المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌قاعدة [134] المنع أسهل من الرَّفع . ويتخرَّج على ذلك مسائل كثيرة جدًّا: منها: - قواعد ابن رجب - ط ركائز - جـ ٣

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

‌قاعدة [134]

المنع أسهل من الرَّفع

.

ويتخرَّج على ذلك مسائل كثيرة جدًّا:

منها: منع تخمُّر الخلِّ ابتداء، بأن يوضع فيها خلٌّ يمنع تخمُّرها؛ مشروع، وتخليلها بعد تخمُّرها ممنوع.

ومنها: ذبح الحيوان المأكول يمنع نجاسة لحمه وجلده، وهو مشروع، ودبغ جلده بعد نجاسته بالموت لا يفيد طهارته على ظاهر المذهب.

ومنها: السَّفر قبل الشُّروع في الصِّيام يبيح الفطر، ولو سافر في أثناء يوم من رمضان؛ ففي استباحة الفطر روايتان، والإتمام فيه أفضل بكلِّ حال.

ونقل ابن منصور عن أحمد: أنَّه

(1)

إن نوى السَّفر من اللَّيل ثمَّ سافر في أثناء النَّهار؛ أفطر، وإن نوى السَّفر في النَّهار وسافر فيه؛ فلا يعجبني أن يفطر

(2)

.

(1)

قوله: (أنَّه) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن).

(2)

جاء في مسائل ابن منصور (3/ 1345): قلت: قال الأوزاعي في رجل أراد السفر في شهر رمضان، فأدركه الفجر وهو في أهله، ثمّ خرج: فليس له أن يفطر يومه ذلك. قال: (إذا كان قد حدث نفسه من الليل بالسفر؛ أفطر وإن أدركه الفجر في أهله، إلا أن يكون نوى السفر في بعض النهار؛ فلا يعجبني أن يفطر).

ص: 5

والفرق: أنَّ نيَّة السَّفر من اللَّيل تمنع الوجوب إذا وجد السَّفر في النَّهار؛ فيكون الصِّيام قبله مراعىً، بخلاف ما إذا طرأت النِّيَّة والسَّفر في أثناء النَّهار.

ومنها: أنَّ الرَّجل يملك منع زوجته من حجِّ النَّذر والنَّفل، فإن شرعت فيه بدون إذنه؛ ففي جواز تحليلها روايتان.

ومنها: أنَّ وجود الماء بعد التَّيمم وقبل الشُّروع في الصَّلاة يمنع الدُّخول فيها بالتَّيمم، ولو دخل فيها بالتَّيمم ثمَّ وجد الماء؛ فهل تبطل الصَّلاة أم لا؟ على روايتين.

وكذلك الخلاف في القدرة على نكاح الحرَّة بعد نكاح الأمة؛ هل يبطل نكاحها؟ على روايتين، ونمنعه ابتداء.

وكذا في القدرة على كفَّارة الظِّهار بالعتق بعد الشُّروع في الصِّيام؛ لا يوجب الانتقال على الصَّحيح، وقبله يجب.

ومنها: أنَّ المرأة تملك منع نفسها حتَّى تقبض صداقها، فإن سلَّمت نفسها ابتداء قبل قبض الصَّداق؛ فهل تملك الامتناع بعد ذلك حتَّى تقبضه؟ على وجهين.

وكذلك اختار صاحب «المغني» في البيع: أنَّ البائع يملك الامتناع من تسليم المبيع حتَّى يقبض ثمنه، فإذا سلَّمه؛ لم يملك استرجاعه، ومنع المشتري من التَّصرُّف فيه، والحجر عليه مستنِداً إلى هذه القاعدة، وهو خلاف ما قاله القاضي وأصحابه في مسألة الحجر الغريب

(1)

.

(1)

وهو أن يحجر على المشتري في المبيع وسائر أمواله إذا كان ماله في البلد أو دون مسافة قصر حتى يسلم الثمن. ينظر: تحفة المحتاج 4/ 422.

ص: 6

ومنها: اختلاف الدِّين المانع من النِّكاح يمنعه ابتداء، ولا يفسخه في الدَّوام على الأشهر، بل يقف الأمر على انقضاء العدَّة فيه.

ومنها: الإسلام يمنع ابتداء الرِّقِّ ولا يرفعه بعد حصوله، وإنَّما استرقَّ ولد الأمة المسلمة؛ لأنَّه جزء منها؛ فهو في معنى استدامة الرِّقِّ على المسلم.

وأمَّا الأسرى إذا أسلموا قبل الاسترقاق؛ فإنَّما جاز استرقاقهم لانعقاد سببه في الكفر انعقاداً تامًّا، فاستند إلى سبب موجود في الكفر.

ص: 7

‌قاعدة [135]

الملك القاصر من ابتدائه لا يستباح فيه الوطء، بخلاف ما

(1)

كان القصور طارئاً عليه

، نصَّ على ذلك أحمد.

فمن الأوَّل: المشتراة بشرط الخيار في مدَّة الخيار، وكذلك المشتراة بشرط ألَّا تبيع ولا تهب، أو إن باعها فالمشتري أحقُّ بها، نصَّ عليه أحمد، ونصوصه صريحة بصحَّة هذا البيع والشَّرط ومنع الوطء.

قال فى رواية عبد الله فيمن

(2)

باع جارية على ألَّا يبيع ولا يهب: البيع جائز، ولا يقربها؛ لأنَّ عمر بن الخطَّاب قال: لا يقرب فرجاً فيه شرط لأحد.

(3)

وكذلك قال في رواية حرب، وزاد: وإن اشترطوا إن باعها؛ فهم أحقُّ بها بالثَّمن؛ فلا يقربها، يذهب إلى حديث عمر حين قال لابن مسعود. وكذلك نقل مهنَّى.

(1)

كتب على هامش (و): (لعله: إذا).

(2)

في (ب) و (ج) و (هـ): فمن.

(3)

ينظر: مسائل عبد الله بن الإمام أحمد (ص 278).

وأثر عمر: أخرجه عبد الرزاق (14291)، وابن أبي شيبة (4/ 424)، وسعيد بن منصور (2256).

ص: 8

وقال في رواية صالح وأبي طالب

(1)

فيمن اشترى أمة بشرط: (لا يقربها وفيها شرط). وكذلك نقل ابن منصور.

(2)

وقول عمر الَّذي أشار إليه هو ما رواه حمَّاد بن سلمة عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أنَّ ابن مسعود اشترى جارية من امرأته، وشرط لها: إن باعها فهي لها بالثَّمن الَّذي اشتراها، فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطَّاب، قال

(3)

: (لا تنكحها، وفيها شرط).

قال حنبل: قال عمِّي: كلُّ شرط في فرج؛ فهو على هذا.

والشَّرط الواحد في البيع جائز؛ إلَّا أنَّ عمر كره لابن مسعود أن يطأها؛ لأنَّه شرط لامرأته الَّذي شرط، فلم يُجز عمر أن يطأها وفيها شرط.

وكذلك نصَّ أحمد في رواية ابن هانئ على منع الوطء في الأمة المشتراة بشرط التَّدبير

(4)

.

ونصَّ أحمد

(5)

أيضاً في رواية ابن منصور على المنع من وطء بنت المدبَّرة دون أمِّها

(6)

.

(1)

قوله: (صالح) سقط من (ب) وباقي النسخ.

(2)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 3028)، ولم نقف عليها في مسائل صالح المطبوعة.

(3)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): فقال.

(4)

ينظر: مسائل ابن هانئ (2/ 10).

(5)

قوله: (أحمد) زيادة من (أ).

(6)

ينظر: مسائل ابن منصور (8/ 4462).

ص: 9

وكاع

(1)

الأصحاب في توجيهه، والأمر فيه واضح على ما قرَّرناه؛ إذ بنت المدبَّرة مدبَّرة من ابتداء ملكها، بخلاف أمِّها.

وكذلك نصَّ أحمد

(2)

على المنع من وطء الأمة المملوكة بالعمرى

(3)

.

وحمله القاضي على الاستحباب، وهو بعيد، والصَّواب حمله على أنَّ الملك بالعمرى قاصر، ولهذا يقول على رواية: إذا شرط عودها إليه بعده؛ صحَّ، فيكون تمليكاً مؤقَّتاً.

ومن ذلك: الأمة الموصى بمنافعها؛ لا يجوز للوارث وطؤها على أصحِّ الوجهين، وهو قول القاضي، خلافاً لابن عقيل.

ولكن لهذه المسألة مأخذ آخر: وهو أنَّ منفعة البضع؛ هل هي داخلة في المنافع الموصى بها أم لا؟

ومن الثَّاني: أمُّ الولد والمدبَّرة والمكاتبة إذا اشترط وطأها في عقد الكتابة، والمُؤْجرة والجانية.

وأمَّا المرهونة؛ فإنَّما منع من وطئها لوجهين:

(1)

كعَّ الرجل عن الأمر: إذا جبن وانقبض، يكع، وكاع يكيع. ينظر: غريب الحديث للخطابي 1/ 129، لسان العرب 8/ 317.

(2)

قوله: (أحمد) زيادة من (أ).

(3)

جاء في مسائل ابن هانئ (2/ 55): (سئل عن الرجل يعمر الرجل الجارية، أيطؤها؟ قال: أما الوطء فلا أراه، ولكن الدار والخادم فلا بأس به إذا أعمره).

والعمرى: هي أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، أو جعلتها لك عمرك، أو عمري. ينظر: الكافي 2/ 264.

ص: 10

أحدهما: أنَّه يفضي إلى استيلادها؛ فيبطل الرَّهن، فيسقط حقُّ المرتهن.

والثَّاني: أنَّ الرَّاهن ممنوع من الانتفاع بالرَّهن بغير إذن المرتهن، ولو بالاستخدام أو غيره

(1)

؛ فالوطء أولى.

(1)

قوله: (أو غيره) هو في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): وغيره.

ص: 11

‌قاعدة [136]

الوطء المحرَّم لعارض؛ هل يستتبع تحريم مقدِّماته أم لا

؟

إن كان لضعف الملك وقصوره، أو خشية عدم ثبوته؛ كالأمة المستبرأة إذا مُلكت بعقد؛ فيحرم سائر أنواع الاستمتاع بها.

وإن كان لغير ذلك من الموانع؛ فهو نوعان:

أحدهما: العبادات المانعة من الوطء، وهي على ضربين:

- ضرب يمتنع فيها جنس التَّرفُّه والاستمتاع بالنِّساء؛ فيحرم الوطء والمباشرة؛ كالإحرام القويِّ، وهو ما قبل التَّحلُّل الأوَّل، والاعتكاف.

- وضرب يمتنع فيها الجماع وما أفضى إلى الإنزال؛ فلا يمنع ممَّا بَعُد إفضاؤه إليه من الملامسة، ولو كانت لشهوة، وهو الصِّيام.

وأمَّا الإحرام الضَّعيف، وهو ما بين التَّحلُّلين؛ فالمذهب: أنَّه يحرم الوطء والمباشرة.

وفيه رواية أخرى: أنَّه يحرم الوطء خاصَّة.

النَّوع الثَّاني: غير العبادات؛ فهل يحرم مع الوطء غيره؟ فيه قولان في المذهب.

ويتخرَّج على ذلك مسائل:

منها: الحيض والنَّفاس؛ يحرم بهما الوطء في الفرج، ولا يحرم ما

ص: 12

دونه في المذهب الصَّحيح.

وفيه رواية أخرى: يُمنع الاستمتاع فيما بين السُّرَّة والرُّكبة.

ومنها: الظِّهار، يحرم الوطء في الفرج، وفي الاستمتاع بمقدِّماته روايتان، أشهرهما: التَّحريم.

ومنها: الأمة المسبيَّة في مدَّة الاستبراء، يحرم وطؤها، وفي الاستمتاع بها بالمباشرة روايتان، وصحَّح القاضي في «المجرَّد» الجواز.

ومنها: الزَّوجة الموطوءة بشبهة، يحرم وطؤها مدَّة الاستبراء، وفي مقدِّمات الوطء وجهان.

ومنها: الجمع بين الأختين المملوكتين في الاستمتاع بمقدِّمات الوطء، قال ابن عقيل: يكره ولا يحرم.

ويتوجَّه: أن يحرم.

أمَّا إذا قلنا: إنَّ المباشرة لشهوة؛ كالوطء في تحريم الأخت حتَّى تُحرَّم الأولى؛ فلا إشكال.

ص: 13

‌قاعدة [137]

الواجب بقتل العمد؛ هل هو القود عيناً، أو أحد أمرين إمَّا القود أو الدِّية؟ فيه روايتان معروفتان

(1)

.

ويتفرَّع عليهما ثلاث قواعد: استيفاء القود، والعفو عنه، والصلح عنه.

القاعدة الأولى في استيفاء القود: فيتعيَّن حقُّ المستوفي فيه

(2)

بغير إشكال.

ثمَّ إن قلنا: الواجب القود عيناً؛ فلا يكون الاستيفاء تفويتاً للمال.

وإن قلنا: أحد أمرين؛ فهل هو تفويت للمال أم لا؟ على وجهين، يتفرَّع

(3)

عليهما مسائل:

منها: إذا قُتل العبد المرهون، فاقتصَّ الرَّاهن من قاتله بغير إذن المرتهن؛ فهل يلزمه الضَّمان للمرتهن أم لا؟ على وجهين، أشهرهما:

(1)

كتب على هامش (ن): (ظاهر المذهب منهما الثَّانية، وهي أنَّه أحد أمرين).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: فيما استوفاه من القود).

(3)

في (ب) و (ن): ويتفرَّع.

ص: 14

اللُّزوم، ونصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور

(1)

،

وهو اختيار القاضي والأكثرين، قالوا: ولا يجوز له الاقتصاص بدون إذن المرتهن؛ لأنَّ الواجب كان أحد الأمرين، فإذا عيَّنه بالقصاص؛ فقد فوَّت المال الواجب على المرتهن، وقد كان تعلَّقَ حقُّه برقبة العبد المرهون؛ فتعلَّق ببدله الواجب؛ فهو كما لو قتله أو أعتقه.

فيضمنه بقيمته

(2)

في المنصوص، وبه جزم في «المحرَّر» .

وقال القاضي والأكثرون: بأقلِّ الأمرين من قيمته أو أرش الجناية.

والخلاف في هذا يشبه الخلاف فيما يضمن به العبد الجاني إذا أعتقه عالماً بالجناية.

والوجه الثَّاني: لا يلزمه ضمان، وصحَّحه صاحب «المحرَّر» ؛ لأنَّ المال إنَّما يتعيَّن بالاختيار، والاختيار نوع تكسُّب، والتَّكسُّب للمرتهن لا يلزم، ولهذا لم يلزم المفلس أخذ المال إذا جنى عليه جناية توجب

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 3040): قلت لأحمد: قال سفيان في رجل رهن عبداً مِن رجل، فقُتل العبد عمداً، فاقتص السيد من الذي قتله: فليس للمرتهن شيء، قد ذهب الرهن بما فيه، إلا أن يكون للمرتهن فضل، يعني: عن قيمة العبد.

قال أحمد: (يؤخذ السيد برهن يكون قيمة العبد، ويقتص من العبد). وقال أحمد: (مثله: لو أن الراهن أعتق العبد؛ جاز عتقه، ويؤخذ للمرتهن بمثل قيمة العبد يكون رهناً عنده).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: بقيمة العبد الجاني المقتص منه، لا بقيمة العبد المرهون).

ص: 15

القود، بل له الاقتصاص مع تعلُّق حقوق الغرماء بأعيان ماله

(1)

، وليس له مال آخر يغرَّم منه.

وظاهر كلام صاحب «الكافي» : أنَّ الوجهين على قولنا: مُوجَب العمد القود عيناً، فأمَّا إن قلنا: أحد الأمرين

(2)

؛ وجب الضَّمان؛ لتفويت المال الواجب.

وهو بعيد؛ فإنَّا إذا قلنا: الواجب القود عيناً؛ فإنَّما فوت اكتساب المال، لم يفوِّت مالاً واجباً؛ فلا يتوجَّه الضَّمان بالكليَّة.

وأطلق القاضي وابن عقيل الضَّمان من غير بناء على أحد القولين.

ويتعيَّن بناؤه على القول بأنَّ الواجب أحد أمرين؛ لأنَّهما صرَّحا في العفو أنَّه لا يوجب الضَّمان إذا قلنا: الواجب القود عيناً، وعلَّلا بأنَّه إنمَّا فوَّت على المرتهن اكتساب المال، وذلك غير لازم له، والاقتصاص مثل العفو، ثمَّ وجدت الشَّيخ مجد الدِّين صرَّح بهذا البناء الَّذي ذكرته.

ومنها: إذا قتل عبد من التَّركة المستغرَقة بالدُّيون عمداً، وقلنا: ينتقل الملك إلى الورثة، فاختاروا القصاص؛ فهل يطالَبون بقيمة العبد أم لا؟ يُخرَّج على المرهون.

(1)

كتب على هامش (ن): (وقد يفرَّق: بأنَّ الجناية هنا على نفسه، وحقوقهم إنَّما تتعلَّق بماله، فلو كانت على ماله؛ تعلَّقت حقوقهم ببذله، ولم يكن للمفلس تفويته، فإذا فوَّته؛ لزمه بذله أيضاً، كما يلزم الرَّاهن).

(2)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): أمرين.

ص: 16

ومنها: العبد الموصى بمنفعته إذا قُتل عمداً، فهل لمالك الرَّقبة الاقتصاص بغير إذن مالك المنفعة، وهل يضمن أم لا؟

صرَّح القاضي في «خلافه» : بالمنع؛ كالرَّهن سواء، وهذا متخرِّج على أحد الوجهين، وهو أنَّ حقَّ مالك المنفعة لم يبطل بالقتل.

وأمَّا على الوجه الآخر، وهو بطلان حقِّه بالقتل؛ جعلاً للوصيَّة بالمنفعة كالهبة الَّتي لم تُقبض؛ فلا يمنع مالك الرَّقبة من الاقتصاص، ولا

(1)

شيء عليه.

ومنها: إذا جُنِيَ على المكاتب؛ فهل له أن يقتصَّ بدون إذن سيِّده؟

ذكر

(2)

القاضي في «المجرَّد» وابن عقيل: الجواز؛ لأنَّ المطالبة بالقصاص والعفو عنه إلى العبد دون سيِّده ولو كان قنًّا

(3)

.

وقال القاضي في «خلافه» : قياس قول أبي بكر في منعه من الاقتصاص من عبيده إذا قتل بعضهم بعضاً: أنَّه

(4)

لا يجوز له الاقتصاص بدون إذن سيِّده.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): فلا.

(2)

في (أ): ذكره.

(3)

كتب على هامش (ن): (لعلَّ مراده: لو كان المجني عليه قنًّا، بأن كان عبدًا للمكاتب، فإنَّ قوله: «إذا جُنِيَ على المكاتب» يشمل الجناية على نفسه وعلى رقيقه).

(4)

في (أ): بأنَّه.

ص: 17

وفيه نظر، فإنَّ القاتل

(1)

قد فوَّت مالاً مملوكاً، فهو كقتل الرَّاهن للمرهون بقصاص استحقَّه عليه، ولكن لا يلزم ضمان المكاتب لسيِّده؛ لأنَّ السَّيِّد لا يستحق انتزاع ذلك منه، وهذا بخلاف اقتصاص المكاتب من الجاني عليه؛ فإنَّه لم يفوِّت به

(2)

مالاً مملوكاً له.

ومنها: لو قُتل العبد الموصى به لمعيَّن قبل قبوله؛ فهل للورثة الاقتصاص بدون إذن الموصى له؟

إذا قلنا: هو ملك لهم؛ يتوجَّه المنع إذا قلنا: إنَّ الجناية أوجبت أحد شيئين، فإن فعلوا؛ ضمنوا للموصى له القيمة إذا قَبِل.

ومنها: لو قُتل عبدٌ من مال المضاربة عمداً، فإن كان في المال ربح؛ فهما شريكان، وليس لأحدهما الانفراد بالقصاص ولا العفو، هذا ظاهر كلام القاضي وابن عقيل، فلو اقتصَّ ربُّ المال بغير اختيار المضارَب؛ توجَّه أن يُضمَن للمضارَب حصَّته من الرِّبح إن قلنا: الواجب بالقتل أحد شيئين.

القاعدة الثَّانية: في العفو عن القصاص، وله ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يقع العفو عنه إلى الدِّية، وفيه طريقان

(3)

:

إحداهما: ثبوت الدِّية على الرِّوايتين، وهي طريقة القاضي.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: في اقتصاصه من عبده إذا قتله عبده الآخر).

(2)

قوله: (به) سقط من (ب) و (ن).

(3)

في (ب) و (د) و (و): طريقتان.

ص: 18

والثَّانية: بناؤه على الرِّوايتين.

فإن قلنا: موجبه أحد شيئين؛ ثبتت الدِّية، وإلا لم يثبت شيء بدون تراض منهما، وهي طريقة أبي الخطَّاب وابن عقيل، وذكره القاضي أيضاً في المضاربة

(1)

؛ فيكون القود باقياً بحاله؛ لأنَّه لم يرضَ بإسقاطه إلَّا بعوض، ولم يحصل له.

والحالة الثَّانية: أن يعفو عن القصاص ولا يذكر مالاً، فإن قلنا: موجبه القصاص عيناً؛ فلا شيء له، وإن قلنا: أحد شيئين؛ ثبت المال.

وخرَّج ابن عقيل: أنَّه إذا عفا عن القود؛ سقط، ولا شيء له بكلِّ حال على كلِّ قول؛ لأنَّه بعفوه عنه تعيَّن الواجب فيه بتصرُّفه فيه؛ فهو كما لو أسلم على أكثر من أربع، ثمَّ طلَّق إحداهنَّ؛ فإنَّه يتعيَّن الاختيار فيها.

وهذا ضعيف، فإنَّ إسقاط القود تركٌ له، وإعراض عنه وعدول إلى غيره، ليس اختياراً له، ولهذا يملك العفو عن القود والمال جميعاً، وليس له اختيارهما جميعاً، بخلاف الزَّوجات؛ فإنَّه لا يملك طلاق أكثر من أربع منهنَّ على المشهور

(2)

.

الحالة الثَّالثة: أن يعفو عن القود إلى غير مال مصرِّحاً بذلك، فإن قلنا: الواجب القصاص عيناً؛ فلا مال له في نفس الأمر، وقوله هذا

(1)

قوله: (وذكره القاضي أيضاً في المضاربة) سقط من (ب).

(2)

كتب على هامش (ن): (قال في «الفروع»: وإن طلَّق الكلَّ ثلاثاً؛ تعيَّن أربع بالقرعة، وله نكاح البقيَّة، وقيل: لا قرعة ويحرمْنَ إلَّا بعد زوج).

ص: 19

لغو، وإن قلنا: الواجب أحد شيئين؛ سقط القصاص والمال جميعاً.

فإن كان ممَّن لا تبرُّع له؛ كالمفلس المحجور عليه، والمكاتب، والمريض فيما زاد على الثُّلث، والورثة مع استغراق الدُّيون للتَّركة؛ فوجهان:

أحدهما: لا يسقط المال بإسقاطهم، وهو المشهور؛ لأنَّ المال وجب بالعفو عن القصاص؛ فلا يمكنهم إسقاطه بعد ذلك؛ كالعفو عن دية الخطأ.

والثَّاني: يسقط، وفي «المحرَّر»: أنَّه المنصوص عليه؛ لأنَّ المال لا يتعيَّن بدون اختياره له أو إسقاط القصاص وحده.

أمَّا إن أسقطهما في كلام واحد متَّصل؛ سقطا جميعاً من غير دخول المال في ملكه، ويكون ذلك اختياراً منه لترك التَّملُّك؛ فلا يدخل المال في ملكه.

إذا تقرَّر هذا؛ فهل يكون العفو تفويتاً للمال؟

(1)

إن قلنا: الواجب القود عيناً؛ لم يكن العفو تفويتاً لمال؛ فلا يوجب ضماناً، صرَّح به القاضي وابن عقيل.

وكلام أبي الخطاب يدلُّ على وجوب الضَّمان.

وصرَّح في «الكافي» : بأنَّه على وجهين، كما لو اقتصَّ منه في هذه الحالة

(2)

؛ فإنَّ عنده في الضَّمان وجهين.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: حيث صحَّحنا العفو؛ فهل يكون تفويتاً للمال أم لا؟).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: في حالة عدم صحَّة تبرُّعه على القول بأنَّ الواجب القصاص عيناً، كما تقدَّم فيما إذا اقتصَّ من الجاني على عبده المرهون).

ص: 20

وقد سبق بيان ضعف ذلك، ومخالفته لظاهر تعليل القاضي وابن عقيل.

وكذا في «التَّلخيص» : أنَّ في الضَّمان ههنا

(1)

وجهين، وصحَّح عدمه، ولم يذكر في الضَّمان إذا اقتصَّ خلافاً.

وفرَّق بعض الأصحاب بين الضَّمان بالاقتصاص وعدم الضَّمان بالعفو: بأنَّه إذا اقتصَّ؛ فقد استوفى بدل المال؛ فلذلك لزمه الضَّمان، بخلاف ما إذا عفا؛ فإنَّه لم يستوفِ له بدلاً، بل فات عليهما جميعاً، ولهذا لو أبرأ أحد الشَّريكين الغريم من حقِّه؛ برئ، ولم يلزمه الضَّمان لشريكه، بخلاف ما إذا استوفى حقَّه أو بدله؛ فإنَّه يضمن لشريكه نصيبه منه.

وإن قلنا: الواجب أحد شيئين، فعفا مجَّاناً، ففي «الكافي»: هو كالعفو عن المال.

فإن كان محجوراً عليه؛ لم يصحَّ.

وإن كان راهناً؛ ففيه

(2)

ثلاثة أوجه:

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: فيما إذا عفا عن القصاص مجَّاناً، وقلنا: الواجب القصاص عيناً).

(2)

في (أ) و (و): فيه.

ص: 21

أحدها: لا يصحُّ، وهو اختياره - أعني: صاحب «الكافي» -؛ كما لا يصحُّ عفو المفلس.

والثَّاني: يصحُّ، ويؤخذ منه القيمة تكون رهناً؛ لأنَّه أتلفه بعفوه، وهو قول أبي الخطَّاب، وبه جزم صاحب «التَّلخيص» .

والثَّالث: يصحُّ بالنِّسبة إلى الرَّاهن دون المرتهن؛ فتؤخذ القيمة من الجاني تكون رهناً مكانه، فإذا زال الرَّهن؛ رُدَّت إلى الجاني، وهو قول القاضي وابن عقيل.

وأمَّا على الوجه الثَّاني الَّذي حكيناه في أصل المسألة بصحَّة عفو المفلس، والمريض فيما زاد على الثُّلث، والورثة، ونحوهم؛ فيتخرَّج في الضَّمان وجهان؛ كالاقتصاص إذا قلنا: الواجب أحد شيئين.

ويتخرَّج على هذا الأصل مسائل:

منها: عفو الرَّاهن عن الجناية على المرهون، وقد ذكرنا حكمه مستوفىً.

ومنها: عفو المفلس عن الجناية الموجبة للقود مجَّاناً؛ فالمشهور: أنَّا إن قلنا: الواجب القود عيناً؛ صحَّ.

وإن قلنا: أحد أمرين؛ لم يصحَّ العفو عن المال.

وعلى الوجه الآخر الَّذي قيل: إنَّه المنصوص؛ يصحُّ، وعلى طريقة من حكى الضَّمان في المرهون.

وإن قلنا: الواجب القود عيناً؛ يخرَّج ههنا مثله.

ومنها: عفو المكاتب عن القصاص، وحكمه حكم المفلس.

ص: 22

ومنها: عفو الورثة عن القصاص مع استغراق الدُّيون، وحكمه كذلك.

ومنها: عفو المريض عن القصاص، وحكمه فيما زاد على الثُّلث كذلك.

ومنها: إذا عفا الوارث عن العبد الجاني على العبد الموصى بمنفعته؛ هل يضمن لمالك المنفعة قيمتها؟ على وجهين، حكاهما في «التَّرغيب» .

والأظهر: تخريجهما على أنَّ حقَّ صاحب المنفعة هل سقط بالإتلاف أم لا؟

ويتوجَّه: ألَّا ينفذ عفوه في قدر قيمة المنافع؛ لأنَّها ملك للغير إذا قلنا: الواجب أحد أمرين، وهذا بخلاف العفو عن الجاني على العبد المستأجر؛ لأنَّ الإجارة تنفسخ بالقتل، ويرجع المستأجر ببقيَّة الأجرة.

ومنها: إذا قُتل العبد الموصى به لمعيَّن قبل قبوله؛ فهل للورثة العفو عن قاتله بدون اختيار الموصى له به؛ لأنَّ قيمته له؟ صرَّح بذلك أبو الخطَّاب والأصحاب.

فيتوجَّه تخريج ذلك على هذا الأصل إن قلنا: الواجب القصاص عيناً، فلم يجب بهذه الجناية مال؛ فلهم العفو، لا سيَّما على قولنا: إنَّ ملكه قبل القبول لهم.

وإن قلنا: أحد أمرين؛ لم يصحَّ عفوهم، وعلى طريقة من حكى الضَّمان.

ص: 23

وإن قلنا: الواجب القود

(1)

في المرهون؛ يخرَّج ههنا مثله.

ومنها: العفو عن الوارث الجاني في مرض الموت عن دم العمد، إن قلنا: الواجب القود عيناً؛ فهو صحيح.

وإن قلنا: أحد شيئين؛ فكذلك، صرَّح به القاضي في «خلافه» في مسألة الوقف على الوارث في المرض.

ويتوجَّه فيه وجه آخر: بوقوفه على إجازة الورثة.

تنبيهان:

أحدهما: لو أطلق العفو عن الجاني عمداً؛ فهل يتنزَّل عفوه على القود والدِّية، أو على القود وحده؟

حكى صاحب «المحرَّر» ثلاثة أوجه:

أحدها -وذكر أنَّه المنصوص-: أنَّه ينصرف إليهما جميعاً، ونصَّ عليه أحمد في رواية مهنَّى.

والثَّاني: ينصرف إلى القود وحده، إلَّا أن يقرَّ العافي بإرادة الدِّية مع القود.

والثَّالث: يكون عفواً عنهما، إلَّا أن يقول: لم أرد الدِّية، فيحلف ويقبل منه.

وفي «التَّرغيب» : إن قلنا: الواجب القود وحده؛ سقط ولا دية، وإن قلنا: أحد شيئين؛ انصرف العفو إلى القصاص في أصحِّ الرِّوايتين، والأخرى: يسقطان جميعاً.

(1)

زاد في (ب) وباقي النسخ: (عينًا)، وقد ضرب عليها في (أ).

ص: 24

الثَّاني: لو اختار القصاص؛ فله ذلك، وهل له العود عنه إلى الدِّية؟

إن قلنا: القصاص هو الواجب عيناً؛ فله تركه إلى الدِّية.

وإن قلنا: الواجب أحد شيئين؛ فعلى وجهين حكاهما في «التَّرغيب» :

أحدهما: نعم، وهو قول القاضي وابن عقيل؛ ولأنَّ أكثر ما فيه أنَّه تعيَّن له القصاص؛ فيجوز له تركه إلى مال، كما إذا قلنا: هو الواجب عيناً.

والثَّاني: لا، وهو احتمال في «الكافي» و «المحرَّر» ؛ لأنَّه أسقط حقَّه من الدِّية باختياره، فلم يكن له الرُّجوع إليها، كما لو عفا عنها وعن القصاص.

وفارق ما إذا قلنا: القود هو الواجب عيناً؛ لأنَّ المال لم يسقط بإسقاطه.

ويجاب عن هذا: بأنَّ الَّذي أسقطه هو الدِّية الواجبة بالجناية، والمأخوذ هنا غيره، وهو مأخوذ بطريق المصالحة عن القصاص المتعيِّن.

القاعدة الثَّالثة: الصُّلح عن موجب الجناية:

فإن قلنا: هو القود وحده؛ فله الصُّلح عنه بمقدار الدِّية، وبأقلَّ وأكثر منها؛ إذ الدِّية غير واجبة بالجناية.

وكذلك إذا اختار القود أوَّلاً، ثمَّ رجع إلى المال وقلنا: له ذلك؛ فإنَّ الدِّية سقط وجوبها.

ص: 25

وإن قلنا: أحد شيئين؛ فهل يكون الصُّلح عنها

(1)

صلحاً عن القود أو المال

(2)

؟ على وجهين، يتفرَّع عليها

(3)

مسائل:

منها: هل يصحُّ الصُّلح على أكثر من الدِّية من جنسها أم لا؟

قال أبو الخطَّاب في «الانتصار» : لا يصحُّ؛ لأنَّ الدِّية تجب

(4)

بالعفو والمصالحة

(5)

؛ فلا يجوز أخذ أكثر من الواجب من الجنس.

وكذلك قال صاحب «التَّلخيص» : يصحُّ على غير جنس الدِّية، ولا يصحُّ على جنسها إلَّا بعد تعيين الجنس من إبل أو بقر أو غنم؛ حذاراً من ربا النَّسيئة وربا الفضل.

وأطلق الأكثرون جواز الصُّلح بأكثر من الدِّية من غير تفصيل، قال في «المغني»:(لا أعلم فيه خلافاً)

(6)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: عن الجناية).

(2)

قوله: (أو المال) هو في (أ): والمال.

(3)

كتب على هامش (ن): (صوابه عليهما).

(4)

كتب على هامش (ن): (أي: تتعين).

(5)

كتب على هامش (ن): (قوله: "بالعفو" أي: عن القود، وقوله: "والمصالحة" كأنَّه يريد أو بالمصالحة؛ أي: إنَّما تتعين الدِّية بالعفو عن القود أو بالمصالحة عنه، وإذا تعيَّنت بواحد منهما؛ لم تجز المصالحة عنها بالقود من جنسها؛ حذاراً من ربا الفضل، أو لأنَّه يصير مصالحًا عن الواجب بأكثر منه من جنسه ولا يجوز ذلك).

(6)

ينظر: المغني 8/ 363.

ص: 26

وصرَّح السَّامريُّ في «فروقه» بجواز الصُّلح

(1)

بأكثر من الدِّية وإن قلنا: الواجب أحد شيئين؛ وعلَّل: بأنَّ القود ثابت

(2)

، فالمأخوذ عوض عنه، وليس من جنسه، فجاز من غير تقدير؛ كسائر المعاوضات الجائزة.

وأمَّا القود؛ فقد يقال: إنَّما يسقط بعد صحَّة الصُّلح وثبوته

(3)

، وأمَّا مجرد المفاوضة

(4)

في عقد الصُّلح؛ فلا يوجب سقوطه

(5)

؛ فإنَّه إنَّما

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: في الصُّلح، لا في الجنايات).

(2)

كتب على هامش (ن): (على كلا الرِّوايتين).

(3)

كتب على هامش (ن): ("وأمَّا القود؛ فقد يقال: إنَّما يسقط بعد صحَّة الصُّلح وثبوته" كأن هذا الكلام جواب لما تقدَّم في كلام أبي الخطَّاب، حيث قال: إنَّ الدِّية تجب بالعفو والمصالحة؛ يعني: فإذا أوجبت بالمصالحة تعيَّنت؛ فلم يجز الصُّلح عنها بأكثر منها من جنسها، ومفهوم ذلك: أنَّها تجب بمجرَّد المصالحة أو بمجرَّد الشُّروع في عقد الصُّلح، فأراد المصنِّف أن يردَّ هذا المفهوم، فبيَّن أنَّ الدِّية إنَّما تجب بإسقاط القود، وإنَّما يسقط القود بشرط تمام الصُّلح وثبوت العوض لا بمجرَّد المعاوضة، وإذا لم يسقط القود إلَّا بتمام الصُّلح، ولم تجب الدِّية إلَّا بسقوط القود؛ تبيَّن أنَّ عوض الصُّلح ثبت قبل وجوب الدِّية، فلا يكون الصُّلح صلحاً عنها بعد وجوبها، بل هو صلح عن الجناية قبل وجوب الدِّية. من خطَّ قاضي القضاة محب الدِّين البغداديِّ رحمه الله.

(4)

في (ب) و (ج) و (د) و (ن): المعاوضة.

(5)

كتب على هامش (ن): (أي: إذا تبيَّن أنَّ الصُّلح لم يصحَّ).

ص: 27

يسقط

(1)

بعوض، فلا يسقط بدون ثبوت العوض له

(2)

.

ومنها: لو صالح عن دم العمد بشقص؛ هل يؤخذ بالشُّفعة أم لا؟

إن قلنا: الواجب القود عيناً؛ فالشِّقص مأخوذ بعوض غير ماليٍّ؛ فلا شفعة فيه على أشهر الوجهين، وهو قول أبي بكر والقاضي والأكثرين، خلافاً لابن حامد.

وإن قلنا: الواجب أحد شيئين؛ فهو مأخوذ بعوض ماليٍّ؛ إذ هو عوض عن الدِّية لتعيُّنها باختيار الصُّلح، صرَّح به صاحبا

(3)

«المغني» و «التَّلخيص» ، وكذلك ذكر السَّامريُّ في «المستوعب» ، وهو خلاف ما قرَّره في «الفروق» .

ويتوجَّه على قول من قال: الصُّلح عن القود، أن يُطرَد فيه الوجهان الأوَّلان، وهو وفق إطلاق الأكثرين.

ومنها: لو قتل عبدُه

(4)

عبداً من مال التِّجارة عمداً، فصالح المالك

(1)

في (ب) و (ج) و (هـ) و (و): يسقطه.

(2)

كتب في هامش (ن): (حاصل هذا الكلام: أن قول أبي الخطاب: "إن الدية تجب بالمصالحة" ممنوع، وإنما تجب بسقوط القود، وسقوطه متوقف على صحة الصلح ولزوم العوض فيه، فيكون ثبوت العوض بالصلح سابقًا على ثبوت الدية وتعينها، فلا يكون مصالحة عن الواجب بأكثر منه من جنسه).

(3)

في (أ) و (ج) و (ن): صاحب.

(4)

في (ب) و (ج): عبد.

ص: 28

عنه بمال؛ فذكر القاضي في التَّخريج أنَّه

(1)

: إن قلنا: الواجب القصاص عيناً؛ لم يصر المال المصالح به للتَّجارة إلَّا بنيَّة؛ وعلَّل: بأنَّه ليس بعوض عن المقتول، بل عن القصاص

(2)

.

وإن قلنا: الواجب

(3)

أحد شيئين؛ فهو من مال التِّجارة بغير نيَّة؛ كثمن المبيع؛ وعلَّل: بأنَّه عوض عن المقتول؛ فهو كقتل الخطأ.

وهذا يتنزَّل على أنَّ الصُّلح وقع على المال.

أمَّا إن قيل: إنَّه واقع عن القود؛ فقد يقال كذلك؛ لأنَّه بدل عن العبد، وقد يقال: لا يصير للتِّجارة إلَّا بنيَّة، وظاهر تعليل القاضي يدلُّ عليه؛ لأنَّه عوض عمَّا كان يستحقُّه على مالك الجاني من إراقة دمه، بخلاف ما إذا أخذ قيمة الجاني أو باعه في الجناية؛ فإنَّه استوفى المال الواجب بالقتل عوضاً عن العبد المقتول.

وذكر القاضي وابن عقيل في المضاربة: إذا قتل عبدٌ عبداً من عبيد المضاربة عمداً، فصالح عنه بمال؛ فهو من مال المضاربة؛ لأنَّه بدل عن مال المضاربة؛ فهو كالثَّمن، ولم يبنياه على الخلاف في موجب العمد؛ إذ هو بدل عنه بكلِّ حال، ولا حاجة ههنا إلى نيَّة.

(1)

قوله: (فذكر القاضي في التخريج أنه) هي في (ب): فذكر ابن تميم عن القاضي في التخريج أنه قال.

(2)

زاد في (أ): (وعلَّل بأنَّه عوض عن المقتول؛ فهو كقتل الخطأ). وهي خطأ، وسيأتي موضع ذكرها قريبًا، ولم تذكر في (أ) في ذلك الموضع.

(3)

قوله (الواجب) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن).

ص: 29

ولكن قد ينبني على ما ذكرناه من أنَّ الصُّلح هل وقع عن المال أو عن القود؟

وقال أبو البركات في «تعليقه على الهداية» : يحتمل عندي أنَّه متى قلنا: القصاص يجب عيناً؛ أنَّ المضاربة قد بطلت، ويكون جميع ما تصالح عليه للسَّيِّد ملكاً جديداً.

ص: 30

‌قاعدة [138]

العين المتعلِّق بها حقٌّ لله تعالى أو لآدميٍّ: إمَّا أن تكون مضمونة، أو غير مضمونة

.

فإن كانت مضمونة؛ وجب ضمانها بالتَّلف والإتلاف بكلِّ حال.

وإن لم تكن مضمونة؛ لم يجب ضمانها بالتَّلف، ووجب بالإتلاف إن كان لها مستحِقٌّ موجود، وإلَّا فلا

(1)

.

أمَّا الأوَّل؛ فله أمثلة:

منها: الزَّكاة إذا قلنا: تتعلَّق بالعين على المشهور؛ فإنَّها لا تسقط بتلف المال، ويجب ضمانها.

ومنها: الصَّيد في حقِّ المحرم وفي الحرم؛ مضمون على المالك بالجزاء.

وأمَّا الثَّاني؛ فله أمثلة كثيرة:

منها: الرَّهن يُضمن بالإتلاف، مثل أن يَستهلكه الرَّاهن، أو يُعتقه إن كان عبداً، ولا يُضمن بالتَّلف.

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: وإن لم يكن له مستحق موجود؛ لم يجب الضَّمان؛ مثل أن ينذر عتق عبده، ثمَّ يقتله؛ فإنَّه لا يضمنه، كما يأتي بيانه في آخر القاعدة).

ص: 31

ومنها: العبد الجاني إذا أعتقه سيِّده؛ فإنَّه يضمنه، وهل يضمنه بأرش الجناية مطلقاً، أو بأقلِّ الأمرين منه ومن قيمته؟ على روايتين ذكرهما القاضي في «المجرَّد»

(1)

.

وأنكر في «الخلاف» رواية الضَّمان بالأرش مطلقاً؛ قال: لأنَّه أتلف محلَّ الحقِّ؛ فلا يلزمه أكثر من ضمانه، بخلاف

(2)

ما إذا اختار فداءه؛ فإنَّه مع بقائه قد يرغب فيه راغب، فيبذل فيه ما يستوفى منه الأرش كلَّه؛ فلذلك ضمنه بالأرش كلِّه على رواية.

ونقل عنه ابن منصور: أنَّه إن

(3)

علم بالجناية؛ ضمنه بالأرش كلِّه، وإن لم يعلم؛ لزمه الأقل

(4)

.

ونقل عنه حرب

(5)

: إن لم يعلم؛ فلا شيءَ عليه بحال، وإن علم؛

(1)

كتب على هامش (ن): (انبناء هذا الخلاف على القول بأنَّه إذا اختار الفداء؛ يكون عليه الفداء بأقل الأمرين، كما صرَّح به في «المحرَّر»، وإلَّا لو قيل: إنَّه يلزمه الفداء بالأرش كلِّه؛ فههنا أيضًا كذلك وأنَّه أولى).

(2)

كتب على هامش (ن): (جواب عما يقال: كيف ساغ مجيء هذه الرواية فيما إذا اختار الفداء ولم يسغ مجيئه ههنا).

(3)

قوله: (إن) سقط من (أ).

(4)

جاء في مسائل ابن منصور (7/ 3432): قلت: عبد قتل حرًّا، فأعتقه سيده؟ قال أحمد:(إذا علم السيِّد بجناية عبده، فأعتقه؛ فالدية عليه، وإذا لم يعلم؛ فعليه قيمة عبده، وصار العبد حرًّا).

(5)

كتب على هامش (ن): (الَّذي نقله في «المحرَّر» عن رواية حرب أنَّه يلزمه الأقل، سواء علم أو لم يعلم، وعبارته: وإذا قلنا: يلزمه فداؤه بأقل الأمرين، فأعتقه بعد علمه بالجناية؛ لزمه جميع أرشها، بخلاف ما إذا لم يعلم، نقله ابن منصور. ونقل عنه حرب: لا يلزمه سوى الأقل أيضاً).

ص: 32

ضمنه بالقيمة فقط

(1)

.

ولو قتله المالك؛ لزمته قيمته للمجني عليه، ذكره القاضي في «خلافه» .

وإن قتله أجنبيٌّ؛ ففي «الخلاف الكبير» : يسقط الحقُّ

(2)

؛ كما لو مات.

وحكى القاضي في كتاب «الرِّوايتين» والآمديُّ روايتين:

إحداهما: يسقط الحقُّ، قال القاضي: نقلها مهنَّى

(3)

؛ لفوات محلِّ الجناية.

والثَّانية: لا يسقط، نقلها حرب

(4)

، واختارها أبو بكر، وبها جزم القاضي في «المجرَّد» ؛ فيتعلَّق الحقُّ بقيمته؛ لأنَّها بدله؛ فهو كما لو مات القاتل عمداً؛ فإنَّ الدِّية تجب في تركته.

وجعل القاضي المطالبة على هذه الرِّواية للسَّيِّد، والسَّيِّد يطالب

(1)

ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 253).

(2)

كتب على هامش (ن): (هذا القول لم يظهر وجهه، ولعلَّه منزَّل على حالة ما إذا كان قتله هدراً).

(3)

ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 292).

(4)

ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 292).

ص: 33

الجاني

(1)

بالقيمة.

ومنها: إذا قَتَل رجلاً عمداً، ثمَّ قُتِل القاتل؛ قال أحمد في رواية ابن ثواب في رجل قتل رجلاً عمداً، ثمَّ قُتِل الرَّجل خطأً: لهم الدِّية، قيل له: وإن قُتل عمداً؟ قال: وإن قُتل عمداً، قيل له: فإنَّ قوماً يقولون: إنَّه إذا قُتل إنَّما كان لهم دمه، وليس لهم الدِّية، قال: ليس كذلك، الحديث:«إنَّ أولياءه بالخيار؛ إن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا قبلوا الدِّية»

(2)

.

فقد نصَّ على أنَّ القاتل إذا قُتل؛ تعينَّت الدِّية في تركته، وعلَّل: بأنَّ الواجب بقتل العمد أحد شيئين، وقد فات أحدهما؛ فتعيَّن الآخر.

وهذا يدلُّ على أنَّه لا يجب شيء إذا قلنا: الواجب القود عيناً، وهذا يقوى على قولنا: إنَّ الدِّية لا تثبت إلَّا بالتَّراضي.

وخرَّج الشَّيخ تقيُّ الدِّين وجهاً آخر، وقوَّاه: أنَّه تسقط الدِّية بموت القاتل أو قتله بكلِّ حال؛ معسراً كان أو موسراً، وسواء قلنا: الواجب القود عيناً، أو: أحد شيئين؛ لأنَّ الدِّية إنَّما تجب بإزاء العفو، وبعد موت القاتل لا عفو؛ فيكون موته كموت العبد الجاني.

والعجب من القاضي في «خلافه» كيف حمل هذه الرِّواية على أنَّ

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: مطالبة المجني أوَّلاً).

(2)

أخرجه أحمد (6717)، وأبو داود (4506)، والترمذي (1387)، وابن ماجه (2626)، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال الترمذي:(حديث حسن غريب)، وحسنه الألباني في الإرواء (7/ 259).

ص: 34

أولياء المقتول الأوَّل يُخيَّرون في القاتل الثَّاني بين

(1)

أن يقتصُّوا منه أو يأخذوا الدِّية؟! وتبعه على ذلك صاحب «المحرَّر»

(2)

؛ فحكاه رواية.

ومن تأمَّل لفظ الرِّواية؛ علم أنَّها لا تدلُّ على ذلك البتَّة

(3)

.

(1)

في (أ) و (ج) و (ن): من.

(2)

كتب على هامش (ن): (صاحب «المحرَّر» حكى فيه أولًا تعيُّن الدِّية، ثمَّ قال: وعنه ينتقل الحقُّ إذا قتل إلى القاتل الثَّاني، فيخيَّر أولياء القتيل الأوَّل بين قتله والعفو عنه، انتهى، ولم يتعيَّن أن يكون أخذ هذه الرِّواية من رواية ابن ثواب، اللَّهمَّ إلَّا أن يكون المصنِّف قد وقف له على كلامٍ يقتضي أنَّه أخذ ذلك من هذه الرِّواية؛ أعني: رواية ابن ثواب)، وكتب آخر:(لا يحتاج إلى أن يطَّلع المصنِّف على كلام يدلُّ على ما ذكره، وعمدة الأصحاب قاطبة في إثبات الرِّوايات لنا هو القاضي، فكلُّ رواية يذكرونها إنَّما هو بالتبع له حتَّى يتبيَّن أنَّهم انفردوا بإثباتها وواحدًا منهم نفى، وقول هذا القائل يتوجَّه على القاضي إن لم يكن قد اطَّلع على أنَّه فسَّر رواية ابن ثواب بما ذكره، مع أنَّه قد اطَّلع كما يقتضيه كلام المصنِّف، والله تعالى أعلم).

(3)

كتب على هامش (ن): (كأن يقطع بأنَّ معناها أنَّ أولياء المقتول الأوَّل يخيَّرون في القاتل الأوَّل بين أن يقتصُّوا منه، أو يأخذوا الدِّية، وأنَّه صريح في أن موجب العمد أحد شيئين، وكلام المصنِّف يتَّجه إن لم يكن الحديث واردًا في خصوص أولياء المقتول الأوَّل بالنِّسبة إلى القاتل الثَّاني برقبته بالنسبة إلى القاتل الأول، وهو الظَّاهر الَّذي اعتمد عليه المصنِّف [ ..... ]).

ص: 35

وقال القاضي أيضاً في «خلافه» : الدِّية واجبة في التَّركة، سواء قلنا: الواجب أحد شيئين، أو القصاص عيناً.

وكلام أحمد يدلُّ على خلاف ذلك كما رأيته، وكذلك نصَّ عليه في رواية ابن القاسم في الرَّجل يَقتل عمداً، ثم يُقدَّم ليُقاد منه، فيأتي رجل فيقتله؛ قال: كان الوليُّ الأوَّل بالخيار؛ إن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدِّية، فلمَّا ذهب الدَّم؛ فينظر إلى أولياء هذا المقتول الثَّاني؛ فإن هم أخذوا الدِّية من القاتل الأخير؛ فقد صار ميراثاً من ماله، ثمَّ يعود أولياء الدَّم الأوَّل فيأخذونها منهم بدم صاحبهم

(1)

.

وكذلك نقل أبو طالب عن أحمد، وقال: إذا فاته الدَّم؛ أخذ الدِّية من ماله إن كان له مال؛ لأنَّه مخيَّر: إن شاء أخذ الدِّية، وإن شاء عفا.

وهذا كلُّه تصريح بالحكم والتَّعليل، وجعل المطالبة بالدِّية لأولياء القاتل الأوَّل؛ لأنَّ الدِّية في ماله.

وخرَّج صاحب «المغني» وجهاً: أنَّ المطالبة لقاتل القاتل؛ لأنَّه فوَّت محلَّ الحقِّ؛ فهو

(2)

كما لو قُتِل العبدُ الجاني.

وللأصحاب وجهان فيما إذا قتَلَ الجانيَ بعضُ الورثة، حيث لا

(1)

كتب على هامش (ن): (مفهوم ذلك: أنَّه إذا لم يأخذ أولياء المقتول الثَّاني الدِّية؛ لم يكن لأولياء المقتول الأوَّل شيء، ولو كان له تركة، ولعلَّ ذلك تفريع على أنَّ الواجب القصاص عيناً، وقد فات محلُّه، ولم يؤخذ له بدله).

(2)

قوله: (فهو) سقط من (أ).

ص: 36

ينفرد بالاستيفاء؛ هل للباقين حصَّتهم من الدِّية في مال الجاني، أو على المقتصِّ؟ على وجهين.

وعلى الأوَّل: يرجع ورثة الجاني على المقتصِّ بما فوق حقِّه.

ونقل صالح وابن منصور عن أحمد في رجل قتل رجلاً، فقامت البيِّنة عند الحاكم، فأمر بقتله، فعدا بعض ورثة المقتول، فقتل الرَّجل بغير أمر الحاكم؛ فقال: هذا قد وجب عليه القتل، ما للحاكم ههنا؟!

(1)

.

وظاهر هذا: أنَّه لا يلزمه ضمان؛ لأنَّه استوفى الحقَّ لنفسه ولشركائه، ولا سيَّما إن قلنا: الواجب بقتل العمد القود عيناً.

ومنها: لو عيَّن أضحية أو هدياً لا عن واجب في الذِّمَّة، فإن أتلفه أو تلف بتفريطه؛ فعليه ضمانه بمثله؛ لأنَّ مستحقَّه موجود، وهم المساكين، وإن تلف بغير تفريط؛ فلا شيء عليه.

ونقل القاضي في «خلافه» ، وأبو الخطَّاب في «انتصاره» ، وابن عقيل في «عُمَدِه» ، رواية بوجوب الضَّمان؛ كالزَّكاة، وأخذوه من قول الخرقيِّ: ومن ساق هدياً واجباً، فعطب دون محلِّه؛ فعليه مكانه.

وهذا بعيد جدًّا، وكلام الخرقيِّ إنَّما هو في الواجب في الذِّمَّة.

قالوا: وكذا الخلاف فيمن نذر الصَّدقة بمال معيَّن، فلم يفعل حتَّى

(1)

لم نقف على الرواية في مسائل صالح، ولا في مسائل ابن منصور.

وقد ذكرها في الفروع (9/ 403)، ونسبها لصالح وابن هانئ، وهي موجودة بنصها في مسائل ابن هانئ (2/ 85).

ص: 37

تلف؛ هل يضمنه؟ على الرِّوايتين.

ومنها: لو نذر عتق عبد معيَّن، فمات قبل أن يعتقه؛ لم يلزمه عتق غيره، ولزمه كفَّارة يمين، نصَّ عليه أحمد

(1)

؛ لعجزه عن المنذور.

وإن قتله السَّيِّد؛ فهل يلزمه ضمانه؟ على وجهين:

أحدهما: لا يلزمه، قاله القاضي وأبو الخطَّاب؛ لأنَّ القصد من العتق تكميل الأحكام، والمصرف العبد، فإذا فات المصرف؛ لم يبق مستحقٌّ للعتق.

والثَّاني: يلزمه، قاله ابن عقيل؛ فيجب صرف قيمته في الرِّقاب؛ أخذاً من قولنا في الولاء: إذا حصل من المعتقين في الكفَّارة صرف في الرقاب، والولاء أيسر من القيمة؛ لأنَّه بدل الأكساب، والقيمة بدل الذَّات، وإذا كانت الرِّقاب مصرفاً؛ فلا وجه لسقوط القيمة عنه.

ولو أتلفه أجنبيٌّ؛ فقال أبو الخطَّاب: لسيِّده القيمة، ولا يلزمه صرفها في العتق.

وخرَّج بعض الأصحاب وجهاً بوجوبه، وهو قياس قول ابن عقيل؛ لأنَّ البدل قائم مقام المبدل، ولهذا لو وصَّى له بعبد، فقُتِل قبل قبوله؛ فإنَّ قيمته له إذا قبل.

(1)

ينظر: المغني (10/ 18).

ص: 38

‌قاعدة [139]

الحقوق الواجبة من جنس إذا كان بعضها مقدَّراً بالشَّرع، وبعضها غير مقدَّر به، فهي ثلاثة أنواع:

أحدها: أن يكون تقدير الحقِّ خشية سقوط صاحبه، حيث كان من لم يقدَّر حقُّه يستحقُّ الجميع عند الانفراد؛ كذوي الفروض مع العصبات في الميراث؛ فههنا

(1)

قد يزيد الحقُّ الَّذي لم يقدَّر على الحقِّ المقدَّر؛ لأنَّه أقوى منه.

والنَّوع الثَّاني: أن يكون التَّقدير لنهاية الاستحقاق، وغير المقدَّر موكولاً إلى الرَّأي والاجتهاد من غير تقديره بأصل يُرجع إليه؛ فلا يزاد الحقُّ الَّذي لم يقدَّر على المقدَّر ههنا.

وله

(2)

صور:

منها: الحدُّ والتَّعزير؛ فلا يبلغ بتعزير الحرِّ والعبد أدنى حدودهما، إلَّا فيما سببه الوطء؛ فيجوز أن يبلغ بالتَّعزير عليه في حقِّ الحرِّ مائة جلدة بدون نفي.

(1)

في (ب): ههنا.

(2)

في (أ) و (و): له.

ص: 39

وقيل: لا يبلغ المائة، بل ينقص منها سوطاً، وفي حقِّ العبد خمسين إلَّا سوطاً، ويجوز النَّقص منه على ما يراه السُّلطان.

ومن الأصحاب من حكى أنَّه لا يبلغ بالتَّعزير في معصية حدًّا مشروعاً في جنسها، ويجوز أن يزيد على حدِّ غير جنسها، قال في «المغني»: ويحتمله كلام أحمد والخرقيِّ.

وعن أحمد: لا يزاد في كلِّ تعزير على عشر جلدات؛ لخبر أبي بردة.

(1)

ومنها: السَّهم من الغنيمة والرَّضخ

(2)

؛ فلا يبلغ بالرَّضخ لآدميٍّ سهمه المقدَّر، ولا بالرَّضخ لمركوبٍ سهمه المقدَّر.

النَّوع الثَّالث: أن يكون أحدهما مقدَّراً شرعاً، والآخر تقديره راجع إلى الاجتهاد، لكنه يرجع إلى أصل يُضبَط به؛ فهل هو كالمقدَّر أم لا؟

إن كان محلُّهما واحداً؛ لم يجاوز به المقدَّر، وفي بلوغه خلاف.

وإن كان محلُّهما مختلفاً؛ فالخلاف في بلوغ المقدَّر ومجاوزته.

فالأوَّل: كالحكومة إذا كانت في محلٍّ له مقدَّر؛ فلا يجاوز بها المقدَّر لذلك المحلِّ، وفي بلوغه وجهان.

والثَّاني: كدِيَة الحرِّ مع

(3)

قيمة العبد، فإذا جاوزت قيمته الدِّية؛

(1)

أخرجه البخاري (6850)، ومسلم (1708)، من حديث أبي بردة رضي الله عنه مرفوعًا، ولفظه:«لا تجلدوا فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله» .

(2)

قال في المطلع (ص 256): (يرضَخ: بفتح الضاد، قال أبو السعادات: الرضخ: العطية القليلة، وقال الجوهري: الرضخ: العطاء).

(3)

قوله: (مع) سقط من (أ).

ص: 40

فهل تجب القيمة بكمالها، أم لا يجوز أن تبلغ بها دية الحرِّ، بل ينقص منها؟ على روايتين.

وقد يخرَّج عليهما

(1)

جواز بلوغ الحكومة الأرش المقدَّر مطلقاً.

(1)

في (أ): عليها.

ص: 41

‌قاعدة [140]

من سقطت عنه العقوبة بإتلاف نفس أو طرف، مع قيام المقتضي له، لمانع؛ فإنَّه يتضاعف عليه الغرم

.

ويتخرَّج على ذلك مسائل:

منها: إذا قتل مسلمٌ ذميًّا عمداً؛ ضمنه بدية مسلم.

ومنها: من سرق من غير حرز؛ فإنَّه يتضاعف عليه الغرم، نصَّ عليه

(1)

(2)

.

وقيل: يختصُّ ذلك بالثَّمر والكَثَر.

ومنها: الضَّالَّة المكتومة تضمن بقيمتها مرَّتين، نصَّ عليه أحمد

(3)

في رواية ابن منصور

(4)

؛ معلِّلاً: بأن التَّضعيف في الضَّمان هو لدرء

(1)

جاء في مسائل ابن هانئ (2/ 90): سألت أبا عبد الله عن الرجل يعفى عنه حد في سرقة أو غيره من الحدود؟ قال: أذهب إلى حديث عمرو بن شعيب، إذا دُرئ عنه شيء من ذلك؛ أُضعف عليه الغرم، إذا كان مائتين، أُخذ منه أربعمائة، وإذا كانت ألفًا، أُخذ منه ألفان.

(2)

كتب على هامش (ن): (والمذهب خلافه).

(3)

كتب على هامش (ن): (والمذهب خلافه).

(4)

ينظر: مسائل ابن منصور (7/ 3581).

ص: 42

القطع، وهذا متوجِّه

(1)

على أصله في قطع جاحد العارية.

ومنها: إذا قلع الأعور عين الصَّحيح؛ فإنَّه لا يُقتصَّ منه، ويلزمه الدِّية كاملة، نصَّ عليه

(2)

.

ومنها: الصَّغير إذا قَتَل عمداً، وقلنا

(3)

: إنَّ له عمداً صحيحاً؛ ضوعفت عليه الدِّية في ماله.

ومنها: السَّرقة عام المجاعة، قال القاضي في «خلافه»: يتضاعف الغرم فيها من غير قطع على قول أحمد؛ لأنَّه احتجَّ في رواية الأثرم بحديث عمر في رقيق حاطب

(4)

.

ومنها: السَّرقة من الغنيمة، إذا قلنا: هي كالغلول، وإنَّ الغالَّ يُحرَم سهمَه منها على رواية

(5)

؛ فيجتمع عليه غرم ما سرقه، مع حرمان سهمه

(1)

في (أ): يتوجّه.

(2)

جاء في مسائل عبد الله (ص 419): سألت أبي عن الأعور يفقأ عين الصحيح؟ قال: (لا يستقاد منه، عليه الدية كاملة، ويروى هذا عن عثمان بن عفان).

(3)

كتب على هامش (ن): (إشارة إلى أنَّه خلاف المذهب).

(4)

أخرج مالك (38)، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن رقيقًا لحاطب رضي الله عنه سرقوا ناقة لرجل من مُزينة، فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمر عمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر:«أراك تجيعهم» ، ثم قال عمر:«والله لأغرمنك غرمًا يشق عليك» ، ثم قال للمزني:«كم ثمن ناقتك؟» فقال المزني: قد كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم، فقال عمر:«أعطه ثمانمائة درهم» .

(5)

جاء في الروايتين والوجهين (2/ 360): (نقل الأثرم وإبراهيم بن الحارث: قد قالوا: يحرم سهمه من الغنيمة ويضرب).

ص: 43

المستحَقِّ منها، وقد يكون قدر السَّرقة، وأقلَّ وأكثر.

وليس من هذه القاعدة تغليظ الدِّية بقتل ذي الرَّحم المحرم عمداً؛ لأنَّ القصاص فيه قد يكون واجباً في قتل غير الابن، وإنَّما هو لزيادة حرمة الجناية؛ فهو كالتَّضعيف بالقتل في الحرم والإحرام.

ص: 44

‌قاعدة [141]

إذا أتلف عيناً تعلَّق بها حقُّ لله

(1)

تعالى من يجب عليه حفظها واستبقاؤها إلى مدَّة معلومة

؛ لزمه ضمانها بقيمتها في ذلك الوقت، لا يوم تلفها، أو بمثلها على صفاتها في ذلك الوقت، لا يوم تلفها على أصحِّ الوجهين.

ويتخرَّج على ذلك

(2)

صور:

منها: لو ترك السَّاعي زكاة الثِّمار أمانة بيد ربِّ المال، فأتلفها قبل جفافها، أو تلفت بتفريطه؛ ضمنها بقدرها يابساً لا رطباً على الصَّحيح.

وعنه: يضمنها بمثلها رطباً.

ومنها: لو أتلف الأضحيّة أو الهدي قبل يوم النَّحر؛ فعليه ضمانه بأكثر القيمتين من يوم الإتلاف، أو يوم النَّحر.

وفيه وجه: يضمنها بقيمتها

(3)

يوم التَّلف بكلِّ حال، كما لو كان أجنبيًّا.

وفي «الكافي» : يضمنها بأكثر الأمرين من قيمتها، أو هدي

(1)

في (أ) و (هـ) و (ن): الله.

(2)

فقوله: (على ذلك) هو في (أ) و (و): ذلك على.

(3)

كتب على هامش (ن): (يحتمل أن يريد قيمتها يوم تلفها).

ص: 45

مثلها؛ لأنَّه فوت الإراقة والتَّفرقة بعد لزومهما؛ فلزمه ضمانها

(1)

، كما لو أتلف شيئين.

قال: ويشترى بالقيمة هدياً، ويحتمل: أن يتصدَّق به.

(2)

ويلتحق بهذا: ما إذا أكل المضحِّي أو المهدي ممَّا مُنع من أكله؛ فإنَّه يضمنه بمثله لحماً، نصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور

(3)

؛ لأنَّه تلزمه الإراقة والتَّفرقة، وقد أتى بأحدهما

(4)

وبقي الآخر

(5)

؛ فلزمه ضمانه.

ولو أتلفه غيره؛ فعليه قيمته؛ لأنَّه لا يلزمه الإراقة

(6)

، فلزمته القيمة، ويشتري بها مثله.

(1)

في (ب): ضمانهما.

(2)

الذي في الكافي (1/ 539)، أنه يتصدق بقيمة الهدي وليس بالهدي كما توهم عبارة المؤلف، قال ابن قدامة (ويحتمل أن يتصدق بالقيمة).

