعيل، وهذا من ولد علي بن إسماعيل
(1)
.
فدلَّ هذا الكلام على أصلين:
أحدهما: أنَّ ولد الولد داخل في مسمَّى الولد عند الإطلاق.
والثاني: أنَّه إنما يستحقُّه ولد الولد بعد موت أبيه، ويختصُّ به دون طبقة أبيه المشاركين له، حيث ذكر أنَّ عليَّ بن إسماعيل توفي عن ولد، وأنَّ بعض ولده توفي عن ولد، ونقل إلى هذا الولد نصيب أبيه مع وجود المشاركين للأب من إخوته.
ووجه هذا: أنَّه لمَّا رتَّب بين علي بن إسماعيل وولده، ولم يجعل لولده شيئاً إلَّا بعد موته؛ فكذلك ينبغي أن يكون التَّرتيب بين ولده وولد ولده.
(1)
ينظر: الوقوف والترجل للخلال (ص 57).
وهذا خلاف ما ذكره الأصحاب من الوجهين في كيفيَّة استحقاق ولد الولد إذا قيل بدخوله في مطلق الولد: هل يستحق مع الولد مشرَّكاً، أو بعد انقراض الولد كلِّهم مرتَّباً ترتيب طبقة على طبقة؟ فإنَّ أحمد جعله مرتَّباً ترتيب أفراد بين كلِّ ولد ووالده، فيؤخذ من ذلك: أنَّ من وقف على أولاده، ثمَّ على أولادهم أبداً: أنَّه يكون مرتَّبًا بين كلِّ والد وولده، دون بقيَّة طبقته.
وقد يفرَّق بينهما: بأنَّ الوقف ههنا أوَّلاً كان بين شخص وولده؛ فرُوعِيَ هذا التَّرتيب في استحقاق ولده وولد ولده، وليس فيه طبقة بعد طبقة، ولكن سنذكر من كلام أحمد في مسألة التَّدبير ما يحسن تخريج هذا الوجه منه إن شاء الله تعالى.
ومنها: إذا علَّق طلاق نسائه، أو عتق رقيقه على صفات متعدِّدة، فوجد بعضها من بعض، وباقيها من بعض آخر؛ فهل يكفي في وقوع الطَّلاق والعتاق، مع قطع النَّظر عن الحنث بوجود بعض الصِّفة
(1)
؟
(1)
كتب على هامش (ن): (قال في «المحرَّر»: وإذا قال لامرأتيه: إن كلَّمتما زيداً وعمراً؛ فأنتما طالقتان، وقلنا: لا يحنث ببعض المحلوف عليه، فكلَّمت كلُّ واحدة واحداً منهما؛ طلقتا، وقيل: لا يقع شيء حتَّى تكلِّما كلَّ واحد منهما، كما لو قال: إن كلَّمتما زيداً وكلَّمتما عمراً، انتهى، فقد جعل الخلاف في ذلك مبنيًّا على القول بعدم الحنث ببعض المحلوف عليه، والمصنِّف جعل الخلاف في ذلك مع قطع النَّظر عن هذا الأصل، وفيه نظر، بل الظَّاهر وجوب مراعاة ذلك الأصل، فإن قلنا: يحنث بفعل بعض المحلوف عليه؛ فلا شكَّ في وقوع الطَّلاق إذن، وإن قلنا: لا يحنث بفعل البعض؛ وقع ههنا بناء على توزيع الأفراد على الأفراد، أو يقع بناء على مقابلة الجملة بالجملة).
فإنَّ للأصحاب في الاكتفاء ببعض الصِّفة في الطَّلاق والعتاق طرقاً ثلاثة:
إحداهنَّ: أنَّه يُكتفى بها كما يُكتفى بذلك في الحنث في اليمين، وهي طريقة القاضي، واستثنى من ذلك في «الجامع»: أن تكون الصِّفة معاوضة
(1)
.
والثَّانية: لا يُكتفى بها وإن اكتفينا ببعض المحلوف عليه في الحنث؛ لأنَّ هذا شرط ومشروط، وعلَّة ومعلول؛ فلا يترتَّب الأثر إلَّا على تمام المؤثِّر، وهي طريقة ابن عقيل، وصاحب «المغني» .
والثَّالثة: إن كانت الصِّفة تقتضي حضًّا، أو منعاً، أو تصديقاً، أو تكذيباً؛ فهي كاليمين، وإلَّا فهي علَّة محضة؛ فلا بد من وجودها بكمالها، وهي طريقة صاحب «المحرَّر» .
والقاضي يفرِّع على اختياره في هذه المسائل، فقال فيما إذا قال لعبيده: إذا أدَّيتم إليَّ ألفاً فأنتم أحرار؛ عَتق كلُّ واحد منهم بأداء حصَّته.
وكذلك إذا قال لعبيده: إذا دخلتم الدَّار؛ فأنتم أحرار؛ عَتق من
(1)
قوله: (واستثنى من ذلك في «الجامع»: أن تكون الصِّفة معاوضة) سقط من (أ) و (و).
دخل منهم؛ لأنَّ وجود الصِّفة تقوم مقام جميعها؛ فمتى أدَّى واحد منهم؛ عتق.
هكذا ذكره في باب الكتابة، وردَّه الشيخ مجد الدِّين، وقال: هو عندي خطأ يقيناً؛ لأنَّ هذه الصِّفة لا تشتمل على منع ولا حثٍّ.
وعندي: أنَّه لو صحَّ الاكتفاء ببعض الصِّفة ههنا؛ لم يصحَّ ما قاله القاضي، ولم يتفرَّع على الاكتفاء ببعض الصِّفة؛ إذ لو كان التَّفريع على ذلك؛ لعتقوا كلُّهم بأداء بعضهم لبعض الألف، وبدخول بعضهم الدَّار، وهذا خلاف قول القاضي.
وإنَّما يتوجَّه ما قاله القاضي على أن يكون من باب توزيع المفردات على المفردات؛ فكأنَّه قال: من دخل منكم الدَّار فهو حرٌّ، ومن أدَّى إليَّ حصَّته من الألف فهو حرٌّ، وهذا لا تعلُّق له بمسألة الاكتفاء ببعض الصِّفة.
وكلام أحمد يدلُّ على اعتبار هذا التَّوزيع في مثل هذه التَّعليقات؛ فإنَّه نصَّ في رواية مهنى في عبد بين رجلين قالا له: إذا متنا فأنت حرٌّ، ثمَّ مات أحدهما؛ عتقت حصَّته فقط، فإذا مات الآخر عتقت حصَّته
(1)
.
قال أبو بكر: لأنَّهما كالمعتَقَيْن على انفرادهما، وهذا هو المذهب عند أبي بكر وابن أبي موسى.
وتعليل أبي بكر يدلُّ على أنَّه جعله من باب توزيع المفرد على المفرد، كأنَّهما قالا: إن مات أحد منَّا فنصيبه منك حرٌّ.
(1)
ينظر: المغني (10/ 347).
وتأوَّل القاضي ذلك على أنَّ العتق حصل بوجود بعض الصِّفة.
وردَّه الشَّيخ مجد الدِّين؛ بأنَّ الصِّفة إنَّما يُكتفى ببعضها إذا كانت في معنى اليمين تقتضي حضًّا أو منعاً، وما لم يكن كذلك؛ كطلوع الشَّمس وقدوم زيد؛ فلا يكتفى فيه بالبعض، ونقل الإجماع عليه.
وهو مردود من وجه آخر، وهو أنَّه لو اكتفي ببعض الصِّفة؛ لعَتق العبدُ كلُّه عليهما بموت أحدهما، ولم يكن وجه لعتق نصيب أحدهما، وإنَّما لم يَسْرِ إلى نصيب صاحبه لأحد أمرين؛ إمَّا لأنَّ السِّراية تمنع بعد الموت كما هو إحدى الرِّوايتين، أو لأنَّ التدبير يمنع السِّراية، وهو أحد الوجهين.
وخرجَّ الشَّيخ مجد الدِّين المسألة على روايتين من مسألة تعليق العتق على صفة بعد الموت؛ فإنَّ في صحَّته روايتين:
إحداهما: يصحُّ هذا التَّعليق؛ فلا يعتق منه شيء ههنا، حتَّى يموت الآخر منهما، فيعتق العبد كلُّه حينئذ.
والثَّانية: لا يصحُّ هذا التَّعليق؛ فلا يعتق به شيء من العبد ههنا؛ لأنَّ كلًّا منهما علَّق عتقه على موته وموت شريكه، ولا يوجد إلَّا بعد موته.
ولكن ههنا قد
(1)
يمكن اجتماع موتهما في آن واحد؛ فلا يتوجَّه إبطال التَّعليق من أصله، بخلاف قوله: إن دخلتَ الدَّار بعد موتي؛ فأنت حرٌّ.
(1)
قوله: (قد) سقط من (أ) و (و).
ومن هذه المسائل: لو قال لزوجتيه: إن دخلتما هاتين الدَّارين، أو كلَّمتما زيداً وعمراً؛ فأنتما طالقتان، فكلَّمت إحداهما زيداً، والأخرى عمراً، أو دخلت كلُّ واحدة منهما داراً، وقلنا: لا يُكتفى ببعض الصِّفة؛ فهل يَطلُقان، أم لا؟
فيه وجهان، ذكرهما أبو الخطَّاب، ومن بعده من الأصحاب، وجعل أبو الخطَّاب المذهب الوقوع، وإنَّما ذكر الآخر تخريجاً
(1)
.
ومذهب الحنفيَّة
(2)
والمالكيَّة
(3)
: الوقوع، وهو أحد وجهي الشَّافعيَّة
(4)
مع قولهم وقول الحنفيَّة: إنَّ بعض الصِّفة لا يكفي في
(1)
كتب في هامش (ج) و (هـ) و (د) و (ن): (ذكر القرطبيُّ في تفسير قوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشَّجرة}، لو قال لزوجتيه: إن دخلتما هذه الدَّار؛ فأنتما طالقتان، فدخلت إحداهما الدَّار، أنَّ ابن القاسم قال: لا يقع عليهما الطَّلاق، حتَّى تدخلا معاً، وقاله سحنون، وقال ابن القاسم مرَّة أخرى: تطلقان جميعاً بوجود الدُّخول من إحداهما؛ لأنَّ بعض الحنث حنثٌ، وقال أشهب: تطلق الَّتي دخلت؛ لأنَّ دخول كلِّ واحدة منهما شرط في طلاقها، والله أعلم).
وزاد في (ن): (نقلت من خطِّ من نقلها من خطِّ المصنِّف)، وكتب عليها بخط آخر: (وهي من النُّسخة المعتمدة، والظَّاهر أنَّ جميع الحواشي الثَّابتة فيها من خطِّ المصنِّف
(2)
المحيط البرهاني (3/ 393)، البحر الرائق (4/ 15).
(3)
النَّوادر والزِّيادات (4/ 83)، الذخيرة (11/ 122).
(4)
الحاوي الكبير (10/ 290)، روضة الطالبين (8/ 196).
الحنث؛ فعلم بذلك: أنَّ هذا ليس مفرَّعاً على الاكتفاء ببعض الصِّفة.
ويتخرَّج من مسألة التَّدبير السَّابقة: أن تطلُق ههنا كلُّ واحدة بدخول الدَّار عقيب دخولها، ولا يتوقَّف طلاقها على دخول الأخرى؛ لأنَّ معنى كلامه: من دخلت منكما داراً من هاتين الدَّارين؛ فهي طالق.
ويتخرَّج من هذا القول ههنا فيما إذا قال لهما: إن حضتما فأنتما طالقتان، وجهٌ: أنَّ كلَّ واحدة تطلق بحيض نفسها، وألَّا يشترط ثبوت حيض كلِّ واحدة منهما بالنِّسبة إليهما، بل يكفي ثبوت حيضها
(1)
في حقِّها بإقرارها.
وكذلك في قوله: إن شئتما فأنتما طالقتان، فشاءت إحداهما، أو إن حلفتُ بطلاقكما؛ فأنتما طالقتان، ثمَّ حلف بطلاق إحداهما؛ أنَّها تطلق.
ومن العجب أنَّ القاضي لم يفرِّع شيئاً من هذه المسائل على اختياره في الاكتفاء بوجود بعض الصِّفة مطلقاً، سواء اقتضت حثًّا، أو منعاً، أو كانت تعليقاً محضاً، ومقتضى قوله: (أن تطلقا
(2)
ههنا معاً بوجود حيض إحداهما، ومشيئة إحداهما، والحلف بطلاق إحداهما في هذه المسائل.
ومنها: إذا قال لزوجاته الأربع: أوقعت بينكنَّ، أو عليكنَّ ثلاث تطليقات؛ فهل تقسم كلُّ طلقة على الأربع أرباعاً، ثمَّ تكمل، فتقع بهنَّ
(1)
زاد في (أ): في نفسها.
(2)
في (أ) و (ج): يطلقا. وفي (و): يطلقان.
الثَّلاث جميعاً، أو توزَّع الثَّلاث على الأربع، فيلحق كلَّ واحدة ثلاثة أرباع طلقة، ثمَّ تكمل فتطلُق كل واحدة منهن طلقة؟ على روايتين:
والأولى: اختيار أبي بكر والقاضي.
والثَّانية: اختيار أبي الخطَّاب، وصاحب «المغني»؛ قال: (لأنَّ القسمة بالأجزاء إنَّما تكون في المختلفات؛ كالدُّور ونحوها، فأمَّا
(1)
الجمل المتساوية من جنسٍ كالنُّقود؛ فإنَّها تقسم برؤوسها، ويُكمَّل نصيب كلِّ واحد، كأربعة لهم درهمان صحيحان، يقسم لكلِّ واحد
(2)
نصف من درهم واحد؛ فكذلك الطَّلقات).
ويمكن الأوَّلين الجواب عن هذا: بأنَّ هذه القسمة لا تمنع الاشتراك في الاستحقاق من كلِّ جزء، ولهذا قيل في قسمة الأموال المشتركة: إنَّها بيع، ومتى ثبت استحقاق
(3)
كلِّ واحد من الشُّركاء لجزء من كلِّ عين قبل القسمة؛ توجَّه وقوع الطَّلاق الثَّلاث هنا بكلِّ واحدة؛ كما لو مات زوج المرأة، وخلَّف إخوتها أرقَّاء مع عبيد أخر؛ فإنَّه يعتق عليها
(4)
من كلِّ أخ لها بنسبة نصيبها من الميراث، وإن كان نصيبها لا يستوعب قيمة الجميع.
ولو قال: أنتنَّ طوالق ثلاثاً؛ طلقن كلُّهنَّ ثلاثاً ثلاثاً، نصَّ عليه في
(1)
في (أ): وأمَّا.
(2)
في (أ): واحدة.
(3)
في (أ): استحقاقها.
(4)
قوله: (عليها) سقط من (أ).
رواية ابن منصور
(1)
، ولم يذكر القاضي فيه خلافاً؛ لأنَّه أضاف الثَّلاث إلى الجميع، وفي الصُّورتين الأوليين أرسل الثَّلاث بينهنَّ، أو عليهنَّ.
ويتوجَّه تخريج الخلاف فيها أيضاً؛ لأنَّ إضافة الثَّلاث إليهنَّ لا ينافي أن توزَّع الثَّلاث على مجموعهنَّ، لا على كلِّ واحدة منهنَّ.
وممَّا يدخل في هذا الباب: قوله تعالى: {إنَّما الصَّدقات للفقراء والمساكين. . .} الآية؛ فهل المراد توزيع مجموع الصَّدقات على مجموع الأصناف، أو كلِّ فرد من أفراد الصَّدقات على مجموع الأصناف؟
وينبني على ذلك: مسألة وجوب استيعاب الأصناف بكلِّ صدقةٍ صدقة، وفي ذلك روايتان؛ أشهرهما: أنَّه غير واجب.
وهل يجب على الإمام إذا اجتمعت عنده الصَّدقات أن يعمَّ الأصناف منها، أم لا؟
قال ابن عقيل: يجب ذلك؛ لتحصل التَّوفية باستيعاب الأصناف بمجموع
(2)
الصَّدقات كما دلَّت عليه الآية.
وقال القاضي: يستحبُّ ذلك ولا يجب؛ لأنَّ حقَّ بقيَّة الأصناف يسقط بإعطاء الملَّاك لهم، وأيضاً؛ فليس في الآية إيجاب الاستيعاب بصدقات كلِّ عام؛ فيجوز تعويضهم في عام آخر.
(1)
جاء في مسائل ابن منصور (4/ 1742): (قلت: رجل له أربع نسوة، فقال لهن: أنتن طوالق ثلاث تطليقات؟ قال أحمد: ما أرى إلا بِنَّ منه).
(2)
في (أ): مجموع. وفي (ن): لمجموع.
وممَّا يدخل فيه أيضًا: قوله تعالى: {والَّذين يظاهرون من نسائهم ثمَّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبة. . .} الآية؛ هل اقتضت مقابلة مجموع المظاهرين بمجموع نسائهم، وتوزيع كلِّ مظاهر على زوجته، أو مقابلة كلِّ فرد من المظاهرين بمجموع نسائه المظاهر منهنَّ؟
قرَّر أبو الخطَّاب وغيره من أصحابنا الثَّاني، واستدلَّ به على أنَّ المظاهَرة من جميع الزَّوجات بكلمة واحدة لا توجب سوى كفَّارة واحدة.
وكذلك قال في قوله تعالى: {حرِّمت عليكم أمَّهاتكم وبناتكم وأخواتكم. . .} إلى آخرها: إنَّ المراد: حرمت على كلِّ واحد بناته، وأخواته، وعمَّاته، وخالاته، فأمَّا الأمَّهات فجعلها من مقابلة الأفراد بالأفراد، قال: لأنَّه لمَّا لم يتصوَّر أن يكون للواحد أُمَّان؛ علم أنَّه أراد الواحد في مقابلة الواحد، وأمَّا ما احتمل الجمع في مقابلة الواحد؛ فإنَّه يحمل عليه.
والأظهر - والله أعلم -: أنَّ الكلَّ ممَّا قوبل فيه الواحد بالواحد، والجملة بالجملة، وأنَّ المعنى: حرِّمت على كلِّ واحد أمُّه وبنته وأخته؛ إذ لو أريد مقابلة الواحد بالجمع؛ لحرم على كلِّ واحد أمَّهات الجميع وبناتهم، وهو باطل قطعاً.
قاعدة [114]
إطلاق الشَّركة؛ هل تنزَّل على المناصفة، أم هو مبهم يفتقر إلى تفسير
؟
فيه وجهان، ذكرهما صاحب «التَّلخيص» في البيع.
والَّذي ذكره الأصحاب في الإقرار: أنَّه مبهم، وكذلك صرَّح به ابن عقيل في «نظريَّاته» مختاراً له.
وقال القاضي في «المجرَّد» في البيع، وفي «خلافه» أيضًا: ينزل على المناصفة
(1)
.
وهل يقال باستحقاق الشَّريك من كل جزء جزءاً، أو بالتَّشاطر؟ يحتمل وجهين، وكلام الأصحاب يدلُّ على التَّشاطر.
ويتفرع على هذا مسائل:
منها: لو قال لمشتري سلعةٍ: أشركني في هذه السِّلعة؛ فهل يصحُّ، وينزل على المناصفة، أم لا للجهالة؟ على وجهين، ذكرهما في «التَّلخيص»
(2)
.
(1)
كتب على هامش (ن): (الَّذي نصره القاضي في مسألة الإقرار في «خلافه»: الإبهام، قال: وكذلك لو قال: له فيه شركة، أو هو شريكي، أو قال: قد أشركتك في هذا العبد، وحكي القول بالتنصيف عن أبي حنيفة).
(2)
كتب على هامش (ن): (صرَّح القاضي أبو عليٍّ في كتابه «التَّبصرة»: أنَّ الاشتراك يقتضي التَّساوي في مسألة إذا باعه جارية بألف ذهباً وفضَّة، وصرَّح فيها أيضاً بأنَّ الإقرار يكون مبهماً لا يتنزَّل على المناصفة).
والمجزوم به في «المجرَّد» : الصِّحَّة؛ تنزيلاً على المناصفة.
ومنها: لو قال: هذا العبد شركة بيني وبين فلان، أو هو شريكي فيه؛ فوجهان:
المجزوم به في الإقرار: الإبهام، ويرجع في تفسيره إليه، وهو اختيار ابن عقيل.
وقال القاضي في «خلافه» : هو بينهما نصفين
(1)
.
ومنها: لو أوقع طلاقاً ثلاثاً بامرأة له، ثمَّ قال لأخرى: أشركتك معها، فإن قلنا بالمناصفة؛ اقتضى وقوع ثنتين، وإن قلنا بالإبهام؛ لم يقع أكثر من واحدة؛ لأنَّها اليقين، إلَّا أن يفسِّره بأكثر من ذلك
(2)
.
ويحتمل أن يقع ثلاثاً؛ بناءً على أن الشَّركة تقتضي الاستحقاق من كلِّ جزء.
وقد يقال: هذا إنَّما يمكن في التَّمليكات دون الطَّلاق، فإنَّ حقيقة الاشتراك في طلاق الأولى لا يمكن؛ فحمل على استحقاق نظيره
(3)
.
(1)
كتب على هامش (ن): (يراجع الحاشية السَّابقة آنفاً).
(2)
قوله: (إلَّا أن يفسِّره بأكثر من ذلك) سقط من (ب).
(3)
كتب على هامش (ن): (هذا هو الظَّاهر الَّذي ينبغي الاعتماد عليه كما يفهم من كلام الأصحاب، ويقتضي كلام المصنِّف أنَّ المعتمد هو ما قدمه، وهو خلاف كلامهم، فليتأمَّل).
أمَّا لو تعدَّد الشُّركاء؛ فهل يقال: يستحقُّ الشَّريك مثل نصف ما لهم، أو مثل واحد منهم؟ على وجهين، ذكرهما القاضي في البيع، وبنى عليهما: لو اشترى اثنان شيئاً، ثمَّ أشركا ثالثًا فيه؛ فهل له نصفه، أو ثلثه؟ على وجهين.
وخرَّج صاحب «التَّرغيب» ، والشَّيخ مجد الدِّين في «المسوَّدة» مثل الوجهين، فيما إذا قال لثلاث نسوة: أوقعت بينكنَّ طلقة، ثمَّ قال لرابعة: أشركتكِ معهنَّ؛ هل يقع بها واحدة، أو طلقتين؟ على الوجهين.
قاعدة [115]
الحقوق المشتركة بين اثنين فصاعدًا؛ نوعان:
أحدهما: ما يقع استحقاق كلِّ واحد بانفراده لجميع الحقِّ، ويتزاحمون فيه عند الاجتماع.
والثاني: ما يستحقُّ كلُّ واحد من الحقِّ بحصَّته خاصَّةً
(1)
.
وللأوَّل أمثلة كثيرة:
منها: الشُّفعاء المجتمعون، كلٌّ منهم يستحقُّ الشُّفعة بكمالها، فإذا عفا أحدهم عن حقِّه؛ توفَّر على الباقين.
ومنها: غرماء المفلس الَّذي لا يفي ماله بدين كلِّ واحد على انفراده، وهم كالشُّفعاء.
ومنها: الأولياء المتساوون في النِّكاح.
ومنها: العصبات المجتمعون في الميراث
(2)
.
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: سواء زاحمه غيره أم لا).
(2)
كتب على هامش (ن): (لكن يخالف العصبة مسألة الشُّفعاء والغرماء من جهة: أنَّه لو ردَّ أحدهم لم يتوفَّر نصيبه على بقيتهم؛ لأنَّ ملكه ثبت فيه قهراً، فلا يزول إلَّا بموجِب شرعيٍّ، وتجرُّد الرَّد لا يصلح رافعاً للملك المستقرِّ).
ويتفرَّع على ذلك: لو اجتمع ابنان، نصف كلِّ واحد منهما حرٌّ؛ فهل يستحقَّان المال كلَّه، أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: يستحقَّان جميع المال، رجَّحه القاضي، والسَّامريُّ، وطائفة من الأصحاب.
وله مأخذان:
أحدهما: جمع الحريَّة فيهما؛ فيكمل بها حريَّة ابن، وهو مأخذ أبي الخطَّاب وغيره
(1)
.
والثَّاني: أنَّ حقَّ كلِّ واحد منهما مع كمال حريَّته في جميع المال لا في نصفه، وإنَّما أخذ نصفه لمزاحمة أخيه له، وحينئذ؛ فقد أخذ كلُّ واحد منهما نصف المال هنا، وهو نصف حقِّه مع كمال حريَّته؛ فلم يأخذ زيادةً على قدر ما فيه من الحريَّة.
والوجه الثَّاني: لا يستحقَّان المال كلَّه؛ لئلا تستوي حال حريَّتهما الكاملة والمبعَّضة.
وهل يستحقَّان نصفه تنزيلًا لهما حالين
(2)
، أو ثلاثة أرباعه تنزيلًا
(1)
كتب على هامش (ن): (والمأخذ الأوَّل ليس من تفاريع هذه القاعدة في شيء، وإنَّما يتفرَّع عليها المأخذ الثَّاني).
(2)
كتب على هامش (ن): (بأن يقول لهما: تستحقَّان بكمال حريَّتكما المال كلَّه، فينصفهما نصفه، وأمَّا تنزيلهما ثلاثة أحوال، فبأن نقول لكلِّ واحد منهما: لك بتقدير حريَّتك وانفرادك المال، وعلى تقدير حريَّتك مع حريَّة أخيك نصفه، فقد حجبك بحريَّته عن النَّصف، فيحجبك بنصف حريَّته عن الرُّبع، فيبقى معك على تقدير حريَّتك ورقِّ نصف أخيك ثلاثة أرباع المال، فلك بنصف حريَّتك نصفه وهو ربع وثمن).
لهما ثلاثة أحوال؟ على وجهين.
ولو كان ابنٌ نصفه حرٌّ مع أمٍّ؛ فعلى هذا المأخذ
(1)
؛ يتوجَّه أن يأخذ نصف المال كلِّه، وهو أحد الوجوه للأصحاب، ورجَّحه الشَّيخ تقيُّ الدِّين، وذكر أنَّه اختيار أبيه.
وقيل: يأخذ نصف الباقي بعد ربع الأمِّ
(2)
، وهو اختيار أبي بكر والقاضي في «خلافه» .
وقيل: يأخذ نصف ما كان يأخذه حال كمال الحريَّة، وهو هنا ربع وسدس، وهو الَّذي ذكره إبراهيم الحربيُّ في «كتاب الفرائض» ، واختاره القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل، وصاحب «المحرَّر» ؛ لأنَّ القدر الَّذي حجب عنه الأم يستحقُّه كلَّه، وإنَّما يتنصَّف عليه ما عداه.
ومنها: ذوو الفروض المجتمعون المزدحمون في فرض واحد؛ كالزَّوجات والجدَّات.
ويتفرع على هذا: إذا اجتمعت جدَّتان؛ أمُّ أمٍّ، وأمُّ أب مع ابنها الأب، وقلنا: إنَّه يحجبها؛ فهل تستحق أمُّ الأمِّ السُّدس كلَّه، أو نصفه؟ على وجهين:
(1)
في (ب) و (ج) و (ن): المأخذ الثَّاني في الوجه الأوَّل. مكان قوله: (المأخذ).
(2)
كتب على هامش (ن): (لأنَّ له تقدير حريَّته الباقي بعد فرض الأمِّ، فيكون له هنا بنصف حريَّته نصف الباقي بعد فرضها، قال في «المحرَّر»: وفيه بعد).
أصحُّهما: أنَّها تستحقُّ السُّدس كلَّه؛ لزوال المزاحمة مع قيام الاستحقاق لجميعه.
والثَّاني: تستحقُّ نصفه، وله مأخذان:
أحدهما: أن أمَّ الأب تحجبها عن السُّدس إلى نصفه، ولا أثر لكونها محجوبة، كما يحجب ولد الأمِّ الأمَّ مع انحجابهم بالأب.
وفيه نظر؛ فإنَّ حجب الجدَّة للجدَّة إنَّما هو بطريق المزاحمة، ولا مزاحمة هنا، وحجب الإخوة للأمِّ ليس بالمزاحمة؛ فإنَّهم لا يشاركونها في فرضها، وإنَّما وجودهم مقتضٍ لتنقيص فرضها.
والثَّاني: أنَّ أمَّ الأب لها مع أمِّ الأمِّ نصف السُّدس، فلمَّا حَجَب الأبُ أمَّه؛ توفر ذلك عليه، لا على الأخرى.
ورُدَّ: بأنَّ ولد الأمِّ يحجبون الأمَّ عن السُّدس، ثمَّ لا يأخذونه، بل يتوفَّر على الأب.
وقد يجاب عنه: بأنَّ ولد الأمِّ لمَّا كانوا محجوبين بالأب؛ توفَّر ما حجبوا عنه الأمَّ على من حجبهم، وهو الأب، كذلك هنا.
ومنها: الوصايا المزدحمة في عين أو مقدار من المال، فإنَّ حقَّ كلِّ واحد منهم في مجموع وصيَّته، وإنَّما يأخذ دون ذلك للمزاحمة، فإذا ردَّ بعضهم
(1)
؛ توفَّر على الباقين.
وإن أجاز الورثة بعض الوصايا دون بعض؛ فهل يعطى المجاز له القدر الَّذي كان يأخذه في حال الإجازة للكلِّ، أو يكمل له الجزء
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: بعض الموصى لهم).
المسمَّى في الوصية كلُّه
(1)
إن أمكن؛ لقيام استحقاقه له وقد أمكن وصوله إليه بزوال المزاحمة بالرَّدِّ على غيره
(2)
؟ فيه وجهان:
صحَّح صاحب «المحرر» الثَّاني.
ومن رجَّح الأوَّل قال: القدر المزاحم به كان حقًّا للمزاحِم، فإذا ردَّه الورثة عليه؛ توفَّر عليهم، لا على الوصيَّة الأخرى.
ويشهد للأوَّل
(3)
ما ذكره الخرقيُّ، وابن حامد، والقاضي، والأصحاب: فيمن وصَّى لرجل بعبد قيمته ثلث ماله، ولآخر بثلث ماله، فإن أجاز الورثة؛ فللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه
(4)
؛
لمزاحمة
(1)
في (ب) و (ج): له.
(2)
كتب على هامش (ن): (مثال ذلك: أن يخلِّف ابنين ويوصي بالكلِّ والثُّلث، فمسألة الرَّدِّ من اثني عشر، لصاحب الكلِّ ثلاثة، ولصاحب الثُّلث سهم، ولكلِّ ابن أربعة، ثمَّ من أجاز لصاحب الثُّلث دون صاحب الكلِّ؛ أعطاه نصف تتمة الربع على الوجه الأول، ونصف تتمة الثلث على الثاني، ومن أجاز منهما لصاحب الكل دون صاحب الثلث؛ أعطاه ثلاثة أرباع ما يزيده على الأوَّل وعلى الثَّاني جميع ما في يده؛ لأنه لا يبلغ نصف تتمة الكلِّ، وهو الواجب عليه لو أمكن).
(3)
كتب على هامش (ن): (كذا وقع، وصوابه: الثَّاني).
(4)
قوله: (ثلاثة أرباعه) كذا في (د) و (هـ)، والذي في (أ) و (ب) و (ج) و (و): ربعه. والمثبت موافق لما في المغني (6/ 226)، والمحرر (1/ 389)، والفروع (7/ 481).
قال الزركشي (4/ 396): (وإنما كان له ربع العبد، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه؛ لأن مقتضى وصية صاحب الثلث أن يكون له ثلث العبد، ومقتضى وصية صاحب العبد أن يكون له جميعه، فقد تضمنت الوصية قسمة العبد على أربعة أثلاث، وهو أربعة أرباع، وليس طرح وصية أحدهما بأولى من الأخرى، فيجعل الثلث ربعًا؛ كمسائل العول).
الآخر له فيه، ولصاحب الثُّلث ربع العبد وثلث باقي المال، وإن ردُّوا قُسم الثُّلث بينهما نصفين؛ فيأخذ صاحب وصيَّة العبد بقدر سدس المال كلِّه من العبد، ويأخذ الآخر سدس العبد وسدس باقي المال؛ لزوال المزاحمة بالرَّدِّ، فأمكن وصول كلٍّ منهما إلى نصف ما سمِّي له كاملاً؛ فلا ينقص منه.
وخرَّج صاحب «المحرر» وجهًا آخر من الوجه الثَّاني
(1)
في المسألة الَّتي قبلها
(2)
: أنه يقسم الثُّلث بينهما على حسب ما كانا يقتسمان وصيَّتهما حال الإجازة؛ فيفضل نصيب صاحب الثُّلث على نصيب صاحب العبد، وهو اختيار صاحب «المغني» ؛ تسوية بينهما في الرَّدِّ والإجازة.
وفي تخريج هذا من المسألة الَّتي قبلها نظر؛ لأنَّ الورثة هناك قد يكون مقصودهم بالرَّدِّ على أحدهما توفير ما كان يأخذه بالمزاحمة عليهم، كما لو أجازوا لصاحب الوصيَّة بالكلِّ، وردُّوا على الموصى له
(1)
كتب على هامش (ن): (كذا وقع، وصوابه: الأوَّل).
(2)
كتب على هامش (ن): (أي: في «المحرَّر» لا هنا، وهي إذا أوصى بالكلِّ والثُّلث).
بالثُّلث؛ فلو أعطينا صاحب الكلِّ ما ردُّوه على صاحب الثُّلث؛ لم يبق في ردِّهم فائدة لهم، وهنا لا يخرج عنهم سوى الثُّلث
(1)
، فينبغي أن يقتسمه الوصيَّتان
(2)
على قدرهما
(3)
؛ عملاً بمراد الموصي من التَّسوية، حيث أمكن، ولا ضرر على الورثة في ذلك.
ومنها: استحقاق الغانمين من الغنيمة، متى ردَّ أحدهم؛ توفَّر على الباقين، وسواء قلنا: ملكوه بالاستيلاء، أو لم يملكوه.
ومنها: الموقوف عليهم، إذا ردَّ بعضهم؛ توفَّر على الباقين؛ كما لو مات بعضهم، وقد سبقت.
(4)
ومنها: حدُّ القذف الموروث لجماعة؛ يستحقُّه كلُّ واحد بانفراده، فلو أسقطه بعضهم؛ فللباقين استيفاؤه.
وأمَّا النَّوع الثَّاني؛ فله أمثلة:
منها: عقود التَّمليكات المضافة إلى عدد؛ فيملك كلُّ واحد منهم بحصَّته؛ لاستحالة أن يكون كلُّ واحد منهم مالكاً لجميع العين.
ثمَّ ههنا حالتان:
(1)
كتب على هامش (ن): (كان الأولى أن يقال: وهنا يخرج عنهم الثُّلث على كلِّ حال، سواء فضَّلنا صاحب الثُّلث على صاحب العبد أو لا، فلا فائدة لهم في ذلك على كلا الوجهين).
(2)
في (ن): الوصيَّان. وكتب على هامش (ن): (أي: الموصى لهما).
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: قدر وصيَّتهما).
(4)
ينظر: القاعدة السبعون ص ..... ظظ
إحداهما: أن يكون التَّمليك بعوض؛ مثل أن يبيع من رجلين عبداً، أو عبدين بثمن، فيقع الشِّراء بينهما نصفين، ويلزم كلَّ واحد نصف الثَّمن، وإن كان لاثنين عبدان مفردان، لكل واحد عبد، فباعاهما من رجلين صفقةً واحدةً، لكلِّ واحد عبداً معيَّنًا بثمن واحد؛ ففي صحَّة البيع وجهان:
أصحُّهما -وهو المنصوص-: الصحَّة، وعليه؛ فيقتسمان الثَّمن على قدر قيمتي العبدين.
وذكر القاضي وابن عقيل وجهاً آخر: أنَّهما يقتسمانه على عدد رؤوس المبيع نصفين؛ تخريجاً من أحد الوجهين فيما إذا تزوَّج أربعاً في عقد بمهر واحد، أو خالعهنَّ بعوض واحد: أنَّه يكون بينهنَّ أرباعاً.
وهو ههنا بعيد جدًّا؛ لأنَّ البضع ليس بمال محض؛ فكيف يسوَّى
(1)
به الأموال المبتغى بها الأرباح والتَّكسُّب؟!
وخرَّجاه أيضاً في الكتابة، وهو أقرب من البيع؛ إذ الكتابة فيها معنى العتق.
الحالة الثَّانية: أن يكون بغير عوض، مثل أن يهب لجماعة شيئاً، أو يملِّكهم إيَّاه عن زكاة، أو كفَّارة مشاعاً؛ فقياس كلام الأصحاب في التَّمليك بعوض: أنَّهم يتساوون في ملكه.
وحكى صاحب «المغني» فيما إذا وضع طعامًا في الكفَّارة بين يدي عشرة مساكين، فقال: هو بينكم بالسَّويَّة، فقبلوه، ثلاثة أوجه:
(1)
في (ب) و (و) و (ن): تسوَّى.
إحداها - وهو الَّذي جزم به أوَّلاً -: أنَّه يجزئه؛ لأنَّه ملَّكهم التَّصرف فيه والانتفاع به قبل القسمة، كما لو دفع دين غرمائه بينهم.
والثَّاني - وحكاه عن ابن حامد -: يجزئه وإن لم يقل بالسَّويَّة؛ لأنَّ قوله: خذوها عن كفَّارتي؛ يقتضي التَّسوية؛ لأنَّ ذلك حكمها.
والثَّالث - وحكاه عن القاضي -: أنَّه إن علم أنَّه وصل إلى كلِّ واحد قدر حقِّه؛ أجزأ، وإلَّا لم يجزئ.
هذا ما ذكره، وأصل ذلك ما قال القاضي في «المجرَّد»: إذا أفرد ستِّين مدًّا، وقال لستِّين مسكيناً: خذوها، فأخذوها، أو قال: كلوها، ولم يقل بالسَّويَّة، أو قال: قد ملَّكتكموها بالسَّويَّة، فأخذوها؛ فقال شيخنا أبو عبد الله
(1)
: يجزئه؛ لأنَّ قوله خذوها عن كفَّارتي يقتضي التَّسوية؛ لأنَّ حكم الكفَّارة أن تكون بينهم بالسَّويَّة، فإن عرف أنَّها وصلت إليهم بالسَّويَّة؛ أجزأه، وإن علم التَّفاضل؛ فمن حصل معه الفضل؛ فقد أخذ زيادة، ومن أخذ أقلَّ؛ كان عليه أن يكمله، وإن لم يعلم كيف وصل إليهم؛ لم يجزئه، وعليه استئنافها؛ لأنَّه لم يعلم قدر ما وصل إلى كلِّ واحد منهم بعينه. انتهى.
فحكى الكلَّ عن ابن حامد، وصاحب «المغني» جعل الإجزاء مطلقاً قول ابن حامد، واعتبار الوصول قول القاضي، وليس كذلك.
وكذلك استشكل الشَّيخ مجد الدِّين ما وقع في «المجرَّد» ، وقال:(لعلَّه وقع غلط في النُّسخة)، وليس كذلك أيضاً
(2)
؛ فإنِّي نقلت ما ذكرته
(1)
يعني: الحسن بن حامد شيخ القاضي.
(2)
قوله: (أيضاً) سقط من (أ).
من أصل القاضي بخطِّه.
ثمَّ قال: (وعندي أنَّا إن قلنا: ملكوها بالتَّخلية، وأنها قبض؛ أجزأته بكلِّ حال). قال: (ولعلَّ هذا اختيار ابن حامد).
وهذا بعيد جدًّا، بل اختيار ابن حامد عكسه، وأنَّ الهبة والصَّدقة لا تملك بدون قبض، وقد قدَّمنا ذلك عنه في مسائل القبوض، وأنَّ القبض في المنقول بالنَّقل، فيتوجَّه على هذا: أنَّه لا بدَّ من تحقُّق قبض كلِّ واحد لمقدار ما يجزئ دفعه إليه؛ لأنَّه لم يملكه بدونه، ولا عبرة بالإيجاب لهم بالسَّويَّة.
وما حكاه القاضي عن ابن حامد يشعر بأنَّ إطلاق قوله: خذوا هذا، أو هو لكم؛ لا يحمل على التَّسوية؛ فإنَّه إنَّما علَّل بأنَّ التسوية حكم الكفَّارة، وهذا مخالف لما قرَّره
(1)
في عقود المعاوضات.
وأمَّا ما حكاه في «المغني» من طرد الخلاف فيما لو قال: هو بينكم بالسَّويَّة، أو اقتصر على قوله: هو بينكم؛ فليس ذلك في كلام القاضي.
ويتخرَّج ذلك على أصل، وهو أنَّ إطلاق البينيَّة هل تقتضي التَّساوي، أم لا؟ وفي المسألة وجهان:
أحدهما: أنَّه يقتضيه، وهو الَّذي ذكره الأصحاب في مسألة
(2)
المضاربة إذا قال: خذ هذا المال فاتَّجر به، والربح بيننا؛ أنَّهما يتساويان فيه.
(1)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): قرَّروه.
(2)
قوله: (مسألة) سقطت من (ب) وباقي النسخ.
وصرَّح القاضي، وابن عقيل، والأصحاب في مسألة المضاربة: بأن إطلاق الإقرار بشيء أنَّه بينه وبين زيد يتنزَّل على المناصفة أيضاً.
وكذلك صرَّحوا به في الوصايا إذا قال: وصَّيت لفلان وفلان بمائةٍ بينهما، أنَّ لكلِّ واحد خمسين.
ونصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور فيمن قال: بين فلان وفلان مائة درهم، وأحدهما ميِّت: ليس للحيِّ إلَّا خمسون درهماً، وكذا لو قال: لفلان وفلان مائة درهم، وأحدهما ميِّت، وأنكر قول سفيان بالتَّفرقة بينهما
(1)
.
وهذا تصريح بأنَّ إطلاق الوصيَّة لفلان وفلان تتنزَّل على التَّساوي، كما لو قال: بينهما.
والوجه الثَّاني: أنَّ إطلاق البينيَّة لا يقتضي التَّساوي، وبه جزم القاضي في «خلافه» ، وابن عقيل في «عُمَده» في مسألة الإقرار في كتاب البيع، وكذلك ذكره أبو الخطَّاب في الإقرار، وصاحبا «المغني» و «المحرر» .
ومنها: القصاص المستحقُّ لجماعة بقتل موروثهم، يستحقُّ كلُّ واحد منهم بالحصَّة؛ فمن عفا منهم؛ سقط حقُّه، وسقط الباقي؛ لأنَّه لا يتبعَّض.
وههنا صور مختلف فيها؛ هل تلحق بالنَّوع الأوَّل، أو الثَّاني؟ كالغرامات الواجبة على جماعة بسبب واحد؛ كالمشتركين في قتل
(1)
ينظر: مسائل ابن منصور (8/ 4330).
آدميٍّ، أو صيد محترم
(1)
، أو في الوطء في الحجِّ، أو الصِّيام؛ هل تتعدَّد عليهم الدِّيات، والجزاء، والكفَّارة؟
وكذلك عقود التوثُّقات؛ كالرَّهن، والضَّمان والكفالة، وقد سبق ذكرها
(2)
.
(1)
في (أ): محرم. وفي (د): بحرم.
(2)
ينظر: القاعدة (113) ص ....
قاعدة [116]
من استند تملُّكه إلى سبب مستقرٍّ لا يمكن إبطاله، وتأخَّر حصول الملك عنه؛ فهل تنعطف أحكام ملكه إلى أوَّل وقت انعقاد السَّبب
، وتثبت أحكامه من حينئذ، أم لا تثبت إلَّا من حين ثبوت الملك؟ فيه خلاف.
وللمسألة أمثلة كثيرة:
منها: ملك الشَّفيع إذا أخذ بالشُّفعة، وثَمَّ نخل مؤبَّر كان وقت البيع غير مؤبَّر، وفيه وجهان سبق ذكرهما
(1)
.
ومنها: ملك الموصى له إذا قبل بعد الموت؛ فهل يثبت له الملك من حين الموت أم لا؟ وفيه خلاف معروف.
ومنها: إذا تملَّك المالك للأرض زرعَ الغاصب بنفقته بعد بدوِّ صلاحه؛ فهل تجب زكاته عليه، أم على الغاصب؟ على وجهين، وقد سبق في بيع الثَّمرة قبل بدوِّ صلاحها بشرط القطع نحو ذلك
(2)
.
(1)
كتب على هامش (ن): (ينظر أين سبق ذكرهما، فإنِّي لم أقف عليه). ينظر: آخر القاعدة (81) ص ....
(2)
ينظر: القاعدة (81) ص ....
ومنها: الفسخ بالعيب والخيار؛ فإنَّه يستند إلى مقارن للعقد؛ فهل هو رفع للعقد من أصله، أو من حينه؟ وفيه خلاف معروف.
ومنها: دية المقتول؛ هل تحدث على ملك الوارث؛ لأنَّها تجب بعد الموت، أو على ملك الموروث
(1)
؛ لأنَّ سببها وجد في حياته؟ على روايتين معروفتين.
وحكى ابن الزَّاغونيِّ في «الإقناع» الرِّوايتين في القصاص أيضاً؛ هل هو واجب للورثة ابتداءً، أو موروث عن الميِّت؟
ومنها: إذا انعقد سبب الملك أو الضَّمان في الحياة، وتحقَّق بعد الموت؛ كمن نصب شبكة، فوقع فيها صيد بعد موته، أو عثر بها إنسان، وفيه خلاف سبق ذكره.
(2)
ومنها: إذا كاتب عبداً، ثمَّ مات، ولم يؤدِّ إليه شيئاً، فأدى إلى ورثته، وعتق؛ فهل الولاء للسيِّد الَّذي كاتبه؛ لانعقاد سببه في ملكه، أو للورثة المؤدَّى لهم؛ لتحقُّق السَّبب في ملكهم؟ على روايتين، والمذهب: أنَّ الولاء للسيِّد الأوَّل.
ومنها: إذا كاتب المكاتَب عبداً، فأدَّى إليه، وعتق قبل أدائه، أو أعتقه بمال، وقلنا: له ذلك؛ ففي ولائه وجهان:
أحدهما: أنَّه للسيِّد الأوَّل، وهو محكيٌّ عن أبي بكر؛ لثبوت الولاء
(1)
كتب على هامش (و): (وهو الصحيح).
(2)
كتب على هامش (ن): (يكشف محله مما سبق، فإني لم أقف عليه)، ينظر: القاعدة (89) ص ....
على هذا العتيق في حال ليس مولاه من أهل الميراث، فاستقرَّ لمولى المولى.
والثَّاني: هو موقوف، فإن أدَّى المكاتب الأوَّل وعتق؛ فالولاء له؛ لانعقاده له قبل عتقه، وهو قول القاضي في «المجرد» .
ورجَّح في «الخلاف» قول أبي بكر، حتَّى حكى عنه: أنَّه لو عتق
(1)
المكاتب الأوَّل قبل الثَّاني؛ فالولاء للسَّيِّد؛ لانعقاد سبب الولاء له، حيث كان المكاتب ليس أهلاً له.
وكلام أبي بكر إنَّما يدلُّ على استقرار الولاء للسَّيِّد إذا وقعت الكتابة أو العتق المنجز بإذنه، وأمَّا ما وقع بغير إذنه؛ فالعتق عنده موقوف على أداء المكاتب الأوَّل؛ فينبغي أن يكون الولاء له كولاء ذوي رحمه الَّذين اشتراهم في حال الكتابة.
وأمَّا العبد القنُّ إذا أَعتق بإذن سيِّده ممَّا ملَّكه، وقلنا: يملكه؛ فحكى صاحب «المغني» عن طلحة العاقوليِّ من أصحابنا
(2)
: أنَّه موقوف، فإن عتق؛ فالولاء له، وإن مات قنًّا؛ فهو للسَّيِّد.
وفي «المجرَّد» للقاضي: أنَّ الولاء للسَّيِّد مطلقاً.
ونص أحمد في رواية ابن منصور في عبد أذِنَ له سيِّده أن يبتاع عبداً
(1)
في (أ): أعتق.
(2)
هو طلحة بن أحمد بن طلحة بن أحمد الكندي العاقولي، الفقيه القاضي أبو البركات، قرأ على القاضي أبي يعلى وحضر درسه الفقه، وروى عنه الجامع الصغير، وقرأ الفقه على القاضي يعقوب، وهو من متقدمي أصحابه، وكان عارفًا بالمذهب، حسن المناظرة، توفي سنة 512 هـ. ينظر: ذيل الطبقات 1/ 310.
ويعتقه: أنَّ ولاءه للسَّيِّد
(1)
، وقال: إذا أذنوا له؛ فكأنهم هم المعتقون.
وهذا يدلُّ على الفرق بين عتق المكاتب بإذن سيِّده، وعتقه بدونه كما سبق.
ويحتمل أن يكون مخرَّجاً على قوله: إنَّ العبد لا يملك، وأنَّه أعتقه بإذن سيِّده بطريق الوكالة، ثمَّ ليس في نصِّه أنَّ العبد عتق بعد ذلك، وإنَّما فيه أنَّ سيِّده باعه.
ويشبه هذه المسائل: إذا أسلم الكافر على أكثر من أربع نسوة، وأسلمن معه، واختار منهنَّ أربعاً؛ انفسخ نكاح البواقي، وهل يبتدئن العدَّة من حين الاختيار؛ لأن نكاحهنَّ إنَّما انفسخ به، أو من حين الإسلام؛ لأنَّه السبب؟ على وجهين.
فأمَّا تصرُّف الفضوليِّ إذا قلنا: يقف على الإجازة؛ فأجازه من عقد له؛ فهل يقع الملك فيه من حين العقد حتَّى يكون النَّماء له، أم من حين الإجازة؟ على وجهين:
أحدهما: من حين العقد
(2)
، وبه قطع القاضي في «الجامع» ، وصاحب «المغني» في مسألة نكاح الفضولي.
والثَّاني: من حين الإجازة، وبه جزم صاحب «النِّهاية» ، ولكن السَّبب هنا غير مستقرٍّ؛ لإمكان إبطاله بالرَّدِّ.
(1)
في (أ): الولاء للسيد.
(2)
في (ب) و (و): الملك. وكتب على هامش (و): (صواب العبارة: الملك من حين العقد).
ويشهد للوجه الثَّاني: أنَّ القاضي صرَّح بأن حكم الحاكم بمختلف فيه إنَّما يفيد صحَّة المحكوم به، وانعقاده من حين الحكم، وقبل الحكم كان باطلاً
(1)
.
(1)
من قوله: (ويشهد للوجه الثَّاني) إلى هنا سقط من (ب).
ويلتحق بهذه القاعدة:
العبادات الَّتي يكتفى بحصول بعض شرائطها في أثناء وقتها إذا وجد الشَّرط في أثنائها؛ فهل يحكم لها بحكم ما اجتمعت شرائطه من ابتدائها، أم لا؟ فيه خلاف أيضاً
(1)
.
وينبني عليه مسائل:
منها: إذا نوى الصَّائم المتطوِّع الصَّوم في
(2)
أثناء النَّهار؛ فهل يحكم له بحكم الصِّيام من أوَّله، أو من حين نواه، فلا يثاب على صومه إلَّا من حين النِّيَّة؟ على وجهين، والثاني ظاهر كلام أحمد.
ومنها: إذا بلغ الصَّبيُّ، أو عتق العبد، وهما محرمان قبل فوات وقت الوقوف؛ فهل يجزئهما عن حجَّة الإسلام؟ على روايتين؛ أشهرهما: الإجزاء.
فقيل: لأنَّ إحرامهما انعقد مراعًى؛ لأنَّه قابل للنَّقل والانقلاب.
وقيل: بل يقدَّر ما مضى منه؛ كالمعدوم، ويكتفى بالموجود منه.
وقيل: إن قلنا: الإحرام شرط محض؛ كالطَّهارة للصَّلاة؛ اكتفي بالموجود منه، وإن قيل: هو ركن؛ لم يكتف به.
(1)
قوله: (أيضاً) سقط من (ب).
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): من.
قاعدة [117]
كلُّ عقد معلَّقٍ يختلف باختلاف حالين، إذا وجد تعليقه في أحدهما ووقوعه في الآخر
؛ فهل يغلب عليه جانب التَّعليق، أو جانب الوقوع؟
في المسألة قولان؛ إلَّا أن يفضي اعتبار أحدهما إلى ما هو ممتنع شرعاً
(1)
؛ فيلغى.
ويتفرَّع على ذلك مسائل:
منها: الوصيَّة لمن هو في الظَّاهر وارث؛ فيصير عند الموت غير وارث، أو بالعكس، والمذهب: أنَّ الاعتبار بحال الموت، ولم يحك الأكثرون فيه خلافاً؛ فإنَّ الوصيَّة للوارث لا يمكن أن تلزم، والوصيَّة للأجنبيِّ بالثُّلث فما دون لا يمكن أن تقف على الإجازة
(2)
.
ومنهم من حكى خلافاً ضعيفاً في الاعتبار بحال الوصيَّة، كما حكى أبو بكر وأبو الخطَّاب رواية: أنَّ الوصيَّة في حال الصِّحَّة من رأس المال.
(1)
كتب على هامش (ن): (كما إذا كانت الصِّفة المعلَّق عليها: عتق عبده في حال صحَّته، إذا وجدت في مرضه من فعل السَّيِّد).
(2)
كتب على هامش (ن): (أي: ما دام الوارث وارثاً، والأجنبيُّ أجنبيًّا، وقوله: «فإنَّ الوصيَّة
…
» إلى آخره؛ بيان لاختلاف الوصيَّة باختلاف حال الموصى له من كونه وارثاً وأجنبيًّا).
ولا يصحُّ عن أحمد، وإنَّما أراد به العطيَّة المنجزة، كذلك قال القاضي وغيره.
ومنها: إذا علَّق عتق عبده في صحَّته بشرط، فوجد في مرضه؛ فهل يعتق من الثُّلث، أو من رأس المال؟ على وجهين، وحكى القاضي في «خلافه» روايتين.
واختيار أبي بكر وابن أبي موسى: إنَّه يعتق من الثُّلث.
وهذا إذا لم تكن الصِّفة واقعة باختيار المعلِّق، فإن كانت من فعله؛ فهو من الثُّلث بغير خلاف، وقد نصَّ عليه أحمد في رواية صالح: إذا قال لامرأته: أنتِ كذا وكذا إن لم أخرج إلى البصرة، وقال: لم تكن لي نيَّة في تعجيل ذلك؛ فلا تطلق حتَّى يكون في وقت لا يقدر أن يخرج
(1)
.
وكذلك لو قال: غلامه حرٌّ إن لم يفعل كذا وكذا، فلم يكن له نيَّة؛ فلا يعتق حتَّى يكون في وقت لا يقدر أن يفعل الَّذي قال.
فإذا طلقت؛ ورثته واعتدَّت، وإذا عتق؛ كان من ثلثه.
وهكذا حكم ما إذا أعتق حملَ أمتِه في صحَّته، ثمَّ وضعته في مرضه، وقلنا: لا يعتق الحمل إلَّا بعد الوضع.
ومنها: إذا علَّق طلاق امرأته في صحَّته على صفة، فوجدت في مرضه، ولم يكن من فعله؛ فهل ترث أم لا؟ على روايتين.
(1)
كتب على هامش (ن): (وذلك قبل موته بمقدار وقتٍ لا يتَّسع لخروجه إلى البصرة).
والمنصوص: أنَّها ترثه في رواية صالح ومهنَّى
(1)
.
والأخرى مخرَّجة من مسألة قذفها في الصِّحَّة، وملاعنتها في المرض.
ومنها: إذا أوصى
(2)
إلى فاسق، فصار عدلاً عند الموت؛ فهل تصحُّ الوصيَّة بناءً على قولنا: لا يصحُّ الإيصاء
(3)
إلى الفاسق؟ على وجهين.
ومنها: لو أوصى له بدار، ثمَّ انهدم بعض بنائها قبل الموت؛ فهل يدخل تلك الأنقاض
(4)
في الوصيَّة؟ على وجهين.
وكذلك الوجهان لو زاد فيها بناءً لم يكن حال الوصيَّة، ذكر ذلك أبو الخطَّاب.
ومنها: لو قال العبد: متى ملكت عبداً فهو حرٌّ - وقلنا: يصحُّ هذا التَّعليق من الحرِّ؛ كما هو المشهور من المذهب- ثمَّ عتق، ثمَّ ملك عبداً؛ فهل يعتق؟ على وجهين.
ولو وصَّى المكاتب بشيء، ثمَّ عتق قبل موته؛ فهل تصحُّ وصيَّته؟ خرَّجها الشَّيخ مجد الدِّين على الوجهين.
ومنها: لو قال العبد لزوجته: إن دخلت الدَّار فأنت طالق ثلاثاً، ثمَّ عتق، ثمَّ دخلت الدَّار؛ فهل تطلق ثلاثاً، أو اثنتين، حيث لم يكن مالكاً
(1)
لم نجدها في مسائل صالح، وأما رواية مهنى فقد نقلها القاضي في الروايتين والوجهين (2/ 70).
(2)
في (أ): وصَّى.
(3)
قوله: (الإيصاء) سقط من (ب)، وهو في (و): الوصية.
(4)
في (أ): الأبعاض.
حال التَّعليق لأكثر منها؟ على وجهين.
ومنها: لو علَّق طلاق امرأته قبل الدُّخول
(1)
على قدوم زيد - مثلاً-، ثمَّ دخل بها، ثمَّ قدم زيد وهي حائض؛ فإنَّه يقع الطَّلاق بدعيًّا لا بمعنى الإثم به، بل بمعنى أمره بالمراجعة فيه.
ولو كان قد علق طلاقاً أو غيره على طلاق البدعة؛ ترتَّب عليه، ولم يحك الأصحاب فيه خلافاً.
ولو قال: إن قمت فأنت طالق، فقامت وهي حائض؛ فهل يكون بدعيًّا؟
قال في «الانتصار» : مباح
(2)
، وفي «التَّرغيب»: لقصدها لزوم رجعتها بقيامها، بخلاف قدوم زيد؛ لعدم قصدها فيه؛ بدعيٌّ
(3)
.
(4)
(1)
كتب على هامش (ن): (تقييده بما قبل الدُّخول لكونها حينئذ لا سنَّة ولا بدعة لطلاقها، وكذلك لو كانت مدخولاً بها وهي حامل قد استبان حملها فوضعت، ثمَّ قدم زيد وهي حائض، وكذا لو كانت صغيرة مدخولاً بها فبلغت وحاضت، وقدم زيد وهي حائض).
(2)
قوله: (مباح): هو في (أ) و (د): يحتمل وجهين.
(3)
قوله: (وفي «التَّرغيب»: لقصدها لزوم) من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و). وذُكر مصححاً في (ب)، وكتب في هامشها:(هذا التَّعليل وجد بخط المصنَّف). وقوله: (بدعي) سقط من (ن).
(4)
كتب على هامش (ن): (من قوله: "لقصدها .. " إلى آخره، بخطَّ المصنِّف، ولم يدر الكاتب محلَّها).