(3)

جاء في مسائل ابن منصور (5/ 2403): قلت: سئل سفيان: إن أكل منه شيئاً؟ قال: يغرم قيمة ما أكل - يعني من الفدية أو جزاء الصيد -. قال أحمد: (إذا أكل منه شيئاً فعليه البدل).

(4)

كتب على هامش (ن): (وهو الإراقة).

(5)

كتب على هامش (ن): (وهو التَّفرقة، فيلزمه ضمانه بمثله؛ لتمكن التَّفرقة الواجبة عليه).

(6)

كتب على هامش (ن): (لأنها إنما تجب على المضحي لا على الأجنبي، فإذا لم يلزمه الإراقة صار كأنه أتلف شاة لا يجب ذبحها، فيجب ضمانها بقيمتها لا بمثلها).

ص: 46

‌قاعدة [142]

ما زال من الأعيان، ثمَّ عاد بأصل الخلقة أو بصنع آدميٍّ؛ هل يحكم على العائد بحكم الأوَّل أو لا

؟

فيه خلاف يطرد في مسائل:

منها: لو قلع سنَّه، أو قطع أذنه، فأعاده في الحال، فثبت والتحم كما كان ولم يَرِح؛ فهل يحكم بطهارته، أم لا؟

نصَّ أحمد على طهارته إذا ثبت والتحم، وعلى نجاسته إذا لم يثبت

(1)

؛ فحكى القاضي المسألة على روايتين.

وفرَّق ابن أبي موسى بين أن يثبت ويلتحم، فيحكم بطهارته لعود الحياة إليه، بخلاف ما إذا لم يثبت، وهذا حسن.

فإن كان ذلك بجناية جانٍ؛ فالمنصوص: أنَّه لا قود فيه ولا دية، سوى حكومة نقصه

(2)

، واختاره أبو بكر، وبناه كثير من الأصحاب على القول بطهارته.

(1)

تُنظر الروايات عن أحمد في الروايتين والوجهين (1/ 202)، ومنها رواية الأثرم عنه: في الرجل يقتص منه من أذن أو أنف، فيأخذ المقتص منه فيعيد بحرارته فيثبت؛ هل تكون ميتة؟ فقال:(أرجو أن لا يكون به بأس).

(2)

ينظر: المحرر (2/ 129).

ص: 47

وقال القاضي: حقُّه بحاله.

فأمَّا إن اقتصَّ من الجاني فأعاده والتحم؛ فهل للمقتصِّ إبانته ثانياً أم لا؟

نصَّ أحمد في رواية ابن منصور على أنَّ له إبانته، وعلَّل بأنَّ القصاص للشَّين وقد زال الشَّين بذلك

(1)

.

وقال القاضي في «المجرَّد» : ليس له ذلك.

ومنها: لو قلع ظفر آدميٍّ، أو سنَّه، أو شعره، ثمَّ عاد، أو جنى عليه فأذهب شمَّه أو بصره، ثمَّ عاد بحاله؛ فلا ضمان بحال في المذهب؛ لأنَّ أطراف الآدميِّ لا تضمن بالإتلاف؛ إذ ليست أموالاً، وإنَّما تضمن بما نقص الجملة، ولم يوجد نقص.

ولا فرق في ذلك بين الحرِّ والعبد، صرَّح به جماعة.

ويتوجَّه التَّفريق؛ لأنَّ أعضاء الرَّقيق أموال، ولهذا يجوز بيع لبن الأمة دون الحرَّة على وجه لنا.

وقد ذكروا في الجارية المغصوبة إذا هزلت عند الغاصب، ثم سمنت؛ فهل يضمن نقصها؟ على وجهين، والأشبه بكلامه أن لا ضمان؛ لأنَّه نصَّ في رواية ابن منصور فيمن كسر خلخالاً لغيره: أنَّ عليه إصلاحه

(2)

.

وبينهما فرق؛ فإنَّ إصلاح الخلخال نوع ضمان، بخلاف عود السِّمن.

(1)

ينظر: مسائل ابن منصور (7/ 3389).

(2)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2872).

ص: 48

ولكن صرَّح صاحب «التَّلخيص» : بأنَّه لو غصب جداراً فنقضه، ثمَّ أعاده؛ فإنَّ عليه

(1)

أرش نقصه، إلَّا أنَّ هذا بناه على أنَّ الواجب الأرش؛ فالبناء عدوان؛ فلا يسقط به الواجب.

وكذلك ذكر القاضي فيما إذا باع الغاصب الدَّار المغصوبة، فنقضها المشتري، ثمَّ بناها: أنَّ على

(2)

المشتري ضمان ما بين قيمتها مبنيَّة ومنقوضة، يرجع به على الغاصب.

ومنها: نبات الحرم إذا قطعه، أو قلع غصناً من شجرة منه، ثمَّ عاد؛ ففي ضمانه وجهان.

وكذلك لو جنى على ريش طائر في الحرم أو الإحرام، ثمَّ نبت؛ فهل يضمنه؟ على وجهين؛ لتردُّد ضمان صيد الحرم ونباته وصيد المحرم بين ضمان الأموال - إذ هي أموال في الجملة- وبين ضمان الآدميِّين؛ لأنَّه

(3)

ضمان واجب لحقِّ الله تعالى.

والأشبه: أنَّ صيد الحرم ونباته ملحق بالآدميِّ

(4)

؛ لعصمته بمحلِّه

(5)

بالنِّسبة إلى جميع النَّاس، بخلاف صيد المحرم؛ فإنَّ تحريمه يختصُّ به، فهو شبيه بالأموال المملوكة الَّتي تحلُّ لمالكها دون غيره.

ومنها: لو أعاره حائطاً لوضع خشبه عليه، فسقط الجدار، ثمَّ

(1)

في (ب): فعليه.

(2)

في (أ): على أن على.

(3)

قوله: (لأنَّه) سقط من (أ).

(4)

في (أ): يلحق بالآدميين.

(5)

في (أ): بمحلَّته.

ص: 49

أعاده؛ فهل له إعادة الوضع أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما: ليس له ذلك بدون إذن؛ لأنَّ الثَّاني غير الأوَّل، فلم تتناوله الإعارة، ذكره القاضي وابن عقيل في باب العارية والصُّلح.

والثَّاني: له ذلك إن أعاده بآلته العتيقة، وإلَّا فلا، وحكي عن القاضي أيضاً، ولا أظنُّه يصحُّ عنه.

ولو كان الوضع مستحقًّا بعقد صلح؛ فله الوضع بكلِّ حال وجهاً واحداً.

ومنها: إذا أجَره داراً، فانهدم جدارها، فأعاده المؤْجر؛ فصرَّح القاضي وابن عقيل بأنَّ هذا المجدَّد لم يقع عليه العقد، وفرَّعا عليه أنَّه لا يجبر على التَّجديد.

وكذا ذكر صاحب «التَّلخيص» ، مع قوله:(إن جدَّد؛ فلا خيار له).

وحكى وجهاً بإجباره على التَّجديد، كما يجبر على التَّرميم.

ويتوجَّه التَّفريق بين أن يعاد بآلتها العتيقة أو غيرها؛ كما في الَّتي قبلها.

ومنها: مسألة الجدار المشترك إذا انهدم وأعاده أحد الشَّريكين؛ فهل يعود حقُّ شريكه فيه؟ إن أعاده بآلة جديدة؛ لم يَعُد، وإن كان بآلته العتيقة؛ فوجهان سبق ذكرهما.

ومنها: لو وصَّى له بدار، فانهدمت فأعادها؛ فالمشهور: بطلان الوصيَّة بزوال الاسم، ولا تعود بعود البناء؛ لأنَّه غير الأوَّل.

ويتوجَّه: عودها إن أعادها بآلتها القديمة.

ص: 50

وفيه وجه آخر: لا تبطل الوصيَّة بكلِّ حال، ولو لم يُعِد بناءها.

وعلى هذا؛ فهل يستحق أنقاضها الموجودة حال الوصيَّة؟ على وجهين، يرجعان إلى أنَّ الاعتبار هل هو بحال الوصيَّة أو بحال الموت؟

وهل يستحقُّ البناء المتجدِّد فيها؟ على الوجهين أيضاً.

ومنها: إذا انهدمت الكنيسة الَّتي تقرُّ في دار الإسلام؛ فهل يمكَّنون من إعادتها؟ على روايتين معروفتين، بناءً على أنَّ الإعادة هل هي استدامة أو إنشاء؟

ولو فُتح بلد عَنوةً، وفيه كنيسة منهدمة تقرُّ؛ فهل يجوز بناؤها؟ فيه طريقان:

أحدهما: المنع منه

(1)

مطلقاً.

والثَّاني: بناؤه على الخلاف في بناء المنهدمة.

(1)

في (أ): فيه. وهو سقط من (ج).

ص: 51

‌قاعدة [143]

يقوم البدل مقام المبدل، ويسدُّ مسدَّه، ويبنى حكمه على حكمه في مواضع كثيرة

، قد سبق ذكر بعضها.

ومنها: إذا مسح على الخفِّ، ثمَّ خلعه؛ فإنَّه يجزئه غسل قدميه على إحدى الرِّوايتين، ولو فاتت الموالاة؛ لأنَّ المسح كمَّل الوضوء وأتمَّه، وقام مقام غسل الرِّجلين إلى حين الخلع، فإذا وجد الخلع وتعقَّبه غسل القدمين؛ فالوضوء كالمتواصل.

وعلى هذا: لو وجد ماءً يكفي بعض أعضاء الحدث الأصغر، فاستعمله فيها، ثمَّ تيمَّم للباقي، ثمَّ وجد الماء بعد فوات الموالاة؛ لم يلزمه إلَّا غسل باقي الأعضاء، وهو ظاهر ما ذكره الشَّيخ مجد الدِّين في «شرح الهداية» ، لكنَّه بناه على سقوط الموالاة بالعذر.

ومنها: إذا افترق المتصارفان، ثمَّ وجد أحدهما بما قبضه عيباً

(1)

، وأراد الرَّدَّ، وأخذ بدله في مجلس الرَّدِّ؛ فهل ينتقض الصَّرف بذلك أم

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: من جنس ما قبضه، أمَّا لو كان من غير جنسه كالصفر في الذَّهب؛ بطل الصَّرف على المذهب، وعنه: بل يبطل في قدر العيب خاصَّة، قلت: وهو أظهر بناء على تفريق الصَّفقة).

ص: 52

لا؟ على روايتين

(1)

.

ومنها: إذا حضر الجمعة أربعون من أهل وجوبها، ثمَّ تبدَّلوا في أثناء الخطبة، أو الصَّلاة بمثلهم؛ انعقدت الجمعة، وتمَّت بهم.

ومنها: لو أبدل نصاباً من أموال الزَّكاة بنصاب من جنسه؛ بنى على حول الأوَّل على المذهب.

ولو أبدله بغير جنسه؛ استأنف إلَّا في إبدال أحد النَّقدين بالآخر؛ فإنَّ فيه روايتين

(2)

.

وخرَّج أبو الخطَّاب في «انتصاره» : روايةً بالبناء في الإبدال من غير الجنس مطلقاً.

ومنها: لو أبدل مصحفاً بمثله؛ جاز، نصَّ عليه

(3)

، بخلاف ما لو باعه بثمن.

وذكر أبو بكر في المبادلة: هل هي بيع أم لا؟ روايتين، وأنكر القاضي ذلك، وقال: (هي بيع بغير خلاف، وإنَّما أجاز أحمد إبدال المصحف بمثله؛ لأنَّه لا يدلُّ على الرَّغبة عنه، ولا على

(4)

الاستبدال به

(1)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: لا ينتقض الصَّرف إذا كان العيب من الجنس).

(2)

كتب على هامش (ن): (أصحُّهما: يبنى على حول الأوَّل).

(3)

جاء في الروايتين والوجهين (3/ 143): (نقل الأثرم أن أحمد سئل عن المصحف يدرس، فيعاوض به مصحف، فقال: المعاوضة أسهل).

(4)

في (أ): عن.

ص: 53

بعوض

(1)

دنيويٍّ، بخلاف أخذ ثمنه).

ومنها: لو أبدل جلود الأضاحيّ بما ينتفع به في البيت من آلاته؛ جاز، نصَّ عليه

(2)

؛ لأنَّ ذلك يقوم مقام الانتفاع بالجلد نفسه في متاع البيت.

ومنها: إبدال الهدي والأضاحيّ بخير منها، وهو جائز، نصَّ عليه

(3)

.

وكذلك إبدال الوقف إذا خرب، والمسجد إذا باد أهله.

وفي إبدال الوقف مع عمارته بخير منه؛ روايتان.

ومنها: لو مات ربُّ المال وهو في يد المضارب أو شريك العنان، وأراد الوارث تقريره، وأذن له في التَّصرُّف؛ جاز.

وهل هو ابتداء عقد أو استدامة؟ على وجهين ذكرهما في «التَّلخيص» وغيره، وأشار إليهما القاضي وابن عقيل.

فإن كان المال عرضاً، وقلنا: يصحُّ القراض على العرض، فلا كلام.

وإن قلنا: لا يصحُّ؛ فخرَّجها القاضي على وجهين.

(1)

في (ب) و (ج) و (و): بعرض. وفي (ن): بغرض.

(2)

كتب على هامش (ن): (وظاهر إطلاق الأصحاب: أنَّ المذهب عدم جواز ذلك).

(3)

جاء في مسائل ابن منصور (8/ 4028): (قلت: تستبدل الضحية؟ قال: نعم بخير منها).

ص: 54

قال في «التَّلخيص» : إن قلنا: هو ابتداء؛ فلا يصحُّ، وإن قلنا: تقرير؛ جاز؛ لأنَّه عرض هو اشتراه، وجنس رأس المال قد تعين من قبل؛ فيرجع إليه، بخلاف الابتداء.

وأمَّا إذا مات العامل، وأراد المالك تقرير وارثه، وكان المال عرضاً؛ فهو كالابتداء وجهاً واحداً، قاله القاضي والأكثرون.

وفرَّقوا بين موت ربِّ المال وموت العامل؛ بأنَّ ربَّ المال ترك للوارث أصلاً يبني عليه وهو المال؛ فلذلك صحَّ بناء العقد عليه، بخلاف العامل؛ فإنَّه لم يكن منه سوى العمل، وقد زال بموته؛ فلم يخلِّف لوارثه أصلاً يبني عليه.

ومنها: لو كاتبه على عرض فأدَّاه، فبان معيباً فردَّه؛ فهل يستحقُّ بدله

(1)

ولا يرتفع العتق، أم يرتفع العتق بردِّه؟ على وجهين.

وبناه بعضهم: على أنَّ الملك هل حصل بالقبض، أم يقف على الرِّضى؟

ومنها: لو اعتاض عن دين الكتابة بغير جنسه؛ فهل يعتق المكاتب؟ على وجهين

(2)

.

ومنها: أنَّ العوض هل يقوم مقام المعوَّض في البرِّ والحنث أم لا؟ على وجهين

(3)

.

(1)

كتب على هامش (ن): (جزم في «المحرَّر» بأنَّ له عوضه أو أرشه، وأنَّه لا يزول العتق، ولم يحك خلافاً).

(2)

كتب على هامش (ن): (أظهرهما: أنَّه يعتق).

(3)

كتب على هامش (ن): (قدَّم في «المحرَّر» عدم الحنث).

ص: 55

‌قاعدة [144]

فيما يقوم فيه الورثة مقام موروثهم من الحقوق

.

وهي نوعان: حقٌّ له، وحقٌّ عليه.

فأمَّا النَّوع الأوَّل؛ فما كان من حقوقه يجب بموته؛ كالدِّية والقصاص في النَّفس؛ فلا ريب في أنَّ لهم استيفاءه، وسواء قلنا: إنَّه ثابت لهم ابتداءً، أو منتقل إليهم عن مورِّثهم، ولا تؤثِّر مطالبة المقتول بذلك شيئاً على المعروف من المذهب.

ومال الشَّيخ تقيُّ الدين: إلى أنَّ مطالبته بالقصاص توجب تحتُّمه؛ فلا يتمكَّنون

(1)

بعدها من العفو

(2)

.

وما كان واجباً له في حياته؛ إن كان قد طالب به أو هو في يده؛ ثبت لهم إرثه.

فمنه: الشُّفعة إذا طالب بها، نصَّ عليه أحمد في أكثر الرِّوايات

(3)

.

(1)

في (ب): يمكنون.

(2)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 419).

(3)

نص عليه في مسائل أبي داود (ص 276)، وفي مسائل الحسن بن ثواب كما في طبقات الحنابلة (1/ 139).

ص: 56

وتوقَّف في رواية ابن القاسم، وقال: هو موضع نظر.

ومنه: حدُّ القذف، ونصَّ عليه أيضاً

(1)

، ويستوفيه الوارث لنفسه بحكم الإرث عند القاضي.

وقال ابن عقيل فيما قرأته بخطِّه: إنَّما يُستوفى للميِّت بمطالبته به ولا ينتقل.

وكذا الشُّفعة، فإنَّ ملك الوارث وإن كان طارئاً على البيع، إلَّا أنَّه مبنيٌّ على ملك موروثه.

ومنه: خيار الشَّرط، ونصَّ عليه أيضاً

(2)

.

ومنه: الدَّم، نصَّ عليه في رواية محمَّد بن موسى، والمراد به ما دون النَّفس إذا وجب له في حياته، ثمَّ مات من غير سرايته بعد طلبه.

ومنه: خيار الرُّجوع في الهبة إذا طالب به، ذكره القاضي في «خلافه» .

ومنه: الأرض الخراجيَّة الَّتي بيده؛ لأنَّ هذا حقٌّ قد أخذ به وحازه، وكذلك الموات المتحجِّر، وحقوق الاختصاصات الَّتي تحت يده كلِّها.

ومنه: حصَّة المضارَب من الرِّبح إذا قلنا: لا تملك بالظُّهور؛ فإنَّ اشتراطه لها في العقد مع عمله في المال لأجلها أبلغ من المطالبة باللَّفظ، وهذا بخلاف الغانم - إن سلَّمنا على قولنا: لا يملك حصَّته بدون التَّملُّك -؛ فإنَّه لم يجاهد للغنيمة، وإنَّما جاهد لإعلاء كلمة الله تعالى، والغنيمة تابعة.

(1)

ينظر: المحرر (1/ 276).

(2)

ينظر: المحرر (1/ 276).

ص: 57

وأمَّا إن لم يكن طالب به؛ فهو ضربان:

أحدهما

(1)

: حقوق التَّملُّكات، والحقوق الَّتي ليست ماليَّة؛ كالقصاص وحدِّ القذف؛ ففيه قولان في المذهب، أشهرهما: أنَّه لا يورَّث.

ويندرج تحت

(2)

ذلك صور:

منها: الشُّفعة؛ فلا تورَّث بدون مطالبته على المذهب، وله مأخذان أشار إليهما أحمد:

أحدهما: أنَّه حقٌّ له؛ فلا يثبت بدون مطالبته به، ولو علمت رغبته من غير مطالبة؛ لكفى في الإرث، ذكره القاضي في «خلافه» .

والثَّاني: أنَّ حقه فيها سقط بتركه وإعراضه، لا سيَّما على قولنا: إنَّها على الفور.

فعلى هذا لو كان غائباً؛ فلهم المطالبة، وليس لهم ذلك على الأوَّل.

ونقل عنه أبو الحارث: إذا مات صاحب الشُّفعة؛ فلولده أن يطلبوا الشُّفعة، تورث.

وظاهر هذا: أنَّ لهم المطالبة بها بكلِّ حال؛ فإنَّه صرَّح بنفي إرثها في رواية مهنَّى وغيره؛ فقد وقع التَّردُّد في كلامه في ثبوت الإرث فيها.

(1)

في (ب): أحدها.

(2)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): في.

ص: 58

ومنها: حقُّ الفسخ بخيار الشَّرط؛ فلا يورث بغير مطالبة، نصَّ عليه أيضاً

(1)

.

وخرَّج أبو الخطَّاب وغيره وجهاً آخر: بإرثه مطلقاً

(2)

.

ومنها: الفسخ الثَّابت بالرُّجوع في الهبة؛ فلا يثبت بدون المطالبة أيضاً، صرَّح به القاضي.

وظاهر كلام أبي الخطَّاب تخريج الخلاف فيه.

وعن أحمد في الهبة المخصَّص بها بعض الولد: إذا مات الواهب قبل التَّعديل والرُّجوع؛ هل للورثة الرُّجوع أم لا؟ روايتان.

مأخذهما: أنَّ رجوع الوالد في هذه الهبة؛ هل هو من باب الرُّجوع في الهبة الثَّابت للوالد دون غيره، فلا يقوم غيره فيه مقامه، أو هو ثابت لاستدراك الظُّلم والجور؟

وعلى هذا؛ فهل هو مأمور به لحقِّ نفسه حيث ظلم واعتدى فأمر بالتَّعديل، فإذا لم يفعله سقط، أو هو مأمور به لحقِّ بقيَّة الأولاد المظلومين، فيثبت لهم الرَّدُّ إذا تعذَّر الرَّدُّ من جهته؟

(1)

ينظر: المحرر (1/ 276).

(2)

كتب على هامش (ن): (وخيار الرُّجوع في عينٍ بيعت على من حُكم بفلسه تورث أيضاً على الأصح، وإذا مات وله مال بشاهد واحد؛ فلوارثه أن يحلف مع الشَّاهد ويستحقُّ المال كما كان المورِّث يحلف معه، ذكرها الخرقيُّ في «الأقضية»).

ص: 59

ومنها: حدُّ القذف؛ فلا يورث بدون المطالبة أيضاً، نصَّ عليه

(1)

.

وخرَّج أبو الخطَّاب فيه وجهاً: بالإرث مطلقاً.

ومنها: القصاص فيما دون النَّفس، وظاهر كلام أحمد كما قدَّمنا: أنَّه يسقط بدون الطَّلب.

وظاهر كلام القاضي والأكثرين: أنَّه يستوفى؛ وعلَّلوا: بأنَّه يسقط إلى مال؛ فهو كخيار الرَّدِّ بالعيب.

ومنها: خيار قبول الوصيَّة، والمنصوص عن أحمد: أنَّ الوصيَّة تبطل بموت الموصى له قبل وصولها إليه، كذلك نقله عنه ابن منصور وغيره

(2)

، وهو اختيار القاضي والأكثرين إذا مات قبل القبول.

وقال الخرقيُّ: يثبت الخيار بين القبول والرَّدِّ لورثة الموصى له؛ لأنَّ الوصيَّة لزمت بموت الموصي

(3)

؛ فهي كالمملوكة.

ونقل صالح عن أبيه: إذا أوصَى

(4)

لقرابته أو أهل بيته، ثمَّ مات

(1)

ينظر: المحرر (1/ 276).

(2)

جاء في مسائل ابن منصور (8/ 4277): (قلت: رجل وهب لرجل هبة، أو أوصى له بوصية وهو غائب، فمات الموصى له قبل الذي أوصى؟ قال أحمد رضي الله عنه: إذا كانت مع رسول المتصدق عليه أو الموهوب له؛ فهي له، وإذا كان بعث بها هذا فلم يصل إلى ذاك حتى مات؛ فهي للموصي، وإذا مات الموصي قبل أن يبلغ إلى الموصى له فهو لورثة الموصي، ولا يرجع إلى الموصي إذا كانت مع رسول الموصى له. قال أحمد رضي الله عنه: الهبة والوصية واحدة). وينظر: مسائل عبدالله (ص 389).

(3)

في (أ): الموصي له.

(4)

في (ب) وباقي النسخ: وصى.

ص: 60

بعضهم بعد الميِّت وقبل القسمة؛ قد وجبت الوصيَّة لكلِّ من أوصى له إذا كان حيًّا يوم أوصى له.

(1)

قال الشَّيخ مجد الدِّين: (وهذا نصٌّ بما قاله الخرقيُّ).

وليس بنصٍّ فيه؛ لاحتمال أن يكون أثبت ملكها بمجرَّد الموت من غير قبول، أو بالقبول؛ فليس في النَّصِّ ما ينفيه صريحاً، ورواية ابن منصور بالبطلان لم يتعرَّض فيها للقبول، بل للقبض.

الضَّرب الثَّاني: حقوق أملاك ثابتة متعلِّقة بالأموال الموروثة، فتنتقل إلى الورثة بانتقال الأموال المتعلِّقة بها بدون المطالبة، بخلاف الضَّرب الأوَّل، فإنَّ الحقوق فيه من حقوق المالكين، لا من حقوق الأملاك، ولهذا لا تجب الشُّفعة عندنا لكافر على مسلم؛ لأنَّه ليس من أهل الاستحقاق على المسلم.

ومن صور ذلك: الرَّهن، فإذا مات وله دين برهن؛ انتقل برهنه إلى الورثة.

ومنها: الكفيل، وهو كالرَّهن؛ لأنَّه توثقة؛ فهو كالشَّهادة.

وعلَّله القاضي: بأنَّه يستوفى منه المال؛ فهو كالرَّهن؛ فالضَّابط عنده: أنَّ ما فيه مال؛ ينتقل إلى الورثة، وما لا فلا.

ومنها: الضَّمان، فإذا مات وله دين به ضامن؛ انتقل إلى الورثة مضموناً، بخلاف ما إذا أحال به ربُّ الدَّين في حياته

(2)

؛ فإنَّه ينفسخ

(1)

ينظر: مسائل صالح (2/ 277).

(2)

كتب على هامش (ن): (أو أحيل به، أو زال العقد، كما في «الفروع»).

ص: 61

الضَّمان بالحوالة، نصَّ عليه أحمد في رواية مهنَّى

(1)

؛ لأنَّ الأجنبيَّ ليس بخليفةٍ لربِّ الدَّين؛ فلا ينتقل إليه بحقوقه، بخلاف الوارث

(2)

.

ومنها: الأجل؛ فلا يحلُّ الدَّين المؤجَّل إذا وثَّقه الورثة برهن أو كفيل في أشهر الرِّوايتين.

ومنها: الرَّدُّ بالعيب، وقد تردَّد القاضي في «خلافه»: هل هو ثابت للورثة ابتداءً، أو بطريق الإرث؟ والمشهور: أنَّه إرث؛ لأنَّ الرَّدَّ إنَّما يثبت لمن كان العقد له، والخيار الثَّابت بفوات الصِّفة المشترطة في العقد مثله، ذكره القاضي أيضاً معلِّلًا: بأنَّه يستحقُّ به الأرش.

وذكر القاضي في كتاب «التَّخريج» : أنَّه

(3)

من باع سلعةً إلى أجل،

(1)

كتب على هامش (ن): (وفي «الرِّعاية» احتمال وجهين).

(2)

كتب على هامش (ن): (فأمَّا لو أقرَّ ربُّ الدَّين بالدَّين لغيره؛ فالظَّاهر أنَّه كالحوالة له به، ولا أعلم فيها نقلًا، ولكنَّ الضَّمان كان حقًّا للمقرِّ بسبب الدَّين الَّذي له، فلمَّا زال استحقاقه له لا إلى من هو خليفة له أشبه انتقاله إلى المحال به، ويحتمل أنَّه كالوارث؛ كأحد الوجهين فيمن ادَّعى حوالة مال على غريم فصدَّقه، أنَّه يلزمه الدَّفع إليه، كما لو ادَّعى أنَّه وارثه فصدَّقه، ولو أحيل على دين به ضامن أو رهن؛ فهل يبطل الضَّمان والرَّهن، أو ينتقل إلى المحتال بهما؟ الظاهر الأول؛ لأنَّ الحوالة بالدَّين كاستيفائه ممَّن هو في جهته، واستيفاؤه منه يبطل به الضَّمان والرَّهن، فكذلك الحوالة عليه).

(3)

في (ب) و (ج) و (هـ) و (ن): أنَّ.

ص: 62

ثمَّ مات المشتري، فاشتراها البائع من وارثه بأقلَّ من الثَّمن؛ لم يجز؛ لأنَّ الوارث يملكها على حكم ملك الميِّت، بدليل أنَّه يردُّها على بائعها بالعيب؛ فصار الشِّراء منه كالشِّراء من الموروث.

وهذا غريب، وهو يشبه الوجه الَّذي حكاه ابن عقيل في بناء الوارث على حول الموروث في الزَّكاة.

النَّوع الثَّاني: الحقوق الَّتي على الموروث:

فإن كانت لازمةً؛ قام الوارث مقامه في إيفائها.

وإن كانت جائزةً، فإن بطلت بالموت؛ فلا كلام.

وإن لم تبطل؛ فالوارث قائم مقامه في إمضائها وردِّها.

ويخرَّج على ذلك مسائل:

منها: إذا مات وعليه ديون، أو وصَّى بوصايا؛ فللورثة تنفيذها إذا لم يعيِّن وصيًّا

(1)

.

ومنها: إذا مات وعليه عبادة واجبة تفعل عنه بعد موته؛ كالحجِّ والمنذورات؛ فإن الورثة يفعلونها عنه، ويجب عليهم ذلك إن كان له مال، وإلَّا فلا.

(1)

كتب على هامش (ن): (ومنها: إذا كان له جارية لا زوج لها، ولها ابن، فأقرَّ في مرض موته أنَّه كان استولدها ذلك الابن، ثمَّ مات ولم يبيِّن كيفيَّة استيلادها إيَّاه، هل كان في ملكه أو تزوَّجته أو بشبهة في ملك غيره؟ وله وارث يحوز تركته، قام مقامه في كيفيَّة استيلادها، فإن لم يعرف الوارث ذلك أو لم يكن له وارث؛ فهل يحكم بأنَّها أم ولده تعتق بموته؟ على وجهين، ذكر ذلك في «المستوعب» في باب من يصحُّ إقراره).

ص: 63

ولو فعلها عنه أجنبيٌّ بدون إذنهم؛ ففي الإجزاء وجهان.

وكذلك الكفَّارات الواجبة بالمال، قال في «المغني»: إن أعتق فيها الأجنبيُّ؛ لم يصحَّ، وإن أعتق الوارث؛ صحَّ؛ لأنَّه قائم مقام الموروث في ماله وأداء واجباته.

وفي «البلغة» : إن كان له مال؛ صحَّ عتقه عنه، وإن لم يكن له

(1)

مال؛ لم يصحَّ عتقه عنه

(2)

، وصحَّ إطعامه عنه، وأمَّا الأجنبيُّ؛ فلا يصحُّ عتقه عنه، وفي صحَّة إطعامه عنه وجهان.

ولو مات من أوجب أضحية قبل ذبحها؛ فالوارث يقوم مقامه في الذَّبح.

تنبيه:

كثير من الأصحاب يطلق ذكر الوارث هنا.

وقال ابن عقيل وغيره: الأقرب فالأقرب، وكذلك قال الخرقيُّ: هو الوارث من العصبة.

فأمَّا الوارث للشُّفعة؛ فيدخل فيه العصبات، وذوو الفروض، والرَّحم.

(1)

قوله: (له) سقط من (أ).

(2)

كتب على هامش (ن): (قد يقال في توجيهه؛ لأنَّ العتق لم يلزمه، ولا ورد العتق عن المعسر في كفَّارته، بخلاف الإطعام فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قد أعطى الَّذي أفسد صومه ما يطعم عن نفسه).

ص: 64

وأمَّا الوارث لحدِّ

(1)

القذف؛ فكذلك على المنصوص.

وقيل: يختصُّ بالعصبة.

وقيل: من عدا الزَّوجين من الورثة.

ومنها: إذا مات الرَّاهن قبل إقباض الرَّهن الَّذي لا يلزم بدون قبض؛ فوارثه قائم مقامه في اختيار التَّقبيض والامتناع، ذكره القاضي والأصحاب

(2)

، وقالوا: هو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور وأبي طالب؛ لأنَّه عقد يؤول إلى اللُّزوم؛ فلا يبطل بالموت؛ كالمبيع في مدَّة الخيار

(3)

، بخلاف الشركة والمضاربة، مع أنَّ في المضاربة خلافاً سبق.

ومنها: إذا مات الواهب قبل لزوم الهبة بالقبض؛ ففيه وجهان:

أحدهما: يقوم وارثه مقامه في ذلك؛ كالرَّهن، قاله أبو الخطَّاب.

والثَّاني: يبطل، وهو المنصوص في رواية ابن منصور

(4)

، واختيار ابن أبي موسى، وقاله القاضي وابن عقيل في الهبة في الصِّحَّة، وأمَّا

(1)

في (أ): بحدِّ.

(2)

قوله: (القاضي والأصحاب) هو في (ب) وباقي النسخ: الأصحاب.

(3)

كتب على هامش (ن): (الهبة عقد يؤول إلى اللُّزوم، وسيأتي ما فيها من الخلاف، وقد يفرَّق: بأنَّ الهبة عقد ينقل الملك، أشبه البيع في مدَّة الخيار، وفيه نظر؛ لأنَّ المنصوص في الهبة البطلان، بخلاف البيع في مدَّة الخيار).

(4)

ينظر: مسائل ابن منصور (8/ 4277).

ص: 65

الهبة في المرض إذا مات قبل إقباضها؛ فجعلا الورثة فيها بالخيار؛ لشبهها بالوصيَّة.

ص: 66

‌قاعدة [145]

المعتدَّة البائن في حكم الزَّوجات في مسائل

.

منها: أنَّ المبتوتة في مرض الموت ترث في العدَّة دون ما بعدها على إحدى الرِّوايتين؛ لأنَّ الطَّلاق مانع من الإرث، فلمَّا قصد به

(1)

الفرار من الحقِّ المنعقد سببه؛ ضعف منعه، فلم يعمل في المنع ما دامت عُلَق الزَّوجيَّة باقية.

ومنها: تحريم نكاح الأخت في عدَّة أختها البائن، والخامسة في عدَّة الرَّابعة؛ تنزيلاً لحالة العدَّة منزلة حالة النِّكاح.

ومنها: أنَّ العدَّتين من رجلين

(2)

لا يتداخلان، فإذا وُطئت البائن بشبهة في عدَّتها؛ أتمَّت عدَّة الأوَّل، واستأنفت العدَّة للثَّاني على المذهب؛ فلا تكون محبوسة على رجلين في عدَّة واحدة، كما لا تحبس عليهما في نكاح واحد.

وإن كان الواطئ بشبهة هو الزَّوج؛ تداخلت العدَّتان

(3)

؛ لأنَّهما من

(1)

قوله: (به) سقط من (أ).

(2)

في (ب) و (ج): رجل.

(3)

كتب على هامش (ن): (معنى: «تداخلهما معاً» أنَّها تستأنف عدَّة للوطئ الطَّارئ، وتدخل فيها بقيَّة العدَّة الأولى).

ص: 67

رجل واحد

(1)

، إلَّا أن تحمل من أحد الوطأين؛ ففي التَّداخل وجهان؛ لكون العدَّتين من جنسين.

وذكر أبو بكر فيما إذا وُطئت زوجة الطِّفل، ثمَّ مات عنها، ثمَّ وضعت قبل تمام عدَّة الوفاة: أنَّها لا تحلُّ حتَّى تكمل عدَّة الوفاة.

قال الشَّيخ مجد الدِّين: وظاهر هذا تداخل العدَّتين

(2)

.

ومنها: لو طلَّق المدخول بها طلاقاً بائناً، ثمَّ نكحها في العدَّة، ثمَّ طلَّقها قبل الدُّخول؛ ففيها طريقان:

أحدهما: أنَّها على الرِّوايتين في الرَّجعيَّة إذا روجعت، ثمَّ طلِّقت في العدَّة قبل الإصابة؛ هل تبني، أو تستأنف؟ وهو المذكور في «المجرَّد» ، و «الفصول» ، و «المحرَّر» .

والثَّاني: تبني هنا روايةً واحدةً، وهو ما في تعليق القاضي، و «عمد الأدلَّة» ؛ لانقطاع النِّكاح الثَّاني عن الأوَّل بالبينونة، بخلاف الرَّجعة.

ومنها: لو مات مسلم وزوجته ذمِّيَّة، فأسلمت في العدَّة قبل قسمة

(1)

كتب على هامش (ن): (أمَّا لو وطئها زوجها بزنًى؛ فلا تداخل، بل تتم الأولى، وتستأنف الثَّانية).

(2)

كتب على هامش (ن): (إذ لولا تداخلهما؛ لقال: حتَّى تستأنف عدَّة الوفاة، فلمَّا قال: حتَّى تكمل عدَّة الوفاة؛ دلَّ على أنَّ ما مضى في مدَّة الحمل بعد الوفاة محسوب من عدَّتها فتكمِّله، وإنَّما قال: وظاهر هذا، ولم يجزم به؛ لأنَّه يحتمل أن يريد حتَّى تستأنف عدَّة الوفاة بعد الوضع، وتكملها، فلمَّا كان هذا محتملاً في كلامه، وكان الظَّاهر خلافه قال: وظاهر هذا تداخل العدَّتين، وهو كما قال).

ص: 68

ميراثه؛ فنصَّ أحمد في رواية البرزاطيِّ: على أنَّها ترث ما لم تنقضِ عدَّتها.

وعلى هذا، فلو أسلمت المرأة أوَّلاً، ثمَّ ماتت في مدَّة

(1)

العدَّة؛ لم يرثها زوجها الكافر ولو أسلم قبل القسمة؛ لانقطاع عُلَق الزَّوجيَّة

(2)

عنه بموتها.

وحكى القاضي عن أبي بكر: أنَّ الزَّوجين لا يتوارثان بالإسلام قبل القسمة بحال، قال: وظاهر كلام الأصحاب خلافه، وأنَّه لا فرق في ذلك بين الزَّوجين وغيرهما؛ كما يرث الزَّوجان من الدِّية، سواء قيل بحدوثها على ملكهم، أو على ملك الموروث، ولم يذكر القاضي المنصوص عن أحمد.

أمَّا نفقة البائن، فإن كانت بفسخ أو طلاق؛ فلها النَّفقة والسُّكنى مع الحمل، وإلَّا فلا، هذا ظاهر المذهب؛ لأنَّ النَّفقة في مقابلة التَّمكُّن من الاستمتاع، ولهذا لم تجب قبل التَّسليم ولا مع النُّشوز.

وعنه: لها السُّكنى خاصَّة إذا لم تكن حاملاً.

وعنه: لها النَّفقة والسُّكنى، حكاها ابن الزَّاغونيِّ وغيره.

(3)

(1)

قوله: (مدَّة) سقط من (ب) و (ج) و (ن).

(2)

كتب على هامش (ن): (عُلَق الزَّوجيَّة هنا هي العدَّة، وقد انقطعت بموت المرأة).

(3)

زاد في (ج): (وقيل: هي كالزَّوجة، يجوز لها الخروج والتَّحوُّل بإذن الزوج مطلقاً). وهذه العبارة خطأ، فهي مرتبطة بآخر فرع من فروع القاعدة الآتية.

ص: 69

‌قاعدة [146]

تفارق المطلَّقة الرَّجعيَّة الزَّوجات في صور:

منها: أنَّ في إباحتها في مدَّة

(1)

العدَّة روايتين

(2)

، وعلى رواية التَّحريم؛ فهل يجب لها المهر بالوطء؟ على وجهين.

ومنها: أنَّ طلاقها في مدَّة العدَّة طلاق بدعة على أصحِّ الرِّوايتين.

ومنها: أنَّ الإيلاء منها هل يصحُّ؟ على روايتين

(3)

.

ومنها: هل يصحُّ اختيارها لزوجها إذا عتقت تحت عبد؟ على وجهين.

ومنها: لو نكحت المطلَّقة ثلاثاً زوجاً آخر، فخلا بها، ثمَّ طلَّقها - وقلنا: يجب عليها العدَّة بالخلوة وثبتت الرَّجعة، وهو ظاهر

(4)

المذهب -، ثمَّ وطئها في مدَّة العدَّة؛ فهل يحلُّها لزوجها الأوَّل؟ على وجهين حكاهما صاحب «التَّرغيب» .

(1)

قوله: (مدَّة) سقط من (أ).

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: هل هي محرَّمة بمعنى أنَّ الطَّلاق الرَّجعيَّ قطع النِّكاح أم مباحة؟).

(3)

هذه الفرع في (ب) بعد قوله: (على وجهين) في الفرع التالي.

(4)

قوله: (ظاهر) سقط من (ب).

ص: 70

ومنها: إذا عَلِقَت الرَّجعيَّة في مدَّة العدَّة بولد؛ فهل يلحق بمطلِّقها أم لا؟ على روايتين.

ومنها: أنَّ المعتدَّة من أجنبيٍّ من طفلها؛ هل تعود إلى حضانته

(1)

في مدَّة الرَّجعة، أم لا تعود حتَّى تنقضي عدَّتها؟ على وجهين.

ومنها: لو مات زوج الرَّجعيَّة؛ فهل تنتقل إلى عدَّة الوفاة، أو تعتدُّ بأطولهما؟ على روايتين.

ومنها: أنَّ الرَّجعيَّة يجب عليها لزوم منزلها لحقِّ الله عز وجل؛ كالمتوفَّى عنها، نصَّ عليه أحمد في رواية أبي داود

(2)

، وذكره القاضي في «خلافه» وصاحب «المحرَّر» .

وقيل: هي كالزَّوجة، يجوز لها الخروج والتَّحوُّل بإذن الزَّوج مطلقاً

(3)

.

(1)

في (ب) و (ج) و (هـ): حضانتها. وزاد في (ب) و (ج): منه.

(2)

ينظر: مسائل أبي داود (ص 252).

(3)

كتب على هامش (ن): (ومن فروع هذه القاعدة مسألة؛ ولم أجدها منقولة، وهي أنَّ المسافر إذا مرَّ ببلد له به زوجة رجعيَّة؛ فهل يُتِم كما لو لم تكن مطلَّقة، أو يقصر كما لو لم تكن له زوجة به؟ يحتمل أيضاً وجهين).

ص: 71

‌قاعدة [147]

أحكام النِّساء على النِّصف من أحكام الرِّجال، في مواضع

.

منها: الميراث.

ومنها: الدِّية.

ومنها: العقيقة؛ عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة.

ومنها: الشَّهادة.

ومنها: العتق؛ فيعدل عتق امرأتين بعتق رجل في الفكاك من النَّار؛ كما دلَّ عليه الحديث

(1)

.

وحكى ابن أبي موسى في المسألة روايتين:

إحداهما: كذلك.

(1)

في (أ): دلَّت عليه الأحاديث.

والحديث أخرجه أحمد (18061)، وأبو داود (3967)، والترمذي (1547)، وابن ماجه (2522)، من طريق شرحبيل بن السِّمط، عن كعب بن مرة أو مرة بن كعب مرفوعًا:«من أعتق امرأً مسلمًا؛ كان فِكاكه من النار، يجزئ كل عظم منه بكل عظم منه، ومن أعتق امرأتين مسلمتين، كانتا فِكاكه من النار، يجزئ بكل عظمين منهما عظمٌ منه» ، قال الترمذي:(هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه)، وصححه الألباني.

ص: 72

والثَّانية -وجعلها المذهب-: أنَّ عتق العبد والأمة

(1)

في ذلك سواء.

ومنها: عطيَّة الأولاد في الحياة، فإنَّ المشروع عندنا أن يكون على سبيل الميراث، خلافاً لابن عقيل.

ومنها: الصَّلاة، فإنَّ المرأة تسقط عنها الصَّلاة أيَّام الحيض، وأكثر الحيض على ظاهر المذهب خمسة عشر يوماً، وهو نصف الشَّهر.

(1)

في (أ): الأمة والعبد.

ص: 73

‌قاعدة [148]

من أدلى بوارث، وقام مقامه في استحقاق إرثه؛ سقط به

.

وإن أدلى به، ولم يرث ميراثه؛ لم يسقط به.

ويتخرَّج على ذلك مسألتان:

إحداهما: ولد الأمِّ يدلون بالأمِّ ويرثون معها؛ لأنَّهم يرثون بالأخوَّة، لا بالأمومة.

والثَّانية: الجدة أمُّ الأب ترث مع ابنها الأب على ظاهر المذهب؛ لأنَّها ترث ميراث جدَّة، لا ميراث جدٍّ.

ص: 74

‌قاعدة [149]

الحقُّ الثَّابت لمعيَّن يخالف الثَّابت لغير معيَّن في أحكام

.

منها: من له وارث معيَّن؛ ليس له أن يوصي بأكثر من ثُلثه، ومن لا وارث له من ذي فرض ولا عصبة ولا رحم؛ هل له أن يوصي بماله كلِّه؟ على روايتين.

فمن الأصحاب من بناهما على هذه القاعدة.

ومنهم من بناهما على أنَّ بيت المال؛ هل هو عصبة وارث أم لا؟

ويتعلَّق بهذا: إذا أقرَّ الإمام بنسبِ مَن لا يُعلم له وارث معيَّن، قال القاضي وابن عقيل: يثبت نسبه؛ لأنَّ المال للمسلمين، والإمام نائبهم، وهذا كأنَّه تفريع على القول بتوريث بيت المال.

ويتوجَّه مثل ذلك في إجازة الإمام وصيَّة من وصى بكلِّ ماله، وقلنا: لا تجوز له الزِّيادة على الثُّلث.

وذكر الأصحاب: أنَّ من قُتل ولا وارث له؛ فللإمام العفو عن قاتله إلى الدِّية، وليس له العفو مجَّاناً؛ لأنَّه كتوريث القاتل.

وهل له أن يقتصَّ؟ على وجهين قد سبق ذكر مأخذهما.

(1)

(1)

ينظر القاعدة 106 ص ....

ص: 75

ومنها: الأموال الَّتي يُجهل ربُّها؛ يجوز التَّصدُّق بها، بخلاف من

(1)

علم ربُّها، وقد سبق من ذلك صور عديدة.

(2)

ومنها: إذا مات من لا وارث له، وعليه دين مؤجَّل؛ فهل يحلُّ

(3)

؟

قال القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل، وصاحب «المغني»: يحلُّ؛ لأنَّ الأجل يستحقُّه الوارث، وقد عدم هنا.

وذكر القاضي في «خلافه» احتمالين؛ لأنَّ له وارثاً، لكنَّه غير معيَّن.

وقد يتخرَّج على هذا: ما إذا مات المستأجر

(4)

ولا وارث له؛ هل تنفسخ الإجارة أم لا؟

فإنَّ أحمد نصَّ فيمن اكترى بعيراً ليحجَّ عليه، فمات في بعض الطَّريق، فإن عاد البعير خالياً؛ فعليه بقدر ما وجب له

(5)

.

ووجَّهه صاحب «المغني» وغيره: بأنَّه تعذَّر انتفاعه في بقيَّة المدَّة، وليس له وارث يستوفي المنفعة؛ فانفسخت الإجارة بذلك.

وصرَّح الأصحاب: بأنَّ الإمام يأخذ بالشُّفعة إذا مات من لا وارث له بعد المطالبة بها.

(1)

في (ب) و (ج) و (هـ) و (ن): ما.

(2)

ينظر القاعدة 97 ص ....

(3)

في (ب): وله دين؛ فهل يحل.

(4)

في (ب): المؤجر.

(5)

ذكر في معونة أولي النهى (6/ 185) أنها من رواية حنبل عن الإمام أحمد.

ص: 76

وفي «عمد الأدلَّة» لابن عقيل: أنَّ حدَّ القذف كذلك في قياس المذهب.

ومنها: أنَّ المال المستحَقَّ لغير معيَّن؛ كالزَّكاة؛ لا يقف أداؤه على مطالبتهم، ولا على مطالبة وكيلهم وهو الإمام، ولهذا لا تسقط الزَّكاة عندنا بتلف النِّصاب قبل التَّمكُّن من الأداء، بخلاف المستحَقِّ لمعيَّن؛ فإنَّه لا يجب الأداء إليه بدون مطالبته.

ص: 77

‌قاعدة [150]

تعتبر الأسباب في عقود التَّمليكات كما تعتبر في الأيمان

.

ويتخرَّج على هذا مسائل متعدِّدة:

منها: مسائل العينة.

ومنها: هديَّة المقترض قبل الوفاء؛ فإنَّه لا يجوز قبولها ممَّن لم تجر منه عادة.

ومنها: هديَّة المشركين لأمير الجيش؛ فإنَّه لا يختصُّ بها على المذهب، بل هي غنيمة أو فيء، على اختلاف الأصحاب.

ومنها: هدايا العمَّال، قال أحمد في رواية أبي طالب في الهدايا الَّتي تُهدى للأمير فيعطى منها الرَّجل؛ قال: هذا هو

(1)

الغلول، ومنع الأصحاب من قبول القاضي هدية من لم تجر العادة بهديَّته له قبل ولايته.

ومنها: هبة المرأة زوجها صداقها إذا سألها ذلك؛ فإنَّ سببها طلب استدامة النِّكاح، فإن طلَّقها؛ فلها الرُّجوع فيها، نصَّ عليه في رواية عبد الله

(2)

.

(1)

قوله: (هو) سقط من (أ) وباقي النسخ.

(2)

ينظر: مسائل عبد الله (ص 373).

ص: 78

ومنها: الهديَّة لمن شفع له شفاعة عند السُّلطان

(1)

ونحوه؛ فلا يجوز، ذكره القاضي، وأومأ إليه أحمد؛ لأنَّها كالأجرة، والشَّفاعة من المصالح العامَّة؛ فلا يجوز أخذ

(2)

الأجرة عليها، وفيه حديث صريح في «السُّنن»

(3)

.

ونصَّ أحمد في رواية صالح فيمن عنده وديعة فأدَّاها، فأهديت له هديَّة: أنَّه لا يقبلها إلَّا بنيَّة المكافأة.

وحكم الهديَّة عند أداء سائر الأمانات حكم الوديعة.

ومنها: ما نصَّ عليه أحمد في رواية ابن ماهان فيمن اشترى لحماً، ثمَّ استزاد البائع، فزاده، ثمَّ ردَّ اللَّحم بعيب؛ فالزِّيادة لصاحب اللَّحم؛ لأنَّها أخذت بسبب العقد؛ فجعلها تابعة للعقد في الرَّدِّ؛ لأنَّها مأخوذة بسببه؛ وإن كانت غير لاحقة به.

وتأوَّلها القاضي على أنَّها كانت

(4)

مأخوذة في المجلس فلحقت بالعقد.

وخرَّج ابن عقيل منها رواية: بلحوق الزِّيادة بعد لزوم العقد، ولا حاجة إلى ذلك.

(1)

في (ب) و (د) و (و): سلطان.

(2)

قوله: (أخذ) سقط من (أ).

(3)

أخرجه أحمد (22251)، وأبو داود (3541)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من شفع لأخيه بشفاعة، فأهدى له هدية عليها، فقبلها؛ فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا» .

(4)

في (أ) و (و): إن كانت.

ص: 79

ومنها: ما نقله الأثرم عن أحمد في المولى يتزوَّج العربيَّة: يفرَّق بينهما، وإن كان دفع إليها بعض المهر ولم يدخل بها؛ ترادُّوا، وإن أهدى هديَّة؛ يردُّونها عليه.

قال القاضي في «الجامع» : (لأنَّ شاهد الحال يدلُّ على أنَّه وهب لها بشرط بقاء العقد، فإذا زال ملك الرُّجوع بها؛ كالهبة بشرط الثَّواب) انتهى.

وهذا في الفرقة القهريَّة لفقد الكفاءة ونحوها ظاهر، وكذلك الفرقة الاختياريَّة المسقطة للمهر.

فأمَّا الفسخ المقرِّر للمهر أو نصفه؛ فتثبت معه الهديَّة.

فأمَّا إن كانت العطيَّة لغير المتعاقدين بسبب العقد؛ كأجرة الدَّلَّال ونحوها؛ ففي «النَّظريات» لابن عقيل: (إن فُسِخ البيع بإقالة ونحوها ممَّا يقف على التَّراضي؛ فلا تردُّ الأجرة، وإن فسخ بخيار أو عيب؛ رُدَّت؛ لأنَّ البيع وقع متردِّداً

(1)

بين اللُّزوم وعدمه) انتهى.

وقياسه في النِّكاح: أنَّه إن فسخ لفقد الكفاءة أو لعيب؛ رُدَّت، وإن فسخ لردَّة أو رضاع أو مخالعة؛ لم تردَّ.

(1)

في (ب): مردوداً. وفي (ج): مردَّداً.

ص: 80

‌قاعدة [151]

دلالة الأحوال تختلف بها دلالة الأقوال في قبول دعوى ما يوافقها ورد ما يخالفها، ويترتَّب عليها الأحكام بمجرَّدها

.

ويتخرَّج عليها

(1)

مسائل:

منها: كنايات الطَّلاق في حالة الغضب والخصومة؛ لا تقبل دعوى إرادة غير الطَّلاق بها.

ومنها: كنايات القذف، وحكمها كذلك على الصَّحيح، حتَّى إنَّ ابن عقيل جعلها مع دلالة الحال صرائح.

ومنها: لو تلفَّظ الأسير بكلمة الكفر، ثمَّ ادَّعى أنَّه كان مكرهاً؛ فالقول قوله؛ لأنَّ الأسر دليل الإكراه والتَّقيَّة.

ومنها: لو أتى الكافر بالشَّهادتين على طريق الاستهزاء أو الحكاية، وقال: لم أرد الإسلام، مع دلالة الحال على صدقه؛ فهل يقبل منه؟ على روايتين حكاهما القاضي في روايتيه.

ويتخرَّج عليهما: لو أقرَّ بمال في هذه الحال، وأفتى جماعة بلزوم ما أقرَّ به.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): عليه.

ص: 81

ومنها: لو أقرَّ المحبوس أو المضروب عدواناً، ثمَّ ادَّعى الإكراه؛ قُبل قوله، نصَّ عليه.

ولو أُحضر إلى السُّلطان

(1)

فأقرَّ، ثمَّ ادَّعى أنَّه دهش ولم يعقل ما أقرَّ به؛ لم يقبل، نصَّ عليه أيضاً.

ويتخرَّج قبوله إذا ظهرت منه أمارة ذلك من لجلجة في الكلام ورعدة ونحوها.

ومنها: لو دخل حربيٌّ إلينا ومعه سلاح، فادَّعى أنَّه جاء مستأمناً؛ لم يقبل قوله، وإن لم يكن معه سلاح؛ قُبل، نصَّ عليه

(2)

.

وكذلك لو جاء بعض عسكرنا بحربيٍّ وادَّعى أنَّه أسره، وقال: بل أمَّنني؛ ففيه روايتان، وثالثة: أنَّ القول قول من يدلُّ الحال على صدقه؛ لضعفه أو قوَّته.

ومنها: لو جاء المكاتبُ سيِّدَه بتمام كتابته، فقبضها السَّيِّد، ثمَّ قال له: أنت حرٌّ، ثمَّ بان المال مستحَقًّا، وقال السَّيِّد: إنَّما أردت الإخبار بعتقه بالأداء، لم أرد تنجيز عتقه؛ فالقول قوله، ذكره القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل.

وقد نصَّ أحمد في رواية المروذيِّ في رجل قال لامرأته: إن خرجت؛ فأنت طالق. فاستعارت امرأة ثيابها، فلبستها، فأبصرها

(3)

(1)

(ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): سلطان.

(2)

ينظر مسائل أبي داود (ص 234).

(3)

في (ب): فرآها.

ص: 82

زوجها حين خرجت من الباب؛ فقال: قد فعلت أنت طالق؛ قال: يقع طلاقه على امرأته.

فنصَّ على وقوع طلاقه على امرأته

(1)

، مع أنَّ الظَّاهر أنَّه أراد الإخبار بوقوع طلاقها المحلوف به على خروجها، ولم يديِّنه في ذلك.

وأيضاً؛ فلو قيل: إنَّه قصد إنشاء الطَّلاق؛ فإنَّما أوقعه عليها لخروجها الَّذي منعها منه، ولم يكن موجوداً، وهذا يشهد لقول القاضي فيما إذا قال لزوجته: أنت طالق أن دخلت الدَّار- بفتح الهمزة-؛ أنَّها تطلق مطلقاً، سواء كانت قد دخلت أو لم تدخل، خلافاً لما ذكره ابن أبي موسى: أنَّها لا تطلق إذا لم تكن دخلت من قبل؛ لأنَّه إنَّما طلَّقها لعلَّة؛ فلا يثبت الطَّلاق بدونها.

ولذلك أفتى ابن عقيل في «فنونه» فيمن قيل له: قد زنت زوجتك، فقال: هي طالق، ثمَّ تبيَّن أنَّها لم تكن زنت؛ أنَّها لا تطلق، وجعل السَّبب كالشَّرط اللَّفظيِّ، وهو قول عطاء بن أبي رباح

(2)

.

ومنها: لو سرق عيناً، وادَّعى أنَّها ملكه؛ ففي قطعه روايات، ثالثها: إن كان معروفاً بالسَّرقة؛ قطع، وإلَّا فلا، صحَّحها صاحب «التَّرغيب» .

ومنها: لو دفع ثوبه إلى من يخيطه أو يقصِّره، أو ركب سفينته وهو

(1)

قوله: (على امرأته) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ).

(2)

أخرج عبد الرزاق (11298)، عن ابن جريج، عن عطاء قال: سمعته يقول: «إن حلف رجل على امرأته لا تخرج، فخرجت امرأة أخرى، فقيل له: هذه امرأتك، فحسبها الأخرى، فطلقها ثلاثًا، فقال: ليس بشيء» .

ص: 83

معروف بأخذ الأجرة على ذلك؛ استحقَّ الأجرة.

ومنها: الهبة الَّتي يراد بها الثَّواب بدلالة حال الواهب من غير شرط، نقل حنبل ما يدلُّ على وجوب إثابته، والمشهور خلافه

(1)

.

ومنها: لو وُجد لقيط وبقربه مال ظاهر، أو مدفون دفناً طريًّا؛ فإنَّه يحكم له به.

وكذلك ما يكون بالقرب من الإنسان أو بين يديه من متاع أو طعام ونحوه، ذكره ابن عقيل.

قال: (وكذلك رزمة الثِّياب وحزمة الحطب؛ يحكم بها للواقف بقربها؛ لأنَّ ذلك شاهد وضعها عنه للاستراحة؛ فكأنَّها على رأسه) انتهى.

وينبغي تقييده بمن كان يليق به حملها دون من لا يحملها مثله.

ومنها: لو تنازع الزَّوجان في متاع البيت، فما صلح للرِّجال؛ فهو للرَّجل، وما صلح للنِّساء؛ فهو للمرأة.

وكذا لو اختلف صانعان في آلة دكَّان لهما، أو نازع ربُّ الدَّار خيَّاطاً فيها في إبرة أو مقصٍّ، أو تنازع المؤجر والمستأجر في رفٍّ مقلوع أو مصراع له شكل منصوب.

ومن هذا الباب: اللَّوث في القسامة، والقضاء بمعاقد القمط

(2)

-

(1)

من قوله: (ومنها: الهبة الَّتي يراد بها الثَّواب) إلى هنا سقط من (ب).

(2)

قال في لسان العرب (7/ 385): (القمط: ما تُشد به الأخصاص، ومنه: معاقد القمط. وفي حديث شريح: أنه اختصم إليه رجلان في خُصٍّ، فقضى بالخص للذي تليه القمط، وذلك أنه احتكم إليه رجلان في خص ادعياه معًا، وقُمُطه: شُرُطه التي يوثق بها ويشد بها، من ليف كانت أو من خوص، فقضى به للذي تليه المعاقد، دون من لا تليه معاقد القمط، ومعاقد القمط تلي صاحب الخص؛ الخُص: البيت الذي يعمل من القصب).

ص: 84

وهو رواية حكاها ابن أبي موسى-، وإلحاق النَّسب بالقافة عند الاختلاف

(1)

.

ومنها: لو ادَّعى دعوى يشهد الظَّاهر بكذبها، مثل أن ادَّعى على الخليفة أنَّه اشترى منه باقة بَقْل وحملها بيده؛ لم تُسمع دعواه بغير خلاف

(2)

، ذكره القاضي في «خلافه» .

وإن أطلق الدَّعوى عليه؛ ففي سماعها قبل أن يتبيَّن أنَّ لها أصلاً روايتان؛ لاحتمال معاملته بوكيله.

ومنها: لو اختلف الزَّوجان في قدر المهر؛ فالقول قول من يدَّعي مهر المثل على إحدى الرِّوايتين.

(3)

(1)

قوله: (عند اختلاف) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (و).

(2)

كتب على هامش (ن): (أو ادَّعى الدنيُّ استئجار الأمير المعتبر لكنس داره).

(3)

كتب في هامش (ج): (المذهب: القول قول الزوج).

ص: 85

‌قاعدة [152]

المحرَّمات في النِّكاح أربعة أنواع:

النَّوع الأوَّل: المحرَّمات بالنَّسب.

وضابط ذلك: أنَّه يحرم على الإنسان أصوله وفروعه، وفروع أصله الأدنى وإن سَفَلن، وفروع أصوله البعيدة دون بناتهنَّ.

فدخل في أصوله: أمُّه، وأمُّ أمِّه، وأمُّ أبيه، وإن علون.

ودخل في فروعه: بنته، وبنت بنته، وبنت ابنه، وإن نزلن.

ودخل في فروع أصله الأدنى: أخواته من الأبوين أو من أحدهما، وبناتهنَّ، وبنات الإخوة وأولادهم

(1)

، وإن سَفَلن.

ودخل في فروع أصوله البعيدة: العمَّات، والخالات، وعمَّات الأبوين، وخالاتهما، وإن علون.

فلم يبق من الأقارب حلالاً سوى فروع أصوله البعيدة، وهنَّ: بنات العمِّ، وبنات العمَّات، وبنات الخال، وبنات الخالات.

النَّوع الثَّاني: المحرَّمات بالصِّهر، وهنَّ أقارب الزَّوجين، وكلُّهن حلال، إلَّا أربعة أصناف: حلائل الآباء والأبناء، وأمَّهات النِّساء، وبنات النِّساء المدخول بهنَّ.

(1)

قوله: (وأولادهم) ضرب عليها في (ب)، وهي ثابتة في (أ) وباقي النسخ.

ص: 86

فيحرم على كلِّ واحد من الزَّوجين أصول الآخر وفروعه؛ فيحرم على الرَّجل أمُّ امرأته، وأمُّ أمِّها وأبيها وإن علت.

ويحرم عليه بنت امرأته -وهي الرَّبيبة-، وبنت بنتها؛ وإن سفلت.

وتحرم بنت الرَّبيب أيضاً، نصَّ عليه أحمد في رواية صالح

(1)

، وذكر الشَّيخ تقيُّ الدِّين أنَّه لا يعلم فيه نزاعاً

(2)

.

ويحرم عليه أن يتزوَّج بامرأة أبيه وإن علا، وامرأة ابنه وإن سفل.

النَّوع الثَّالث: المحرَّمات بالجمع.

فكلُّ امرأتين بينهما رحم محرِّم، يحرم الجمع بينهما، بحيث لو كانت إحداهما ذكراً؛ لم يجز له التَّزوُّج بالأخرى؛ لأجل النَّسب دون الصِّهر.

فلا يجوز الجمع بين المرأة وعمَّتها وإن علت، ولا بينها وبين خالتها وإن علت، ولا بين الأختين، ولا بين البنت وأمِّها وإن علت.

قال الشَّعبيُّ: كان أصحاب محمَّد يقولون: «لا يجمع الرَّجل بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلاً؛ لم يصلح له أن يتزوَّجها» ، ذكره الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله بإسناده

(3)

.

(1)

ينظر: مسائل صالح (2/ 29).

(2)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 305).

(3)

لم نقف عليه في مسائل عبد الله، ولا في المسند، وقد أخرجه عبد الرزاق (10768) بلفظ:«لا ينبغي لرجل أن يجمع بين امرأتين، لو كانت إحداهما رجلًا لم يحل له نكاحها» .

ص: 87

وإنَّما قلنا: لأجل النَّسب دون الصِّهر؛ ليخرج من ذلك: الجمع بين زوجة رجل وابنته من غيرها، فإنَّه مباح؛ إذ لا محرميَّة بينهما ليخشى عليهما القطيعة.

لكن يرد على هذا من كان بينهما تحريم من الرَّضاع؛ فإنَّه يحرم الجمع بينهما، نصَّ عليه في رواية الأثرم وحرب.

وقد توقَّف في رواية ابن منصور في كون تشبيه الزَّوجة بالمحرَّمة من الرَّضاع ظهاراً

(1)

. فدلَّ على أنَّ تحريم الرَّضاع لا يساوي تحريم النَّسب من جميع الوجوه، والله أعلم.

النَّوع الرَّابع: المحرَّمات بالرَّضاع.

فيحرم به ما يحرم من النَّسب في الأنواع الثَّلاثة المتقدِّمة

(2)

.

واختار الشَّيخ تقيُّ الدِّين: أنَّه لا يثبت به تحريم المصاهرة؛ فلا يحرم على الرجل نكاح أمِّ زوجته وابنتها من الرَّضاع، ولا على المرأة نكاح أبي زوجها وابنه من الرَّضاع

(3)

.

وقال

(4)

أحمد في رواية ابن بدينا

(5)

في حليلة الابن من الرَّضاع:

(1)

ينظر: مسائل ابن منصور (4/ 1692).

(2)

في (أ): المتقدِّم.

(3)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 308).

(4)

في (أ): قال.