وعُلِّق على ذلك: (وليس ذلك ثابتاً في النُّسخة المعتمدة أصلاً، فلعل المؤلف كتب ذلك في بعض النُّسخ).
قاعدة [118]
تعليق فسخ العقد وإبطاله بوجوده: إن كان فيه مقصود معتبر شرعاً
؛ صحَّ، وإلَّا لم يصحَّ؛ إذ لو صحَّ؛ لصار العقد غير مقصود في نفسه، هذا مقتضى قواعد المذهب.
ويتخرَّج على ذلك مسائل:
منها: إذا علَّق الطَّلاق بالنِّكاح؛ فالمذهب المنصوص
(1)
: أنَّه لا يصحُّ؛ لأنَّ النِّكاح لا يقصد للطَّلاق عقيب العقد.
واختلفت الرِّواية عنه
(2)
فيمن حلف لزوجته ألَّا يتزوَّج عليها بتعليق طلاق من يتزوَّجها عليها بنكاحها؛ هل يصحُّ، أم لا؟ على روايتين؛ لأنَّ هذا فيه حقٌّ للزَّوجة، فيصير مقصوداً، كما لو شرط ألَّا يتزوَّج عليها.
فمن الأصحاب من خصَّ الخلاف بهذه الصُّورة، ولم يخرِّج، ومنهم من خرَّج في الكلِّ روايتين.
هذا كلُّه إذا لم يكن حالة التَّعليق في نكاحه؛ فإن كانت في نكاحه
(1)
في (أ): فالمذهب المقتضى المنصوص. وفي (هـ): المنصوص عن أحمد. وينظر: مسائل صالح (2/ 332)، مسائل عبد الله (ص 357).
(2)
ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 141).
حينئذ، وعلَّق طلاقها على نكاح آخر يوجد؛ فنصَّ أحمد في رواية ابن منصور وغيره على أنَّه يصحُّ هذا التَّعليق
(1)
، وحكاه القاضي في «المجرَّد» عن أبي بكر، ورجَّحه ابن عقيل؛ لأن التَّعليق هنا في نكاح، ومن أصلنا أنَّ الصِّفة المطلقة تتناول جميع الأنكحة بإطلاقها، وتعود الصفة فيها؛ فكيف إذا قيِّدت بنكاح معيَّن.
ولو علَّقه في مِلك يمينه لأمته على نكاحها بعد عتقها؛ فنصَّ أحمد في رواية ابن هانئ على أنَّه يصحُّ
(2)
، معلِّلا بأنَّ ملك اليمين كالنِّكاح في استباحة الوطء؛ فلا يكون التَّعليق فيه كتعليق نكاح الأجنبيَّة.
وكذلك نصَّ
(3)
فيمن أعتق أمته، ثمَّ قال لها متَّصلًا بعتقها: إن نكحتك فأنت طالق: أنه يصحُّ؛ لأنَّه
(4)
في هذه الحال يملك عقد النِّكاح عليها قهراً، فلم تنقطع آثار الملك فيه بالكلِّيَّة؛ فلذلك انعقدت فيه الصِّفة.
ومنها: تعليق العتق بالملك، والمذهب المنصوص: صحَّته؛ لأنَّ الملك يراد للعتق، ويكون مقصوداً، كما في شراء ذي الرَّحم وغيره.
والخلَّال وصاحبه لا يثبتان في المذهب في ذلك خلافاً، وابن حامد والقاضي يحكيان روايتين.
(1)
لم نجده في مسائل ابن منصور، وينظر: الاختيارات للبعلي (ص 376).
(2)
ينظر: مسائل ابن هانئ (1/ 235 - 236).
(3)
ينظر: مسائل ابن هانئ (1/ 236).
(4)
قوله: (لأنَّه) سقط من (أ) و (د).
ومنها: تعليق النَّذر بالملك؛ مثل: إن رزقني الله مالاً، فلله عليَّ أن أتصدَّق به، أو بشيء منه؛ فيصحُّ، ونقل الشَّيخ تقيُّ الدِّين عليه الاتِّفاق
(1)
، وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى:{ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدَّقنَّ. . .} الآية
(2)
.
ومنها: تعليق فسخ الوكالة على وجودها، وتعليق الوكالة على فسخها؛ كالوكالة الدَّوريَّة، وقد ذكر صاحب «التَّلخيص»: أنَّ قياس المذهب صحَّة ذلك؛ بناءً على أنَّ الوكالة قابلة للتَّعليق عندنا، وكذلك فسخها.
وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: لا يصحُّ؛ لأنَّه يؤدِّي إلى أن تصير العقود الجائزة لازمة، وذلك تغيير
(3)
لقاعدة الشَّرع، وليس مقصود المعلِّق إيقاع الفسخ، وإنَّما قصده الامتناع من التَّوكيل وحلُّه قبل وقوعه، والعقود لا تفسخ قبل انعقادها.
(4)
ومنها: تعليق فسخ البيع بالإقالة على وجود البيع
(5)
، أو تعليق فسخ النِّكاح بالعيب على وجود النِّكاح، وقد صرَّح الأصحاب ببطلان ذلك، منهم: القاضي، وابن عقيل، وأبو الخطَّاب، معلِّلين بأنَّه رفع للعقد قبل عقده.
(1)
ينظر: الاختيارات للبعلي (ص 377).
(2)
في (ب) و (د) و (و) و (ن): الآيات.
(3)
في (ب): تغيُّر.
(4)
لم نجده في شيء من كتب شيخ الإسلام، وقد نقله عنه صاحب المبدع (4/ 332).
(5)
في (أ) و (د) و (هـ): المبيع.
ومنهم من يعلِّل بأنَّ الفسوخ لا تقبل التَّعليق، وقد صرَّح كثير منهم؛ كالقاضي، وأبي الخطَّاب، وابن عقيل، وصاحب «المغني» بهذا المأخذ، وهو مخالف لما نصَّ عليه أحمد في مسألة: إن جئتني بالثَّمن إلى كذا وكذا، وإلَّا فلا بيع بيننا، أنَّه يصحُّ
(1)
، ويكون تعليقاً للفسخ على شرط.
وقد صرَّح القاضي بجوازه في البيع خاصَّة في «خلافه» ، ومن المتأخِّرين من صرَّح به في فسخ الإجارة أيضاً.
ومنها: تعليق فسخ التَّدبير بوجوده، وصرَّح
(2)
القاضي في «المجرَّد» بامتناعه فيما إذا قال لأمته المدبَّرة: كلَّما ولدت ولداً؛ فقد رجعت في تدبيره، فقال: لا يكون رجوعاً؛ لأنَّ الرُّجوع إنَّما يصحُّ في تدبير موجود، وهذا بعدُ ما خلق؛ فكيف يكون رجوعاً؟ كما لو قال لعبده: متى دبَّرتك؛ فقد رجعت؛ لم يصحَّ. هذا لفظه.
(1)
ينظر: المغني (3/ 504)، وفي مسائل ابن منصور (6/ 3025): قلت: سئل سفيان عن رجل باع شيئاً، فقال: إن لم تحمله غداً فلا بيع بيني وبينك؟ قال: (لا أرى هذا شيئاً، والبيع جائز). قال أحمد: (هو على شرطه).
(2)
في (أ): وصرح به.
قاعدة [119]
إذا وجدنا لفظاً عامًّا قد خصَّ بعض أفراده بحكم موافق للأوَّل، أو مخالف له
؛ فهل يُقضى بخروج الخاصِّ من العامِّ وانفراده بحكمه المختصِّ به، أو يُقضى بدخوله فيه فيتعارضان مع اختلاف الحكم، ويتعدَّد سبب الاستحقاق مع اتِّفاقه؟
هذا على قسمين:
أحدهما: أن يكون الخاصُّ والعامُّ في كلام واحد متَّصل؛ فالمذهب: أنَّه يفرد الخاصُّ بحكمه، ولا يُقضى بدخوله في العامِّ، وسواء كان ذلك الحكم ممَّا يمكن الرُّجوع عنه كالوصايا، أو لا يمكن كالإقرار.
ويتفرَّع على ذلك مسائل:
منها: لو قال: هذه الدَّار لزيد، ولي منها هذا البيت؛ قُبِلَ، ولم يدخل البيت في الإقرار، صرَّح به الأصحاب.
ويجيء على اختيار ابن عقيل في مسألة (كان له عليَّ وقضيته) أنَّه لا يقبل منه في القضاء: ألَّا يقبل ههنا إفراد البيت؛ لأنَّ مأخذه: أنَّ المعطوف بالواو جملة مستقلَّة غير مرتبطة بما قبلها؛ فهي دعوى مستقلَّة؛ كما قالوا في قوله: (أنت طالق وعليك ألف): إنَّها تطلق بغير
عوض، بخلاف الاستثناء والصِّفات؛ فإنَّها مع ما قبلها شيء واحد.
والصَّحيح الأوَّل، وأنَّ المعطوف بالواو مع المعطوف عليه في حكم الجملة الواحدة، وهو المنصوص عن أحمد.
وأمَّا: أنت طالق وعليك ألف؛ ففيها روايتان.
ومأخذ الوقوع بغير عوض غير ما ذكروه
(1)
.
ومنها: لو وصَّى لزيد بشيء، وللمساكين بشيء، وهو مسكين؛ فإنَّه لا يستحقُّ مع المساكين من نصيبهم شيئاً، نصَّ عليه أحمد في رواية ابن هانئ
(2)
وعليِّ بن سعيد.
ونقل القاضي فيما قرأته بخطِّه: الاتِّفاق على أنَّ زيداً لا يستحقُّ من وصيَّة المساكين في مثل
(3)
هذه الصُّورة؛ وإن كان مسكيناً.
مع أنَّ ابن عقيل في «فنونه» حكى عنه أنَّه خرَّج وجهاً آخر
(1)
كتب على هامش (ن): (وهو أنَّه لم يجعل الألف عوضاً للطَّلاق ولا شرطاً فيه، إنَّما عطفه على الطَّلاق الَّذي يمكن إيقاعه، فوقع ما يملكه، ولم يلزم ما جعله عليها، كما لو قال: أنت طالق وعليك الحج، وحاصله أنَّ قوله: ولي هذا البيت، بعد قوله: هذه الدَّار لزينب؛ خاص ورد بعد عام، فأمكن الجمع بينهما بذلك، وقوله: وعليكِ ألف بعد: وأنت طالق، يقتضي رفع ما أوقعه جميعه بأمر ليس إليه).
(2)
مسائل ابن هانئ (2/ 48).
(3)
قوله: (مثل) سقط من (ب) و (ن).
بمشاركتهم إذا كان مسكيناً
(1)
.
ومنها: لو وصَّى لزيد بخاتم، وبفصِّه لآخر، أو وصَّى لرجل بعبد، وبمنافعه لآخر، أو لأحدهما بالدَّار، ولآخر بسكناها، ونحو ذلك، بلفظ لا يقتضي انفراد كلِّ واحد بما وُصِّي له به صريحاً؛ فقال أبو بكر في «الشَّافي»: لكلِّ واحد منهما ما وُصِّي له به لا يشاركه الآخر فيه.
وحمله الشَّيخ مجد الدِّين على أنَّه كان في كلام واحد متَّصل، وأخذه من مسألة الإقرار السَّابقة.
والمنصوص عن أحمد ههنا التَّوقُّف، قال مهنَّى: سألت أبا عبد الله عن رجل أوصى بعبد لرجل، ثمَّ أوصى به لآخر؛ قال: هذه مشكلة، فقلت له: فإنَّ ناساً يقولون: يكون العبد بينهم نصفين، قال: لا.
فقلت له: فإنَّه أوصى بدار لرجل وأوصى بغلَّتها لآخر، فقال: هذه مثل تلك.
فقلت لأبي عبد الله: فإنَّه
(2)
أوصى بخاتمه لرجل وأوصى بالفصِّ لآخر، فقال: وهذه أيضاً مثل تلك، ولم يخبرني فيهم بشيء.
فتوقَّف في المسألة، وأنكر قول من قال بالاشتراك في العبد إذا
(1)
كتب على هامش (ن): (سيأتي أنَّ وجه التَّخريج عامل الزَّكاة حيث يستحقُّ الأخذ مع عمالته بفقره، وقد يفرَّق بينهما: بأنَّ ما يأخذه العامل أجرة عمله ليس للمواساة، وما يأخذه لفقره للمواساة، بخلاف مسألة زيد فإنَّ ما عُيِّن وصيَّة كالَّذي للمساكين).
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): إنَّه.
أُوصِيَ به لاثنين
(1)
، وجعل حكم الوصيَّة بالدَّار وغلَّتها، والخاتم وفصِّه؛ حُكْمَ الوصيَّة بعبد لاثنين؛ فدلَّ على أنَّه لا اشتراك في الفصِّ والغلَّة.
وظاهر كلامه: أنَّه
(2)
يكون للموصى له به بخصوصه، لكن هذا قد يكون مأخذه أنَّ الوصيَّة الثَّانية رجوع عن الأولى، كما أشعر به كلامه في العبد
(3)
.
والمشهور في المذهب: أنَّ الوصيَّة بعين مرَّةً لرجل، ومرَّةً لغيره؛ لا يكون رجوعاً، بل يشتركان فيها، كما نصَّ عليه أحمد في الوصيَّة بالأجزاء المنسوبة؛ كالثُّلث
(4)
ونحوه
(5)
.
ومنها: لو وصَّى بثلثه لرجل، ووصَّى لآخر بمقدَّر منه، فقال
(6)
(1)
كتب في هامش (ن): (لكن ظاهر نصه أن الوصيتين في وقتين مختلفين؛ لقوله: «ثم أوصى به لآخر» بخلاف مسألة الفص والغلة).
(2)
كتب على هامش (ن): (أي: الفص والغلة).
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: حيث نفى الشَّركة فيه).
(4)
كتب على هامش (ن): (أي: إذا أوصى به لاثنين مرتَّبين؛ لم تكن الوصيَّة به للثاني رجوعاً عن الوصيَّة به للأوَّل، بل يشتركان فيه، فكذلك الوصيَّة بالعين).
(5)
جاء في مسائل صالح (3/ 189): (قلت: الرجل يوصي بثُلُث ماله، ولآخر بماله؟ قال: من أربعة؛ لهذا ثلاثة، ولهذا واحد).
(6)
في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): قال.
أحمد في رواية الحسن بن ثواب في رجل قال: ثلثي هذا لفلان، ويعطى فلان منه مائة درهم في كلِّ شهر إلى أن يموت؛ قال: هو للآخر منهما، قيل
(1)
: كيف؟ قال: لأنَّ الوصيَّة رجعت إلى الَّذي قال: ويعطى هذا منه كلَّ شهر، وإذا مات هذا وفضل شيء؛ يردُّ إلى صاحب الثُّلث
(2)
.
ظاهر هذه الرِّواية يدلُّ على تقديم الوصيَّة بالمقدَّر على الوصيَّة بالجزء المنسوب؛ لأنَّهما كالخاصَّة والعامَّة.
وكتب القاضي بخطِّه على حاشية «الجامع» للخلَّال: ظاهر كلام أحمد أنَّ الوصيَّة الثَّانية تقتضي الرُّجوع عن الأولى؛ لأنَّ الثَّانية تستغرق جميع المال؛ إذ العمر ليس له حدٌّ معروف، قال: وقد قيل: لا يكون رجوعاً، ويقسم الثُّلث على أربعة: للموصى له بالثُّلث سهم، وثلاثة للآخر، كما لو وصَّى لرجل بماله ولآخر بثلثه، انتهى.
وكِلَا الوجهين المذكورين فيهما ضعف؛ لأنَّ أحمد
(3)
ردَّ الفاضل عن النَّفقة إلى الأوَّل، وهذا يبطل أنَّه رجوع، ولأنَّ الوصيَّة للثَّاني إنَّما هي من الثُّلث؛ فكيف تكون وصيَّة بالمال كلِّه؟! فيتعيَّن حملها على ما قدَّمناه أوَّلاً
(4)
.
(1)
في (أ): قال.
(2)
ينظر: المغني (10/ 99).
(3)
قوله: (لأنَّ أحمد) هو في (ب) و (ن): لأنَّه.
(4)
كتب على هامش (ن): (وهو أنَّ الوصيَّة بالمقدَّر تقدم على الوصيَّة بالثُّلث).
فأمَّا المسألة الَّتي ذكرها الخرقيُّ في كتابه، وهي: إذا أوصى لرجل بعينٍ
(1)
من ماله؛ كعبد، ولآخر بجزء مشاع منه؛ كالثُّلث، وأنَّ الوصيَّتين تزدحمان في المعيَّن مع الإجازة، كما لو وصَّى به لاثنين، وتبعه على ذلك ابن حامد، والقاضي، والأصحاب؛ فهذا قد
(2)
يحمل على ما إذا كانت الوصِيَّتان في وقتين مختلفين، ولا إشكال على هذا
(3)
.
وإن حُمل على إطلاقه - وهو الَّذي اقتضاه كلام الأكثرين-؛ فهو وجه آخر، ونصوص أحمد وأصوله تخالفه؛ كنصِّه في رواية مهنَّى في الوصيَّة بالعبد لاثنين
(4)
، ونصِّه على أنَّ من أوصى لزيد بشيء، ولجيرانه
(1)
في (ب) و (و): بمعيَّن.
(2)
قوله: (قد) سقط من (أ).
(3)
كتب على هامش (ن): (قوله: "ولا إشكال على هذا"؛ لأنَّهما إذا كانا في وقتين؛ دخل المعيَّن في عموم ماله الموصى بثلثه، فيزدحمان، وإذا كانا في وقت واحد؛ فالظَّاهر عدم الدُّخول، فلا مزاحمة، وذلك لأنَّ إفراد بعض أفراد العام بحكم يرجِّح كون ذلك الفرد لم يرد شمول العموم، بخلاف ما إذا كانا في وقتين؛ فإنَّه لا ترجيح هناك، بل الظَّاهر ثبوت الحكمين له، ومن ذلك استحقاق العامل بعمله وفقره، والوارث بقرابتيه).
(4)
كتب على هامش (ن): (قوله: "في الوصيَّة بالعبد لاثنين" في دلالة نصِّه على مسألة العبد على ما ذكر نظر، وذلك أنَّ ظاهرها أنَّ ذلك كان في وقتين؛ حيث قال فيها: أوصى بعبد لرجل، ثمَّ أوصى به للآخر، ولا يخفى أن "ثم" تقتضي المهلة، وذلك يدلُّ على اختلاف الوقتين، لكن قد يقال: قد بقَّى أحمد الشَّركة بينهما، فإن كان الحكم عنده انتفاء الشَّركة مع اختلاف وقتي الوصيَّة؛ فانتفاؤها مع اتحاد وقتيهما بطريق الأولى، وإن كان إنَّما حكم بانتفاء الشَّركة لاتِّحاد وقتي الوصيَّتين، فتكون لفظة «ثمَّ» على غير حقيقتها، بل تكون بمعنى الواو، فهي في ذلك لمجرَّد التَّرتيب في الذِّكر، وحينئذ فيصحُّ استدلال المصنِّف بها على ما أراده).
بشيء، وزيد من جيرانه؛ أنَّه لا يستحقُّ من الوصيَّة للجيران شيئاً.
وقد ذكر ابن حامد أنَّ الأصحاب استشكلوا مسألة الخرقيِّ، وأنكروها عليه، ونسبوه إلى التَّفرُّد بها.
القسم الثَّاني: أن يكون الخاصُّ والعامُّ في كلامين منفردين؛ فههنا حالتان:
إحداهما: أن يكون المتكلِّم بهما لا يمكنه الرُّجوع عن كلامه، ولا يقبل منه؛ كالأقارير، والشَّهادات، والعقود؛ فيقع التَّعارض في الشَّهادات، ولا يكون الإقرار الثَّاني ولا العقد الثَّاني رجوعاً عن الأوَّل.
هكذا ذكره غير واحد من المتأخِّرين، مع أنَّ كلام أحمد وأبي بكر عبد العزيز في أنَّ الخاصَّ لا يدخل في العامِّ ليس فيه تفصيل بين الكلام الواحد وغيره.
فقد يقال: إنَّ الخاصَّ لا يدخل في العامِّ مطلقاً، ويكون تخصيصه بالذِّكر قرينة مُخرِجة له من العموم، ما لم يعارض ذلك قرينةٌ تقتضي دخوله فيه.
وعلى تقدير دخوله فيه بقرينة أو مطلقاً، فإذا تعارضت دلالة العامِّ ودلالة الخاصِّ في شيء واحد؛ فهل ترجَّح دلالة الخاصِّ، أم يتساويان؟
ذكر ابن عقيل في «الواضح» : أنَّهما يتساويان
(1)
.
وذكر أبو الخطَّاب في «التَّمهيد» : أنَّه يقدَّم دلالة الخاصِّ.
وهذا هو الَّذي ذكره القاضي، وابن عقيل أيضاً، والأصحاب كلُّهم في مسألة تخصيص القرآن بخبر الواحد، وفي مسألة تقديم الخاصِّ على العامِّ عند التَّعارض وإن عُلم تقدُّم الخاصِّ، حتَّى قال أبو الخطَّاب وغيره: لا يجوز أن يَنسَخ العامُّ الخاصَّ؛ لأنَّه ليس بمساوٍ له.
والحالة الثَّانية: أن يكون الرُّجوع ممكناً، كالوصيَّة، وعزل الإمام لمن يمكنه عزله وولايته؛ فهذا يشبه تعارض العامِّ والخاصِّ في كلام الشَّارع في الأحكام، وفي ذلك ثلاث روايات:
أشهرها: تقديم الخاصِّ مطلقاً، وتخصيص العموم به، سواء جهل التَّاريخ أو علم.
والثَّانية: إن جهل التَّاريخ؛ فكذلك، وإلَّا قدِّم المتأخِّر منهما.
(1)
الذي في الواضح لابن عقيل (3/ 434): (أنه إذا تعارض آيتان أو خبران، وكان أحدهما عامًّا والآخر خاصَّا؛ فإنه يُقضى بالخاص على العام إذا كان بينهما تناف).
وأما القول بالتساوي فهو إذا تعارض خبران، كل واحد منهما عام من وجه وخاص من وجه آخر، قال ابن عقيل في هذا القسم (3/ 440):(إذا تعارض خبران، كل واحد منهما عام من وجه وخاص من وجه آخر؛ فهما سواء على الإطلاق، إلا أن تقوم دلالة فتوجب تقديم أحدهما على الآخر).
والثَّالثة: إن علم التَّاريخ؛ عمل بالمتأخِّر، وإن جهل تعارضا.
ويتَّصل بهذه القاعدة قاعدتان:
إحداهما: إذا اجتمع في شخص استحقاق بجهة خاصَّة؛ كوصيَّة معينة وميراث، واستحقاق بجهة عامَّة؛ كالفقر والمسكنة؛ فإنه لا يأخذ إلَّا بالجهة الخاصَّة، نصَّ عليه
(1)
.
ويتفرَّع على ذلك مسائل:
منها: إذا أوصى
(2)
لزيد بشيء، ووصَّى لجيرانه بشيء، وهو من الجيران؛ فإنَّه لا يعطى من نصيب الجيران.
ومنها: إذا وصَّى لزيد بشيء، وللفقراء بشيء، وزيد فقير؛ فإنَّه لا يعطى من نصيب الفقراء شيئاً، نصَّ أحمد على الصُّورتين.
وخرَّج القاضي فيما نقله ابن عقيل عنه في «فنونه» : الاستحقاق بجهة الفقر والجوار، كما يستحقُّ عامل الزَّكاة الأخذ بجهة الفقر مع العمالة.
ومنها: لو وصَّى لأقاربه بشيء، ووصَّى أن يكفَّر عنه أيمان؛ فلا يعطى من الكفَّارة من أخذ من الوصيَّة من الأقارب، نصَّ عليه في رواية صالح
(3)
.
ومنها: لو وصَّى للفقراء، وورثته فقراء؛ لم يجز لهم الأخذ من
(1)
مسائل ابن هانئ (2/ 48).
(2)
في (ب) وباقي النسخ: وصى.
(3)
مسائل صالح (1/ 257).
الوصيَّة، نصَّ عليه في رواية حرب، وقال: (الوارث لا يضرب في المال مرَّتين
(1)
، إذا كان وارثٌ؛ لم يأخذ من الوصيَّة شيئاً).
ونقل نحوه أبو الصَّقر
(2)
والفضل بن زياد.
وكذلك نصَّ على أنَّ الوارث لا يحجُّ عن الميِّت، ويأخذ الوصيَّة، وحمله القاضي على منعه من أخذ الزَّائد عن نفقة المثل، فأمَّا نفقة المثل؛ فتجوز؛ لأنَّها معاوضة.
القاعدة الثَّانية: إذا اجتمعت صفات في عين؛ فهل يتعدَّد الاستحقاق بها كالأعيان المتعدِّدة؟ المشهور في المذهب: أنَّها كالأعيان في تعدُّد الاستحقاق.
ويندرج تحت ذلك صور:
منها: الأخذ من الزَّكاة بالفقر، والغرم، والغزو، ونحوها.
ومنها: الأخذ من الخمس بأوصاف متعدِّدة.
ومنها: الأخذ من الصَّدقات المنذورة، والفيء، والوقوف.
ومنها: المواريث بأسباب متعدِّدة؛ كالزَّوج إذا كان ابن عمٍّ، وابن
(1)
زاد في (ن): (أي: وجد وارث إذا كان وارث)، وكتب على هامشها:(هذه حاشية من عند المصنِّف يفسِّر بها قول أحمد: "إذا كان وارث"، فأدخلها الكاتب في الأصل).
(2)
هو يحيى بن يزداد، أبو الصقر، وراق أحمد بن حنبل، قال الخلال: كان مع أبي عبد الله بالعسكر، وعنده جزء مسائل حسان في الحمى، والمساقاة، والمزارعة، والصيد، واللقطة، وغير ذلك. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 409.
العمِّ إذا كان أخاً
(1)
لأمٍّ؛ بالاتِّفاق، وكذلك الجدَّات المدليات بقرابتين، والأرحام، والمجوس ونحوهم ممَّن يدلي بنسبين، فإنَّهم يرثون بالجميع على الصَّحيح من المذهب.
ومنها: في تعليق الطَّلاق، كما لو قال: إن كلَّمتِ رجلاً فأنت طالق، وإن كلَّمتِ فقيهاً؛ فأنت طالق، وإن كلَّمتِ أسود؛ فأنت طالق؛ فكلَّمتْ رجلاً فقيهاً أسود؛ طلقت ثلاثاً.
وكذا لو قال: إن ولدتِ ولداً؛ فأنت طالق، وإن ولدتِ أنثى؛ فأنت طالق، فولدتْ أنثى؛ طلقت طلقتين.
وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: (لا تطلق إلَّا واحدة في المسائل كلِّها مع الإطلاق؛ لأنَّ الأظهر في مراد الحالف أنت طالق، سواء ولدتِ ذكراً أو أنثى، وسواء كلَّمتِ رجلاً، أو فقيهاً، أو أسود؛ فينزل الإطلاق عليه؛ لاشتهاره في العرف، إلَّا أن ينوي خلافه.
ونصَّ الإمام أحمد في رواية ابن منصور
(2)
فيمن قال لامرأته: أنتِ طالق طلقة إن ولدتِ ذكراً، وطلقتين إن ولدتِ أنثى، فولدتْ ذكراً وأنثى
(3)
: أنَّه على ما نوى، إنَّما أراد ولادة واحدة، وأنكر قول سفيان: إنَّه يقع عليها بالأوَّل ما علَّق به، وتبين بالثَّاني ولا تطلق به)
(4)
.
وقول سفيان هو الَّذي عليه أصحابنا؛ أبو بكر، وأبو حفص،
(1)
مكان: (ابن العمِّ إذا كان أخًا)، في (ب): أو أخًا. وفي (ج): أخًا.
(2)
مسائل ابن منصور (4/ 1747).
(3)
في (أ): أو أنثى.
(4)
الاختيارات للبعلي (ص 381).
والقاضي وأصحابه، وكذلك ابن حامد، وزاد: أنَّها تطلق بالثَّاني أيضاً.
والمنصوص أصحُّ؛ لأنَّ الحالف إنَّما حلف على حمل واحد وولادة واحدة، والغالب أنَّها لا تكون إلَّا ولداً واحداً، لكنَّه لمَّا كان ذكراً مرَّة وأنثى أخرى نوَّع التَّعليق عليه، فإذا ولدت هذا الحمل ذكراً وأنثى؛ لم يقع به المعلَّق بالذَّكر والأنثى جميعاً، بل المعلَّق بأحدهما فقط؛ لأنَّه لم يقصد إلَّا إيقاع أحد الطَّلاقين، وإنَّما ردَّده؛ لتردُّده في كون المولود ذكراً أو أنثى، وينبغي أن يقع أكثر الطَّلاقين
(1)
؛ إذ كان القصد تطليقها بهذا الوضع، سواء كان ذكراً أو أنثى، لكنَّه أوقع بولادة أحدهما أكثر من الآخر، فيقع به أكثر المعلَّقين.
تنبيه:
إذا كانت الجهة واحدة؛ لم يتعدَّد الاستحقاق بتعدُّد الأوصاف المدلية إليها؛ كالوصيَّة لقرابته إذا أدلى شخص بقرابتين والآخر بقرابة واحدة، ذكره القاضي في «خلافه» في الوصيَّة للإخوة: أنَّه تستوي الإخوة للأبوين، والإخوة للأب، والإخوة للأمِّ؛ لأنَّ الكلَّ مشتركون في جهة الأخوَّة؛ فلا عبرة بتعدُّد الجهات الموصلة إليها.