(5)

هو محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا، أبو جعفر الموصلي، سكن بغداد وحدث بها عن الإمام أحمد وروى عنه مسائل، وروى عنه أبو بكر الخلال وصاحبه عبد العزيز، وتوفي سنة (303 هـ). ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 288.

ص: 88

لا يعجبني أن يتزوَّجها، يحرم من الرَّضاع ما يحرم من النَّسب.

وليس على هذا الضَّابط إيراد صحيح سوى المرتضعة بلبن الزِّنى، والمنصوص عن أحمد في رواية عبد الله أنَّها محرَّمة؛ كالبنت من الزِّنى

(1)

؛ فلا إيراد إذاً، والله أعلم.

(1)

ينظر: مسائل عبد الله (ص 352).

ص: 89

‌قاعدة [153]

ولد الولد؛ هل يدخل في مسمَّى الولد عند الإطلاق

؟

هذا ثلاثة أنواع:

أحدها: أن يدخل في مسمَّاه مطلقاً مع وجود الولد وعدمه، وذلك في صور:

منها: المحرَّمات في النِّكاح؛ كالبنات، وحلائل الأبناء.

ومنها: امتناع القصاص بين الأب وولده

(1)

.

ومنها: وجوب إعفاف الولد على والده

(2)

.

ومنها: امتناع قطعه في السَّرقة من مال ولده.

ومنها: ردُّ شهادة الوالد لولده.

ومنها: جرُّ الولاء، فإذا كان ابنُ معتقةِ قومٍ، أبوه وجدُّه رقيقان، فعَتَق جدُّه؛ انتقل الولاء إلى موالي الجدِّ، سواء كان الأب موجوداً أو لم يكن في إحدى الرِّوايات.

وفي الأخرى: إن كان الأب مفقوداً؛ جرَّ الجدُّ الولاء إلى مواليه، وإن كان موجوداً؛ لم يجرُّه بحال.

(1)

زاد في (ب): كما جاء في الحديث: «لا يقتل ولد بوالد» . وضُرب عليه في (أ).

(2)

قوله: (ومنها: وجوب إعفاف الولد على والده) كتب في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن) بعد قوله: (ردُّ شهادة الوالد لولده).

ص: 90

وفي الثَّالثة: لا يجرُّه الجدُّ بحال؛ فيختصُّ جرُّ الولاء بعتق الأب.

ومنها: الوقف على الولد، يدخل فيه ولد الولد، نصَّ عليه أحمد في رواية المروذيِّ

(1)

ويوسف بن موسى ومحمَّد بن عبيد الله المنادي

(2)

، وهو الَّذي جزم به الخلَّال وابن أبي موسى والقاضي فيما علَّقه بخطِّه

(3)

على ظهر «خلافه» وغيرهم.

وهل يدخلون مع آبائهم بالتَّشريك، أو لا يدخلون إلَّا بعدهم على التَّرتيب؟ على وجهين للأصحاب.

وعلى التَّرتيب؛ فهل هو ترتيب بطن على بطن، فلا يستحقُّ أحد من ولد الولد شيئاً مع وجود فرد من الأولاد، أو ترتيب فرد على فرد، فيستحقُّ كلُّ ولد نصيب والده بعد فقده؟ على وجهين.

والثَّاني هو منصوص أحمد، وقد سبق ذكره

(4)

.

وفي «أحكام القرآن» للقاضي: إن كان ثَمَّ ولد؛ لم يدخل ولد الولد، وإن لم يكن ولد؛ دخل، واستشهد بآية المواريث؛ قال:(ويصحُّ حمل اللَّفظ على حقيقته ومجازه في حالين مختلفين، لا في جهة واحدة)، مع أنَّه ذكر احتمالاً بأنَّ إطلاق الولد على ولد الولد حقيقة؛ قال:(والأشبه أنَّه مجاز؛ لصحَّة نفيه).

(1)

ينظر: المغني (6/ 11).

(2)

هو محمد بن عبيد الله بن يزيد، أبو جعفر بن المنادي، سمع حفص بن غياث، ويزيد بن هارون في آخرين، وحدث عنه البخاري، وأبو داود، وغيرهما، نقل عن الإمام أحمد مسائل وغيرها. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 302.

(3)

قوله: (فيما علَّقه بخطِّه) سقط من (ب).

(4)

في القاعدة الثالثة عشر بعد المائة، ينظر: .....

ص: 91

وفي «المجرَّد» للقاضي: لو وقف على أولاده، ثمَّ على أولاد أولاده، ثمَّ على الفقراء؛ فهو بعد البطن الثَّاني من ولده للفقراء.

فمن الأصحاب من فهم منه: أنَّ ولد الولد لا يدخلون في إطلاق الولد.

ومنهم من قال: بل لمَّا رتَّب بطناً بعد بطن مرَّتين، ثمَّ جعله بعدهما للفقراء؛ عُلم أنَّه أراد البطنين الأوَّلين خاصَّة، بخلاف حالة الإطلاق، وإلى هذا أشار صاحب «التَّلخيص» .

ومنها: الوصيَّة لولده، وقد جعل الأصحاب حكمها حكم الوقف.

وذكر أبو الخطَّاب: أنَّ أحمد نصَّ على دخولهم في ذلك، والمعروف عن أحمد إنَّما هو في الوقف.

وأشار الشَّيخ تقيُّ الدِّين إلى دخولهم في الوقف دون الوصيَّة؛ لأنَّ الوقف يتأبَّد، فيستحقُّه ولده طبقة بعد طبقة، والوصيَّة تمليك للموجودين؛ فيختصُّ بالطَّبقة العليا الموجودة.

وحيث قيل بدخول ولد الولد في الوقف والوصيَّة؛ فإنَّما هو في ولد البنين، فأمَّا ولد البنات؛ ففيه وجهان للأصحاب:

اختار الخرقيُّ والقاضي: أنَّهم لا يدخلون.

واختار أبو بكر وابن حامد: دخولهم.

ونصَّ أحمد في رواية المروذيِّ على أنَّهم لا يدخلون في الوقف على الولد

(1)

.

(1)

ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 438).

ص: 92

فمن الأصحاب من قال: لا يدخلون في مطلق الولد إذا وقع الاقتصار عليه، ويدخلون في مسمَّى ولد الولد؛ لأنَّهم من ولد الولد حقيقة، وليسوا بولد حقيقة، وهذه طريقة ابن أبي موسى والشِّيرازيِّ، ومال إليها صاحب «المغني» .

ومنها: المنع من دفع الزَّكاة إلى الولد يدخل فيه ولد الولد، وسواء في ذلك ولد الذُّكور والإناث على المنصوص عن أحمد؛ لأنَّ ولد البنت قد ثبت له حكم الولد في موضع، فثبت له حكم المنع من الزَّكاة، بخلاف الوقف والوصيَّة؛ فإنَّ المراعى فيها صدق

(1)

الاسم وثبوته في العرف، لا جريان الحكم، والله أعلم.

النَّوع الثَّاني: ما يدخل فيه عند عدم الولد لا مع وجوده، وذلك في صور:

منها: الميراث، فيرث ولدُ الولد جدَّهم مع فقد أبيهم؛ كما يرثون أباهم، ولكن لا يرثهم الجدُّ مع فقد الأب؛ كما يرث الأب على ظاهر المذهب.

وفيه وجه آخر: أنَّه يرثهم كأب مطلقاً، بحيث يحجب الإخوة كلَّهم، واختاره ابن بطَّة، وأبو حفص البرمكيُّ، والشَّيخ تقيُّ الدِّين

(2)

.

ومنها: ولاية النِّكاح، فيلي الجدُّ فيها بعد الأب مقدَّماً على الابن، على قول الخرقيِّ والقاضي، لكن لا يقوم مقام الأب في الإجبار على المذهب.

(1)

في (ب) و (هـ): أصدق.

(2)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 284).

ص: 93

وحكى ابن الزَّاغونيِّ رواية: أنَّه يقوم مقامه في الإجبار

(1)

.

ومنها: ولاية الصَّلاة على الجنازة؛ فيلي الجدُّ بعد الأب مقدَّماً على الابن على الصَّحيح أيضاً.

ومنها: الحضانة؛ فإنَّ الجدَّ أولى رجالها بها بعد الأب.

والنَّوع الثَّالث: ما لا يدخل فيه في مسمَّى الولد بحال، وذلك في صور كثيرة:

منها: الرُّجوع في الهبة.

ومنها: الأخذ من مال الولد لغير حاجة.

ومنها: ولاية المال، وفيه رواية.

ومنها: الاستئذان في الجهاد.

ومنها: الاستتباع في الإسلام.

ومنها: الانفراد بالنَّفقة مع وجود

(2)

وارث غيره موسرٍ:

فإن كان الوارث الَّذي معه معسراً؛ فالمعروف: أنَّ حكمه حكم سائر من تلزمه النَّفقة، وهل

(3)

يلزمه كمال النَّفقة أو بقدر إرثه؟ على روايتين، أصحُّهما: لا يلزمه أكثر من مقدار إرثه منه.

وفي «الإقناع» لابن الزَّاغونيِّ: أنَّ هذا الخلاف في الجدِّ والجدَّة خاصَّة، وأنَّ سائر الأقارب لا يلزم الغنيَّ منهم النَّفقة إلَّا بالحصَّة بغير خلاف.

(1)

في (أ): الإخبار.

(2)

في (ب): مع عدم وجود.

(3)

في (ب): هل.

ص: 94

‌قاعدة [154]

خروج البُضْع من الزَّوج؛ هل هو متقوَّم أم لا

؟ بمعنى أنَّه: هل يَلزم المخرِج له قهراً ضمانُه للزَّوج بالمهر؟

فيه قولان في المذهب، ويذكران روايتين عن أحمد، وأكثر الأصحاب كالقاضي ومن بعده يقولون: ليس بمتقوَّم

(1)

.

وخصُّوا هذا الخلاف بمن عدا الزَّوجةَ، فقالوا: لا تضمن للزَّوج شيئاً بغير خلاف.

واختار الشَّيخ تقيُّ الدِّين: أنَّه متقوَّم على الزَّوجة وغيرها، وحكاه قولاً في المذهب

(2)

.

ويتخرَّج

(3)

على ذلك مسائل:

منها: لو أفسد مُفسِدٌ نكاح امرأة قبل الدُّخول بها، برضاع أو غيره؛ فإنَّه يجب عليه نصف المهر، حيث يلزم الزَّوجَ نصف المهر؛ كما إذا كانت الفرقة من الأجنبيِّ وحده، وله مآخذ:

(1)

كتب على هامش (ن): (لكنَّ اختيار القاضي في مسألة الرَّجعيَّة الآتية ضمان المهر للزوج يدل على أنَّه متقوم عنده، وقد علَّل به).

(2)

ينظر: الفروع (9/ 285)، الاختيارات الفقهية (ص 345).

(3)

في (أ): ويخرَّج.

ص: 95

أحدها: أنَّ خروج البضع من الزَّوج متقوَّم؛ فيقوَّم قبل الدُّخول بنصف المهر المسمَّى.

وفيه وجه: بنصف مهر المثل.

والثَّاني: أنَّه ليس بمتقوَّم، لكنَّ المفسِد قرَّر هذا النِّصف على الزَّوج، إذ كان بصدد أن يسقط عنه بانفساخ النِّكاح بسبب من جهتها.

والثَّالث: أنَّ المهر كلَّه يسقط بالفرقة، لكن يجب لها نصف المهر وجوباً مبتدئاً بالفرقة الَّتي استقلَّ بها الأجنبيُّ؛ فلذلك لزمه ضمانه، ذكره القاضي في «خلافه» ، وفيه بُعْد.

وأمَّا حيث لا يلزم الزَّوجَ شيء؛ كما إذا وطئ الأب أو الابن زوجته قبل الدُّخول بتمكينها؛ فهل يلزمه له نصف المهر أم لا؟ على وجهين مذكورين في «المغني» وغيره، وهما متنزِّلان على أنَّ البضع؛ هل هو متقوَّم أم لا؟ إذ لا غرم هنا على الزَّوج.

ونقل مهنَّى عن أحمد في رجل تزوَّج امرأة، فبعثوا إليه ابنتها، فدخل بها وهو لا يعلم؛ قال: حرمتا عليه جميعاً، قال: فقلت له: ما عليه؟ فقال

(1)

: عليه لهذه المهر بما استحلَّ من فرجها. قلت: وللأخرى ما عليه؟ قال: لها نصف الصَّداق، قلت: هل يرجع بالنِّصف الَّذي غرم لابنتها؟ قال: لا.

وإنَّما لم يرجع هنا عنده؛ لأنَّ فساد نكاحه منسوب إليه مباشرة؛ فلذلك استقرَّ الضَّمان عليه.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): قال.

ص: 96

ويتخرَّج فيه وجه آخر: أنَّه يرجع بما غرمه على من غرَّه.

وأمَّا إن كان الإفساد بعد الدُّخول بإرضاع أو غيره؛ ففيه وجهان:

أحدهما: أنَّ على المفسِد ضمانَ المهر المستقرِّ على الزَّوج، وهو منصوص أحمد في رواية ابن القاسم

(1)

؛ بناء على أنَّ خروج البضع متقوَّم، وكما يضمن الغارُّ المهر لمن غرَّه؛ وإن استقرَّ بالدُّخول، بل هنا أولى؛ لأنَّ المغرور قد يكون فسخ النِّكاح باختياره، كما إذا دُلِّس عليه عيب ونحوه؛ حيث لم يرض بالمهر إلَّا مع السَّلامة من العيوب، وهنا الفسخ بسبب الأجنبيِّ؛ فإنَّه هو المانع للزَّوج من الاستمتاع؛ فكان الرُّجوع عليه بالمهر أولى؛ إذ الزَّوج يجب تمكينه من جنس الاستمتاع، ويعود إليه المهر بمنعه من جنسه إذ لم يكن ما يستحقُّه مقدَّراً، بخلاف منفعة الإجارة؛ فإنَّها تتقسَّط على المدَّة، مع أنَّ الإجارة تسقط فيها الأجرة عندنا بمنع المؤْجِر من التَّسليم المستحَقِّ بالعقد كلِّه.

والوجه الثَّاني: أنَّه لا ضمان على المفسد بحال؛ لاستقرار المهر على الزَّوج بالوطء؛ بناء على أنَّ خروجه غير متقوَّم، وإليه ميل ابن أبي موسى، واختاره طائفة من المتأخِّرين.

وأمَّا إن كان المفسِدُ للنِّكاح هو الزَّوجةَ وحدها، بالرَّضاع أو غيره؛ فقال الأصحاب: لا ضمان عليها بغير خلاف؛ لئلَّا يلزم استباحة بضعها بغير عوض.

واختار الشَّيخ تقيُّ الدِّين أنَّ عليها الضَّمان

(2)

، وأخذه من مسألة

(1)

ينظر: المحرر (2/ 113).

(2)

ينظر: الفروع (9/ 285)، الاختيارات الفقهية (ص 345).

ص: 97

المهاجرة وامرأة المفقود، كما سيأتي، وكما قال الأصحاب في الغارَّة: إنَّه لا مهر لها، بل عندنا في الإجارة أنَّ غصب المؤجر يسقط الأجرة كلَّها، بخلاف غصب غيره؛ لاستحقاق التَّسليم عليه.

وأجاب عمَّا قيل من استباحة البضع بدون عوض: بأنَّ العوض وجب لها بالعقد، ثمَّ وجب عليها ضمانه بسبب آخر؛ فلم يخلُ العقد من عوض، كما يجب على البائع ضمان ما تعلَّق به حقُّ توفيةٍ بإتلافه قبل القبض، ولم يخلُ البيع من ثمن، والله أعلم.

ومنها: شهود الطَّلاق إذا رجعوا قبل الدُّخول؛ فإنَّهم يغرمون نصف المهر.

وإن رجعوا بعد الدُّخول؛ فهل يغرمون المهر كلَّه، أم لا يغرمون شيئاً؟ على روايتين، مأخذهما تقويم البضع وعدمه

(1)

.

وعلى التَّغريم

(2)

؛ يغرمون المهر المسمَّى.

وقيل: مهر المثل.

ومنها: امرأة المفقود إذا تزوَّجت بعد المدَّة المعتبرة، ثمَّ قدم زوجها المفقود؛ فإنَّه يخيَّر بين زوجته وبين المهر، فإن اختار المهر؛ أخذ من الزَّوج الثَّاني المهر الَّذي أقبضه إيَّاها؛ أعني: الأوَّل؛ لأنَّه هو

(1)

كتب على هامش (ن): (لكنَّ مقتضى التَّقويم أنَّ الغرم لا يتوجَّه إلى المسمَّى، بل إلى مهر المثل كما هو القول الثَّاني).

(2)

في (ب): التَّقويم.

ص: 98

الَّذي استحقَّه على أصحِّ الرِّوايتين.

وعلى الثَّانية: يأخذ المهر الَّذي أعطاها الثَّاني.

وبكلِّ حال؛ فهل يستقرُّ ضمانه على الزَّوج الثَّاني، أم يرجع به على المرأة؟ على روايتين:

إحداهما: يرجع به عليها؛ لأنَّ الفرقة جاءت منها؛ فيستقرُّ الضَّمان عليها.

والثَّاني: لا يرجع به؛ لأنَّ المرأة استحقَّته بالإصابة؛ فلا يجوز أخذه منها.

ومنها: إذا طلَّق رجل امرأة، ثمَّ راجعها في العدَّة، وأشهد على الرَّجعة، ولم تعلم المرأة حتَّى انقضت عدَّتها، وتزوَّجت ودخل بها الثَّاني، وقلنا على رواية: إنَّ الثَّاني أحقُّ بها؛ فهل تضمن المرأة لزوجها المهر أم لا؟ على وجهين، واختار القاضي الضَّمان؛ لأنَّ خروج البضع متقوَّم.

ومنها: إذا أسلمت امرأة من أهل دار الحرب، وهاجرت إلينا، ثمَّ تزوَّجها مسلم بعد انقضاء عدَّتها في دار الإسلام؛ فهل يلزمه أن يردَّ على زوجها الكافر مهرها الَّذي أمهرها إيَّاه؟ على روايتين حكاهما ابن أبي موسى.

وظاهر القرآن يدلُّ على وجوبه

(1)

، لكن أكثر الأصحاب على عدم

(1)

وهو قوله تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

ص: 99

الوجوب، قالوا: لأنَّ الآية نزلت في قصة

(1)

صلح الحديبية، وكان الصُّلح قد وقع على ردِّ النِّساء قبل تحريمه، فلمَّا حرم الرَّدُّ بعد صحَّة اشتراطه؛ وجب ردُّ بدله، وهو المهر، وأمَّا بعد ذلك؛ فلا يجوز اشتراط ردِّ النِّساء؛ فلا يصحُّ اشتراط ردِّ مهورهنَّ؛ لأنَّه شرطُ مالٍ للكفَّار من غير ضرورة.

ومن اختار الوجوب؛ كالشَّيخ تقيِّ الدِّين؛ منع أن يكون ردُّ النِّساء مشروطاً في صلح الحديبية، ومنع عدم جواز شرط ردِّ المهر، لا سيَّما إذا كان مشروطاً من الطَّرفين

(2)

.

ومنها: خُلع المسلم زوجته بمحرم يعلمان تحريمه؛ كخمر أو خنزير، قال أبو بكر والقاضي والأصحاب: هو كالخلع الخالي عن العوض، فإذا صحَّحناه؛ لم يلزم الزَّوج شيء، بخلاف النِّكاح على ذلك.

وعند الشِّيخ تقيِّ الدِّين: يرجع إلى المهر؛ كالنِّكاح

(3)

.

ويحتمل

(4)

كلام الخرقيِّ في خلع الأمة على سلعة بيدها: أنَّه يصحُّ، ويتبع بقيمتها بعد العتق.

ومنها: مخالعة الأب ابنته الصَّغيرة بشيء من مالها، والمذهب: أنَّه

(1)

في (أ): قضيَّة.

(2)

ينظر: الفروع (9/ 286).

(3)

ينظر: الفروع (8/ 423).

(4)

في (ب): ويحتمله.

ص: 100

غير جائز، وأنَّ الضَّمان على الأب، نصَّ عليه أحمد في رواية ابن الحكم.

وخرَّج بعض المتأخِّرين جوازه؛ بناء على أنَّ خروج البضع متقوَّم، فما بذل مالها إلَّا فيما له قيمة، فلا يكون تبرُّعاً.

وخرَّجه بعضهم من الرِّواية الَّتي نقول فيها: إنَّ للأب العفو عن نصف المهر في الطَّلاق قبل الدُّخول؛ بناء على أنَّه الَّذي بيده عقدة النِّكاح.

وذكره صاحب «المغني» احتمالاً في وليِّ الصَّغيرة والسَّفيهة والمجنونة مطلقاً إذا رأى الحظَّ في ذلك، وكذلك أشار إليه ابن عقيل في «الفصول. «

ومنها: إذا قال لزوجته: أنت طالق بألف، فلم تقبل؛ طَلَقت رجعيًّا، ولم يلزمها شيء، نصَّ عليه أحمد في رواية مهنَّى

(1)

.

ولو قال لعبده: أنت حرٌّ بألف، فلم يقبل؛ لم يَعتِق عند الأصحاب.

والفرق بينهما: أنَّ خروج البضع غير متقوَّم، بخلاف العبد؛ فإنَّه مال محض.

وخرَّج الشَّيخ تقيُّ الدِّين وجهاً: أنَّه يَعتِق العبد بغير شيء، كما في الطَّلاق؛ لأنَّ الطَّلاق والعتاق فيهما حقٌّ لله تعالى، وليس العوض بركن فيهما إذا

(2)

لم يعلِّقهما عليه، بل أوقعهما منجزاً، وشرط فيهما

(1)

ينظر: المغني (7/ 349).

(2)

في (ب): إذ.

ص: 101

العوض، فإذا لم يلتزما العوض؛ لَغِيَ ووقع الطَّلاق والعتاق

(1)

؛ لما فيهما من الحقِّ لله الَّذي لا يمكن إبطاله.

(1)

في (ب) و (د) و (هـ) و (ن): العتق.

ص: 102

‌قاعدة [155]

يتقرَّر المهر كلُّه للمرأة بأحد ثلاثة أشياء:

الأوَّل: الوطء؛ فيتقرَّر به المهر على كلِّ حال.

وأمَّا مقدِّماته؛ كاللَّمس بشهوة، والنَّظر إلى الفرج، أو إلى جسدها وهي عارية؛ فمن الأصحاب من ألحقه بالوطء وجعله مقرِّراً رواية واحدة؛ لأنَّه آكد من الخلوة المجرَّدة.

ومنهم من خرَّجه على وجهين أو روايتين، من الخلاف في تحريم المصاهرة به.

وقال ابن عقيل: إن كانت عادته فعل ذلك في الملأ؛ استقرَّ به المهر؛ لأنَّ ذلك خلوة مثله، وإلَّا فلا.

والمنصوص عن أحمد في رواية مهنَّى: أنَّه إذا تعمَّد النَّظر إليها وهي عُريانة تغتسل؛ وجب لها المهر

(1)

.

والثَّاني: الخلوة ممَّن يمكنه الوطء بمثله.

فإن كان ثَمَّ مانع؛ إمَّا حسيٌّ

(2)

؛ كالجَبِّ والرَّتَق، أو شرعيٌّ؛ كالإحرام والحيض؛ فهل يقرِّر المهر؟ على طرق للأصحاب:

(1)

ينظر: المغني (7/ 251).

(2)

قوله: (إمَّا حسيٌّ) سقط من (أ).

ص: 103

أحدها: أنَّ في المسألة روايتين مطلقتين، وهي طريقة القاضي في «الجامع» ، وصاحب «المحرَّر» ، وكذلك صاحب «المغني» ، إلَّا أنَّه زاد رواية ثالثة: بالفرق بين المانع المتأكِّد شرعاً؛ كالإحرام وصيام رمضان؛ فلا يستقرُّ معه المهر، بخلاف غيره.

والثَّانية: إن كان المانع من الوطء ودواعيه؛ كالإحرام وصيام رمضان؛ ففيه روايتان، وإن كان لا يمنع الدَّواعيَ، كالحيض والجَبِّ والرَّتَق؛ استقرَّ رواية واحدة، وهي طريقة القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل في «الفصول» .

والثَّالثة: إن كانت الموانع بالزَّوج؛ استقرَّ الصَّداق رواية واحدة، وإن كانت بالزَّوجة؛ فهل يستقرُّ؟ على روايتين، وهي طريقة القاضي في «خلافه» .

ومن الأصحاب من حكى رواية أخرى: أنَّه لا يستقرُّ المهر بالخلوة بمجرَّدها بدون الوطء؛ أخذاً

(1)

ممَّا روى يعقوب بن بختان عن أحمد: إذا خلا بها، وقال: لم أطأ، وصدَّقته؛ أنَّ لها نصف الصَّداق، وعليها العدَّة

(2)

.

وأنكر الأكثرون هذه الرِّواية، وحملوا رواية يعقوب هذه على وجه آخر، وهو

(3)

أنَّ الخلوة إنَّما قرَّرت المهر؛ لأنَّها مظنَّة الوطء المقرِّر؛

(1)

في (أ): أخذاً لها.

(2)

ينظر: المغني (7/ 349).

(3)

في (أ): وهي.

ص: 104

فقامت مقامه في التَّقرير؛ لأنَّ حقيقة الوطء لا يطلع عليه غالباً؛ فعُلِّق

(1)

الحكم بمَظِنَّته، فإذا تصادق الزَّوجان على انتفاء الحقيقة الَّتي هي الوطء؛ لم يقبل ذلك في إسقاط العدَّة؛ لأنَّ فيها حقًّا لله تعالى.

وهل يقبل في سقوط نصف المهر؟ على روايتين.

نقل ابن بختان: قبوله؛ لأنَّه حقٌّ محض للزَّوجة، وقد أقرَّت بسقوطه.

ونقل الأكثرون: عدم قبوله؛ لملازمته للعدَّة، وهذا يرجع إلى أنَّ الخلوة مقرِّرة؛ لكونها مَظِنَّة الوطء

(2)

.

ومن الأصحاب من قال: إنَّما قَرَّرت لحصول التَّمكين بها، وهي طريقة القاضي.

وردَّها ابن عقيل: بأنَّ الخلوة مع الجَبِّ لا تمكن معها، قال: وإنَّما قَرَّرت لأحد أمرين: إمَّا لإجماع الصَّحابة

(3)

، وهو حجَّة، أو لأنَّ طلاقها بعد الخلوة بها وردَّها زهداً فيها فيه ابتذال وكسر لها؛ فوجب جبره بالمهر.

وقيل: بل المقرِّر هو استباحة ما لا يستباح إلَّا بالنِّكاح من المرأة؛ فدخل في ذلك الخلوة واللَّمس بمجرَّدهما؛ لأنَّ ذلك كلَّه معقود عليه في النِّكاح، والمهر يستقرُّ بنيل بعض المعقود عليه، لا يقف على نيل جميعه.

(1)

في (ب) و (و) و (ن): فتعلَّق. وفي (د): تعلَّق.

(2)

في (ب) و (د) و (هـ) و (ن): للوطء.

(3)

ينظر: المغني (7/ 349).

ص: 105

وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية حرب، وقيل له: فإن أخذها وعندها نسوة، فمسَّها وقبض عليها ونحو ذلك من غير أن يخلوَ بها؛ قال: إذا نال منها شيئاً لا يحلُّ لغيره؛ فعليه المهر

(1)

.

وعلى هذا؛ فقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: يتوجَّه أن يستقرَّ المهر بالخلوة؛ وإن منعته الوطء، بخلاف ما ذكره ابن حامد والقاضي والأصحاب

(2)

.

المقرِّر الثَّالث: الموت قبل الدُّخول وقبل الفرقة.

وإن طلَّقها في المرض ثمَّ مات فيه؛ فهل يستقرُّ لها المهر؟ على روايتين؛ بناء على توريثها منه وعدمه.

(3)

(1)

ينظر: مسائل حرب بتحقيق فايز بن حابس (1/ 314).

(2)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 341).

(3)

كتب في هامش (و) و (ن): (المقرِّر الرابع: إذهاب العُذْرة بالدفع، على رواية خرَّجها صاحب «المغني»، وقد سبقت).

ص: 106

‌قاعدة [156]

فيما يتنصَّف فيه المهر قبل استقراره، وما يسقط به الفرقة قبل الدُّخول

.

إن كانت من جهة الزَّوج وحده، أو من جهة أجنبيٍّ وحده: يُنصَّف بها المهر المسمَّى.

وإن كانت من جهة الزَّوجة وحدها: سقط بها المهر.

وإن كانت من جهة الزَّوجين معاً، أو من جهة الزَّوجة مع أجنبيٍّ: ففي تنصيف المهر وسقوطه روايتان.

فهذه خمسة أقسام.

القسم الأوَّل: ما استقلَّ به الزَّوج، وله صور:

منها: طلاقه، وسواء كان منجزاً أو معلَّقاً بصفة، وسواء كانت الصَّفة من فعلها أو لم يكن، كذا ذكره الأصحاب؛ قالوا: لأنَّ السَّبب كان منه، وهو الطَّلاق، وإنَّما حقَّقته

(1)

بوجود شرطه، والحكم إنَّما يضاف إلى صاحب السَّبب.

وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: إن كانت الصِّفة من فعلها الَّذي لها منه بدٌّ؛

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): حقيقته. وكتب في هامش (هـ): (وبخطِّ الشَّيخ عبد الله: لعلَّها حقَّقته).

ص: 107

فلا مهر لها.

ويمكن تخريج ذلك من إحدى الرِّوايتين في المريض إذا علَّق طلاق امرأته على ما لَها منه بدٌّ ففعلته؛ فإنَّ في إرثها روايتين.

ويشهد لذلك مسألة التَّخيير؛ فإنَّه لو خيَّرها قبل الدُّخول فاختارت نفسها؛ فهل يسقط مهرها أو يتنصَّف؟ على روايتين حكاهما ابن أبي موسى.

والتَّخيير توكيل محض، والتَّعليق بفعلها في معناه.

والمنصوص عن أحمد: أنَّه لا مهر للمخيَّرة، قال مهنَّى: سألت أحمد عن رجل تزوَّج امرأة، ثمَّ طلبت منه الخيار، فاختارت نفسها، ولم يكن دخل بها، لها عليه نصف الصَّداق؟ قال: في قلبي منها شيء، ثمَّ قال: لا ينبغي أن يكون لها شيء، قلت: إنِّي سألت غير واحد، فقال: يكون لها عليه نصف الصَّداق، فقال لي: فإن أسلمت امرأة مجوسيَّة وأبى زوجها يسلم؛ يكون لها عليه صداقها؟ قال لي: هذا يدخل عليهم، انتهى.

ومنها: خُلعه، ونصَّ أحمد في رواية مهنَّى: أنَّه يوجب نصف المهر، وعلَّله القاضي: بأنَّ الخلع يستقلُّ به الزَّوج؛ لأنَّه يصحُّ مع الأجنبيِّ بدون رضا المرأة؛ فلذلك نسب إليه.

وفيه وجه آخر: أنَّه يسقط به المهر.

فمن الأصحاب من خرَّجه على أنَّه فسخ؛ فيكون كسائر الفسوخ من الزَّوج.

ص: 108

ومنهم من جعله ممَّا يشترك فيه الزَّوجان؛ لأنَّه إنَّما يكون بسؤال المرأة

(1)

؛ فتكون الفرقة فيه من قبلها، ولذلك يسقط إرثها بالخلع في المرض.

وهذا على قولنا: لا يصحُّ مع الأجنبيِّ إذا قلنا: هو فسخ

(2)

أظهر، فأمَّا إن وقع مع الأجنبيِّ وصحَّحناه؛ فينبغي أن يتنصَّف به المهر وجهاً واحداً.

ومنها: إسلامه والزَّوجة غير كتابيَّة في إحدى الرِّوايتين.

وفي الأخرى: يسقط المهر؛ لأنَّه فعل الواجب عليه، وإنَّما وقعت الفرقة بامتناعها من الإسلام؛ فلا يكون لها مهر.

ومنها: ردَّته عن الإسلام.

ومنها: إقراره بالنَّسب أو بالرَّضاع أو غير ذلك من المفسدات؛ فتقبل منه في انفساخ النِّكاح، دون سقوط النِّصف.

ومنها: أن يطأ أمَّ زوجته أو ابنتها بشبهة أو زنًى؛ فينفسخ نكاح البنت، ويجب لها نصف الصَّداق، نصَّ عليه في رواية ابن هانئ

(3)

.

ويستثنى من هذا القسم: الفسوخ الَّتي تملَّكها الزَّوج لضرر يلحقه؛

(1)

كتب على هامش (ن): (في هذا التعليل نظر؛ فإن فرض المسألة في الخلع بسؤال الأجنبي، وأما بسؤال المرأة؛ فسيأتي فيما يشترك فيه الزوجان، وهو معنى قوله: تخالعهما).

(2)

قوله: (إذا قلنا: هو فسخ) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و).

(3)

ينظر: مسائل ابن هانئ (1/ 214).

ص: 109

إمَّا لظهور عيب في الزَّوجة، أو فوات شرط، فيسقط بها المهر؛ لأنَّ حكم الفسوخ في العقود لعيب ظهر في المعقود عليه ترادُّ العوضين من الجانبين، وقد وُجد ذلك قبل تمكُّنه من قبض المعقود عليه واستيفائه، وإنَّما استحقَّت نصف المهر في الطَّلاق وما كان في معناه؛ جبراً لها، حيث لم يكن له موجِب من جهتها، وهنا قد وجد سبب من جهتها؛ فصار كالمنسوب إليها.

القسم الثَّاني: ما استقلَّ به الأجنبيُّ وحده.

ومن صور ذلك: أن تُرضع زوجتُه الكبرى زوجتَه الصُّغرى.

ومنها: أن يُكرِه الرَّجل

(1)

زوجة أبيه أو ابنه على الوطء قبل الدُّخول.

القسم الثَّالث: ما استقلَّت به الزَّوجة وحدها، وله صور:

منها: ردَّتها.

ومنها: إسلامها

(2)

.

وفيه رواية أخرى: أنَّ لها نصف المهر؛ لأنَّها فعلت الواجب عليها؛ فنسب الفسخ إلى امتناع الزَّوج من الإسلام

(3)

.

(1)

في (ب) و (ج) و (ن): رجل.

(2)

كتب على هامش (ن): (قال أبو بكر في «الشافي»: إذا أسلمت قبل دخوله بها، أو لم يكن سبيل لها في تسليم الزوج نفسها حتى وقعت الفرقة؛ فلا صداق لها، وهذا اختياري. من هامش النسخة المعتمدة).

(3)

قوله: (من الإسلام) سقط من (أ) و (ج) و (هـ) و (و).

ص: 110

ومنها: إرضاعها من تثبت به المحرميَّة بينها وبين الزَّوج، وكذلك ارتضاعها بنفسها وهي صغيرة.

ومنها: فسخها النِّكاح لعيب الزَّوج، قال الأصحاب: هو منسوب إليها؛ فيسقط به مهرها، بخلاف فسخ الزَّوج لعيبها؛ فإنَّه منسوب إليها لا إليه؛ فسقط المهر أيضاً لذلك.

وفرَّقوا بينهما: بأنَّ فسخه لعيبها ردٌّ للمعقود عليه بعيب؛ فلا ينسب إلَّا إلى من دلَّس العيب، بخلاف فسخها لعيبه؛ فإنَّ العيب ليس في المعقود عليه، بل في غيره؛ فقد امتنعت من تسليم المعقود عليه مع سلامة العوضين لضرر دخيل؛ فلذلك نسب الفعل إليها، وهذا يرجع إلى أنَّ الزَّوج غير معقود عليه في النِّكاح، وفيه خلاف سبق ذكره.

والأظهر في الفرق أن يقال: الفسوخ الشَّرعيَّة الَّتي يملكها كلٌّ من الزَّوجين على الآخر إنَّما شرعت لإزالة ضرر حاصل، فإذا وقعت قبل الدُّخول؛ فقد رجع كلٌّ من الزَّوجين إلى ما بذله سليماً كما خرج منه؛ فلا حقَّ له في غيره، بخلاف الطَّلاق وما في معناه من موجِبات الفرقة بغير ضرر ظاهر؛ فإنَّه يحصل بها للمرأة انكسار وضرر؛ فجبره الشَّارع بإعطائها نصف المهر عند تسمية المهر، وبالمتعة عند فقد التَّسمية، والله أعلم.

ونقل مهنَّى عن أحمد في مجبوب تزوَّج امرأة، فلمَّا دخل عليها لم ترض به؛ لها ذلك، وعليه نصف الصَّداق إذا لم ترض به.

قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: هذا يدلُّ على أنَّ المرأة إذا فسخت قبل

ص: 111

الدُّخول، فلها نصف الصَّداق؛ لأنَّ سبب الفسخ وهو العيب من جهته، وهي معذورة في الفسخ

(1)

.

وأمَّا القاضي؛ فقال: قد وجد الدُّخول، وإنَّما

(2)

لم تقرِّر المهر كلَّه؛ للمانع القائم به.

ومنها: فسخها النِّكاح لإعسار الزَّوج بالمهر أو النَّفقة أو غير ذلك؛ كالفسخ لفوات شرط صحيح، قال القاضي والأكثرون: هو منسوب إليها؛ فيسقط به مهرها؛ كما في الفسخ لعيب

(3)

الزَّوج.

وقال أبو بكر في «التَّنبيه» : فسخها لفوات الشَّرط يجب لها به نصف المهر؛ لأنَّ فوات الشَّرط من قبل الزَّوج، فنسب الفسخ به إليه دونها.

وقياسه: الفسخ لمنع النَّفقة ونحوه ممَّا هو من فعل الزَّوج وهو قادر على إزالته.

فأمَّا

(4)

الفسخ لعسرته؛ فهو كالفسخ لعيبه على ما تقدَّم.

قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين (ويلزم من قال: إنَّ خروج البُضع متقوَّم بمهر المثل، وإنَّ الفرقة من جهتها كإتلاف البائع للمبيع قبل القبض؛ أن

(1)

لم نقف على كلامه هذا، وجاء في مجموع الفتاوى (32/ 171):(إذا ظهر بأحد الزوجين جنون أو جذام أو برص: فللآخر فسخ النكاح؛ لكن إذا رضي بعد ظهور العيب فلا فسخ له، وإذا فسخت فليس لها أن تأخذ شيئًا من جهازها، وإن فسخت قبل الدخول سقط مهرها، وإن فسخت بعده لم يسقط).

(2)

في (ب) و (ج): وإنَّها.

(3)

في (أ) و (د): بعيب.

(4)

في (أ): وأما.

ص: 112

يخيَّر الزَّوج بين

(1)

مطالبتها بمهر المثل وضمان المسمَّى لها، وبين إسقاط المسمَّى)

(2)

.

ومنها: فسخ المعتَقة تحت عبد قبل الدُّخول، وفيه روايتان:

إحداهما: لا مهر لها، اختارها الخرقيُّ وغيره؛ لاستقلالها بالفسخ؛ كالحرَّة.

والثَّانية: يتنصَّف المهر، نقلها مهنَّى، واختارها أبو بكر؛ لأنَّ السَّيِّد هو مستحقُّ المهر؛ فلا يسقط بفسخ غيره.

ويجاب عنه: بأن

(3)

إعتاق السَّيِّد تسبَّب في الفسخ؛ فسقط حقُّه لتسبُّبه في سقوطه، وإن باشره غيره؛ كمن قال لغيره: ألقِ متاعي في البحر، ففعل.

القسم الرَّابع: ما اشترك فيه الزَّوجان، وله صور:

منها: لِعانهما؛ فذكر أبو بكر: أنَّ فرقة اللِّعان جاءت من جهة الزَّوجة؛ لأنَّ الفرقة إنَّما تقع بلعانها.

وقال القاضي: يُخرَّج على روايتين، أصلهما: إذا لاعنها في مرض موته؛ فهل ترثه؟ على روايتين.

ومنها: تخالُعُهما، وقد سبق أنَّ المنصوص عن أحمد: أنَّ لها نصف الصَّداق، وهو قول القاضي وأصحابه.

(1)

في (ب): من.

(2)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 345).

(3)

قوله: (بأن) هو في (أ): بأنْ يقال: إنَّ.

ص: 113

وإنَّ لنا وجهاً آخر: أنَّه يسقط المهر إذا قلنا: هو فسخ؛ فإنه يكون منسوباً إليهما، فيكون كالتَّلاعن، بخلاف ما إذا قلنا: إنَّه طلاق؛ فإنَّ

(1)

الطَّلاق يستقلُّ به الزَّوج؛ فهو كما لو قال لها ابتداء: أنت طالق بألف، فقبلته.

ويتخرَّج لنا وجه آخر: أنَّه يسقط به المهر - وإن قلنا: هو طلاق -؛ بناء على أنَّه جاء من قِبَلِها بسؤالها، ولهذا كان لنا فيمن خالعت زوجها في مرضه؛ هل ترثه؟ روايتان، وجزم ابن أبي موسى: بأنَّها لا ترثه؛ لأنَّ الفرقة جاءت من قِبَلِها، فلا يكون لها شيء من الصَّداق حينئذ.

يؤيِّد هذا: أنَّ الخلع يُسقِط حقوق الزَّوجيَّة كلَّها في إحدى الرِّوايتين عن أحمد، ونصف المهر من الحقوق؛ فيسقط على هذه الرِّواية.

القسم الخامس: ما كان من جهة الزَّوجة مع أجنبيٍّ، وله صور:

منها: شراؤها للزَّوج، وفيه وجهان:

أشهرهما -وهو اختيار أبي بكر والقاضي وأصحابه-: أنَّه يتنصَّف بها المهر؛ تغليباً لجهة الأجنبيِّ هنا، وهو البائع؛ إذ هو أصل العقد، ومنه نشأ، وعنه تُلُقِّي.

والثَّاني: يسقط المهر؛ تغليباً لجهة الزَّوجة؛ إذ الانفساخ متعقِّب لقبولها.

فأمّا شراء الزَّوج لزوجته، فهل يتنصَّف به المهر أو يسقط؟ على وجهين أيضاً، واختيار أبي بكر: أنَّه يسقط؛ تغليباً لجهة البائع هنا

(1)

في (أ) و (و): فلأنَّ.

ص: 114

أيضاً، وهو سيِّد الأمة المستحقُّ لمهرها؛ فهو كمجيء الفسخ من الحرَّة المستحقَّة للمهر.

وهذا يتَّجه على ما اختاره في فسخ المعتَقة تحت عبد.

فعلى هذا؛ لو باعها السَّيِّد الَّذي زوَّجها لأجنبيٍّ، ثمَّ باعها الأجنبيُّ للزَّوج قبل الدُّخول؛ لم يسقط المهر؛ لأنَّ الفرقة جاءت من البائع الثَّاني، وهو غير مستحقٍّ المهر، هذا ظاهر كلام صاحب «المحرَّر» .

وعلَّل صاحب «الكافي» سقوط المهر: بأنَّ الزَّوجة شاركت في الفسخ، فسقط مهرها؛ كالفسخ بعيب.

ومعنى هذا: أنَّ كونها أمةً صفةٌ لها ثابتة بعد ملك الزَّوج، وذلك يوجب الفسخ؛ فأسند إليه وإن لم يكن باختيارها؛ كما أسند فسخها لعيب الزَّوج إليه وإن لم يكن باختياره.

وعلى هذا؛ فلا فرق بين شرائها من مستحِقِّ مهرها وغيره، وهو مقتضى إطلاق الأكثرين.

ومنها: إذا مكَّنت الزَّوجة من نفسها من ينفسخ النِّكاح بوطئه؛ كأبي الزَّوج أو ابنه؛ فقال القاضي ومن تبعه: يسقط مهرها؛ إسناداً للفسخ إليها.

وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: يتخرَّج على وجهين؛ لأنَّ الفرقة منها ومن أجنبيٍّ.

ص: 115

وبقي ههنا قسم سادس: وهو الفرقة الإجباريَّة

(1)

، ولها صور:

منها: أن يسلم كافر وتحته عدد لا يجوز له جمعه في الإسلام؛ فينفسخ

(2)

نكاح العدد الزَّائد؛ فلا يجب لهنَّ شيء من المهر، ذكره القاضي في «الجامع» و «الخلاف»؛ معلِّلاً: بأنَّه ممنوع من إمساكهنَّ؛ فهو كالنِّكاح الفاسد، وجزم به صاحب

(3)

«المغني» و «المحرَّر» .

ويتخرَّج لنا وجه آخر: أنَّه يجب نصف المهر من المسألة الَّتي بعدها.

وأمَّا الطَّلاق في النِّكاح الفاسد، فقد

(4)

ذكر ابن عقيل وجهاً: أنَّ المهر يتنصَّف به قبل الدُّخول.

وعلى المشهور: فإنِّما سقط؛ لأنَّ المهر يجب في النِّكاح الفاسد بالإصابة لا بالعقد، بخلاف الصَّحيح.

ومنها: إذا تزوَّج أختين في عقدين، وأشكل السَّابق، وأمرناه بالطَّلاق، فطلَّقهما؛ فقال أبو بكر: يتوجَّه في المهر قولان:

أحدهما: يجب نصف المهر، ثمَّ يقترعان عليه؛ فمن وقعت عليها القرعة؛ حكم لها به؛ لأنَّه واجب لإحداهما في نفس الأمر، فتعيَّن بالقرعة.

(1)

في (د) و (هـ): الاختياريَّة.

(2)

في (ب): فيفسخ.

(3)

في (ب) و (د) و (و): صاحبا.

(4)

في (ب) و (د): قد.

ص: 116

والثَّاني: لا يجب شيء؛ لأنَّه مكره على الطَّلاق، فكأنَّ الفسخ جاء من جهة المرأة، فلا تستحقُّ شيئاً.

والمنقول عن أحمد في هذه المسألة ما نقله عنه مهنَّى أنَّه قال: (يفرَّق بينهما، وقد قيل: يكون نصف المهر لهما جميعاً، وما أخلقه أن يكون كذلك

(1)

! ولكن لم أسمع فيه شيئاً)

(2)

.

وهذا يدلُّ على أنَّهما يقتسمان نصف المهر، لا يقترعان عليه.

ولو زوَّج الوليَّان امرأة من زوجين

(3)

، وجهل السَّابق منهما، وأمرناهما بالطَّلاق؛ فهل يجب لها نصف المهر على أحدهما ويعيَّن بالقرعة، أم لا يجب لها شيء؟ على وجهين.

وحُكي عن أبي بكر أنَّه اختار: أنَّه لا شيء لها، وبه أفتى أبو عليٍّ النَّجاد

(4)

.

قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: (ويتخرَّج على هذا الخلاف: ما إذا ورثت المرأة زوجها؛ فإنَّ الفرقة ههنا بفعل الله عز وجل؛ فهو كاشتباه الزَّوج).

(1)

في (ب): كذاك.

(2)

ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 98).

(3)

قوله: (من زوجين) سقط من (ب).

(4)

هو الحسين بن عبد الله، أبو علي النجاد، كان فقيهًا معظمًا إمامًا في أصول الدين وفروعه، صحب من شيوخ المذهب: أبا الحسن بن بشار، وأبا محمد البربهاري، ومن في طبقتهما، وصحبه جماعة: أبو حفص البرمكي، وأبو حفص العُكْبَري، وأبو الحسن الخرزي، وأبو عبد الله بن حامد. ينظر: طبقات الحنابلة 2/ 140.

ص: 117

‌قاعدة [157]

إذا تغيَّر حال المعتدَّة بانتقالها من رقٍّ إلى حريَّة، أو طرأ عليها سبب موجِب لعدَّة أخرى من الزَّوج؛ كوفاته؛ فهل يلزمها الانتقال إلى عدَّة الوفاة

، أو إلى عدَّة حرَّة؟

إن كان زوجها متمكِّناً من

(1)

تلافي نكاحها في العدَّة؛ لزمها الانتقال، وإلَّا فلا، إلَّا ما يستثنى من ذلك من الإبانة في المرض.

ويتخرَّج على هذا مسائل:

منها: الرَّجعيَّة إذا أُعتقت

(2)

، أو توفِّي زوجها؛ انتقلت إلى عدَّة حرَّة، وعدَّة وفاة.

ومنها: إذا كان تحت عبد مُشرِك إماءٌ، فأسلمنَ وأُعتقن؛ فإنَّ عدَّتهنَّ عدَّة حرائر؛ لأنَّه عتقٌ في عدَّة يتمكَّن الزَّوج فيها من الاستدراك بالإسلام؛ فهي في معنى عدَّة الرَّجعيَّة، بخلاف ما لو أسلم العبد، ثمَّ عَتَق الإماءُ وهنَّ على الشِّرك؛ فإنَّ عدَّتهنَّ عدَّة إماء؛ لأنَّ الزَّوج لا يمكنه تلافي نكاحهنَّ.

ومنها: المرتدُّ إذا قُتل في عدَّة امرأته؛ فإنَّها تستأنف عدَّة الوفاة،

(1)

في (ب): في.

(2)

في (ب) و (ج) و (د)(هـ): عَتَقَتْ.

ص: 118

نصَّ عليه في رواية ابن منصور

(1)

؛ لأنَّه كان يمكنه تلافي النِّكاح بالإسلام؛ بناء على أنَّ الفسخ يقف على انقضاء العدَّة.

ومنها: لو أسلمت امرأة كافر، ثمَّ مات قبل انقضاء العدَّة؛ فإنَّها تنتقل إلى عدَّة الوفاة في قياس الَّتي قبلها، ذكره الشَّيخ تقيُّ الدِّين.

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (4/ 1818): (قلت: المرتد كم تعتد امرأته؟ قال أحمد: ثلاثة قروء. قلت: فإن قُتل؟ قال أحمد: أربعه أشهر وعشراً).

ص: 119

‌قاعدة [158]

إذا تعارض معنا أصلان؛ عمل بالأرجح منهما؛ لاعتضاده بما يرجِّحه

.

فإن تساويا؛ خُرِّج في المسألة وجهان غالباً.

ومن صور ذلك: ما إذا وقع في الماء نجاسة، وشكَّ في بلوغه قُلَّتين؛ فهل يحكم بنجاسته أو طهارته

(1)

؟ على وجهين:

أحدهما: يحكم بنجاسته، وهو المرجَّح عند صاحبي «المغني» و «المحرَّر» ؛ لأنَّ الأصل عدم بلوغه قلَّتين.

والثَّاني: هو طاهر، وهو أظهر؛ لأنَّ الأصل في الماء الطَّهارة، وأمَّا أنَّ أصله القُلَّة؛ فقد لا يكون كذلك، كما إذا كان كثيراً ثمَّ نقص وشكَّ في قدر الباقي منه.

ويعضد هذا: أنَّ الأصل وجوب الطَّهارة بالماء؛ فلا يعدل إلى التَّيمُّم إلَّا بعد تيقن عدمه.

وأيضاً؛ فللأصحاب خلاف في الماء الَّذي وقعت فيه النَّجاسة؛ هل الأصل فيه أن ينجس إلَّا أن يبلغ حدَّ الكثرة فلا ينجس لمشقَّة حفظ الكثير من النَّجاسة، أم الأصل فيه الطَّهارة إلَّا أن يكون يسيراً فينجس؛

(1)

في (ب) و (هـ) و (و): بطهارته.

ص: 120

لأنَّ اليسير لا يكاد يحيل

(1)

النَّجاسة غالبًا؟

فعلى الأوَّل؛ يجب الحكم بنجاسة هذا الماء.

وعلى الثَّاني؛ يحكم بطهارته.

وعلى هذين المأخذين يتخرَّج الخلاف في إثبات نصف القِربة الَّذي روي الشَّكُّ فيه في ضبط القلَّتين وإسقاطه

(2)

.

وينبني على ذلك: أنَّ القلَّتين؛ هل هما خمس قَرِبٍ أو أربع قرب

(3)

؟ والله أعلم.

ومنها: ما

(4)

إذا وقع في الماء اليسير روثة، وشكَّ: هل هي من مأكول أو غيره؟ أو مات فيه حيوان، وشكَّ: هل هو ذو نفس سائلة أم لا؟ وفيه وجهان:

أحدهما: أنَّه نجس؛ لأنَّ الأصل في الأرواث والميتات النَّجاسة، وحيث قضي بطهارة شيء منهما؛ فرخصة على خلاف الأصل، ولم يتحقَّق وجود المرخِّص ههنا؛ فبقيتا

(5)

على الأصل.

(1)

في (ب) و (ج): يحمل.

(2)

لعله يشير إلى ما روي عن ابن جريج في تحديد قلال هَجَر بقوله: (وقد رأيت قلال هجر، فالقلة تسع قِربتين، أو قربتين وشيئًا) قال الشافعي: (فالاحتياط أن تكون القُلَّة قِربتين ونصفاً)، وقال ابن قدامة:(الاحتياط أن يجعل قربتين ونصفاً). ينظر: سنن البيهقي (1250)، المغني (1/ 19).

(3)

قوله: (قرب) سقط من (ب) و (د) و (هـ) و (و).

(4)

قوله: (ما) سقط من (أ) و (هـ).

(5)

في (ب) و (د): فبقينا. وفي (ج): فبقيا.

ص: 121

والثَّاني: أنَّه طاهر، وهو المرجَّح عند الأكثرين؛ لأنَّ الأصل في الماء الطَّهارة؛ فلا يُزال عنها بالشَّكِّ.

وقد منع بعضهم أنَّ الأصل في الأرواث النَّجاسة

(1)

.

ونصَّ أحمد في رواية محمَّد بن أبي حرب في رجل وطئ على روث لا يدري لحمار أو برذون؛ فرخَّص فيه إذا لم يعرفه

(2)

.

ومنها: إذا قعد الذُّباب على نجاسة رطبة، ثمَّ سقط بالقرب على ثوب، وشكَّ في جفاف النَّجاسة؛ ففيه وجهان:

أحدهما: أنَّه ينجس؛ لأنَّ الأصل بقاء الرُّطوبة، ونقله أبو بكر عن أحمد.

والثَّاني: لا ينجس؛ لأنَّ الأصل طهارة الثَّوب.

ومنها: إذا أدرك الإمامَ في الرُّكوع، فكبَّر وركع معه، وشكَّ: هل رفع إمامه قبل ركوعه أو بعده؟

فالمذهب: أنَّه لا يعتدُّ له بتلك الرَّكعة؛ لأنَّ الأصل عدم الإدراك، وهو منقول عن ابن عمر رضي الله عنهما

(3)

.

(1)

وممن ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام، قال رحمه الله في مجموع الفتاوى (21/ 75):(ودعوى أن الأصل في الأرواث النجاسة ممنوع؛ فلم يدل على ذلك لا نص ولا إجماع، ومن ادعى أصلًا بلا نص ولا إجماع فقد أبطل، وإذا لم يكن معه إلا القياس؛ فروث ما يؤكل لحمه طاهر؛ فكيف يدعى أن الأصل نجاسة الأرواث؟).

(2)

نظر: الفروع (1/ 90).

(3)

لم نجد أثر عن ابن عمر في عدم اعتداده بالركعة عند الشك في إدراك الركوع، ولعله يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق (3361)، والبيهقي (2580)، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:«إذا أدركت الإمام راكعًا، فركعت قبل أن يرفع؛ فقد أدركت، وإن رفع قبل أن تركع؛ فقد فاتتك» ، وإسناده صحيح.

ص: 122

وقال صاحب «التَّلخيص» : يحتمل وجهين: أحدهما أنَّه يعتدُّ له بها؛ لأنَّ الأصل بقاء الإمام في الرُّكوع.

ومنها: إذا شكَّ: هل ترك واجباً في الصَّلاة؛ فهل يلزمه السُّجود؟ على وجهين:

أحدهما: يلزمه، لأنَّ الأصل عدم الإتيان به.

والثَّاني: لا؛ لأنَّ الأصل عدم لزوم السُّجود.

ومنها: إذا كان ماله غائباً، فإن كان منقطعاً خبره؛ لم يجب إخراج زكاته، وإن لم يكن خبره منقطعاً؛ كالمودَع ونحوه؛ ففي وجوب إخراج زكاته قبل قبضه وجهان.

والمنصوص عن أحمد في رواية مهنَّى: أنَّه لا يجب، وعلَّل: بأنَّه لا ندري لعلَّ المال ذهب.

وبنى بعض الأصحاب هذا الخلاف على الخلاف في محلِّ الزَّكاة، فإن قلنا: العين؛ لم يجب الإخراج حتَّى يقبضها ويتمكَّن من الإخراج منها.

وإن قلنا: الذِّمَّة؛ وجب الإخراج من غيرها.

ويتوجَّه عندي: أن يتخرَّج في وجوب الزَّكاة في المال المنقطِع خبرُه وجهان؛ بناء على محلِّ التَّعلُّق، فإن قلنا: هو العين؛ وجب؛ لأنَّ الأصل بقاؤها، لكن لا يلزم إخراج الزَّكاة حتَّى يقبض؛ كالدَّين، وإن

ص: 123

قلنا: هو الذِّمَّة؛ لم يجب؛ لأنَّ الأصل براءة الذِّمَّة، وقد شكَّ في اشتغالها، وأمَّا إن قلنا: لا تجب الزَّكاة في المال الضَّالِّ والمغصوب؛ فهذا مثله.

ومنها: العبد الآبق المنقطع خبره؛ هل تجب فطرته أم لا؟

المنصوص عن أحمد في رواية صالح: أنَّه لا يجب؛ لأنَّ الأصل براءة الذِّمَّة والفطرة في الذِّمَّة.

ويتخرَّج لنا وجه آخر: أنَّه تجب فطرته

(1)

؛ بناء على جواز عتقه؛ لأنَّ الأصل بقاؤه.

ومنها: جواز عتقه في الكفَّارة، والمشهور: عدمه، وذكر أبو الخطَّاب احتمالاً بالإجزاء؛ لأنَّ الأصل بقاؤه.

وذكر ابن أبي موسى في «شرح الخرقيِّ» في المسألة وجهين عن الأصحاب، وصحَّح عدم الإجزاء؛ لأنَّ الأصل بقاء الكفَّارة في الذِّمَّة، وقد عضده الظَّاهر الدَّالُّ على هلاك العبد من انقطاع خبره؛ فرجَّح هذا الأصل باعتضاده بهذا الظَّاهر.

وأيضاً؛ فالكفَّارة ثابتة في الذِّمَّة، وقد شكَّ في وقوع العتق عنها؛ فلا يسقط بمجرَّد ذلك.

ومنها: إذا ظهر بالمبيع عيب، واختلفا؛ هل حدث عند المشتري أو عند البائع؟ ففيه روايتان:

إحداهما: القول قول البائع؛ لأنَّ الأصل سلامة المبيع، ولزوم

(1)

قوله: (فطرته) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ).

ص: 124

البيع بالتَّفرُّق.

والثَّانية: القول قول المشتري؛ لأنَّ الأصل عدم القبض المُبْرِئ.

وأطلق أكثر الأصحاب هذا الخلاف.

وفرَّق بعضهم بين أن يكون البيع عيناً معيَّنة، أو في الذِّمَّة، فإن كان في الذِّمَّة؛ فالقول قول القابض وجهاً واحداً؛ لأنَّ الأصل اشتغال ذمَّة البائع

(1)

، ولم تثبت براءتها.

ومنها: من لزمه ضمان قيمة عين، فوصفها بعيب ينقُصُ القيمةَ، وأنكر المستحِقُّ، فهل يقبل قوله في دعوى العيب؛ لأنه غارم والأصل براءة ذمَّته، أو قول خصمه في إنكار العيب؛ لأنَّ الأصل عدمه؟ على وجهين.

ومنها: إذا آجَرَه عبداً وسلَّمه إليه، ثمَّ ادَّعى المستأجر أنَّ العبد أَبَق من يده، وأنكر المؤْجِر؛ ففيه روايتان:

إحداهما: القول قول المؤْجِر، نقلها حنبل؛ لأنَّ الأصل عدم الإباق، وأنَّ المؤْجِرَ ملك الأجرة كلَّها بالعقد.

والثَّانية: القول قول المستأجر، نقلها ابن منصور

(2)

؛ لأنَّ الأصل عدم تسليمه

(3)

المنفعة المعقود عليها.

ولو ادَّعى أنَّ العبد مرض؛ فالقول قول المؤْجِر، نصَّ عليه في رواية

(1)

في (ب) و (و): اشتغال الذِّمَّة ذمة البائع.

(2)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2915).

(3)

في (ب) و (د) و (هـ) و (و): تسليم. وفي (ج) و (ن): تسلُّم.

ص: 125

ابن منصور

(1)

، مفرِّقاً بينه وبين الإباق؛ لأنَّ المرض يمكن إقامة البيَّنة عليه، بخلاف الإباق.

ومنها: إذا ضُرب للعنين الأجل، واختلفا في الإصابة، والمرأة ثيِّب؛ فهل القول قول الزَّوجة؛ لأنَّ الأصل عدم الوطء، أو القول

(2)

قول الزَّوج؛ لأنَّ الأصل عدم ثبوت الفسخ؟ على روايتين.

وعنه رواية ثالثة: أنَّه يخلَّى معها، ويؤمر بإخراج مائه، وهذا يرجع إلى ترجيح الظَّاهر على الأصل.

ومنها: إذا أسلم الزَّوجان بعد الدُّخول، فقال الزَّوج: أسلمتِ في عدَّتِكِ؛ فالنِّكاح باقٍ، وقالت: بل أسلمتُ بعد انقضاء عدَّتي؛ فوجهان

(3)

:

أحدهما: القول قوله؛ لأنَّ الأصل بقاء النِّكاح.

والثَّاني: أنَّ القول قولها؛ لأنَّ الأصل عدم إسلامه في العدَّة.

ومنها: إذا قال: أسلمتُ قَبْلَكِ؛ فلا نفقة لك، وقالت: بل أسلمتُ قَبْلَكَ؛ فلي النَّفقة؛ وفيه وجهان أيضاً:

أحدهما: القول قولها؛ لأنَّ الأصل وجوب النَّفقة.

والثَّاني: القول قوله؛ لأنَّ النَّفقة إنَّما تجب بالتَّمكين من الاستمتاع

(4)

، والأصل عدم وجوده، كذا ذكر صاحب «الكافي» .

(1)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2916).

(2)

قوله: (القول) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن).

(3)

في (أ): فوجهان أيضاً.

(4)

في (أ) و (ب): الاستحقاق. والمثبت موافق لما في الكافي (3/ 55).

ص: 126

وعلَّل القاضي: بأنَّ النَّفقة تجب يوماً فيوماً؛ فالأصل

(1)

عدم وجوبها.

وينتقض التَّعليلان بالاختلاف في النُّشوز.

ومنها: إذا علَّق الطَّلاق على عدم شيء، وشكَّ في وجوده؛ فهل يقع الطَّلاق؟ على وجهين:

أصحُّهما: أنَّه لا يقع، وهو المذهب عند صاحب «المحرَّر» ؛ لأنَّ الأصل بقاء النِّكاح، وعدم وقوع الطَّلاق.

والثَّاني: يقع، ونقل مهنَّى عن أحمد ما يدلُّ عليه فيمن حلف ليأكلنَّ

(2)

تمرة، فاختلطت في تمر كثير:(إن لم يأكله كلَّه حنِث)، وبذلك جزم ابن أبي موسى والشِّيرازيُّ والسَّامريُّ، ورجَّحه ابن عقيل في «فنونه»

(3)

؛ لأنَّ الأصل وجود شرط الطَّلاق، وهو العدم المعلَّق عليه.

وذكر القاضي

(4)

في «الجامع الكبير» ما يدلُّ على أنَّه إن وجد ما يدلُّ على انتفائه ظاهراً؛ وقع الطَّلاق، وإن وجد ما يدلُّ على وجوده ظاهراً؛ فوجهان

(5)

؛ لأنَّ الأصل وجود شرط الطَّلاق، وهو العدم المعلَّق عليه.

(1)

في (أ) و (هـ): والأصل.

(2)

في (ب): لا يأكلن.

(3)

قوله: (ورجحه ابن عقيل في فنونه) سقط من (ب).

(4)

كتب على هامش (ن): (من قوله: "وذكر القاضي" إلى قوله: "المعلق عليه" ليس ثابت في النسخة المعتمدة، وهو الظاهر، فإن ما بعده ليس منه).

(5)

من قوله (وذكر القاضي في الجامع الكبير) إلى هنا سقط من (ب).

ص: 127

وهذا الخلاف إنَّما هو فيما إذا استمرَّ الشَّكُّ، ولم يوجد ما يدلُّ على بقاء العدم ولا على انتفائه؛ فإن وجد ما يدلُّ على بقائه يقيناً؛ وقع الطَّلاق بغير خلاف.

وإن وجد ما يدلُّ على بقائه ظاهراً، وكان حجَّة شرعيَّة يجب قبولها؛ فكذلك.

وإن كان أمارة محضة؛ وقع أيضاً على المشهور.

وإن وجد ما يدلُّ على انتفاء العدم يقيناً؛ لم يقع الطَّلاق بغير خلاف.

وإن وجد ما يدلُّ على انتفائه ظاهراً؛ فوجهان على قولنا: بوقوع الطَّلاق مع استمرار الشَّكِّ المساوي.

ومنها: لو قَتَل من لا يعرف، ثمَّ ادَّعى رقَّه أو كفره، وأنكر الوليُّ ذلك؛ فهل يقبل قوله؛ لأنَّ الأصل عصمة دمه، أو قول الوليِّ؛ لأنَّ الأصل في القتل إيجاب القصاص إلَّا أن يمنع مانع، ولم يتحقَّق وجود المانع؟ على وجهين، أشهرهما الثَّاني.

وحُكي الأوَّل عن أبي بكر.

وكذا الخلاف فيما إذا جنى على عضو، ثمَّ ادَّعى شلله، وأنكر المجنيُّ عليه.

لكن المحكي عن أبي بكر ههنا: أنَّ القول قول المنكر.

وكذلك الوجهان إذا قدَّ ملفوفاً نصفين، ثمَّ ادَّعى أنَّه كان ميِّتاً، وأنكر الوليُّ؛ لأنَّ الأصل عصمة الدَّم، والأصل حياة المقدود.

ص: 128

وكذا الوجهان لو جنى على بطن حامل، فألقت ولداً لوقت يعيش المولود في مثله، واختلفا في حياته عند الوضع لتعارض أصل الحياة وبراءة الذِّمَّة.

وكذا الوجهان لو زاد في القصاص من الجراح، وقال: إنَّما حصلت الزِّيادة باضطراب المقتصِّ منه، وأنكر ذلك؛ لأنَّ الأصل عدم الاضطراب ووجوب الضَّمان، والأصل براءة ذمَّته، وما يدَّعيه محتمل.

ومنها: لو شهدت بيِّنة بالنِّكاح، وقد ثبت الطَّلاق؛ فهل يجب به جميع المهر، أم نصفه فقط؟ على وجهين:

أحدهما: يجب المهر كلُّه؛ لأنَّه وجب بالعقد، ولم يثبت له مسقط ولا لبعضه، وهو مقتضى قول أبي الخطَّاب وصاحب «المحرَّر» .

والثَّاني: يجب نصف المهر فقط؛ لأنَّ النِّصف الآخر لا يستقرُّ إلَّا بالدُّخول، ولم يتحقَّق، والأصل عدمه، وهو قول القاضي.

وقال صاحب «المغني» : إن أنكر الزَّوج الدُّخول؛ فالقول قوله في تنصُّف المهر، وإلَّا فالقول قولها في وجوبه كلِّه.

ومنها: إذا رمى صيداً فجرحه، ثمَّ غاب عنه ووجده ميِّتاً ولا أثر به غير سهمه، أو جرحه جرحاً موحياً، ثمَّ سقط في ماء ونحوه؛ فهل يباح؟ على روايتين؛ لأنَّ الأصل عدم مشاركة سبب آخر في قتله، والأصل تحريم الحيوان حتَّى يتيقَّن سبب إباحته، لكنَّ الأصل الأوَّل معتضد بأنَّ الظَّاهر موته بهذا السَّبب دون غيره.

ص: 129

ومنها: إذا جاء بعض العسكر بمشرك، فادَّعى المشرك أنَّ المسلم أمَّنه، وأنكر؛ ففيه روايتان:

إحداهما: القول قول المسلم في إنكار الأمان؛ لأنَّ الأصل عدم الأمان.

والثَّانية: القول قول المشرك؛ لأنَّ الأصل في الدِّماء الحظر إلَّا بيقين الإباحة، وقد وقع الشَّكُّ هنا فيها.

وفيه رواية ثالثة: أنَّ القول قول من يدلُّ الحال على صدقه منهما؛ ترجيحاً لأحد الأصلين بالظَّاهر الموافق له.

وقريبٌ من هذه المسألة: إذا دخل حربيٌّ دار الإسلام، وادَّعى أنَّ بعض المسلمين عقد له أماناً؛ هل يقبل قوله؟ على وجهين ذكرهما صاحب «المغني» .

ونصَّ أحمد: (أنَّه إذا ادَّعى أنَّه جاء مستأمناً، فإن كان معه سلاح؛ لم يقبل منه، وإلَّا قُبل)

(1)

، فيُخرَّج ههنا مثله.

(1)

ينظر: الكافي (4/ 163).

ص: 130

‌قاعدة [159]

إذا

(1)

تعارض الأصل والظَّاهر:

فإن كان الظَّاهر حجَّة يجب قبولها شرعاً؛ كالشَّهادة والرِّواية والإخبار؛ فهو مقدَّم على الأصل بغير خلاف.

وإن لم يكن كذلك، بل كان مستندُه العرفَ، أو

(2)

العادةَ الغالبةَ، أو القرائنَ، أو غلبةَ الظَّنِّ، ونحوَ ذلك:

فتارة يعمل بالأصل، ولا يلتفت إلى هذا الظَّاهر.

وتارة يعمل بالظَّاهر، ولا يلتفت إلى الأصل.

وتارة يخرَّج في المسألة خلاف.

فهذه أربعة أقسام:

القسم الأوَّل: ما ترك فيه العمل بالأصل للحجَّة الشَّرعيَّة، وهي قول من يجب العمل بقوله، وله صور كثيرة جدًّا:

منها: شهادة عدلين بشغل ذمَّة المدَّعى عليه.

ومنها: شهادة عدلين ببراءة ذمَّة من علم اشتغال ذمَّته بدَيْن ونحوه.

(1)

في (أ) و (ج) و (هـ): وإذا.

(2)

قوله: (أو) سقطت من (أ).

ص: 131

ومنها: إخبار الثِّقة العدل بأنَّ كلباً ولغ في هذا الإناء.

ومنها: إخباره بدخول وقت الصَّلاة.

ومنها: شهادة الواحد العدل برؤية هلال رمضان؛ فإنَّه مقبول على ظاهر المذهب.

وفيه رواية أخرى: أنَّه

(1)

لا بدَّ من شهادة عدلين؛ كسائر الشُّهود.

وفرَّق أبو بكر بين أن يراه في المصر؛ فلا يقبلُ، وبين أن يراه خارجاً من المصر ثمَّ يَقدَمَ إلى المصر؛ فيقبل خبره.

ومنها: إخبار الثِّقة بطلوع الفجر في رمضان؛ فإنَّه يحرِّم الطَّعام والشَّراب والجماع.

ومنها: إخباره بغروب الشَّمس في رمضان؛ فإنَّه يبيح الفطر، صرَّح به الأصحاب، ولم يجعلوه كالشَّهادة على هلال شوَّال، والفرق بينهما من وجهين:

أحدهما: أنَّ وقت الفطر ملازم لوقت صلاة المغرب، فإذا ثبت دخول وقت

(2)

الصَّلاة بإخبار الثِّقة؛ ثبت دخول وقت الإفطار تبعاً له، وقد يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، بخلاف الشَّهادة بهلال شوَّال.

والثَّاني: أنَّ إخبار الثِّقة تقارنه

(3)

أمارات تشهد بصدقه؛ لأنَّ وقت الغروب يتميِّز

(4)

بنفسه، وعليه أمارات تورث غلبة ظنٍّ، فإذا انضمَّ إليها

(1)

قوله: (أنَّه) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ).

(2)

قوله: (دخول وقت) هو في (أ): وقت دخول.

(3)

في (أ): تقاربه. وفي (هـ) و (ن): يقارنه.

(4)

في (ب): مميز.

ص: 132

إخبار الثِّقة؛ قوي الظَّنُّ، وربَّما أفاد العلم، بخلاف هلال الفطر؛ فإنَّه لا أمارة عليه.

وفي «صحيح ابن حبَّان» من حديث سهل بن سعد، قال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا كان صائماً؛ أمر رجلاً فأوفى على شيء، فإذا قال: قد غابت الشَّمس؛ أفطر

(1)

.

وصحَّ عن ابن عبَّاس: أنَّه كان يضع طعامه عند الفطر في رمضان، ويبعث مرتئياً يرقب الشَّمس، فإذا قال: وجبت؛ قال: كلوا

(2)

.

ومن ذلك: قبول قول الأمناء ونحوهم ممَّن يقبل قوله في تلف ما اؤتمن عليه من مال أو غيره.

ومنه أيضاً: قبول قول المعتدَّة في انقضاء عدَّتها بالأقراء، ولو في شهر في أحد الوجهين.

والمنصوص: أنَّه لا يقبل إلَّا بالبيِّنة في الشَّهر.

وفرَّق صاحب «التَّرغيب» بين من لها عادة منتظمة؛ فلا تقبل مخالفتها إلَّا ببيِّنة، بخلاف من لا عادة لها.

وفي «الفنون» لابن عقيل: لا تقبل مع فساد النِّساء إلَّا ببيِّنة تشهد أنَّ هذه عادتها، أو أنَّها رأت الحيض على هذا المقدار، وتكرَّر ثلاثاً.

القسم الثَّاني: ما عمل فيه بالأصل، ولم يلتفت إلى القرائن الظَّاهرة ونحوها.

(1)

أخرجه ابن حبان (3510)، وأخرجه ابن خزيمة (2061)، والحاكم (1584).

(2)

أخرجه عبد الرزاق (7597)، وابن أبي شيبة (8943).

ص: 133

وله صور كثيرة:

منها: إذا ادَّعت الزَّوجة بعد طول مقامها مع الزَّوج: أنَّه لم يوصلها النَّفقة الواجبة ولا الكسوة؛ فقال الأصحاب: القول قولها مع يمينها، لأنَّ الأصل معها، مع أنَّ العادة تُبعد ذلك جدًّا.

واختار الشَّيخ تقيُّ الدِّين: الرُّجوع إلى العادة هنا، وخرَّجه وجهاً من المسائل المختلف فيها كما سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى، قال: (فإذا

(1)

وجد معها نظير الصَّداق أو الكسوة، ولم يُعلَم لها سببٌ تَملِكُ ذلك به من غير الزَّوج؛ فينبغي أن يخرَّج على وجهين، كما إذا أصدقها تعليم سورة، ثمَّ وجدت متعلِّمة لها بعد مدَّة، وقالت: لم يعلِّمني الزَّوج، وادَّعى هو أنَّه علَّمها؛ فإنَّ في المسألة وجهين)

(2)

.

ومنها: إذا تيقَّن الطَّهارة أو النَّجاسة في ماء، أو ثوب، أو أرض، أو بدن، وشكَّ في زوالها، فإنَّه يبني على الأصل إلى أن يتيقَّن زواله، ولا يكتفي في ذلك بغلبة ظنٍّ ولا غيره.

وكذلك لو تيقَّن حدثاً أو نجاسة، وغلب على ظنِّه زوالهما؛ فإنَّه يبني على الأصل.

وكذلك في النِّكاح والطَّلاق وغيرهما.

ومنها: إذا شكَّ في طلوع الفجر في رمضان؛ فإنَّه يباح له الأكل حتَّى يتيقن طلوعه، نصَّ عليه أحمد

(3)

، ولا عبرة في ذلك بغلبة الظَّنِّ

(1)

في (ب): وإذا.

(2)

ينظر: الفروع (9/ 302).

(3)

ينظر: مسائل أبي داود (ص 134).

ص: 134

بالقرائن ونحوها، ما لم يكن مستنداً إلى إخبار ثقة بالطُّلوع.

ومنها: إذا زنى من له زوجة وولد، فأنكر أن يكون وطئ زوجته؛ قال أصحابنا: لا يُرجم؛ لأنَّ الأصل عدم الوطء، ولحوق النَّسب يثبت بمجرَّد الإمكان ووجود الفراش.

القسم الثَّالث: ما عُمِل فيه بالظَّاهر ولم يلتفت إلى الأصل، وله صور:

منها: إذا شكَّ بعد الفراغ من الصَّلاة أو غيرها من العبادات في ترك ركن منها؛ فإنَّه لا يلتفت إلى الشَّكِّ، وإن كان الأصل عدم الإتيان به وعدم براءة الذِّمَّة؛ لكنَّ الظَّاهر من أفعال المكلَّفين للعبادات: أن تقع على وجه الكمال؛ فرُجِّح هذا الظَّاهر على الأصل.

ولا فرق في ذلك بين الوضوء وغيره على المنصوص عن أحمد.

وفي الوضوء وجه: أنَّ الشَّكَّ في ترك بعضه بعد الفراغ كالشَّكِّ في ذلك

(1)

قبل الفراغ؛ لأنَّ حكمه باقٍ بعد الفراغ منه، بخلاف الصَّلاة وغيرها.

ومنها: لو صلَّى ثمَّ رأى عليه نجاسة، وشكَّ: هل لحقته قبل الصَّلاة أو بعدها، وأمكن الأمران؛ فالصَّلاة صحيحة، وإن كان الأصل عدمَ انعقاد الصَّلاة وبقاءَها في الذِّمَّة حتَّى يتيقَّن صحَّتها، لكن حُكِم بالصِّحَّة؛ لأنَّ الظَّاهر صحَّة أعمال المكلَّف وجريانها على الكمال.

وعَضَد ذلك: أنَّ الأصل عدم مقارنة الصَّلاة للنَّجاسة؛ فتَرجِعُ

(1)

قوله: (في ذلك) سقط من (أ).

ص: 135

المسألة حينئذ إلى تعارض أصلين، ورُجِّح

(1)

أحدهما بظاهرٍ يعضده.

ومنها: إذا اختلف المتبايعان بعد العقد في بعض شرائط صحَّة العقد؛ كما إذا ادَّعى البائع أنَّه كان صبيًّا، أو غير مأذون له، أو غير ذلك، وأنكر المشتري؛ فالقول قول المشتري على المذهب

(2)

، ونصَّ عليه أحمد في صورة دعوى الصِّغر في رواية ابن منصور

(3)

؛ لأنَّ الظَّاهر وقوع العقود على وجه الصِّحَّة دون الفساد؛ وإن كان الأصل عدم البلوغ والإذن.

وذكر الأصحاب وجهاً آخر في دعوى الصِّغر: أنَّه يقبل؛ لأنَّه لم يثبت تكليفه، والأصل عدمه، بخلاف دعوى عدم الإذن من المكلَّف؛ فإنَّ المكلَّف لا يتعاطى في الظَّاهر إلا الصَّحيح.

وقال

(4)

الشَّيخ تقيُّ الدِّين: وهكذا يجيء في الإقرار وسائر

(5)

التَّصرُّفات إذا اختلفا

(6)

؛ هل وقعت بعد البلوغ أو قبله؟ لأنَّ الأصل في

(1)

في (ب) و (هـ): رجَّح. وفي (ج): فرجَّح.

(2)

كتب على هامش (ن): (وكما لو اختلفا بعد البيع في الرؤية؛ فالقول قول مدعيها؛ لادعائه الصحة، وهي الظاهر).

(3)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2830): قلت: قال الثوري: رجل باع بيعاً، فقال: لقد بعتك وأنا صغير، فقال المبتاع: بعتني وأنت بالغ، ولم تك بينة، قال:(البيع صحيح حتى يأتي المدعي بفساده).

(4)

في (ب) و (ج) و (هـ) و (ن): قال.

(5)

في (ب): سائر.

(6)

في (ب): اختلفنا.

ص: 136

العقود الصِّحَّة، فإمَّا أن يقال: إنَّ

(1)

هذا عامٌّ، وإمَّا أن يفرَّق بين أن يُتيقَّن أنَّه وقت التَّصرُّف كان مشكوكاً فيه غير محكوم ببلوغه، أو لا يُتيقَّن، فإنَّا مع تيقُّن الشَّكِّ قد تيقَّنَّا صدور التَّصرُّف ممَّن لم تثبت أهليته، والأصل عدمها؛ فقد شَكَكْنا في شرط الصِّحَّة، وذلك مانع من الصِّحَّة.

وأمَّا في الحالة الأخرى؛ فإنَّه يجوز صدوره في حال الأهليَّة وحال عدمها، والظَّاهر صدوره وقت الأهليَّة، والأصل عدمه قبل وقتها؛ فالأهليَّة هنا متيقَّن وجودها.

ثمَّ ذكر أنَّ من لم يقرَّ بالبلوغ حتَّى تعلَّق به حقٌّ مثل إسلامه بإسلام أبيه، أو ثبوت الذِّمَّة له تبعاً لأبيه، أو بعد تصرُّف الوليِّ له، أو تزويج وليٍّ أبعد منه لموليَّته؛ فهل يُقبَل منه دعوى البلوغ حينئذٍ، أم لا؛ لثبوت هذه الأحكام المتعلِّقة به في الظَّاهر قبل دعواه؟

وأشار إلى تخريج المسألة على الوجهين فيما إذا ارتجع الرَّجعيَّةَ زوجُها، فقالت: قد انقضت عدَّتي.

وشبَّهه

(2)

(3)

بما إذا ادَّعى المجهول المحكوم بإسلامه ظاهراً - كاللَّقيط- الكفرَ

(4)

بعد البلوغ؛ فإنَّه لا يُسمع منه على الصَّحيح.

وكذا لو تصرَّف المحكوم بحريَّته ظاهراً كاللَّقيط، ثمَّ ادَّعى الرِّقَّ؛ ففي قبول قوله خلاف معروف

(5)

.

(1)

قوله: (إنَّ) سقط من (أ) و (ج) و (هـ) و (و).

(2)

في (ب) و (ن): وشبَّهها.

(3)

زيد في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): (أيضًا)، وضُرب عليه في (أ).

(4)

في (ب): الكافر.

(5)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 528).

ص: 137

ومنها: إذا غلب على ظنِّه دخول وقت الصَّلاة؛ فإنَّه تصحُّ صلاته، ولا يشترط أن يتيقَّن دخوله في ظاهر المذهب.

وحُكي عن ابن حامد: أنَّه يعتبر التَّيقُّن.

ومنها: الفطر في الصِّيام؛ يجوز بغلبة ظنِّه

(1)

غروبَ الشَّمس في ظاهر المذهب.

ومن الأصحاب من قال: لا يجوز الفطر إلَّا مع تيقُّن الغروب، وبه جزم صاحب «التَّلخيص» .

والأوَّل أصحُّ؛ لأنَّ الوقت عليه أمارات يُعرَف بها؛ فاكتُفي فيه بالظَّنِّ الغالب، بخلاف ما لا أمارة عليه؛ من إتمام الصَّلاة، والطَّهارة، والحدث ونحوها.

وأيضاً؛ فالصَّلاة والطَّهارة ونحوهما، كلٌّ منهما عبادة فعليَّة مطلوبة الوجود، فإذا شكَّ في فعل شيء منها؛ فالأصل عدمه؛ فلا يخرج من عهدته إلَّا بيقين، والصَّوم عبادة هي ترك وكفٌّ عن محظورات خاصَّة، فمتى لم يتيقَّن وقوع محظوراتها في وقتها؛ لم يحكم ببطلانها، وإنَّما مُنِع من الخروج منها بمجرَّد الشَّكِّ المساوي؛ لأنَّ الأصل بقاء الصَّوم، ولم يترجَّح ظنٌّ يعارضه، فإذا ترجَّح الظَّنُّ؛ عُمِل به ولم يحكم ببطلانه بوقوع محظوراته حينئذٍ، لا سيَّما وفعل محظوراته مع ترجُّح ظنِّ انقضائه مطلوبٌ شرعاً على الأظهر، ولهذا جاز الأكل أو استُحِبَّ مع ظنِّ

(2)

(1)

في (ب) و (و) و (ن): ظنِّ. وفي (ج) و (هـ): الظَّنِّ.

(2)

قوله: (ظنِّ) سقط من (ب) و (ج).

ص: 138

طلوع الفجر حتَّى يتحقَّق طلوعه كما سبق.

والفرق بينه وبين وقت الصَّلاة من وجهين:

أحدهما: أنَّ الصَّلاة يجوز فعلها مع غلبة ظنِّ دخول وقتها، ولا يجب، وكذلك الصِّيام يجوز الإمساك بنيَّة الصَّوم مع غلبة ظنِّ طلوع الفجر، ولا يجب، فهما سواء.

والثَّاني: أنَّ الصَّلاة عبادة فعليَّة لا يستغرق مجموع وقتها، بل يفعل في جزء منه، فإذا فُعِلت في زمن يغلب على الظَّنِّ أنَّه من وقتها؛ كفى.

والصَّوم عبادة يستغرق زمنها، وهي من باب الكَفِّ والتُّروك، لا من باب الأعمال؛ فيكفي اشتراط الكفِّ عن محظوراتها في زمانها المحقَّق دون المشكوك فيه، ولا يبطل بفعل شيء من محظوراتها في زمن لا يتحقَّق أنَّه وقت للصِّيام، إلَّا أن يكون الأصل بقاء وقت الصِّيام، ولم يغلب على الظَّنِّ خروجه؛ فلا يباح حينئذ الإقدام على الإفطار، ولا تبرأ الذِّمَّة بمجرَّد ذلك، وهذا كما قلنا فيمن صلَّى ثمَّ رأى عليه نجاسة يمكن أنَّها لحقته بعد الصَّلاة سواء.

ومنها: أنَّ المستحاضة المعتادة ترجع إلى عادتها، وإن لم يكن لها عادة؛ فإلى تمييزها

(1)

، وإن لم يكن لها عادة ولا تمييز

(2)

؛ رجعت إلى غالب عادات النِّساء، وهي ستٌّ أو سبع على الصَّحيح؛ لأنَّ الظَّاهر مساواتها لهنَّ؛ وإن كان الأصل عدم فراغ حيضها حينئذٍ.

(1)

في (ب): تميُّزها.

(2)

في (ب): تميُّز.

ص: 139

ومنها: امرأة المفقود تُزوَّج بعد انتظار أربع سنين، ويُقسَم ماله حينئذٍ؛ لأنَّ الظاهر موته؛ وإن كان الأصل بقاءه، لكن هل يثبت له أحكام المعدوم من حين فقده، أو لا يثبت إلَّا من حين إباحة أزواجه وقسمة ماله؟ على وجهين، ينبني عليهما: لو مات له في مدَّة انتظاره

(1)

من يرثه؛ فهل يحكم بتوريثه منه أم لا؟

ونصَّ أحمد على أنَّه يزكَّى ماله بعد مدِّة انتظاره؛ معلِّلاً: بأنَّه مات وعليه زكاة.

وهذا

(2)

يدلُّ على أنَّه لا يحكم له بأحكام الموتى إلَّا بعد المدَّة، وهو الأظهر.

ويلتحق بهذا: أنَّ امرأة المفقود بعد مدَّة انتظاره تعتدُّ للوفاة، ثمَّ تباح للأزواج؛ فهل تجب لها النَّفقة من ماله في مدَّة العدَّة كما في مدَّة الانتظار أم لا؟ على وجهين:

أحدهما: لا يجب، وهو الَّذي ذكره ابن الزَّاغونيِّ في «الإقناع» ، وقال أبو البركات في «الشَّرح»: هو قياس المذهب عندي؛ لأنَّه حُكِم بوفاته بعد مدَّة الانتظار؛ فصارت معتدَّة للوفاة.

والثَّاني: تجب لها النَّفقة، قاله القاضي، وهو نصُّ أحمد

(3)

؛ لأنَّ النَّفقة لا تسقط إلَّا بيقين

(4)

الموت، ولم يوجد ههنا.

(1)

في (ب): الانتظار.

(2)

في (ب): فهذا.

(3)

قوله: (وهو نصُّ أحمد) سقط من (أ) و (ج) و (و).

(4)

في (ب): بتيقُّن.

ص: 140

وكذا ذكر صاحب «المغني» ، وزاد: أنَّ نفقتها لا تسقط بعد العدَّة أيضاً؛ لأنَّها باقية على نكاحه ما لم تتزوَّج أو يفرِّق الحاكم بينهما.

ومنها: أنَّ النَّوم المستثقِل ينقض الوضوء؛ لأنَّه مَظِنَّة خروج الحدث؛ وإن كان الأصل عدم خروجه وبقاء الطَّهارة.

وحكى ابن أبي موسى في «شرح الخرقيِّ» وجهاً آخر: أنَّ النَّوم نفسه حدث، لكن يعفى

(1)

عن يسيره؛ كالدَّم ونحوه.

ومنها: إذا زنى من نشأ في دار الإسلام بين المسلمين، وادَّعى الجهل بتحريم الزِّنى؛ لم يُقبل قوله؛ لأنَّ الظَّاهر يُكذِّبه، وإن كان الأصل عدم علمه بذلك.

ومثله: إذا ادَّعت المعتَقة تحت عبدٍ الجهلَ بالعتق أو بثبوت الخيار، ومثلها لا يجهل ذلك؛ فإنَّه لا يقبل قولها.

ومنها: إذا زوَّج الوليُّ امرأة يعتبر إذنها لصحَّة العقد، ثمَّ أنكرت الإذن؛ فإن كان بعد الدُّخول؛ لم يقبل قولها؛ لأنَّ تمكينها يكذِّبها.

وإن كان قبله؛ فإن كان إذنها السُّكوت

(2)

، وادَّعت أنَّ سكوتها كان حياء لا رضًا؛ لم يقبل قولها، نصَّ عليه أحمد في رواية الأثرم؛ لأنَّ السُّكوت في حكم الشَّارع إقرار ورضًا؛ فلا يُسمَع دعوى خلافه.

وإن كان

(3)

ادَّعت أنَّها ردَّت، أو كان إذنها النِّطق فأنكرته؛ فقال

(1)

في (أ): لا يعفى.

(2)

زيد في (ب): (أو أقرَّت بأنَّها سكتت، ولكن)، وضُرب عليها في (أ).

(3)

قوله: (كان) سقط من (ب) و (ج) و (هـ) و (ن).

ص: 141

القاضي: القول قولها؛ لأنَّ الأصل معها، ولم يوجد ظاهر يخالفه.

ومنها: لو ادَّعت امرأة على رجل أنَّه تزوَّجها في يوم معيَّن بمهر مسمًّى، وشهد به شاهدان، ثمَّ ادَّعت عليه أنَّه تزوَّجها في يوم آخر معيَّن

(1)

بمهر مسمًّى، وشهد به شاهدان، ثمَّ اختلفا؛ فقالت المرأة: هما نكاحان؛ فلي المهران

(2)

، وقال الزَّوج: بل هما

(3)

نكاح واحد تكرَّر عقده؛ فالقول قول الزَّوجة؛ لأنَّ الظَّاهر معها.

وكذا لو شهدت بيِّنة أنَّه باعه هذا الثَّوب في يوم كذا بثمنٍ، وشهدت

(4)

بيِّنة أخرى أنَّه باعه منه بثمنٍ في يوم آخر

(5)

، فقال المشتري: هو عقد واحد كرَّرناه، وقال البائع: بل عقدان؛ فالقول قوله؛ لأنَّ الظَّاهر معه، ذكره أبو بكر والقاضي والأصحاب.

وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: ينبغي أن يكون القول قول الزَّوج؛ لأنَّ الأصل عدم الفرقة بينهما، والأصل براءته من المهر الثَّاني

(6)

.

القسم الرَّابع: ما خرج

(7)

فيه خلاف في ترجيح الظَّاهر على

(1)

قوله: (معيَّن) سقط من (ب) و (ن).

(2)

قوله: (فلي المهران) هو في (ب): على المهرين.

(3)

قوله: (هما) سقط من (ب) و (ج) و (هـ).

(4)

قوله: (بيِّنة أنَّه باعه هذا الثَّوب في يوم كذا بثمن، وشهدت) سقط من (أ).

(5)

قوله: (بثمن في يوم آخر) هو في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): في يوم آخر بثمن.

(6)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 332).

(7)

في (أ): ما خرج ما.

ص: 142

الأصل، وبالعكس، ويكون ذلك غالباً عند تقاوم الظَّاهر والأصل وتساويهما.

وله صور كثيرة:

منها: إذا سُخِّن الماء بنجاسة، وغلب على الظَّنِّ وصول الدُّخان إليه؛ ففي كراهته وجهان، أشهرهما: أنَّه يكره.

ومنها: لو أدخل الكلب رأسه في إناء فيه ماء، وشكَّ؛ هل ولغ فيه أم لا؟ وكان فمه رطباً؛ فهل يحكم بنجاسة الماء؛ لأنَّ الظَّاهر ولوغه، أم بطهارته؛ لأنَّها الأصل؟ على وجهين ذكرهما الأَزَجيُّ.

ومنها: إذا وقع في ماء يسير ما لا نفس له

(1)

سائلة، وشكَّ هل هو متولِّد من النَّجاسات أم لا؟ وكان هناك بئر وحُشٌّ:

فإن كان إلى البئر أقرب أو هو بينهما بالسَّويَّة؛ فهو طاهر.

وإن كان إلى الحشِّ أقرب؛ فوجهان:

أحدهما: أنَّه نجس.

والآخر: أنَّه طاهر ما لم يعاين خروجه من الحشِّ، نقل ذلك صاحب «المهمِّ» عن شيخه ابن تميم

(2)

.

(1)

في (أ): لها.

(2)

كتاب المهم: هو شرح لمختصر الخرقي، وهو كتاب مفقود، قيل: يقع في ثمان مجلدات، وهو للفقيه الزاهد عبد الله بن أبي بكر، الحربي البغدادي، ويعرف بـ: كتيلة، تفقه على مجد الدين بن تيمية، وابن تميم، وابن حمدان، وغيرهم. توفي سنة 681 هـ. ينظر: تاريخ الإسلام 15/ 450، ذيل الطبقات 4/ 165.

وابن تميم: هو محمد بن تميم الحراني، أبو عبد الله، تفقه على مجد الدين بن تيمية، وابن أبي الفهم، وتوفي وهو شاب (675 هـ تقريبًا)، وله المختصر المشهور بمختصر ابن تميم، وهو مطبوع. ينظر: ذيل الطبقات 4/ 113، المقصد الأرشد 2/ 386.

ص: 143

ومنها: طين الشَّوارع، وفيه روايتان:

إحداهما: أنَّه طاهر، ونصَّ عليه أحمد في مواضع

(1)

، وجعله أبو البركات في «شرحه» المذهبَ؛ ترجيحاً للأصل، وهو الطَّهارة في الأعيان كلِّها.

والثَّانية: أنَّه نجس؛ ترجيحاً للظَّاهر، وجعله صاحب «التَّلخيص» المذهبَ؛ حتَّى حكى عن ظاهر كلام الأصحاب: أنه لا يعفى عن يسيره، وأبدى احتمالاً بالعفو عنه لمشقَّة الاحتراز، وحكى عن ابن عقيل العفو عن يسيره، إلَّا ما تحقَّق نجاسته من الأرض؛ فلا يعفى عنه.

وذكر صاحب «المهمِّ» عن ابن تميم أنَّه قال: إذا كان الشِّتاء، ولم يتعيَّن موضع النَّجاسة؛ ففي نجاسة الأرض روايتان، فإذا جاء الصَّيف؛ حكم بطهارتها رواية واحدة.

وللمسألة أصول تنبني عليها:

أحدها: ما ذكرنا من تعارض الأصل والظَّاهر.

والثَّاني: طهارة الأرض وغسالتها بماء المطر وغيره إذا لم يبق

(1)

من ذلك: ما في مسائل أبي داود (ص 30): (سمعت أحمد سئل عن طين المطر يصيب الثوب؟ قال: أرجو أن كل شيء أصابه ماء السماء فلا بأس به، إلا أن يكون قذرًا بعينه. قال: فأفركه إذا جف؟ قال: نعم).

ص: 144

للنَّجاسة أثر، سواء كانت النَّجاسة الَّتي على الأرض أثراً أو عيناً على الصَّحيح من المذهب

(1)

.

و [الثَّالث]

(2)

: طهارة النَّجاسة بالاستحالة، وفي المذهب فيه خلاف ينبني عليه طهارة الطِّين إذا

(3)

بقيت فيه عين النَّجاسة ثمَّ استهلكت فيه حتَّى ذهب أثرها.

و [الرَّابع]

(4)

: طهارة الأرض بالجفاف والشَّمس والرِّيح، وقد توقَّف فيه أحمد، وذهب كثير من الأصحاب إلى عدم طهارتها بذلك.

وخالفهم صاحب «المحرَّر» في «شرح الهداية» .

وينبني على ذلك: طهارة الأرض مع مشاهدة النَّجاسات فيها وإن لم يصبها الماء، والله أعلم.

ومنها: المقبرة المشكوك في نبشها إذا تقادم عهدها؛ هل يحكم بنجاستها؛ لأنَّ الظَّاهر نبشها، أو بطهارتها؛ لأنَّ الأصل عدمه؟ على وجهين.

ومنها: ثياب الكفَّار وأوانيهم، وفيها روايات عن أحمد:

(1)

كتب في هامش (د): (صورة طهارة الأرض مع كون النجاسة عليها عينًا؛ كالبول إذا لم يبق له أثر بما جرت عليها من الماء على الصحيح. من محب الدين) أي: ابن نصر الله البغدادي، والله أعلم.

(2)

في جميع النسخ: والثاني. وصوابه: والثالث. لدلالة السياق.

(3)

في (أ): فإذا.

(4)

في جميع النسخ: والثالث. وصوابه: والرابع. لدلالة السياق.

ص: 145

أحدها: الإباحة؛ ترجيحاً للأصل، وهو الطَّهارة.

والثَّانية: الكراهة؛ لخشية إصابة النَّجاسة لها؛ إذ هو الظَّاهر.

والثَّالثة: إن قوي الظَّاهر جدًّا؛ لم يجز استعمالها بدون غسل، ويتفرَّع على هذه الرِّواية روايتان:

إحداهما: أنَّه يُمنع من استعمال ما وَلِيَ عوراتهم من الثِّياب قبل غسله، دون ما علا منها.

والثَّانية: يُمنع من استعمال الأواني والثِّياب مطلقاً ممَّن يُحكم بأنَّ ذبيحته ميتة؛ كالمشركين والمجوس، دون غيرهم.

وقال الخرقيُّ في «شرحه» وابن أبي موسى: لا يجوز استعمال قدور النَّصارى؛ لاستحلالهم الخنزير.

وزاد الخرقيُّ: ولا أواني طبيخهم، دون أوعية الماء ونحوها ممَّا يبعد إصابته للنَّجاسة.

وزاد ابن أبي موسى: المنع من استعمال ثياب من لا تحلُّ ذبيحته؛ كالمجوس مطلقاً، وما سَفَل من ثياب أهل الكتاب ولصق بأبدانهم حتَّى يغسل.

ومنها: ثياب الصِّبيان ومن لا يتحرَّز من النَّجاسة، وفيها ثلاثة أوجه: الكراهة، وعدمها، والمنع حتَّى تغسل، وهو اختيار ابن أبي موسى.

ومنها: إذا شكَّ المصلِّي في عدد الرَّكعات، وفيه ثلاث روايات عن أحمد:

ص: 146

أحدها: أنَّه يبني على الأقلِّ

(1)

، وهو المتيقَّن؛ لأنَّ الأصل عدم الزِّيادة المشكوك فيها.

والثَّانية: يبني على غالب ظنِّه؛ للحديث الوارد في ذلك

(2)

.

والثَّالثة: إن قوي الظَّنُّ بإقرار غيره له عليه؛ بنى على غالب ظنِّه، وهو الإمام إذا أقرَّه المأمومون، وإن كان منفرداً؛ بنى على اليقين، وهي المشهورة في المذهب

(3)

.

فأمَّا

(4)

إن سبَّح به اثنان من المأمومين؛ فإنَّه يرجع إليهما ما لم يتيقَّن صواب نفسه، على الرِّوايات كلِّها.

وقال ابن عقيل: إنَّما يرجع إليهما إذا قلنا: يبني

(5)

على غالب ظنِّه؛ لأنَّ تنبيههما إنَّما يفيد غلبة الظَّنِّ.

والأوَّل أصحُّ؛ لأنَّ الرُّجوع إلى قولهما رجوع إلى بيِّنة شرعيَّة؛ فيترك الأصل لأجلها؛ كسائر البيِّنات الشَّرعيَّة، بخلاف غلبة الظَّنِّ المجرَّدة، وإذا جوَّزنا له العمل بالظَّنِّ الغالب؛ فإنَّه يجوز له تركه والعمل باليقين، صرَّح به القاضي في كتاب «أحكام القرآن» وغيره.

(1)

في (د) و (هـ): الأوَّل. وكتب في هامش (د): (صوابه على الأقلِّ).

(2)

يشير إلى ما أخرجه البخاري (401)، ومسلم (572)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا:«وإذا شك أحدكم في صلاته؛ فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين» .

(3)

قوله: (في المذهب) سقط من (أ).

(4)

في (أ): وأمَّا.

(5)

في (ب): ينبني.

ص: 147

ولو شهد اثنان من المأمومين

(1)

على الإمام أنَّه أحدث في الصَّلاة، وأنكر هو وبقيَّة المأمومين؛ أعادوا الصَّلاة كلُّهم، نصَّ عليه في رواية مهنَّى

(2)

، واحتجَّ بحديث ذي اليدين

(3)

.

ومنها: إذا شكَّ في عدد الطَّواف، وفيه روايتان:

إحداهما: يرجع إلى الأصل، وهو المتيقَّن.

والثَّانية: يرجع إلى غالب ظنِّه؛ كالصَّلاة.

فإن أخبره اثنان بما طاف؛ فهل يرجع إلى قولهما؟ على وجهين، والمنصوص: أنَّه يرجع إليهما.

وكذلك الوجهان لو أخبر المصلِّيَ من ليس معه في الصَّلاة، هل يرجع إليهما أم لا؟

وفي «المغني» : يرجع الطَّائف إلى خبر الثِّقة الواحد العدل؛ لأنَّه خبر ديني؛ فلا يشترط فيه العدد

(4)

، وإنَّما اشترطنا العدد في الصَّلاة؛

ص: 148

لخبر ذي اليدين، فبقي ما عداها على الأصل.

ومنها: لو وجد في دار الإسلام ميِّت مجهول الدِّين، فإن لم يكن عليه علامة إسلام ولا كفر، أو تعارض فيه علامتا الإسلام والكفر؛ صُلِّي عليه، نصَّ عليه.

فإن كان عليه علامة الكفر خاصَّة؛ فمن الأصحاب من قال: يصلَّى عليه.

والمنصوص عن أحمد: أنه يدفن من غير صلاة.

وهذا يرجع إلى تعارض الأصل والظَّاهر؛ إذ الأصل في أهل دار الإسلام الإسلام، والظَّاهر في هذا الكفر.

ولو كان هذا الميِّت في دار الكفر، فإن كان عليه علامة

(1)

الإسلام؛ صلِّي عليه، وإلَّا فلا، نصَّ عليه في رواية عليِّ بن سعيد.

وهذا ترجيح للظَّاهر

(2)

على الأصل ههنا؛ كما رجَّحه في الصُّورة الأولى، ولم يرجِّح الأصحاب ههنا

(3)

الأصل كما رجَّحوه ثَمَّ؛ لأنَّ هذا الأصل قد عارضه أصل آخر، وهو أنَّ الأصل في كلِّ مولود أنَّه يولد على الفطرة.

ومنها: إذا اختلف الزَّوجان في قدر المهر ولا بيِّنة؛ ففيه روايتان:

إحداهما: القول قول الزَّوج؛ لأنَّه منكر وغارم، والأصل براءة ذمَّته من القدر الزَّائد على ما يقرُّ به.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): علامات.

(2)

في (أ): الظَّاهر.

(3)

في (ب): هنا.

ص: 149

والثَّانية: القول قول مدَّعي مهر المثل؛ لأنَّ الظَّاهر معه.

ومنها: إذا أسلم الزَّوجان قبل الدُّخول، وقال الزَّوج: أسلمنا معاً؛ فنحن على نكاحنا، وقالت الزَّوجة: بل على التَّعاقب؛ فلا نكاح؛ فوجهان:

أحدهما: القول قول الزَّوج؛ لأنَّ الأصل معه.

والثَّاني: القول قول الزَّوجة، لأنَّ الظَّاهر معها؛ إذ وقوع إسلامهما معاً في آن واحد نادر، والظَّاهر خلافه.

ومنها: إذا خلا بامرأته، وصدَّقته أنَّه لم يطأها، وقلنا: لا يتقرَّر بذلك المهر على رواية سبقت، وكان له منها ولد؛ فهل يتقرَّر المهر بذلك؛ لأنَّ الغالب أنَّ الولد إنَّما ينعقد عن الاصابة، أوْ لا؛ لأنَّ الأصل عدم إصابتها، ويحتمل أنَّه سبق الماء إلى فرجها فانعقد الولد؟ على وجهين ذكرهما القاضي في «المجرَّد» .

وفيه نظر؛ فإن سبق الماء إلى الفرج إنَّما يكون بعد ما تقرَّر المهر من وطء دون الفرج كما سبق تقريره.

والأظهر في تعليل عدم تقرُّر المهر أن يقال: الولد يثبت نسبه بمجرَّد الإمكان، بخلاف استقرار المهر.

ومنها: لو زوَّج رجل وليَّته، ثمَّ ظهرت مَعِيبةً، فادَّعى الوليُّ: أنَّه لم يعلم عيبها؛ ففيه وجهان:

أحدهما: القول قوله مع يمينه؛ لأنَّ الأصل معه؛ إلَّا أن يكون العيب جنوناً، ويكون الوليُّ ذا اطِّلاع عليها؛ فلا يُقبَل قوله، وهو

ص: 150

اختيار صاحب «المغني» .

والثَّاني: إن كان الوليُّ قريباً - كالأب والجدِّ والابن-؛ لم يقبل قوله مطلقاً؛ لأنَّ الظَّاهر يكذِّبه، وإن كان بعيداً؛ قُبِل مع يمينه، وهو قول القاضي، ووافقه ابن عقيل؛ إلَّا أنَّه فصَّل بين عيوب الفرج وغيرها؛ فسوَّى بين الأولياء كلِّهم في عيوب الفرج، بخلاف غيرها.

ومنها: إذا اختلط مالٌ حرامٌ بحلال، وكان الحرام أغلبَ؛ فهل يجوز التَّناول منه أم لا؟ على وجهين؛ لأنَّ الأصل في الأعيان الإباحة، والغالب ههنا الحرام.

قال أحمد في رواية حرب: إذا كان أكثر ماله النَّهب أو الرِّبا ونحو ذلك؛ فكأنَّه ينبغي له أن يتنزَّه عنه؛ إلَّا أن يكون شيئاً يسيراً أو شيئاً لا يعرف

(1)

.

وقريب من هذا: إذا اشتبه الماء الطَّاهر بالنَّجس، وكان الطَّاهر

(2)

أكثر؛ فإنَّ في جواز التَّحرِّي روايتين، وظاهر كلام أحمد في رواية المروذي جوازه، واختاره أبو بكر وابن شاقْلَا وأبو عليٍّ النَّجاد، وصحَّحه ابن عقيل، لكن هنا اعتضد أصل الطَّهارة: بأنَّ الظَّاهر إصابة الطَّاهر؛ لكثرته.

ومنها: إذا قذف مجهول النَّسب، وادَّعى رقَّه، وأنكر المقذوف؛ فهل يحدُّ؟ على روايتين؛ لأنَّ الأصل عدم لزوم الحدِّ، والأغلب على

(1)

ينظر: الفروع (4/ 389).

(2)

في (ب): الظَّاهر.

ص: 151

النَّاس الحريَّة، أو يقال: الأصل فيهم الحريَّة؛ فيكون إذاً من باب تعارض الأصلين.

ومنها: إذا قال لمدخول بها: أنت طالق أنت طالق، ولم يقصد بالثَّانية تأكيداً ولا إيقاعاً، بل أطلق النِّيَّة؛ فقال الأصحاب: تَطلُقُ اثنتين؛ لأنَّه موضوع للإيقاع؛ كاللَّفظ الأوَّل، ولهذا يقال: إذا دار الأمر بين التَّأسيس والتَّأكيد؛ فالتَّأسيس أولى.

وهذا يرجع إلى الحمل على الظَّاهر، مع أنَّ الأصل بقاء الزَّوجيَّة وعدم وقوع الثَّانية والثَّالثة إذا كرَّره ثلاثاً؛ فيتوجَّه: أن يخرَّج رواية أخرى بوقوع واحدة مع الإطلاق؛ لأنَّه المتيقَّن.

ويشهد له ما نقله صالح عن أبيه أنَّه قال: إذا قال: أنت طالق أنت طالق، وقد دخل بها؛ فهو على ما أراد؛ إن كان أراد إفهامها فهو الَّذي أراد، وإن أراد غير ذلك فهو على ما أراد

(1)

. فلم يوقع الثَّانية بدون النِّيَّة.

وقد حكى أبو بكر عبد العزيز فيما إذا قال: أنت طالق بل أنت طالق، وأطلق النِّيَّة: أنَّه لا يلزمه أكثر من واحدة، فإن نوى بالثَّانية طلْقة أخرى؛ فهل يلزمه أم لا؟ على قولين؛ لأنَّه إعادة للَّفظ الأوَّل بعينه؛ فلا يحتمل التكرار، كذلك حكاه القاضي عنه في «كتاب الرِّوايتين» .

ويلزم من ذلك أنَّه إذا قال: أنت طالق، وكرَّره وأطلق النِّيَّة: أنَّه لا يلزمه أكثر من واحدة.

(1)

ينظر: مسائل صالح (3/ 243).

ص: 152

وههنا مسألة حسنة، نصَّ عليها أحمد في رواية ابن منصور: إذا قال لامرأته: أنت طالق بل أنت طالق؛ قال: هي تطليقتان، هذا كلام مستقيم، وإن قال: أنت طالق لا بل أنت طالق؛ قال:

(1)

هي واحدة

(2)

.

والفرق بينهما: أنَّ (بل) من حروف العطف إذا كان بعدها مفرد، وهي هنا كذلك؛ لأنَّ اسم الفاعل من المفردات، وإن كان متحمِّلاً لضمير؛ بدليل أنَّه يُعرَب، والجمل لا تُعرَب، ولأنَّه لا يقع صلة، ولو كان جملة لوقع صلة، وحينئذٍ فيكون ما بعده معطوفاً على ما قبله، وقد أوقع قبله واحدة ثمَّ عطف عليها أخرى؛ فيقع اثنتان؛ كما لو أتى بواو العطف.

وهذا معنى قول أحمد: (هذا كلام مستقيم) يعني: أنه نسق معطوف بعضه على بعض؛ كسائر المعطوفات بـ (الواو) و (ثمَّ) ونحوهما.

وأمَّا قول النَّحويين: إنَّ ما قبله يصير مسكوتاً عنه غير مثبَت ولا مَنفيٍّ؛ فهذا فيما يقبل النَّفي بعد إثباته، والطَّلاق ليس كذلك؛ فتعيَّن إثبات الأوَّل، وعطف الثَّاني عليه.

وأمَّا إذا قال: أنت طالق، لا بل أنت طالق؛ فقد صرَّح بنفي الأوَّل، ثمَّ أثبته بعد نفيه؛ فيكون المثبَت هو المنفيَّ بعينه، وهو الطَّلْقة الأولى؛ فلا يقع به طلقة ثانية، وهو قريب من معنى الاستدراك، كأنَّه

(1)

قوله: (قال) سقط من (ب).

(2)

ينظر: مسائل ابن منصور (3/ 1782).

ص: 153

نسي أنَّ الطَّلاق الموقَعَ لا يُنفى؛ فاستدرك وأثبته؛ لئلَّا يَتوهَّم السَّامع أنَّ الطَّلاق قد ارتفع بنفيه؛ فهذا إعادة الأوَّل، لا استئناف طلاق.

ومنها: إذا قال: الطَّلاق يلزمني، أو: أنت الطَّلاق؛ فهل يلزمه واحدة أو الثَّلاث؟ على روايتين؛ لأنَّ الألف واللَّام قد يراد بها العهد؛ أي: الطَّلاق المعهود المسنون، وهو الواحدة، ويراد بها مطلق الجنس، ويراد بها استغراق الجنس، لكنَّها في الاستغراق والعموم أظهر، والمتيقَّن من ذلك الواحدة، والأصل بقاء النِّكاح.

وعلى رواية وقوع الثَّلاث: فلو نوى به ما دونها؛ فهل يقع به ما نواه خاصَّة، أو يقع به الثَّلاث، ويكون ذلك

(1)

صريحاً في الثَّلاث؟ فيه طريقان للأصحاب.

ولو قال: الطَّلاق يلزمني، وله أكثر من زوجة؛ فإن كان هناك نيَّة أو سبب يقتضي التَّعميم أو التَّخصيص؛ عُمل به.

ومع فقد النِّيَّة والسَّبب؛ خرَّجها بعض الأصحاب على الرِّوايتين في وقوع الثَّلاث بذلك على الزَّوجة الواحدة؛ لأنَّ الاستغراق في الطَّلاق يكون تارة في نفسه وتارة في محلِّه.

وقد فرَّق بعضهم بينهما: بأنَّ عموم المصدر لأفراده أقوى من عمومه لمفعولاته؛ لأنَّه يدلُّ على أفراده بذاته عقلاً ولفظاً، وإنَّما يدلُّ على مفعولاته بواسطة.

فلفظ الأكل والشُّرب - مثلاً - يعمُّ الأنواع منه، والأعداد أبلغ من

(1)

قوله: (ذلك) سقط من (أ).

ص: 154

عمومه المأكول والمشروب إذا كان عامًّا؛ فلا يلزم من عمومِه لأفراده وأنواعه عمومَه لمفعولاته، ذكر ذلك كلَّه الشَّيخ تقيُّ الدِّين رحمه الله بمعناه

(1)

.

وفي موضع آخر قوَّى

(2)

وقوع الطَّلاق بجميع الزَّوجات، دون وقوع الثَّلاث بالزَّوجة الواحدة، وفرَّق: بأنَّ وقوع الثَّلاث بالواحدة محرَّم، بخلاف وقوع الطَّلاق بالزَّوجات المتعدِّدات.

وقد يقال: إنَّ قوله: (الطَّلاق يلزمه) وإن كان

(3)

صيغة عموم، لكن إذا لم ينوِ عمومه

(4)

؛ كان مخصَّصاً بالشَّرع عند من يحرِّم

(5)

جمع الثَّلاث، وهو ظاهر المذهب؛ فتكون المسألة حينئذٍ من صور التَّخصيص بالشَّرع، وقد ذكرنا نظائرها في قاعدة سبقت

(6)

.

ومنها: إذا قال: زوجتي طالق، أو عبدي حرٌّ، وله زوجات وعبيد؛ فالمنصوص: أنَّه يقع الطَّلاق والعتاق بالجميع، إلَّا أن ينوي عدداً معيَّناً؛ لأنَّ اسم الجنس المضاف للعموم؛ فهو كالجمع المعرَّف.

وذكر صاحب «المغني» احتمالاً ورجَّحه: أنَّه لا يقع الطَّلاق والعتاق مع إطلاق النِّيَّة إلَّا بواحد؛ لأنَّ اللَّفظ صالح للواحد والجمع؛

(1)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 371).

(2)

في (ب): يؤدِّي. وفي (ج): قولي.

(3)

قوله: (وإن كان) هو في (ب): وكان.

(4)

في (ب): عموم.

(5)

قوله: (يحرِّم) هو في (ب) و (ن): يرى تحريم.

(6)

وهي القاعدة (123). ينظر ص ......

ص: 155

فحَمْلُه على الواحد أولى؛ لأنَّه المتيقَّن، ولو كان الجمع أظهر فيه؛ ترجيحاً للأصل على الظَّاهر.

ومنها: إذا قال: له عندي درهم ودرهم ودرهم؛ فهل يلزمه درهمان أو ثلاثة؟ على وجهين ذكرهما أبو بكر في «الشَّافي» ، ونزَّلهما صاحب «التَّلخيص» على تعارض الأصل والظَّاهر، فإنَّ الظَّاهر عطف الثَّالث على الثَّاني، ويحتمل إرادة التكرار به؛ لأنَّه بلفظه؛ فيحمل عليه عند الإطلاق؛ لأنَّه اليقين، قال:(ولو قال: أردت بالثَّالث تكرار الثَّاني؛ قُبِل على الوجهين؛ لاحتماله).

وذكر صاحب «المغني» في الطَّلاق احتمالاً: أنَّه لا يقبل إرادة التكرار والتَّأكيد مع حرف العطف؛ لمخالفته للظَّاهر؛ لأنَّ ظاهر العطف يقتضي المغايرة.

ص: 156

‌قاعدة [160]

تستعمل القرعة في تمييز المستحِقِّ إذا ثبت الاستحقاق ابتداء لمبهم غير معيَّن عند تساوي أهل الاستحقاق

.

وتستعمل

(1)

أيضاً في تمييز المستحَقِّ المعيَّن في نفس الأمر عند اشتباهه والعجز عن الاطِّلاع عليه، وسواء في ذلك الأموال والأبضاع في ظاهر المذهب.

وفي الأبضاع قول آخر: أنَّه لا تؤثِّر القرعة في حلِّ المعيَّن منها في الباطن.

ولا تستعمل في إلحاق النَّسب عند الاشتباه على ظاهر المذهب.

وتستعمل

(2)

في حقوق الاختصاص والولايات ونحوها.

ولا تستعمل في تعيين الواجب المبهم من العبادات ونحوها ابتداء.

وفي الكفَّارة وجه ضعيف: أنَّ القرعة تميِّز اليمين المنسيَّة.

ونحن نذكر ههنا مسائل القرعة المذكورة في المذهب من أوَّل الفقه إلى آخره بحسب الإمكان، والله الموفِّق:

(1)

في (أ) و (ج): ويستعمل.

(2)

في (أ): ويستعمل.

ص: 157

فمنها: إذا اجتمع محدثان حدثاً أكبر، أو أصغر، وعندهما ما يكفي أحدهما، ولا اختصاص لأحدهما به؛ ففيه وجهان:

أحدهما: يقترعان عليه؛ لاستوائهما في الحاجة إليه.

والثَّاني: يقسم بينهما.

ولو كان أحدهما جنباً والآخر محدثاً حدثاً أصغر، وكان الماء يكفي كلَّ واحد منهما ويفضل عنه فضلة لا تكفي الآخر؛ ففيه ثلاثة أوجه:

أحدها

(1)

: المحدث أولى؛ لأنَّ فضلته يمكن الجنبَ استعمالها، بخلاف فضلة الجنب؛ فإنَّها لا ترفع حدث المحدث ولا شيئاً منه.

والثَّاني: الجنب أولى؛ لغلظ حدثه.

والثَّالث: هما سواء؛ فيُقرَع بينهما، أو يعطيه باذل الماء لمن شاء منهما.

قال صاحب «التَّلخيص» : (هذه المسألة صوَّرها جماعة من أصحابنا في ماء مباح أو مملوك أراد مالكه بذله لأحدهم، وفيه نظر؛ فإنَّ المباح قبل وضع الأيدي عليه لا ملك فيه، وبعد وضع الأيدي للجميع، والمالك له ولاية صرفه إلى من شاء)، قال:(ويتصوَّر ذلك عندي في الوصيَّة بالماء لأولاهم به) انتهى.

ويتصوَّر أيضاً في النَّذر لأولاهم، والوقف عليه، وفيما إذا طلب المالك معرفة أولاهم ليؤثِرَه به، وفيما إذا وردوا على ماء مباح

(1)

في (أ): أحدهما.

ص: 158

وازدحموا وتشاحُّوا في التَّناول

(1)

أولًا.

ومنها: إذا تشاحُّوا في الأذان مع تساويهم في الصِّفات المرجَّح بها فيه

(2)

؛ فإنَّه يقرع بينهم، نصَّ عليه أحمد في رواية أبي داود وأبي طالب ومحمَّد بن موسى

(3)

، واحتجَّ بأنَّ سعداً أقرع بينهم في الأذان يوم القادسيَّة

(4)

.

ونصَّ في رواية أبي داود: على تقديم القرعة على اختيار الجيران.

وفي رواية محمَّد بن موسى: على أنَّ المتعاهِد للمسجد بالعمارة أحقُّ.

ومنها: إذا اجتمع عراة ومع واحد منهم ثوب قد صلَّى فيه؛ استُحِبَّ له إعارته لرفقائه.

فإن ضاق الوقت، وفيهم من يصلح للإمامة؛ استحبَّ له إعارته، فيصلِّي فيه إماماً والعراة خلفه، فإن استووا، أو لم يكن الثَّوب لواحد منهم

(5)

؛ أُقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة؛ فهو أحقُّ به، ذكره في «المغني» .

(1)

في (أ): المتناول.

(2)

قوله: (فيه) سقط من (أ).

(3)

ينظر: مسائل أبي داود (ص 43).

(4)

ذكره البخاري معلقًا في باب الاستهام في الأذان (1/ 126)، ووصله البيهقي في الكبرى (2013)، من طريق هشيم ثنا عبد الله بن شبرمة قال:«تشاجر الناس في الأذان بالقادسية، فاختصموا إلى سعد، فأقرع بينهم» .

(5)

كتب في هامش (أ): (لعله: ولم يكن الثوب إلا لواحدٍ منهم).

ص: 159

ومنها: إذا استوى اثنان في الصِّفات المرجَّح بها في الإمامة من كلِّ وجه وتشاحَّا؛ أُقرع بينهما؛ كما في الأذان.

وكذلك إذا اجتمع اثنان من أولياء الميِّت واستويا وتشاحَّا في الصَّلاة عليه؛ أُقرع بينهما.

ولو وُلِّي إمامة المسجد رجلان؛ صحَّ، وكانا في الإمامة سواء، وأيُّهما سبق إليها كان أحقَّ بها، فإن حضرا معاً؛ احتمل أن يقرع بينهما، فيقدَّم من قَرَع منهما، واحتمل أن يرجع إلى اختيار أهل المسجد لأحدهما، ذكر ذلك القاضي في «الأحكام السُّلطانيَّة» .

ومنها: إذا قُدِم بميتين إلى مكان من مقبرة مسبَّلة في آن واحد، ولم يكن لأحدهما هناك مزيَّة من أهلٍ مدفونين عنده أو نحو ذلك؛ فإنَّه يقرع بينهما، صرَّح به الأصحاب.

وكذلك إذا دفن اثنان في قبر واحد واستويا في الصِّفات؛ فإنَّه يقدَّم أحدهما إلى القبلة بالقرعة؛ كما فعل معاذ بن جبل بامرأتيه.

(1)

ومنها: إذا اجتمع ميِّتان، فبُذل لهما كفنان، وكان أحد الكفنين أجود من الآخر، ولم يعيِّن الباذل ما لكلِّ واحد منهما؛ فإنَّه يقرع بينهما كما وردت السُّنَّة بذلك؛ فروى الإمام أحمد في «المسند» من حديث

ص: 160

الزُّبير أنَّه قال: لمَّا كان يوم أحد؛ أقبلت صفيَّة- يعني: أمَّه- فأخرجت ثوبين معها، فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة؛ فكفِّنوه فيهما، قال: فجئت بالثَّوبين ليكفَّن فيهما حمزة، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل قد فُعل به كما فعل بحمزة؛ قال: فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفِّن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له؛ فقلنا: لحمزة ثوبٌ، وللأنصاري ثوبٌ، فقدرَّناهما؛ فكان أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما؛ فكفَّنَّا كلَّ واحد منهما في الَّذي طار له

(1)

.

وقد ذكره الأثرم للإمام أحمد لمَّا عدَّد أحاديث القرعة؛ فعرفه أحمد وعدَّه معها، وهذا يشعر بأنَّه يأخذ به.

ومنها: لو اشتبه عبده بعبد غيره؛ فهل يصحُّ بيع عبده المشتبه من مالك الآخر قبل تمييزه أم لا؟

قال القاضي في «خلافه» : (يحتمل ألَّا يصحَّ العقد حتَّى يقع التمييز، وبماذا يقع؟

يحتمل أن يقرع بينهما؛ فتَعيَّن بالقرعة، ثمَّ يبيعه؛ لأنَّه قد اختلط المستحَقُّ بغيره.

ويحتمل أن يقف على المراضاة، ولو سلَّمناه

(2)

؛ فلأنَّ الجهالة هنا بغير فعله؛ فعفي عنها)؛ قال: (وأجود ما يقال فيه: إنَّهما يبيعان العبدين ويقتسمان الثَّمن على قيمة العبدين، كما قلنا فيما إذا اختلط زيت

(1)

أخرجه أحمد في المسند (1418).

(2)

كتب على هامش (و): (أي: سلمنا اختلاط المستحَق بغيره).

ص: 161

أحدهما بزيت الآخر، وأحدهما أجود من الآخر: إنَّهما يبيعان الزَّيت ويقتسمان الثَّمن على القيمة) انتهى.

ومنها: إذا ادَّعى الوديعة اثنان، فقال المودَع: لا أعلم لمن هي منكما؛ فإنَّه يقرع بينهما، فمن قَرَع صاحبَه؛ حلف وأخذها، نصَّ عليه أحمد، وهو من فروع مسألة تداعي عين

(1)

بيد ثالث يعترف بأنَّها لأحدهما، وسنذكرها إن شاء الله

(2)

.

ومنها: إذا استبق اثنان إلى الجلوس بالأماكن المباحة؛ كالطُّرق الواسعة ورحاب المساجد ونحوها، لمعاش أو غيره؛ فالمذهب: أنَّه يقدَّم أحدهما بالقرعة.

وفيه وجه: بتقديم السُّلطان لمن يرى منهما بنوع من التَّرجيح.

وكذلك لو استبقا إلى موضع في رباط مسبَّل

(3)

أو خانٍ

(4)

، أو استبق فقيهان إلى مدرسة أو صوفيَّان إلى خانكاه

(5)

، ذكره الحارثيُّ.

وهذا يتوجَّه على أحد الاحتمالين اللَّذين ذكرهما في المدارس والخوانق المختصَّة بوصف معيَّن: أنَّه لا يتوقَّف الاستحقاق على تنزيل

(1)

في (أ): العين.

(2)

ينظر ص ...... (إذا تداعى اثنان عينا)

(3)

الرباط: ما رُبِط به، والرباط والمرابطة: ملازمة ثغر العدو، وأصله أن يربط كل واحد من الفريقين خيله، ثم صار لزوم الثغر رباطًا. ينظر: لسان العرب 6/ 302.

(4)

الخان: الفندق والحانوت والمتجر، فارسي معرب. ينظر: لسان العرب 13/ 146، المعجم الوسيط 1/ 263.

(5)

هو رباط الصوفية. ينظر: المعجم الوسيط 1/ 260.

ص: 162

ناظر، فأمَّا على الوجه الآخر، وهو توقُّف الاستحقاق على تنزيله؛ فليس إلَّا ترجيحه بنوع من التَّرجيحات، وقد يقال: إنَّه يرجَّح بالقرعة مع التَّساوي.

ومنها: إذا استبق اثنان إلى مَعِدنٍ مباح

(1)

أو غيره من المباحات، وضاق المكان إلَّا عن أحدهما؛ ففيه وجهان:

أحدهما: يقترعان

(2)

عليه، اختاره صاحب «المغني» .

والثَّاني: قاله القاضي: إن كان أخذهما للتِّجارة؛ هايأ

(3)

الإمام بينهما باليوم أو السَّاعة بحسب ما يرى؛ لأنَّه يطول، وإن كان للحاجة؛ فاحتمالات:

أحدها: يقرع بينهما.

والثَّاني: ينصِّب من يأخذ لهما ثمَّ يقسم.

والثَّالث: يقدِّم من يراه أحوج وأولى.

وأمَّا إن وقعت أيديهما على المباح؛ فهو بينهما بغير خلاف، وإن كان في كلام بعض الأصحاب ما يوهم خلاف ذلك؛ فليس بشيء.

ومنها: إذا اجتمع اثنان بين نهر مباحٍ، لكلِّ واحد

(4)

منهما أرض تحتاج إلى السَّقي منه، وكانا متقابلين، ولم يمكن

(5)

قسمة الماء بينهما؛

(1)

في (أ): أو مباح.

(2)

في (ب): يقرعان.

(3)

المهايأة: أن تجعل في يد أحدهما مدة، وفي يد الآخر مثلها. ينظر: الكافي 4/ 249.

(4)

قوله: (واحد) سقط من (ب) و (ج) و (هـ)(ن)، وضُرب عليها في (د).

(5)

في (أ): يكن.

ص: 163

أقرع بينهما، فقُدِّم من له القرعة، فإن كان لا يفضل عن أحدهما؛ سقى من له القرعة بقدر حقِّه من الماء، ثمَّ تركه للآخر؛ لأنَّه يساويه في استحقاق الماء، وإنَّما القرعة للتَّقديم في استيفاء الحقِّ لا في أصل الحقِّ، بخلاف الأعلى مع الأسفل؛ فإنَّه ليس للأسفل حقٌّ إلَّا فيما فَضَل عن الأعلى، وهنا الماء بينهما يستحقُّ كلٌّ منهما أن يأخذ بقدر نسبة أرضه، ذكره في «المغني» .

ومنها: إذا وصف اللُّقطة نفسانِ؛ فهل يقسم بينهما، أو يقرع فمن خرجت له القرعة فهي له؟ على وجهين.

ومنها: إذا التقط اثنان طفلاً، وتساويا في الصِّفات؛ أقرع بينهما، ولم يُقَرَّ في أيديهما جميعاً؛ كما في الحضانة.

وإن ادَّعى نفسان التقاط طفل، فإن كان في أيديهما؛ أقرع بينهما؛ فأُقِرَّ في يد

(1)

من خرجت له القرعة.

وإن استويا في عدم اليد، ولم يصفه أحدهما؛ فقال القاضي والأكثرون: لا حقَّ لأحدهما فيه، ويعطيه الحاكم لمن شاء منهما أو من غيرهما؛ لأنَّه لم يثبت لهما سبب الاستحقاق.