(1)
كتب على هامش (ن): (ينبغي أن يختصَّ وقوع الأكثر بما إذا وضعتهما معاً، أو سبق وضع المعلَّق عليه الأكثر، أمَّا لو خرجا متعاقبين؛ فينبغي أن يقع ما علِّق على الأوَّل فقط).
قاعدة [120]
يرجَّح ذو القرابتين على ذي القرابة الواحدة، وإن لم تكن إحداهما لها مدخل في الاستحقاق
؛ في مسائل:
منها: في الأخ للأبوين على الأخ للأب في الميراث بالولاء رواية واحدة.
وخرَّج ابن الزَّاغونيِّ في كتاب
(1)
«التَّلخيص» في الفرائض رواية أخرى بالاشتراك، من مسألة النِّكاح.
ومنها: تقديم الأخ للأبوين على الأخ للأب في ولاية النِّكاح في إحدى الرِّوايتين، اختارها أبو بكر، ورجَّحه صاحب «المغني» .
ومنها: تقديمه عليه في حمل العاقلة، وفيه الرِّوايتان.
ومنها: تقديمه عليه في الصَّلاة على الجنازة، وفيه الرِّوايتان أيضاً.
ومنها: في الوقف المقدَّم فيه بالقُرْب، وكذلك الوصيَّة؛ فيرجَّح الأخ للأبوين على الأخ للأب، صرَّح به القاضي والأصحاب في الوصيَّة، وعلَّلوا: بأنَّ الانفراد بالقرابة كالتَّقدُّم بدرجة.
وخالف الشَّيخ تقيُّ الدِّين في الوقف وقال: لا يرجَّح فيه بالقرابة الأجنبيَّة عن استحقاق الوقف.
(1)
قوله: (كتابه) سقط من (أ).
قاعدة [121]
في تخصيص العموم بالعرف، ولها صورتان:
إحداهما: أن يكون قد غلب استعمال الاسم العامِّ في بعض أفراده حتَّى صار حقيقة عرفيَّة؛ فهذا يخصُّ به العموم بغير خلاف.
فلو حلف لا يأكل شواء؛ اختصَّت يمينه باللَّحم المشويِّ دون البيض وغيره ممَّا يُشوى.
وكذلك لو حلف على لفظ الدَّابَّة، والسَّقف، والسِّراج، والوتد؛ لا يتناول إلَّا ما يُسمَّى في العرف كذلك، دون الآدميِّ، والسَّماء، والشَّمس، والجبل؛ فإنَّ هذه التَّسمية فيها هُجرت حتَّى عادت مجازاً.
الصُّورة الثَّانية: ألَّا يكون كذلك، وهو نوعان:
أحدهما: ما لا يطلق عليه الاسم العامُّ إلَّا مقيَّداً به، ولا يفرد بحال؛ فهذا لا يدخل في العموم بغير خلاف نعلمه، كخيار شنبر
(1)
، وتمر هندي؛ لا يدخلان في مطلق التَّمر والخيار، ذكره القاضي في «خلافه» .
ونظيره ماء الورد، لا يدخل في مسمَّى الماء المطلق.
(1)
قال في لسان العرب (4/ 267): (وخيار شنبر: ضرب من الخرُّوب، شجرة مثل كبار شجر الخوخ).
والنَّوع الثَّاني: ما يطلق عليه الاسم العامُّ، لكنَّ الأكثر ألَّا يذكر معه إلَّا بقيد أو قرينة، ولا يكاد يفهم عند الإطلاق دخوله فيه؛ ففيه وجهان.
ويتفرَّع عليهما مسائل:
منها: لو حلف لا يأكل الرُّؤوس؛ فقال القاضي: يحنث بأكل كلِّ ما يسمَّى رأساً؛ من رؤوس الطَّير والسَّمك، ونقله في موضع عن أحمد، وقال في موضع: العرف يعتبر في تعميم الخاصِّ لا في تخصيص العامِّ
(1)
.
وقال أبو الخطَّاب: لا يحنث إلَّا برأس يؤكل في العادة مفرداً، وكذلك ذكر القاضي في موضع من «خلافه»: أنَّ يمينه تختصُّ بما يسمَّى رأساً عرفاً
(2)
.
وحكى ابن الزَّاغونيِّ في «الإقناع» روايتين:
إحداهما: يحنث بأكل كلِّ رأس.
والثَّانية: لا يحنث إلَّا بأكل رؤوس بهيمة الأنعام خاصَّة.
وعزا الأوَّل إلى الخرقيِّ.
وفي «التَّرغيب» ذكر الوجه الثَّاني: أنَّه لا يحنث إلَّا بأكل رأس يباع
(1)
قوله: (وقال في موضع: العرف يعتبر في تعميم الخاصِّ لا في تخصيص العامِّ) سقط من (ب).
(2)
كتب على هامش (ن): (ممكن أن يجمع بين قولي القاضي: بأنَّ الحنث لكل ما يسمَّى رأساً بالنِّسبة إلى حالف لا عرف في بلده، وعدم الحنث لغير ما يسمَّى رأساً عرفاً، حيث غلب العرف على بعض الرُّؤوس).
مفرداً للأكل عادة، قال: فإن جرت عادة قوم بإفراد رؤوس الظِّباء؛ حنث به في ذلك المكان.
وفي غيره وجهان، مأخذهما: هل الاعتبار بأصل العادة أو عادة الحالف؟ انتهى
(1)
.
ومنها: لو حلف لا يأكل البيض؛ فهو على الوجهين
(2)
أيضاً:
فيحنث عند القاضي بأكل بيض السَّمك وغيره.
ولا يحنث عند أبي الخطَّاب إلَّا بأكل بيض يزايل
(3)
بائضه في حياته.
وزعم صاحب «الكافي» أنَّ التَّخصيص هنا إنَّما جاء من إضافة الأكل إلى الرُّؤوس والبيض، حيث كانت العادة تخصُّ بعض أنواعهما.
وظاهر كلامه: أنَّه لو علَّق حكماً سوى الأكل؛ لعمَّ بغير خلاف، وفيه نظر.
ومنها
(4)
: لو حلف لا يأكل اللَّحم، فأكل لحم السَّمك؛ ففيه وجهان أيضاً.
(1)
كتب في هامش (ج) و (هـ) و (ن): (قال في «الكافي»: إذا اختلف أهل بلدين في تسمية عين؛ انصرف يمين الحالف إلى تسمية بلده). وزاد في (ن): (من هامش النُّسخة المعتمدة).
(2)
في (أ): وجهين.
(3)
أي: يفارق وينفصل. ينظر: لسان العرب (11/ 317).
(4)
قوله: (ومنها) سقط من (أ).
وقال أحمد في رواية صالح: هو على نيَّته
(1)
.
قال القاضي: معناه إن نوى لحماً بعينه؛ لم يحنث بأكل غيره مع الإطلاق
(2)
، وهو قول الخرقيِّ.
وقال ابن أبي موسى: لا يحنث مع الإطلاق، وإنَّما يحنث بإدخاله بالنِّيَّة، ولعلَّه ظاهر كلام أحمد.
ومنها: لو حلف لا يدخل بيتاً، فدخل مسجداً أو حمَّاماً؛ فالمنصوص في رواية مهنَّى: أنَّه يحنث، وأنَّه لا يُرجع في ذلك إلى نيَّته، واستدلَّ بأنَّ المسجد والحمَّام يُسمَّى بيتاً في الكتاب والسُّنَّة
(3)
.
وهذا يخالف نصَّه في رواية صالح في لحم السَّمك؛ فخُرِّج له في المسألتين روايتان.
وخرَّج الأصحاب في هذا وجهاً بعدم الحنث، وخرَّجه صاحب
(1)
ينظر: مسائل صالح (2/ 197).
(2)
كتب في هامش (هـ): (لعله: ويحنث مع الإطلاق، نقل من خط الشيخ
…
).
(3)
ورد إطلاق لفظ: (البيت) على المسجد في عدة آيات؛ منها: قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)، وقوله تعالى:(إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة).
وورد إطلاق لفظ: (البيت) على الحمام، ومن ذلك ما رواه أبوداود (4011)، وابن ماجه (3748)، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تفتح لكم أرض الأعاجم، وستجدون فيها بيوتًا يقال لها: الحمامات، فلا يدخلها الرجال إلا بإزار، وامنعوا النساء أن يدخلنها، إلا مريضة، أو نفساء» .
«المحرَّر» من نصِّه الآتي فيمن حلف بصدقة ماله؛ أنَّه يختصُّ بما يسمَّى عنده مالاً.
وكذا الخلاف لو حلف لا يركب فركب سفينة.
ومنها: لو حلف لا يشمُّ الرَّيحان، فقال القاضي: تختصُّ يمينه بالفارسيِّ؛ لأنَّه المسمَّى بالرَّيحان عرفاً.
وقال أبو الخطَّاب وغيره: يحنث بكلِّ نبتٍ له رائحة طيبة؛ لأنَّه ريحان حقيقة.
وهذا يعاكس قولهما في مسألة الرُّؤوس والبيض
(1)
.
ومنها: لو حلف لا يأكل لحم بقر؛ فهل يحنث بأكل لحم بقر الوحش؟ على وجهين ذكرهما في «التَّرغيب» ، وخرَّجهما من وجهين حكاهما فيما إذا حلف لا يركب حماراً، فركب حماراً وحشيًّا؛ هل يحنث أم لا؟
والخلاف ههنا يقرب أخذه من مسألة وجوب الزَّكاة في بقر الوحش، والحنث في مسألة الرُّكوب أضعف؛ لأنَّ الرُّكوب إنَّما يراد به
(1)
كتب على هامش (ن): (قد يمنع تعاكس قولي القاضي بأنَّ الحنث في مسألة الرُّؤوس بكلِّ رأس، حيث لا عرف لواحد منها، كما يقتضيه قوله في «خلافه» كما تقدَّم، فيتَّفق قوله في المسألتين؛ مسألة الرُّؤوس ومسألة الرَّيحان، ويمنع تعاكس قولي أبي الخطَّاب بأنَّ تعميم الرَّيحان؛ لكونه لا يرى له عرفاً، فترجع إلى حقيقته، بخلاف الرُّؤوس؛ لأن لها عرفاً، فلهذا اختصَّت اليمين به دون الحقيقة).
الحمار الأهليُّ.
وشبيهٌ بهذا الخلاف لأصحابنا في مرور الحمار الوحشيِّ بين يدي المصلِّي؛ هل يقطع صلاته أم لا
(1)
؟ وقد حكاه أبو البقاء في «شرح الهداية» .
ومنها: لو حلف لا يتكلَّم، فقرأ، أو سبَّح؛ هل يحنث أو لا؟
المشهور: أنَّه لا يحنث.
وتوقَّف أحمد فيه في رواية.
ومنها: لو حلف بعتق عبيده، أو أعتقهم منجزاً؛ فقال الخرقيُّ وأبو بكر: يتناول القنَّ، والمدبَّر، والمكاتب، وأمَّ الولد، وأشقاصه، وزاد القاضي: عبيد عبده التَّاجر، ونصَّ عليه أحمد في المكاتب في رواية ابن منصور
(2)
.
وخرَّج القاضي رواية بعدم دخول المكاتبين بدون نيَّة، من رواية مهنَّى في الأشقاص أنَّهم لا يدخلون في عتق المماليك، إلَّا أن ينويهم.
ومأخذه: أنَّهم خارجون من اسم الرَّقيق والمملوك عرفاً.
ولو قيل: إنَّ أمَّ الولد كذلك؛ لم يبعد.
ومنها: لو حلف بصدقة ماله، وأراد البرَّ، أو نذره نذر تبرُّر؛ فإنَّه يتصدَّق بثلث جميع أمواله عند الأصحاب.
ونقل الأثرم عن أحمد أنَّه سئل: هل الثُّلث من الصَّامت خاصَّة أو
(1)
قوله: (لا) سقط من (أ).
(2)
مسائل ابن منصور (8/ 4474).
من جميع ما يملك؟ فقال: ذلك على قدر ما نوى، وعلى قدر مخرج يمينه، والأموال عند النَّاس تختلف
(1)
، الأعراب يسمُّون الإبل والغنم الأموال، وغيرهم يسمِّي الصَّامت، وغيرهم الأرضين، فلو أنَّ أعرابيًّا قال: مالي صدقة، أليس كنَّا نأخذه بإبله أو نحو هذا؟
(2)
قال القاضي في «خلافه» : فظاهر هذا أنَّه يرجع إلى نيته في ذلك، فإن أطلق؛ يرجع إلى عرف الإطلاق عند النَّاذر.
وقال أحمد أيضاً في رواية صالح: إذا قال: جاريتي حرَّة إن لم أصنع كذا وكذا؛ قال ابن عمر وابن عبَّاس: «تعتق»
(3)
، وإذا قال: مالي في المساكين؛ لم يدخل فيه جاريته.
(4)
قال القاضي: وظاهر هذا أنَّ الأمة لا تدخل في عموم المال، قال: والمذهب التَّعميم.
والعجب أنَّه
(5)
لم يَحكِ بالتَّعميم عن أحمد نصًّا صريحاً ولا ظاهراً.
(1)
في (أ) و (و): يختلف.
(2)
ينظر: الفروع (11/ 72).
(3)
الأثر أخرجه عبدالرزاق (15998) عن عثمان بن أبي حاضر قال: حلفت امرأة من أهل ذي أصبح، فقالت: مالي في سبيل الله وجاريتها حرة إن لم يفعل كذا وكذا - لشيء كرهه زوجها -، فحلف زوجها ألا يفعله، فسئل عن ذلك ابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم فقالا:«أما الجارية فتعتق، وأما قولها: مالي في سبيل الله؛ فتتصدق بزكاة مالها» .
(4)
ينظر: مسائل صالح (2/ 484).
(5)
في (أ): أن.
ومنها: لو حلف لا مال له، وله مال غير زكويٍّ؛ فقال الأصحاب: يحنث، وأخذوه من المسألة الَّتي قبلها.
قال ابن الزاغونيِّ في «الإقناع» : وظاهر كلام أحمد أنَّه لا يحنث؛ لأنَّه قال في رواية الحربيِّ: نحن لا نعدُّ الدَّار، والثِّياب، والخادم؛ مالاً.
قاعدة [122]
يخصُّ العموم بالعادة على المنصوص
.
وذلك في مسائل:
منها: لو وصَّى لأقاربه أو
(1)
أهل بيته؛ قال أحمد في رواية ابن القاسم: إذا قال: لأهل بيتي أو قرابتي؛ فهو على ما يعرف من مذهب الرَّجل إن كان يصل عمَّته وخالته
(2)
، ونقل سندي نحوه.
وقال في رواية صالح في الوصيَّة لأهل بيته: ينظر من كان يصل من أهل بيته من قبل أبيه وأمِّه، فإن كان لا يصل قرابته من قبل أمِّه؛ فأهل بيته من قبل أبيه
(3)
.
واختلف الأصحاب في حكاية هذه الرِّواية على طريقين:
أحدهما: أنَّها رواية ثالثة
(4)
في قرائب الأمِّ خاصَّة أنَّهم لا يدخلون
(1)
في (أ): و.
(2)
ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 20).
(3)
ينظر: مسائل صالح (1/ 257).
(4)
كتب على هامش (ن): (مقتضى كون هذه ثالثة: أنَّ في قرابة الأم روايتين أخريَيْن، إحداهما: لا يدخلون أصلاً، وهي المشهورة، والأخرى: يدخلون مطلقاً، ولم أقف على هذه الرِّواية).
في الوصيَّة، إلَّا إن كان يصلهم في حياته، وهذه طريقة القاضي في «المجرَّد» .
والطَّريق الثَّاني: أنها هي المذهب، وأنَّ الاعتبار بمن كان يصله في حياته بكلِّ حال؛ فإن لم يكن له عادة بالصِّلة؛ فهي لقرابة الأب
(1)
، وهي طريقة القاضي في «خلافه» .
ونقل عن أحمد: أنَّه لا اعتبار بالصِّلة، قال في رواية ابن منصور في رجل وصَّى في فقراء أهل بيته، وله قرابة في بغداد وقرابة في بلاده، وكان يصل في حياته الَّذين ببغداد، قال:(يعطى هؤلاء الحضور والَّذين في بلاده)، وكذلك نقل عبد الله
(2)
.
قال أبو حفص البرمكيُّ: هذا قول آخر لا يعتبر بمن كان يصل في حياته.
قلت: ويحتمل أن يقال: منع الصِّلة ههنا لمن ليس ببغداد قد علم سببه، وهو تعذُّر الصِّلة للبعد، والكلام إنَّما هو فيما تركه مع قدرته عليه.
قال القاضي: ويشهد لرواية ابن منصور ما روى عبد الله عنه في رجل وصَّى بصدقة في أطراف بغداد، وقد كان ربَّما تصدَّق في بعض
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: من قرائب أبيه وأمه، وقد أثبتها في «الفروع» رواية في قرائب الأب أيضاً، كما اقتضاه كلام المصنِّف هنا، ولم يثبتها الشَّيخان في مختصريهما، ولا صاحب «الرِّعاية»).
(2)
ينظر: مسائل عبدالله (ص: 389)، ولم نجدها في مسائل ابن منصور.
الأرباض
(1)
وهو حيٌّ، قال: يتصدَّق عنه في أبواب بغداد كلِّها.
(2)
ومنها: لو وصَّى لقرابة غيره، وكان يصل بعضهم، أو وصَّى للفقهاء أو للفقراء، وكان يصل بعضهم؛ قال القاضي في «خلافه»: لا رواية فيه، ولا يمتنع أن يقول فيه ما يقول في أقارب نفسه.
ومنها: لو وقف على بعض أولاده وسمَّاهم، ثمَّ على أولاد أولاده؛ فهل يختصُّ البطن الثَّاني بالأولاد المسمَّيين
(3)
أوَّلاً، أو يشمل جميع ولد ولده؟
نصَّ أحمد في رواية حرب على أنَّه يشمل جميع ولد الولد.
(4)
ويتخرَّج وجه آخر بالاختصاص بولد من وقف عليهم؛ اعتباراً بآبائهم، فإنَّ هذه عطيَّة واحدة؛ فحَمْلُ بعضها على بعض أقرب من حمل الوصيَّة على العطيَّة في الحياة.
وهذا النَّصُّ هو قوله في رواية حرب في رجل له ولد صغار خاف عليهم الضَّيعة، فأوقف ماله على ولده، وكتب كتاباً، وقال: هذا صدقة على ولده فلان وفلان، وسمَّاهم، ثمَّ قال: وولد ولده، وله ولد غير هؤلاء، قال: هم شركاء.
فحمله الشَّيخان صاحبا «المغني» و «المحرَّر» على ما قلنا، وتبويب
(1)
قال في الصحاح (3/ 1076): (ربض المدينة: ما حولها).
(2)
ينظر: مسائل عبدالله (ص: 388).
(3)
في (ب): بأولاد المسمين.
(4)
ينظر: الوقوف والترجل (1/ 57).
الخلَّال يدلُّ عليه.
وقد يقال: إنَّما عمَّ البطن الثَّاني ولد الولد؛ لأنَّ تخصيص البطن الأوَّل بالصِّغار كان لخوفه عليهم الضَّيعة، وهذا المعنى مفقود في البطن الثَّاني؛ فلذلك اشترك فيه أولاد الأولاد كلُّهم.
وحمله القاضي وابن عقيل على أنَّ البطن الأوَّل يشترك فيه الولد المسمَّون وغيرهم؛ أخذاً من عموم قوله: (صدقة على ولده)، وتخصيص بعضهم بالذِّكر لا يقتضي التَّخصيص بالحكم؛ كقوله:{وملائكته وجبريل وميكال} .
وهذا فاسد؛ لأنَّ الآية فيها عطف نسق بالواو، وههنا إمَّا عطف بيان أو بدل، وأيُّهما كان فيقتضي التَّخصيص بالحكم؛ لأنَّ عطف البيان موضِّح لمتبوعه، ومطابق له، وإلَّا لم يكن بياناً، والبدل هو الواسطة
(1)
المقصود بالحكم؛ فيتعيَّن التَّخصيص به
(2)
.
ولهذا لو قال من له أربع زوجات: زوجتي فلانة طالق؛ لم تطلق الثَّلاثة البواقي، أو قال من له عبيد: عبدي فلان حرٌّ؛ لم يعتق ما
(3)
عداه بغير خلاف.
(1)
كتب على هامش (و): (لعله هو التابع المقصود بالحكم بلا واسطة).
(2)
كتب على هامش (ن): (ومن التَّخصيص بالعادة: جواز صدقة العبد غير المأذون من قوته برغيف ونحوه إذا لم يضرَّ به على أصح الرِّوايتين، وكذلك جواز صدقة المرأة من بيت زوجها بنحو ذلك على أصح الرِّوايتين أيضاً).
(3)
في (ب): من.
ومنها: لو استأجر أجيراً يعمل له مدَّة معيَّنة؛ حمل على ما جرت العادة بالعمل فيه من الزَّمان دون غيره بغير خلاف.
ومنها: لو حلف لا يأكل من هذه الشَّجرة؛ اختصَّت يمينه بما يؤكل منها عادة، وهو الثَّمر، دون ما لا يؤكل عادة؛ كالورق والخشب.
قاعدة [123]
ويُخَصُّ العموم بالشَّرع - أيضاً - على الصَّحيح في مسائل:
منها: إذا نذر صوم الدَّهر؛ لم يدخل في ذلك ما يحرم صومه من أيَّام السنة، أو ما يجب صومه شرعاً؛ كرمضان، على أصحِّ الرِّوايتين.
ومنها: لو حلف لا يأكل لحماً؛ لم تتناول يمينه اللَّحم المحرَّم شرعاً على أحد الوجهين.
ومنها: لو وصَّى لأقاربه؛ لم يدخل فيهم الوارثون في أحد الوجهين، حكاهما في «التَّرغيب» .
وظاهر كلام القاضي الدُّخول.
وظاهر كلام ابن أبي موسى وابن عقيل خلافه.
ومنها: لو وكَّله أن يطلِّق زوجته؛ فهل يدخل فيه الطَّلاق المحرَّم؟ على وجهين، ذكرهما ابن عقيل وصاحب «المحرَّر» .
ومنها: لو نذر اعتكاف شهر متتابع؛ فله أن يعتكف في غير الجامع، ويخرج إلى الجمعة؛ لاستثنائها بالشَّرع.
وفيه وجه: لا يجوز الاعتكاف في غير الجامع.
والأوَّل المذهب، كما أنَّه لا ينقطع الصِّيام المتتابع بصوم رمضان، ولا فطر أيَّام النَّهي.
قاعدة [124]
هل يُخَصُّ
(1)
اللَّفظ العامُّ بسببه الخاص إذا كان السَّبب هو المقتضيَ له؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يُخصُّ به، بل يقضى بعموم اللَّفظ، وهو اختيار القاضي في «الخلاف» ، والآمديِّ، وأبي الفتح الحلوانيِّ، وأبي الخطَّاب، وغيرهم.
وأخذوه من نصِّ أحمد في رواية علي بن سعيد؛ فيمن حلف لا يصطاد من نهر لظلم
(2)
رآه فيه
(3)
، ثمَّ زال الظُّلم؛ قال:(النَّذر يوفَّى به)
(4)
.
وكذلك أخذوه من قاعدة المذهب: فيمن حلف لا يكلِّم هذا الصَّبيَّ، فصار شيخاً؛ إنَّه يحنث بتكليمه؛ تغليباً للتَّعيين على الوصف، قالوا: والسَّبب والقرينة عندنا تعمِّم الخاصَّ، ولا تخصِّص العامَّ.
(1)
في (ب): يختصُّ.
(2)
في (أ): بظلمة.
(3)
قوله: (فيه) سقط من (أ).
(4)
ينظر: المغني (7/ 471).
والوجه الثَّاني: لا يحنث
(1)
، وهو الصَّحيح عند صاحبي «المحرَّر» و «المغني» ، لكنَّ صاحب «المحرَّر» استثنى صورة النَّهر وما أشبهها؛ كمن حلف لا يدخل بلداً؛ لظلم رآه فيه
(2)
، ثمَّ زال.
وصاحب «المغني» عدَّى الخلاف إليها، ورجَّحه
(3)
ابن عقيل في «عمد الأدلَّة» ، وقال:(هو قياس المذهب)؛ لأنَّ المذهب: أنَّ الصِّفة لا تنحلُّ بالفعل حالة البينونة؛ لأنَّ اليمين بمقتضى دلالة الحال تقتضي التَّخصيص بحالة الزَّوجيَّة دون غيرها
(4)
.
وكذلك جزم به القاضي في موضع من «المجرَّد» ، واختاره الشَّيخ تقيُّ الدِّين، وفرَّق بينه وبين مسألة النَّهر المنصوصة: بأنَّ نصَّ أحمد إنَّما هو في النَّذر، والنَّاذر إذا قصد التَّقرُّب بنذره؛ لزمه الوفاء مطلقاً، كما مُنع المهاجرون من العود إلى ديارهم الَّتي تركوها لله وإن زال المعنى
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: والثَّاني يُخصُّ العام بسببه الخاص، فلا يحنث بغير السبب، بل يختصُّ حنثه بالسَّبب؛ لأنَّ اليمين إنما انعقدت فيه دون غيره ممَّا تناوله اللَّفظ).
(2)
قوله: (فيه) سقط من (أ).
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: يرجَّح عدم الحنث في غير السَّبب؛ بناء على تخصيص العام بسببه الخاص، وعضده بمسألة حلِّ الصِّفة).
(4)
كتب على هامش (ن): (أي: وهذا من تخصيص العام بسببه الخاص؛ لأنَّ دلالة الحال كالسَّبب).
الَّذي تركوها لأجله
(1)
؛ فإنَّ تَرْك شيءٍ لله يمنع العود فيه مطلقاً، وإن كان لسبب قد يتغيَّر، ولهذا نهي المتصدِّق أن يشتري صدقته
(2)
.
وهذا حسن، وقد يكون جدُّه صاحب «المحرَّر» لحظ هذا؛ حيث خصَّ صورة النَّهر بالحنث مع الإطلاق، بخلاف غيرها من الصُّور.
وأمَّا مسألة الحلف على العين الموصوفة بالصِّفة؛ فإن كان ثَمَّ سبب يقتضي اختصاص اليمين بحال بقاء الصِّفة؛ لم يحنث بالكلام بعد زوالها، صرَّح به في «الكافي» و «المحرَّر» ، فهي كمسألتنا.
ويتفرَّع على هذه القاعدة مسائل:
منها: لو دُعي إلى غداء، فحلف لا يتغدَّى؛ فهل يحنث بغداء غير ذلك المحلوف بسببه؟ على الوجهين، وجزم القاضي في «الكفاية» وصاحب «المحرَّر» بعدم الحنث.
ومنها: لو حلف لا رأيت منكراً إلَّا رفعته إلى فلان القاضي،
(1)
يشير إلى ما أخرجه البخاري (3933)، ومسلم (1352)، من حديث العلاء الحضرمي رضي الله عنه مرفوعًا:«ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر» . قال النووي: (معنى الحديث: أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم عليهم استيطان مكة والإقامة بها، ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام، ولا يزيدوا على الثلاثة). ينظر: شرح النووي على مسلم 9/ 122.
(2)
يشير إلى ما أخرجه البخاري (1490)، ومسلم (1620) عن عمر رضي الله عنه قال: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه» .
فعزل؛ فهل تنحلُّ يمينه؟ على الوجهين
(1)
.
وفي «التَّرغيب» : (إن كان السَّبب أو القرائن تقتضي حالة الولاية؛ اختصَّ بها، وإن كانت تقتضي الرَّفع إليه بعينه، مثل أن يكون مرتكب المنكر قرابة الوالي مثلاً، وقصد إعلامه بذلك لأجل قرابته، وذكر الولاية تعريفاً تناول اليمين حال الولاية والعزل.
وإن لم يكن دلالة بحال؛ فهل يبرُّ برفعه إليه بعد العزل ويحنث بتركه؟ على وجهين.
فإن كانت يمينه: رَفْعه إلى الوالي من غير تعيين؛ فهل يتعيَّن المنصوب في الحال، أم يبرُّ بالرَّفع إلى كلِّ من ينصب بعده؟ على وجهين؛ لتردِّد الألف واللَّام بين تعريف العهد والجنس
(2)
.
ولو علم بمنكر بعد علم الوالي احتمل وجهين:
أحدهما: أنَّ البرَّ قد فات
(3)
، كما لو رآه معه.
والثَّاني: لم يَفُتْ؛ لأنَّ صورة الرَّفع ممكنة.
ثمَّ على الوجه الأوَّل: يخرَّج على ما إذا تبدَّد الماء الَّذي في الكوز
(1)
كتب على هامش (ن): (ينبغي أن يختصَّ الوجهان بما إذا مات أو استمرَّ عزله إلى الموت، أمَّا لو عزل ثمَّ أعيد؛ فقاعدة المذهب تقتضي: أنَّ يمينه لم تنحلَّ).
(2)
كتب على هامش (ن): (وهذا أقرب إلى الصِّحَّة؛ لأنَّ الأصل في اللَّام الجنس حتَّى يثبت خلافه).
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: فيحنث، كما لو حلف ليأكلنَّ رغيفاً فتلف).
بعد حلفه على شربه، أو أبرأه من الدَّين بعد حلفه على قضائه، وفيه وجهان
(1)
انتهى.
فجعَل محلَّ الوجهين إذا انتفت القرائن والدَّلائل بالكليَّة، ومع دلالة الحال والسَّبب يختصُّ الرَّفع بحال الولاية وجهاً واحداً.