وقال صاحب «المغني» : الأولى أن يقرع بينهما؛ لأنَّهما تنازعا شيئاً في يد غيرهما، فأشبه ما لو تنازعا وديعة.

وفيه نظر؛ فإنَّ الوديعة لمعيَّن، ولا مدَّعٍ لهما سواهما، بخلاف اللَّقيط؛ فإنَّ الحقَّ لمن سبق إليه، ولم يثبت السَّبق لواحد منهما؛ فصارا كغيرهما.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): بيد.

ص: 164

ولو ادَّعى اثنان لقطة بين أيديهما، كلٌّ منهما يقول: أنا سبقت إليها؛ أقرع بينهما، ذكره القاضي في «خلافه» .

وهذا في الظَّاهر يخالف

(1)

قوله في دعوى التقاط الطِّفل؛ إلَّا أن يفرَّق بينهما: بأنَّ اللُّقطة تؤول إلى الملك؛ فهي كتداعي اثنين في

(2)

ملكيَّة عين بين أيديهما لا يد عليها لأحد

(3)

؛ كما سيأتي إن شاء الله تعالى

(4)

.

ومنها: لو

(5)

وصَّى لجاره محمَّد، وله جاران بهذا الاسم؛ فهل تبطل الوصيَّة، أو تصحُّ ويميَّز أحدهما بالقرعة؟ فيه خلاف سبق ذكره مبسوطاً.

(6)

وكذلك سبق ذكر من وهب أحد أولاده، وتعذَّر الوقوف على عينه، أو وقف عليه واشتبه فيهم.

(7)

ومنها: إذا وصَّى لزيد بعبد من عبيده، قال الخرقيُّ: يُعطَى واحداً منهم بالقرعة؛ كما لو أَعَتق واحداً مبهماً.

والمنصوص عن أحمد في رواية ابن منصور: أنَّ له أخسَّهم

(8)

؛

(1)

في (ب): بخلاف. وفي (د): خالف.

(2)

قوله: (في) سقط من (ب) و (هـ)(ن).

(3)

قوله: (عليها لأحد) في (ب)(ن): لأحد عليها.

(4)

ينظر ص ....... عند قوله: (إذا تداعى اثنان عينا ليست).

(5)

في (ب): إذا.

(6)

في القاعدة (105). ينظر: ص .....

(7)

في القاعدة (105). ينظر: ص .....

(8)

ينظر: مسائل ابن منصور (8/ 4319).

ص: 165

يعني: أدنى ما يقع عليه الاسم منهم؛ لأنَّه المتيقَّن، وإنَّما أقرعنا في العتق؛ لأنَّ العتق حقٌّ للعبد، وقد تساووا في استحقاقه؛ فيميَّز بالقرعة، وهنا الحقُّ للموصى له، وإنَّما يستحِقُّ ما يصدق عليه الاسم.

ومنها: إذا مات المتوارثان، وعُلِم أسبقهما موتاً ثمَّ نُسي؛ فقال القاضي: لا يمتنع أن نقول هنا بالقرعة لتعيين السَّابق.

والمذهب: أنَّ حكم ذلك حكم ما لو جهلوا الحال أوَّلاً: أنَّه يورَّث كلُّ واحد منهما من الآخر من تِلاد ماله، دون ما ورثه منه.

ولو ادَّعى ورثة كلِّ واحد منهما سبق الآخر، ولا بيِّنةَ لهما، أو تعارضت البيِّنتان؛ ففيه أوجه:

أحدها: يعيَّن السَّابق بالقرعة، اختاره ابن أبي موسى، وضعَّفه أبو بكر في كتاب «الخلاف» .

والثَّاني: يتوارثان؛ كما لو جهل الورثة الحال، وهو قول أبي الخطَّاب، وقال القاضي في «المجرَّد» وابن عقيل: هو قياس المذهب.

والثَّالث: يحلف ورثة كلِّ واحد لإسقاط دعوى الآخر، ولا يتوارثان، نصَّ عليه أحمد

(1)

، واختاره الخرقيُّ؛ لأنَّ ورثة كلِّ واحد قد علم استحقاقهم لإرثه، وغيرهم يدَّعي عليهم استحقاق مشاركتهم، وهم ينكرون ذلك؛ فيكون القول قولهم مع أيمانهم، بخلاف مسائل الغرقى؛ فإنَّ الورثة متَّفقون فيها على عدم العلم بالسَّابق، وليس فيهم مدَّع لاستحقاق انفراده بمال ميِّته.

(1)

ينظر: المغني (6/ 381).

ص: 166

والوجه الرَّابع، وهو اختيار أبي بكر في «الخلاف»: أنَّه يُقسَم القدر المتنازع فيه من الميراث بين مدَّعيه نصفين، وعليهما اليمين في ذلك؛ كما لو تنازعا دابَّة في أيديهما.

ومنها: إذا مات عن زوجات وقد طلَّق إحداهنَّ طلاقاً يقطع الإرث، أو كان نكاح بعضهنَّ فاسداً لا توارث فيه، وجهل عين المطلَّقة وذات النِّكاح الفاسد؛ فإنَّها تعيَّن بالقرعة، والميراث للبواقي، نصَّ عليه أحمد

(1)

(2)

.

ومنها: الأولياء المستوون في النِّكاح، إذا تشاحُّوا أُقرِع بينهم.

فإن سبق من أخطأته القرعة، فزوَّج؛ فهل يصحُّ أم لا؟ على وجهين.

ومنها: لو زوَّج وليَّان من اثنين، وجُهل أسبق العقدين؛ ففيه روايتان:

إحداهما: يميَّز الأسبق بالقرعة، فمن خرجت له القرعة فهي زوجته، ولا يحتاج إلى تجديد عقد، ولا يحتاج الآخر إلى طلاق، هذا

(1)

ينظر: المغني (7/ 501).

(2)

كتب على هامش (و): (إذا ولدت المرأة توأمين في بطن، واستهلَّ أحدهما، ثم وجدا ميتين، ولم يعلم المستهِلُّ منهما، وكانا ذكراً وأنثى، فذهب أحمد إلى أنه يُقرَع بينهما بسهم ذكر وسهم أنثى، فمن خرج سهمه جعل كأنه المستهِل، وكان الميراث له، ذكره أبو حليمة النهرواني في كتابه «المرشد»).

ص: 167

ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل وابن منصور

(1)

.

وقد ذكر هذه الرِّواية على هذا الوجه القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل، وغيرهما.

وذكر القاضي في «الجامع» و «الخلاف» و «الرِّوايتين» ، وأبو الخطَّاب، وغيرهما: أنَّ الآخر يؤمر بالطَّلاق كما يطلِّق في النِّكاح الفاسد.

وفيه ضعف؛ فإنَّ هذا لم يتحقَّق له نكاح منعقد، بخلاف النَّاكح نكاحاً فاسداً.

وأيضاً؛ فمجرَّد طلاقه بتقدير أن يكون نكاحه هو السَّابق؛ لا يفيد حلَّ المرأة للآخر، فلهذا قال طائفة من الأصحاب: يجدِّد الَّذي خرجت عليه القرعة النِّكاح؛ لتحلَّ له بيقين.

وقد حكى ذلك القاضي في كتاب «الرِّوايتين» عن أبي بكر أحمد بن سلمان النَّجَّاد، ثمَّ ردَّه بأنَّه لا يبقى حينئذٍ معنًى للقرعة؛ فإنَّه إذا أمر أحدهما بالطَّلاق، وأمر القارع بتجديد النِّكاح؛ فقد خلت المرأة من زوجيَّتهما جميعاً، فلها أن تتزوَّج حينئذٍ من شاءت منهما ومن غيرهما، ولا فائدة حينئذ للقرعة، وهذا بعينه قول من يقول بفسخ نكاحهما؛ كما سيأتي

(2)

.

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (4/ 1489): قلت: سئل سفيان عن وليَّين زوَّجا، لا يُدرى أيهما زوَّج قبل الآخر؟ قال:(إن كان يُدرى أيهما قبل الآخر فهي للأول، وإن كان لا يُدرى فارق كل واحد منهما). قال أحمد: (يقرع بينهما فمن أصابته القرعة فهي له).

(2)

كما في الرواية الثانية الآتية قريبًا عند قوله: (يُفسخ النِّكاحان جميعاً).

ص: 168

وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: لو كان الأمر كما ذكروه؛ لم يبق بين الرِّوايتين فرق، ولا للقرعة فائدة، وإنَّما يجب على رواية القرعة أن يقال: هي زوجة القارع، بحيث يجب عليه نفقتها وسكناها، ولو مات ورثته، لكن لا يطؤها حتَّى يجدِّد العقد؛ فيكون تجديد العقد لحلِّ الوطء فقط، هذا قياس المذهب.

أو يقال: إنَّه لا يحكم بالزَّوجيَّة إلَّا بالتَّجديد، ويكون التَّجديد واجباً عليه وعليها، كما كان الطَّلاق واجباً على الآخر

(1)

.

قال: وليس في كلام أحمد تعرض للطَّلاق، ولا لتجديد الآخر النِّكاح، فإنَّ القرعة جعلها الشَّارع حجَّة وبيِّنة تفيد الحلَّ ظاهراً؛ كالشَّهادة والنُّكول ونحوهما

(2)

ممَّا لا يوقف معه على حقيقة الأمر في الباطن، والمجهول غير مكلَّف به العباد، بل هو في نظر الشَّرع كالمعدوم ما دام مجهولاً.

ونظير هذه الرِّواية في القرعة: أنَّ المشهور من المذهب: أنَّ من طلَّق واحدة من زوجاته ثمَّ أُنسِيَها؛ فإنَّها تُعيَّن بالقرعة، ويحلُّ له وطء البواقي؛ فكذلك ههنا يميَّز النِّكاح الصَّحيح من الباطل بالقرعة، وتفيد حلَّ الوطء.

ولا يقال هناك: الأصل فيمن لم يخرج عليها القرعة بقاء النِّكاح، ولم يتيقَّن وقوع الطَّلاق عليها، وهنا الأصل عدم انعقاد النِّكاح في كلِّ

(1)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 298).

(2)

ذكر في الإنصاف (20/ 221) هذا القول عن شيخ الإسلام إلى هذا الموطن فقط.

ص: 169

واحد منهما؛ فلا يباح الوطء بدون تيقُّن العقد الصَّحيح.

لأنَّا نقول: الاستصحاب بَطَل بيقينِ وقوعِ الطَّلاقِ المحرِّم، ولهذا أبطل أصحابنا الاستصحاب في مسألة اشتباه الماء الطَّاهر بالماء النَّجس

(1)

، ومنعوا استعمال أحدهما بالتَّحرِّي؛ لأنَّ الاستصحاب زال حكمه بيقين التَّنجس، وحينئذٍ تتفق الصُّورتان؛ لأنَّ في إحداهما اشتبهت الزَّوجة بالمطلَّقة ثلاثاً، وفي الأخرى اشتبه الزَّوج بغيره، وكون أحدهما له أصل في الحلِّ دون الآخر لا أثر له عندنا، ولهذا يسوَّى بين اشتباه البول بالماء الطَّاهر واشتباه الماء النَّجس بالطَّاهر، ونحن نقول على أحد الوجهين: لو أقرَّ بأنَّ ولد إحدى إمائه ابنُه، ثمَّ مات ولم يعيِّنه؛ عُيِّن بالقرعة؛ وإن كان المشتبَه

(2)

حرَّ الأصل.

واعلم أنَّ القاضي حكى عن أبي بكر بن سلمان النَّجَّاد أنَّه يقرع بين الزَّوجين، فمن قَرَع؛ أمر صاحبه بالطَّلاق، ثمَّ جدَّد الآخر نكاحه.

وقرأت بخطِّ القاضي في بعض مجاميعه قال: حكى أبو الحسن الخرزيُّ؛ قال: سئل أبو عليٍّ النَّجَّاد عن رجل زوَّج ابنته على صداق ألف درهم، ثمَّ مات الأب قبل دخول الزَّوج بها، فحضر ثلاثة رجال كلُّ واحد منهم يقول: زوَّجني أبوك منك على صداق ألف درهم قبضها منِّي، وعَدِم كلُّ واحد منهم في الحال البيِّنة، وقالت البنت: أعلم أنَّ واحداً من هؤلاء الثَّلاثة زوجي يقيناً، ولكن لا أعرفه عيناً

(3)

؛ فقال

(1)

قوله: (بالماء النجس (هو في (ب): بالنجس.

(2)

قوله: (المشتبه) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و).

(3)

قوله: (عيناً) سقط من (ب).

ص: 170

أبو عليٍّ النَّجَّاد: يُرفع أمرها إلى الحاكم، فيجبر الثَّلاثة على أن يطلِّقها كلُّ واحد منهم طلقة واحدة، ثمَّ يقترع الثَّلاثة على الألف؛ فأيُّهم كانت له القرعة أخذ الألف، ثمَّ يقال للمرأة: تزوجي أيَّهم شئت إن أحببت.

فإن كانت هذه الحكاية مستندَ القاضي في الحكاية عن النَّجَّاد؛ فقد وهم في تسميته؛ فإنَّ الحكاية عن أبي عليٍّ، ونسبها هو إلى أبي بكر بن سلمان، وليست المسألة في نكاحين مشتبهين، بل في دعوى، والقرعة فيها إنَّما هي للمال لا لحلِّ البُضع؛ فلا يصحُّ ما حكاه القاضي عن أبي بكر النَّجَّاد بالكليَّة؛ فليحقَّق ذلك.

والرِّواية الثَّانية: يُفسخ النِّكاحان جميعاً، ثمَّ تتزوَّج من شاءت منهما أو من غيرهما إذا شاءت، نقلها أبو الحارث

(1)

ومهنَّى، وهي اختيار أبي بكر في «خلافه» ، والخرقيِّ.

وحكى ابن أبي موسى في المسألة روايتين:

إحداهما: يبطل النِّكاحان.

والثَّانية: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة؛ فهي له.

قال: (والأوَّل أظهر وأصحُّ).

وظاهره: أنَّ النِّكاحين يبطلان من غير فسخ، ويشهد له ما نقله ابن منصور عن أحمد في وليَّين زوَّجا امرأة، لا تدري أيُّهما زوَّج قبل؛ قال: ما أرى لواحد ههنا نكاحاً

(2)

.

(1)

نقلها القاضي في الروايتين والوجهين (2/ 95).

(2)

ينظر: مسائل ابن منصور (4/ 1494).

ص: 171

ومن الأصحاب من حكى ذلك وجهاً، وقيَّده بما إذا أمكن وقوعهما معاً.

وقد جعل القاضي في «خلافه» المذهب كذلك.

وأمَّا إن عُلم وقوعهما معاً؛ فهما جميعاً باطلان غير منعقدين.

وذكر القاضي في «خلافه» ، وفي «كتاب «الرِّوايتين»: أنَّ حكمه حكم ما لو وقعا

(1)

مترتِّبين، وجُهل أسبقهما، وفيه الرِّوايتان.

قال أبو البركات: (وهذا لا وجه له، ولعلَّه خرق الإجماع).

فأمَّا حكم المهر في هذين النِّكاحين المشتبهين؛ فقد سبق ذكره، وأنَّ في وجوب نصف المهر على من يخرج عليه القرعة فيهما

(2)

وجهين.

فإن ماتت المرأة قبل الفسخ؛ ففي «المغني» احتمالان:

أحدهما: يوقف نصف ميراثها أو ربعه حتَّى يصطلحا عليه.

والثَّاني: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة؛ حلف أنَّه المستحِقُّ ووَرِث.

قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: (وكلا الوجهين لا يخرَّج على المذهب، أمَّا الأوَّل؛ فلأنَّا لا نقف الخصومات قطُّ، وأمَّا الثَّاني؛ فكيف يحلف من قال: لا أعرف الحال، وإنَّما المذهب على رواية القرعة: أيُّهما قرع

(3)

؛ فله الميراث بلا يمين.

(1)

في (ب): وقوعا.

(2)

في (ب): منهما.

(3)

قوله: (أيهما قرع) سقط من (ب).

ص: 172

وأمَّا على قولنا: لا يقرع، فإذا قلنا: إنَّها تأخذ من أحدهما نصف المهر بالقرعة؛ فكذلك يرثها أحدهما بالقرعة بطريق الأولى، وإن قلنا: لا مهر؛ فهنا قد يقال بالقرعة أيضاً) انتهى

(1)

.

وإن مات الزَّوجان جميعاً؛ فلها ربع

(2)

ميراث أحدهما، فإن اتَّفقت هي مع أحد الزَّوجين قبل موته أو مع ورثته أنَّه هو السَّابق؛ فالميراث لها منه بغير إشكال.

وإن ادَّعت أنَّ أحدهما هو السَّابق، وأنكر هو أو ورثته؛ فالقول قولهم مع أيمانهم، فإن نكلوا؛ قضي عليهم.

وإن لم تقرَّ المرأة بسبق أحدهما؛ ففي «المغني» احتمالان:

أحدهما: أن تحلف ورثة كلٍّ منهما ويبرأ.

والثَّاني: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة؛ فلها ربع ميراثه.

وهذا الوجه الثَّاني يتعيَّن فيما إذا أنكر الورثة العلم بالحال، ويشهد له نصُّ أحمد في رواية حنبل وغيره؛ فيمن زوَّج إحدى بناته من رجل ثمَّ مات الأب، ثمَّ مات الزَّوج، ولم يُعلم عين الزَّوجة: أنَّه يقرع بينهنَّ، فأيَّتهنَّ أصابتها القرعة؛ فهي الَّتي ترثه

(3)

.

وقد ذكر ذلك صاحب «المغني» أيضاً فيما إذا ادَّعى كلٌّ منهما أنَّه السَّابق بالعقد، ولم تُقِرَّ الزَّوجة

(4)

لواحد منهما بذلك، ثمَّ ماتا: أنَّه

(1)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 299).

(2)

في (ب): ربع مهر.

(3)

ينظر: المغني (7/ 62).

(4)

قوله: (الزَّوجة) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و).

ص: 173

يقرع بينهما، ويكون لها ميراث من تقع القرعة عليه، ولم يذكر فيه خلافاً.

ومنها: إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة، ثمَّ طلَّق الجميعَ ثلاثاً؛ فالمشهور عند الأصحاب: أنَّه يخرُجُ منهنَّ أربع بالقرعة، فيكُنَّ المختارات، وله نكاح البواقي بعد عدَّة الأربع؛ بناء على أنَّ الطَّلاق اختيار، والقرعة لها مدخل في تعيين المطلَّقات المبهمات، فيميَّزن بالقرعة، ويحكم باختيارهنَّ، وينفسخ نكاح البواقي بغير طلاق؛ فيباح له نكاحُهنَّ

(1)

بدون زوجٍ وإصابةٍ بعد انقضاء عدَّة الأربع.

وقال القاضي في «خلافه» في كتاب البيع: يَطلُقُ الجميع ثلاثاً؛ لأنَّ نكاحهنَّ ثابت لم يحكم بفساده، فيلحقهنَّ الطَّلاق الثَّلاث؛ فلا ينكح شيئاً منهنَّ إلَّا بعد زوج وإصابة.

وهذا يرجع إلى أنَّ الطَّلاق فسخ وليس باختيار، ولكن يلزم منه أن يكون للرَّجل في الإسلام أكثر من أربع زوجات يتصرَّف فيهنَّ بخصائص ملك النِّكاح من الطَّلاق وغيره، وهو بعيد.

واختار الشَّيخ تقيُّ الدِّين: أنَّ الطَّلاق ههنا فسخ لا يحسب من الطَّلاق الثَّلاث، وليس باختيار

(2)

.

وإن مات قبل أن يختار منهنَّ أربعاً؛ فإنَّه يقرع بينهنَّ، فيورَّث أربع منهن بالقرعة.

(1)

في (ب): نكاحين.

(2)

الاختيارات (ص 326).

ص: 174

وأما العدَّة؛ ففيها وجهان:

أحدهما: على الجميع عدَّة الوفاة، قاله القاضي في «الجامع» ؛ لأنَّه مات والكلُّ محبوسات على نكاحه؛ فكان عليهنَّ عدَّة الوفاة، وإسلامه لم يوجب البينونة في الزَّائد على الأربع، بل البينونة تقف على اختياره، فإذا اختار في حياته أربعاً؛ فعدَّة البواقي من حين الاختيار على المشهور، لا من حين الإسلام.

الثَّاني: وهو قول القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل، وصاحب «المغني»: أنَّ عليهنَّ أطول الأمرين من عدَّة الوفاة وعدة الوطء؛ وعلَّلوه: بأنَّ أربعاً منهنَّ زوجات والبواقي موطوءات بشبهة؛ فيجب على الجميع أطول العدَّتين؛ لتبرأ الذِّمَّة من العدَّة الواجبة بيقين.

وهذا لا يتخرَّج إلَّا على القول: بأنَّ البينونة تثبت بالإسلام وتتبيَّن بالاختيار، فإذا اختار أربعاً؛ فعدَّة البواقي من حين إسلامه.

أمَّا إذا قلنا: عدَّتهن من حين اختياره فهنَّ زوجات له حتَّى يختار؛ فلا يتوجَّه أن يجب عليهنَّ سوى عدَّة الوفاة، إلَّا أن يقال: نكاحهنَّ في حكم الفاسد؛ لأنَّه لا يجوز استدامته بحال؛ فلا يجوز

(1)

أن يثبت له خصائص النِّكاح الصَّحيح.

ويجاب عنه: بأنَّ النِّكاح الفاسد إذا اتَّصل به الموت؛ أوجب عدَّة الوفاة على المنصوص، فهذا أولى.

ويلتحق بهذه المسألة: ما إذا طلَّق واحدة مبهمة، أو معيَّنة ثمَّ

(1)

زيد في (ب) و (ج): (له)، وضُرب عليها في (أ).

ص: 175

أنسيها، ثمَّ مات قبل القرعة؛ فإنَّا نقرع بينهنَّ، ونخرج المطلَّقة بالقرعة، ونورِّث البواقي، كما نصَّ عليه أحمد

(1)

.

وأمَّا العدَّة؛ فذكر القاضي في «خلافه» : أنَّه يجب على كلِّ واحدة منهنَّ عدَّة الوفاة إن لم يكن دخل بهنَّ؛ ليسقط الفرض بيقين، وإن دخل بهنَّ؛ لزمهنَّ أطول الأمرين من عدَّة الطَّلاق من حينه وعدَّة الوفاة من حينها؛ لأنَّ كلَّ واحدة منهنَّ تحتمل أن تكون مطلَّقة وأن تكون زوجة؛ فلا تبرأ الذِّمَّة بدون ذلك.

وهذا يخالف المنصوص عن أحمد؛ فإنَّه نصَّ في رواية أبي طالب أنَّه يقرع بينهنَّ، فأيَّهنَّ أصابتها القرعة؛ لم تورَّث ولم تعتدَّ. ومراده: أنَّها لا تعتدُّ عدَّة الوفاة

(2)

.

وهذا يدلُّ على أنَّ

(3)

العدَّة تابعة للميراث، وهو ظاهر كلام القاضي في «المجرَّد» ، فمن خرجت لها قرعة الطَّلاق؛ فليس عليها سوى عدَّة الطَّلاق من حينها، وعلى البواقي عدَّة الوفاة من حينها؛ لأنَّ القرعة بيِّنة شرعيَّة، وقد حكمنا بحلِّ البُضع بها كما سبق؛ فجاز أن ينبني عليها حكم العدَّة؛ لأنَّها من توابع الطَّلاق ولوازمه.

(1)

ذكر في المغني (7/ 498)، رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي أنه قال: سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه ولا يعلم أيتهن طلق؟ قال: أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة. قلت: أرأيت إن مات هذا؟ قال: أقول بالقرعة.

(2)

جاء في الكافي (3/ 201): (والمنصوص: أنه يقرع بينهن، فتعتد واحدة منهن عدة الطلاق، وسائرهن عدة الوفاة).

(3)

قوله: (أنَّ) سقط من (أ).

ص: 176

فعلى هذا المنصوص: يتخرَّج في مسألةِ مَن

(1)

أسلم على أكثر من أربع، ثمَّ مات قبل أن يختار منهنَّ: أن يقرع بين أربع منهنَّ؛ فيكُنَّ المختارات، ويلزمهنَّ عدَّة الوفاة من حينها، ويلزم البواقي عدَّة الوطء من حين الإسلام - إذا قلنا: إنَّ عدَّتهنَّ من حين الإسلام -.

وعلى قول القاضي: على الجميع الاعتداد بأطول الأجلين.

ومنها: إذا أصدق الزَّوجة عبداً من عبيده؛ فحكى طائفة من الأصحاب في المسألة روايتين:

إحداهما: أنَّه يعيَّن بالقرعة.

والثَّانية: لها الوسط منهم.

وخرَّج ابن عقيل فيها وجهين آخرين:

أحدهما: أنَّه يعطيها

(2)

ما يختاره هو.

والثَّاني: تعطى ما تختاره هي.

واختار: أنَّهم إن تساووا؛ فلها واحد بالقرعة، وإلَّا فلها الوسط.

والمنصوص عن أحمد في ذلك: ما نقله عنه مهنَّى في رجل تزوَّج امرأة على عبد من عبيده، فقال: أعطيها من أخسِّهم، قال: ليس له ذاك، ولكن يعطيها من أوسطهم، فقلت له: ترى أن يقرع بينهم؟ فقال: نعم، فقلت: تستقيم القرعة في هذا؟ قال: نعم، يقرع بين العبيد

(3)

.

(1)

في (أ): فيمن.

(2)

في (ب) و (ج): يعطها.

(3)

ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 128)، والمغني (7/ 221)، إعلام الموقعين (3/ 57).

ص: 177

وتأوَّل أبو بكر هذا على أنَّه تزوَّجها على عبد معيَّن واشتبه.

قال القاضي: (ولا يصحُّ هذا التَّأويل)، قال

(1)

: (لأنَّه قال: تُعَطى وسطَهم، ولو كان معيَّناً؛ لم يُعتبر الوسط).

ونقل عنه جعفر بن محمَّد: يقوَّم الخادم وسطاً على قدر ما يُخدَمُ مثلُها

(2)

.

ومنها: إذا دعاه اثنان إلى وليمة عرس، واستويا في الصِّفات المرجِّحة؛ أُقرع بينهما.

ومنها: إذا زُفَّت إليه امرأتان معاً؛ فإنَّه يقدِّم إحداهما بالقرعة.

ومنها: إذا أراد السَّفر بإحدى زوجاته أو البِداءة بها؛ لم يجز بدون قرعة، إلَّا أن يرضى البواقي بذلك.

ومنها: لو طلَّق امرأة من نسائه مبهمة؛ بأن قال لامرأتيه: إحداكما طالق، ولم ينوِ معيَّناً؛ فإنَّه يعيِّن المطلَّقة بالقرعة في ظاهر المذهب، ونصَّ عليه أحمد في رواية جماعة

(3)

.

وفيه رواية ثانية: أنَّ له تعيينها باختياره.

وتوقَّف أحمد مرَّة فيها

(4)

في رواية أبي الحارث.

ومنها: إذا طلَّق واحدة معيَّنة من نسائه، ثمَّ أنسيها، أو جهلها

(1)

قوله: (قال) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ).

(2)

ينظر: المغني (7/ 220).

(3)

في (ج): الجماعة. ينظر: المغني (7/ 496).

(4)

قوله: (فيها): سقط من (ب).

ص: 178

ابتداء؛ كمن قال: إن كان هذا الطَّائر غراباً ففلانة طالق، وإن لم يكن غراباً ففلانة طالق، وطار ولم يعرف ما كان؛ فالمشهور أيضاً: أنَّها تعيَّن بالقرعة، ويحلُّ له البواقي؛ كما أنَّه لو أعتق أمة من إمائه وأنسيها؛ عيَّنها بالقرعة، وحلَّ له البواقي؛ لأنَّ القرعة قامت مقام الشَّاهد والمخبر للضَّرورة، والشَّارع لم يكلِّف العباد بما في نفس الأمر، بل بما ظهر وبدا، وإن كان مخالفاً لما

(1)

في نفس الأمر، والمجهول كالمعدوم ما دام مجهولاً، فإذا عُلم؛ ظهر حكمه؛ كالاجتهاد مع النَّصِّ، والتَّيمُّم مع الماء

(2)

، وقد نصَّ أحمد صريحاً على هذا في رواية جماعة.

وعن أحمد: أنَّه لا يقرع، بل يوقف الأمر حتَّى يتبيَّن.

قال الشَّالنجيُّ: سألت أحمد عن الرَّجل يطلِّق امرأة من نسائه ولا يعلم أيَّتهنَّ طلَّق؟ قال: أكره أن أقول في الطَّلاق بالقرعة، قلت: أرأيت إن مات هذا؟ قال: أقول بالقرعة؛ أي: لأجل الميراث بعد الموت

(3)

. وهذا اختيار صاحب «المغني» .

والمذهب الأوَّل.

وعليه؛ فلو ذكر أنَّ المطلَّقة غير من أصابتها القرعة، وأنَّه تذكَّر ذلك؛ لزمه الطَّلاق فيها، وهل يرجع إليه الَّتي وقعت عليها القرعة؟

توقَّف فيها

(4)

أحمد مرَّة.

(1)

في (ب): لها.

(2)

في (ب) و (ج): بالماء.

(3)

ينظر: المغني (7/ 498).

(4)

قوله: (فيها) سقط من (ب).

ص: 179

وقال في رواية الميمونيِّ: إن كانت تزوَّجت؛ لم ترجع

(1)

إليه؛ لأنَّ حقَّ الزَّوج الثَّاني تعلَّق بها؛ فلا يقبل قوله في إبطال حقِّه وفسخ نكاحه.

وإن لم تتزوَّج؛ فإن كانت القرعة بفعل الحاكم؛ لم ترجع إليه أيضاً، نصَّ عليه في رواية الميمونيِّ أيضاً

(2)

.

قال ابن أبي موسى: وهو يرجع إلى أنَّ حكم الحاكم له تأثير في التَّحريم.

وفيما قاله نظر، بل الظَّاهر أنَّه يرجع إلى أنَّ فعل الحاكم حكم؛ فلا يقبل قول الزَّوج فيما يرفع فعل الحاكم؛ لأنَّ تعلُّق حكم الحاكم كتعلُّق حقِّ الزَّوج وأولى.

وإن لم تكن القرعة من الحاكم؛ رجعت إليه، نصَّ عليه أيضاً؛ لأنَّ إخباره بذلك مقبول قبل القرعة؛ فكذلك بعدها، إلَّا أن يتضمَّن إبطال حقٍّ لغيره، ولم يوجد ذلك هنا.

وعن أبي بكر وابن حامد: لا ترجع إليه؛ لأنَّه متَّهم في نفي الطَّلاق عنها؛ فلا يقبل قوله فيه.

ومنها: لو رأى رجلان طائراً، فقال أحدهما: إن كان غراباً؛ فامرأتي طالق ثلاثاً، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً؛ فامرأتي طالق ثلاثاً؛ ففيه وجهان:

(1)

في (ب): لم يرجع.

(2)

ينظر: المغني (7/ 499).

ص: 180

أحدهما: يبني

(1)

كلُّ واحد منهما

(2)

على يقين نكاحه، ولا يحكم عليه بالطَّلاق؛ لأنَّه متيقِّن لحِلِّ زوجته، شاكٌّ في تحريمها، بخلاف ما إذا كانت الزَّوجتان لرجل واحد؛ فإنَّه تيقَّن زوال النِّكاح في إحدى زوجتيه؛ فلذلك

(3)

عُيِّنت بالقرعة، وهذا اختيار القاضي، وأبي الخطَّاب، وكثير من المتأخِّرين.

والثَّاني: أنَّه يقرع بينهما؛ فمن وقعت عليه القرعة؛ طَلَقَتْ زوجته؛ كما لو كانا لرجل واحد، وهو اختيار الشِّيرازيِّ في «الإيضاح» ، وابن عقيل، والحلوانيِّ، وفي «الجامع» للقاضي:(أنَّه قياس المذهب).

وعلى الأوَّل؛ فمن اعتقد خطأ الآخر دونه؛ حلَّ له الوطء، وإن شكَّ وتردَّد؛ كفَّ عنه وجوباً عند القاضي، وورعاً عند ابن عقيل.

والمنصوص عن أحمد في هذه المسألة: ما رواه عنه ابنه عبد الله أنَّه قال: يعتزلان نساءهما حتَّى يُتيقَّن

(4)

.

فيحتمل أن يكون حكَم بوقوع الطَّلاق على أحدهما ولكن لم يخرجه بالقرعة كما رواه الشَّالنجيُّ عنه.

ويحتمل -وهو الأظهر-: أنَّه منع من الوطء خاصَّة كما قاله القاضي.

قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: تأمَّلت نصوص أحمد؛ فوجدته يأمر باعتزال

(1)

في (ب) و (ج) و (د): ينبني.

(2)

قوله: (منهما) سقط من (ب) و (ن).

(3)

في (ب): فكذلك.

(4)

ينظر: مسائل عبد الله (ص 373).

ص: 181

الرَّجل امرأته في كلِّ يمين حلف الرَّجل عليها بالطَّلاق وهو لا يدري أهو بارٌّ فيها أم لا حتَّى يتيقن

(1)

أنَّه بارٌّ، فإن لم يعلم أنَّه بارٌّ؛ اعتزلها أبداً، وإن علم أنَّه بارٌّ في وقت؛ اعتزلها وقت الشَّكِّ.

وحاصله: أنَّه متى علَّق الطَّلاق بشرطٍ وأمكن وجوده؛ فإنَّه يعتزل امرأته حتَّى يُعلم انتفاؤه، نصَّ على فروع هذا الأصل في مواضع:

منها: إذا قال: إن كنتِ حاملاً؛ فأنتِ طالق؛ يعتزلها حتَّى يتبيَّن الحمل.

ومنها: إذا وكَّل وكيلاً في طلاق امرأته؛ يعتزلها حتَّى يدري ما يفعل.

ومنها: إذا قال: أنتِ طالق ليلة القدر؛ يعتزلها إذا دخل العشر الأواخر؛ لإمكان أن يكون أوَّل ليلة.

ومنها: إذا قال: أنتِ طالق قبل موتي بشهر؛ فإنَّه يعتزلها مطلقاً، نقله عنه مهنَّى.

ومنها: مسألة إن كان الطَّائر غراباً، وهي هذه المسألة

(2)

.

ومن مسائل القرعة: إذا قال لامرأته: إن ولدتِ ذكراً فأنتِ طالق طلْقة، وإن ولدتِ أنثى فأنتِ طالق طلقتين؛ فولدت ذكراً وأنثى متعاقبين، وأشكل السَّابق منهما؛ ففيه وجهان:

أحدهما: أنَّه يقع بها واحدة؛ لأنَّه اليقين، والزَّائد عليه مشكوك فيه

(1)

في (ب) و (ج) و (د): يستيقن.

(2)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 372).

ص: 182

فيلغى، كما لو طلَّق وشكَّ: هل طلَّق

(1)

واحدة أو اثنتين؟ وهذا قول أبي الخطَّاب، ورجَّحه صاحب «المغني» .

والثَّاني: يعيَّن الواقع منهما بالقرعة، قاله القاضي وابن عقيل؛ لأنَّه تحقَّق وقوع أحد المعلَّقين، وشكَّ في عينه؛ فمُيِّز بالقرعة، كما لو تيقَّن وقوع طلاق إحدى الزَّوجتين وشكَّ في عينها.

ومأخذ الخلاف: أنَّ القرعة لا مدخل لها في إلحاق الطَّلاق المشكوك فيه، ولها مدخل في تعيين المحلِّ المشتبه عند لحوق الطَّلاق لأحد الأعيان المشتبهة، فمن قال بالقرعة هنا؛ جعلها لتعيين إحدى الصِّفتين، وجعل وقوع الطَّلاق لازماً لذلك، ومن منعها؛ نظر إلى أنَّ القصد بها هنا هو اللَّازم - وهو الوقوع- ولا مدخل للقرعة فيه، وهذا أظهر.

ومن غرائب مسائل القرعة في الطَّلاق: إذا قال لزوجاته الأربع: أيَّتكنَّ لم أطأها اللَّيلة؛ فصواحباتها طوالق، ولم يطأ تلك اللَّيلة واحدة منهنَّ؛ فالمشهور عند الأصحاب: أنَّهنَّ يَطْلُقنَ ثلاثاً ثلاثاً؛ لأنَّ شرط الطَّلاق - وهو خلوُّ الوطء في اللَّيلة - قد تحقَّق في آخر جزء منها، فإذا بقي جزء منها لا يتَّسع للإيلاج؛ تحقَّق شرط طلاق الجميع دفعة واحدة، فيَطْلُقن

(2)

الجميع ثلاثاً ثلاثاً؛ لأنَّ لكلِّ واحدة ثلاث صواحبات لم يطأهنَّ، فاجتمعت شروط وقوع الثَّلاث عليها.

(1)

قوله: (طلق) سقط من (أ).

(2)

في (ب): فتطلق.

ص: 183

وحكى أبو بكر في «التَّنبيه» : في المسألة وجهين عن الأصحاب:

أحدهما: هذا.

والآخر - وهو الَّذي ذكره أوَّلًا وجزم به -: أنَّ إحداهنَّ تطلق ثلاثاً والبواقي تطلق اثنتين اثنتين.

وعلَّله: بأنَّه لمَّا امتنع عن الأولى؛ طَلَقتِ الثَّلاث واحدة واحدة، فلمَّا امتنع عن الثَّانية؛ طَلَقتِ الأولى واحدة والثَّالثة والرابعة ثنتين، فلمَّا امتنع عن الثَّالثة؛ طَلَقتِ الأولى اثنتين، والثَّانية اثنتين، والثَّالثة كذلك، وبانت الرَّابعة، فلمَّا امتنع عن الرَّابعة؛ امتنع عنها وهي غير زوجة؛ فلم يقع بالامتناع منها طلاق.

فعلى هذا الوجه؛ ينبغي أن يُقرَع بينهنَّ، فمن خرجت لها قرعة الثَّلاث؛ حَرُمت بدون زوج وإصابة، وملك رجعة البواقي.

وشرح كلامه: أنَّه يقدَّر الامتناع من وطئهنَّ مرتَّباً؛ لأنَّه لا يمكن إلَّا كذلك، فإذا بقي من اللَّيلة زمن لا يتَّسع للإيلاج في أربع؛ فقد تعذَّر وطء الأولى حينئذٍ؛ فتطلُقُ الثَّلاثة البواقي طلقة طلقة، فإذا بقي زمن لا يتَّسع للإيلاج في الثَّلاث؛ فقد تعذَّر وطء الثَّانية؛ فطَلَقتِ الأولى والثَّالثة والرَّابعة طلْقة طلْقة، فيجتمع على الأولى والثَّانية طلقة، وعلى الثَّالثة والرَّابعة طلقتان، فإذا بقي زمن لا يتَّسع للإيلاج في اثنتين؛ فقد تعذَّر وطء الثَّالثة، فتطلق به الأولى والثَّانية والرَّابعة؛ فيجتمع على الأولى والثَّانية طلْقتان، وعلى الرَّابعة ثلاث طَلَقات؛ فتَحرُم حينئذٍ، وتخرج عن الزَّوجيَّة

(1)

؛ فلا يبقى الامتناع من وطئها شرطاً لطلاق صواحباتها؛ لأنَّ

(1)

في (أ) و (ب): الزوجة مكان (عن الزَّوجيَّة).

ص: 184

تقدير كلامه: أيَّتكنَّ لم أطأها اللَّيلة وهي زوجتي، وقد تعذَّر ذلك في هذه الرَّابعة.

وهذا يرجع إلى أنَّه متى حلف بالطَّلاق على فعل شيء في وقت متَّسع، فتعذَّر فعله في آخر أجزاء ذلك الوقت؛ أنَّه لا يحنث؛ لأنَّ حنثه إنَّما هو بترك ذلك في آخر الوقت؛ فيستدعي وجود المحلوف عليه حينئذ، والمعروف من المذهب: أنَّه يحنث في حال التَّعذُّر؛ كما لو حلف ليشربنَّ ماء هذا الكوز اليوم، فتلف قبل مضي اليوم؛ فإنَّه يحنث في الحال.

وعلى ما ذكره أبو بكر: لا يحنث.

وقال صاحب «المستوعب» : ويمكن أن يقال: الأوَّلة منهنَّ من كان وقت اليمين حصتها

(1)

من القسم، والثَّانية الَّتي تليها.

ومنها: إذا ادَّعى الزَّوج الرَّجعة، والزَّوجةُ انقضاءَ العدَّة، في آن واحد؛ ففيه وجهان:

أحدهما: القول قول المرأة؛ لأنَّ الزَّوج مدَّعٍ، وهي تنكر.

والثَّاني: يقرع بينهما، فمن قَرَع؛ فالقول قوله.

ومنها: إذا آلى من واحدة معيَّنة

(2)

واشتبهت عليه؛ فإنَّها تُميَّز بالقرعة، ذكره أبو بكر.

وإن آلى من واحدة مبهمة؛ ففي «المحرَّر» وجهان:

(1)

في (أ): حظها.

(2)

في (أ): بعينها.

ص: 185

أحدهما: تُعيَّن بالقرعة.

والثَّاني: بتعيينه.

وهما مخرَّجان من الرِّوايتين في مسألة الطَّلاق.

وفي «المغني» : له وطء الجميع سوى واحدة منهنَّ، فإذا لم يبق سوى واحدة؛ تعيَّن الإيلاء فيها، لأنَّه لا يمكن وطؤها بدون الحنث في هذه الحال، بخلاف ما قبلها؛ فلا يصير مولياً بدون ذلك.

ومنها: إذا تعذَّر إثبات النَّسب بالقافة؛ إمَّا لعدمها، أو لعدم إلحاقها النَّسب لإشكاله عليها، أو لاختلافها فيه ونحو ذلك؛ فالمشهور: أنَّه لا يُلحق بالقرعة.

وقد قال أحمد في رواية علي بن سعيد

(1)

في حديث عليٍّ؛ في ثلاثة وقعوا على امرأة، فأقرع بينهم

(2)

؛ قال: (لا أعرفه صحيحاً)، وأوهنه

(3)

، وقال في رواية ابن منصور: (وحديث عمر في القافة أعجب

ص: 186

إليَّ)

(1)

؛

يعني: من هذا الحديث.

وعلى هذا؛ فهل يضيع نسبه، أو يترك حتَّى يبلغ فينتسب إلى من يميل طبعه إليه من المدَّعِينَ له فيلحق به؟ على وجهين:

والأوَّل: قول أبي بكر.

والثَّاني: قول ابن حامد.

واختار صاحب «المحرَّر» : أنَّه يلحق بالمدَّعِيَيْنِ معاً؛ كالمدَّعيين لعين ليست في يد أحدهما إذا استويا في البيِّنة أو عدمها؛ فإنَّ العين تُقسم بينهما، كذلك ههنا يلحق النَّسب بهما؛ إذ لا يمكن إلحاقه بالقرعة.

وقال إسحاق بن إبراهيم: سألت أبا عبد الله عن حديث عمر: أنَّ رجلين اختصما إليه أنَّهما وقعا على امرأة في طهرها؛ أيش

(2)

يقول فيه؟

(1)

ينظر: مسائل ابن منصور (4/ 1676).

وحديث عمر رضي الله عنه: أخرجه مالك (2/ 720)، وعنه الشافعي في مسنده (ص 330)، من طريق سليمان بن يسار: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا عمر بن الخطاب قائفًا فنظر إليهما، فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر بن الخطاب بالدرة، ثم دعا المرأة، فقال: أخبريني خبرك! فقالت: كان هذا - لأحد الرجلين - يأتيني وهي في إبل لأهلها، فلا يفارقها حتى يظن وتظن أنه قد استمر بها حبل، ثم انصرف عنها، فأهريقت عليه دماء، ثم خلف عليها هذا - تعني الآخر - فلا أدري من أيهما هو؟ قال: فكبر القائف، فقال عمر للغلام:«وال أيهما شئت» .

(2)

قال في المعجم الوسيط (1/ 34): (أيش: منحوت من "أيُّ شيء"، بمعناه، وقد تكلمت به العرب).

ص: 187

قال أحمد: إن وَلَدَتْ؛ خَيَّرتُ الابنَ أيَّهما شاء اختار، ويرثهما جميعاً، ويخيَّر في حياتهما أيَّهما شاء من الأبوين اختار

(1)

.

قال القاضي: هذا موافق لقول ابن حامد: أنَّه ينسب إلى من اختار منهما.

وقال الحارثيُّ: إنَّما دلَّ على أنَّه ينسب إليهما، كما اختاره صاحب «المحرَّر» ؛ لأنَّه ورثه منهما، ولم يوقفه إلى بلوغه، وتخييره إنَّما هو للحضانة.

والأظهر عندي: أنَّ مراد أحمد أنَّه إذا ألحقته القافة بالأبوين معاً؛ وَرِثَهما، وخُيِّر في المقام عند من يختاره منهما؛ فإنَّه سئل عن حديث عمر، وحديث عمر فيه هذان الحُكْمان.

وعن أحمد: أنَّه يقرع بينهما؛ فيلحق نسبه بالقرعة، ذكرها في «المغني»

(2)

في كتاب الفرائض.

(1)

ينظر: مسائل ابن هانئ (2/ 67).

(2)

كتب على هامش (ن): (قال في «المغني» في باب الاشتراك في الطهر، وهو باب بعد مسائل شتى في الفرائض، فقال فيه: "وروي عن علي أنه قضى في ذلك بالقرعة واليمين، قال: وبه قال ابن أبي ليلى وإسحاق، وعن أحمد نحوه إذا عدمت القافة"، ومقتضى هذا النقل: وجوب التميز مع القرعة في هذه الرواية، وليس في رواية صالح وحنبل تعرُّض لليمين، وحديث علي المشار إليه رواه زيد بن أرقم، وأخرجه أبو داود وغيره، ذكره في المنتقى فلينظر منه، ومقتضى عبارة «المغني»: أن الرواية عن أحمد بالقرعة والحكم بها إنما هي عند عدم القافة، وهو ظاهر عبارة صاحب الهدي كما يأتي. من حاشية الفروع لابن نصر الله).

ص: 188

وهي مأخوذة - والله أعلم - مما روى صالح عن أبيه أنَّه قال: القرعةَ أَراها، قد أقرع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في خمس مواضع)، فذكر منها: وأقرع في الولد حديث الأجْلَحِ عن الشَّعبيِّ عن أبي الخليل عن زيد بن أرقم

(1)

، وهو مختلف فيه، وأَذْهبُ إلى القرعة؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أقرع.

قلت: إنَّ بعض النَّاس لا يجيزون القرعة إلَّا في الأموال.

فقال: أليس قد أقرع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين نسائه، والقرعة في القرآن في موضعين

(2)

.

وظاهر هذا: أنَّه أخذ بالقرعة في النَّسب.

وقد ذكرنا طرق حديث زيد بن أرقم، والاختلافَ فيه، وكلامَ الحفَّاظ عليه، وتوجيهَ ما تضمَّنه من توزيع الغرم، في جزء مفرد.

وقد قال أبو بكر عبد العزيز: لو صحَّ؛ لقلنا به.

وأمَّا حكم تحريم النِّكاح؛ فإن أَلحَقَت القافةُ الولدَ بأحد الواطئَينِ، وكان بنتاً؛ حلَّت لأولاد الآخر، ولم تحل لأحد من الواطِئَينِ؛ لكونها رَبيبةً له.

(1)

وهو الحديث المتقدم ذكره قريبًا عن زيد بن أرقم ص ......

(2)

ينظر: مسائل صالح (2/ 103) وبعض ألفاظ الرواية غير مذكورة في المطبوع.

والموضعان هما: قوله تعالى: (فساهم فكان من المدحضين)، وقوله تعالى:(إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم).

ص: 189

وإن لم توجد قافة؛ فإن قلنا: يضيع النَّسب؛ حَرُمت على الواطِئَيْنِ وأولادهما؛ كما إذا اشتبهت ذاتُ مَحْرمٍ بأجنبيَّة، وإن قلنا: تترك حتَّى تبلغ، فتنتسب إلى أحدهما بميل الطَّبع؛ ففي حلِّها لولد الآخر

(1)

احتمالان، ذكرهما صاحب «التَّرغيب» في الرَّضاع بلبن هذه المرأة.

وأمَّا حكم العدَّة؛ فقال أكثر الأصحاب: إن ألحقت القافة الولد بأحدهما؛ انقضت به عدَّتها منه، ثمَّ اعتدَّت للآخر، وإن ألحقته بهما؛ انقضت به عدَّتها منهما.

وفي «الانتصار» لأبي الخطَّاب: لا يمتنع على أصلنا أن نقول: تنقضي به عدَّة أحدهما لا بعينه، وتعتدُّ للآخر فيما إذا ألحقته القافة بهما؛ كما لو وطئها رجلان بشبهة وجهل السَّابق.

وأمَّا إن ضاع نسبه؛ بأن لم يوجد قافة، أو أشكل عليهم؛ ففي «الإقناع» لابن الزَّاغونيِّ: يضاف إلى أحدهما بالقرعة، وتنقضي به عدَّتها منه، قال:(ويحتمل أن تستأنف العدَّة لهما؛ لأنَّه لا يعلم به البراءة من ماء أحدهما؛ حيث لم ينسب إلى واحد منهما).

وفي «المجرَّد» و «الفصول» و «المغني» : يلزمها أن تعتدَّ بعد وضعه بثلاثة قروء؛ لأنَّه إن كان من الأوَّل؛ فقد أتت بما عليها من عدَّة الثَّاني، وإن كان من الثَّاني؛ فعليها أن تكمل عدَّة الأوَّل؛ ليسقط الفرض بيقين.

وأمَّا حكم الميراث إذا تعذَّر إلحاق النَّسب بواحد منهما، ومات

(1)

في (أ): للآخر.

ص: 190

الولد: ففي «المجرَّد» في كتاب العدد: (قياس المذهب أنَّه يقرع بينهما، فمن تقع عليه القرعة؛ حُكِم له بالميراث؛ كما قلنا: إذا طلَّق إحدى نسائه ومات)، ثمَّ قال: (فإن

(1)

كان للطفل أمٌّ ولأحد المتداعيين فيه ولدان، أو كان لها ولد ولأحدهما ولد؛ فيجوز أن يكون للميِّت أَخَوان، ويجوز ألَّا يكون؛ فيحكم لها بالثُّلث، ولا تحجب بالشَّكِّ).

قال الشَّيخ مجد الدِّين: (وفي هذا عندي نظر من وجهين:

أحدهما: أنَّ القرعة إنَّما تشرع عندنا إذا امتنع الجمع بين الأمرين، وهنا يمكن أن يكون منهما عندنا.

والثَّاني: أنَّ القاضي ذكر في «المجرَّد» في كتاب الفرائض: أنَّه يوقف المشكوك فيه حتَّى يصطلح عليه، ثمَّ العجب أنَّه جعل للأمِّ هنا الثُّلث؛ حيث يُشَكُّ؛ هل لها الثُّلث أو السُّدس؟ وكان ينبغي أن تعطى

(2)

بمقتضى القرعة؟!) انتهى.

وأقول: القرعة هنا أرجح من الإيقاف؛ لأنَّ فيها فصلاً للأحكام، وأمَّا احتمال كونه منهما؛ فهو بعيد جدًّا؛ فلا تعويل عليه، وإنَّما التَّعويل على العادة الغالبة، وأنَّه ابن لواحد منهما.

نعم، لو عوَّلنا على هذا الاحتمال؛ لقسمنا إرثه بينهما بالسَّويَّة، وهو متوجِّه أيضاً.

وأمَّا دخول القرعة فيما تستحقه الأمُّ من الثُّلث أو السُّدس

(3)

؛ فغير

(1)

في (ب) و (ج): إن.

(2)

في (ب) و (ج) و (و): يعطى.

(3)

قوله: (أو السُّدس) هو في (أ) و (و): وهو السُّدس.

ص: 191

ممكن، كما لا تدخل

(1)

القرعة فيما يستحقه الخنثى من ميراثِ ذكرٍ أو أنثى، ولا فيما يستحِقُّه مَن له حاجب مفقود، ونحو ذلك.

تنبيه:

هذا الكلام في إلحاق النَّسب ابتداء بالقرعة، فأمَّا إذا أقرَّ بولد مبهم من أَمَةٍ

(2)

له، ثمَّ مات ولم يبيِّن

(3)

، وتعذَّرت القافة؛ أقرعنا لأجل الحريَّة، فمن خرجت عليه القرعة؛ فهو حرٌّ.

وهل يثبت نسبه بذلك؟ فيه خلاف سبق ذكره

(4)

؛ لأنَّ الحريَّة هنا مستندة إلى الإقرار

(5)

، والقرعة مرجِّحة.

ومنها: أنَّ الغلام إذا بلغ سبع سنين؛ فإنَّه يخيَّر بين أبيه وأمِّه في الحضانة على ظاهر المذهب، فإن لم يختر واحداً منهما، أو اختارهما جميعاً؛ أقرع بينهما على المشهور.

(1)

في (ب): يدخل.

(2)

كتب على هامش (ن): (أي: أن يقر بوطئها ولا زوج لها، كما قيده في الثاني بذلك).

(3)

في (ب): يتبين.

(4)

كتب على هامش (ن): (في قاعدة: "يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً"، لا هذه القاعدة كما قد توهمه بعضهم).

(5)

كتب على هامش (ن): (قال في «الكافي»: "فمن خرجت عليه القرعة عَتَق ووَرِث" انتهى، ويقتضي حكمه بالإرث ثبوتَ النسب بذلك، وصرح به بعد ذلك، وقال: "إنه قياس المذهب").

ص: 192

وفيه وجه: يعطى لأمِّه.

وأمَّا قبل السَّبع؛ فإذا استوى في استحقاق حضانته رجلان؛ كأخوين، أو امرأتان؛ كأختين؛ فإنَّه يعيَّن أحدهما بالقرعة أيضاً.

ومنها: إذا استحقَّ القَوَدَ جماعة، وتشاحُّوا في مباشرة الاستيفاء؛ ففيه وجهان:

أشهرهما: أنَّه يقدَّم أحدهم بالقرعة.

والثَّاني: بتعيين الإمام، قاله ابن أبي موسى.

هذا إذا كان المقتول واحداً.

فإن كانوا جماعة، وطلب وليُّ كلِّ واحد منهم أن يقتصَّ على الكمال؛ ففيه وجهان أيضاً:

أحدهما: أنَّه يقرع بينهم، فمن خرجت قرعته؛ أُقيد به، ويجب للباقين الدِّيَة.

والثَّاني: يبدأ بالسَّابق في القتل؛ فيقاد به، وتتعيَّن الدَّيَة للباقين، فإن قتلهم دفعة واحدة؛ قُدِّم من تخرج

(1)

له القرعة.

ولم يذكر صاحب «المغني» سوى هذا الوجه.

وقال أبو الخطَّاب في «الانتصار» : يقتل للجميع، ويؤخذ من ماله بقيَّة ديات الجميع يقسم بينهم، وحكى أنَّ المنصوص عن أحمد: أنَّهم إذا طلبوا القتل؛ فليس لهم غيره، ويكون قد أخذوا بعض حقوقهم، ويسقط

(2)

بعضها.

(1)

في (ب): يخرج.

(2)

في (ب): وسقط.

ص: 193

وبَعَّده: بأنَّ القصاص لا يتبعَّض في الاستيفاء

(1)

والإسقاط.

ومنها: إذا أعطينا الأمان لمشرك في حصن ليفتحه لنا، ففعل، ثمَّ اشتبه علينا، وادَّعى كلٌّ منهم أنَّه المستأمِن؛ ففيه وجهان:

أحدهما، وهو المنصوص في رواية ابن هانئ: أنَّه يحرم قتلهم واسترقاقهم جميعاً.

(2)

والثَّاني: يخرج أحدهم بالقرعة؛ فيكون حرًّا، ويرقُّ الباقون، وحكي عن أبي بكر والخرقيِّ؛ لأنَّ القرعة تميِّز الحرَّ من العبد عند الاشتباه؛ ولو كان حرَّ الأصل، كما لو أقرَّ أنَّ أحد هذين الولدين من هذه الأمة ولدُه، ثمَّ مات ولم توجد

(3)

قافة؛ فإنَّا نقرع بينهما للحريَّة؛ وإن كان حرَّ الأصل.

ومن

(4)

نصر الأوَّل؛ قال: إرقاق الباقين هنا يؤدِّي إلى ابتداء الإرقاق مع الشَّكِّ في إباحته، بخلاف من أعتق أحد عبيده واشتبه عليه؛ فإنَّه ليس فيه سوى استدامة الإرقاق مع الشَّكِّ في زواله؛ فالاستدامة تبقية على الأصل الَّذي لم يتحقَّق زواله، والابتداء نقل عن الأصل المتحقِّق مع الشَّكِّ في إباحته.

نعم، لو كان المعطى

(5)

للأمان امرأةً، واشتبهت علينا؛ لتوجَّه جواز

(1)

في (ب) و (ج): بالاستيفاء.

(2)

ينظر: مسائل ابن هانئ (2/ 121).

(3)

في (ب) و (هـ): يوجد.

(4)

في (ب): من.

(5)

في (ب) و (ج): المعطي.

ص: 194

استرقاق

(1)

النِّساء سوى واحدة بالقرعة؛ لأنَّ النِّساء يصرن أرقَّاء بنفس السَّبي؛ فقد اشتبه ههنا الرَّقيق بحرِّ الأصل؛ فهي كمسألة الإقرار المشار إليها.

وكذلك لو أسلم واحد من حصن قبل فتحه، ثمَّ فتحناه، وادَّعى كلُّهم أنَّه المسلم؛ فإنَّه يخرج بالقرعة واحد فلا يسترقُّ، ويسترقُّ الباقون؛ لأنَّهم إنَّما أسلموا بعد القهر، وذلك يوجب استرقاقهم على المنصوص؛ فقد اشتبه ههنا الحرُّ بمن ثبت استرقاقه؛ فيميَّز بالقرعة.

وجعل أصحابنا حكم هذه المسألة حكم مسألة دعوى الأمان في جريان الخلاف فيها.

ومنها: إذا ضَمِنَّا مالاً لمن يفتح الحصن، فادَّعى اثنان منهم

(2)

أنَّه الَّذي فتحه دون الآخر؛ فقال أبو بكر في «التَّنبيه» : فيه قولان:

أحدهما: أنَّ المال بينهما جميعاً؛ لأنَّهما فيه سواء بدعواهما له.

والآخر: يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة؛ كان المال له.

ومنها: إذا قُسم خُمُس الغنيمة؛ فإنَّه يُجَزَّأ خمسة أقسام بالسَّويَّة؛ سهمٌ لله وللرَّسول، وسهمٌ لذوي القربى، وسهمٌ لليتامى، وسهمٌ للمساكين، وسهمٌ لأبناء السَّبيل، ثمَّ يقرع بينها برقاع يكتب فيها أسهام كلِّ سهم من هذه السِّهام، فمن خرج له سهم؛ فهو له من غير تخيُّر.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): إرقاق.

(2)

في (أ): فادعى اثنان منهم كلٌّ منهما. وفي (د) و (هـ): فادعى اثنان كلٌّ منهما. وفي (ج): فادعى اثنان.

ص: 195

وكذلك الفيء إذا قلنا: إنَّه يخمَّس، ذكره أبو حفص العُكْبَريُّ، حكاه عنه الآمديُّ، وذكر في ذلك آثاراً عن عثمان وعليٍّ وغيرهما من الصَّحابة رضي الله عنهم

(1)

.

ومنها: لو حلف بيمين ولم يدر أيَّ الأيمان هي؛ فالمنصوص عن أحمد: أنَّه لا يلزمه شيء، قال في رواية ابن منصور، في رجل حلف بيمين لا يدري ما هي طلاق أو غيره؛ قال: لا يجب عليه الطَّلاق حتَّى يعلم أو يستيقن

(2)

.

وظاهره: أنَّه لا يلزمه شيء من موجَبات الأيمان كلِّها؛ لأنَّ الأصل براءة الذِّمَّة من موجَب كلِّ يمين بانفرادها.

وتوقَّف أحمد في رواية أخرى، قال صالح: سألت أبي عن رجل حلف على يمين لا يدري بما

(3)

حلف؛ بالله، أو بالطَّلاق، أو بالمشي؟

(1)

من قوله: (ومنها: إذا قسم خمس الغنيمة) إلى هنا سقط من (أ) و (ج) و (د) و (و).

وأثر عثمان رضي الله عنه: أخرجه ابن أبي شيبة (23384)، عن مالك بن عبد الله الخثعمي، قال: كنا جلوسًا عند عثمان، فقال:«من ههنا من أهل الشام؟» فقمت، فقال:«أَبْلِغْ معاوية إذا غنم غنيمة أن يأخذ خمسة أسهم، فليكتب على سهم منها "لله" ثم ليُقْرِعْ، فحيثما خرج منها فليأخذه» ، وأثر علي رضي الله عنه: أخرجه عبدالله بن الإمام أحمد في فضائل الصحابة (913)، والبيهقي (12989)، عن عاصم بن كليب، عن أبيه:«أن عليًّا قسم ما في بيت المال على سبعة أسباع، ثم وجد رغيفًا فكسره سبع كسر، ثم دعا أمراء الأجناد فأقرع بينهم» .

(2)

ينظر: مسائل ابن منصور (4/ 1892).

(3)

في (أ) و (ج) و (د) و (و): ما.

ص: 196

قال: لو عرف اجترأت أن أجيب فيها؛ فكيف إذا لم يدر؟!

(1)

.

وفي المسألة قولان آخران:

أحدهما: أنَّه يقرع بين الأيمان كلِّها؛ من الطَّلاق والعتاق والظِّهار واليمين بالله؛ فما خرج بالقرعة؛ لزمه مقتضاه.

وهو بعيد؛ لما تضمَّنه

(2)

من إيقاع الطَّلاق والعتاق بالشَّكِّ، ولكنَّه احتمال ذكره ابن عقيل في «فنونه» .

وذكر القاضي في بعض تعاليقه: أنَّه استُفتي في هذه المسألة، فتوقَّف فيها، ثمَّ نظر؛ فإذا قياس المذهب: أنَّه يقرع بين الأيمان كلِّها؛ الطَّلاق والعتاق والظِّهار واليمين بالله تعالى، فأيُّ يمين وقعت عليها القرعة؛ فهي المحلوف عليها.

قال: ثمَّ

(3)

وجدت عن أحمد ما يقتضي أنَّه لا يلزمه حكم هذه اليمين، وذكر رواية ابن منصور المتقدِّمة

(4)

(5)

.

والثَّاني: أنَّه يلزمه كفَّارة كلِّ يمين؛ لأنَّه تيقَّن وجوب أحدها وشكَّ في عينه، ذكره ابن عقيل في «فنونه» أيضاً.

(1)

ينظر: مسائل صالح (1/ 300).

(2)

في (ب) و (ج): تتضمنه. وفي (د) و (هـ) و (و) و (ن): يتضمَّنه.

(3)

في (أ): ثم إن. وفي (و): ثم إنِّي.

(4)

قوله: (المتقدِّمة) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (و).

(5)

زاد في (ب) و (ن): (وحكاه في موضع آخر منها عن القاضي: أنَّه كان يجيب بذلك قبل وقوفه على رواية ابن منصور المذكورة)، وقد ضُرب عليها في (أ).

ص: 197

وهو متَّجهٌ فيما إذا علم أنَّها إحدى الأيمان المكفَّرة، أمَّا إن شكَّ هل هي ممَّا يدخله التَّكفير أوْ لا؛ فلا يزول شكُّه بالتَّكفير المذكور.

وفي مسائل إبراهيم الحربيِّ: سمعت رجلاً يسأل أحمد بن حنبل عن يمين حلفها، فقال له أحمد: كيف حلفتَ؟ فقال له الرجل

(1)

: ليس أدري

(2)

كيف حلفتُ؟ فقال أحمد: حدَّثنا يحيى بن آدم؛ قال: قال رجل لشَريكٍ: حلفت وليس أدري كيف حلفتُ؟ فقال له شَريك: ليتني إذا دَرَيتَ أنت كيف حلفتَ دَرَيتُ أنا كيف أُفتيك! انتهى.

وهذه الرِّواية تحتمل أن يكون المراد: أنَّه لم يدرِ بماذا حلف؛ فتكون كرواية صالح السَّابقة.

ويحتمل أنَّه لم يدر ما حلف عليه؛ مثل أن يعلم أنَّه حلف بالطَّلاق - مثلاً - ليفعلنَّ

(3)

شيئاً، ونسي

(4)

ما حلف عليه؛ فهنا قد شكَّ في شرط الطَّلاق، وهو عدميٌّ؛ فلا يلزمه الطَّلاق على المذهب عند صاحب «المحرَّر» .

وفيه وجه: يحنث في آخر أوقات الإمكان؛ لأنَّ الأصل وجود ما علِّق عليه، وهو العدم.

وإن حلف بالطَّلاق لا يفعل كذا، فهنا شرط الطَّلاق وجوديٌّ، وهو

(1)

قوله: (له الرَّجل) سقط من (ب).

(2)

في (ب) و (ن): لا أدري. وفي (ج): أتدري.

(3)

في (ب) و (ن): أنَّه يفعل.

(4)

قوله: (ونسي) هو في (ب): ثمَّ نسي.

ص: 198

الفعل؛ فلا يقع الطَّلاق بالشَّكِّ في وجوده.

وأفتى الشَّيخ تقيُّ الدِّين فيمن حلف ليفعلنَّ شيئاً ثمَّ نسيه: أنَّه لا يحنث؛ لأنَّه عاجز عن البرِّ

(1)

.

وهو يرجع إلى

(2)

الوجه المذكور في الصُّورة الأولى.

ومنها: إذا تناضل

(3)

حزبان واقتسموا الرِّجال بالاختيار، واختلفوا في البادئ بالاختيار من كلِّ حزب؛ أُقرع بينهم لذلك.

وكذلك إذا اختلف الرُّماة في المبتدئ بالرَّمي

(4)

وتشاحُّوا؛ أُقرِع بينهم في قياس المذهب، قاله الآمديُّ.

واختار القاضي: أنَّه يقدَّم من أخرج السَّبَقَ، فإن لم يكن؛ أقرع بينهم.

واختار صاحب «التَّرغيب» : أنَّه لا يصحُّ عقد المناضلة حتَّى يعيَّن فيه المبتدئ بالرَّمي.

ومنها: إذا استوى اثنان من أهل الفيء في درجة

(5)

؛ ففي «المجرَّد» : يقدَّم أسنُّهما، ثمَّ أقدمهما هجرة.

وفي «الأحكام السُّلطانيَّة» : يقدَّم بالسَّابقة في الإسلام، ثمَّ بالدين،

(1)

ينظر: الاختيارات الفقهية (ص 390).

(2)

قوله: (إلى) سقط من (أ).

(3)

قال في القاموس المحيط (ص 1063): (ناضله مناضلةً ونضالًا ونيضالًا: باراه في الرمي. ونضلته: سبقته فيه).

(4)

في (ب): بالرَّامي.

(5)

في (ب): زوجة.

ص: 199

ثم بالسِّنِّ، ثمَّ بالشَّجاعة، ثمَّ وليُّ الأمر مخيَّر: إن شاء أقرع بينهما، وإن شاء رتَّبهما على رأيه واجتهاده.

ومنها: إذا تنازع الإمامة العظمى اثنان، وتكافئا في صفات التَّرجيح؛ قُدِّم أحدهما بالقرعة، قال القاضي: هذا قياس المذهب؛ كالأذان.

ومنها: لو عُقِدت الإمامة لاثنين في عقدين مترتِّبين، وجُهل السَّابق منهما؛ فقال القاضي: (يخرَّج على روايتين:

إحداهما: بطلان العقد فيهما.

والثَّانية: استعمال القرعة؛ بناء على ما إذا زوَّج الوليَّان وجُهِل السَّابق منهما

(1)

؛ فإنَّه على روايتين، كذلك هنا) انتهى.

ولكنَّ المشهور في حكاية الرِّواية الأولى في كتب القاضي وأصحابه: أنَّه يفسخ النِّكاحان، وقياس هذا: أن يفسخ العقدان، لا أنَّهما يبطلان من غير فسخ.

ومنها: إذا ولَّى الإمام قاضيين في بلد عملاً واحداً - وقلنا بصحَّة ذلك -، فاختلف الخصمان فيمن يحتكمان إليه؛ فالقول قول المدَّعي، فإن تساويا في الدَّعوى؛ اعتُبِر أقرب الحاكمين

(2)

إليهما، فإن استويا؛ أُقرع بينهما.

وقيل: يمنعان من التَّخاصم حتَّى يتَّفقا على أحدهما.

قال القاضي: والأوَّل أشبه بقولنا.

(1)

في (أ): أسبقهما.

(2)

في (ب) و (ج): الحالين.

ص: 200

ومنها: إذا هجم الخصوم على القاضي دفعة واحدة، وتشاحُّوا في التَّقدُّم، وليس فيهم مسافر؛ فإنَّه يُقدَّم أحدهم بالقرعة.

وكذلك إذا ادَّعى الخصمان عنده معاً؛ فإنَّه يُقدِّم أحدهما بالقرعة.

ومنها: القرعة في القسمة، إذا عدَّل القاسم السِّهام بالأجزاء إن تساوت، وبالقيمة إن اختلفت، وبالرَّدِّ فيما يقتضي الرَّدَّ؛ فإنَّه يُقرِع بين الشُّركاء، وهو مخيَّر: إن شاء كتب اسم كلِّ واحد منهم في رقعة، ثمَّ يخلط الرِّقاع ويخرج على كلِّ سهم

(1)

رقعة منها، وإن شاء كتب اسم كلِّ سهم في رقعة، ثمَّ خلطها وأخرج واحدة واحدة منها على اسم واحد واحد من الشُّركاء، فإذا تمَّت القرعة؛ لزمت القسمة للشُّركاء.

وفيه وجه: لا يلزم فيما فيه ردٌّ حتَّى يتراضيا به بعد القسمة؛ لأنَّها بيع إذا دخلها الرَّدُّ؛ فيشترط لها التَّراضي.

ومنها: إذا تداعى اثنان عيناً بيد ثالث، فأقرَّ بها لأحدهما مبهماً وقال: لا أعلم عينه؛ فإنَّه يقرع بينهما، فمن قَرَع؛ فهي له.

وهل يحلف؟ على وجهين ذكرهما أبو بكر.

والمنصوص عن أحمد: أنَّ عليه اليمين، وعليه حُمِل حديث أبي هريرة:«إذا أحبَّ الرَّجلان اليمين أو كرهاها؛ فلْيَسْتَهِما عليها»

(2)

، لكنَّه قال:(إذا كرها اليمين وخرجت القرعة لأحدهما؛ فهي له بغير يمين)

(3)

.

(1)

في (ب) و (ج): اسم.

(2)

أخرجه أحمد (8209)، وأبو داود (3617)، والبخاري بمعناه (2674).

(3)

من رواية الميموني كما في الفروع (11/ 259).

ص: 201

ولا فرق بين أن تكون

(1)

وديعة، أو عاريَّة، أو رهناً، أو بيعاً مردوداً بعيب أو خيار أو غيرهما، نصَّ عليه في المردود في رواية ابن منصور.

وإن قال من هي في يده: ليست لي، ولا أعلم لمن هي؛ ففيها ثلاثة أوجه:

أحدها: يقترعان عليها؛ كما لو أقرَّ بها لأحدهما مبهماً.

والثَّاني: تجعل عند أمين الحاكم.

والثَّالث: تقرُّ في يد من هي في يده.

والأوَّل ظاهر كلام أحمد في رواية صالح وأبي طالب وأبي النَّضر وغيرهم

(2)

، والوجهان الآخران مخرَّجان من مسألة من في يده شيء معترف بأنَّه ليس له، ولا يعرف مالكه، فادَّعاه معيَّن؛ فهل يدفع إليه أم لا؟

وهل يقرُّ بيد من هو في يده، أم ينزعه الحاكم؟ فيه خلاف معروف.

ومنها: إذا تداعى اثنان عيناً ليست في يد أحد؛ ففيها وجهان:

أحدهما: يقسم بينهما؛ كالَّتي بأيديهما.

والثَّاني: يقرع بينهما؛ فتعطى لمن قَرَع؛ كما لو كانت بيد ثالث، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية صالح في اثنين تداعيا كيساً ليست أيديهما عليه:(أنَّهما يستهمان عليه، فمن خرج سهمه؛ فهو له مع يمينه)

(3)

، ولم يفرِّق بين أن يكون في يد غيرهما، أو لا يكون في يد أحد.

(1)

في (ب) و (و): يكون.

(2)

ينظر: مسائل صالح (2/ 276).

(3)

ينظر: مسائل صالح (1/ 218).

ص: 202

ومنها: إذا تعارضت البيِّنتان؛ ففي المسألة ثلاث روايات:

إحداهنَّ: يسقطان بالتَّعارض، ويصيران كمن لا بيِّنة لهما.

والثَّانية: يستعملان بقسمة العين بينهما بغير يمين.

والثَّالثة: يرجَّح إحداهما بالقرعة، فمن قَرَع؛ حلف وأخذ العين.

هكذا حكى القاضي في بعض كتبه هذه الرِّواية

(1)

، وتبعه عليها كثير

(2)

من الأصحاب، وأنكرها في كتاب «المجرَّد» و «الخلاف» ، وقال: إنَّما معناها أنَّ البيِّنتين يسقطان بالتَّعارض، وتصير العين في يد غير المتداعيين؛ فيقرع بينهما على ما تقدَّم.

وصرَّح أحمد بهذا المعنى في رواية حنبل؛ فقال: (لو أقاما البيِّنة جميعاً؛ أسقطت البيِّنتين جميعاً؛ لأنَّ كلَّ واحدة منهما قد أكذبت صاحبتها، ويستهمان على اليمين)

(3)

.

وحكى ابن شهاب في «عيون المسائل» رواية أخرى: أنَّه يوقف الأمر حتَّى يتبيَّن

(4)

أو يصطلحا عليه.

ولو كانت العين المتنازع فيها بيد

(5)

أحدهما؛ فلا تعارض، بل تقدَّم بيِّنة الخارج في أشهر الرِّوايتين.

(1)

كما في الروايتين والوجهين (3/ 105).

(2)

في (أ): أكثر. وفي (ب): كثر.

(3)

هذه الرواية قريبة من رواية صالح المتقدم ذكرها قريبًا، وقد ذكرها القاضي في نفس المسألة في الروايتين والوجهين (3/ 104).

(4)

في (أ) و (و): يبيَّن.

(5)

في (أ): في يد.

ص: 203

وفي الأخرى: بيِّنة الدَّاخل، إلَّا أن يكون التَّنازع في سبب اليد؛ بأن يدَّعي كلٌّ منهما أنَّه اشتراها من زيد أو اتَّهبها

(1)

منه، ويقيم بذلك بيِّنة؛ ففيه روايتان:

إحداهما

(2)

: أنَّها كبيِّنة الدَّاخل والخارج على ما سبق، وهي المذهب عند القاضي.

والثَّانية: يتعارضان؛ لأنَّ سبب اليد هو نفس المتنازَع فيه؛ فلا تبقى مؤثِّرة؛ لأنَّهما اتَّفقا على أنَّ ملك هذه الدَّار لزيد، وعنه هو متلقًّى؛ فلذلك

(3)

لم يبقَ لليد تأثير؛ لأنَّه قد علم مستندها، وهو الشِّراء الَّذي عورض بمثله، وهذه الرِّواية اختيار أبي بكر، وابن أبي موسى، وصاحب «المحرَّر» .

واختار أبو بكر وابن أبي موسى ههنا: أنَّه يرجَّح بالقرعة، ونصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور؛ في رجل باع ثوباً، فجاء رجل، فأقام البيِّنة أنَّه اشتراه بمائة، وأقام الآخر البيِّنة أنَّه اشتراه بمائتين، والبائع يقول: بعته بمائتين، والثَّوب في يد البائع بعد، قال: ليس قول البائع بشيء، يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة فهو له بالَّذي ادَّعى أنَّه اشتراه به، قلت: فإن كان الثَّوب في يد أحدهما، ولا يُدرى أيُّهما اشتراه أوَّل؟ قال: لا ينفعه ما في يديه، إذا كان مقِرًّا أنَّه اشتراه من فلان؛ فلا

(1)

في (أ): اتَّهبا.

(2)

في (ب) و (هـ): أحدهما.

(3)

في (ب): فكذلك.

ص: 204

ينفعه ما في يديه

(1)

.

والعجب أنَّ القاضي في «المجرَّد» حكى هذا النَّص عن أحمد، وذكر أنَّه أجاب بقسمة الثَّوب بينهما نصفين، ثمَّ تأوَّله على أنَّه كان في أيديهما.

وإنَّما أجاب أحمد فيه بالقرعة كما ذكرناه، وإنَّما المجيب بالقسمة سفيانُ الثَّوريُّ؛ فإنَّ إسحاق بن منصور يذكر لأحمد أوَّلاً المسألة وجواب سفيان فيها، فيجيبه أحمد عنها بعد ذلك بالموافقة أو بالمخالفة؛ فربَّما يشتبه جواب أحمد بجواب سفيان، وقد وقع ذلك للقاضي كثيراً؛ فليتنبه لذلك، وليراجع كلام أحمد من أصل مسائل ابن منصور.

ووقع في «الإرشاد» لابن أبي موسى في هذه المسألة كما وقع للقاضي؛ فإنَّه نقل عن أحمد: أنَّه

(2)

إذا كان الثَّوب في يد البائع، فهو بينهما نصفين، وإن كان في يد أحدهما؛ أقرع بينهما. وهو وَهَمٌ أيضاً.

وذكر الشَّيخ تقيُّ الدِّين رحمه الله: أنَّ مقتضى المذهب: أنَّه إذا شهدت البيِّنتان بالعقدين أو الإقرارين أو الحكمين؛ أنْ تُصدَّق البيِّنتان، ثمَّ إن عُلم السَّابق، وإلَّا كان بمنزلة أن تشهد بيِّنة واحدة بالعقدين ولا يعلم السَّابق منهما؛ فهنا إمَّا أن يقرع، وإما أن يبطل العقدان؛ فلا يبقى هنا عقد صحيح يحكم به؛ فيقرُّ في يد ذي اليد، وتكون الدَّعوى حينئذ لمن

(1)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2933).

(2)

قوله: (أنَّه) سقط من (أ).

ص: 205

انتقل عنه على صاحب اليد.

قال: وقياس المذهب فيما إذا اشتبه أسبق عقدي البيع: أن نفسخهما، إلَّا أن يتعذَّر موجَبُ الفسخ من ردِّ الثَّمن ونحوه؛ فإنَّا نقرع؛ لأنَّ مِن أصلنا: أنَّه إذا اشتبه المالك بغير المالك، أو الملك بغير الملك؛ فإنَّا نقرع، فإذا أمكن فسخ العقد وردُّ كلِّ ملك إلى صاحبه، فهو خير من خطر القرعة

(1)

.

ومنها: الإقراع في العتق، وهو أشهر ما وردت فيه السُّنَّة بالإقراع فيه

(2)

، ويندرج تحته صور كثيرة:

فمنها: إذا أعتق في مرضه عبيدَه، أو دبَّرهم، ولم يخرجوا من ثلثه؛ فإنَّه يقرع بينهم، فيَعتِقُ منهم بقدر الثُّلث، نصَّ عليه أحمد في رواية جماعة

(3)

.

قال القاضي: ويكون العتق مراعىً، فإن مات ولم تُجِز الورثة؛ تبيَّنا أنَّ الحرَّ منهم اثنان مثلاً، وأنَّ العتق كان واقعاً عليهما دون غيرهما، ولكنَّهما كانا غير معيَّنين، وإنَّما تميَّزا وتعيَّنا بالقرعة؛ كما تتميَّز

(4)

(1)

من قوله: (وذكر الشَّيخ تقيُّ الدِّين رحمه الله إلى هنا سقط من (أ) و (و). وينظر معناه في الاختيارات (ص 510).

(2)

يشير إلى ما أخرجه مسلم (1668)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه:«أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثًا، ثم أقرع بينهم؛ فأعتق اثنين، وأرق أربعة، وقال له قولًا شديدًا» .

(3)

ينظر: مسائل ابن منصور (8/ 4428)، ومسائل ابن هانئ (2/ 61).

(4)

في (أ) و (ج): يتميَّز.

ص: 206

وتتعيَّن الحقوق المشتركة في العقار وغيره بالإقراع في القسمة وغيرها.

ويستثنى من هذا صور لا إقراع فيها ذكرها الأصحاب:

أحدها: إذا كان عِتْق أحد العبدين مرتَّباً على الآخر، بأن قال: إن أعتقتُ سالماً؛ فغانم حرٌّ؛ فإنَّه يَعتِقُ سالم وحده إذا أعتقه، ولا يقرع؛ لأنَّ القرعة قد تفضي إلى عتق غانم وحده؛ فيلزم منه ثبوت المشروط بدون شرطه.

والثَّانية: إذا قال في مرضه: أعتقوا سالماً إن خرج من الثُّلث، وإلَّا فأعتقوا منه ما عَتَق، وقال أيضاً: أعتقوا غانماً إن خرج من الثُّلث، وإلَّا فأعتقوا منه ما عَتَق.

قال الأصحاب: يَعتِقُ من كلِّ واحد نصفُه

(1)

مع تساوي قيمتهما؛ لأنَّه لم يقصد بالوصيَّة تكميل الحريَّة في كلِّ واحد؛ فلم يقرع؛ كما لو قال: أعتقوا نصف سالم، وإلَّا فنصفَ غانم.

والثَّالثة: لو أعتق أَمَةً حاملاً في مرض موته، ولم يتَّسع الثُّلث لها ولحملها؛ قالوا: لا يجوز الإقراع؛ لأنَّ الحمل تبع لأمِّه وجزء منها؛ فلا يجوز إفراده بالعتق دونها، والقرعة قد تفضي إلى ذلك، ولا أن تَعتِقَ هي دون حملها إذا استوعبت قيمتها الثُّلث؛ لأنَّ الولد تبع لها، وعتقه ملازم لعتقها؛ فلا يمكن أن يَعتِقَ منها شيء ولا يَعتِقَ منه مثله؛ فيتعيَّن أن يَعتِقَ منها ومن حملها بالحصَّة.

وذهب أبو علي بن أبي موسى إلى أنَّ الإقراع إنَّما يدخل حيث كان

(1)

كتب على هامش (ن): (أي: إذا لم يخرج من الثلث إلا أحدهما).

ص: 207

العتق لمبهم غير معيَّن، وتشاحَّ العبيد فيه، فأمَّا إن كان لمعيَّن؛ فلا إقراع، وكذا إن

(1)

لم يتشاحَّ فيه العبيد.

وحُكي عن أبي بكر في «خلافه» ما يوافق ذلك.

فعلى هذا: إذا أوصى

(2)

بعتق عبيده ولم تُجِز الورثة؛ أَعتقوا منهم بمقدار الثُّلُث، فإن تشاحَّ العبيد في العتق؛ أُقرع بينهم؛ فعَتَق مَن وقع عليه سهم الحريَّة منهم، وكذلك لو دبَّرهم، ذكره ابن أبي موسى.

وذكر هو وأبو بكر فيما إذا شهدت بيِّنة على مريض أنَّه أعتق عبده هذا، وشهدت أخرى أنَّه أعتق عبده هذا: أنَّه يجب العتق لهما، ويتحاصَّ

(3)

فيه العبدان.

قال أبو بكر: لأنَّ القرعة إنَّما تجب إذا كان أحدهما حرًّا والآخر عبداً؛ يعني: إذا كان العتق لواحد لا للجميع.

وهذا مناقض لما ذكره ابن أبي موسى في تدبيرهم كلِّهم، إلَّا أن يقول: تدبيرهم يقع موقوفاً مراعًى؛ كعتقهم المنجز في مرضه، فيَعتِقُ منهم مع عدم الإجازة قدرُ الثُّلث، وهو مبهم؛ فيميَّز بالقرعة، بخلاف ما إذا أَعتق عبدين معيَّنين.

وهو ضعيف؛ فإنَّه لا فرق بين أن يكون العبيد جميع ماله أو نصفه مثلاً؛ إذ لا بدَّ من الرَّدِّ إلى الثُّلث.

(1)

في (أ): إذا.

(2)

في (ب): وصّى.

(3)

في (ب): يتحاصَّان.

ص: 208

وقد نقل ابن منصور عن أحمد فيمن قال في وصيَّته: أعتقوا عنِّي أحد عبدَيَّ هذين: أنَّه يُعتَقُ أحدهما، فإن تشاحَّا في العتق؛ يقرع بينهما

(1)

. وإنَّما قال

(2)

: (يعتق أحدهما) ابتداء؛ لأنَّها وصيَّة؛ فالواجب فيها ما يصدق عليه الاسم؛ كما لو وصَّى بأحدهما لزيد.

ومنها: لو أعتق أحد عبديه؛ فإنَّه يعيَّن بالقرعة.

ويتخرَّج

(3)

وجه آخر: أنَّه يعيَّن

(4)

بتعيينه من الرِّواية السَّابقة في الطَّلاق.

ولو أعتق عبداً من عبيده ثمَّ أنسيه، أو جهله

(5)

ابتداء؛ كمسألة الطَّائر المشهورة؛ فإنَّه يخرج بالقرعة أيضاً.

ويتخرَّج وجه آخر: أنَّه لا يُقرع ههنا من الطَّلاق، وأشار إليه بعض الأصحاب.

لكن قياس الرِّواية المذكورة في الطَّلاق: أنَّه يقرع، فمن خرجت له القرعة

(6)

؛ عَتَق، ويستدام الملك في غيره، إلَّا أنَّه لا يستباح وطء شيء منهنَّ إذا كنَّ إماءً.

ولو قال رجل: إن كان هذا الطَّائر غراباً فعبدي حرٌّ، وقال آخر: إن

(1)

ينظر: مسائل ابن منصور (8/ 4332).

(2)

قوله: (قال) سقط من (أ).

(3)

في (أ): ويخرَّج.

(4)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): يعيِّنه. وفي (و) و (ن): يعتقه.

(5)

في (أ): وجهله.

(6)

في (أ): قرعته.

ص: 209

لم يكن غراباً؛ فعبدي حرٌّ، فجهل أمره؛ فالمشهور: أنَّه لا يَعتِقُ واحد من العبدين، فإن اشترى أحد المالكين عبد الآخر؛ ففيه وجهان:

أحدهما: يَعتِقُ ما اشتراه؛ لأنَّ استدامته لاسترقاق عبده إقرارٌ منه بأنَّ عبد صاحبه هو الَّذي عَتَق، فإذا اشتراه؛ نفذ

(1)

إقراره على نفسه، فعَتَق عليه.

والثَّاني: أنَّه يَعتِقُ أحدهما غير معيَّن، ثمَّ يميَّز بالقرعة، وهو أصحُّ؛ لأنَّ تمسُّكه بعبده إنَّما كان استصحاباً للأصل لا غير.

وأمَّا الولاء؛ فعلى الوجه الأوَّل: هو

(2)

موقوف حتَّى يتصادقا على أمر يتَّفقان عليه.

وعلى الثَّاني: إن وقعت الحريَّة على المشتري؛ فكذلك، وإن وقعت على عبده؛ فولاؤه له.

ويتوجَّه أن يقال: يقرع بينهما، فمن قَرَع؛ فالولاء له؛ كما تقدَّم مثل ذلك في الولد الَّذي يدَّعيه أبوان، وأولى؛ لأنَّه ههنا إنَّما عَتَق على واحد غير معيَّن، وهناك يمكن أن يكون الولد لهما.

وكذلك يقال: لو كان عبد بين شريكين موسرين، فقال أحدهما: إن كان الطَّائر غراباً؛ فنصيبي حرٌّ، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً؛ فنصيبي حرٌّ؛ فإنَّ العبد عَتَق على أحدهما، وهو غير معلوم؛ فيميَّز بالقرعة، ويكون له الولاء.

(1)

في (ب): بعد.

(2)

في (أ): وهو.

ص: 210

ومنها: لو قال لأمته: أوَّل من

(1)

تلدينه حرٌّ، فولدت ولدين، واشتبه أوَّلهما خروجاً؛ فإنَّه يميَّز بالقرعة، نصَّ عليه؛ لأنَّ العتق وقع على معيَّن وجهل ابتداء.

ولو قال: أوَّل غلام لي يطلع؛ فهو حرٌّ، فطلع عبيده كلُّهم، أو قال لزوجاته: أيَّتكنَّ طلع أوَّلًا؛ فهي طالق، فطلعن كلُّهنَّ؛ فنصَّ أحمد على أنَّه يميَّز

(2)

واحد من العبيد وامرأة من الزَّوجات بالقرعة في رواية مهنَّى

(3)

.

واختلف الأصحاب في هذا النَّصِّ؛ فمنهم من حمله على أنَّ اطِّلاعهم كان مرتَّباً وأشكل السَّابق منهم؛ فيميَّز بالقرعة؛ كمسألة الولادة.

ومنهم من أقرَّ النَّصَّ على ظاهره، وأنَّهم طلعوا دفعة واحدة، وقال: صفة الأوَّلِيَّة شاملة لكلِّ واحد منهم بانفراده، والمعتِق إنَّما أراد عتق واحد منهم؛ فيميَّز بالقرعة، وهي طريقة القاضي في «خلافه» .

ومن الأصحاب من قال: يَعتِقُ ويطلُقُ الجميع؛ لأنَّ الأوَّلِيَّة صفة لكلِّ واحد منهم، ولفظه صالح للعموم؛ لأنَّه مفرد مضاف.

أو يقال: الأوَّلِيَّة صفة للمجموع لا للأفراد، وهو الَّذي ذكره صاحب «المغني» في الطَّلاق.

(1)

في (ب) و (ج) و (هـ) و (و) و (ن): ما.

(2)

قوله: (يميز) سقطت من (ب).

(3)

ينظر: المغني (10/ 339).

ص: 211

ومنهم من قال: لا يَطْلُقُ، ولا يَعتِقُ شيء منهم؛ لأنَّ الأوَّل لا يكون إلَّا فرداً لا تعدد فيه، والفرديَّة منتفية هنا، وهو الَّذي ذكره القاضي، وابن عقيل في الطَّلاق، والسَّامريُّ، وصاحب «الكافي» .

ويتخرَّج وجه آخر: وهو أنَّه إن طَلَع بعدَهم غيرُهم من عبيده وزوجاته؛ طَلَقْنَ وعَتَقْنَ، وإلَّا فلا؛ بناء على أنَّ الأوَّل هو السَّابق لغيره؛ فلا يكون أوَّلاً حتَّى يأتي بعده غيره؛ فيتحقَّق بذلك له صفة الأوَّلِيَّة، وهو وجه لنا ذكره ابن عقيل وغيره.

وقريب من هذه المسألة: ما ذكره ابن أبي موسى في كتاب العتق؛ فقال: (واختلف قوله في الرَّجل يقول لعبيده: أيُّكم جاءني بخبر كذا فهو حرٌّ، فأتى بذلك الخبر اثنان معاً أو أكثر؛ على روايتين:

قال في إحداهما: قد عَتَق واحد منهم؛ فيقرع بينهم، فمن قَرَع صاحبَه؛ فقد عَق.

وقال في الأخرى: قد عَتَقا جميعاً) انتهى.

فأمَّا وجه عتقهما جميعاً؛ فظاهرٌ؛ لأنَّ «أيًّا» من صيغ العموم.

وأمَّا وجه عتق أحدهما بالقرعة؛ فهو أنَّ المتبادر إلى الأفهام من هذا التَّعليق الخصوصُ، وأنَّه إنَّما أريد به عتق واحد يجيء بالخبر؛ فيصير عموم هذا اللَّفظ عموم بَدلِيَّة لا عموم شمول؛ فلا يَعتِقُ به أكثر من واحد، فإذا اجتمع اثنان على الإتيان بالخبر؛ أُعتِقَ أحدُهما بالقرعة.

وليس هذا كما لو قال لزوجاته: أيَّتكنَّ خرجت فهي طالق، فإذا خرجن جميعاً؛ طَلَقْنَ؛ لأنَّ الخروج بالنِّسبة إلى الجميع سواء.

ص: 212

وأمَّا الإخبار؛ فالمقصود منه يحصل من أحد المُخبِرَيْنِ؛ فلا حاجة إلى الآخر، ولهذا قلنا على أحد الوجوه - وهو قول القاضي -: إنَّه لو قال لزوجاته: من أخبرني منكنَّ بكذا؛ فهي طالق، فأخبرنه متفرِّقات: أنَّه لَا يطلُق منهنَّ إلَّا الأولى؛ لأنَّ مقصوده من الإخبار - وهو الإعلام - حاصل بها، ولهذا لو قال: من دخل داري فله درهم، فدخل جماعة؛ فلكلِّ واحد منهم

(1)

درهم، ولو قال: من جاءني فله درهم، فجاءه جماعة؛ فلهم درهم واحد بينهم، ذكره القاضي في كتاب «أحكام القرآن» ، قال: لأنَّ الشَّرط وجد من الجماعة وجوداً واحداً، بخلاف دخول الدَّار؛ فإنَّ كلَّ واحد منهم وجد منه دخول كامل.

ولو قال رجل: من سبق فله كذا، فسبق اثنان معاً؛ ففيه وجهان:

أحدهما: السَّبَق المذكور بينهما؛ كما لو قال: من ردَّ ضالَّتي فله كذا، فردَّها جماعة.

والثَّاني: لكلٍّ منهم سَبَقٌ كامل؛ لأنَّه سابق بانفراده.

وحاصل الأمر في هذا الباب: أنَّ المعلَّق عليه تارة يكون شيئاً واحداً لا تعدُّد فيه؛ كردِّ الآبق ونحوه؛ فلا يتعدَّد المشروط بتعدُّد المحصِّلين له؛ لأنَّهم اشتركوا في تحصيل شيء واحد، فاشتركوا في استحقاق المرتَّب عليه.

وتارة يكون قابلاً للتَّعدُّد، وهو نوعان:

أحدهما: ما يكون التَّعدُّد فيه مقصوداً؛ كدخول الدَّار ونحوه؛

(1)

قوله: (منهم) سقط من (أ).

ص: 213

فيتعدَّد الاستحقاق على الصَّحيح؛ كما إذا قال: من دخل داري؛ فهو حرٌّ، أو فله درهم، أو فهي طالق.

وكذلك يجيء على هذا إذا قال: من جاءني؛ فله درهم؛ لأنَّ تعدُّد الآتين مطلوب، بخلاف ما ذكره القاضي.

ومسألة السَّبْق قد يقال: هي من هذا النَّوع.

وقد يقال: السَّبْق إنَّما حصل من المجموع لا من كلِّ فرد منهم؛ إذ كلُّ فرد منهم ليس بسابق للباقين، بل هو سابق لمن تأخَّر عنه ومساوق

(1)

لمن جاء معه؛ فالمتَّصف بالسَّبْق هو المجموع، لا كلُّ فرد منهم؛ فلذلك استحقُّوا جُعْلاً واحداً، وهذا أظهر.

والنَّوع الثَّاني: ما لا يكون التَّعدد فيه مقصوداً؛ كالإتيان بالخبر؛ فهل يشترك الآتون به في الاستحقاق، أم يختصُّ به واحد منهم ويميَّز بالقرعة؟

فيه الخلاف الَّذي ذكره ابن أبي موسى، والَّذي نقله صالح عن أحمد: أنَّه يَعتِق الجميع

(2)

.

ونقل حنبل: أنَّه يَعتِقُ واحد منهم بالقرعة

(3)

.

وحمل أبو بكر رواية صالح: على أنَّه أراد العموم، ورواية حنبل: على أنَّه أراد واحداً غير معيَّن، وما ذكرناه أشبه.

(1)

في المصباح المنير (1/ 296): (تساوقت الإبل تتابعت، قاله الأزهري وجماعة، والفقهاء يقولون: تساوقت الخطبتان، ويريدون المقارنة والمعية، وهو ما إذا وقعتا معا ولم تسبق إحداهما الأخرى، ولم أجده في كتب اللغة بهذا المعنى).

(2)

ينظر: الفروع (9/ 105).

(3)

ينظر: الفروع (9/ 105).

ص: 214

وعلى هذا تتخرَّج مسألة: (أَوّلُكُنَّ يطلع عليَّ)؛ إذا قيل: إنَّ الأوَّلِيَّة صفة لكلِّ واحد من المجتمعين؛ لأنَّ هذا التَّعليق لم يقصد به إلَّا واحداً غير معيَّن، لم يرد به الجميع، وأمَّا إن قيل: الأوَّلِيَّة صفة للمجموع؛ توجَّه وقوع العتق والطَّلاق على الكلِّ.

ومنها: لو اشتبه عبده بعبيد غيره؛ قال القاضي: قياس المذهب: أنَّه يَعتِقُ عبده الَّذي يملكه عن واجب وغيره

(1)

، ثمَّ يُقرع بينهم، فيخرج عبده بالقرعة.

ولو اشتبهت زوجته بأجانب، فطلَّقها؛ فله إخراجها بالقرعة ونكاح البواقي، على قياس ما ذكره الأصحاب فيمن أسلم على أكثر من أربع، فطلَّق الجميع ثلاثاً: أنَّه يُخرج أربعاً بالقرعة، ثمَّ يَنكِح البواقيَ.

ولو اشتبهت أخته بأجنبيَّات؛ فقال القاضي في «خلافه» : لا يمتنع التمييز بالقرعة؛ كما لو زوَّج إحدى بناته برجل واشتبهت فيهنَّ؛ فإنَّها تُميَّز بالقرعة على المنصوص.

وفي «عمد الأدلَّة» لابن عقيل: لو اختلط عبده بأحرار؛ لم يقرع، ولو اختلط من أعتقه وله عتقه ومن لا يملك عتقه إلَّا بإجازة؛ جاز أن يقرع بينهما؛ لأنَّ القرعة لا تعمل في آكد التَّحريمين، وتعمل في أيسرهما، والله أعلم.

كَمَلَتِ القواعد

(2)

(1)

قوله: (عن واجب وغيره) سقط من (أ) و (و).

(2)

من قوله: (وفي «عمد الأدلَّة» لابن عقيل)، إلى هنا سقط من (أ).

ص: 215

‌فصل

وهذه فوائد تلتحق بالقواعد، وهي فوائد مسائل مشتهِرة، فيها خلاف

(1)

في المذهب، ينبني على الاختلاف فيها فوائد متعدِّدة:

فمن ذلك:

[1] ما يدركه المسبوق في الصَّلاة؛ هل هو آخر صلاته أو أوَّلها

؟

وفي هذه المسألة روايتان عن الإمام أحمد:

إحداهما: أنَّ ما يدركه آخر صلاته، وما يقضيه أوَّلها، وهي ظاهر المذهب.

والثَّانية: عكسها.

ولهذا الاختلاف فوائد:

أحدها: محلُّ الاستفتاح؛ فعلى الأولى: يستفتح في أوَّل ركعة يقضيها

(2)

؛ إذ هي أوَّل صلاته، نقلها حرب.

وفي «شرح المذهب» للقاضي: لا يشرع الاستفتاح فيها؛ لفوات محلِّه.

(1)

في (ب): اختلاف.

(2)

في (ب): نقضيها.

ص: 216

وعلى الثَّانية: يستفتح في أوَّل ركعة أدركها؛ لأنَّها أوَّلَتُه، نقلها ابن أصرم

(1)

.

الفائدة الثَّانية: التَّعوُّذ؛ فعلى الأولى: يتعوَّذ إذا قام للقضاء خاصَّة.

وعلى الثَّانية: يتعوَّذ في أوَّل ركعة يدركها.

وهذا بناء على قولنا: إنَّ التَّعوُّذ يختصُّ بأوَّل ركعة، فأمَّا على قولنا: هو مشروع في كلِّ ركعة؛ فتلغو هذه الفائدة.

الفائدة الثَّالثة: هيئة القراءة في الجهر والإخفات؛ فإذا فاته الرَّكعتان الأُولَيان من المغرب أو العشاء؛ جهر في قضائهما من غير كراهة، نصَّ عليه في رواية الأثرم

(2)

.

وإن أمَّ فيهما - وقلنا بجوازه -؛ سنَّ له الجهر، وهذا على الرِّواية الأولى.

وعلى الثَّانية: لا جهر ههنا.

الفائدة الرَّابعة: مقدار القراءة؛ وللأصحاب في ذلك طريقان:

أحدهما

(3)

: أنَّه إذا أدرك ركعتين من الرُّباعيَّة؛ فإنَّه يقرأ في المقضيتين بالحمد وسورة معها على كِلا الرِّوايتين، قال ابن أبي موسى:(لا يختلف قوله في ذلك)، وذكر الخلَّال أنَّ قوله استقرَّ على

(1)

هو أحمد بن أصرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن مغفَّل المزني، سمع عبد الأعلى بن حماد والصلت الجحدري والإمام أحمد وغيرهم، وكتب عن الإمام أحمد، وتوفي سنة (285 هـ). ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 22.

(2)

ينظر: المغني (1/ 408).

(3)

في (ب) و (ج): إحداهما.

ص: 217

ذلك، وفي «المغني»:(هو قول الأئمَّة الأربعة، لا نعلم عنهم فيه خلافاً).

والطَّريق الثَّاني: بناؤه على الرِّوايتين، فإن قلنا: ما يقضيه

(1)

أوَّل صلاته

(2)

؛ فكذلك، وإلَّا اقتصر فيه على الفاتحة، وهي طريقة القاضي ومن بعده، وذكره ابن أبي موسى تخريجاً، وقد نصَّ عليه أحمد في رواية الأثرم، وأومأ إليه في رواية حرب وغيره.

وأنكر صاحب «المحرَّر» الطَّريقة الأولى، وقال: لا يتوجَّه إلَّا على رأي من يرى قراءة السُّورة في كلِّ ركعة، أو على رأي من يرى قراءة السُّورة في الأُخريين إذا نسيهما في الأُولَيَيْنِ.

قلت: وقد أشار أحمد إلى مأخذٍ ثالثٍ، وهو الاحتياط؛ للتردُّد فيهما، وقراءة السُّورة سنَّة مؤكَّدة؛ فيحتاط لها أكثر من

(3)

الاستفتاح والتَّعوُّذ

(4)

.

ولو أدرك من الرُّباعيَّة ركعة واحدة، فإن قلنا: ما يقضيه أوَّل صلاته؛ قرأ في الأُولَيين من الثَّلاثة بالحمد وسورة، وفي الثَّالثة بالحمد وحدها.

ونقل عنه الميمونيُّ: يحتاط، ويقرأ في الثَّلاث بالحمد وسورة. قال

(1)

في (أ): يقتضيه.

(2)

في (ب): صلاة.

(3)

قوله: (من) سقط من (ب).

(4)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): والاستعاذة.

ص: 218

الخلَّال: (رجع عنها أحمد).

الفائدة الخامسة: قنوت الوتر إذا أدركه المسبوق مع من يصلِّي الوتر بسلام واحد؛ فإنَّه يقع في محلِّه ولا يعيده إن قلنا: ما يدركه آخر صلاته.

وإن قلنا أوَّلها: أعاده في آخر ركعة يقضيها.

الفائدة السَّادسة: تكبيرات العيد الزَّوائد، إذا أدرك المسبوق الرَّكعة الثَّانية من العيد، فإن قلنا: هي أوَّل صلاته؛ كبَّر خمساً في المقضيَّة، وإلَّا كبَّر سبعاً.

الفائدة السَّابعة: إذا سُبق ببعض تكبيرات صلاة الجنازة، فإن قلنا: ما يدركه آخر صلاته؛ يتابع الإمام في الذِّكر الَّذي هو فيه، ثمَّ قرأ في أوَّل

(1)

تكبيرة يقضيها.

وإن قلنا: ما يدركه أوَّل صلاته؛ قرأ فيه بالفاتحة.

الفائدة الثَّامنة: محلُّ التَّشهُّد الأوَّل في حقِّ من أدرك من المغرب أو الرُّباعيَّة ركعة، وفي المسألة روايتان:

إحداهما: يتشهَّد عقيب قضاء ركعة.

والثَّانية: عقيب ركعتين، نقلها حرب

(2)

.

والأُولى اختيار أبي بكر والقاضي، وذكر الخلَّال: أنَّ الرِّوايات استقرَّت عليها.

(1)

في (أ): أول كلِّ.

(2)

ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 129).

ص: 219

واختلف في بناء الرِّوايتين:

فقيل: هو

(1)

على الرِّوايتين في أصل المسألة؛ إن قلنا: ما يقضيه أوَّل صلاته؛ لم يجلس إلَّا عقيب ركعتين، وإن قلنا: هو آخرها؛ تشهَّد عقيب ركعة؛ لأنَّها ثانيته، وهذه طريقة ابن عقيل في موضع من «فصوله» ، وأومأ إليها أحمد في رواية حرب.

وقيل: بل الرِّوايتان على قولنا: ما يدركه آخر صلاته، وهي طريقة صاحب «المحرَّر» وغيره، ونصَّ أحمد على ذلك صريحاً في رواية عبد الله

(2)

والبراثيِّ

(3)

، مفرِّقاً بين القراءة والتَّشهُّد.

(1)

قوله: (هو) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن).

(2)

جاء في مسائل عبد الله (ص 107): سألت أبي عن رجل أدرك مع الإمام آخر ركعة من الظهر، فقام يقضي، قلت: أيش يقرأ؟ قال: (في الركعتين الأوليين ما يقضي: الحمدَ وسورةً، ويجعل ما أدرك مع الإمام أول صلاته، فيقعد في الركعة التي يقضي من أولها، ثم يقوم ويقعد في آخر صلاته ويقرأ في آخر ركعة بفاتحة الكتاب وحدها، وإن أدرك ركعتين من الظهر فقام فقرأ فيما يقضي: الحمدُ لله وسورةً)، قال أبي:(يروى عن ابن عمر وابن مسعود قالا: يقرأ فيما يقضي. ويروى عن علي: ما أدرك مع الإمام فهو أول صلاته. وقال ابن مسعود: ما أدرك مع الإمام فهو آخر صلاته).

وقال (ص 107): سألت أبي عن رجل أدرك ركعة من صلاة الظهر، قال:(إذا قام يقضي قرأ في ركعةٍ فاتحةَ الكتاب وسورة وركع، ثم جلس فتشهد، فقام فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة ثم ركع، فإذا قضى الركعة الثالثة من صلاته قرأ بفاتحة الكتاب وحدها)، قال:(يذهب فيه إلى أن يحتاط في الوجهين جميعًا، فيقرأ فيما يقضي، ويكون جلوسه على ما اختار ابن مسعود يقعد في الثالثة).

(3)

هو أحمد بن محمد بن خالد بن يزيد بن غزوان، أبو العباس البراثي، سمع علي بن الجعد، وعبد الله بن عون الخراز، والإمام أحمد وغيرهم، وروى عنه: إسماعيل الخطبي وحبيب القزاز وغيرهما، توفي سنة 300 هـ أو 302 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 1/ 64.

وذكر في الطبقات هذه الرواية، ونصها:(سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل، فقلت له: إذا فاتني أول صلاة الإمام فأدركت معه من آخر صلاته، فما أعتد أنه أول صلاتي؟ فقال لي: تقرأ فيما يُقضى - يعني بالحمد وسورة -، وفي القعود تقعد على ابتداء صلاتك).

ص: 220

وعلَّل في رواية عبد الله: بأنَّه احتياط بالجمع بين

(1)

مذهب ابن مسعود في الجلوس عقيب ركعة

(2)

، ومذهب ابن عمر في القراءة في الرَّكعتين

(3)

.

وقد صحَّ عن ابن مسعود: أنَّه يجلس عقيب ركعة، مع قوله:«إنَّ ما أدركه مع الإمام آخر صلاته» ، نقله عنه أحمد

(4)

.

وزعم صاحب «المغني» أنَّ الكلَّ جائز.

ويردُّه ما نقله مهنَّى عن أحمد: أنَّه إذا جلس عقيب ركعتين؛ يسجد للسَّهو؛ فجعله كتارك التَّشهُّد الأوَّل.

(1)

في (ب): من.

(2)

أخرجه عبد الله بن أحمد في مسائله (ص 108)، عن النخعي: أن مسروقًا وجُندُبًا أدركا مع الإمام ركعةً من المغرب، فلمَّا قاما يقضيان؛ قعد مسروقٌ في كِلْتَا الركعتين، وقعد جُندُبٌ في آخر صلاته، فذُكِر ذلك لابن مسعود، فقال:«أصاب مسروق، ولم يَأْلُ جندب» .

(3)

أخرجه عبد الله بن أحمد في مسائله (ص 108)، عن نافع:«أن ابن عمر كان إذا سُبِق بالأوليين؛ قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب وسورة ثم يجلس» .

(4)

ينظر: مسائل عبد الله (ص 108)، وأخرجه ابن أبي شيبة (7120)، من طريق إبراهيم، عن عبد الله، قال:«ما أدركت مع الإمام فهو آخر صلاتك» .

ص: 221

وممَّا يحسن تخريجه على هذا الخلاف ولم نجده منقولًا: تطويل الرَّكعة الأولى على الثَّانية، وترتيب السُّورتين في الرَّكعتين.

فأمَّا رفع اليدين إذا قام من التَّشهُّد الأوَّل - إذا قلنا باستحبابه -؛ فيحتمل أن يرفع إذا قام إلى الرَّكعة المحكوم بأنَّها ثالثة، سواء قام عن تشهُّد أو غيره.

ويحتمل أن يرفع إذا قام من تشهُّده الأوَّل المعتدِّ به، سواء كان عقيب الثَّانية أو لم يكن؛ لأنَّ محلَّ هذا الرَّفع هو القيام من هذا التَّشهُّد؛ فيتبعه حيث كان، وهذا أظهر والله أعلم.

ص: 222

[2] الزَّكاة، هل تجب في عين النَّصاب أو ذمَّة مالكه

؟

اختلف الأصحاب في ذلك على طرق:

إحداها: أنَّ الزَّكاة تجب في العين رواية واحدة، وهي طريقة ابن أبي موسى، والقاضي في «المجرَّد» .

والثَّانية: أنَّ الزَّكاة تجب في الذِّمَّة رواية واحدة، وهي طريقة أبي الخطَّاب في «الانتصار» ، وصاحب «التَّلخيص» ؛ متابعة للخرقيِّ.

والثَّالثة: أنَّها تجب في الذِّمَّة، وتتعلَّق بالنِّصاب، وقع ذلك في كلام القاضي وأبي الخطَّاب وغيرهما، وهي طريقة الشَّيخ تقيِّ الدِّين.

والرَّابعة: أنَّ في المسألة روايتين:

إحداهما: تجب في العين.

والثَّانية: في الذِّمَّة، وهي طريقة كثير من الأصحاب المتأخِّرين.

وفي كلام أبي بكر في «الشَّافي» ما يدلُّ على هذه الطَّريقة، ولكن آخر كلامه يشعر بتنزيل القولين على اختلاف حالين

(1)

، وهما: يسار المالك وإعساره، فإن كان موسراً؛ وجبت الزَّكاة في ذمَّته، وإن كان معسراً

(2)

؛ وجبت في عين ماله، وهو غريب.

(1)

في (ب): حالتين.

(2)

في (ب): مشعراً.

ص: 223

وللاختلاف في محلِّ التَّعلُّق - هل هو العين أو الذِّمة - فوائد كثيرة:

الأولى: إذا ملك نصاباً واحداً ولم يؤدِّ زكاته أحوالاً، فإن قلنا: الزَّكاة في العين؛ وجبت زكاة الحول الأوَّل دون ما بعده، ونصَّ عليه أحمد

(1)

، واختاره أكثر الأصحاب؛ لأنَّ قدر الزَّكاة زال الملك فيه على قول، وعلى آخر: ضَعُف الملك فيه؛ لاستحقاق تملُّكه، والمستحَقُّ في حكم المؤدَّى؛ فصار كالمنذور سواء، فإنَّ المنذور يجوز عندنا إبداله بمثله، وهذا كذلك.

وإن قلنا: الزَّكاة في الذِّمَّة؛ وجبت لكلِّ حول، إلَّا إذا قلنا: إنَّ دين الله عز وجل يمنع الزَّكاة.

وقال السَّامريُّ: (تتكرَّر زكاته لكلِّ حول على القولين)، وتأوَّل كلام أحمد بتأويل فاسد.

وهذا فيما كانت زكاته من جنسه.

فأمَّا إن كانت من غير جنسه؛ كالإبل المزكَّاة بالغنم؛ تكرَّرت زكاته

(1)

قال في المغني (2/ 507): (وهذا هو المنصوص عن أحمد في رواية جماعة، وقال في رواية محمد بن الحكم: إذا كانت الغنم أربعين، فلم يأته المصدق عامين، فإذا أخذ المصدق شاة، فليس عليه شيء في الباقي، وفيه خلاف.

وقال في رواية صالح: إذا كان عند الرجل مائتا درهم، فلم يزكها حتى حال عليها حول آخر؛ يزكيها للعام الأول؛ لأن هذه تصير مائتين غير خمسة دراهم.

وقال في رجل له ألف درهم، فلم يزكها سنين: يزكي في أول سنة خمسة وعشرين، ثم في كل سنة بحساب ما بقي).

ص: 224

لكلِّ حول على كِلا القولين، نصَّ عليه؛ معلِّلاً بأنَّه لم يستحقَّ إخراج جزء منه؛ فبقي

(1)

الملك فيه تامًّا

(2)

.

وهكذا ذكر الخلَّال، وابن أبي موسى، والقاضي، والأكثرون.

وذكر الشِّيرازيُّ في «المبهج» : أنَّه كالأوَّل؛ لا يجب فيه سوى زكاة واحدة.

ومتى استأصلت الزَّكاةُ المالَ؛ سقطت بعد ذلك، صرَّح به في «التَّلخيص» .

ونصَّ أحمد في رواية مهنَّى: على وجوبها في الدَّين بعد استغراقه بالزَّكاة.

فإمَّا أن يحمل ذلك على القول بالوجوب في الذِّمَّة.

وإما أن يفرَّق بين الدَّين والعين: بأنَّ الدَّين وصف حكميٌّ لا وجود له في الخارج؛ فتتعلَّق زكاته بالذِّمَّة رواية واحدة.

ولكن نصَّ أحمد في رواية غير واحد: على التَّسوية بين الدَّين والعين في امتناع الزَّكاة فيما بعد الحول الأوَّل، وصرَّح بذلك أبو بكر وغيره.

(1)

في (ب): فيبقى.

(2)

قال في المغني (2/ 507): (نص عليه في رواية الأثرم، قال في رواية الأثرم: المال غير الإبل إذا أدى عن الإبل؛ لم ينقص، والخمس بحالها، وكذلك ما دون خمس وعشرين من الإبل لا تنقص زكاتها فيما بعد الحول الأول؛ لأن الفرض يجب من غيرها، فلا يمكن تعلقه بالعين).

ص: 225

تنبيه:

تعلُّق الزَّكاة بالعين مانع من وجوب الزَّكاة في الحول الثَّاني وما بعده، وهل هو مانع من انعقاد الحول الثَّاني ابتداء؟ فيه وجهان:

أحدهما: أنَّه مانع منه؛ لقصور الملك؛ فهو كدين الآدميِّ وأولى؛ لتعلُّقه بالعين، وهو قول القاضي في «شرح المذهب» ، وصاحب «المغني» .

والثَّاني: أنَّه غير مانع من الانعقاد، وهو قول القاضي في «المجرَّد» وابن عقيل، ونقل صاحب «المحرَّر» الاتِّفاق عليه، وهو ظاهر ما ذكره الخلَّال في «الجامع» ، وأورد عن أحمد من رواية حنبل ما يشهد له.

فلو أخرج الزَّكاة الأولى من غير النِّصاب في أثناء الحول الثَّاني؛ بنى الحول الثَّاني على الأوَّل من غير فصل بينهما على هذا.

وعلى الأوَّل: يستأنفه من حين الإخراج.

وينبني على هذين الوجهين مسألة معروفة في باب الخلطة، والله أعلم.

الفائدة الثَّانية: إذا تلف النِّصاب أو بعضه قبل التَّمكُّن من أداء الزَّكاة وبعد تمام الحول؛ فالمذهب المشهور: أنَّ الزَّكاة لا تسقط بذلك، إلَّا زكاة الزُّروع والثِّمار إذا تلفت بجائحة قبل القطع؛ فتسقط زكاتها اتِّفاقًا؛ لانتفاء التَّمكُّن من الانتفاع بها.

وخرَّج ابن عقيل وجهاً: بوجوب زكاتها أيضاً. وهو ضعيف مخالف للإجماع

(1)

.

(1)

ينظر: الإجماع لابن المنذر (ص: 46)، والمغني (3/ 12).

قال في الإنصاف (6/ 379): (قد قاله غير ابن عقيل، وذكره ابن عقيل في «عمد الأدلة» رواية، ذكره ابن تميم، قال في «الفروع»: وأظن في «المغني» أنه قال: قياس من جعل وقت الوجوب بدو الصلاح، واشتداد الحب؛ أنه كنقص نصاب بعد الوجوب قبل التمكن).

ص: 226

وعن أحمد رواية ثانية: بالسُّقوط.

فمنهم من قال: هي عامَّة في جميع الأموال.

ومنهم من خصَّها بالمال الباطن دون الظَّاهر.

ومنهم من عكس ذلك.

ومنهم من خصَّها بالمواشي.

واختلفوا في مأخذ الخلاف على طريقين:

أحدهما: أنَّه البناء على الخلاف في محلِّ الزَّكاة؛ فإن قيل: هو الذِّمَّة؛ لم تسقط، وإلَّا سقطت، وهو طريق الحلوانيِّ في «التَّبصرة» والسَّامريِّ، وقيل: إنَّه ظاهر كلام الخرقيِّ، وفي كلام أحمد إيماء إليه أيضاً.

والطَّريق الثَّاني: عدم البناء على ذلك، وهو طريق القاضي والأكثرين.

فوجه استقرار الوجوب مطلقاً: أنَّا إن قلنا: التَّعلُّق بالذِّمَّة؛ فظاهر، وإن قلنا: بالعين؛ فلأنَّ وجوبها كان شكراً لنعمة تمَّ سببها - وهو النِّصاب

(1)

النَّامي -، وشرطها - وهو الحول -؛ فاستقرَّ وجوبها بتمام الانتفاع بهذا المال حولاً؛ كالأجرة المعيَّنة المستقِرَّة بانقضاء مدَّة الإجارة.

(1)

في (ب): ملك النصاب.

ص: 227

وأيضاً؛ فمنهم من قال: تعلُّقها

(1)

بالعين لا ينفي تعليقها بالذِّمَّة؛ فهي

(2)

كدين الرَّهن.

ووجه السُّقوط مطلقاً: أنَّا إن قلنا: تعلقها بالعين؛ فواضح؛ كالأمانات والعبد الجاني، وإن قلنا: بالذِّمَّة؛ فالوجوب إنَّما يستقِرُّ فيها

(3)

بالتَّمكُّن من الفعل؛ كالصَّلاة على رواية.

يوضحه: أنَّ الزَّكاة وجبت مواساة للفقراء من المال؛ فتسقط بتلفه وفقر صاحبه.

واختار السُّقوط مطلقاً صاحب «المغني» .

الفائدة الثَّالثة: إذا مات من عليه زكاة ودين، وضاقت التركة عنهما؛ فالمنصوص عن أحمد: أنَّهما يتحاصَّان

(4)

، نقله عنه أحمد بن القاسم، وحرب، ويعقوب بن بختان.

واختلف الأصحاب في ذلك:

فمنهم من أقرَّ النَّصَّ على ظاهره، وأجرى المحاصَّة على كِلَا القولين في محلِّ الزَّكاة؛ لأنَّا إن قلنا: هو الذِّمَّة؛ فقد تساويا في محلِّ التَّعلُّق، وفي أنَّ في كلٍّ منهما حقًّا لآدميٍّ، وتمتاز الزَّكاة بما فيها من حقِّ الله عز وجل، وإن قلنا: العين؛ فدين الآدميِّ يتعلَّق بعد موته بالتَّركة

(1)

في (ب): تعليقها.

(2)

قوله: (بالذمة فهي) سقطت من (أ).

(3)

قوله: (فيها) سقط من (ج)، وفي (ب): بها.

(4)

ينظر: المغني (3/ 100).

ص: 228

أيضاً؛ فيتساويان، وهذه طريقة أبي الخطَّاب وصاحب «المحرَّر» .

ومنهم من حمل النَّصَّ بالمحاصَّة على القول بتعلُّق الزَّكاة بالذِّمَّة؛ لاستوائهما في محلِّ التَّعلُّق، فأمَّا على القول بتعلُّقها بالنِّصاب؛ فتُقَدَّم الزَّكاة لتعلُّقها بالعين؛ كدين الرَّهن، وهذه طريقة القاضي في «المجرَّد» والسَّامريِّ، وفي كلام أحمد إيماء إليها.

ومن الأصحاب من وافق على هذا البناء، لكن بشرط: أن يكون النِّصاب موجوداً؛ إذ لا يعلَّق بالعين إلَّا مع وجوده، فأمَّا

(1)

مع تلفه؛ فالزَّكاة في الذِّمَّة؛ فتساوي دين الآدميِّ، وهذا تخريج في «المحرَّر» ، مع أنَّ صاحبه ذكر في شرح «الهداية»: أنَّ النِّصاب متى كان موجوداً؛ قُدِّمت الزَّكاة، سواء قلنا: يتعلَّق بالعين أو بالذِّمَّة؛ لأنَّه تعلُّقٌ بسبب المال، يزداد بزيادته، وينقص بنقصه، ويختلف باختلاف صفاته، والزَّكاة من قبيل مؤن المال وحقوقه ونوائبه؛ فيُقَدَّم لذلك على سائر الدُّيون، وحُمِل نصُّ أحمد بالمحاصَّة: على حالة عدم النِّصاب.

فأمَّا إن كان المالك حيًّا وأفلس؛ فظاهر كلام أحمد في رواية ابن القاسم: أنَّه يُقدِّم الدَّين على الزَّكاة؛ لأنَّ تأخير إخراج الزَّكاة سائغ للعذر، وهو محتاج ههنا إلى إسقاط مطالبة الآدميِّ له، وملازمته وحبسه؛ فيكون عذراً له في التَّأخير، بخلاف ما بعد الموت؛ فإنَّه لو قُدِّم دين الآدميِّ؛ لفاتت الزَّكاة بالكليَّة.

وظاهر كلام القاضي والأكثرين: أنَّه يُقَدِّم الزَّكاة حتَّى في حالة الحجر.

(1)

في (أ): وأمَّا.

ص: 229

وهذا قد يتنزَّل على القول بالوجوب في العين، إلَّا أنَّ صاحب «شرح الهداية» صرَّح بتقديمها على كلا القولين، مع بقاء النِّصاب؛ كقوله فيما بعد الموت على ما سبق

(1)

.

الفائدة الرَّابعة: إذا كان النِّصاب مرهوناً ووجبت فيه الزَّكاة؛ فهل يؤدِّي زكاته منه؟

ههنا حالتان:

إحداهما: ألَّا يكون له مال غيره يؤدِّي منه الزَّكاة؛ فيؤدِّي الزَّكاة من عينه، صرَّح به الخرقيُّ والأصحاب، وله مأخذان:

أحدهما: أنَّ الزَّكاة ينحصر تعلُّقها بالعين، ودين الرَّهن يتعلَّق بالذِّمَّة والعين؛ فيُقَدَّم عند التزاحم ما اختصَّ تعلُّقه بالعين، كما يُقدَّم حقُّ الجاني على المرتهن؛ إذ الحقُّ المنحصر في العين يفوت بفواتها، بخلاف المتعلِّق بالذِّمَّة مع العين؛ فإنَّه يستوفى من الذِّمَّة عند فوات العين، وهذا مأخذ القاضي.

وفيه ضعف، فإنَّ الزَّكاة عندنا لا تسقط بتلف النِّصاب مطلقاً، بل تتعلَّق بالذِّمَّة حينئذٍ؛ فهي إذاً كدين الرَّهن.

وأظهر من هذا أن يقال: تعلُّق الزَّكاة قهريٌّ، وتعلُّق الرَّهن اختياريٌّ، والقهريُّ أقوى؛ كالجناية.

أو يقال: هو تعلُّق بسبب المال، وتعلُّق الرَّهن بسبب خارجيٍّ، والتَّعلُّق بسبب المال مقدَّم؛ كجناية العبد المرهون.

(1)

زاد في (أ): بعد الموت.

ص: 230

وعلى هذه المآخذ: متى قيل بتعلُّق الزَّكاة

(1)

بالذِّمَّة خاصَّة؛ لم يُقدَّم على حقِّ المرتهن؛ لتعلُّقه بالعين، وصرَّح به بعض المتأخِّرين.

والمأخذ الثَّاني: أنَّ النِّصاب سبب دين الزَّكاة؛ فقُدِّم دينها عند مزاحمة غيره من الدُّيون في النِّصاب؛ كما يقدَّم من وجد عين ماله عند إنسان

(2)

أفلس، وهذا مأخذ صاحب «التَّلخيص» .

وعلى هذا؛ فلا يفترق الحال بين قولنا: تتعلَّق

(3)

الزَّكاة بالذِّمَّة، أو بالعين.

الحالة الثَّانية: أن يكون للمالك مال يؤدِّي منه الزَّكاة غير الرَّهن؛ فليس له أداء الزَّكاة منه بدون إذن المرتهن على المذهب، وذكره الخرقيُّ أيضاً؛ لأنَّ تعلُّق حقِّ المرتهن مانع من تصرُّف الرَّاهن في الرَّهن بدون إذن، والزَّكاة لا يتعيَّن إخراجها منه.

وذكر السَّامريُّ أنَّه متى قلنا: الزَّكاة تتعلَّق بالعين؛ فله إخراجها منه أيضاً؛ لأنَّه تعلُّق قهريٌّ، ومنحصر في العين؛ فهو كحقِّ الجناية.

الفائدة الخامسة: التَّصرُّف في النِّصاب أو بعضه بعد الحول ببيع أو غيره، والمذهب: صحَّته، ونصَّ عليه أحمد، قال الأصحاب: وسواء قلنا: الزَّكاة في العين أو الذِّمة.

وذكر أبو بكر في «الشَّافي» : أنَّا إن قلنا: الزَّكاة في الذِّمَّة؛ صحَّ

(1)

قوله: (الزَّكاة) سقط من (ب) و (ج).

(2)

في (ب): رجل.

(3)

في (ب): بتعلُّق.

ص: 231

التَّصرُّف مطلقاً، وإن قلنا: في العين؛ لم يصحَّ التَّصرُّف في مقدار الزَّكاة.

وهذا متوجِّه على قولنا: إنَّ تعلُّق الزَّكاة تعلُّق شركة أو رهن، صرَّح به بعض المتأخِّرين.

ونزَّل أبو بكر على هذا الاختلاف: الرِّوايتين المنصوصتين عن أحمد في المرأة إذا وهبت زوجها مهرها الَّذي لها في ذمَّته؛ فهل تجب زكاته عليها أو عليه

(1)

؟

قال: فإن صحَّحنا هبة المهر جميعه؛ فعلى المرأة إخراج زكاته من مالها، وإن صحَّحنا الهبة فيما عدا مقدارَ الزَّكاة؛ كان قدر الزَّكاة حقًّا للمساكينِ في ذمَّة الزَّوج؛ فيلزمه أداؤه إليهم، ويسقط عنه بالهبة ما عداه.

وهذا بناء غريب جدًّا.

وعلى المذهب: فلو باع النِّصاب كلَّه؛ تعلَّقت الزَّكاة بذمَّته حينئذ بغير خلاف؛ كما لو تلف.

فإن عَجَز عن أدائها، فطريقان:

أحدهما: ما قاله صاحب «شرح الهداية» : إن قلنا: الزَّكاة في الذِّمَّة ابتداء؛ لم يفسخ البيع، كما لو وجب عليه دين لآدميٍّ وهو موسر، فباع متاعه، ثمَّ أعسر، وإن قلنا: في العين؛ فُسِخَ البيع في قدرها؛ تقديماً لحقِّ المساكينِ

(2)

لسبقه.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): عليه أو عليها.

(2)

قوله: (لحق المساكين) سقط من (أ).

ص: 232

الثَّاني

(1)

: ما قال صاحب «المغني» : إنَّها تتعيَّن في ذمَّته كسائر الدُّيون بكلِّ حال، ثمَّ ذكر احتمالاً بالفسخ في مقدار الزَّكاة من غير بناء على محلِّ التَّعلُّق.

الفائدة السَّادسة: لو كان النِّصاب غائباً عن مالكه لا يقدر على الإخراج منه؛ لم يلزمه إخراج زكاته حتَّى يتمكَّن من الأداء منه، نصَّ عليه أحمد في رواية مهنَّى، وصرَّح به الشَّيخ مجد الدِّين في موضع من «شرح الهداية» ؛ لأنَّ الزَّكاة مواساة؛ فلا يلزم أداؤها قبل التَّمكُّن من الانتفاع بالمال المواسى منه.

ونصَّ أحمد في رواية ابن ثواب فيمن وجب عليه زكاة مال فأقرضه: أنَّه لا يلزمه أداء زكاته حتَّى يقبضه؛ لأنَّ عَوْدَه مرجو، بخلاف التَّالف بعد الحول.

وهذا لعلَّه يرجع إلى أنَّ أداء الزَّكاة لا يجب على الفور

(2)

.

وقال القاضي وابن عقيل: يلزمه أداء زكاته قبل قبضه؛ لأنَّه في يده حكماً، ولهذا يتلف من ضمانه، بخلاف الدَّين الَّذي في ذمَّة غريمه.

وكذلك ذكر صاحب «شرح الهداية» في موضع آخر.

وأشار في موضع آخر

(3)

إلى بناء ذلك على محلِّ الزَّكاة؛ فإن قلنا: الذِّمَّة؛ لزمه الإخراج عنه من غيره؛ لأنَّ زكاته لا تسقط بتلفه، بخلاف

(1)

في (ب): والثاني.

(2)

قوله: (وهذا لعلَّه يرجع إلى أنَّ أداء الزَّكاة لا يجب على الفور) سقط من (ب).