ومنها: لو حلف على عبده، أو زوجته، أو لغريمه: لا يخرج إلَّا بإذنه، ثمَّ باع العبد، وطلَّق الزَّوجة، ووفَّى الغريم؛ فهل تنحلُّ يمينه؟ على الوجهين.
ومنها: لو قالت له زوجته: تزوَّجتَ عليَّ؟ فقال: كلُّ امرأة لي طالق، فإنَّ المخاطبة تطلق بذلك، نصَّ عليه في رواية المروذيِّ وابن هانئ
(2)
.
وكذلك نقل عنه أبو داود في رجل تزوَّج
(3)
امرأة، فقيل له: إن لك غيرها، فقال: كلُّ امرأة لي طالق، فسكت، فقيل: إلَّا فلانة، فقال: إلَّا فلانة فإنِّي لم أعنها، فأبى أن يفتي فيه
(4)
، وهذا توقُّف منه.
وخرَّج ابن عقيل في «عمد الأدلَّة» المسألة على روايتين.
(1)
كتب على هامش (ن): (جزم في «المحرَّر» في مسألة ماء الكوز بالحنث، وقدَّم في مسألة الإبراء عدم الحنث).
(2)
ينظر: مسائل ابن هانئ (1/ 224).
(3)
قوله: (تزوَّج) سقط من (أ).
(4)
ينظر: مسائل أبي داود (ص 240).
قاعدة [125]
النِّيَّة تعمِّم الخاصَّ، وتخصِّص العامَّ بغير خلاف فيهما
.
وهل تقيِّد المطلق، أو تكون استثناءً من النصَّ؟
(1)
على وجهين فيهما.
فهذه أربعة أقسام:
أمَّا القسم الأوَّل؛ فله صور كثيرة:
منها: لو حلف على زوجته: لا تركت هذا الصَّبيَّ يخرج، فخرج بغير اختيارها عليه؛ فنصَّ أحمد في رواية مهنَّى: أنَّه إن نوى ألَّا يخرج من الباب فخرج؛ فقد حنث، وإن كان نوى ألَّا تدعه؛ لم يحنث
(2)
؛ لأنَّها لم تدعه.
ومنها: لو قال: إن رأيتك تدخلين هذه الدَّار فأنت طالق؛ فنصَّ أحمد في رواية مهنَّى: أنَّه إن أراد ألَّا تدخلها بالكليَّة، فدخلت ولم يرها؛ حنث، وإن كان نوى إذا رآها؛ فلا يحنث حتَّى يراها تدخلها
(3)
.
(1)
كتب على هامش (ن): (الاستثناء من أنواع المخصِّصات، فينبغي كونه من القسم الثَّاني).
(2)
قوله: (لم يحنث) سقط من (أ).
(3)
ينظر: المغني (2/ 218).
ومنها: لو حلف لا يدخل هذا البيت، يريد هجران قوم، فدخل عليهم بيتاً آخر
(1)
؛ حنث، نصَّ عليه في رواية محمَّد بن يحيى الكحَّال.
ومنها: لو حلف لا يشرب له الماء، ونوى الامتناع من جميع ماله؛ حنث بتناول كلِّ ما يملكه.
وقرَّر القاضي في موضع: أنَّ هذا اللَّفظ ونحوه موضوع في العرف لعموم الامتناع، وكذلك ابن عقيل، فعلى هذا لا يحتاج إلى نيَّة العموم، بل إذا أطلق اقتضى الامتناع من شرب الماء فما فوقه خاصة، وصرَّح به ابن عقيل
(2)
.
ومنها: لو حلف لا يضربه، ونوى ألَّا يؤلمه؛ حنث بكلِّ ما يؤلمه من خنق، وعضٍّ، وغيرهما، نصَّ عليه
(3)
.
ومنها: لو حلف لا يكلِّم امرأته، يقصد هجرانها بذلك؛ حنث بوطئها، أومأ إليه أحمد.
(4)
ومنها: لو طلَّق امرأته طلقةً رجعيَّةً، وحلف لا راجعتها، وأراد
(1)
قوله: (آخر) سقط من (أ).
(2)
من قوله: (وقرَّر القاضي في موضع) هو في (أ): بعد قوله فيما تقدم: (حتى يراها تدخلها).
(3)
ينظر: الهداية لأبي الخطاب (1/ 459)، حيث قال:(إذا حلف لا يضربها، فعضها، أو خنقها، أو نتف شعرها؛ حنث، ويحتمل ألا يحنث بذلك، إلا أن ينوي ألا يؤلمها، أومأ إليه في رواية مهنى).
(4)
ينظر: المغني (7/ 460).
الامتناع من عودها إليه مطلقاً؛ حنث بتزوُّجها
(1)
بنكاح جديد بعد البينونة، نصَّ عليه في رواية ابن منصور
(2)
.
ومنها: لو حلف على زوجته لا تخرج من بيته لتهنئة ولا تعزية، ونوى ألَّا تخرج أصلاً؛ هل يحنث بخروجها لغير تهنئة أو تعزية؟
فذكر القاضي في بعض تعاليقه: أنَّه توقَّف فيها، وأنَّ القاضي أبا الطيِّب الطَّبريَّ من الشَّافعيَّة
(3)
قال له: مقتضى مذهبكم أنَّه لا يحنث؛ لأنَّ الغرض يختلف في الخروج، ولا يوجد المقصود في كلِّ خروج، بخلاف ما إذا قصد قطع المنَّة، فإنَّ المنَّة توجد في غير المحلوف عليه.
قلت: والصَّواب الجزم بالحنث ههنا مطلقاً، وعليه يدلُّ نصُّ أحمد في المسألتين الأوليَيْن المذكورتين ههنا.
ولا يشبه هذا ما لو حلف لا يلبس من غزلها، يقصد قطع المنَّة؛ فإنَّه لا يحنث بالانتفاع بغير الغزل، وثمنه من أموالها
(4)
؛ لأنَّ العموم هناك يستفاد من السَّبب، وهنا يستفاد من النِّيَّة؛ فهو أبلغ.
وأمَّا القسم الثَّاني؛ فصوره كثيرة جدًّا:
(1)
في (ب) و (و): بتزويجها.
(2)
لم نقف عليه في مسائل ابن منصور، وينظر: الروايتين والوجهين (2/ 140).
(3)
هو طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر، القاضي أبو الطيب الطبري، أحد حملة مذهب الشافعية ورفعائه، كان إمامًا جليلًا بحرًا غواصًا متسع الدائرة، عظيم العلم، جليل القدر، عنه أخذ العراقيون مذهب الشافعي، توفي سنة (450 هـ). ينظر: طبقات الشافعية للسبكي 5/ 12.
(4)
زاد في (و) و (ن): عند بعض الأصحاب.
فمنها: أن يقول: نسائي طوالق، ويستثني بقلبه واحدة، أو يحلف لا يسلِّم على زيد؛ فسلَّم على جماعة هو فيهم، ويستثنيه بقلبه، ووقع في كلام القاضي وابن عقيل في هذه المسألة ما يقتضي حكاية روايتين في حنثه في مسألة السَّلام.
وتأوَّله صاحب «المحرَّر» في تعليقه على «الهداية» على أنَّ المراد: هل تقبل منه دعوى إرادة ذلك أم لا؟ قال: وقد صرَّحا بذلك في موضع آخر من كتابيهما.
ولو حلف لا يدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً هو فيه مع جماعة، ونوى بدخوله غيره
(1)
؛ هل يحنث؟
خرَّجه القاضي، وابن عقيل، وأبو الخطَّاب على وجهين من
(2)
مسألة السَّلام.
قال صاحب «المحرَّر» : وفيه عندي نظر؛ لأنَّ الدُّخول فعل حسيٌّ لا يتميَّز، بخلاف السَّلام.
ومنها: لو قال لزوجته: إن لبست ثوباً فأنت طالق، وقال: أردت أحمر، أو قال: إن لبست فأنت طالق، ثمَّ قال: أردت ثوباً أحمر، أو قال: إن دخلت الدَّار فأنت طالق، ثمَّ قال: أردت في هذه السَّنة؛ فالجمهور من الأصحاب على أنَّه يُدَيَّن في ذلك، وفي قبوله في الحكم روايتان.
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: غير فلان، بل الدُّخول على الجماعة سواه).
(2)
في (ب) و (ج) و (د): في.
وشذَّ طائفة؛ فحكوا الخلاف في تَدْيِينه في الباطن، منهم الحلوانيُّ وابنه، وكذلك وقع في موضع من «مفردات ابن عقيل» في الأيمان، وكذلك وقع للقاضي في «المجرَّد» ، وقال
(1)
صاحب «المحرَّر» : وهو سهو.
وعن القاضي في «كتاب الحيل» : أنَّه إن كان المخصَّص بالنِّيَّة ملفوظاً به؛ صحَّ تخصيصه، وإلَّا فلا، فلو حلف لا يأكل شيئاً أبداً، ونوى به اللَّحم؛ قُبِل، وإن حلف لا يأكل، ونوى اللَّحم لم تنفعه نيَّته؛ لأنَّه خصص ما ليس في لفظه.
وحُمِلَ اختلاف كلام أحمد في قبول دعوى خلاف الظَّاهر في اليمين على اختلاف حالين
(2)
، لا على اختلاف قولين، ذكره
(3)
السَّامريُّ في «فروقه»
(4)
: أنَّ المنويَّ إن كان يرفع مقتضى الحكم بالكليَّة، كالاستثناء بالمشيئة في اليمين بالله، أو حيث تنفع؛ لم تصحَّ بالنِّيَّة إلَّا مع الظُّلم.
وقد نصَّ أحمد في رواية حرب على صحِّة استثناء المظلوم في نفسه بالمشيئة؛ لأنَّها ترفع الحكم بالكليَّة، فهي كالنَّسخ؛ فلا تصحُّ بالنِّيَّة إلَّا مع العذر، بخلاف شروط الطَّلاق ونحوها، فإنَّها تصحُّ بالنِّيَّة مطلقاً؛ لأنَّها مخصِّصة لا رافعة.
(1)
في (ب) و (ج) و (هـ) و (ن): قال.
(2)
قوله: (حالين) هو في (ب) و (د) و (و) و (ن): هذين الحالين.
(3)
في (ب): ذكره عنه.
(4)
زاد في (ب): وذكر فيها أيضاً. وضُرب عليه في (أ) وسقطت من باقي النسخ.
وأمَّا القسم الثَّالث؛ فله صور:
منها: إذا نذر الصَّدقة بمال، ونوى في نفسه قدراً معيَّناً؛ فنصَّ أحمد في رواية أبي داود: أنَّه لا يلزمه ما نواه
(1)
.
وخرَّج صاحب «المحرَّر» في تعليقه على «الهداية» : اللُّزوم، قال: وقد نصَّ أحمد على أنَّ من
(2)
نذر صوماً أو صلاة، ونوى في نفسه أكثر ممَّا يتناوله اللَّفظ؛ أنَّه يلزمه ما نواه
(3)
، وهذا مثله، ولذلك رجَّح ابن عقيل اللُّزوم فيما نواه في الجميع.
وكذلك ذكر صاحب «الكافي» : أنَّه لو حلف ليأكلنَّ لحماً أو فاكهة، أو ليشربنَّ ماء، أو ليكلِّمنَّ رجلاً، أو ليدخلنَّ داراً، وأراد بيمينه معيَّناً؛ تعلَّقت يمينه به دون غيره، وإن نوى الفعل في وقت بعينه؛ اختصَّ به، ولم يذكر فيه خلافاً.
ومنها: لو قال: أنت طالق، ونوى ثلاثاً؛ فهل يلزمه الثَّلاث، أم لا يقع به أكثر من واحدة؟ على روايتين.
وجه القول بلزوم الثَّلاث: أنَّ (طالقاً) اسم فاعل، وهو صادق على من قام به الفعل مرَّة وأكثر، فيكون محتملاً للكثرة، فينصرف إليها بالنِّيَّة.
(1)
جاء في مسائل أبي داود ص (302): (سمعت أحمد سئل عن رجل قال: إن قدم فلان لأتصدقن بمالي، فنوى في نفسه ألف درهم، فقدم، قال: يخرج ما شاء، ما يسمَّى مال).
(2)
في (ب) و (ج) و (و) و (هـ): فيمن. وفي (ن): فيمن. مكان قوله: (على أن من).
(3)
ينظر: الفروع (11/ 74).
ورأيت في كتاب «شرح القوافي» لابن جنِّي
(1)
: أنَّ الأفعال كلَّها للعموم، وحكاه عن أبي عليٍّ
(2)
، وهو غريب.
وأمَّا إذا قال: ثلاثاً؛ فتطلق ثلاثاً، لكن لنا فيه طريقان:
أحدهما: أنَّ ثلاثاً صفة لمصدر محذوف، تقديره: طلاقاً ثلاثاً، والمصدر يتضمَّن العدد.
والثَّاني: أنَّ ثلاثاً صالح لإيقاع الثَّلاث من طريق الكناية، وذِكر الطَّلاق يقرِّر الإيقاع بها كنيَّة الطَّلاق.
ويتفرَّع على المأخذين: هل وقع الثَّلاث بقوله: أنت طالق، أم بقوله: ثلاثاً؟ فلو ماتت مثلاً في حال قوله: ثلاثاً؛ هل تقع
(3)
الثَّلاث أو واحدة؟ على وجهين، ذكرهما في «التَّرغيب» .
وهذا إنَّما يتوجَّه على قولنا: إنَّه إذا قال: أنت طالق، ونوى ثلاثاً؛ أنَّه يقع به الثَّلاث، أمَّا إن قلنا: لا يقع الثَّلاث بالنِّيَّة؛ لم يقع الثَّلاث إلَّا بقوله ثلاثاً، بغير خلاف.
(1)
هو عثمان بن جني الموصلي، أبو الفتح، إمام العربية، صاحب التصانيف، لزم أبا علي الفارسي وسافر معه حتى برع وصنف، وتخرج به الكبار، وله: سر الصناعة، واللمع، والتصريف، والتلقين في النحو، والخصائص وغيرها، توفي سنة 372 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 17/ 17.
(2)
هو الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو علي الفارسي الفسوي، إمام النحو، صاحب التصانيف، أخذ عن الزجاج وغيره، وأخذ عنه ابن جني وجماعة، توفي سنة 377 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 16/ 379.
(3)
في (ب) و (هـ) و (ن): يقع.
ومنها: إذا وقع العقد على اسم مطلق، ونوى تعيينه قبل العقد؛ فهل يصحُّ أم لا؟
قد سبق أنَّ لنا في صحَّة النِّكاح وجهين إذا قال: زوَّجتك بنتي، وله بنات، ونويا واحدة معيَّنة، وأنَّ مأخذ البطلان اشتراط الشَّهادة على النِّكاح، وهذا يقتضي صحَّة سائر العقود الَّتي لا تحتاج إلى الشَّهادة بمثل ذلك.
وصرَّح صاحب «المحرَّر» بأنَّه إذا اشترى شيئاً بثمن مطلق في الذِّمة، ونوى نقده من المال المغصوب، ونقده منه؛ فهل يكون العقد باطلاً كما لو وقع على عين المغصوب، أو يكون صحيحاً؟ على روايتين.
وإنَّما خرَّج الخلاف في تقييد المطلق بالنِّيَّة دون تخصيص العامِّ بها؛ لأنَّ تخصيص العامِّ نقص منه، وقصر له على بعض مدلوله، وذلك إنَّما يكون بالنِّيَّة والإرادة؛ فهي المخصِّصة، وإنَّما تسمَّى الأدلَّةُ الدَّالَّة على التَّخصيص مخصِّصات؛ لدلالتها على الإرادة المخصِّصة
(1)
، بخلاف تقييد المطلق؛ فإنَّه زيادة على مدلوله، فلا تثبت الزِّيادة بالنِّيَّة المجرَّدة.
فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بتعميم الخاصِّ بالنِّيَّة؛ فإنَّه إلتزام بزيادة
(2)
على اللَّفظ بمجرَّد النِّيَّة.
(1)
من قوله: (وإنَّما خرَّج الخلاف في تقييد المطلق) إلى هنا سقط من (أ).
(2)
قوله: (إلزام بزيادة) هو في (هـ): الزِّيادة. وقوله: (بزيادة) هو في (ج): زيادة. وهو بياض في (أ).
قيل: الفرق بينهما أنَّ الخاصَّ إذا أريد به العامُّ؛ كان نصًّا على الحكم في صورة لعلَّة، تعدَّى إلى كلِّ ما وُجدت فيه تلك العلَّة، وهذا غير موجود في المطْلَق إذا أريد به بعض مقيَّداته، والله أعلم.
وأمَّا القسم الرَّابع؛ فله صور:
منها: لو قال: أنت طالق ثلاثاً، واستثنى بقلبه إلَّا واحدة؛ فهل يلزمه الثَّلاث في الباطن؟ على وجهين:
أحدهما: لا يلزمه، وهو قول أبي الخطَّاب وصاحبه الحلوانيِّ.
والثَّاني: يقع به الثَّلاث في الباطن، وهو الَّذي جزم به السَّامريُّ في «فروقه» ، وصاحب «المغني» ، واختاره صاحب «المحرَّر» ؛ لأنَّ النِّيَّة إنَّما تصرف اللَّفظ إلى محتمل، ولا احتمال في النَّصِّ الصَّريح، إنَّما الاحتمال في العموم، ويشهد له قول أحمد في رواية صالح:(النِّيَّة فيما خفي، ليس فيما ظهر)
(1)
.
ومنها: لو قال: نسائي الأربع طوالق، واستثنى بقلبه فلانة؛ فهي كالَّتي قبلها.
ومنها: لو قال: كلُّ عبد لي حرٌّ، واستثنى بقلبه بعض عبيده؛ فذكر ابن أبي موسى في صحَّته روايتين، ولكن صحَّة الاستثناء هنا أظهر، وفي كلام أحمد
(2)
في مسألة الأشقاص ما يدلُّ عليه؛ لأنَّ (كلًّا) وإن
(1)
ينظر: مسائل صالح (1/ 461).
(2)
كتب على هامش (ن): (في رواية مهنَّى عن أحمد: لا يعتق الأشقاص، إلَّا أن ينويهم بالعتق، ثمَّ إن المصرَّح به في «التَّرغيب» كما نقله ابن همام في قواعده، وقال: نصَّ عليه، أنَّه لو قال: كلُّ عبد لي أو في ملكي حرٌّ، فإنَّه يعتق عليه جميع عبيده، نوى العموم أو لم ينو، نوى بعضهم دون بعض أو لا، قال: لأن النِّيَّة لا أثر لها في الصريح على الصَّحيح. انتهى).
كانت موضوعة لاستغراق ما تضاف إليه، إلَّا أنَّها من صيغ العموم القابلة للتَّخصيص في الجملة.
تنبيه حسن:
فرَّق الأصحاب بين الإثبات والنَّفي في الأيمان في مسائل، وقالوا: في الإثبات لا يتعلَّق البرُّ إلَّا بتمام المسمَّى، وفي الحنث يتعلَّق ببعضه على الصَّحيح.
وقالوا: الأيمان تُحمل على عرف الشَّرع
(1)
، والشَّارع إذا نهى عن شيء؛ تعلَّق النَّهي بجملته وأبعاضه، وإذا أمر بشيء؛ لم يحسن الامتثال بدون الإتيان بكماله.
فأخذ الشَّيخ تقيُّ الدِّين من هذا: أنَّ اليمين في الإثبات لا تعمُّ، وفي النَّفي تعمُّ؛ كما عمَّت أجزاء المحلوف عليه، قال
(2)
: (وقد ذكر القاضي في موضع من «خلافه»: أنَّ السَّبب يقتضي التَّعميم في النَّفي دون الإثبات)
(3)
.
(1)
قوله: (الشَّرع) سقط من (أ).
(2)
كتب على هامش (ن): (ليس في النُّسخة المعتمدة لفظ: "قال"، وهو الظَّاهر من الكلام).
(3)
ينظر: المسودة (ص 391).
قال الشَّيخ: وهذا قياس المذهب في الأيمان، وقرَّره: بأنَّ المفاسد يجب اجتنابها كلِّها، بخلاف المصالح؛ فإنَّه إنَّما يجب تحصيل ما يحتاج إليه منها، فإذا وجب تحصيل مصلحة؛ لم يجب تحصيل أخرى مثلها؛ للاستغناء عنها بالأولى.
وكلامه يشمل التَّعميم بالنِّيَّة حتَّى ذكر في العلَّة المنصوصة في كلام الشَّارع: أنَّها إن كانت في تحريمٍ؛ تعدَّى بالقياس إلى غير المنصوص عليه بالعلَّة، وإن كانت إيجاباً؛ لم يتعدَّ، وذكر أنَّ هذا قياس المذهب
(1)
.
وحكى عن أبي الخطَّاب: أنَّه لو قال: أوجبت كلَّ يوم أكل السُّكَّر؛ لأنَّه حلو؛ وجب أكل كلِّ حلو.
ثمَّ قال: هذا بعيد، بل الَّذي يقال: إنَّه يجب كلَّ يوم أكل شيء من الحلو كائناً ما كان، قال: وفيه نظر؛ لأنَّه يبطل إيجاب السُّكَّر.
وعلى هذا التَّقدير؛ فلا إشكال في مسألة قول السَّيِّد: أعتقت غانماً لسواده، وأنَّه لا يعتق عليه كلُّ أسود؛ كما هو قول الجمهور، خلافاً لما ذكره أبو الفتح الحلوانيُّ وأبو الخطَّاب، والله أعلم.
(1)
ينظر: المسودة (ص 391).
قاعدة [126]
الصُّور الَّتي لا تُقصَد من العموم عادة؛ إمَّا لندورها، أو لاختصاصها بمانع، لكن يشملها اللَّفظ مع اعتراف المتكلِّم بأنَّه لم يُرد إدخالها فيه
؛ هل يحكم بدخولها أم لا؟
في المسألة خلاف، ويترجَّح في بعض المواضع الدُّخول وفي بعضها عدمه؛ بحسب قوَّة القرائن وضعفها.
ويتخرَّج على هذه القاعدة مسائل كثيرة:
منها: إذا قيل له: تزوَّجت على امرأتك؟ فقال: كلُّ امرأة لي طالق؛ هل تطلق المرأة المخاطبة أم لا، إذا قال: لم أردها؟
وقد سبق
(1)
أنَّ أحمد نصَّ تارة على أنَّها تطلق، وتوقَّف فيها
(2)
أخرى، وخرَّجها ابن عقيل على روايتين.
ومنها: لو قذف آباءه إلى آدم وحوَّاء؛ فنصَّ أحمد في رواية حرب: على أنَّ عليه حدًّا واحداً
(3)
، ولم يجعله ردَّة عن الإسلام؛ لأنَّه لم يقصد دخول الأنبياء في ذلك، ولا يقصد ذلك مسلم.
(1)
ينظر: آخر القاعدة 124 ص ...... .
(2)
في (أ): فيه.
(3)
ينظر: الفروع (10/ 91).
وخرَّج الشَّيخ تقيُّ الدِّين فيه وجهاً آخر: أنَّه ردَّة من المسألة الآتية
(1)
.
ومنها: لو قال: عصيت الله فيما أمرني به؛ هل تكون يميناً؟
قال القاضي: ليس بيمين؛ لأنَّ المشهور تخصيص المعاصي بالذُّنوب دون الكفر.
وقال صاحب «المحَّرر» : عندي أنَّه يمين لدخول التَّوحيد فيه.
ومنها: لو قال لعبيده وهم عنده: أنتم أحرار، وكان فيهم أمُّ ولده وهو لا يعلم بها، ولم يُرِد عِتقَها؛ هل تعتق أم لا؟ على روايتين، حكاهما أبو بكر وابن أبي موسى، ونصَّ أحمد على عتقها في رواية ابن هانئ وغيره
(2)
.
وشبَّهها في رواية أحمد بن الحسين بن حسَّان بمن نادى امرأة له، فأجابته أخرى، فطلَّقها يظنُّها المناداة، وقال: تطلق هذه بالإجابة، وتلك بالتَّسمية
(3)
.
وهذه المسألة- أعني: مسألة المناداة - فيها روايتان:
إحداهما: تطلق المناداة وحدها، نقلها مهنَّى
(4)
، وهي اختيار الأكثرين؛ كأبي بكر وابن حامد والقاضي؛ فيتعيَّن تخريج رواية في أمِّ
(1)
قوله: (الآتية) هي في (أ): الَّتي تأتي.
(2)
ينظر: مسائل ابن هانئ (2/ 80)، والروايتين والوجهين (2/ 164).
(3)
ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 164).
(4)
ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 165).
الولد: أنَّها لا تعتق منها
(1)
.
وعلى الرِّواية الثَّانية: تعتق المناداة والمجيبة.
وظاهر كلام أحمد في رواية أحمد بن الحسين بن حسَّان: أنَّهما تطلقان جميعاً في الباطن والظَّاهر، كما تقول في إحدى الرِّوايتين: إذا لقي امرأة يظنُّها أجنبيَّة، فطلَّقها، فإذا هي زوجته؛ أنَّ زوجته تطلق ظاهراً وباطناً.
وزعم صاحب «المحرَّر» أنَّ المجيبة إنَّما تطلق ظاهراً.
والفرق بينها وبين المطلَّقة الَّتي يعتقدها أجنبيَّة: أنَّ الطَّلاق ههنا صادف محلًّا ينفذ فيه، وهو المناداة؛ فلا تحتاج إلى محلٍّ آخر، بخلاف طلاق من يعتقدها أجنبيَّة؛ فإنَّه لو لم يقع بها؛ لَلَغِيَ الطَّلاق الصَّادر من أهله في محلِّه، ولا سبيل إليه، وقد أشار أحمد إلى معنى هذا الفرق، وسنذكره فيما بعد إن شاء الله
(2)
.
ومنها: لو حلف لا يسلِّم على فلان، فسلَّم على جماعة هو فيهم، وهو لا يعلم بمكانه، ولم يرده بالسَّلام؛ فحكى الأصحاب في حنثه الرِّوايتين.
ويشبه تخريجهما على مسألة من حلف لا يفعل شيئاً ففعله جاهلاً بأنَّه المحلوف عليه.
(1)
كتب على هامش (ن): (بجامع أنَّ كلًّا من المجيبة وأمِّ الولد مخاطبة غير مقصودة).
(2)
ينظر: بعد صفحتين أو أقل .....
والمنصوص عن أحمد ههنا الحنث في رواية مهنَّى
(1)
؛ حتَّى فيما إذا كان المحلوف عليه مستتراً بين القوم ببارية في المسجد وهو لا يراه.
ونقل عنه أبو طالب: إن كان وحده فسلَّم عليه وهو لا يعرفه؛ حنث، وإن كان بين جماعة ولم يعلم به؛ لم يحنث؛ لأنَّه أراد الجماعة.
وهذا يشبه ما تقدَّم في الفرق بين المناداة إذا أجابت غيرها، وبين من يطلِّقها يعتقدها أجنبيَّة، فإنَّ المحلوف عليه لم يقصد السَّلام عليه بالكليَّة، وهناك من يصحُّ قصده غيره، فانصرف السَّلام إليه دونه، بخلاف ما إذا كان وحده؛ فإنَّ المحلوف عليه وجد، ولكن مع الجهل به.
وقد تأوَّل القاضي رواية أبي طالب هذه على أنَّه أخرجه بالنِّيَّة من السَّلام، ولا يصحُّ؛ لأنَّه لم يكن عالماً بحضوره بينهم؛ فكيف يستثنيه بالنِّيَّة؟!
ومنها: لو وقف المسلم على قرابته، أو أهل قريته، أو وصَّى لهم وفيهم مسلمون وكفَّار؛ لم يتناول الكفَّار حتَّى يصرِّح بدخولهم، نصَّ عليه في رواية حرب وأبي طالب
(2)
.
ولو كان فيهم مسلم واحد والباقي كفَّار؛ ففي الاقتصار عليه وجهان؛ لأنَّ حمل اللَّفظ العامِّ على واحد بعيد جدًّا
(3)
.
(1)
ينظر: الروايتين والوجهين (3/ 59).
(2)
ينظر: أحكام أهل الملل والردة (ص 226).
(3)
علق في الإنصاف (16/ 506): (قلت: الصواب الدخول في هذه الصورة).
ومنها: لو تهايأ المعتَق بعضه وسيِّده على منافعه وأكسابه؛ فهل يدخل فيها الأكساب النَّادرة؛ كالرِّكاز والهديَّة واللُّقطة، أم لا؟ على وجهين.
ومنها: لو قال: ما أحلَّ الله عليَّ حرام، وله زوجة ومال، وقال: لم أرد زوجتي؛ فهو مظاهر، عليه كفَّارة الظِّهار، نصَّ عليه في رواية ابن منصور
(1)
؛ لأنَّ الزَّوجة أشهر أفراد الحلال الَّذي يقصد تحريمه، ولا ينصرف الذِّهن ابتداء إلى غيره؛ فلا يصحُّ إخراجه من العموم بعدم إرادة دخوله، وإنَّما يصحُّ إخراجه بإرادة عدم دخوله.
فأمَّا إن لم يكن له زوجة وله مال؛ فهو يمين كسائر تحريم المباحات.
وإذا كان له زوجة ومال؛ فعليه كفَّارة ظهار لا غير، نصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور
(2)
وأبي طالب
(3)
في صورة: كلُّ ما أحلَّ الله عليَّ حرام.
وقال ابن عقيل: تجب مع كفَّارة الظِّهار كفَّارة يمين؛ لدخول المال في العموم.