(3)

قوله: (آخر) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و).

ص: 233

الدَّين، وإن قلنا: العين؛ لم يلزمه الإخراج حتَّى يتمكَّن من قبضه.

والصَّحيح الأوَّل، ووجوب الزَّكاة عن الغائب إذا تلف قبل قبضه مخالف لكلام أحمد.

الفائدة السَّابعة: إذا أخرج ربُّ المال زكاة حقِّه من مال المضاربة منه؛ فهل يحسب ما أخرجه من رأس المال ونصيبه من الرِّبح، أم من نصيبه من الرِّبح خاصَّة؟

على وجهين معروفين، بناهما بعض الأصحاب على الخلاف في محلِّ التَّعلُّق:

فإن قلنا: الذِّمَّة؛ فهي محسوبة من الأصل والرِّبح؛ كقضاء الدُّيون.

وإن قلنا: العين؛ حسبت من الرِّبح؛ كالمؤنة؛ لأنَّ الزَّكاة إنَّما تجب في المال النَّامي، فيحسب من نمائه.

ويمكن أن ينبني على هذا الأصل أيضاً: الوجهان في جواز إخراج المضارِب زكاة حصَّته من مال المضاربة؛ فإن قلنا: الزَّكاة تتعلَّق بالعين؛ فله الإخراج منه، وإلَّا فلا، وفي كلام بعضهم إيماء إلى ذلك.

وأمَّا حقُّ ربِّ المال؛ فليس للمضارِب تزكيته بدون إذنه، نصَّ عليه في رواية المروذي

(1)

، اللَّهمَّ إلَّا أن يصير المضارِب شريكاً؛ فيكون حكمه حكم سائر الخلطاء، والله أعلم.

(1)

ينظر: الفروع (3/ 467).

ص: 234

[3] المستفاد بعد النِّصاب في أثناء الحول؛ هل يضمُّ إلى النِّصاب، أو يفرد عنه

؟

إذا استفاد مالاً زكويًّا من جنس النِّصاب في أثناء حوله؛ فإنَّه يُفرَد بحول عندنا، ولكن هل يضمُّه إلى النِّصاب في العدد، أو يُخلَط

(1)

به ويزكيه زكاة خلطة، أو يُفرِده بالزَّكاة كما أفرده بالحول؟

فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أنَّه يفرده بالزَّكاة؛ كما يفرده بالحول، وهذا الوجه مختصٌّ بما إذا كان المستفاد نصاباً أو دون نصاب، ولا يغيِّر فرض النِّصاب.

أمَّا إن كان دون نصاب ويغيِّر فرض النِّصاب؛ لم يتأت فيه هذا الوجه، صرَّح به صاحب «شرح الهداية» ؛ لأنَّه مضموم إلى النِّصاب في العدد؛ فيلزم حينئذ جعل ما ليس بوقص في المال وقصاً، وهو ممتنع.

ويختصُّ هذا الوجه أيضاً بالحول الأوَّل دون ما بعده؛ لأنَّ ما بعد الحول الأوَّل يجتمع

(2)

فيه مع النِّصاب في الحول كلِّه، بخلاف الحول الأوَّل، صرَّح بذلك غير واحد، وكلام بعضهم مشعر باطِّراده في كلِّ الأحوال.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): يخلطه.

(2)

في (ب): ممتنع.

ص: 235

وصرَّح القاضي أبو يعلى الصَّغير بحكاية ذلك وجهاً.

والوجه الثَّاني: أنَّه يُزَّكى زكاة خلطة، وصحَّحه صاحب «شرح الهداية» ؛ كما لو اختلط نفسان في أثناء حول وقد ثبت لأحدهما حكم الانفراد فيه دون صاحبه، وزعم أنَّ صاحب «المغني» ضعَّفه، وإنَّما ضعَّف الأوَّل.

والوجه الثَّالث: أنَّه يُضَمُّ إلى النِّصاب؛ فيُزَكَّى زكاة ضمٍّ.

وعلى هذا: فهل الزِّيادة كنصاب منفرد، أم الكلُّ نصاب واحد؟ على وجهين:

أحدهما: أنَّها كنصاب منفرد، ولولا ذلك لزُكِّي النِّصاب عقيب تمام حوله بحصَّته من فرض المجموع، كما في سائر الأحوال، ولم يُزَكَّ زكاة انفراد، وهذا قول أبي الخطَّاب في «انتصاره» ، وصاحب «المحرَّر» .

والثَّاني: أنَّ الجميع نصاب واحد، وهو ظاهر كلام القاضي وابن عقيل وصاحب «المغني» ، وهو الأظهر، وإنَّما زَكَّى النِّصاب

(1)

زكاة انفراد؛ لانفراده في أوَّل حوله الأوَّل، بخلاف الحول الثَّاني وما بعده.

فعلى هذا: إذا تمَّ حول المستفاد؛ وجب إخراج بقيَّة فرض المجموع بكلِّ حال؛ لأنَّه بكمال حوله يتمُّ حول الجميع؛ فيجب تتمَّة زكاته، ولا يكون ذلك عن المستفاد بخصوصه.

وعلى الأوَّل: إذا تمَّ حول المستفاد؛ وجب فيه ما بقي من فرض

(1)

في (ب): بالنصاب.

ص: 236

الجميع بعد إسقاط ما أخرج عن الأوَّل منه، إلَّا أن يزيد بقيَّة الفرض على فرض المستفاد بانفراده، أو ينقص عنه، أو يكون من غير جنس فرض الأوَّل؛ فإنَّه يتعذَّر ههنا وجه الضَّمِّ، ويتعيَّن وجه الخلطة أو الانفراد، إلَّا أن يكون المستفاد دون نصاب مغيِّراً للفرض؛ فيتعيَّن وجه الخلطة، ويلغو وجه الانفراد أيضاً على ما سبق، وبهذا كلِّه صرَّح صاحب «شرح الهداية» ، وبناه على أنَّ المُخْرَجَ عن المستفاد بخصوصيَّته.

وتظهر

(1)

فائدة اختلاف هذين الوجهين في أنواع ثلاثة:

النَّوع الأوَّل: أن يكون

(2)

تتمة فرض زكاة الجميع أكثر من فرض المستفاد بخصوصه

(3)

.

مثل أن يملك خمسين من البقر، ثمَّ ثلاثين بعدها، فإذا تمَّ حول الأولى؛ فعليه مسنَّة، فإذا تمَّ حول الثَّانية؛ فعليه مسنَّة أخرى على الوجه الثَّاني، وهو الأظهر.

وعلى الأوَّل: يمتنع

(4)

الضَّمُّ هنا؛ لئلَّا يؤدِّي إلى إيجاب مسنَّة عن ثلاثين، ويجب إمَّا تبيع على وجه الانفراد، أو ثلاثة أرباع مسنَّة على وجه الخلطة.

(1)

في (ب): ويظهر. وفي (د): ولظهر.

(2)

في (أ) و (د) و (و): تكون.

(3)

في (أ): خصوصته.

(4)

في (أ): يمنع.

ص: 237

النَّوع الثَّاني: أن يكون تتمة الواجب دون فرض المستفاد بانفراده.

مثل أن يملك ستًّا وسبعين من الإبل، ثمَّ ستًّا وأربعين بعدها، فإذا تمَّ حول الأولى؛ فعليه ابنتا لبون، وإذا

(1)

تمَّ حول الثَّانية:

فعلى الوجه الثَّاني: يلزمه تمام فرض المجموع، وهو بنت لبون.

وعلى الأوَّل: يمتنع ذلك؛ لأنَّ فرضه على الانفراد حِقَّة؛ فيزكَّى إمَّا على الخلطة أو الانفراد.

وهذا بعيد؛ فإنَّ وجه الضَّمِّ إذا اعتبر مع كون المستفاد يصير وقصاً محضاً بضمِّه إلى النِّصاب، وإن كان فيه زكاة بانفراده؛ فكيف لا يعتبر إذا كان فرضه دون فرضه بانفراده؟!

النَّوع الثَّالث: أن يكون فرض النِّصاب الأوَّل المُخْرَج عند تمام حوله من غير جنس فرض المجموع أو نوعه.

مثل أن يملك عشرين من الإبل، ثمَّ خمساً بعدها:

فعلى الوجه الأوَّل: يمتنع الضَّمُّ ههنا؛ لتعذُّر طرح المخرج عن الأوَّل من واجب الكلِّ.

وعلى الثَّاني - وهو الأظهر -: يجب إخراج تتمة الزَّكاة وإن كان من غير الجنس؛ لضرورة اختلاف الحولين، لا سيَّما ونحن على أحد الوجهين نجيز تشقيص الفرض لغير ضرورة؛ كإخراج نصفي شاة عن أربعين، أو حقَّتين وبنتي لبون ونصفاً عن مائتين من الإبل؛ فههنا أولى.

وعلى هذا؛ فقد يتَّفق وجه الخلطة ووجه الضَّمِّ على هذا التَّقدير؛

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): فإذا.

ص: 238

حيث لم تكن

(1)

زكاة الخلطة مفضية إلى زيادة الفرض أو نقصه، وقد يختلفان؛ حيث أدَّى الاتِّفاق إلى أحد الأمرين، وسبب ذلك أنَّ هذا النَّوع على ضربين:

أحدهما: ألَّا يكون في واحد منهما

(2)

- أعني: النِّصاب والمستفاد - وقص، ولا حدث من اجتماعهما وقص؛ فيزكَّى كما تقدَّم، وهو أنَّا نأخذ فرض الجميع؛ فنخرج

(3)

عند تمام حول المستفاد حصَّته منه، ويتَّفق هنا وجه الضَّمِّ والخلطة؛ فتوجب على الوجهين - فيما إذا كان المستفاد خمساً من الإبل بعد عشرين - خُمُس بنت مخاض، وهو مقارب لشاة؛ فإنَّ الشَّارع أوجب أربع شياه في عشرين، وبنتَ مخاض في خمس وعشرين؛ فتكون مقدَّرة بخمس شياه.

وكذا لو استفاد عشرة من البقر بعد ثلاثين؛ فإنَّه يجب للزِّيادة ربع مسنَّة؛ لأنَّ التَّبيع مقابل لثلاثة أرباع المسنَّة، والمسنَّة تعدل تبيعاً وثلثاً أبداً.

الضَّرب الثَّاني: أن يكون في المال وقص؛ إمَّا حالة اجتماعه أو حالة انفراده فقط؛ فيختلف ههنا وجه الضَّمِّ والخلطة، فإنَّا على وجه الضَّمِّ نجمع من النِّصاب الأوَّل ما تعلَّق به الفرض منه، ويضمُّ إليه تتمة نصاب المجموع من الباقي، ثمَّ نأخذ من فرض المجموع حصَّة هذه

(1)

في (ب): يكن.

(2)

في (أ): منهم.

(3)

قوله: (فيخرج) سقط من (ب).

ص: 239

التَّتمة - وهي بقيَّة ما يتعلَّق به الفرض من مجموع المال-، ويجعل الباقي من المال إن بقي منه شيء كالمعدوم.

فمثال ذلك والوقص موجود حالة الاجتماع: لو ملك عشرين من الإبل، ثمَّ تسعاً منها، فإذا تمَّ حول الثَّانية؛ ضممتَ إلى العشرينَ الأولى

(1)

خمساً، يكُنَّ خمسة وعشرين، فرضها بنت مخاض، وقد أخرجنا عن العشرين أربع شياه؛ فيُخرِج عن الباقي خُمُسَ بنت مخاض.

وعلى وجه الخلطة: يُخرِج عنها تسعةَ أجزاءٍ من أصل تسعة وعشرين جزءًا من بنت مخاض.

ومثاله والوقص موجود حالة الانفراد فقط: لو ملك أربعة عشر من الإبل، ثمَّ أحد عشر بعدها، فإذا تمَّ حول الأولى

(2)

؛ فعليه شاتان، فإذا تمَّ حول الثَّانية؛ ضممنا إلى عشرة من الأول تتمة النِّصاب، وهي خمسة عشر؛ فما أوجبنا فيها ثلاثة أخماس بنت مخاض؛ لأنَّ فيهما جميعاً وقصاً لم يؤدِّ عنه، والمال عند الاجتماع لا وقص فيه؛ فيجب تأدية زكاته كلِّه، فإذا كان قد أخرج عن بعضه؛ وجب الإخراج عن جميع ما لم يخرج عنه منه.

وعلى وجه الخلطة: يجب في الزِّيادة وحدها خُمُسان من بنت مخاض، وخُمُسُ خُمُسٍ بنت مخاض

(3)

.

(1)

في (ب) و (و): الأُوَل.

(2)

في (ب) و (و): الأُوَل.

(3)

قوله: (خمسان من بنت مخاض، وخمُس خمُس بنت مخاض) هو في (ب): (أحد عشر جزءًا من خمسة وعشرين جزءًا من بنت مخاض)، وهو مضروب عليه في (أ).

ص: 240

فإذا تقرَّر هذا؛ فالمستفاد لا يخلو من أربعة أقسام:

القسم الأوَّل: أن يكون نصاباً مغيِّراً للفرض.

مثل: أن يملك أربعين شاة، ثمَّ إحدى وثمانين بعدها؛ ففي الأربعين: شاةٌ عند حولها، فإذا تمَّ حول الثَّانية؛ فوجهان:

أحدهما: فيها شاة أيضاً، وهو متخرِّج على وجهي الضَّمِّ والانفراد.

والثَّاني: فيها شاةٌ وأحد وأربعون جزءًا من أصل مائة وأحد وعشرين جزءًا من شاة، وهو وجه الخلطة؛ لأنَّ ذلك حصَّة المستفاد من الشَّاتين الواجبتين في الجميع.

وذكر القاضي وابن عقيل وجماعة: أنَّ وجه الخلطة هنا كوجه الانفراد، تجب به شاة أيضاً؛ لئلَّا يفضي إلى إيجاب زيادة على فرض الجميع.

وهو مردود: بأنَّهم أوجبوا بالخلطة زيادة على فرض الجميع في غير هذا الموضع.

القسم الثَّاني: أن تكون

(1)

الزِّيادة نصاباً لا يغيِّر الفرض؛ كمن ملك أربعين شاة، ثمَّ أربعين بعدها.

ففي الأولى إذا تمَّ حولها: شاةٌ.

فإذا تمَّ حول الثَّانية؛ فثلاثة أوجه:

(1)

في (أ): يكون.

ص: 241

أحدها: لا شيء فيها، وهو وجه الضَّمِّ؛ لأنَّ الزِّيادة بالضَّمِّ تصير

(1)

وقصاً.

والثَّاني: فيها شاة، وهو وجه الانفراد.

والثَّالث: فيها نصف شاة، وهو وجه الخلطة.

القسم الثَّالث: أن تكون

(2)

الزِّيادة لا تبلغ نصاباً

(3)

، ولا تغيِّر الفرض؛ كمن ملك أربعين من الغنم، ثمَّ ملك بعدها عشرين:

ففي الأولى إذا تمَّ حولها: شاةٌ.

فإذا تمَّ حول الثَّانية؛ فوجهان:

أحدهما

(4)

: لا شيء فيها، وهو متوجِّه على وجهي الضَّمِّ والانفراد.

والثَّاني: فيها ثلث شاة، وهو وجه الخلطة.

القسم الرَّابع: ألَّا تبلغ الزِّيادة نصاباً، وتُغيِّرَ الفرض؛ كمن ملك ثلاثين من البقر، ثمَّ عشراً بعدها، فإذا تمَّ حول الأولى؛ ففيها تبيع، فإذا تمَّ حول الزِّيادة؛ فقال الأصحاب: يجب فيها ربع مسنَّة، ولم يذكروا فيه خلافاً.

ومنهم من صرَّح بنفي الخلاف؛ كصاحب «المحرَّر» ، وعلَّل: بأنَّ

(1)

في (أ): فتصير.

(2)

في (ب): يكون.

(3)

في (ب): نصابها. وفي (ج): نصاباً بها.

(4)

في (أ): أحدها.

ص: 242

وجه الانفراد متعذِّر؛ لما سبق، وكذا وجه الضَّمِّ؛ لأنَّه يفضي على أصله إلى استثناء شيء وطرحه من غير جنسه، وهو طرح التَّبيع من المسنَّة، وهو متعذِّر؛ فتعيَّن وجه الخلطة.

وأمَّا صاحب «الكافي» ؛ فظاهر كلامه: أنَّ هذا متمشٍّ على وجه الضَّمِّ أيضاً، بناء على أصله الَّذي تقدَّم، من أنَّ الكلَّ نصاب واحد وفرضه مسنَّة، وقد أخرج تبيعاً، وهو يعدل ثلاثة أرباع مسنَّة

(1)

؛ فيجب إخراج بقيَّة فرض المال، وهو هنا ربع مسنَّة؛ لأنَّ التَّبيع يعدل ثلاثة أرباع المسنَّة كما سبق تقريره؛ فتبيع وربع مسنَّة يعدل مسنَّة كاملة.

فاحتفظ بهذه الفائدة الجليلة؛ فإنَّك لا تظفر بها في غير هذا الموضع، والله أعلم.

(1)

في (أ): المسنَّة.

ص: 243

[4] الملك في مدَّة الخيار؛ هل ينتقل إلى المشتري أم لا

؟

في هذه المسألة روايتان عن الإمام أحمد:

أشهرهما: انتقال الملك إلى المشتري بمجرَّد العقد، وهي المذهب الَّذي عليه الأصحاب.

والثَّانية: لا ينتقل حتَّى ينقضي الخيار، فعلى هذه يكون الملك للبائع.

ومن الأصحاب من حكى: أنَّ الملك يخرج عن البائع ولا يدخل إلى المشتري، وهو ضعيف.

وللرِّوايتين فوائد عديدة:

منها: وجوب الزَّكاة؛ فإذا باع نصاباً من الماشية بشرط الخيار حولاً؛ فزكاته على المشتري على المذهب، سواء فسخ العقد أو أمضى.

وعلى

(1)

الرِّواية الثَّانية: الزَّكاة على البائع إذا قيل: الملك باق له.

ومنها: لو باعه عبداً بشرط الخيار، وأهلَّ هلال الفطر وهو في مدَّة الخيار؛ فالفطرة على المشتري على المذهب.

(1)

في (ب): على.

ص: 244

وعلى البائع على الثَّانية.

ومنها: لو كَسَب المبيعُ في مدَّة الخيار كسباً، أو نما نماء منفصلاً؛ فهو للمشتري؛ فسخ العقد أو أمضى.

وعلى الثَّانية: هو للبائع.

ومنها: مؤنة الحيوان والعبد المُشترى بشرط الخيار؛ يجب على المشتري على المذهب.

وعلى البائع على الثَّانية.

ومنها: إذا تلف المبيع في مدَّة الخيار؛ فإن كان بعد القبض، أو لم يكن مبهماً؛ فهو من مال المشتري على المذهب.

وعلى الثَّانية: من مال البائع.

ومنها: لو تعيَّب المبيع في مدَّة الخيار؛ فعلى المذهب: لا ردَّ بذلك؛ إلَّا أن يكون غير مضمون على المشتري؛ لانتفاء القبض.

وعلى الثَّانية: له الرَّدُّ بكلِّ

(1)

حال.

ومنها: تصرُّف المشتري في مدَّة الخيار؛ فلا يجوز، إلَّا بما يحصل به تجربته، إلَّا أن يكون الخيار له وحده، كذا ذكر الأصحاب.

والمنصوص عن أحمد في رواية أبي طالب: أنَّ له التَّصرُّف فيه بالاستغلال.

وفرَّق بينه وبين وطء الأمة المشتراة بشرط من وجهين:

أحدهما: أن ذاك

(2)

فرج؛ فيحتاط له.

(1)

في (أ): كلِّ.

(2)

في (أ): أن يكون ذلك.

ص: 245

والثَّاني: أنَّ ذاك شرط وهذا خيار.

وهذا يدلُّ على جواز تصرُّفه بما لا يمنع البائع من الرُّجوع؛ كالاستخدام والإجارة، وإنَّما يمنع من إخراجه من ملكه أو تعريضه للخروج بالرَّهن، والتَّدبير، والكتابة، ونحوها، هذا كلُّه على المذهب.

وعلى الرِّواية الثَّانية: يجوز التَّصرُّف للبائع وحده؛ لأنَّه مالك ويملك الفسخ، فإنَّ الخيار وضع لغرض الفسخ دون الإمضاء.

فأمَّا حكم نفوذ التَّصرُّف وعدمه:

فالمذهب

(1)

: أنَّه لا ينفذ بحال، إلَّا بالعتق.

ونقل مهنَّى وغيره عن أحمد: أنَّه موقوف على انقضاء مدَّة الخيار.

وهذا إذا كان الخيار لهما، فإن كان للبائع وحده؛ فكذلك في تصرُّف المشتري الرِّوايتان.

وحكى ابن أبي موسى رواية أخرى: أنَّه إن أجازه البائع؛ صحَّ، والثَّمن له، وإن ردَّه؛ بطل البيع، وعلى المشتري استرداده، فإن تعذَّر؛ فعليه قيمته، وإن سُرِقَ أو هلك؛ فهو من ضمان المشتري.

فحمل السَّامريُّ هذه الرِّواية: على أنَّ الملك لم ينتقل إلى البائع

(2)

، وآخرها يبطل ذلك.

والصَّحيح: أنَّها رواية بطلان التَّصرُّف من أصله، لكنَّها مفرَّعة على أنَّ الفسخ بالخيار رفع للعقد من أصله؛ فتبيَّن به أن الملك كان للبائع،

(1)

قوله: (فالمذهب) هو في (ب): والمشهور في المذهب.

(2)

في (ج) و (د) و (هـ): المشتري.

ص: 246

وعلى أنَّ تصرُّف الفضوليِّ موقوف على إجازة المالك.

وإن كان الخيار للمشتري وحده؛ صحَّ تصرفه، ذكره أبو بكر والقاضي وغيرهما؛ لانقطاع حقِّ البائع ههنا.

وظاهر كلام أحمد في رواية حرب: أنَّه لا ينفذ حتَّى يتقدَّمه إمضاء العقد، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى أيضاً؛ لقصور الملك، فلو تصرَّف المشتري مع البائع والخيار لهما؛ صحَّ، ذكره صاحبا «المغني» و «المحرَّر» .

وفي «المجرَّد» للقاضي احتمالان.

هذا كلُّه تفريع على المذهب، وهو انتقال الملك إلى المشتري.

فأمَّا على الرِّواية الأخرى: فإن كان الخيار لهما أو للبائع وحده؛ صحَّ تصرُّفه مطلقاً؛ لأنَّ الملك له، وهو بتصرُّفه مختار للفسخ، بخلاف تصرُّف المشتري؛ فإنَّه يختار به الإمضاء، وحقُّ الفسخ مقدَّم عليه.

ومنها: الوطء في مدَّة الخيار؛ فإن وطئ المشتري؛ فلا شيء عليه؛ لأنَّ الملك له.

وإن وطئ البائع:

فإن كان جاهلاً بالتَّحريم؛ فلا حدَّ عليه.

وإن كان عالماً به؛ فالمنصوص عن أحمد في رواية مهنَّى: أنَّه يجب عليه الحدُّ

(1)

، وهو اختيار أبي بكر، وابن حامد، والقاضي، والأكثرين؛ لأنَّه وطء لم يصادف ملكاً ولا شبهة ملك، وهو محرَّم

(1)

ينظر: التعليقة للقاضي أبي يعلى (3/ 83).

ص: 247

بالإجماع؛ فوجب به الحدُّ؛ كوطء المرتهن.

ومن الأصحاب من قيَّد ذلك: بأن يعلم أنَّ الملك لا ينفسخ بوطئه، أمَّا إن اعتقد أنَّه ينفسخ بوطئه؛ فلا حدَّ؛ لأنَّ تمام الوطء وقع في ملك؛ فتمكَّنت الشُّبهة فيه.

ومن الأصحاب من حكى رواية ثانية: بعدم الحدِّ مطلقاً، ومال إلى ذلك ابن عقيل، وصاحبا «المغني» و «المحرَّر» ؛ لوقوع الاختلاف في حصول الملك له وفي انفساخ العقد بوطئه، بل وبمقدِّمات وطئه؛ فيكون الوطء حينئذٍ في

(1)

ملك تامٍّ.

وأمَّا على الرِّواية الثَّانية: فلا حدَّ على البائع، وفي المشتري الخلاف.

ومنها: ترتُّب موجبات الملك من الانعتاق بالرَّحم أو بالتَّعليق

(2)

، وانفساخ النِّكاح ونحوها؛ فيثبت في البيع بشرط الخيار عقيب العقد على المذهب.

وعلى الثَّانية: لا يثبت إلَّا بعد انقضائه.

ولو حلف لا يبيع، فباع بشرط الخيار؛ خرج على الخلاف أيضاً، ذكره القاضي.

وأنكر الشَّيخ مجد الدِّين ذلك، وقال: يحنث على الرِّوايتين.

فأمَّا الأخذ بالشُّفعة؛ فلا يثبت في مدَّة الخيار على الرِّوايتين عند

(1)

في (ب): من.

(2)

في (أ): بالتعلق.

ص: 248

أكثر الأصحاب، ونصَّ عليه أحمد في رواية حنبل

(1)

.

فمن الأصحاب من علَّل: بأنَّ الملك لم

(2)

يستقرَّ بعد.

ومنهم من علَّل: بأنَّ الأخذ بالشُّفعة يُسقِط حقَّ البائع من

(3)

الخيار؛ فلذلك لم تجز المطالبة بها في مدَّته، وهو تعليل القاضي في خلافه، فعلى هذا: لو كان الخيار للمشتري وحده؛ لثبتت الشُّفعة.

وذكر أبو الخطَّاب احتمالاً: بثبوت الشُّفعة مطلقاً إذا قلنا بانتقال الملك إلى المشتري.

ومنها: إذا باع أحد الشَّريكين شقصاً بشرط الخيار، فباع الشَّفيع حصَّته في مدَّة الخيار:

فعلى المذهب: يستحقُّ المشتري الأوَّل انتزاع شقص الشَّفيع من يد مشتريه؛ لأنَّه هو شريك الشَّفيع حالة بيعه.

وعلى الثَّانية: يستحقُّه البائع الأوَّل؛ لأنَّ الملك باق له.

ومنها: لو

(4)

باع الملتقط اللُّقطة بعد الحول بشرط الخيار، ثمَّ جاء ربُّها في مدَّة الخيار:

فإن قلنا: لم ينتقل الملك

(5)

؛ فالرَّدُّ واجب.

وإن قلنا بانتقاله؛ فوجهان، والمجزوم به في «الكافي» الوجوب.

(1)

ينظر: التعليقة للقاضي أبي يعلى (3/ 66).

(2)

في (ب): (لا).

(3)

في (ب): (في).

(4)

في (ب): إذا.

(5)

قوله: لم ينتقل الملك) هو في (ب): لم ينقل.

ص: 249

ومنها: لو باع مُحِلٌ صيداً بشرط الخيار، ثمَّ أحرم في مدَّته:

فإن قلنا: انتقل الملك عنه؛ فليس له الفسخ؛ لأنَّه ابتداء ملك على الصَّيد، وهو ممنوع منه.

وإن قلنا: لم ينتقل الملك عنه؛ فله ذلك، ثمَّ إن كان في يده المشاهدة؛ أرسله، وإلَّا فلا.

ومنها: لو باعت

(1)

الزَّوجة قبل الدُّخول الصَّداق بشرط الخيار، ثمَّ طلَّقها الزَّوج:

فإن قلنا: الملك انتقل عنها؛ ففي لزوم استردادها وجهان.

وإن قلنا: لم يزل؛ لزمها استرداده وجهاً واحداً.

ومنها: لو باع أمة بشرط الخيار، ثمَّ فسخ البيع؛ وجب على البائع الاستبراء على المذهب.

وعلى الثَّانية: لا يلزمه؛ لبقاء الملك.

ومنها: لو اشترى أمة بشرط الخيار، واستبرأها في مدَّته:

فإن قلنا: الملك لم ينتقل إليه؛ لم يكفه ذلك الاستبراء.

وإن قلنا بانتقاله؛ ففي «الهداية» و «المغني» : يكفي، وفي «التَّرغيب» و «المحرَّر»: وجهان؛ لعدم استقرار الملك.

(1)

في (ب): باع.

ص: 250

[5] الإقالة، هل هي فسخ أو بيع

؟

في هذه المسألة روايتان منصوصتان.

واختيار الخرقيِّ، والقاضي، والأكثرين: أنَّها فسخ، وحكاه القاضي عن أبي بكر.

وفي «التَّنبيه» لأبي بكر التَّصريح باختيار أنَّها بيع.

ولهذا الخلاف فوائد عدَّيدة:

الأولى: إذا تقايلا قبل القبض فيما لا يجوز بيعه قبل قبضه؛ فيجوز على قولنا: هي فسخ.

ولا يجوز على الثَّانية، إلَّا على رواية حكاها القاضي في «المجرَّد» في الإجارات: أنَّه يصحُّ بيعه من بائعه خاصَّة قبل القبض.

الفائدة الثَّانية: هل يجوز في المكيل والموزون بغير كيل ووزن؟

إن قلنا

(1)

: هي فسخ؛ جازت كذلك.

وإن قلنا: هي بيع؛ فلا، هذه طريقة أبي بكر في «التَّنبيه» ، والقاضي، والأكثرين.

وحُكي عن أبي بكر: أنَّه لا بدَّ فيها من كيل ثانٍ على الرِّوايتين، كما أنَّ الفسخ في النِّكاح يقوم مقام الطَّلاق في إيجاب العدَّة.

(1)

في (ب): قيل.

ص: 251

الفائدة الثَّالثة: إذا تقايلا بزيادة على الثَّمن، أو نقص منه، أو بغير جنس الثَّمن:

فإن قلنا: هي فسخ؛ لم يصحَّ؛ لأنَّ الفسخ رفع للعقد؛ فيترادَّان العوضين على وجههما؛ كالرَّدِّ بالعيب وغيره.

وإن قلنا: هي بيع؛ فوجهان حكاهما أبو الخطَّاب ومن بعده:

أحدهما: يصحُّ، وقاله القاضي في كتاب «الرِّوايتين» ؛ كسائر البيوع.

والثَّاني: لا يصحُّ، وهو المذهب عند القاضي في «خلافه» ، وصحَّحه السَّامريُّ؛ لأنَّ مقتضى الإقالة ردُّ الأمر إلى ما كان عليه، ورجوع كلِّ واحد إلى ماله؛ فلم يجز بأكثر من الثَّمن، وإن كانت بيعاً كبيع التَّولية.

وهذا ظاهر ما نقله ابن منصور عن أحمد في رجل اشترى سلعة، فندم، فقال

(1)

: أقلني ولك كذا وكذا، قال أحمد: (أكره أن يكون

(2)

ترجع إليه سلعته ومعها فضل، إلَّا أن يكون قد

(3)

تغيَّرت السُّوق، أو تتاركا البيع، فباعه بيعاً مستأنفاً؛ فلا بأس به، ولكن إن جاء إلى نفس البيع فقال: أقلني فيها ولك كذا وكذا؛ فهذا مكروه)

(4)

.

(1)

في (ب): قال.

(2)

قوله: (يكون) سقط من (ب).

(3)

قوله: (قد) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن).

(4)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2946).

ص: 252

فقد كره الإقالة في البيع الأوَّل بزيادة بكلِّ حال، ولم

(1)

يجوِّز الزِّيادة، إلَّا إذا أقرَّ البيع بحاله وتبايعاه بيعاً مستأنفًا.

وفيه: أنَّه

(2)

إذا تغيَّرت السُّوق؛ جازت الإقالة بنقص في مقابلة نقص

(3)

السِّعر.

وكذا لو تغيَّرت صفة

(4)

السِّلعة، وأولى.

ونصَّ في رواية أحمد بن القاسم

(5)

، وسندي، وحنبل: على الكراهة بكلِّ حال؛ نقداً كان البيع أو نسيئة، بعد نقد الثَّمن أو قبله، معلِّلاً بشبهه بمسائل العينة؛ لأنَّه يَرجِعُ السِّلعةَ

(6)

إلى صاحبها، ويبقى له على المشتري فضل دراهم.

ولكن محذور الرِّبا هنا بعيد جدًّا؛ لأنَّه لا يقصد أحد أن يدفع عشرة ثمَّ يأخذ نقداً خمسة - مثلاً -، لا سيَّما والدَّافع هنا هو الطَّالب لذلك الرَّاغب فيه.

ونُقِل عنه ما يدلُّ على جوازه؛ قال في رواية الأثرم: وسأله عن بيع العربون

(7)

؛

(1)

في (ب): لا.

(2)

قوله: (أنَّه) سقط من (أ).

(3)

في (ب): بعض.

(4)

قوله: (صفة) سقط من (أ).

(5)

ينظر: الروايتين والوجهين (1/ 359).

(6)

قوله: (لأنه يرجع السلعة) هي في (ب): لأنها ترجع.

(7)

قال في المغني (4/ 175): (العربون في البيع: هو أن يشتري السلعة، فيدفع إلى البائع درهمًا أو غيره، على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فذلك للبائع، يقال: عربون، وأربون، وعربان، وأربان).

ص: 253

فذكر له حديث عمر

(1)

، فقيل له: تذهب إليه؟ قال: (أيُّ شيء أقول وهذا عن عمر؟!)، ثمَّ قال:(أليس كان ابن سيرين لا يرى بأساً أن يردَّ السِّلعة إلى صاحبها إذا كرهها ومعها شيء؟!) ثمَّ قال: (هذا مثله).

فقد جعل بيع العربون من جنس الإقالة بربح، وهو يرى جواز بيع العربون، وهذا الخلاف هنا شبيه

(2)

بالخلاف في جواز الخلع بزيادة على المهر.

فأمَّا البيع

(3)

المبتدأ؛ فيجوز بأكثر من ثمنه؛ كما نقله عنه ابن منصور

(4)

، وكذلك نقله

(5)

عنه حرب فيمن باع ثوباً بعشرين وقبضها، ثمَّ احتاج إليه فاشتراه باثنين وعشرين نقداً؛ فقال: لا بأس به، ولا يجوز نسيئة، ولم ير بأساً أن يشتريه بمثل الثَّمن نقداً أو نسيئة

(6)

.

ونقل عنه أبو داود فيمن باع ثوباً بنقد، ثمَّ احتاج إليه: يشتريه

(1)

يشير إلى ما أخرجه عبد الرزاق (9213)، وابن أبي شيبة (23201)، من طريق عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن فروخ مولى نافع بن عبد الحارث قال:«اشترى نافع بن عبد الحارث من صفوان بن أمية دار السجن بثلاثة آلاف، فإنْ عُمَر رَضِيَ؛ فالبيع بيعه، وإن عُمَر لم يرض بالبيع؛ فلصفوان أربع مائة درهم، فأخذها عمر» .

(2)

في (ب): مشبَّه.

(3)

زيد في (ب): (عين).

(4)

تقدمت ص

، وفيها قول أحمد:(أو تتاركا البيع، فباعه بيعاً مستأنفاً).

(5)

في (ب) و (د): نقل.

(6)

في (أ) و (د) و (و): ونسيئة. وينظر: المغني (4/ 133).

ص: 254

بنسيئة؟ قال: إذا لم يُرِد بذلك الحيلة، كأنَّه لم يرَ به بأساً

(1)

.

وصرَّح أبو الخطَّاب وطائفة من الأصحاب: بأنَّ كلَّ بيع - وإن كان بنقد -؛ لا يجوز لبائعه شراؤه بدون ثمنه قبل نقد الثَّمن، ويجوز بعده، وكذلك نقل ابن منصور عن أحمد: أنَّه بعد القبض يبيعه كيف شاء

(2)

.

الفائدة الرَّابعة: تصحُّ

(3)

الإقالة بلفظ: (الإقالة)، و (المصالحة)؛ إن قلنا: هي

(4)

فسخ، ذكره القاضي وابن عقيل.

وإن قلنا: هي بيع؛ لم ينعقد بذلك، صرَّح به القاضي في «خلافه»؛ قال: وما يصلح للحلِّ لا يصلح للعقد، وما يصلح للعقد فلا يصلح للحلِّ

(5)

؛ فلا ينعقد البيع بلفظ الإقالة، ولا الإقالة بلفظ البيع.

وظاهر

(6)

كلام كثير من الأصحاب انعقادها بذلك، وتكون معاطاة.

الفائدة

(7)

الخامسة: إذا قلنا: هي فسخ؛ لم يُشتَرط لها شروط البيع؛ من معرفة المُقال فيه، والقدرة على تسليمه، وتميُّزه

(8)

عن غيره.

ويشترط ذلك على القول: بأنَّها بيع، ذكره صاحب «المغني» في التَّفليس.

(1)

ينظر: مسائل أبي داود (ص 263).

(2)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2776).

(3)

في (ب): يصحُّ.

(4)

في (ب): هو.

(5)

قوله: (وما يصلح للعقد فلا يصلح للحلِّ) سقط من (ب).

(6)

في (ب): فظاهر.

(7)

قوله: (الفائدة) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (و).

(8)

في (ب) و (ج): تمييزه.

ص: 255

فلو تقايلا العبد

(1)

وهو غائب بعد مضي مدَّة يتغيَّر

(2)

في مثلها، أو بعد إباقه، أو اشتباهه

(3)

بغيره؛ صحَّ على الأوَّل دون الثَّاني.

ولو تقايلا مع غيبة أحدهما؛ بأن طلب

(4)

منه الإقالة، فدخل الدَّار، وقال

(5)

على الفور: أقلتك؛ فإن قلنا: هي فسخ؛ صحَّ، وإن قلنا: بيع؛ لم يصحَّ، ذكره القاضي وأبو الخطَّاب في تعليقهما؛ لأنَّ البيع يشترط له حضور المتعاقدين في المجلس.

ونقل أبو طالب عن أحمد: صحَّة قبول الزَّوج للنِّكاح بعد المجلس، واختلف الأصحاب في تأويلها

(6)

.

وفي كلام القاضي أيضاً ما يقتضي أنَّ الإقالة لا تصحُّ في غيبة الآخر على الرِّوايتين؛ لأنَّها في حكم العقود؛ لتوقُّفها على رضا المتبايعين، بخلاف الرَّدِّ بالعيب والفسخ للخيار.

(1)

في (ب): العقد.

(2)

في (ب): لا يتغيَّر.

(3)

قوله: (أو اشتباهه) هو في (ب): واشتباهه.

(4)

في (ب): طلبت.

(5)

في (أ): فقال.

(6)

جاء في المغني (7/ 81): (وقد نقل أبو طالب عن أحمد، في رجل مشى إليه قوم، فقالوا له: زوج فلانًا. قال: قد زوجته على ألف. فرجعوا إلى الزوج فأخبروه، فقال: قد قبلت. هل يكون هذا نكاحا؟ قال: نعم.

قال القاضي: هذا محمول على أنه وكَّل مَن قَبِلَ العقد في المجلس، وقال أبو بكر: مسألة أبي طالب تتوجه على قولين. واختار: أنه لا بد من القبول في المجلس، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى).

ص: 256

وهل تصحُّ مع تلف السِّلعة؟ على طريقين:

أحدهما: لا يصحُّ على الرِّوايتين، وهي طريقة القاضي في موضع من «خلافه» ، وصاحب «المغني» .

والثَّاني: إن قلنا: هي فسخ؛ صحَّت، وإلَّا لم تصحَّ، قال القاضي في موضع من «خلافه»: هو قياس المذهب.

وفي «التَّلخيص» وجهان؛ قال

(1)

: أصلهما الرِّوايتان إذا تلف المبيع في مدَّة الخيار.

السَّادسة: هل تصحُّ الإقالة بعد النِّداء للجمعة؟

إن قلنا: هي بيع؛ لم تصحَّ، وإلَّا صحَّت، ذكره القاضي وابن عقيل.

السَّابعة: نما المبيع

(2)

نماء منفصلاً، ثمَّ تقايلا:

فإن قلنا: الإقالة بيع؛ لم يتبع النَّماء بغير خلاف.

وإن قلنا: فسخ؛ فقال القاضي: النَّماء للمشتري.

وينبغي تخريجه على وجهين

(3)

؛ كالرَّدِّ بالعيب، والرُّجوع للفلس

(4)

.

الثَّامنة: باعه نخلاً حائلاً، ثمَّ تقايلا وقد أطلع:

(1)

في (ب): فإن.

(2)

في (أ) و (و): نما البيع. وفي (هـ): إذا نما المبيع

(3)

في (ب): الوجهين.

(4)

في (ب) و (د) و (و): للمفلس.

ص: 257

فإن قلنا: المقايلة بيع؛ فالثَّمرة إن كانت مؤبَّرة؛ فهي للمشتري الأوَّل، وإن لم تكن مؤبَّرة؛ فهي للبائع الأوَّل.

وإن قلنا: هي فسخ؛ تبعت الأصل بكلِّ حال، سواء كانت مؤبَّرة أوْ لا؛ لأنَّه نماء متَّصل

(1)

، ذكره في «المغني» ، وقد سبقت المسألة في قاعدة النَّماء.

(2)

التَّاسعة: هل يثبت فيها خيار المجلس؟

إن قلنا: هي فسخ؛ لم يثبت

(3)

الخيار.

وإن قلنا: هي

(4)

بيع؛ ففي «التَّلخيص» : يثبت الخيار كسائر البيوع

(5)

.

ويحتمل عندي: ألَّا يثبت أيضاً؛ لأنَّ الخيار وُضِع للنَّظر في الحظِّ، والمُقِيل قد دخل على أنَّه لا حظَّ له، وإنَّما هو متبرِّع، والمستقيل لم يطلب الإقالة بعد لزوم العقد إلَّا بعد تروٍّ ونظرٍ وعلمٍ بأنَّ الحظَّ له في ذلك، وندم على العقد الأوَّل؛ فلا يحتاج بعد ذلك إلى مهلة لإعادة النَّظر، والله أعلم.

العاشرة: هل تردُّ بالعيب؟

إن قلنا: هي

(6)

بيع؛ ردَّت به.

(1)

في (ب): منفصل. والمثبت موافق لما في المغني (4/ 54).

(2)

ينظر: القاعدة (82) ص ....

(3)

زاد في (ب): فيها.

(4)

قوله: (هي) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ).

(5)

في (ب): العقود.

(6)

قوله: (هي) سقط من (ب).

ص: 258

وإن قلنا: فسخ؛ فيحتمل ألَّا يردَّ به؛ لأنَّ الأصحاب قالوا: الفسخ لا يفسخ، ويحتمل أن يردَّ به، كما جوَّزوا فسخ الإقالة، والرَّدَّ بالعيب لأخذ الشَّفيع.

وأفتى الشَّيخ تقيُّ الدِّين: بفسخ الخلع بالعيب في عوضه، وبفوات صفة

(1)

فيه، وبإفلاس الزَّوجة به

(2)

.

الحادية عشر: الإقالة في المسلَم فيه قبل قبضه، وفيها طريقان:

أحدهما: بناؤها على الخلاف؛ فإن قلنا: هي فسخ؛ جازت، وإن قلنا: بيع؛ لم يجز، وهي طريقة القاضي وابن عقيل في روايتيهما، وصاحب «الرَّوضة» ، وابن الزَّاغونيِّ.

والثَّانية: جواز الإقالة فيه على الرِّوايتين، وهي طريقة الأكثرين، ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك.

(3)

الثَّانية عشر: باعه جزءاً مشاعاً من أرضه، ثمَّ تقايلا:

فإن قلنا: الإقالة فسخ؛ لم يستحقَّ المشتري ولا من حدث له شركة في الأرض قبل المقايلة شيئاً من الشِّقص بالشُّفعة.

وإن قلنا: هي بيع؛ ثبتت لهم الشُّفعة.

وكذا لو باع أحد الشَّريكين حصَّته، ثمَّ عفا الآخر عن شفعته، ثمَّ

(1)

في (ب): حقِّه.

(2)

جاء في الفروع (8/ 424) في الخلع: وجعله شيخنا كعقد البيع حتى في الإقالة.

(3)

قال ابن المنذر في الإشراف (6/ 109): (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه المرء جائز).

ص: 259

تقايلا، وأراد العافي أن يعود إلى الطَّلب، فإن قلنا: الإقالة فسخ؛ لم يكن له ذلك، وإلَّا فله الشُّفعة.

الثَّالثة عشر: اشترى شقصاً مشفوعاً، ثمَّ تقايلاه قبل الطَّلب:

فإن قلنا: هي بيع؛ لم تسقط

(1)

؛ كما لو باعه

(2)

لغير بائعه.

وإن قلنا: فسخ؛ فقيل: لا تسقط

(3)

أيضاً، وهو قول القاضي وأصحابه؛ لأنَّ الشُّفعة استُحِقَّت بنفس البيع؛ فلا تسقط بعده.

وقيل: يسقط، وهو المنصوص عن أحمد في رواية محمَّد بن الحكم، وهو ظاهر كلام أبي حفص العُكْبَريِّ

(4)

، والقاضي في «خلافه» .

الرَّابعة عشر: هل يملك المضارب أو الشَّريك الإقالة فيما اشتراه؟

من الأصحاب من قال: إن قلنا: الإقالة بيع؛ ملكه، وإلَّا فلا؛ لأنَّ الفسخ ليس من التِّجارة المأذون فيها، وهي طريقة ابن عقيل في موضع من «فصوله» .

والأكثرون: على أنَّه يملكها على القولين مع المصلحة، كما يملك الفسخ بالخيار.

الخامسة عشر: هل يملك المفلس بعد الحجر المقايلة لظهور المصلحة؟

إن قلنا: هي بيع؛ لم يملكه.

(1)

في (أ) و (ج): يسقط.

(2)

في (ب): بايعه.

(3)

في (ب): يسقط.

(4)

قوله: (العكبريِّ): سقط من (ب).

ص: 260

وإن قلنا: فسخ؛ فالأظهر: أنَّه يملكه؛ كما يملك الفسخ بخيار قائم أو عيب، ولا يتقيَّد بالأحظِّ على الأصح؛ لأنَّ ذلك ليس بتصرُّف مستأنف، بل من تمام العقد الأوَّل ولواحقه.

السَّادسة عشر: لو وهب الأب لولده شيئاً، فباعه، ثمَّ رجع إليه بإقالة:

فإن قلنا: هي بيع، امتنع رجوع الأب فيه.

وإن قلنا: هي فسخ؛ فوجهان.

وكذلك حكم المفلس إذا باع السِّلعة، ثمَّ عادت إليه بإقالة ووجدها بائعها عنده.

السَّابعة عشر: باع أمة، ثمَّ أقال فيها قبل القبض؛ فهل يلزمه استبراؤها؟ فيه طريقان:

أحدهما: قاله أبو بكر وابن أبي موسى: إن قلنا: الإقالة بيع؛ وجب الاستبراء، وإن قلنا: فسخ؛ لم يجب.

والثَّاني: أنَّ في المسألة روايتين مطلقاً، من غير بناء على هذا الأصل.

ثمَّ قيل: إنَّه مبنيٌّ على انتقال الضَّمان عن البائع وعدمه، وإليه أشار ابن عقيل.

وقيل: بل يرجع إلى أن تجدُّد الملك مع تحقق البراءة من الحمل هل يوجب

(1)

الاستبراء؟ وهذا أظهر.

(1)

في (أ): يجب.

ص: 261

الثَّامنة عشر: لو حلف لا يبيع، أو ليبيعنَّ، أو علَّق على البيع طلاقاً أو عتقاً، ثمَّ أقال؛ فإن قلنا: هي بيع؛ ترتَّبت

(1)

عليها أحكامه من البرِّ والحنث، وإلَّا فلا.

وقد يقال: الأيمان تنبني على العرف، وليس في العرف أنَّ الإقالة بيع.

التَّاسعة عشر: تقايلا في بيع فاسد، ثمَّ حكم الحاكم بصحَّة العقد ونفوذه؛ فهل يؤثر حكمه؟

إن قلنا: هي بيع؛ فحكمه بصحَّة العقد الأوَّل صحيح؛ لأنَّ العقد باق، وقد تأكَّد بترتُّب عقد آخر عليه.

وإن قلنا: هي فسخ؛ لم ينفذ؛ لأنَّ العقد ارتفع بالإقالة؛ فصار كأنَّه لم يوجد.

ويحتمل: أن ينفذ، وتلغى الإقالة؛ لأنَّها تصرُّف في بيع فاسد قبل الحكم بصحَّته؛ فلم ينفذ، ولم يؤثر فيه شيئاً

(2)

، هذا ظاهر ما ذكره ابن عقيل في «عمد الأدلَّة» .

العشرون: لو باع ذميٌّ ذميًّا

(3)

خمراً، وقُبِضت دون ثمنها، ثمَّ أسلم البائع، وقلنا: يجب له الثَّمن، فأقال المشتري فيها:

فإن قلنا: الإقالة بيع؛ لم يصحَّ؛ لأنَّ شراء المسلم الخمر لا يصحُّ.

(1)

في (أ) و (و): يترتَّب. وفي (ج) و (د): ترتَّب.

(2)

قوله: (شيئاً) سقط من (ب).

(3)

زاد في (ب): آخر.

ص: 262

وإن قلنا: هي

(1)

فسخ؛ احتمل أن يصحَّ، فيرتفع بها العقد، ولا يدخل في ملك المسلم؛ فهي في معنى إسقاط الثَّمن عن المشتري.

واحتمل ألَّا يصحَّ؛ لأنَّه استرداد لملك الخمر؛ كما قال الأصحاب

(2)

في المُحْرِم: إنَّه لا يستردُّ الصَّيد بخيار ولا غيره، فإن ردَّ عليه بذلك؛ صحَّ الرَّدُّ ولم يدخل في ملكه، فيلزمه إرساله.

وفي «التَّلخيص» : لو رُدَّ العبد المسلم على بائعه الكافر بعيب؛ صحَّ ودخل في ملكه؛ لأنَّه قهريٌّ؛ كالإرث؛ فيمكن أن يقال في ردِّ الصَّيد على المحرم بعيب وردِّ الخمر على المسلم بالعيب كذلك؛ إذا قلنا: يملكان بالقهر.

الحادية والعشرون: الإقالة؛ هل تصحُّ بعد موت المتعاقدين؟

ذكر القاضي في موضع من «خلافه» : أنَّ خيار الإقالة يبطل بالموت، فلا

(3)

يصحُّ بعده

(4)

.

وقال في موضع آخر: إن قلنا: هي بيع؛ صحَّت من الورثة، وإن قلنا: فسخ؛ فوجهان.

(1)

قوله: (هي) سقط من (أ).

(2)

في (ب): أصحابنا.

(3)

في (ب): ولا.

(4)

في (ب): بعد.

ص: 263

[6] النُّقود؛ هل تتعيَّن بالتَّعيين في العقد أم لا

؟

في المسألة روايتان عن أحمد، أشهرهما: أنَّها تتعيُّن بالتَّعيين في عقود المعاوضات، حتَّى إنَّ القاضي في «تعليقه» أنكر ثبوت الخلاف في ذلك في المذهب، والأكثرون أثبتوه.

ولهذا الخلاف فوائد كثيرة:

منها: أنَّه يحكم بملكها للمشتري بمجرَّد التَّعيين؛ فيملك التَّصرُّف فيها، وإذا تلفت تلفت من ضمانه على المذهب.

وعلى الرِّواية الأخرى: لا يملكها بدون القبض؛ فهي قبله ملكٌ للبائع

(1)

، وتتلف من ضمانه.

ومنها: لو بان الثَّمن مستحَقًّا؛ فعلى المذهب الصَّحيح: يبطل العقد؛ لأنَّه وقع على ملك الغير؛ فهو كما لو اشترى سلعة فبانت مستحَقَّة.

وعلى الثَّانية: لا تبطل، وله البدل.

وههنا مسألة مشكلة على قاعدة

(2)

المذهب: وهي إذا غصب نقوداً فاتَّجر فيها وربح؛ فإنَّ نصوص أحمد متَّفقة على أنَّ الرِّبح للمالك

(3)

.

(1)

في (ب) و (ج): البائع.

(2)

في (ب): قواعد.

(3)

لكن نقل حنبل عن الإمام أحمد: يتصدقان به، قال في الروايتين والوجهين (1/ 415):(نقل أبو طالب وعلي بن سعيد: إذا اتجر في الوديعة بغير إذن مالكها فربح فيها؛ فالربح لصاحب الوديعة. ونقل حنبل: لا يكون الربح لأحدهما بل يتصدقان به).

وفي الفروع (7/ 247): (لو اتجر بالنقد فربحه لربه، نقله الجماعة).

ص: 264

فمن الأصحاب من بناه على القول بوقف تصرُّف الغاصب على الإجازة؛ كابن عقيل، وصاحب «المغني» .

ومنهم من بناه على أنَّ تصرُّفات الغاصب صحيحة بدون إجازة؛ لأنَّه تطول مدُّته

(1)

، فيشقُّ استدراكها

(2)

، وفي القضاء ببطلانها ضرر عليه، وعلى المالك بتفويته الرِّبح، وهي طريقة صاحب «التَّلخيص» ، والصِّحَّة عنده مختصَّة بالتَّصرُّف الكثير، وأشار إليه صاحب «المغني» أيضاً، وأنَّ ما لم يدركه المالك ولم يقدر على استرجاعه يصحُّ التَّصرُّف فيه بدون إجازة لهذا المعنى.

ومن الأصحاب من نزَّله على أنَّ الغاصب اشترى في ذمَّته، ثمَّ نقد الثَّمن، وهي طريقة القاضي في بعض كتبه، وابن عقيل في موضع آخر.

ويشهد لهذا: أنَّ المروذيَّ نقل عن أحمد: التَّفرقة بين الشِّراء بعين الغصب والشِّراء في الذِّمَّة؛ فتنزَّلُ نصوصه المطلقة على هذا المقيَّد، وإنَّما كان الرِّبح للمالك مع أنَّ الشِّراء

(3)

وقع للغاصب؛ لأنَّه نتيجة ملك المغصوب منه وفائدته؛ فهو كالمتولِّد من عينه.

(1)

قوله: (لأنه تطول مدُّته) هو في (ب): لأن مدَّته تطول.

(2)

في (ب): استدراكهما.

(3)

زاد في (ب): للمالك.

ص: 265

ويحتمل أن يخرَّج ذلك: على رواية عدم تعيين النُّقود بالتَّعيين

(1)

في العقد؛ فيبقى كالشِّراء في الذِّمَّة سواء.

ومنها: إذا بان النَّقد المعيَّن

(2)

مَعيباً؛ فله حالتان:

إحداهما: أن يكون عيبه

(3)

من غير جنسه؛ فيبطل العقد من أصله، نصَّ عليه

(4)

، وذكره الخرقيُّ والأصحاب، وعلَّلوه: بأنَّه زال عنه اسم الدِّينار والدِّرهم بذلك؛ فلم يصحَّ العقد عليه، كما لو عقد على شاة فبانت حماراً.

وأومأ إليه أحمد في رواية الميمونيِّ؛ فقال: إن كان ذهباً؛ حُمل عليه مِسَنٌّ ودخل فيه شيء من الفضَّة والنُّحاس

(5)

، أو خالطه غيره؛ فقد زال عنه اسم الذَّهب لمَا دخل فيه.

وهذا متوجِّه إذا كان كلُّه أو غالبه كذلك، أمَّا

(6)

إن كان فيه

(7)

يسير من غير جنسه؛ فلا يزول عنه الاسم بالكليَّة؛ فلا ينبغي بطلان العقد ههنا بالكليَّة، وهذا ظاهر كلام أبي محمَّد التَّميميِّ في «خصاله» .

(1)

في (أ): تعين النقود بالتعين.

(2)

قوله: (المعيَّن) سقط من (ب).

(3)

في (ب): عينه.

(4)

ينظر: المغني (4/ 33).

(5)

في (ب): أو النُّحاس.

(6)

في (ب): وأمَّا.

(7)

قوله: (فيه) سقط من (ب).

ص: 266

ويحتمل: أن يبطل العقد ههنا لمعنى آخر، وهو أنَّ البائع لا يمكن إجباره على قبول هذا، وإنَّما باع بدينار كامل، والمشتري لا يجبر على دفع بقيَّة الدِّينار؛ لأنَّه إنَّما اشترى بهذا الدِّينار المتعيِّن؛ فيبطل

(1)

العقد.

ويحتمل: أن يصحَّ البيع بما

(2)

في الدِّينار من الذَّهب بقسطه من المبيع، ويبطل في الباقي

(3)

، وللمشتري الخيار؛ لتبعُّض المبيع عليه

(4)

.

وأصل هذين الاحتمالين: الرِّوايتان فيما إذا باعه أرضاً معيَّنة على أنَّها عشرة أذرع فبانت تسعة.

ويحتمل: أن يصحَّ البيع كلُّه بدينار، ويلزم المشتري تتمة الدِّينار من غيره ذهباً؛ لأنَّ العقد وقع على دينار كامل، فإذا بان دونه؛ وجب إتمامه؛ جمعاً بين مقصدي التَّعيين والتَّسمية.

وأصل هذا الوجه: ما نصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور فيمن اشترى سمناً في ظرف، فوجد فيه رُبًّا

(5)

: إن كان سمَّاناً عنده سمن؛ أعطاه بوزنه سمناً، وإن لم يكن عنده سمن؛ أعطاه بقدر الرُّبِّ من الثَّمن

(6)

.

(1)

في (ب): فبطل.

(2)

قوله: (بما) هو في (ب): في ما.

(3)

في (أ): الباقيين.

(4)

قال في الإنصاف (12/ 112): (وهو قوي في النظر).

(5)

قال في لسان العرب (1/ 405): (الرب: الطلاء الخاثر، وقيل: هو دبس كل ثمرة، وهو سلافة خثارتها بعد الاعتصار والطبخ

وقال ابن دريد: رب السمن والزيت: ثفله الأسود).

(6)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2942).

ص: 267

وإنَّما فرَّق بين السمَّان وغيره؛ لأنَّ السمَّان شأنه بيع السمن؛ فكأنَّه باعه بمقدار الظَّرف سمناً، وأمَّا غيره؛ فإنَّما باعه هذا الظَّرف المعيَّن، والنُّقود من جنس الأوَّل لا الثَّاني.

الحالة الثَّانية: أن يكون عيبها من جنسها، ولم ينقص وزنها؛ كالسَّواد في الفضَّة؛ فالبائع بالخيار بين الإمساك والفسخ، وليس له البدل؛ لتعيين النَّقد في العقد، ومتى أمسك؛ فله الأرش، إلَّا في صرفها بجنسها، صرَّح به الحلوانيُّ، وابنه، وصاحب

(1)

«المحرَّر» ، وفي بعض نسخ الخرقيِّ ما يقتضيه.

وظاهر كلام أبي الخطَّاب خلافه.

فهذا كلُّه تفريع على رواية تعيين النُّقود.

فأمَّا على الأخرى: فلا يبطل العقد بحال، إلَّا أن يتفرقا والعيب من غير الجنس؛ لفوات قبض المعقود عليه في المجلس، ولا فسخ بذلك، وإنَّما يثبت به البدل دون الأرش؛ لأنَّ الواجب في الذِّمَّة دون المعيَّن.

ومنها: إذا باعه سلعة بنقد معيَّن؛ فعلى المشهور: لا يجبر واحد منهما على البِداءة بالتَّسليم

(2)

، بل ينصَّب عدل يَقبض منهما، ثمَّ يُقبضهما؛ لتعلُّق حقِّ كلٍّ منهما بعين معيَّنة؛ فهما سواء.

وعلى الرِّواية الأخرى: هو كما لو باعه بنقد في الذِّمَّة؛ فيجبر البائع

(1)

في (أ): صاحب. بإسقاط الواو.

(2)

قوله: (على البداءة بالتَّسليم) هو في (ب): (على التَّسليم).

ص: 268

أوَّلاً على التَّسليم؛ لتعلُّق حقِّ المشتري بالعين دونه، ونصَّ عليه

(1)

أحمد في رواية ابن منصور

(2)

، وتأوَّله القاضي على أنَّ البيع وقع على ثمن في الذِّمَّة.

ومنها

(3)

: لو باع

(4)

سلعة بنقد معيَّن، ثمَّ أتاه به فقال: هذا الثَّمن، وقد خرج مَعيباً، وأنكر المشتري؛ ففيه طريقتان

(5)

:

إحداهما

(6)

: إن قلنا: النُّقود تتعيَّن بالتَّعيين؛ فالقول قول المشتري؛ لأنَّه يدَّعي عليه استحقاق الرَّدِّ، والأصل عدمه.

وإن قلنا: لا تتعيَّن، فوجهان:

أحدهما: القول قول المشتري أيضاً؛ لأنَّه أقبض في الظَّاهر ما عليه.

والثَّاني: قول القابض؛ لأنَّ الثَّمن في ذمَّته، والأصل اشتغالها به إلى أن يثبت براءتها منه، وهذه طريقة السَّامريِّ في «المستوعب» .

(1)

قوله: (عليه): سقط من (ب).

(2)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2824): قلت: قال الثوري: وإن كان عرضاً بدنانير أو دراهم، يكون عدلاً بينهما، لا يدفع إليه العَرْضَ حتى يزن له الدنانير، أو الدراهم. قال:(أما العرْض فيدفع إليه إذا كان بدراهم). قال إسحاق: كما قال سفيان، إلا أن يكون حاكم يأمر بدفع العَرْضِ أولًا، ثم يأمر ذا بدفع الدراهم.

(3)

قوله: (منها) سقط من (ب).

(4)

في (ب): باعه.

(5)

في (د) و (هـ) و (و): طريقان. وقوله: (ففيه طريقتان) هو في (ب): فيه ثلاث طرق.

(6)

في (ب): أحدها.

ص: 269

والطَّريقة الثَّانية: إن قلنا: النُّقود لا تتعيَّن؛ فالقول قول البائع وجهاً واحداً؛ لأنَّه قد ثبت اشتغال ذمَّة المشتري بالثَّمن، ولم يثبت براءتها منه.

وإن قلنا: تتعيَّن؛ فوجهان مخرَّجان من الرِّوايتين فيما إذا ادَّعى كلٌّ من المتبايعين أنَّ العيب حدث عنده في السِّلعة:

أحدهما

(1)

: القول قول الدَّافع

(2)

؛ لأنَّه يدَّعي سلامة العقد، والأصل معه

(3)

، ويُدَّعى عليه ثبوت الفسخ، والأصل عدمه.

والثَّاني: قول القابض؛ لأنَّه ينكر

(4)

التَّسليم المستحَقَّ

(5)

، والأصل معه.

وهذه طريقة القاضي في بعض تعاليقه.

وجزم صاحبا «المغني» و «المحرَّر» : بأنَّ القول قول البائع إذا أنكر أن يكون المردود بالعيب هو المبيع، ولم يحكيا خلافاً، ولا فصَّلا بين أن يكون المبيع

(6)

في الذِّمَّة أو معيَّناً؛ نظراً إلى أنَّه يدَّعي عليه

(7)

استحقاق الرَّدِّ، والأصل عدمه.

وذكر الأصحاب مثل ذلك في مسائل الصَّرف.

(1)

في (ب): أحدها.

(2)

في (ب): البائع.

(3)

في (ب): عدمه.

(4)

في (ب) و (د) و (هـ) و (و): منكر. وفي (ج): ينكره.

(5)

زاد في (ب): معه.

(6)

في (ب): البيع.

(7)

قوله: (عليه) سقط من (ب).

ص: 270

وفرَّق السَّامريُّ في «فروقه» : بين أن يكون المردود بعيب وقع عليه العقد معيَّناً؛ فيكون القول قول البائع، وبين أن يكون في الذِّمَّة؛ فيكون القول قول المشتري؛ لما تقدَّم.

وهذا فيما إذا أنكر المدَّعى عليه العيبُ أنَّ ماله كان مَعيباً.

أمَّا إن اعترف بالعيب بعد فسخ صاحبه، وأنكر أن يكون هو هذا المعيَّنَ؛ فالقول قول من هو في يده، صرَّح به في التَّفليس من «المغني» ، معلِّلاً: بأنَّه ينكر

(1)

استحقاق ما ادَّعاه

(2)

عليه الآخر، والأصل معه.

ويشهد له: أنَّ المبيع في مدَّة الخيار إذا ردَّه المشتري بالخيار، فأنكر البائع أن يكون هو المبيع؛ فالقول قول المشتري، حكاه ابن المنذر عن أحمد

(3)

؛ لاتِّفاقهما على

(4)

استحقاق الفسخ بالخيار، وبذلك وجَّهه صاحب «المغني» .

وقد ينبني ذلك: على

(5)

أنَّ المبيع بعد الفسخ بعيب ونحوه

(6)

هل هو

(7)

أمانة في يد المشتري، أو مضمون عليه؟ وفيه خلاف سبق

(1)

في (ب): قبل. وفي (هـ): منكر. وسقط من (د).

(2)

في (ب): ما ادَّعى.

(3)

ينظر: المغني (4/ 126).

(4)

في (أ): عن.

(5)

قوله: (ذلك على) هو في (ب): على ذلك.

(6)

قوله: (ونحوه) سقط من (أ) و (و) و (ن).

(7)

قوله: (هل هو) سقط من (ب).

ص: 271

ذكره

(1)

؛ فإنَّ الأمانات القول قول من هي في يده مع الاختلاف في عينها، وقد نصَّ عليه أحمد في الرَّهن.