ووجَّه القاضي نصَّ أحمد بتوجيهات مستبعدة، وعندي في تخريجه وجهان:
(1)
ينظر: مسائل ابن منصور (4/ 1582).
(2)
ينظر: مسائل ابن منصور (5/ 2440).
(3)
قوله: (ابن منصور وأبي طالب) هو في (ب) و (د) و (و): أبي طالب وابن منصور.
أحدهما: أنَّ المتبادر إلى الأفهام من تحريم الحلال؛ تحريم الزَّوجة دون الأموال؛ فإنَّها لا تُقصد بالتَّحريم، فلا تدخل في العموم؛ لكونها لا تُقصد عادة، فتكون المسألة حينئذ من صور القاعدة.
والثَّاني: أن تكون مخرَّجة على قوله بتداخل الأيمان، وأنَّ موجَبها واحد؛ فإنَّ الجنس ههنا واحد، وهو تحريم الحلال؛ فصار موجبه كفَّارة واحدة، ثمَّ تعيَّنت بكفَّارة الظِّهار؛ لدخول كفَّارة اليمين فيها، من غير عكس.
قاعدة [127]
إذا استند إتلاف أموال الآدميِّين ونفوسهم إلى مباشرة وسبب
؛ تعلَّق الضَّمان بالمباشرة دون السَّبب، إلَّا أن تكون المباشرة مبنيَّة على السَّبب وناشئة عنه
(1)
، سواء كانت ملجئة
(2)
إليه أو غير ملجئة
(3)
.
ثمَّ إن كانت المباشرة والحالة هذه
(4)
لا عدوان فيها بالكليَّة؛ استقلَّ
(1)
كتب على هامش (ن): (مثل من قُدِّم إليه طعام كمسموم، وهو لا يعلم بسُمِّه، فأكله، وهذا مثال للمباشرة النَّاشئة عن السَّبب من غير إلجاء، وأمَّا المباشرة النَّاشئة عنه مع الإلجاء؛ فالمكره كما تأتي مسائله).
(2)
قوله: «سواء كانت ملجِئة» الصَّواب كتابة ملجَأة بالألف؛ لأنَّها اسم مفعول، فلا موجب لكتابة الهمزة بانفتاح ما قبلها، ويجوز أن تكون ملجِئة بكسر الجيم بصيغة اسم الفاعل، ويكون الضَّمير في «كانت» للسَّببيَّة المفهومة من السَّبب، ويعضده قوله في آخر مسألة من هذه القاعدة:(والأوَّل متسبِّب غير ملجئ)، فجعل الإلجاء من السَّبب).
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: ثمَّ إذا كانت ناشئة عن السَّبب ومبنيَّة عليه؛ فلا يختصُّ الضَّمان بالمباشر، بل إن تجرَّدت المباشرة عن العدوان؛ فلا ضمان على المباشر، وإن اتَّصفت به؛ شاركت السَّبب فيه.
(4)
كتب على هامش (ن): (الإشارة بـ «هذه» إلى كون المباشرة ناشئة عن السَّبب).
السَّبب وحده بالضَّمان.
وإن كان فيها عدوان؛ شاركت السَّبب في الضَّمان. فالأقسام ثلاثة.
(1)
من
(2)
صور القسم الأوَّل
(3)
مسائل:
منها: إذا حفر واحد بئراً عدواناً، ثمَّ دفع غيره فيها؛ آدميًّا معصوماً أو مالاً لمعصوم، فسقط، فتلف؛ فالضَّمان على الدَّافع وحده.
ومنها: لو فتح قفصاً عن طائر، فاستقرَّ بعد فتحه، فجاء آخر فنفَّره؛ فالضَّمان على المنفِّر وحده.
(1)
كتب على هامش (ن): (قوله: «فالأقسام ثلاثة» يقال فيه: بل هي أربعة، الأوَّل: مباشرة ليست ناشئة عن السَّبب، والثَّاني: مباشرة ناشئة عنه مع العدوان فيها؛ كمن حفر بئراً عدواناً فأوقع إنسان فيها إنساناً فأتلفه، والثَّالث: ناشئة عنه مع عدم العدوان فيها؛ كمن حفر بئراً عدواناً، فوقع فيها إنسان؛ لعدم علمه بها، وأمَّا الَّتي بسبب المباشرة ناشئة عن السَّبب، فهي أيضاً قسمان؛ أحدهما وهو القسم الثَّالث: أن يكون السَّبب فيه عدواناً؛ كمن حفر بئراً عدواناً فوقع فيه إنسان، والثَّاني وهو القسم الرَّابع: أن تكون غير ناشئة عن سبب ليس معه عدوان؛ كمن حفر بئراً في ملكه فدفع آخر فيها إنساناً).
(2)
في (ب) و (د) و (هـ) و (ن): ومن.
(3)
كتب على هامش (ن): (القسم الأوَّل هو ما ليست المباشرة مبنيَّة على السَّبب، وناشئة عنه).
ومنها: لو رمى معصوماً من شاهق، فتلقَّاه آخر بسيف، فقدَّه به؛ فالقاتل هو الثَّاني دون الأوَّل.
فأمَّا إذا
(1)
ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً وفيه حياة غير مستقِرَّة، فضربه آخر فمات؛ فالقاتل هو الأوَّل، وعليه الغرَّة، ويعزَّر الثَّاني؛ لأنَّ الضَّارب ليس بمتسبِّب، بل هو مباشر للقتل؛ فلذلك لزمه الضَّمان.
وكذا لو رمى صيداً فأصاب مقتله، ثمَّ رماه آخر فمات؛ فالقاتل هو الأوَّل، فيباح الصَّيد بذلك، والثَّاني جان عليه؛ فيضمن ما خرق من جلده، هذا قول القاضي والأكثرين.
وخرَّجه طائفة على الخلاف في تحريم ما سقط بعد الذَّبح في ماء ونحوه؛ لإعانته على قتله، وظاهر كلام الخرقيِّ تحريمه ههنا؛ فيضمن الثَّاني قيمته كاملة، ويسقط منها قدر جرح الأوَّل.
ومن صور القسم الثَّاني
(2)
مسائل:
منها: إذا قدَّم إليه طعاماً مسموماً عالماً به، فأكله وهو لا يعلم بالحال؛ فالقاتل هو المقدِّم، وعليه القصاص والدِّية
(3)
.
ومنها: لو قتل الحاكم حدًّا أو قصاصاً بشهادة، ثمَّ أقرَّ الشُّهود أنَّهم تعمَّدوا الكذب؛ فالضَّمان والقود عليهم دون الحاكم.
(1)
قوله: (فأما إذا): هو في (ب): ومنها لو. وفي (ج) و (هـ): إن لو.
(2)
كتب على هامش (ن): (وهو ما يجرَّد فيه المباشرة من العدوان).
(3)
كتب على هامش (ن): (الواو هنا بمعنى أو).
ونقل أبو النَّضر العجليُّ
(1)
عن أحمد: إذا رجم الحاكم بشهادة أربعة، ثمَّ تبيَّن أنَّ المرجوم مجبوب؛ فالضَّمان على الحاكم.
وهو مشكل؛ لأنَّه قد تبيَّن كذبهم بالعيان؛ فهو كإقرارهم بتعمُّد الكذب.
وقد يفرَّق بأنَّ المجبوب لا يخفى حاله
(2)
غالباً؛ فالإقدام على رجمه لا يخلو من تفريط، وبأنَّ الشُّهود قد يشتبه عليهم؛ فلا يتحقَّق تعمُّدهم للكذب.
وأمَّا إن تبيَّن أنَّ الشُّهود فسقة أو كفَّار - وقلنا: يُنقض الحكم
(3)
- وكان الحقُّ لآدميٍّ؛ فالضَّمان على المحكوم له.
(1)
هو إسماعيل بن عبد الله بن ميمون بن عبد الحميد بن أبي الرجال، أبو النضر العجلي، مروزي الأصل، سمع من الإمام أحمد، ونقل عنه مسائل كثيرة، توفي سنة 270 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 105.
(2)
في (ب) و (ج) و (هـ) و (ن): أمره.
(3)
كتب على هامش (ن): (لا خلاف في نقضه إذا بان الشُّهود كفَّارًا، إنَّما الرِّوايتان فيما إذا كانوا فسقة؛ فكان ينبغي أن يقول: «أنَّ الشُّهود كفَّار أو فسقة» ليكون ترديد الخلاف في نقض الحكم راجعاً إلى ما يليه، هذا الَّذي ذكرناه هو المعروف؛ إذ الخلاف في تبيُّن الفسق، ولكن سيأتي أنَّ القاضي وأبا الخطَّاب حكيا رواية: لا يُنقض الحكم، وظاهره أنَّه في الفسق والكفر، ولم أجد بذلك نقلاً، وكلُّ الأصحاب إنَّما يحكون الرواية بعدم النَّقض في الفسق خاصَّة، ولعلَّ ذلك هو مراد المصنِّف فيما نقله عن القاضي وأبي الخطَّاب أنَّهما ذكرا رواية بعدم النَّقض، كما سيأتي).
وإن كان لله تعالى؛ فله حالتان:
إحداهما: أن يستند الحاكم في قبول الشَّهادة إلى تزكية من زكَّاهم، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها
(1)
: الضَّمان على المزكِّين، قاله أبو الخطَّاب، وصحَّحه صاحبا «الكافي» و «التَّرغيب» ؛ لأنَّهم ألجؤوا الحاكم إلى الحكم، والحاكم فعل ما وجب عليه، والشُّهود لا يعترفون ببطلان شهادتهم؛ فتعيَّن إحالة الضَّمان على المزكِّين.
والثَّاني: الضَّمان على الحاكم وحده، قاله القاضي وابن عقيل في كتاب الشَّهادات؛ لأنَّه مفرِّط بالحكم بشهادة من لا تجوز شهادته، وحكمه يختصُّ بالمحكوم به، بخلاف التَّزكية؛ فإنَّها لا تختصُّ المحكوم به.
والثَّالث: يخيَّر المستحِقُّ بين تضمين من شاء من الحاكم والمزكِّين، والقرار على المزكِّين، قاله القاضي وابن عقيل في كتاب الحدود؛ لما ذكرنا من وجه تغريم كلٍّ منهما؛ فيخيَّر المستحِقُّ، ويستقرُّ الضَّمان على المزكِّين؛ لإلجائهم الحاكم إلى الحكم.
وحُكي عن أبي الخطَّاب وجه رابع: أنَّ الضَّمان على الشُّهود؛ كما لو رجعوا عن الشَّهادة.
ولا تصحُّ حكايته عنه؛ لتصريحه بخلافه
(2)
، وهو غير متوجِّه؛ لأنَّهم
(1)
في (ب): أحدهما. وفي (و): أحدهم.
(2)
كتب على هامش (ن): (لا يلزم من تصريحه بخلافه عدم صحَّة نقل ذلك عنه؛ لجواز أن يكون له قولان فيها).
لم يعترفوا ببطلان شهادتهم ولا ظهر كذبهم، بخلاف الرَّاجعين عن الشَّهادة، ولكن ذكر القاضي وأبو الخطَّاب رواية أنَّه لا يُنقض الحكم
(1)
ويضمن الشُّهود، وهذا ضعيف جدًّا.
وخرَّج صاحب المحرَّر في «تعليقه على الهداية» ضمان الشُّهود من إحدى الرِّوايتين فيما إذا شهد أربعة بالزِّنى ثمَّ بانوا فسَّاقاً؛ فإنَّهم يُحَدُّون على إحدى الرِّوايتين؛ وإن لم يعترفوا ببطلان قولهم.
وهذا تخريج ضعيف؛ لأنَّ الشَّهادة بالزِّنى قذف في المعنى، موجِبة للحدِّ في نفسها؛ إلَّا أن يوجد معها كمال النِّصاب المعتبر، ولم يوجد ذلك هنا.
وكذلك يجب عليهم حدُّ القذف، سواء استُوفِي من المشهود عليه الحدُّ أو لا، وليس المستوفَى من الشَّاهد نظير المستوفَى من المشهود عليه.
وأمَّا الشَّهادة بالمال؛ فلا يترتَّب عليها ضمان إلَّا أن ينشأ عنها غرم، ثمَّ يتبيَّن بطلانها؛ إمَّا بإقرار الشَّاهد، أو يتبيَّن كذبها بالعيان، ولم يوجد هنا واحد منهما.
والحالة الثَّانية: ألَّا يكون ثَمَّ تزكية؛ فالضَّمان على الحاكم وحده، ذكره الخرقيُّ والأصحاب؛ لتفريطه بقبول من لا يجوز قبول شهادته من غير إلجاء إلى القبول.
(1)
كتب على هامش (ن): (ظاهر هذا: أنَّه سواء بان الشُّهود فسقة أو كفَّاراً، والمعروف أنَّ اختلاف الرِّوايتين إنَّما هو في الفسقة لا في الكفَّار، فليحرَّر).
ومنها: المكره على إتلاف مال الغير، وفي الضَّمان وجهان:
أحدهما: أنَّه على المكرِه وحده، لكن للمستحِقِّ مطالبة المتلِف، ويرجع به على المكرِه؛ لأنَّه معذور في ذلك الفعل؛ فلم يلزمه الضَّمان، بخلاف المكرَه على القتل؛ فإنَّه غير معذور؛ فلهذا شاركه في الضَّمان، وبهذا جزم القاضي في كتاب «الأمر بالمعروف والنَّهيِّ عن المنكر» ، وابن عقيل في «عمد الأدلَّة» .
والثَّاني: عليهما الضَّمان؛ كالدِّية، صرَّح به في «التَّلخيص» ، وذكره القاضي في بعض تعاليقه احتمالاً، وعلَّل باشتراكهما في الإثم، وهذا تصريح بأنَّ الإكراه لا يبيح إتلاف مال الغير، وكان فرض الكلام في الوديعة.
وحكى احتمالاً آخر: أنَّ الضَّمان على المتلِف وحده، كما لو اضطر إلى طعام الغير فأكله، وهذا ضعيف جدًّا؛ لأنَّ المضطر لم يُلجئه إلى الإتلاف من يحال الضَّمان عليه.
ولو أُكره على تسليم الوديعة إلى غير المالك، فقال القاضي: لا ضمان؛ لأنَّه ليس بإتلاف، كذا ذكره في بعض تعاليقه، وصرَّح به في «المجرَّد» مفرِّقاً بينه وبين الإكراه على القتل: بأنَّ القتل لا يُعذر فيه بالإكراه، بخلاف هذا، وهذا التَّعليل يشمل الإتلاف أيضاً.
وتابع ابن عقيل في «الفصول» وصاحب «المغني» القاضيَ في «المجرَّد» .
وفي «شرح الهداية» لأبي البركات: المذهب
(1)
أنَّه لا يضمن؛ كما
(1)
زاد في (ب): في.
لو حلف لا يدخل الدَّار فدخلها مكرهاً.
وفي «الفتاوى الرَّجبيات» عن أبي الخطَّاب وابن عقيل: الضَّمان مطلقاً؛ لأنَّه افتدى بها ضرره.
وعن ابن الزاغونيِّ: أنَّه إن أُكره على التَّسليم بالتَّهديد والوعيد؛ فعليه الضَّمان ولا إثم، وإن ناله العذاب؛ فلا إثم ولا ضمان.
وأشار صاحب «المحرَّر» في مسألة الإكراه على الأكل في الصَّوم
(1)
من «شرح الهداية» إلى خلافٍ في أصل جواز تضمين المكرَه على إتلاف المال.
وقد ذكر صاحب «المغني» في الأيمان: أنَّ المحرِم إذا قتل صيداً مكرهاً؛ فضمانه على المكرِه له.
وقد نصَّ أحمد في رواية ابن ثواب على أنَّ حافر البئر عدواناً إذا أكرهه السُّلطان على الحفر؛ لم يضمن
(2)
، لكن هذا إكراه على السَّبب دون المباشرة.
وهذه النُّقول الثَّلاثة ترجع إلى أنَّه لا يضمن ابتداء من لا يستقرُّ عليه
(1)
كتب على هامش (ن): (قال في «الفروع»: ولا يفطر بكُرْهٍ، سواء أكره على الفعل حتَّى فعل، أو فُعل به، وفي «الرِّعاية»: لا قضاء في الأصح).
(2)
ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 289)، ونقلها ابن القيم في بدائع الفوائد (4/ 81): قلت: رجل حفر بئرًا، قال:(إن كان ما أخذه به السلطان فلا يضمن، وإن كان مما أراد بها النفع لداره، أو ليحدث فيها الشيء؛ ضمن، وضمن الحفار معه إذا جاء به إلى الطريق وهو يعلم مثله لا يكون ملكًا له فحفر له شاركه في الضمان).
الضَّمان، وقد تقدَّم ذلك
(1)
.
وأمَّا المكرهة على الوطء في الحجِّ والصِّيام إذا أفسدنا حجَّها وصيامها
(2)
؛ فهل تجب عليها الكفَّارة في مالها، أو لا يجب عليها شيء، أو يجب على الزَّوج أن يتحمَّلها عنها؟
على ثلاث روايات، وتأوَّل بعضهم الأولى على أنَّها ترجع بها على الزَّوج.
والمكرَه على حلق رأسه في الإحرام؛ تجب الفدية على الحالق في أشهر الوجهين، قاله أبو بكر.
والثَّاني: على المحلوق، يرجع بها على الحالق، ذكره ابن أبي موسى وجهاً؛ لأنَّ حلق الشَّعر كالإتلاف، ولهذا يستوي عمده وسهوه على المشهور
(3)
.
ومن صور القسم الثَّالث
(4)
(5)
مسائل:
(1)
من قوله: (وهذه النُّقول الثَّلاثة) إلى هنا سقط من (ب).
(2)
كتب على هامش (ن): (لا نعرف في فساد صومها وحجِّها خلافاً، إنَّما الخلاف في الفدية، نعم ذكر في «الفروع» عن «الرَّوضة»: المكرهة يفسد صومها ولا يلزمها كفَّارة، ولا يفسد حجُّها وعليها بدنة، ثمَّ قال: كذا قال).
(3)
قوله: (لأنَّ حلق الشَّعر كالإتلاف، ولهذا يستوي عمده وسهوه على المشهور) سقط من (ب).
(4)
في (أ) و (ب) و (د)(و): الثَّاني.
(5)
كتب على هامش (ن): (وهو ما اتَّصف فيه المباشر بالعدوان).
منها: المكرَه على القتل، والمذهب: اشتراك المكرَه والمكرِه في القَوَد والضَّمان؛ لأنَّ الإكراه ليس بعذر في القتل.
وذكر القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل في باب الرَّهن: أنَّ أبا بكر ذكر أنَّ القود على المكرَه المباشر، ولم يذكر على المكرِه قوداً، قالا: والمذهب وجوبه عليهما؛ كما نصَّ عليه أحمد
(1)
في الشُّهود الرَّاجعين إذا اعترفوا بالعمد
(2)
(3)
.
وقد بيَّن القاضي في «خلافه» كلام أبي بكر، وأنَّه قال في الأسير إذا أُكره على قتل مسلم فقتله؛ فعليه القود، وههنا المكرِه ليس من أهل الضَّمان؛ لأنَّه حربيٌّ؛ فلذلك لم يذكر تضمينه.
وذكر ابن الصَّيرفيِّ أنَّ أبا بكر السَّمرقنديِّ
(4)
من أصحابنا خرَّج وجهاً: أنَّه لا قود على واحد منهما، من رواية امتناع قتل الجماعة بالواحد، وأولى؛ لأنَّ السَّبب ههنا غير صالح في كلِّ واحد منهما؛ لأنَّ أحدهما
(1)
قوله: (نص عليه أحمد) هو في (أ) و (ن): نص أحمد عليه.
(2)
كتب على هامش (ن): (لأنَّهم كأنَّهم أكرهوا الحاكم على الحكم بشهادتهم. من خطَّ المصنِّف).
(3)
جاء في مسائل ابن منصور (7/ 3678): قلت: سئل سفيان عن امرأة شهدوا عليها بالزنى فرُجمت، فرجعوا وقالوا: تعمدنا؟ قال: يغرمون، ويضربون. قيل: أليس يعزرون، ويغرمون الدية؟ قال: بلى. قال أحمد: (يقتلون بها).
(4)
هو نجيب بن عبد الله السمرقندي، أبو بكر، ذكره يحيى بن الصيرفي الحراني الفقيه في بعض تصانيفه، وقال:(أظنه من تلامذة ابن عقيل)، قال:(وله تخاريج حسنة في المذهب). ينظر: ذيل طبقات الحنابلة 2/ 9.
متسبِّب والآخر مُلجَأ، وفي صورة الاشتراك هما مباشران مختاران.
ومنها: الممسِك مع القاتل؛ فإنَّهما يشتركان في الضَّمان والقود على إحدى الرِّوايتين.
وفي الأخرى: يختصُّ بالقود
(1)
المباشر بهما، ويُحبس الممسِك حتَّى يموت.
ومنها: لو حفر بئراً عدواناً في الطَّريق، فوضع آخر حجراً إلى جانبها؛ فهل يختصُّ بالضَّمان الواضع؛ جعلاً له كالدَّافع، أو يشتركان فيه؛ كالممسك والقاتل؟ على روايتين.
ولو كان الحافر غير متعدٍّ؛ فالضَّمان على الواضع وحده، وهي من صور القسم الثَّاني
(2)
.
ومنها: لو دلَّ المودَع لصًّا على الوديعة، فسرقها؛ فالضَّمان عليهما، ذكره القاضي وغيره؛ كما لو دلَّ المحرِم محرِماً آخر على صيد فقلته.
ولو دلَّ حلالاً؛ فالضَّمان على المحرِم وحده، وهي من صور القسم الثَّاني.
ومنها: لو أحرم وفي يده المشاهدة صيد، وتمكَّن من إرساله، فلم
(1)
قوله: (بالقود) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (و) و (ن).
(2)
كتب على هامش (ن): (لا يظهر كونها من صور الثَّاني؛ لأنَّ من جعل فيها كالمباشر- وهو الواضع- متعدٍّ، وحكم المباشر في القسم الثَّاني كونه غير متعدٍّ).
يفعل حتَّى قتله محرم آخر؛ ففيه احتمالان ذكرهما القاضي في «المجرَّد» :
أحدهما: الضَّمان على القاتل؛ لأنَّه مباشر، والأوَّل متسبِّب غير ملجِئ.
والثَّاني: الضَّمان عليهما، على الأوَّل باليد، وعلى الثَّاني بالمباشرة.
ويتخرَّج على هذين الوجهين: كلُّ من أتلف عيناً في يد من هي مضمونة عليه باليد؛ هل يضمن المتلف وحده الجميع دون صاحب اليد، أو يجوز تضمين صاحب اليد ويرجع على المتلف؟
وفرض القاضي في كتاب التَّخريج مسألة الصَّيد في حلالين: صاد أحدهما في الحرم صيداً، فقتله الآخر فيه، وذكر أنَّ عليهما جزاءين كاملين: أحدهما على القاتل بقتله، والآخر على الممسك؛ لتلفه في يده قبل إرساله، ثمَّ يرجع الَّذي في يده على القاتل بما غرمه؛ لأنَّه قرَّر عليه ضماناً كان قادراً على التَّخلُّص منه بالإرسال.
وصرَّح في أثناء المسألة بأنَّ المغصوب إذا أتلفه متلِف في يد الغاصب؛ كان المالك مخيَّراً في المطالبة لمن شاء منهما.
قاعدة [128]
إذا اختلف حال المضمون
(1)
في حالي الجناية والسِّراية
.
فههنا أربعة أقسام:
أحدها: أن يكون مضموناً في الحالين، لكن يتفاوت قدر الضَّمان فيهما
(2)
؛ فهل الاعتبار بحال السِّراية أو بحال الجناية؟ على روايتين
(3)
.
والقسم الثَّاني: أن يكون مهدراً في الحالين
(4)
؛ فلا ضمان بحال.
والثَّالث: أن تكون الجناية مهدرة والسِّراية في حال الضَّمان؛ فتهدر
(5)
تبعاً للجناية بالاتِّفاق.
(1)
كتب على هامش (ن): (لو قيل: إذا اختلف حال المجني عليه؛ كان أولى من قوله: "حال المضمون"؛ لأنَّه قسَّم ذلك إلى أقسام منها: أن يكون مهدراً في الحالين، وإذا كان مهدرًا فيهما؛ فليس مضموناً، فلا يكون من أقسام المضمون).
(2)
كتب على هامش (ن): (مثل أن يكون حال الجناية عبداً، فيعتق في حال السِّراية، أو ذميًّا فيُسلم).
(3)
كتب على هامش (ن): (أصحُّ الرِّوايتين بحال السِّراية).
(4)
كتب على هامش (ن): (مثل كونه حال الجناية حربيًّا، ثمَّ أسلم، ثمَّ ارتدَّ، ثمَّ مات).
(5)
كتب على هامش (ن): (مثل كونه حربيًّا ثمَّ يسلم).
والرَّابع: أن يكون الجناية في حال الضَّمان والسِّراية في حال الإهدار
(1)
؛ فهل يسقط الضَّمان أم لا؟ على وجهين.
فأمَّا القسم الأوَّل
(2)
؛ فله أمثلة:
منها: لو جرح ذميًّا، فأسلم ثمَّ مات؛ فلا قود، وهل تجب فيه دية مسلم أو دية ذميٍّ؟ على وجهين:
اختار القاضي وأبو الخطَّاب: وجوب دية ذميٍّ؛ اعتباراً بحال الجناية.
وابن حامد: وجوب دية مسلم، وذكر ابن أبي موسى أنَّه نصُّ أحمد
(3)
.
وبكلِّ حال؛ فالدِّية تكون لورثته من المسلمين؛ لأنَّه استَحَقَّ أرش جرحه حيًّا، فملكه ثمَّ أسلم ومات؛ فانتقل ما ملكه إلى ورثته المسلمين، ذكره القاضي في «خلافه» ، وأبو الخطَّاب في «الانتصار» .
ومنها: لو جرح عبداً، ثمَّ أُعتق، ثمَّ مات من الجرح؛ فهل يضمن بقيمته أو بدِيَته؟ على روايتين.
(1)
كتب على هامش (ن): (مثل أن يكون مسلماً ثمَّ يرتدَّ).
(2)
في (أ): الأوَّلين.
(3)
ذكر ابن أبي موسى المسألة في كتاب الإرشاد (3/ 935)، ولكن لم يذكر أنه نص أحمد. وينظر: المحرر (2/ 146) فقد ذكر أنه نص أحمد.
نقل حنبل عن أحمد: يضمنه
(1)
بقيمته
(2)
، لا بالدِّية
(3)
، وكذلك ذكره أبو بكر في «خلافه» ، ونصره القاضي في «الخلاف» أيضاً.
ونقل ابن منصور عنه فيمن ضرب بطن أمة، فأعتقت، ثمَّ أسقطت جنيناً حيًّا، ثمَّ مات: هو حرٌّ
(4)
، وعليه ديته
(5)
؛ لأنَّ العتق لا يجب إلَّا بالولادة
(6)
، وهذا اختيار ابن حامد، حكاه عنه القاضي: أنَّه يجب أقلُّ الأمرين من قيمة العبد أو الدِّية
(7)
.
وحكى أبو الخطَّاب عن القاضي: أنَّ ابن حامد أوجب دية حرٍّ، للمولى منها أقلُّ الأمرين من نصف الدِّية، أو نصف القيمة
(8)
، والباقي لورثته.
وذكر القاضي في «المجرَّد» احتمالاً بوجوب أكثر الأمرين من القيمة
(1)
في (أ): تضمينه.
(2)
كتب على هامش (ن): (اعتباراً بحال الجناية).
(3)
ينظر: الهداية (1/ 526).
(4)
كتب في هامش (ن): (اعتبارًا بحال السراية).
(5)
ينظر: مسائل ابن منصور (7/ 3603).
(6)
كتب على هامش (ن): (قوله: "لأنَّ العتق لا يجب إلَّا بالولادة" لم تظهر فائدته؛ لأنَّ العتق متأخِّر عن الجناية، فلا فرق بين ثبوته قبل الولادة أو بعدها).
(7)
كتب على هامش (ن): (لعلَّ وجهه: أنَّ الزَّائد مشكوك فيه).
(8)
كتب على هامش (ن): (هذا غريب).
أو الدِّية
(1)
.
وذكر ابن أبي موسى أنَّ المنصوص في الذميِّ إذا أسلم: وجوب دية مسلم، وفي العبد إذا أُعتق
(2)
: قيمة عبد، ثمَّ خرَّج المسألتين على روايتين.
وعلى الأولى؛ فجميع القيمة للسَّيِّد، ذكره أبو بكر والقاضي والأصحاب؛ لأنَّ السِّراية لا تثبت منفردة، وإنَّما تجب تابعة للجناية، وقد ثبت أرش الجرح للسَّيِّد حين كان المجروح عبداً لا يملك؛ فتتبع السِّراية الجناية، ويكون أرشها لمستحِقِّ أرش الجناية، وهو السَّيِّد.
وهكذا لو باعه المولى بعد الجرح، ثمَّ مات عند المشتري؛ فالقيمة كلُّها للأوَّل، ذكره القاضي.
وذكر ابن الزاغونيِّ في «الإقناع» فيما إذا قطع يَدَي عبد وقيمته ألفَا دينار، فأعتقه سيِّده، ثمَّ مات؛ احتمالين:
أحدهما: أنَّ الألفين بين السَّيِّد والورثة نصفين؛ توزيعاً للقيمة على السِّراية والجناية.
والثَّاني: يُقسم بينهما أثلاثاً
(3)
؛ لأنَّ للسَّيِّد ما يقابل اليدين، وهو كمال القيمة
(4)
، وللورثة كمال الدِّية
(5)
، وهي بقدر نصف القيمة.
(1)
كتب على هامش (ن): (لعلَّ وجهه: التَّغليظ على الجاني).
(2)
في (ب) و (ج) و (هـ) و (و): عتق.
(3)
كتب على هامش (ن): (للسَّيِّد ثلثان وللورثة ثلث).
(4)
كتب على هامش (ن): (ألفان).
(5)
كتب على هامش (ن): (ألف).
ولا قصاص على الحرِّ المسلم في هذه المسألة والَّتي قبلها؛ لانتفاء المكافأة حال الجناية.
تنبيه:
ذكر القاضي في «خلافه» أنَّ رواية الضَّمان بدية حرٍّ، نقلها حرب عن أحمد
(1)
، وتبعه صاحب «المحرَّر» وزاد: أنَّ للسَّيِّد منها أقلَّ الأمرين.
ولم ينقل حرب شيئاً من ذلك، وإنَّما نقل أنَّه ذكر له قول الزُّهريِّ: يضمنه
(2)
بقيمة مملوك؛ فقال: ما أدري كيف هذا؟ ولم يُجِب فيه بشيء، وهذا يدلُّ على أنَّه أنكر ضمانه بالقيمة، وإنَّما نقل ابن منصور عن أحمد أنَّه يضمنه بدية حرٍّ كاملة باللَّفظ الَّذي زعم القاضي أنَّ حرباً نقله.
ومنها: لو ضرب بطن أمة حامل، فأُعتقت، أو جنينها، ثمَّ ألقته ميِّتاً؛ فهل يضمنه بغرَّة جنين حرٍّ، أو بقيمة جنين أمة؟ على وجهين
(3)
.
وكذلك لو ضرب بطن نصرانيَّة حامل بنصرانيٍّ، ثمَّ أسلمت، ثمَّ ألقت جنيناً ميِّتاً؛ هل يضمنه ضمان جنين مسلم أو ذميٍّ؟ على الوجهين.
ومنها: لو قطع يدي عبد، وقيمته ألفان، ثمَّ سرت إلى نفسه ومات
(1)
ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 29)، المحرر (2/ 146).
(2)
في (أ): تضمينه.
(3)
كتب على هامش (ن): (ذكر في «المحرَّر» بدلهما روايتين).
وقيمته ألف؛ فقال القاضي في «خلافه» : قياس المذهب أنَّه يضمنه بألفين؛ لأنَّ نقصان القيمة كنقصان بدله بالحريَّة
(1)
، وقد قلنا: يُضمن بألفين إذا أعتق
(2)
، كذلك هنا، قال: وهذا
(3)
موضع مجمع عليه؛ لأنَّ موته حصل بقطع يده، وقيمته في تلك الحال ألفان.
ويلتحق بهذا: ما إذا جَرح ذميٌّ
(4)
خطأ، ثمَّ أسلم
(5)
وسرى الجرح إلى النَّفس، وفيه ثلاثة أوجه مذكورة في «المغني» و «المحرَّر»:
أحدها: الدِّية على عاقلته
(6)
حال الجرح، وبه جزم في «الكافي» و «المحرَّر» ؛ اعتباراً بحال الجناية.
والثَّاني: على عاقلته أرش الجرح، والزَّائد بالسِّراية في ماله؛ لأنَّه حصل بعد مخالفته لدين عاقلته.
والثَّالث: الدِّية كلُّها في ماله؛ كما لو اختلفت ديته حال الرَّمي
(1)
كتب على هامش (ن): (فإنَّه إذا عتق؛ يرجع).
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (و): عتق.
(3)
كتب على هامش (ن): (الإشارة بـ"هذا" إلى اختلاف حال المجني عليه حال الجناية والسِّراية مع الضَّمان فيهما متفاوتاً، فيلتحق به اختلاف حال الجاني بين الجناية والسِّراية).
(4)
كتب على هامش (ن): (أي: إنساناً).
(5)
كتب على هامش (ن): (أي: الجارح).
(6)
كتب على هامش (ن): (أي: الجارح).
والإصابة على ما يأتي ذكره؛ لأنَّ أرش الجرح إنَّما يستقرُّ بالاندمال أو السِّراية.
ولو كان الجاني ابن معتقة لقوم، ثمَّ انجرَّ ولاؤه إلى موالي أبيه؛ ففي «المحرَّر»: هو على هذا الخلاف.
وفي «الكافي» : الدِّية في ماله، ولم يذكر خلافاً.
وأمَّا القسم الثَّاني
(1)
؛ فمن أمثلته: ما إذا جرح عبداً حربيًّا، ثمَّ عتق
(2)
(3)
، ثمَّ مات، أو جرح عبداً مرتدًّا، ثمَّ عتق
(4)
، ثمَّ مات؛ فلا ضمان؛ لأنَّ الحربيَّ والمرتدَّ لا يُضمَن، حرًّا كان أو عبداً
(5)
.
وأمَّا القسم الثَّالث
(6)
؛ فله أمثلة:
منها: لو جرح حربيًّا، ثمَّ أسلم، ثمَّ مات؛ فلا ضمان.
(1)
كتب على هامش (ن): (وهو أن يكون مهدراً في الحالين).
(2)
في (أ): أعتق.
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: وهو حربيٌّ).
(4)
كتب على هامش (ن): (أي: وهو مرتدٌّ).
(5)
كتب على هامش (ن): (لا يقال: إذا لم يكن فرق بين كونهما عبدين أو حرَّين؛ فلا فائدة في تقييد المثالين بكون المجروح فيهما عبداً؛ لأنَّ فائدة ذلك أنَّه يكون حالة الجناية عبداً وحال السِّراية حرًّا، فيختلف الحالان، ولو لم يكن عبداً؛ لم يمكن اختلافهما).
(6)
كتب في هامش (ن): (وهو أن تكون الجناية مهدرة والسراية في حال الضمان).
ومنها: لو جرح مرتدًّا، ثمَّ أسلم، ثمَّ مات؛ فلا ضمان أيضاً.
وذكر صاحب «التَّرغيب» أنَّ الضَّمان هنا مخرَّج على الضَّمان فيما إذا طرأ الإسلام بعد الرَّمي وقبل الإصابة.
ومنها: لو جرح صيداً في الحلِّ، ثمَّ دخل الحرم فمات فيه؛ فلا ضمان، ويحلُّ أكله؛ لأنَّه ذكَّاه في الحلِّ، ذكره القاضي، ونصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور، وقد سأله عن قول سفيان في صيد رُمي في الحلِّ، فتحامل، فدخل في الحرم، فمات؛ قال: ليس عليه كفَّارة، ويكره أكله؛ لأنَّه مات في الحرم. قال أحمد: ما أحسن ما قال!
(1)
وهذه الكراهة كراهة تنزيه.
ومنها: لو جرح عَبْدَ نفسِه، ثم عتق، ثمَّ مات؛ فهل يضمنه
(2)
أم لا
(3)
؟ على وجهين ذكرهما في «التَّرغيب» ؛ لأنَّ عبد نفسه إنَّما يهدر ضمانه على السَّيِّد دون غيره؛ فهو مضمون في الجملة، بخلاف المرتدِّ والحربيٍّ
(4)
.
وظاهر كلام القاضي: أنَّه يضمنه بدية حرٍّ.
وأمَّا على قول أبي بكر: (إنَّ الضَّمان بالقيمة)؛ فلا إشكال في عدم ضمانه، ولهذا خرَّجه صاحب «الكافي» على الوجهين في الاعتبار بحال
(1)
ينظر: مسائل ابن منصور (5/ 2393).
(2)
كتب على هامش (ن): (اعتباراً بحال السِّراية).
(3)
كتب على هامش (ن): (أي: أم لا يضمنه اعتباراً بحال الجناية).
(4)
كتب على هامش (ن): (فإنَّهما لا يضمنان بحال).
الجناية أو السِّراية.
وأمَّا القسم الرَّابع؛ فله أمثلة:
منها: لو جرح مسلماً أو قطع يده عمداً، فارتدَّ ثمَّ مات؛ فهل يجب القود في طرفه أم لا؟ على وجهين، المرجَّح منهما عدمه؛ لأنَّ الجراحة صارت نفساً لا قود فيها بالاتِّفاق.
وفي «التَّرغيب» : أصل الوجهين الخلاف فيما إذا قطع يده عمداً، فسرت إلى نفسه؛ هل يقتصُّ في الطَّرف ثمَّ في النَّفس، أم في النَّفس فحسب؟
وعلى وجه ثبوت القود؛ هل يستوفيه الإمام أو وليُّه المسلم؟ على وجهين، والمحكي عن أبي بكر أنَّه يستوفيه الوليُّ.
قال في «التَّرغيب» : أصلهما أنَّ ماله هل هو فيء، أو لورثته وهو ظاهر كلام الآمديِّ؟ قال في «التَّرغيب»
(1)
: وعلى القول بأنَّ الوارث يستوفيه لو عفا على مال؛ لم يكن له المال؛ لامتناع إرثه
(2)
.
وفي «المحرَّر» : الوجهان على قولنا: ماله فيء.
وأمَّا ضمان طرفه؛ ففيه وجهان:
أحدهما: لا ضمان أيضاً؛ لأنَّ الجناية صارت نفساً مهدرة.
(1)
قوله: (في التَّرغيب) سقط من (أ).
(2)
كتب على هامش (ن): (حيث جعل الاستيفاء إلى الوارث؛ لكونه وارثاً، فكيف يُعلَّل عدم كون المال له بامتناع إرثه).
والثَّاني: يضمن؛ لثبوت الضمان في
(1)
الطَّرَف قبل الرِّدَّة.
ثمَّ هل يضمن بأقلِّ الأمرين من دية النَّفس أو الطَّرَف، أو بدية الطَّرَف مطلقاً؟ على وجهين، المرجَّح منهما الأوَّل، ولم يذكر في «المحرَّر» سواه.
ومنها: لو جرح صيداً في الحرم، فخرج إلى الحلِّ فمات؛ لزمه كمال ضمانه، ذكره القاضي وأبو الخطَّاب في «خلافيهما» ؛ تغليباً لضمان الصَّيد، حيث كان له حالان يضمن في أحدهما دون الآخر؛ كالمتولِّد بين مأكول وغيره.
ويتوجَّه: أن يضمن أرش جرحه خاصَّة من المسألة الَّتي قبلها.
(1)
قوله: (الضَّمان في) هو في (ب) وباقي النسخ: ضمان.
قاعدة [129]
إذا تغيَّر حال المرميِّ أو الرَّامي بين الرَّمي والإصابة
؛ فهل الاعتبار بحالة الإصابة، أم بحالة الرَّميِ، أم يفرَّق بين القود والضَّمان، أم بين أن يكون الرَّمي مباحاً أو محظوراً؟ فيه للأصحاب أوجه.
ويتفرَّع على ذلك مسائل:
منها: لو رمى مسلم ذميًّا، أو حرٌّ عبداً، فلم يقع بهما السَّهم حتَّى أسلم الذِّميُّ، وعتق العبد، ثمَّ ماتا؛ فهل يجب القود أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: لا يجب، وهو قول الخرقيِّ وابن حامد، وصحَّحه القاضي؛ لفقد التَّكافؤ حين الجناية، وهو حالة الإرسال؛ فهو كما لو رمى إلى مرتدٍّ ثمَّ أسلم
(1)
قبل الإصابة.
والثَّاني: يجب، وهو قول أبي بكر، وأخذه ممَّا روى الحسن بن محمَّد بن الحارث
(2)
عن أحمد في رجل أرسل سهماً على زيد،
(1)
قوله: (ثمَّ أسلم) هو في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): فأسلم.
(2)
هو الحسن بن محمد بن الحارث السجستاني، نقل عن الإمام أحمد أشياء. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 139.
فأصاب عمراً؛ قال: (هو عمد، عليه القود)
(1)
، فاعتبر الرَّمي المحظور إذا أصاب به معصوماً؛ وإن كان غير المقصود.
وفرَّق أبو بكر بين رمي المرتدِّ والذِّميِّ: بأنَّ رمي المرتدِّ مباح.
وردَّه القاضي بأنَّ رميه إلى الإمام لا إلى آحاد النَّاس، فهو غير مباح لآحادهم
(2)
.
وأمَّا النَّص المذكور؛ فلم يُجِب عنه القاضي
(3)
، ويمكن الجواب عنه: بأنَّه قصد هناك مكافئاً وأصاب نظيره، وهنا
(4)
لم يقصد مكافئاً.
وقد خرَّج صاحب «الكافي» وجوب القصاص في مسألة النَّصِّ
(5)
على قول أبي بكر
(6)
، وقد تبيَّن أنَّها أصله
(7)
.
(1)
ينظر: الروايتين والوجهين 2/ 257.
(2)
كتب على هامش (ن): (فعلى تعليل القاضي: لو رماه الإمام أو من أذن له؛ توجَّه قول أبي بكر).
(3)
بل قد أجاب عنه القاضي في الروايتين والوجهين (2/ 257)، فقال رحمه الله:(وما ذكره أحمد في رواية الحسن بن محمد لا تشبه مسألتنا؛ لأن تلك الرمية وجد القصد فيها، وهي مما توجب القود؛ لأن الإصابة لو حصلت في زيد لأوجبت القود، فلهذا إذا أصابت عمراً تعلق بها القود اعتباراً بحال الرمية، كما لو أرسل كلبه على صيد فأصاب غيره؛ حلَّ أكله؛ لأن هذا الإرسال في الجملة مما تتعلق به الإباحة، ولم يعتبر التعين في رمي الآدمي، وتبين صحة هذا أن الإرسال في القصد معتبر، كما هو معتبر في الرمية، بدليل أنه لو استرسل كلبه فصاد وقتل؛ لم يبح؛ لعدم القصد، وإذا كان كذلك: فالقصاص وجب ههنا؛ لأن الرمية مما توجب القود، وليس كذلك في رمي المسلم للذمي؛ لأن هذه الرمية لا توجب قوداً على المسلم بحال، فلهذا فرقنا بينهما).
(4)
كتب على هامش (ن): ("وهنا"؛ أي: في مسألة رمي الذِّميِّ والعبد والمرتد).
(5)
كتب على هامش (ن): (وهي مسألة رميه زيداً فيصيب عمراً).
(6)
كتب على هامش (ن): (أي: في رميه ذميًّا فيصيبه وقد أسلم).
(7)
كتب على هامش (ن): (قوله: "أنَّه أصله"؛ أي: مسألة النَّصِّ أصل قول أبي بكر في مسألة رمي الذِّميِّ والعبد).
وأمَّا صاحب «المحرَّر» فجعله
(1)
خطأ بغير خلاف؛ لأنَّه أصاب من لم يقصده، فأشبه ما إذا قصد صيداً.
وهذا ضعيف؛ لأنَّه قصد معصوماً، فأصاب نظيره، بخلاف من قصد صيداً
(2)
.
ولهذا لو قصد صيداً معيَّناً فأصاب غيره؛ حلَّ، بخلاف ما إذا رمى هدفاً يعلمه فأصاب صيداً؛ فإنَّه لا يحلُّ.
أمَّا لو ظنَّ الهدف صيداً فأصاب صيداً؛ فوجهان.
وقد يتخرَّج
(3)
ههنا مثلهما لو رمى هدفاً يظنُّه آدميًّا معصوماً، فأصاب آدميًّا معصوماً غيره
(4)
؛ لأنَّ أصل الرَّمي كان محظوراً.
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: جعل رمي الذِّميِّ إذا أسلم قبل وقوع السَّهم).
(2)
كتب على هامش (ن): (أي: فأصاب إنسانًا).
(3)
في (أ): يخرَّج.
(4)
قوله: (غيره) سقط من (ب).
فهذا الكلام في القود.
وأمَّا الضَّمان؛ فيضمنه بدية حرٍّ
(1)
، ذكره الخرقيُّ والقاضي والأكثرون، ولم يحكوا فيه خلافاً؛ حتَّى نقل صاحب «التَّرغيب» اتِّفاق الأصحاب على ذلك؛ اعتباراً بحالة الإصابة، فإنَّه إنَّما أصاب حرًّا مسلماً، ويكون دِيَة المعتَق لورثته دون السِّيَّد، ذكره القاضي.
ومنها: لو رمى إلى مرتدٍّ أو حربيٍّ فأسلما، ثمَّ وصل إليهما السَّهم فقتلهما؛ فلا قود بغير خلاف؛ لأنَّ دمهما حال الرَّمي كان مهدراً.
وهل يجب الضَّمان؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: وجوبه فيهما، قاله القاضي في «خلافه» ، والآمديُّ، وأبو الخطَّاب في موضع من «الهداية» ، وعزاه غير واحد إلى الخرقيِّ؛ اعتباراً بحالة الإصابة، وهما حينئذٍ مسلمان معصومان، ولا أثر لانتفاء العصمة حال السَّبب؛ كما لو حفر بئراً لهما فوقعا فيها بعد إسلامهما؛ فإنَّه يضمنهما بغير خلاف، ذكره القاضي وغيره.
قال القاضي: ولا نسلِّم أنَّ رمي الحربيِّ والمرتدِّ مباح
(2)
مطلقاً، بل هو مراعًى، فإن أسلم قبل الوقوع؛ تبيَّنا أنَّه لم يكن مباحاً.
والثَّاني: لا ضمان فيهما، وهو أشهر، وحكاه القاضي في روايتيه عن أبي بكر في المرتدِّ
(3)
، وقال: لا خلاف فيه في المذهب، لأنَّ
(1)
كتب على هامش (ن): (أي: ومسلم).
(2)
سقط من (ب) بمقدار لوحة.
(3)
قوله: (المرتد) سقط من (أ).
رميهما كان مأموراً به، وقد حصل على وجه لا يمكن تلافيه؛ فأشبه ما إذا جرحهما ثمَّ أسلما.
والثَّالث: يُضمَن المرتدُّ دون الحربيِّ، وأصل هذا الوجه طريقة القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل، وأبي الخطَّاب في موضع من «الهداية»: أنَّه لا يُضمَن الحربيُّ بغير خلاف، وفي المرتدِّ وجهان.
والفرق: أنَّ المرتدَّ قَتْله إلى الإمام؛ فالرَّامي إليه متعدٍّ، فهو كالرَّامي إلى الذِّميِّ، بخلاف الحربيِّ؛ فإنَّ لكلِّ أحد قتله، فرميه ليس بعدوان.
أمَّا عكسه، وهو لو رمى إلى معصوم، فأصابه السَّهم وهو مهدر، كمسلم ارتدَّ، أو ذميٍّ نقض العهد بين الرَّمي والإصابة؛ فلا ضمان، بغير خلاف أعلمه بين الأصحاب؛ لأنَّ الإصابة لم تصادف معصوماً، فهو كما لو رمى معصوماً، فأصابه السَّهم بعد موته.
وكذلك لو رمى عبداً قيمته عشرون ديناراً، فأصابه السَّهم وقيمته عشرة؛ فإنَّه يضمنه بقيمته
(1)
وقت الإصابة لا وقت الرَّمي، بغير خلاف، وذكره القاضي وغيره.
ومنها: لو رمى الذِّميُّ سهماً إلى صيد فأصاب آدميًّا، وقد أسلم الرَّامي؛ فقال الآمديُّ: يجب ضمانه في ماله؛ لأنَّه لم يكن مسلماً حال الرَّمي ليعقله
(2)
عاقلته المسلمون، ولا يجب على عاقلته من أهل الذِّمَّة؛ لأنَّه حين الإصابة كان مسلماً، وبذلك جزم صاحب «المحرَّر» و «الكافي» .
(1)
قوله: (بقيمته) سقط من (و).
(2)
في (هـ) و (و) و (ن): لتعقله.
وكذلك حكم ما إذا رمى ابن معتقه، فلم يصب حتَّى انجرَّ ولاؤه إلى موالي أبيه.
ولو رمى مسلم سهماً، ثمَّ ارتدَّ، ثمَّ أصاب سهمه فقتل؛ فهل تجب الدِّية في ماله اعتباراً بحال الإصابة، أم على عاقلته اعتباراً بحال الرَّمي؟ على وجهين ذكرهما صاحب «المستوعب» .
ويخرَّج منهما في المسألتين الأوَّليَيْن وجهان أيضاً:
أحدهما: أنَّ الضَّمان على أهل الذِّمَّة وموالي الأمِّ.
والثَّاني: أنَّه على المسلمين وموالي الأب.
ومنها: لو رمى الحلال إلى صيد، ثمَّ أحرم قبل أن يصيبه؛ ضمنه، ولو رمى المحرم إلى صيد ثمَّ حلَّ قبل الإصابة؛ لم يضمنه؛ اعتباراً بحال الإصابة فيهما، ذكره القاضي في «خلافه» في الجنايات، قال:(ويجيء على قول أحمد فيمن رمى طيراً على غصن في الحلِّ أصله في الحرم؛ أن يضمن هنا في الموضعين؛ تغليباً للضَّمان) انتهى.
ويتخرَّج عدم الضَّمان فيما إذا رمى وهو محلٌّ، ثمَّ أحرم؛ من عدم ضمان الحربيِّ إذا أسلم قبل الإصابة؛ اعتباراً بإباحة الرَّمي، إلَّا أن يفرَّق: بأنَّ قصد الإحرام عقيب
(1)
الرَّمي تسبَّب إلى الجناية على الصَّيد فيه، ولا سيَّما إن قصد الرَّمي قبيل الإحرام لذلك.
ومنها: لو رمى الحلال من الحلِّ صيداً في الحرم فقتله؛ فعليه ضمانه على المنصوص، قال أحمد في رواية ابن منصور في رجل رمى
(1)
في (ب): عقب.
صيداً في الحلِّ، فأصابه في الحرم؛ قال: عليه جزاؤه
(1)
.
وقال أيضاً في روايته، وذكر له قول سفيان: لو رمى شيئاً في الحلِّ، فدخلت رميته في الحرم
(2)
فأصابت شيئاً؛ ضمن؛ لأنَّ يده الَّتي جنت، قال أحمد: (ما أحسن ما قال (!
(3)
.
وكذلك نصَّ أحمد في رواية ابن منصور: في شجرة في الحلِّ غصنها في الحرم عليه طير: لا يرمى
(4)
، ولم يفصل بين رميه من الحلِّ والحرم.
وبهذا جزم ابن أبي موسى والقاضي والأكثرون، ولم يذكر القاضي في «خلافه» سواه؛ لأنَّه صيد معصوم بمحلِّه؛ فلا يباح قتله بكلِّ حال، وفيه الضَّمان.
وذكر القاضي في «المجرَّد» ، وأبو الخطَّاب، وجماعة، رواية أخرى: أنَّه لا يضمنه؛ اعتباراً بحال الرَّامي ومحلِّه.
وهو ضعيف، ولا يثبت عن أحمد، وإنَّما أخذه القاضي من رواية ابن منصور في إباحة الاصطياد بالكلب وإرساله من الحرم إلى الحلِّ
(5)
؛ قال: (فظاهر هذا: أنَّه متى كان أحدهما في الحلِّ والآخر في
(1)
ينظر: مسائل ابن منصور (5/ 2323).
(2)
زاد في (د): (قال: عليه جزاؤه، وقال أيضاً في روايته).
(3)
ينظر: مسائل ابن منصور (5/ 2389).
(4)
ينظر: مسائل ابن منصور (5/ 2390).
(5)
جاء في مسائل ابن منصور (5/ 2323): قلت: رجل أرسل كلبه في الحرم، فصاد في الحل؟ قال:(ولا على هذا شيء).
الحرم؛ فلا ضمان).
ولا يصحُّ؛ لوجهين:
أحدهما: أنَّ النَّصَّ في الكلب، والكلب له فعل اختياريٌّ، فإذا أرسله في الحرم على صيد في الحلِّ؛ فهو بمنزلة من وكَّل عبده في الحرم في شراء صيد من الحلِّ وذبحه فيه.
وهذا بخلاف ما إذا أرسل سهمه؛ لأنَّه منسوب إلى فعله.
ولهذا فرَّق أحمد في رواية ابن منصور بين أن يرسل سهمه من الحلِّ إلى صيد في الحلِّ، فيدخل الحرم، فيقتل فيه، فيضمنه، وبين أن يرسل الكلب، فلا يضمن؛ لأنَّ دخول الكلب في الحرم باختياره ودخول السَّهم بفعل الرَّامي، ولهذا لو أصاب سهمه هذا آدميًّا؛ لضمنه، ولو أصاب الكلب آدميًّا، لم يضمنه.
وإلى هذا التَّفريق أشار ابن أبي موسى؛ حيث ضمَّن في رمي السَّهم في المسألتين، ولم يضمِّن في صيد الكلب إذا أرسله في الحلِّ فصاد في الحرم
(1)
، إلَّا أن يرسله بقرب الحرم، وأمَّا إن أرسله في الحرم فصاد في الحلِّ؛ فحكى فيه روايتين، قال:(والأظهر عنه: أن لا جزاء فيه)، ولكنَّ القاضي إنَّما صرَّح بالخلاف في الكلب، وأبو الخطَّاب هو الَّذي طرد الخلاف في السَّهم.
والوجه الثَّاني: أنَّ هذا النَّصَّ إنَّما يدلُّ على انتفاء الضَّمان فيما إذا أرسل سهمه من الحرم على صيد في الحلِّ؛ لأنَّ صيد الحلِّ غير
(1)
إلى هنا ينتهي السقط من (ب).
معصوم؛ فلا يصحُّ إلحاق صيد الحرم به.
وقد فرَّق طوائف من الأصحاب بين الصُّورتين:
فمنهم من جزم بنفي الضَّمان فيما إذا أرسل سهمه
(1)
من الحرم إلى الحلِّ، وبالضَّمان في العكس، من غير خلاف حكاه فيهما، وهو الشِّيرازيُّ في «المبهج» .
ومنهم من حكى الخلاف فيهما وصحَّح الفرق، وهو صاحب «المغني» .
ومنهم من حكى الخلاف فيما إذا أرسل سهمه من الحرم إلى الحلِّ، ولم يحكِ الخلاف في ضمان عكسه، وهو القاضي في «خلافه» ، وأخذ نفي الضَّمان في الصُّورة الأولى من رواية ابن منصور المذكورة، والضَّمان من رواية ابن منصور أيضاً عن أحمد فيمن قتل صيداً على غصن في الحلِّ أصله في الحرم؛ أنَّه يضمنه.
وفي أخذ الضَّمان من هذا نظر؛ فإنَّ الغصن تابع لمحلٍّ معصوم، وهو أصل الشَّجرة الَّذي في الحرم؛ فكان حكمه حكم الحرم، بخلاف الحلِّ، ولهذا لم يفرِّق أحمد بين قتله من الحلِّ أو من الحرم؛ فدلَّ على أنَّ حكم الغصن عنده حكم الحرم.
ونقل ابن منصور عنه أيضاً وذكر له قول سفيان في شجرة أصلها في الحلِّ وأغصانها في الحرم وعليها طير، فرماه إنسان، فصرعه؛ قال: ما كان في الحلِّ؛ فليُرمَ، وما كان في الحرم؛ فلا يُرمَ، قال أحمد: (ما
(1)
قوله: (سهمه): سقط من (أ).
أحسن ما قال!)
(1)
.
فجعل القاضي هذه رواية ثانية مخالفة للأولى، وحكى في الصَّيد الَّذي على غصن في الحلِّ أصله في الحرم روايتين.
وليس كذلك، فإنَّ أحمد ضمَّن الصَّيد في الأولى؛ إلحاقاً للفرع بأصله في الحرمة، ولم يضمِّن في الثَّانية؛ إلحاقاً للفرع بأصله في عدم الحرمة، وإنَّما ضمَّن ما كان على الغصن الَّذي في الحرم؛ لأنَّه في هواء الحرم؛ فهو معصوم بمحلِّه، وهو الحرم.
وجعل ابن أبي موسى الغصن تابعاً لقراره من الأرض دون أصله، وهو مخالف لنصِّ أحمد؛ لأنَّه في هواء الحرم
(2)
.
ومنها: هل الاعتبار في حلِّ الصَّيد بأهليَّة الرَّامي وسائر الشُّروط، حال الرَّميِ أو الإصابة؟ فيه وجهان:
أحدهما: الاعتبار بحال الإصابة، وبه جزم القاضي في «خلافه» في كتاب الجنايات، وأبو الخطَّاب في «رؤوس مسائله» .
فلو رمى سهماً وهو محرم أو مرتدٌّ أو مجوسيٌّ، ثمَّ وقع السَّهم بالصَّيد وقد حلَّ أو أسلم؛ حلَّ أكله، ولو كان بالعكس؛ لم يحلَّ، وقد سبق الخلاف في المحرم.
والثَّاني: الاعتبار بحال الرَّمي، قاله القاضي في «خلافه» في كتاب
(1)
ينظر: مسائل ابن منصور (5/ 2391).
(2)
قوله: (لأنَّه في هواء الحرم) سقط من (ج) و (هـ). وقوله: (وجعل ابن أبي موسى الغصن) إلى هنا سقط من (أ) و (د) و (و).
الصَّيد، وأخذه من نصِّ أحمد في رواية يوسف بن موسى
(1)
في رجل رمى بنشَّاب وسمَّى، فمات الرَّامي قبل أن يصيب: فلا بأس بأكله إذا رماه بما يجرح.
وفرَّع عليه ما إذا رمياه جميعاً، فأصابه سهم أحدهما أوَّلاً فأثخنه، ثمَّ أصابه سهم الآخر فقتله؛ أنَّه يجوز أكله؛ لأنَّ الثَّاني أرسل سهمه قبل امتناعه والقدرة عليه؛ قال:(وقد أومأ إليه أحمد في رواية محمَّد بن الحكم في رجلين رميا صيداً فأصاباه جميعاً، فإن كانا قد ذكَّياه جميعاً؛ أكلاه، قال القاضي: معناه إذا كانا رمياه جميعاً بما له حدٌّ، ولم يفرِّق بين أن يتقدَّم إصابة أحدهما على الآخر أو يتأخَّر) انتهى.
وممَّا يتفرَّع على ذلك: التَّسمية؛ فإنَّها تشترط عند الإرسال، ولو سمَّى بعد إرساله؛ فإن انزجر بالتَّسمية وزاد جريه؛ كفى، وإلَّا فلا، نصَّ عليه في رواية الميمونيِّ.
وقال القاضي في كتاب الجنايات: (إنَّما اعتبرت التَّسمية وقت الإرسال؛ لمشقَّة معرفة وقت الإصابة)، وهذا يشعر بأنَّه لو سمَّى عند الإصابة مع العلم بها؛ لأجزأ.
(1)
روى عن الإمام أحمد ممن اسمه يوسف بن موسى، اثنان:
الأول: يوسف بن موسى العطار الحربي، روى عن أحمد أشياء، وحدث عنه أبو بكر الخلال، وأثنى عليه ثناء حسنًا. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 420.
الثاني: يوسف بن موسى بن راشد أبو يعقوب القطان الكوفي، نقل عن أحمد أشياء، وتوفي سنة 253 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 421.
قاعدة [130]
المسكن والخادم والمركب المحتاج إليه ليس بمال فاضل يمنع أخذ الزَّكوات
، ولا يجب به الحجُّ والكفَّارات، ولا يوفَّى منه الدُّيون والنَّفقات.
نصَّ على ذلك أحمد في مسائل:
منها: الزَّكاة، قال أبو داود: سئل أحمد عن رجل له دار، يَقْبَل من الزَّكاة؟ قال: نعم، قلت: هي دار واسعة، قال: أرجو ألَّا يكون به بأس، قيل له: فإن كان له خادم؟ قال: أرجو، قيل: فرس، قال: إن كان يغزو عليه في سبيل الله فأرجو ألَّا
(1)
يكون به بأس
(2)
.
وقال جعفر بن محمَّد: سئل أبو عبد الله عن رجل عنده جارية تساوي مائة دينار يحتاج إليها للخدمة، يأخذ من الزَّكاة؟ قال: نعم
(3)
.
وسئل عن الدَّار؛ قال: إذا لم يكن فضل كثير ما يحتاج إليه؛ يعطى.
وقال في رواية ابن الحكم: يعطى من الزَّكاة صاحب المسكن؛
(1)
في (أ): أن.
(2)
ينظر: مسائل أبي داود السجستاني ص 118.
(3)
ينظر: المستوعب (1/ 396).
وإن
(1)
كان له مسكن يفضل عنه
(2)
.
ويتفرَّع على هذا: أنَّ العرض الَّذي لا يباع على المفلس في دَينه إذا كان يفي
(3)
بدين صاحبه وبيده نصاب؛ فإنَّه لا يجعل الدَّين في مقابلته حتَّى يزكِّي النِّصاب بغير خلاف؛ لأنَّه لا يجب صرفه إلى جهة الدَّين ووفاؤه منه، وأمَّا ما يباع على المفلس؛ فهل يجعل الدَّين في مقابلته ويزكِّي النِّصاب؟ على روايتين.
ومنها: الحجُّ، قال أحمد في رواية الميمونيِّ: إذا كان المسكن والمسكنين والخادم، أو الشَّيء الَّذي يعود به على عياله؛ فلا يباع إذا كان كفاية لأهله، وقد يكون المنازل يكريها، إنَّما هي قوته وقوت عياله، فإذا خرج عن كفايته ومؤنته ومؤنة عياله؛ باع، والضَّيعة مثل ذلك، إذا كان فضلاً عن المؤنة، باع.
وقال في رواية ابن الحكم: إذا كان لرجل أرض؛ فلا أرى أن يبيع ويحجَّ، ولا يجب عليه عندي إلَّا أن يشاء.
قال أصحابنا: لا فرق بين أن يكون المسكن والخادم في ملكه، أو بيده نقد يريد شراءهما به في هذا الباب.
ومنها: المفلس، ولأحمد فيه نصوص كثيرة: أنَّه لا يباع المسكن إلَّا أن يكون فيه فضل؛ فيباع الفضل، ويترك له بقدر الحاجة منه، نصَّ
(1)
في (ب): فإن.
(2)
ينظر: المستوعب (1/ 396).
(3)
في (أ): يفيء.
على ذلك في رواية أبي الحارث وأبي طالب.
وأمَّا الخادم؛ فلا يباع عليه إذا كان محتاجاً إليه لزِمَن أو كبر أو حاجةٍ غيرهما، نصَّ عليه في رواية عبد الله وأبي طالب وغيرهما
(1)
.
وقال في رواية إسماعيل بن سعيد: إذا كان مسكناً واسعاً نفيساً أو خادماً نفيساً؛ يُشترى له ما يقيمه، ويجعل سائره للغرماء. وكذلك نقل عنه موسى بن سعيد.
ولا فرق بين أن يكون المسكن والخادم في ملكه، أو يحتاج إليهما؛ فيترك له ثمنهما على ظاهر كلام الأصحاب؛ فإنَّهم قالوا: لو كان مسكنه وثيابه عين مال رجل؛ رجع بها، وترك له بدلها من بقيَّة المال يشتري له منه إن لم يكن فيه من جنسها؛ لأنَّ حقَّ الغريم متعلِّق
(2)
بعين ماله، بخلاف المفلس؛ فإنَّ حاجته تندفع بغيرها.
فأمَّا
(3)
إن لم يكن للمفلس سواها، وهي عين مال رجل، وكان الشِّراء قبل الإفلاس؛ لم تؤخذ منه.
وإن كان بعده؛ ففي «الكافي» : يحتمل أن يؤخذ منه؛ لئلَّا يؤدِّي إلى الحيلة على أخذ أموال النَّاس
(4)
.
(1)
ينظر: مسائل عبد الله (ص 296).
(2)
في (ب) و (ج) و (هـ) و (و): يتعلَّق.
(3)
في (ب) و (ج) و (هـ) و (و): أمَّا.
(4)
زاد في (ب): (والمراد: أنَّه إذا استدان المعسر ما اشترى به هذه الأعيان؛ أنَّها تؤخذ منه)، وقد ضرب عليها في (أ)، وسقطت من (ج) و (د) و (هـ). ومكانها في (و): إذا استدان.
ومنها: الشَّريك في عبد إذا أعتق حصَّته وليس له سوى دار وخادم؛ فهو معسر، لا يعتق عليه سوى حصَّته، ولا يباع ذلك في قيمة حصَّة شريكه، قال ابن منصور: قلت لأحمد: من أعتق شقصاً في عبد ضمن إن كان له مال؟ قال: عتق كلُّه في ماله إن كان له مال، قلت: كم قدر المال؟ قال: لا يباع فيه دار ولا رباع، ولم يقم لي على شيء معلوم
(1)
.
قال القاضي: معناه: لا يباع ما لا غنى له عن سكناه؛ كالمفلس.
ومنها: التَّكفير بالمال، لا يباع فيه المسكن ولا الخادم، ذكره القاضي والأصحاب، وقالوا: يباع فيه الفاضل من ذلك حتَّى لو كان له رقبة نفيسة يمكن أن يُشتَرى بثمنها رقبتان، فيستغني بخدمة أحدهما وتعتق الأخرى؛ لزمه ذلك، وهكذا الدَّار والملابس.
وأمَّا إن وجب عليه التَّكفير وله خادم لا يحتاج إليه، ثمَّ احتاج إليه قبل التَّكفير؛ فمن الأصحاب من جزم هنا بلزوم العتق؛ لأنَّه بمثابة من كان موسراً حال الحنث، ثمَّ أعسر قبل التَّكفير، فإنَّ العتق يستقرُّ في ذمَّته.
ومنها: نفقة الأقارب، قال أبو طالب: قيل لأحمد: فإن كان له دار يبيعها، وينفق على أبيه؟ قال: لا بدَّ له من مسكن، إن كان له فضلٌ عن مسكنه، فضلٌ عن نفقته على
(2)
عياله؛ فلينفق عليهم، وإن لم يكن له
(1)
ينظر: مسائل ابن منصور (8/ 4414).
(2)
قوله: (نفقته على): هو في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): نفقة.
فضل ولا سعة؛ فلا ينفق عليهم.
وصرَّح صاحب «التَّرغيب» بأنَّ نفقة القريب لا يباع فيها إلَّا ما يباع على المفلس في دَينه.
وهكذا ينبغي أن يكون حكم الجزية، والخراج، والعاقلة.
وذكر الآمديُّ أنَّ من وجبت عليه نفقة قريبه، فغيَّب ماله وامتنع منها، ووجد له الحاكم عقاراً؛ فله بيعه، والنَّفقة منه على أقاربه.
وكذا ذكر صاحب «المغني» في نفقة الزَّوجة والأولاد.
ولعلَّ المراد بذلك: العقار الَّذي لا يحتاج إليه للسُّكنى، أو أنَّ هذا يختصُّ بالممتنع من النَّفقة مع قدرته عليها؛ للضَّرورة، حيث لم يقدر له على غير عقاره
(1)
، والله أعلم
(2)
.
(1)
في (ب): عقار.
(2)
قوله: (والله أعلم) سقط من (ب) و (و).
قاعدة [131]
القدرة على اكتساب المال بالبضع ليس بغنًى معتبر
.
صرَّح به القاضي في «خلافه» ، وفرَّع عليه مسائل:
منها: إذا أفلست
(1)
المرأة وهي ممَّن يُرغب في نكاحها؛ لم تجبر على النِّكاح لأخذ المهر بغير خلاف.
ومنها: أنَّه لا يجب عليها نفقة الأقارب بقدرتها على النِّكاح وتحصيل المهر.
ومنها: أنَّه لا تمنع من أخذ الزَّكاة بذلك أيضاً.
ومنها: لو كان للمفلس أمُّ ولد؛ لم يجبر على إنكاحها وأخذ المهر
(2)
؛ وإن كان يجبر على إجارتها وأخذ أجرتها.
(1)
في (ب) و (ج) و (هـ): فلست.
(2)
في (ب) و (ج) و (د) و (و): مهرها. وفي (هـ): من مهرها.
قاعدة [132]
القدرة على اكتساب المال بالصِّناعات غنًى بالنِّسبة إلى نففة النَّفس
، ومن يلزم نفقته من زوجة وخادم.
وهل هو غنًى فاضل عن ذلك؟ على روايتين.
ويتفرَّع على ذلك مسائل:
منها: القويُّ المكتسب لا يباح له أخذ الزَّكاة بجهة الفقر؛ فإنَّه غنيٌّ بالاكتساب.
وهل له الأخذ للغرم إذا كان عليه دين؟ على وجهين:
أحدهما: له ذلك، قاله القاضي في «خلافه» ، وابن عقيل في «عمده» في الزَّكاة، وكذلك ذكراه في «المجرَّد» ، و «الفصول» في باب الكناية.
والثَّاني: لا يجوز، وبه جزم الشَّيخ مجد الدِّين في «شرح الهداية» .
وهذا الخلاف راجع إلى الخلاف في إجباره على الكسب لوفاء دينه؛ كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
والأوَّل ظاهر كلام أحمد؛ لأنَّه أباح السُّؤال للمكاتب، وقال: هو مغرم، ويباح له الأخذ من الزَّكاة مع قوَّته واكتسابه مع أنَّ دينه لا يجبر على الكسب لوفائه على المذهب، فمن عليه دين يجبر على الكسب
لوفائه أولى بالأخذ.
ومنها: وجوب الحجِّ على القويِّ المكتسب، فإن كان بعيداً عن مكَّة؛ فالمذهب انتفاء الوجوب، وإن كان قريباً؛ فوجهان.
وقال الشَّيخ مجد الدِّين: يتوجَّه على أصلنا في البعيد أن يجب عليه الحجُّ إذا كان قادراً على التَّكسُّب في طريقه، كما نجبره على الكسب لوفاء دينه.
ولكن يمكن الفرق: بأنَّ حقوق الله مبنيَّة على المسامحة، بخلاف حقوق الآدميِّين، ولهذا لا يجب عليه التَّكسُّب لتحصيل مال يحجُّ به ولا يعتق منه في الكفَّارة.
ومنها: وفاء الدُّيون، وفي إجبار المفلس على الكسب للوفاء روايتان مشهورتان.
فأمَّا المكاتب؛ فلا يجبر على الكسب لوفاء دينه على المذهب المشهور؛ لأنَّه دين ضعيف.
وخرَّج ابن عقيل وجهاً: بالوجوب؛ كسائر الدُّيون.
ومنها: أنَّ القدرة على الكسب بالحرفة تمنع وجوب نفقته على أقاربه، صرَّح به القاضي في «خلافه» ، وكذا ذكر صاحب «الكافي» وغيره.
وأمَّا إن لم يكن له حرفة وهو صحيح؛ فهل تجب له النَّفقة؟
حكى أبو الخطَّاب روايتين، وخصَّهما القاضي بغير العمودين، وأوجب نفقة العمودين مطلقاً مع عدم الحرفة.
وفرَّق في زكاة الفطر من «المجرَّد» بين الأب وغيره؛ فأوجب النَّفقة للأب بكلِّ حال، وشرط في الابن وغيره الزَّمانة.
وأمَّا وجوب النَّفقة على أقاربه من الكسب؛ فصرَّح القاضي في «خلافه» وفي «المجرَّد» ، وابن عقيل في «مفرداته» ، وابن الزاغوني والأكثرون بالوجوب.
قال القاضي في «خلافه» : وظاهر كلام أحمد: لا فرق في ذلك بين الوالدين والأولاد وغيرهم من الأقارب.
وخرَّج صاحب «التَّرغيب» المسألة على روايتين من اشتراط انتفاء الحرفة للإنفاق، وهو ضعيف.
وأظهر منه: أن يخرَّج على الخلاف في إجبار المفلس على الكسب لوفاء دينه.
ومنها: أنَّ الفقير المكتسب؛ هل يتحمَّل العقل مع العاقلة؟ فيه روايتان.
ومنها: الجزية؛ هل تجب على الفقير المكتسب؟ على روايتين، أشهرهما: الوجوب.
قاعدة [133]
يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً
، في مسائل:
منها: شهادة النِّساء بالولادة يثبت بها النَّسب، ولا يثبت النَّسب بشهادتهنَّ به استقلالاً.
ومنها: شهادة النِّساء على إسقاط الجنين بالضَّربة توجب الغرَّة إن سقط ميِّتاً، والدِّية إن سقط حيًّا.
ومنها: شهادة امرأة على الرَّضاع تُقبل على المذهب، ويترتَّب على ذلك انفساخ النِّكاح.
ومنها: لو شهد واحد برؤية هلال رمضان، ثمَّ أكملوا العدَّة ولم يروا الهلال؛ فهل يفطرون أم لا؟ على وجهين:
أشهرهما: لا يفطرون؛ لئلَّا يؤدِّي إلى الفطر بقول واحد.
والثَّاني: بلى، ويثبت الفطر تبعاً للصَّوم.
ومن الأصحاب من قال: إن كان غيماً؛ أفطروا، وإلَّا فلا.
ومنها: لو أخبر واحد بغروب الشَّمس؛ جاز الفطر، ومن الأصحاب من اقتضى كلامه حكاية الاتِّفاق عليه؛ لأنَّ وقت الفطر تابع لوقت صلاة المغرب.
وله مأخذ آخر: وهو أنَّ الغروب عليه أمارات تورث ظنًّا بانفرادها،
فإذا انضمَّ إليها قول الثِّقة؛ قوي، بخلاف الشهادة برؤية هلال الفطر.
ومنها: صلاة التَّراويح ليلة الغيم تبعاً للصِّيام على أحد الوجهين.
وذكر القاضي احتمالاً بثبوت سائر الأحكام المعلَّقة بالشَّهر، من وقوع الطَّلاق المعلَّق به وحلول آجال الدُّيون، وهو ضعيف ههنا.
نعم، إذا شهد واحد
(1)
برؤية الهلال؛ ثبت
(2)
به الشَّهر وترتَّبت
(3)
عليه هذه الأحكام؛ وإن كانت لا تثبت بشهادة واحد ابتداء، صرَّح به القاضي وابن عقيل
(4)
في «عمد الأدلَّة» .
(5)
ومنها: لو حلف بالطَّلاق على حديثٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله، فرواه واحد يثبت الحديث به؛ وقع
(6)
الطَّلاق؛ وإن كان الطَّلاق لا يثبت بخبر واحد، ذكره ابن عقيل في «العمد» أيضاً.
(1)
في (أ): أحد.
(2)
في (أ) و (و): يثبت.
(3)
في (أ) و (و) و (ن): يترتَّب.
(4)
قوله: (القاضي وابن عقيل) هو في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): ابن عقيل.
(5)
كتب على هامش (ن): (قال في «الفروع»: جزم به صاحب «المحرَّر» في مسألة الغيم، وقال القاضي في مسألة الغيم مفرِّقاً بين الصَّوم وبين غيره: قد ثبت الصَّوم بما لا يثبت الطلاق والعتق وحِل الدِّين، وهو شهادة عدل، ويأتي: إذا علَّق طلاقها بالحمل فشهدت به امرأة، هل تطلق؟ انتهى، فدلَّ ذلك على خلافٍ في المسألة، وأن المقدم ما جزم به أبو البركات وابن عقيل، كما أن المقدم ثبوت الطلاق بشهادة امرأة بالحمل).
(6)
في (ب): ووقع.
ويتخرَّج: عدم وقوع الطَّلاق في المسألتين من المسألة الآتية.
ومنها: لو حلف بالطَّلاق أنَّه ما غصب شيئاً، ثمَّ ثبت عليه الغصب بشاهد ويمين، أو برجل وامرأتين؛ فهل يقع به الطَّلاق؟ على وجهين، وحكاهما القاضي في «خلافه» في كتاب القطع في السَّرقة، والآمديُّ روايتين.
وجزم القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل في «الفصول» ، وصاحب «المغني»: بعدم الوقوع.
واختار السَّامريُّ: الوقوع.
وقال صاحب المحرَّر في «تعليقه على الهداية» : عندي أنَّ قياس قول من عفا عن الجاهل والنَّاسي في الطَّلاق؛ ألَّا يحكم عليه به، ولو ثبت الغصب برجلين.
ومنها: لو علَّق الطَّلاق بالولادة، فشهد بها النِّساء حيث لم يقبل قول المرأة في ولادتها
(1)
؛ هل يقع الطَّلاق؟
المشهور الوقوع، وبه جزم القاضي في «خلافه» ، وتبعه الشَّريف أبو جعفر، وأبو المواهب العكبريُّ
(2)
، وأبو الخطَّاب، والأكثرون، ويشهد له نصُّ أحمد في رواية مهنَّى إذا قال لها: إذا حضت؛ فأنت
(1)
في (ب): ذلك. مكان قوله: (ولادتها).
(2)
هو الحسين بن محمد العكبري، أبو المواهب، أحد الفقهاء الأكابر، وله تصانيف في المذهب، قال ابن رجب: أظنه من أصحاب القاضي، أو أصحابه القدماء؛ ووقفت له على رؤوس المسائل. توفي 439 هـ. ذيل الطبقات 1/ 376.
وضرَّتك طالق، فشهد النِّساء بحيضها؛ يطلقان جميعاً.
وخرَّج صاحب «المحرَّر» فيه وجهاً آخر: أنَّه لا يقع الطَّلاق من المسألة الَّتي قبلها.
ومنها: لو ادَّعى المكاتب أداء آخر نجوم الكتابة، فأنكره السَّيِّد، فأتى المكاتب بشاهد وحلف، أو برجل وامرأتين على ما قال؛ فهل يعتق أم لا؟
قال الخرقيُّ: يعتق، ولم يحكِ صاحب «المغني» فيه خلافاً.
وحكى صاحب «التَّرغيب» فيه وجهين.
ومنها: إذا وقف وقفاً معلَّقاً بموته؛ فإنَّه يصحُّ على المنصوص في رواية الميمونيِّ، وذكره الخرقيُّ.
وقال القاضي: لا يصحُّ.
والأوَّل أصحُّ؛ لأنَّها وصيَّة، والوصايا تقبل التَّعليق.
ومنها: البراءة المعلَّقة بموت المبرِئ، تصحُّ أيضاً؛ لدخولها ضمناً في الوصيَّة، نصَّ عليه في رواية المروذيِّ
(1)
، وقاله القاضي والأصحاب.
وكذلك إبراء المجروح للجاني من دمه، أو تحليله لذمَّته
(2)
؛ يكون وصيَّة معلَّقة بموته، وهل هي وصيَّة للقاتل؟ على طريقين:
فعند القاضي: هي وصيَّة للقاتل؛ فتُخرَّج على الخلاف في الوصيَّة.
(1)
زاد في (أ) هنا: (تصحُّ أيضاً لدخولها ضمناً). وهي مكررة.
(2)
قوله: (لذمَّته) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن).
وعند أبي بكر: ليس الإبراء والعفو وصيَّة؛ لأنَّه إسقاط، لا تمليك، وقال الآمديُّ: هو المذهب، قال: وإنَّما يكون إبراء محضاً قبل الاندمال، فأمَّا
(1)
بعد الاندمال
(2)
؛ فعلى وجهين.
ومنها: إذا قال: إذا جاء رأس الشَّهر فأنت طالق بألف؛ فإنَّه يصحُّ، ذكره القاضي، وتدخل المعاوضة تبعاً للطَّلاق إذا قبلته؛ فإنَّه لا بدَّ من قبولها.
وكذلك لو قالت له: إن طلَّقتَني؛ فلك عليَّ ألف، فطلَّقها؛ بانت ولزمها الألف، قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: ذكر القاضي في «خلافه» ما يقتضي أنَّه لا يعلم فيه خلافاً.
وقاس الشَّيخ
(3)
عليه ما إذا قالت: إن طلَّقتني فأنت بريء من صداقي، فطلَّقها؛ أنَّه يبرأ من صداقها، ويقع الطَّلاق بائناً؛ لأنَّ تعليق الإبراء أقرب إلى الصِّحَّة من تعليق التَّمليك؛ لتردُّد الإبراء بين الإسقاط
(1)
في (أ): وأمَّا.
(2)
قوله: (بعد الاندمال) هو في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): بعده.
(3)
كتب على هامش (ن): (المتبادر منه إرادة صاحب المغني، وفي الفروع ما يمنعه، فإنه خص القول بذلك بشيخه، فقال: "وقولها: إن طلقتني فلك كذا، أو أنت بريء منه، كإن طلقتني فلك علي ألف، وأولى، وليس فيه النزاع في تعليق البراءة بشرط" انتهى، فيكون مراده بالشيخ: هو المذكور قبله فليعرف ذلك).
والتَّمليك، والتَّمليك يقع معلَّقاً في الجعالة والسَّبق؛ فههنا كذلك
(1)
(2)
.
ومنها: إذا قال من أسلم على أكثر من أربع زوجات: كلَّما أسلمت واحدة منكنَّ فهي طالق؛ فهل يصحُّ؟ على وجهين:
أحدهما: لا يصحُّ؛ لأنَّ الطَّلاق اختيار، والاختيار لا يتعلَّق بالشَّرط.
والثَّاني: يصحُّ؛ لأنَّ الطَّلاق يقبل التَّعليق، والاختيار يثبت تبعاً له وضمناً.
ومنها: إذا قال رجل لآخر: أعتق عبدك عنِّي وعليَّ ثمنه؛ فقال القاضي في «خلافه» : هو استدعاء للعتق، والملك يدخل تبعاً وضمناً؛ لضرورة وقوع العتق له، وصرَّح بأنَّه ملك قهريٌّ، حتَّى إنَّه يثبت للكافر
(1)
ينظر قريبٌ منه: مختصر الفتاوى المصرية (ص 442).
(2)
كتب على هامش (ن): (وذكر الحنفية مسألة يمكن جعلها من هذه القاعدة، وهي: إذا باع رجل جارية وولدها، ثم بعد البيع أقر أن ولدها منه؛ فإنه يثبت نسبه، وهل يبطل البيع؟ قالت الحنفية: يبطل البيع تبعًا لثبوت النسب، ولو انتقل الولد وأمه بالبيع عن المشتري إلى آخر ثم إلى ثالث؛ نُقضت البياعات كلها، ولو أعتقه المشتري؛ بطل عتقه؛ لأنه حر الأصل، بخلاف ما أعتق فإنه لا يبطل عتقها، إذ لو بطل عتقها عادت إلى الرق، والولد إذا بطل عتقه لا يعود إلى الرق بل يكون حرًّا، قالوا: وحكم موتها حكم عتقها، قالوا: وهذا الخلاف ما لو أقر البائع بأنه كان أعتقها قبل، فإن البيع لا يبطل بإقراره، وفرقوا بين العتق والاستيلاد: بأن الاستيلاد أقوى).
على المسلم إذا كان العبد المستدعَى عِتقه مسلماً، والمستدعي كافراً، مع أنَّه منع من شراء الكافر من يعتق عليه بالملك من المسلمين، حيث كان العقد موضوعاً فيه للملك دون العتق.
وكذلك -على قياس قوله- سرايةُ عتق الشَّريك، وأولى؛ لأنَّها إتلاف محض يحصل بغير اختيار أحد ولا قصده
(1)
.
ويتفرَّع على ذلك: إذا أعتق الكافر الموسر شِرْكاً له من عبد مسلم؛ فإنَّه يسري، ولا يخرَّج على الخلاف في شراء مسلم يعتق عليه بملكه، كما فعل أبو الخطَّاب وغيره.
ومنها: صلاة الحاجِّ عن غيره ركعتي الطَّواف تحصل ضمناً للحجِّ؛ وإن كانت الصَّلاة لا تقبل النِّيابة استقلالاً، وقد أشار الإمام أحمد إلى هذا في رواية الشَّالنجيِّ.
ومنها: أنَّ الوكيل ووصي اليتيم لهما أن يبتاعا بزيادة على ثمن المثل بما
(2)
يتغابن بمثلها عادة، ولا يجوز لهما هبة ذلك القدر ابتداء، ذكره القاضي وغيره.
ولكنَّهم جعلوا مأخذه: أنَّ المحاباة ليست ببذل صريح، وإنَّما فيها
(1)
كتب على هامش (ن): (وقد يلحق بذلك: ما إذا استولد الشَّريكان الأمة المشتركة، وقلنا: تصير أم ولد لهما، فأعتق أحدهما نصيبه وهو موسر؛ سرى إلى نصيب شريكه؛ لكون نقل الملك تبعاً لسراية العتق).
(2)
قوله: (ما) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و).
معنى البذل، وجعلُها من هذه القاعدة أولى.
ومنها: لو كان له أمتان، لكلٍّ منهما ولد، فقال:(أحدهما ولدي)، ومات، ولم يبيِّن ولا بيَّن وارثه، ولم يوجد قافة؛ أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة؛ فهو حرٌّ، وأمُّه معتقة بالاستيلاد إن كان أقرَّ أنَّه أحبلها في ملكه.
وهل يثبت نسب الولد ويرث أم لا؟ على وجهين:
أحدهما: أنَّه لا يثبت نسبه ولا يرث، وهو الَّذي ذكره القاضي في «المجرَّد» وابن عقيل والسَّامريُّ؛ لأنَّ القرعة لا مدخل لها في الأنساب.
(1)
والثَّاني: يثبت نسبه ويرث، وهو الَّذي ذكره القاضي في «خلافه» ، وصاحب «التَّلخيص» ، وذكر صاحب «المغني» أنَّه قياس المذهب؛ لأنَّه حرٌّ استندت حريَّته إلى الإقرار؛ فأشبه ما لو عيَّنه في إقراره
(2)
.
ومنها: لو طلَّق واحدة معيَّنة من نسائه، ثمَّ مات ولم يعلم عينها؛ أقرع بينهنَّ، وأُخرجت المطلَّقة بالقرعة، ولم يجب عليها عدَّة الوفاة، بل يحسب لها عدَّة الطَّلاق من حينه، وعلى البواقي عدَّة الوفاة في ظاهر كلام أحمد؛ لأنَّ الطَّلاق لمَّا ثبت بالقرعة تبعه لوازمه من العدَّة وغيرها.
(1)
زاد في (ج) و (هـ) و (ن): (قال القاضي: وهذان الوجهان مخرَّجان من الخلاف في دخول القرعة فيما إذا زوَّج الوليَّان؛ ولم يعلم السَّابق منهما)، وزاد في هامش (ن):(من هامش النسخة المعتمدة).
(2)
كتب على هامش (ن): (أي: كما لو عين أحد الولدين في إقراره بأنَّه ولده، ولم يُتهم بقوله: أحدهما ولدي).
وقال القاضي: يعتدُّ الكلُّ بأطول الأجلين، وستأتي المسألة فيما بعد إن شاء الله.
(1)
ومنها: لو قال الخنثى المشكل: أنا رجل، وقبلنا قوله في ذلك في النِّكاح؛ فهل يثبت في حقِّه سائر أحكام الرِّجال تبعاً لنكاحه، فيزول بذلك إشكاله، أم يقبل قوله في حقوق الله تعالى، وفيما عليه من حقوق الآدميِّين، دون ما له منها؛ لئلَّا يلزم قبول قوله في استحقاقه ميراث ذكر ودِيَتِه؟ فيه وجهان.
(1)
ينظر قاعدة [160]