وكذلك نصَّ في اختلاف المتبايعين في عين المبيع المعيَّن قبل قبضه

(2)

؛ أنَّ القول قول البائع، وقد يكون مأخذه: أنَّه أمانة عنده.

ومن الأصحاب من علَّل: بأنَّ الأصل براءة ذمَّة البائع ممَّا يُدَّعى عليه؛ فهو كما لو أقرَّ بعين لرجل، ثمَّ أحضرها، فأنكر المقَرُّ له أن تكون هي المقَرَّ بها؛ فإنَّ القول قول المقِرِّ مع يمينه.

ومنها: لو كان عبد بين شريكين، قيمة نصيب كلٍّ منهما عشرة دنانير، فقال

(3)

رجل - يملك عشرة دنانير لا يملك غيرها - لأحدهما: أعتق نصيبك عنِّي على هذه الدَّنانير العشرة، ففعل؛ عَتَق نصيب المسؤول عن السَّائل.

وهل يسري عليه إلى حصَّة الآخر أم لا؟

إن قلنا: إنَّ النَّقود تتعيَّن بالتَّعيين؛ لم يَسْرِ؛ لأنَّ المسؤول ملكها عليه بالعقد، فلم يبق في ملك السَّائل شيء؛ فصار

(4)

معسراً.

وإن قلنا: لا تتعيَّن؛ سَرَى إلى حصَّة الشَّريك؛ كما لو اشترى ذلك

(1)

ينظر: القاعدة (43) ص ....

(2)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 3050): قلت: سئل سفيان عن رجل باع ثوباً بشرط، وسمَّى الثمن، فجاء بثوب، فقال: هذا ثوبك. وقال صاحب الثوب: ليس هذا ثوبي: فالقول قول الذي جاء بالثوب. قال أحمد: (جيد).

(3)

في (أ): وقال.

(4)

في (أ): فبقي.

ص: 272

النِّصف

(1)

بثمن في الذِّمَّة؛ لأنَّه مالك لقيمة حصَّة الشَّريك الآخر

(2)

، ذكره السَّامريُّ في «فروقه» .

ويفيد هذا: أنَّ الدَّين المستغرق لا يمنع السِّراية.

(1)

في (ب) و (د) و (هـ) و (و): النَّصيب.

(2)

قوله: (الآخر) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و).

ص: 273

[7] العبد هل يملك بالتَّمليك أم لا

؟

في المسألة روايتان عن أحمد:

أشهرهما عند الأصحاب: أنَّه لا يملك، وهو اختيار الخرقيِّ، وأبي بكر، والقاضي، والأكثرين.

والثَّانية: يملك، اختارها ابن شاقْلَا، وصحَّحها ابن عقيل وصاحب «المغني» .

ولهذا الخلاف فوائد كثيرة جدًّا

(1)

:

فمنها: لو ملَّك السَّيِّدُ عبدَه مالاً زكوياً:

فإن قلنا: لا يملكه؛ فزكاته على السَّيِّد؛ لأنَّه مِلْكُه.

وإن قلنا: يملكه؛ فلا زكاة على السَّيِّد

(2)

؛ لانتفاء ملكه له، ولا على العبد؛ لأنَّ ملكه متزلزل

(3)

، ولهذا لم يلزمه فيه نفقة الأقارب، ولا يَعتق عليه رَحِمُه بالشِّراء، هذا ما قال أكثر الأصحاب، منهم أبو بكر والقاضي، وهو ظاهر كلام الخرقيِّ، وفي كلام أحمد إيماء إليه.

(4)

(1)

قوله: (جدًّا) سقط من (ب).

(2)

قوله: (لأنَّه ملكه. وإن قلنا: يملكه؛ فلا زكاة على السَّيِّد) سقط من (ب).

(3)

في (ب): مزلزل.

(4)

جاء في مسائل ابن منصور (3/ 1125): قلت: في مال المملوك زكاة؟ قال: (أرجو أن لا يكون فيه زكاة. قال: حديث عمر، ونافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: ليس فيه زكاة، قال: أليس يتسرى العبدُ في ماله؟! هو ماله ما لم يأخذه منه سيده).

ص: 274

وحكى بعض الأصحاب رواية: بوجوب زكاته على العبد على القول: بأنَّه مِلكُه.

ومنهم من اشترط مع ذلك: إذن السَّيِّد؛ لقول أحمد: (يزكِّيه بإذن سيِّده)، وإنَّما مراده: أنَّ المال للسَّيِّد وزكاته عليه، والعبد كالوكيل والمودَع

(1)

؛ فلا يزكِّي بدون إذنه.

وعن ابن حامد: أنَّه ذكر احتمالاً بوجوب زكاته على السَّيِّد على كِلَا القولين؛ لأنَّه إمَّا ملك له، أو في حكم ملكه؛ لتمكُّنه من التَّصرُّف فيه؛ كسائر أمواله.

ومنها: إذا ملَّكه سيِّده عبداً، وأهلَّ عليه هلال الفطر:

فإن قلنا: لا يملكه؛ ففطرته على السَّيِّد.

وإن قلنا: يملكه؛ فوجهان:

أحدهما: لا فطرة له على أحد، قاله القاضي وابن عقيل؛ اعتبارًا بزكاة المال؛ كما سبق.

والثَّاني: فطرته على السَّيِّد، صحَّحه صاحب «المغني» ؛ لأنَّ نفقته على السَّيِّد؛ فكذلك فطرته.

ومنها: تكفيره بالمال في الحجِّ، والأيمان، والظِّهار، ونحوها، وفيه للأصحاب طرق:

إحداها: البناء على ملكه وعدمه، فإن قلنا: يملك؛ فله التَّكفير

(1)

قوله: (والمودع) سقط من (ب).

ص: 275

بالمال في الجملة، وإلَّا فلا، وهذه طريقة القاضي، وأبي الخطَّاب، وابن عقيل، وأكثر المتأخِّرين؛ لأنَّ التَّكفير بالمال يستدعي ملك المال، فإذا كان هذا غير قابل للملك بالكليَّة؛ ففرضه الصِّيام خاصَّة.

وعلى القول بالملك؛ فإنَّه يكفِّر بالإطعام.

وهل يكفِّر بالعتق؟ على روايتين؛ لأنَّ العتق يقتضي الولاء والولاية والإرث، وليس العبد من أهلها.

وهل يلزمه التَّكفير بالمال، أم

(1)

يجوز له مع إجزاء الصِّيام؟

المتوجِّه: أنَّه إن كان في ملكه مال، فأذن السَّيِّد له

(2)

بالتَّكفير منه؛ لزمه ذلك، وإن لم يكن في ملكه، بل أراد السَّيِّد أن يملكه ليكفِّر؛ لم يلزمه؛ كالحرِّ المعسر إذا بذل له مال.

وعلى هذا يتنزَّل ما ذكره صاحب «المغني» من لزوم التَّكفير بالمال في الحجِّ، ونفي اللُّزوم في الظِّهار.

الطَّريقة الثَّانية: أنَّ في تكفيره بالمال بإذن السَّيِّد روايتين مطلقتين، سواء قلنا: يملك أوْ لا يملك، حكاها القاضي في «المجرَّد» عن شيخه ابن حامد وغيره من الأصحاب، وهي طريقة أبي بكر.

فوَجْه عدم تكفيره بالمال مع القول بالملك: أنَّ ملكه ضعيف لا يحتمل المواساة، ولذلك لم تجب فيه الزَّكاة ولا نفقة الأقارب؛ فكذلك الكفَّارات.

(1)

في (ب): أو.

(2)

في (ب): له السيد.

ص: 276

ولوَجْه تكفيره بالمال مع القول بانتفاء ملكه مأخذان:

أحدهما: أنَّ تكفيره بالمال إنَّما هو تبرُّعٌ له من السَّيِّد، وإباحة له أن يكفِّر من ماله، والتَّكفير عن الغير لا يُشترط دخوله في ملك المكفَّر عنه

(1)

، كما نقول في روايةٍ في كفَّارة المجامع في رمضان إذا عجز عنها - وقلنا: لا تسقط

(2)

-، فكفَّر غيره عنه

(3)

بإذنه؛ جاز له

(4)

أن يدفعها إليه، وكذلك في سائر الكفَّارات على إحدى الرِّوايتين، ولو كانت قد دخلت في ملكه؛ لم يجز أن يأخذها هو؛ لأنَّه لا يكون حينئذٍ إخراجاً للكفَّارة.

والمأخذ الثَّاني: أنَّ العبد يثبت له ملك قاصر بحسب حاجته إليه، وإن لم يثبت له الملك المطلق التَّام؛ فيجوز أن يثبت له في المال المكفَّر به ملك يبيح له التَّكفير بالمال دون بيعه وهبته؛ كما أثبتنا له في الأمة ملكاً قاصراً يبيح التَّسرِّي بها دون بيعها وهبتها على ما سنذكره، وهذا اختيار الشَّيخ تقيِّ الدِّين.

ووجه التَّفريق بين العتق والإطعام: أنَّ التَّكفير بالعتق يحتاج إلى ملك، بخلاف الإطعام، ذكره

(5)

ابن أبي موسى.

(1)

قوله: (عنه) سقط من (ب).

(2)

في (ب): يسقط.

(3)

قوله: (عنه) سقط من (ب).

(4)

قوله: (له) سقط من (ب).

(5)

في (ب) و (د): وذكره.

ص: 277

ولهذا لو أَمَر مَن عليه كفَّارة

(1)

رجلاً أن يطعم عنه، ففعل؛ أجزأته، ولو أَمَر أن يُعتِق عنه؛ ففي إجزائه عنه

(2)

روايتان.

ولو تبرَّع الوارث بالإطعام الواجب عن موروثه؛ صحَّ، ولو تبرَّع عنه بالعتق؛ لم يصحَّ.

ولو أعتق الأجنبيُّ عن كفَّارة الميِّت؛ لم يصحَّ، ولو أطعم عنه؛ فوجهان.

الطَّريقة الثَّالثة: أنَّه لا يجزئه

(3)

التَّكفير بغير الصِّيام بحال على كلا الرِّوايتين

(4)

، وهي ظاهر كلام أبي الخطَّاب في كتاب الظِّهار، وصاحب «التَّلخيص» ، وغيرهما؛ لأنَّ العبد وإن قلنا: إنَّه

(5)

يملك؛ فإنَّ ملكه ضعيف لا يحتمل المواساة كما سبق؛ فلا يكون مخاطَباً بالتَّكفير بالمال بالكليَّة؛ فلا يكون فرضه غير الصِّيام بالأصالة، بخلاف الحرِّ العاجز؛ فإنَّه قابل للتَّملُّك.

ومن ههنا - والله أعلم - قال الخرقيُّ في العبد إذا حَنِث ثمَّ عَتَق: إنَّه لا يجزئه التَّكفير بغير الصَّوم، بخلاف الحرِّ المعسر إذا حنِث ثمَّ أيسر.

(1)

في (ب): الكفَّارة.

(2)

قوله: (عنه) سقط من (ب).

(3)

في (ب): يجزئ.

(4)

في (ب): الطَّريقين.

(5)

قوله: (إنه) سقط من (ب).

ص: 278

وقال أيضاً في العبد إذا فاته الحجُّ: إنَّه يصوم عن كلِّ مدٍّ من قيمة الشَّاة يوماً.

وقال في الحرِّ المعسر: إنَّه يصوم في الإحصار صيام المتمتِّع

(1)

.

والفرق بينهما: أنَّ العبد ليس من أهل الملك القابل لتعلُّق الواجبات به؛ فيتعلَّق به وجوب الصِّيام بالأصالة، وفدية الفوات والإحصار لم يرد فيها نصٌّ بغير الهدي؛ فأوجبنا على العبد صياماً يقوم مقام الهدي، ويتعدَّل بقيمة الشَّاة، كما وجب في جزاء الصَّيد؛ لأنَّ هذا صيام واجب بالأصالة، ليس بدلاً عن الهدي، وهو معدل

(2)

بالهدي، وشبيه به

(3)

؛ فيكون فرض العبد بالأصالة بخلاف الحرِّ

(4)

المعسر، فإنَّ الواجب في ذمَّته بالأصالة هو الهدي، فإذا عجز عنه؛ انتقل إلى البدل الَّذي شُرِع للهدي، وهو صيام المتعة.

ومنها: إذا باع عبداً وله مال، وفيه

(5)

للأصحاب طرق:

إحداها

(6)

: البناء على ملك العبد وعدمه:

فإن قلنا: يملك؛ لم تشترط

(7)

معرفة المال، ولا سائر شرائط البيع

(1)

في (ب): التَّمتُّع.

(2)

في (ب): يعدل.

(3)

قوله: (وشبيه به) سقط من (ب).

(4)

قوله: (الحرِّ) سقط من (ب).

(5)

في (أ): ففيه.

(6)

في (ب): أحدها.

(7)

في (ب): يشترط.

ص: 279

فيه؛ لأنَّه غير داخل في العقد، وإنَّما اشترط تبقيته على ملك العبد؛ ليكون عبداً ذا مال، وذلك صفة في العبد لا يفرد بالمعاوضة، وهو كبيع المكاتب الَّذي له مال.

وإن قلنا: لا

(1)

يملك؛ اشترط لماله معرفته

(2)

، وأن يبيعه بغير جنس المال، أو بجنسه بشرط أن يكون الثَّمن أكثر على رواية، ويشترط التَّقابض؛ لأنَّ المال حينئذ داخل في عقد البيع.

وهذه طريقة القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل، وأبي الخطَّاب في «انتصاره»

(3)

، وغيرهم.

والطَّريقة الثَّانية: اعتبار قصد المال وعدمه لا غير، فإن كان المال مقصوداً للمشتري؛ اشترط علمه وسائر شروط البيع، وإن كان غير مقصود له

(4)

، بل قصد المشتري تركه للعبد لينتفع به وحده؛ لم يشترط ذلك؛ لأنَّه تابع غير مقصود.

وهذه الطَّريقة هي المنصوصة عن أحمد، واختيار أكثر أصحابه؛ كالخرقيِّ، وأبي بكر، والقاضي في «خلافه» ، وكلامه ظاهر في الصِّحَّة، وإن قلنا: إنَّ العبد لا يملك.

وترجع المسألة على هذه الطَّريقة: إلى بيع ربوي بغير جنسه، ومعه

(1)

قوله: (لا) سقطت من (أ).

(2)

في (ب): معرفة.

(3)

قوله: (في انتصاره) هو في (أ): وانتصاره.

(4)

قوله: (له) سقط من (ب).

ص: 280

من جنسه ما هو غير مقصود، وقد استوفينا الكلام عليها في القواعد

(1)

، ورجَّح صاحب «المغني» هذه الطَّريقة.

والطَّريقة الثَّالثة: الجمع بين الطَّريقتين، وهي طريقة القاضي في «الجامع الكبير» وصاحب «المحرَّر» ، ومضمونها: أنَّا إن قلنا: العبد يملك؛ لم يشترط لماله شروط البيع بحال، وإن قلنا: لا يملك؛ فإن كان المال مقصوداً للمشتري؛ اشترط له

(2)

شرائط البيع، وإن كان غير مقصود له؛ لم يشترط له ذلك.

(3)

ومنها: إذا أذن المسلم لعبده الذِّميِّ أن يشتري

(4)

بماله عبداً مسلماً، فاشتراه:

فإن قلنا: يملك؛ لم يصحَّ شراؤه له.

وإن قلنا: لا يملك؛ صحَّ، وكان ملكاً

(5)

للسَّيِّد، قال الشَّيخ مجد الدِّين: هذا قياس المذهب عندي.

قلت: ويتخرَّج فيه وجه آخر: لا يصحُّ على القولين؛ بناء على أحد الوجهين: أنَّه لا يصحُّ شراء الذِّميِّ لمسلم بالوكالة.

ولو كان بالعكس؛ بأن أذن

(6)

الكافر لعبده المسلم الَّذي يثبت ملكه

(1)

ينظر: القاعدة (113).

(2)

في (ب): فيه.

(3)

قوله: (له) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و). وقوله: (ذلك) سقط من (د).

(4)

في (ب): يشتري له.

(5)

في (ب): مملوكاً.

(6)

في (ب): بأن يأذن. في (د) و (و): فإن أذن.

ص: 281

عليه أن يشتري بماله رقيقاً مسلماً، فإن قلنا: يملك؛ صحَّ وكان العبد له، وإن قلنا: لا يملك؛ لم يصحَّ

(1)

.

ومنها: تسرِّي العبد، وفيه طريقان:

إحداهما: بناؤه على الخلاف في ملكه، فإن قلنا: يملك؛ جاز تسرِّيه، وإلَّا فلا؛ لأنَّ الوطء بغير نكاح ولا ملكِ يمينٍ محرَّم بنصِّ الكتاب والسُّنَّة، وهي طريقة القاضي والأصحاب بعده.

والثَّانية: يجوز تسرِّيه على كلا الرِّوايتين، وهي طريقة الخرقيِّ، وأبي بكر، وابن أبي موسى، ورجَّحها صاحب «المغني» ، وهي أصحُّ؛ فإنَّ نصوص أحمد لا تختلف في إباحة التَّسرِّي له؛ فتارة علَّل: بأنَّه يملك، وتارة اعترف بأنَّه خلاف القياس، وأنَّه جاز لإجماع الصَّحابة عليه

(2)

، وهذا يقتضي أنَّه أجاز له التَّسرِّي وإن قيل: إنَّه لا يملك؛ اتِّباعا للصَّحابة في ذلك.

ووجهه: أنَّ العبد - وإن قيل: إنَّه لا يملك -؛ فلا بدَّ من أن يثبت له ملك ما يحتاج إلى الانتفاع به، ولذلك يملك عقد النِّكاح، وهو ملك لمنفعة البضع؛ فكذلك يملك التَّسرِّي، ويثبت له هذا الملك الخاصُّ لحاجته إليه.

(1)

قوله: (وإن قلنا: لا يملك؛ لم يصحَّ) هو في (ب): وإلَّا لم يصحَّ.

(2)

قال ابن قدامة في المغني (7/ 85): (ولنا: قول من سمينا من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، فكان إجماعًا).

ص: 282

ولا يجوز تسرِّيه بدون إذن، نصَّ عليه في رواية جماعة

(1)

؛ كنكاحه، ولأنَّه لا يملك التَّصرُّف في ماله بما

(2)

يتلف ماليَّته، ويضرُّ به

(3)

؛ لتعلُّق حقِّ السَّيِّد به

(4)

، والتَّسرِّي فيه إضرار بالجارية، وتنقيص لماليَّتها بالوطء والحمل، وربَّما أدَّى إلى تلفها.

ونقل عنه أبو طالب وإبراهيم بن هانئ: (يتسرَّى العبد في ماله، كان ابن عمر يتسرَّى عبيدُه في ماله؛ فلا يَعيب عليهم

(5)

(6)

قال القاضي فيما علَّقه على حواشي «الجامع» للخلَّال: (ظاهر هذا: أنَّه يجوز تسرِّيه بدون

(7)

إذن؛ لأنَّه مالك له) انتهى.

ويمكن أن يُحمل نصُّه باشتراط الإذن على التَّسرِّي من مال سيِّده: إذا كان مأذوناً له، ونصُّه بعدم اشتراطه: على تسرِّيه في مال نفسه الَّذي يملكه، وقد أومأ إلى هذا في رواية جماعة، وهو الأظهر.

(1)

ينظر: مسائل أبي داود (ص 234)، ومسائل ابن منصور (4/ 1894)، وقال في المغني (7/ 88):(نقل محمد بن ماهان عن أحمد: لا بأس للعبد أن يتسرى إذا أذن له سيده، فإن رجع السيد؛ فليس له أن يرجع إذا أذن له مرة وتسرى، وكذلك نقل عنه إبراهيم بن هانئ، ويعقوب بن بختان، ولم أر عنه خلاف هذا).

(2)

قوله: (بما) سقط من (ب).

(3)

قوله: (ويضرُّ به) هو في (ب): وتصرُّفه.

(4)

قوله: (به) سقط من (أ).

(5)

أخرجه عبد الرزاق (12836)، وابن أبي شيبة (16280).

(6)

جاء نحو هذه الرواية في مسائل ابن منصور (3/ 1125): قلت: في مال المملوك زكاة؟ قال: (أرجو ألَّا يكون فيه زكاة. قال: حديث عمر، ونافع عن ابن عمر رضي الله عنهما ليس فيه زكاة، قال: أليس يتسرى العبدُ في ماله، هو ماله ما لم يأخذه منه سيده).

(7)

في (ب): من غير.

ص: 283

ونقل عنه الأثرم

(1)

في الرَّجل يهب لعبده جارية: (لا يَطَأْها، ولكنَّه

(2)

يتسرَّى في ماله إذا أذن له سيِّده)، وفسَّر ماله بمال العبد الَّذي في يديه، وهذا نصٌّ باعتبار

(3)

الإذن في التَّسرِّي من مال نفسه.

وتفريقه بين ذلك، وبين الأمة الَّتي يُملِّكه السَّيِّد فيه إشكال، ولعلَّه مَنَع الوطء بدون إذن السَّيِّد؛ فيكون ذلك منه اشتراطاً لإذن السَّيِّد بكلِّ حال.

واعلم أنَّ الإمام أحمد متردِّد في تسرِّي العبد بأمة سيِّده ونكاحه لها

(4)

؛ هل هما جنس واحد أم لا؟

فقال في رواية حنبل: (لا يبيع أمته المزوَّجة بعبده حتَّى يطلِّقها العبد)، فجعله تمليكاً لازماً.

ونقل عنه الأكثرون: جوازه.

واختلف عنه في بيع سُرِّيَّة عبده؛ فنقل عنه الميمونيُّ: الجواز.

ونقل عنه جعفر بن محمَّد: المنع، معلِّلاً: بأنَّ التَّسرِّي بمنزلة النِّكاح، يريد: أنَّه لازم، لا يجوز الرُّجوع فيه، وكذا نقل عنه ابن ماهان

(5)

وغيره.

واختُلِف عنه في جواز تسرِّي العبد بأكثر من أمتين: فنقل عنه الميمونيُّ الجواز، وأبو الحارث المنع؛ كالنِّكاح.

(1)

فقوله: (عنه الأثرم) هو في (ب): الأثرم عنه.

(2)

في (ب): لكنَّه.

(3)

قوله: (الَّذي في يديه، وهذا نصٌّ باعتبار) هو في (ب): وهذا هو.

(4)

قوله: (لها) سقط من (ب).

(5)

ينظر: مسائل ابن منصور (4/ 1894)، والمغني (7/ 88).

ص: 284

ولم يختلف عنه: في أنَّ عتقَ العبدِ وسُرِّيَّتِه يوجب تحريمها عليه؛ لزوال ملكه عنها، ونقله عن ابن عمر

(1)

.

واختلف عنه في عتق العبد وزوجته

(2)

؛ هل ينفسخ به النِّكاح؟ على روايتين، بناء على تغليب جهة التَّمليك فيه أو جهة النِّكاح.

وقد استشكل أكثرَ هذه النُّصوص القاضي، وربَّما تأوَّلها، ونزَّلها على ما ذكرنا الشَّيخ تقيُّ الدِّين.

وهذه المسائل المذكورة منصوصة عن السَّلف حكماً وتعليلاً كما ذكرنا.

وكذلك قال الشَّيخ مجد الدِّين: (ظاهر كلام أحمد إباحة تسرِّي العبد

(3)

وإن قلنا: لا يملك؛ فيكون نكاحاً عنده)، وحمل قول أبي بكر على مثل ذلك.

وعلى هذا: فهل يشترط لنكاحه

(4)

الإشهاد؟ كلام

(5)

أحمد يقتضي استحبابه لا غير.

وفي ثبوت المهر به خلاف معروف.

(1)

ينظر: المغني (7/ 194).

وأثر ابن عمر رضي الله عنه أخرجه عبد الرزاق (12845) عن نافع، أن ابن عمررضي الله عنهما كان لا يرى به بأسًا، وأنه أعتق غلامًا له سُرِّيَّتان، أعتقهما جميعًا، وقال:«لا تقربهما إلا بنكاح» .

(2)

في (ب): زوجيته.

(3)

قوله: (تسرِّي العبد) هو في (ب) و (هـ) و (و): التَّسرِّي للعبد.

(4)

في (ب) و (هـ): له. وقوله: (لنكاحه) سقط من (ج) و (د).

(5)

في (ب): وكلام.

ص: 285

ومنها: لو باع السَّيِّد عبدَه إلى

(1)

نفسِه بمال في يده؛ فهل يَعتِقُ أم لا؟

المنصوص عن أحمد: أنَّه يعتق بذلك، وذكره الخرقيُّ مع قوله: إنَّ العبد لا يملك، ونزَّله القاضي على القول بالملك؛ فيكون دخول السَّيِّد مع عبده في بيعه

(2)

نفسَه بماله إقراراً له على ملكه؛ فيصحُّ بيعه ويعتق.

وإن قلنا: لا يملك؛ لم يصحَّ بيعه؛ فلا يعتق.

ويحتمل أن يقال: بيعه نفسَه هنا كناية عن عتقه؛ فيَعتِقُ به بكلِّ حال، ولهذا قال الأصحاب: إنَّ

(3)

بيع السَّيِّد عبدَه نفسَه بمال؛ تعليقٌ لعتقه على التزامه؛ فيَعتِقُ على ملك السَّيِّد؛ فيكون ههنا تعليقاً على إيتاء

(4)

هذا المال؛ فيَعتِقُ به.

أمَّا إن دفع العبد مالاً إلى رجل ليشتريه به من سيِّده، ففعل، وأعتقه المشتري؛ فهل يصحُّ العقد ويَعتِقُ؟

إن اشتراه الرَّجل في الذِّمَّة، ثمَّ نقد المال؛ صحَّ وعَتَق.

وإن اشتراه بعين المال؛ انبنى على الرِّوايتين في تعيين النُّقود بالتَّعيين على ما سبق.

والمنصوص عن أحمد في رواية عبد الله، وأبي الحارث، وأبي

(1)

قوله: (إلى) سقط من (ب).

(2)

في (ب): بيع.

(3)

في (ب): بأنَّ.

(4)

في (ب): إيفاء.

ص: 286

داود

(1)

: البطلان، معلِّلاً بما ذكرنا، وذكره الخرقيُّ.

والفرق بين هذه والَّتي قبلها: أنَّ السَّيِّد لم يعلم ههنا أنَّها ماله؛ فلا يكون إقراراً لها على ملك العبد.

ونصَّ في رواية مهنَّى وحنبل: على أنَّه يَعتِقُ، ويغرَّم المشتري الثَّمن.

وهذا قد يتنزَّل على القول: بأنَّ النُّقود لا تتعيَّن، وقد يتنزَّل مع القول بالتَّعيين على أنَّه عقد فاسد مختلف فيه؛ فينفذ فيه العتق؛ كما ينفذ

(2)

الطَّلاق في النِّكاح المختلف فيه، وهو أحد الوجهين في العتق

(3)

للأصحاب.

وكذلك

(4)

نقل مهنَّى عنه: في عبد دفع إلى رجل ألف درهم من مال رجل آخر، فاشتراه بها من سيِّده، فأعتقه

(5)

: أنَّه يرجع

(6)

صاحب المال بماله، فإن استُهلك؛ كان ديناً على العبد، ويَعتِق العبد.

وحمل القاضي في موضع من «المجرَّد» ، - وتبعه ابن عقيل- المسألةَ على أنَّ العبد وكَّل الرَّجل في شراء نفسه من سيِّده

(7)

؛ فيكون

(1)

ينظر: مسائل عبد الله (ص 399)، ومسائل أبي داود (ص 282). وقوله:(وأبي داود) سقط من (أ).

(2)

في (ب): نفذ.

(3)

قوله: (في العتق) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (و).

(4)

في (أ): وكذا.

(5)

في (ج) و (د) و (و): أعتقه. وفي (ب) و (ن): وأعتقه.

(6)

زاد في (ب): على.

(7)

قوله: (من سيِّده) سقط من (ب).

ص: 287

المشتري وكيلاً للعبد، وتكون وكالة صحيحة.

قال الشَّيخ مجد الدِّين: فعلى هذا يكون قد عتق في الباطن في الحال، ويلزم المشتريَ الثَّمنُ

(1)

، ويرجع به على العبد.

وقال أيضاً في موضع آخر: هذا فيه إشكال؛ لأنَّ العبد عندنا لا يصحُّ أن يشتري من سيِّده شيئاً بنفسه؛ فكيف يصحُّ توكيله فيه؟! ولهذا قال أحمد: (لا ربا بين العبد وسيِّده).

قال: ويحتمل أن يصحَّ ذلك بناء على أنَّ العبد يملك، ويُلْتَزم عليه جريان الرِّبا بينهما.

قال: ويحتمل أن تكون هذه المسألة غلطاً في كتابيهما - أعني

(2)

: القاضي وابن عقيل-، وأنَّ الصَّواب في ذلك أن يقال: إذا وكَّل رجلٌ العبدَ في شراء نفسه من سيِّده.

ومنها: إذا أعتق السَّيِّدُ عبدَه وله مال؛ فهل يستقرُّ ملكه للعبد، أم يكون للسَّيِّد؟ على روايتين.

فمنهم من بناهما على القول بالملك وعدمه، فإن قلنا: يملكه؛ استقرَّ ملكه عليه بالعتق، وإلَّا فلا، وهي طريقة أبي بكر، والقاضي في «خلافه» ، وصاحب «المحرَّر» .

ومنهم من جعل الرِّوايتين على القول بالملك.

ومنها: لو اشترى العبدُ زوجتَه الأمةَ بماله، فإن قلنا: يملك؛ انفسخ

(1)

في (ب): المثمن.

(2)

في (ب): يعني.

ص: 288

نكاحه، وإن قلنا: لا يملك؛ لم ينفسخ.

ومنها: لو ملَّكه سيِّده أمةً، فاستولدها:

فإن قلنا: لا يملك؛ فالولد ملك للسَّيِّد.

وإن قلنا: يملك؛ فالولد مملوك للعبد، لكنَّه لا يَعتِقُ عليه حتَّى يعتق، فإذا عَتَق ولم يَنْزِعْه سيِّده منه قبل عتقه؛ عَتَق عليه؛ لتمام ملكه حينئذٍ، ذكره القاضي في «المجرَّد» .

ومنها: هل ينفذ تصرُّف السَّيِّد في مال العبد بدون استرجاعه؟

إن قلنا: العبد لا يملك؛ صحَّ بغير إشكال.

وإن قلنا: يملك؛ فظاهر كلام أحمد: أنَّه ينفذ عتق السَّيِّد لرقيق عبده.

قال القاضي في «الجامع الكبير» : (فيحتمل أن يكون رجع فيه قبل عتقه)، قال:(وإن حمل على ظاهره؛ فلأنَّ عتقه يتضمن الرُّجوع في التَّمليك).

ومنها: الوقف على العبد؛ فنصَّ أحمد على أنَّه لا يصحُّ؟

فقيل: إنَّ ذلك مفرَّع

(1)

على القول: بأنَّه لا يملك، فأمَّا إن قيل: إنَّه يملك؛ صحَّ الوقف عليه؛ كالمكاتب في أظهر الوجهين.

والأكثرون: على أنَّه لا يصحُّ الوقف عليه على الرِّوايتين؛ لضعف ملكه.

ومنها: وصيَّة السَّيِّد لعبده بشيء من ماله؛ فإن كان بجزء مشاع

(1)

في (ب) و (و) و (ن): يتفرَّع.

ص: 289

منه

(1)

؛ صحَّ، وعَتَق من العبد بنسبة ذلك الجزء؛ لدخوله في عموم المال، وكُمِّلَ عتقُه من بقيَّة الوصيَّة، نصَّ عليه.

فقيل: لأنَّ الوصية إنَّما صحَّت لعتقه؛ فتقديم العتق أهمُّ وأنفع له.

وقيل: بل الجزء الشَّائع الموصى به غير متعيِّن؛ فعُيِّن في العبد؛ تصحيحاً للوصيَّة مهما أمكن.

ويحتمل أن يقال: مَلَك بالوصيَّة جزءاً مشاعاً من نفسه؛ فعَتَق عليه، ومَلَك به بقيَّة الوصيَّة، فصار موسراً؛ فسرى العتق إلى الباقي مضموناً بالسِّراية من بقيَّة الوصيَّة؛ إذ لا مال له سواها؛ كَمَنْ مَلَكَ بعضَ ذي رحم محرم

(2)

منه بفعله، وأولى.

وهذا المأخذ منقول عن ابن سيرين صريحاً

(3)

، وهو حسن، وفي كلام أبي الحسن التَّميميِّ ما يشعر به أيضاً.

وخرَّج بعضهم: أنَّه يعتق منه بنسبة الوصيَّة من المال؛ فيسري العتق إلى جميعه إذا احتمله الثُّلث؛ بناء على القول بالسِّراية بالوصيَّة بعد الموت، وتكمَّل له بقيَّة الوصيَّة من المال إن حمل الثُّلث ذلك.

وإن كانت الوصيَّة بجزء معيَّن أو مقدَّر؛ ففي صحَّة الوصيَّة روايتان؛

(1)

قوله: (منه) سقط من (ب).

(2)

قوله: (محرم) سقط من (أ).

(3)

أخرج ابن أبي شيبة (31017) عن أشعث، عن الحسن وابن سيرين قالا في رجل أوصى لعبده بالثلث:«ذلك من رقبته، فإن كان الثلث أكثر من ثمنه؛ عتق، ودُفع إليه ما بقي، وإن كان أقل من ثمنه؛ عتق، وسعى لهم فيما بقي، وإن أوصى لهم بدراهم؛ فإن شاء الورثة أجازوا، وإن شاؤوا لم يجيزوا» .

ص: 290

أشهرهما: عدم الصِّحَّة؛ فمن الأصحاب من بناهما على أنَّ العبد هل يملك أو

(1)

لا؟ وأشار إلى ذلك أحمد في رواية صالح، وهذه طريقة ابن أبي موسى، والشِّيرازيِّ، وابن عقيل، وغيرهم.

ومنهم من حمل الصِّحَّة على أنَّ الوصيَّة بقدر المعيَّن أو المقدَّر من التَّركة لا بعينه؛ فيعود إلى الجزء المشاع، وهو بعيد جدًّا.

ومنها: لو غزا العبد على فرس ملَّكه إيَّاها سيِّده:

فإن قلنا: يملكها؛ لم يسهم لها؛ لأنَّ الفرس تبع لمالكها، فإذا كان مالكها من أهل الرَّضخ؛ فكذلك فرسه.

وإن قلنا: لا يملكها؛ أُسِهم لها؛ لأنَّها لسيِّده.

كذا قال الأصحاب، والمنصوص عن أحمد في رواية ابن الحكم: أنَّه يسهم لفرس العبد، وتوقَّف مرَّة أخرى وقال:(لا يسهم لها، يُحذى).

ونقل عنه أبو طالب: (إذا غزا العبد مع سيِّده ومعه فرسان، ومع سيِّده فرسان؛ يسهم لفرسي السَّيِّد، ولا يسهم لفرسي العبد؛ لأنَّ الكلَّ للسَّيِّد، ولا يسهم لأكثر من فرسين).

تنبيه: الخلاف في ملك العبد بالتَّمليك؛ هل هو مختصٌّ بتمليك سيِّده أم لا؟

قال

(2)

صاحب «التَّلخيص» : هو مختصٌّ به؛ فلا يملك من غير جهته.

(1)

في (ب): أم.

(2)

في (ب): وقال.

ص: 291

وكلام الأكثرين يدلُّ على خلافه.

ويتفرَّع على ذلك مسائل:

منها: ملكه لِلُّقطة

(1)

بعد الحول؛ قال طائفة من الأصحاب: ينبني على روايتي الملك وعدمه؛ جعلاً لتمليك الشَّارع كتمليك السَّيِّد.

وظاهر كلام ابن أبي موسى: أنَّه يملك اللُّقطة، وإن لم يملك بتمليك سيِّده؛ لأنَّه تمليكٌ شرعيٌّ ثبت

(2)

قهراً، فيثبت له حكماً، وفارق الميراث؛ لأنَّ العبد ليس من أهله؛ لانقطاع نصرته

(3)

، وهنا هو من أهل الحاجة إلى المال.

وعند صاحب «التَّلخيص» : لا يملكها بغير خلاف.

وكذلك في «الهداية» و «المغني» : أنَّها ملك لسيِّده.

ومنها: حيازته للمباحات؛ من احتطاب، أو احتشاش، أو اصطياد، أو معدن، أو غير ذلك؛ فمن الأصحاب من قال: هو ملك لسيِّده دونه رواية واحدة؛ كالقاضي وابن عقيل؛ لأنَّ جوارح العبد ومنافعه ملك لسيِّده

(4)

؛ فهي كيد نفسه؛ فالحاصل في يد عبده كالحاصل في يده حكماً.

(1)

في (ب) و (د) و (هـ): اللُّقطة.

(2)

في (ب) و (هـ): يثبت.

(3)

في (ج): تصرُّفه.

(4)

في (ب): للسَّيِّد.

ص: 292

نعم، لو أذن له السَّيِّد

(1)

في ذلك؛ فهو كتمليكه إيَّاه، ذكره القاضي وغيره.

وخرَّج طائفةٌ المسألة على الخلاف في ملك العبد وعدمه؛ منهم الشَّيخ مجد الدِّين، وقاسه على اللُّقطة، وهو ظاهر كلام ابن عقيل في موضع آخر.

ومنها: إذا وَصِّي

(2)

للعبد أو وُهب له، وقَبِله بإذن سيِّده أو بدونه إذا أجزنا

(3)

له ذلك على المنصوص؛ فالمال للسَّيِّد، نصَّ عليه في رواية حنبل، وذكره القاضي وغيره.

وبناه ابن عقيل وغيره على الخلاف في ملك العبد.

ومنها: لو خالع العبد زوجته بعوض؛ فهو للسَّيِّد، ذكره الخرقيُّ.

وظاهر كلام ابن عقيل: بناؤه على الخلاف في ملك العبد، ويعضده: أنَّ العبد هنا يملك البُضع؛ فمَلَك عوضه بالخلع؛ لأنَّ من مَلَك شيئاً ملك عوضه.

فأمَّا مهر الأمة؛ فهو للسَّيِّد بغير خلاف؛ لأنَّه عوض عن ملك السَّيِّد - وهو منفعة البضع-؛ فيكون ملكاً

(4)

؛ كأجرة العبد له، بخلاف ما تقدَّم؛ فإنَّه ليس عوضاً عن ملكه.

(1)

قوله: (له السَّيِّد) هو في (ب): السَّيِّد له.

(2)

في (أ): أوصى.

(3)

قوله: (إذا أجزنا) هو في (ب): وأجزنا.

(4)

في (ب): تملكاً. وفي (و): ملكاً. وزاد في (ج) و (د) و (هـ) و (و): له. وفي (ن): مالكاً.

ص: 293

[8] المضارب؛ هل يملك الرِّبح بالظُّهور أم لا

؟

ذكر

(1)

أبو الخطَّاب: أنَّه يملكه

(2)

بالظُّهور رواية واحدة.

وقال الأكثرون: في المسألة روايتان:

إحداهما: يملكه بالظُّهور، وهي المذهب المشهور.

والرِّواية الثَّانية: لا يملكه

(3)

بدون القسمة، ونصرها القاضي في «خلافه» في المضاربة.

ويستقرُّ الملك

(4)

بالمقاسمة عند القاضي وأصحابه، ولا يستقرُّ بدونها.

ومن الأصحاب من قال: يستقرُّ بالمحاسبة التَّامَّة؛ كابن أبي موسى وغيره، وبذلك جزم أبو بكر عبد العزيز، وهو المنصوص صريحاً عن أحمد.

(5)

ولهذا الاختلاف فوائد:

(1)

في (ب): وذكر.

(2)

في (ب): يملك.

(3)

في (ب) و (ج): يملك.

(4)

زاد في (ب): فيها.

(5)

ينظر: مسائل ابن منصور (3/ 1092)، المغني (3/ 65).

ص: 294

منها

(1)

: انعقاد الحول على حصَّة المضارب من الرِّبح قبل القسمة.

فإن قيل: لا يملك بدونها؛ فلا انعقاد قبلها.

وإن قيل: يملك بمجرَّد الظُّهور؛ فهل ينعقد الحول عليها قبل استقرار الملك فيها، أم لا ينعقد بدون الاستقرار؟ فيه للأصحاب طرق:

إحداها

(2)

: لا ينعقد الحول عليها قبل الاستقرار بحال من غير خلاف، وهي طريقة القاضي في «المجرَّد» و «الخلاف» ومن اتَّبعه، وكذلك طريقة أبي بكر وابن أبي موسى، إلَّا أنَّ القاضي عنده الاستقرار: بالقسمة، وعندهما: بالمحاسبة التَّامَّة؛ فينعقد الحول عندهما بالمحاسبة، وهو المنصوص عن أحمد رحمه الله في رواية صالح وابن منصور وحنبل

(3)

.

والطَّريقة الثَّانية: إن قلنا: يملكه بالظُّهور؛ انعقد عليه الحول من حينه، وإلَّا فلا، وهي طريقة القاضي في موضع من «الجامع الصَّغير» ، وأبي الخطَّاب.

(1)

في (أ) و (و) و (د): فمنها.

(2)

في (ب): أحدها.

(3)

جاء في مسائل ابن منصور (3/ 1092): قلت: سئل سفيان عن رجل أخذ مالاً مضاربة، فربح فيه، أيؤدي زكاته، أو ينتظر حتى يؤدي إلى صاحب المال ماله؟ قال: بل ينتظر حتى يؤدي إلى صاحبه؛ لأنه لم يسلم له بعد.

قال أحمد: (إن كان احتسبا؛ زكى المضارب إذا حال عليه الحول من يوم احتسبا؛ لأنه علم ماله في المال؛ لأنه إن وضع بعد ذلك كانت الوضيعة على صاحب المال).

ص: 295

والطَّريقة الثَّالثة: إن قلنا: لا يثبت الملك قبل الاستقرار؛ لم ينعقد الحول، وإن قلنا: يثبت بدونه؛ فهل ينعقد قبله؟ على وجهين، وهي طريقة ابن عقيل، وصاحبي «المغني» و «المحرَّر» ، ولكنَّهما رجَّحا عدم الانعقاد، وابن عقيل صحَّح الانعقاد في باب المضاربة.

وأمَّا ربُّ المال؛ فعليه زكاة رأس ماله مع حصَّته من الرِّبح، وينعقد الحول عليها بالظُّهور.

وأمَّا بقيَّة الرِّبح؛ فلا يلزمه زكاته، سواء قلنا: يملكه العامل بالظُّهور أو لا، في ظاهر كلام أحمد، وهو قول القاضي والأكثرين؛ لأنَّه إن سَلِم؛ فهو للعامل، وإن تلف؛ فات عليهما.

وحكى أبو الخطَّاب عن القاضي: أنَّه يلزمه زكاته إذا قلنا: لا يملكه العامل بدون القسمة، وهو ظاهر كلام القاضي في «خلافه» في مسألة المزارعة، وهو ضعيف.

ومنها: لو اشترى العامل بعد ظهور الرِّبح من يعتق عليه بالملك؛ ففيه طريقان:

أحدهما: البناء على الملك بالظُّهور وعدمه، فإن قلنا: يملك به؛ عتق عليه، وإلَّا فلا، كذلك قال القاضي في «خلافه» ، وابنه أبو الحسين، وأبو الفتح الحلوانيُّ.

والطَّريق الثَّاني: إن قلنا: لا يملك بالظُّهور؛ لم يعتق، وإن قلنا: يملك به؛ فوجهان - كذا قال جماعة منهم صاحب «التَّلخيص» -:

ص: 296

أحدهما: يعتق عليه؛ للملك، وهو قول القاضي وأبي الخطَّاب، وأومأ إليه أحمد في رواية ابن منصور.

والثَّاني: لا يعتق؛ لعدم استقرار الملك، وهو قول أبي بكر في «التَّنبيه» ؛ فإنَّ الملك فيه غير تامٍّ، ولهذا لا يجري في حول الزَّكاة كما سبق، والعتق يستدعي ملكاً تامًّا، بدليل أنَّ المكاتب لا يعتق عليه ذو رحمه بملكه.

والأوَّل أصحُّ؛ فإنَّ العتق يسري إلى ملك الأجنبيِّ المحض، ولا يمنعه الدَّين، بخلاف الزَّكاة، والمكاتب ليس من أهل التَّبرُّع، ولهذا لو باشر العتق بقوله؛ لم ينفذ؛ فكذا بالملك، وأولى.

وعلى هذا؛ إذا اشترى رَحِمَهُ بعد ظهور الرِّبح؛ عتق عليه منه بقدر حصَّته، ثمَّ إن كان موسراً سرى عليه؛ لأنَّ العتق بالشِّراء، وهو من فعله باختياره.

ولو اشترى قبل ظهور الرِّبح، ثمَّ ظهر الرِّبح بارتفاع الأسواق - وقلنا: يملك به -؛ عتق عليه نصيبه، ولم يسرِ؛ إذ لا اختيار له في ارتفاع الأسواق، ذكره في «التَّلخيص» .

ومنها: لو وطئ العامل أمةً من مال المضاربة بعد ظهور الرِّبح، فإن قلنا: يملكه بالظُّهور؛ فالولد حرٌّ، وعليه قيمة الأمة، وتصير أمَّ ولد له، وإن لم يكن ظهر

(1)

ربح؛ لم يثبت شيء من ذلك، ونصَّ عليه

(2)

أحمد

(1)

زاد في (ب) و (ج): (له)، وضرب عليها في (أ).

(2)

في (ب): على ذلك.

ص: 297

في رواية ابن منصور

(1)

.

وهل عليه الحدُّ إذا لم يكن ظهر ربح؟ على وجهين:

أحدهما: لا حدَّ عليه، ويعزَّر، ونصَّ عليه في رواية ابن منصور

(2)

، واختاره صاحب «المغني» ؛ لأنَّ الرِّبح ينبني على التَّقويم، وهو أمر اجتهادي لا يقطع به.

والثَّاني: عليه الحدُّ، قاله القاضي؛ لانتفاء الملك وشبهته.

ومنها: لو اشترى العامل لنفسه من مال المضاربة، فإن لم يظهر ربح؛ صحَّ، نصَّ عليه

(3)

؛ لأنَّه ملك لغيره.

وكذلك إن ظهر ربح وقلنا: لا يملكه بالظُّهور.

وإن قلنا: يملكه به

(4)

؛ فهو كشراء أحد الشَّريكين من مال الشركة، والمذهب: أنَّه يبطل في قدر حقِّه؛ لأنَّه ملكه؛ فلا يصحُّ شراؤه له، وفي الباقي روايتا تفريق الصَّفقة.

وخرَّج أبو الخطَّاب رواية بصحَّته في الكلِّ، من الرِّواية الَّتي نُجيز

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2999): قلت: قال سفيان في رجل دفع إلى رجل خمسين ديناراً مضاربة، فقال: اشتر بها ما شئت، فاشترى بها جارية، فوقع عليها: إن كانت يوم وقع عليها ثمن خمسين ديناراً؛ يغرم العقر، ويعزر، والولد مملوك. قال أحمد:(صدق). فإن كانت يوم وقع عليها ثمن ستين ديناراً: فله نصف الربح، والولد له، ويضمن ثمن الجارية. قال أحمد:(جيد).

(2)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2999) الرواية السابقة.

(3)

ينظر: المغني (5/ 43).

(4)

قوله: (به) سقط من (ب).

ص: 298

فيها لربِّ المال أن يشتري من مال المضاربة لنفسه؛ لأنَّ علاقة حقِّ المضارب به صيَّرته كالمنفرد عن ملكه؛ فكذا المضارب مع ربِّ المال، وأولى.

ومنها: لو اشترى العامل شقصاً للمضاربة وله فيه شركة؛ فهل له الأخذ بالشُّفعة؟ فيه طريقان

(1)

:

إحداهما: ما قال أبو الخطَّاب ومن تابعه: فيه وجهان:

أحدهما: لا يملك الأخذ، واختاره في «رؤوس المسائل» ؛ لأنَّه يتصرَّف لربِّ المال، فامتنع أخذه، كما يمتنع شراء الوصيِّ والوكيل مما

(2)

يتولَّيان بيعه.

والثَّاني: له الأخذ، وخرَّجه من وجوب الزَّكاة عليه في حصَّته؛ فإنَّه يصير حينئذ شريكاً، يتصرَّف لنفسه ولشريكه، ومع تصرُّفه لنفسه تزول التُّهمة، ولأنَّه يأخذ بمثل الثَّمن المأخوذ به؛ فلا تهمة، بخلاف شراء الوصيِّ والوكيل، وعلى هذا؛ فالمسألة مقيَّدة بحال

(3)

ظهور الرِّبح ولا بدَّ.

والطَّريقة الثَّانية: ما قال صاحب «المغني» : إن لم يكن في المال ربح، أو كان وقلنا: لا يملكه بالظُّهور؛ فله الأخذ؛ لأنَّ الملك لغيره، فله الأخذ منه.

(1)

في (ب): طريقتان.

(2)

في (أ): بما. وفي (ج): ما.

(3)

في (ج) و (د) و (هـ): حالة. وفي (ب) و (و) و (ن): بحالة.

ص: 299

وإن كان فيه ربح، وقلنا: يُملك بالظُّهور؛ ففيه الوجهان؛ بناء على شراء العامل من مال المضاربة بعد ملكه من الرِّبح على ما سبق.

ومنها: لو أسقط العامل حقَّه من الرِّبح بعد ظهوره، فإن قلنا: يملكه بالظُّهور؛ لم يسقط.

وإن قلنا: لا يملكه بدون القسمة؛ فوجهان، وقد سبقت في القواعد

(1)

.

ومنها: لو قارض المريضُ، وسمَّى للعامل فوق تسمية المثل؛ فقال القاضي والأصحاب: يجوز، ولا يحسب من الثُّلُث؛ لأنَّ ذلك لا يُؤخذ من ماله، وإَّنما يستحقُّه بعمله من الرِّبح الحادث؛ فيحدث على ملك العامل دون المالك.

وهذا إنَّما يتوجه على القول بأنَّه يملكه بالظُّهور.

فإن قلنا: لا يملكه بدون القسمة؛ احتمل أن يحسب من الثُّلث؛ لأنَّه خارج حينئذ من ملكه، واحتمل ألَّا يحتسب منه، وهو ظاهر كلامهم؛ لأنَّ المال الحاصل لم يفوِّت عليهم منه شيئاً، وإنَّما زادهم فيه ربحاً.

(1)

ينظر: القاعدة (85) ص ......

ص: 300

[9] الموقوف عليه؛ هل يملك رقبة الوقف، أم لا

؟

في المسألة روايتان معروفتان:

أشهرهما: أنَّه ملك للموقوف

(1)

عليه.

والثَّانية: لا.

فعلى هذه هل هو ملك للواقف، أو لله تعالى؟ فيه خلاف أيضاً.

ويتنزَّل على هذا الاختلاف مسائل كثيرة:

منها: زكاة الوقف، إذا كان ماشية موقوفة على معيَّن؛ فهل تجب عليه زكاتها؟ فيه طريقتان:

إحداهما: بناؤه على هذا الخلاف؛ فإن قلنا: هو ملك للموقوف عليه؛ فعليه زكاتها، وإن قلنا: هو ملك لله؛ فلا زكاة، وهذه طريقة «المحرَّر» ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية مهنَّى وعليٍّ بن سعيد.

وعلى هذا؛ فإن قلنا: ملكه للواقف؛ فعليه زكاته، ونصَّ أحمد على أنَّ من وقف على أقاربه؛ فإنَّ الزَّكاة عليه، بخلاف من وقف على المساكين

(2)

.

(1)

في (أ) و (د): الموقوف.

(2)

قال في الكافي (1/ 380): (وروى مهنى عن أحمد، فيمن وقف أرضاً أو غنماً في السبيل: لا زكاة عليه ولا عشر، هذا في السبيل، إنما يكون ذلك إذا جعله في قرابته، وهذا يدل على إيجاب الزكاة فيه إذا كان لمعين).

ص: 301

والطَّريقة الثَّانية: لا زكاة فيه على الرِّوايتين، قاله القاضي وابن عقيل؛ لقصور الملك فيه، فأمَّا الشَّجر الموقوف؛ فيجب الزَّكاة في ثمره على الموقوف عليه وجهاً واحداً؛ لأنَّ ثمره ملك للموقوف عليه.

وقال الشِّيرازيُّ: لا زكاة فيه أيضاً، ونقله غيره روايةً.

ومنها: لو جنى الوقف؛ فأرش جنايته على الموقوف عليه إذا قيل: إنَّه مالكه؛ لأنَّه امتنع من تسليمه؛ فيلزمه فداؤه.

وإن قيل: هو ملك لله؛ فالأرش من كسب العبد، وقيل: بل من بيت المال.

وفيه وجه: لا يلزم الموقوف عليه الأرش على القولين؛ لأنَّ امتناعه من التَّسليم بغير اختياره؛ إذ لا قدرة له على التَّسليم بحال.

ومنها: إذا كان الوقف أمة؛ فولاية تزويجها للموقوف عليه إن قيل: إنَّه يملكها.

وإن قيل: هي ملك لله تعالى؛ فالولاية للحاكم، فيزوِّجها بإذن الموقوف عليه.

وإن قيل: هي ملك للواقف؛ فهو الوليُّ.

ومنها

(1)

: نظر الوقف إذا لم يُشرَط له ناظر؛ فعلى القول بملك

(2)

الموقوف عليه: له النَّظر فيه.

وعلى القول بأنَّ ملكه لله: نظره للحاكم.

(1)

في (أ) و (و): منها.

(2)

في (ب): يملك.

ص: 302

وظاهر كلام أحمد: أنَّ نظره للحاكم، وهو قول ابن أبي موسى، قال الحارثيُّ: وعندي أنَّ هذا لا يختصُّ بالقول بانتفاء ملك الموقوف عليه، بل ينظر فيه الحاكم وإن قلنا: ملكه للموقوف عليه؛ لعلاقة حقِّ من يأتي بعدُ

(1)

.

ومنها: هل يَستحِقُّ الشُّفعةَ بشركة الوقف؟ فيه طريقان:

أحدهما: البناء على أنَّه هل يملكه الموقوف عليه؟ فإن قيل: يملكه؛ استَحَقَّ به الشُّفعة، وإلَّا فلا.

والثَّاني: الوجهان بناءً على قولنا: يملكه، وهذا ما قال صاحب «المحرر» ؛ لأنَّ الملك قاصر.

وهذا كلُّه متفرِّع على المذهب في جواز قسمة الوقف من المطلق

(2)

، أمَّا على الوجه الآخر بمنع القسمة؛ فلا شفعة؛ إذ لا شفعة في ظاهر المذهب إلَّا فيما يقبل القسمة من العقار.

وكذلك بنى صاحب «التَّلخيص» الوجهين هنا على الخلاف في قبول القسمة.

ومنها: لو زرع الغاصب في أرض الوقف؛ فهل للموقوف عليه تملُّكه بالنَّفقة؟

إن قيل: هو المالك؛ فله ذلك، وإلَّا فلا؛ فهو كالمستأجر مالك

(3)

(1)

في (ب): بعده.

(2)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): الطَّلق.

(3)

في (أ): ومالك.

ص: 303

للمنفعة؛ ففيه تردُّد سبق ذكره في القواعد.

(1)

ومنها: نفقة الوقف، وهي في غلَّته ما لم يشرط من غيرها، فإن لم يكن له غلَّة؛ فوجهان:

أحدهما: نفقته على الموقوف عليه.

والثَّاني: من بيت المال.

فقيل: هما مبنيَّان على انتقال الملك إليه وعدمه.

وقد يقال بالوجوب عليه وإن كان الملك لغيره؛ كما نقول بوجوبها على الموصى له بالمنفعة على وجه.

ومنها: لو فضَّل بعض ولده على بعض في الوقف؛ فالمنصوص: الجواز، بخلاف الهبة.

فقيل: هو بناءٌ على أنَّ الملك لا ينتقل إلى الموقوف عليه، فإن قلنا بانتقاله؛ لم يجز؛ كالهبة، وهو قول أبي الخطاب وغيره.

وقيل: بل يجوز على القولين؛ لأنَّه لم يخصَّه بالملك، بل جعله ملكاً لجهة متَّصلة على وجه القربة، وجعل الولد بعض تلك الجهة.

وشبيه بهذا؛ وقف المريض على وارثه؛ هل يقف على الإجازة كهبته، أم ينفذ من الثُّلث؛ لأنه ليس تخصيصاً للوارث، بل تمليك لجهة متَّصلة، والوارث بعض أفرادها؟ وفيه روايتان.

ومنها: الوقف على نفسه، وفي صحَّته روايتان، وبناهما أبو الخطَّاب على هذا الأصل، فإن قلنا: الوقف ملك للموقوف عليه؛ لم

(1)

ينظر: نهاية القاعدة (79) ص .....

ص: 304

يصحَّ وقفه على نفسه؛ لأنَّه لا يصحُّ أن يزيل الإنسان ملك نفسه إلى نفسه.

وإن قلنا: لله تعالى؛ صحَّ.

ومنها: الوقف المنقطع

(1)

؛ هل يعود إلى ورثة الموقوف عليه، أو إلى ورثة الواقف؟

فيه روايتان، والمنصوص عن أحمد في رواية حرب وغيره: أنَّه يعود إلى ورثة الموقوف عليه

(2)

.

وظاهر كلامه: أنَّه يعود إليهم إرثاً لا وقفاً، وبه جزم الخلَّال في «الجامع» ، وابن أبي موسى.

وهذا يتنزَّل

(3)

على القول بأنَّه ملك للموقوف عليه؛ كما صرَّح به أبو الخطَّاب وغيره.

ويشهد له: أنَّ أحمد في رواية حنبل شبَّه الوقف المنقطع بالعمرى والرُّقبى، وجعلها لورثة الموقوف عليه، كما ترجع العمرى والرقبى إلى ورثة الُمعطَى

(4)

.

(1)

في (أ): على المنقطع.

(2)

ينظر: الوقوف والترجل للخلال (ص 53)، ونصها:(سألت أحمد قلت: رجل تصدق بصدقة على رجل فقال: هذا ما تصدق به فلان على فلان سهم كذا من أرض كذا، لا يباع ولا يوهب، ولم يقل أكثر من هذا، ثم مات المصَّدَّق عليه؟ قال: هو لورثته. قال: فإن لم يكن له ورثة؟ قال: يرجع إلى ورثة هذا الذي تصدق).

(3)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): متنزِّل.

(4)

ينظر: الوقوف والترجل (ص 44)، وفيه:(العمرى والرقبى والوقف معنًى واحد، إذا لم يكن منه شرط؛ لم يرجع إلى ورثة المعمِر، فإن شرط في وقف فقال: حياته؛ فإنها ترجع لورثة المعمِر، فإن جعلها له حياته وبعد وفاته؛ كانت لورثته للذي أُعْمِرَها، وإلا رجعت إلى ورثة الأول).

قال في المغني (6/ 68): (وصورة العمرى: أن يقول الرجل: أعمرتُك داري هذه، أو هي لك عُمُري، أو ما عاشت، أو مدة حياتك، أو ما حييت، أو نحو هذا، سميت عمرى؛ لتقييدها بالعُمُر.

والرقبى أن يقول: أرقبتك هذه الدار، أو هي لك حياتك، على أنك إن مت قبلي عادت إلي، وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك).

ص: 305

وجعل الخلَّال حكم الوقف المنقطع والعمرى واحداً.

وأنكر الشَّيخ مجد الدِّين هذا البناء، وادَّعى أنَّه إنَّما يرجع وقفاً على الورثة؛ فلا يستلزم ملك الموقوف عليه، وهذا مخالف لنصِّ أحمد لمن تأمَّله.

نعم، فرَّق أحمد في رواية أبي طالب بين الوقف المنقطع والعمرى: بأنَّ العمرى ملك للمُعْمِر، والوقف ليس يملك به شيئاً، إنَّما هو لمن أوقفه، يضعه حيث يشاء؛ مثل السُّكنى

(1)

.

(1)

ينظر: الوقوف والترجل للخلال (ص 50)، ونصها:(أن أبا عبد الله قال: العمرى والرقبى واحد، إذا كان هذه الدار لفلان حياته، فإذا مات فهي لفلان أو لولدي؛ فهي العمرى والرقبى، فهي لورثة الأول الذي أَعْمَرَ وأَرْقَبَ من شيئًا حياته، فهو لورثته بعد موته؛ لأنه جعلها له حياته فهي له حياته وبعد وفاته لورثته، وإذا قال: هي وقف على فلان، فإذا مات فلان فهي لولدي أو لفلان بعده؛ فهو كما قال: إذا مات فهي لولده ولمن أوصى له، الوقف ليس يملك منه شيء إنما هو لمن أوقفه يضعه حيث يشاء مثل السكنى).

ص: 306

فهذه الرِّواية تدلُّ على أنَّ الموقوف عليه لا يملك سوى المنفعة، وإن قلنا

(1)

: الرَّقبة ملك للواقف.

ومنها: لو وطئ الموقوف عليه الأمة الموقوفة، فأولدها؛ فلا حدَّ؛ لأنَّها إمَّا ملك له، أو له فيها شبهة ملك.

وهل تصير أمَّ ولد له؟

إن قلنا: هي ملك له؛ صارت مستولَدة له؛ فتَعتِقُ بموته، ويُؤخذ قيمتها من تركته؛ فيُشتَرى بها رقبة مكانها تكون وقفاً.

وإن قلنا: لا يملكها؛ لم تصر مستولدة، وهي وقف بحالها.

ومنها: تزوُّج الموقوف عليه الأمة الموقوفة، فإن قيل: هي ملك له؛ لم يصحَّ، وإلَّا صحَّ، ذكره صاحب «التَّلخيص» وغيره.

وفيه نظر؛ فإنَّه يملك منفعة البضع على كلا القولين، ولهذا يكون المهر له.

(1)

في (ب): وأن. مكان قوله: (وإن قلنا)

ص: 307

[10] إجازة الورثة؛ هل هي تنفيذ للوصيِّة، أو ابتداء عطيَّة

؟

في المسألة روايتان معروفتان، أشهرهما: أنَّها تنفيذ.

وهذا الخلاف قيل: إنَّه مبنيٌّ على أنَّ الوصيَّة بالزَّائد على الثُّلث؛ هل هو باطل أو موقوف على الإجازة؟

وقيل: بل هذا الخلاف مبنيٌّ على القول بالوقف، أمَّا على البطلان؛ فلا معنى للتَّنفيذ، وهو أشبه.

وقرَّر الشَّيخ تقيُّ الدِّين: أنَّ الوارث إذا أسقط حقَّه قبل القسمة؛ فإنَّه يسقط، وطرد هذا في الأعيان المشاعة؛ كالغانم إذا أسقط حقَّه من الغنيمة، والموقوف عليه إذا أسقط حقَّه من الوقف، والمضارب إذا أسقط حقَّه من الرِّبح، وأحد الزَّوجين إذا عفا عن حقِّه من المهر إذا كان عيناً، وألحق المشاع بالدُّيون

(1)

في جواز إسقاطه قبل القسمة.

ولهذا الخلاف في الإجازة

(2)

فوائد كثيرة:

منها: أنَّه لا يشترط لها شروط الهبة، من الإيجاب والقبول والقبض، فيصحُّ بقوله: أجزتُ، وأنفذتُ، ونحو ذلك، وإن لم يقبل الموصى له في المجلس.

(1)

في (ب) و (ن): بالدَّين.

(2)

قوله: (في الإجازة) سقط من (أ) و (ج) و (و).

ص: 308

وإن قلنا: هي هبة؛ افتقرت إلى إيجاب وقبول، ذكره ابن عقيل وغيره.

وكلام القاضي يقتضي أنَّ في صحَّتها بلفظ الإجازة إذا قلنا: هي هبة؛ وجهين، قال الشَّيخ مجد الدِّين: والصِّحة ظاهر المذهب.

وهل يعتبر أن يكون المجاز معلوماً للمجيز؟

ففي «الخلاف» للقاضي و «المحرَّر» : هو مبنيٌّ على هذا الخلاف، وصرَّح بعد ذلك صاحب «المحرَّر»: بأنَّه لو أجاز قدراً منسوباً من المال، ثمَّ قال: ظننت المال قليلاً: أنَّه يقبل قوله.

ولا تنافيَ بينهما؛ لوجهين:

أحدهما: أنَّ صحَّة إجازة

(1)

المجهول لا ينافي ثبوت الرُّجوع فيه إذا تبيَّن فيه ضرر على المجيز لم يعلمه؛ استدراكاً لظلامته؛ كما نقول فيمن أسقط شفعته لمعنًى، ثمَّ بان بخلافه؛ فإنَّ له العود إليها، فكذلك ههنا إذا أجاز الجزء الموصى به يظنُّه قليلاً؛ فبان كثيراً؛ فله الرُّجوع بما زاد على ما في ظنِّه.

والثَّاني: أنَّه إذا اعتقد أنَّ النِّصف الموصى به - مثلاً - مائة وخمسون درهماً، فبان ألفاً؛ فهو إنَّما أجاز خمسين درهماً، لم يجز أكثر منها؛ فلا تنفذ إجازته في غيرها.

وهذا بخلاف ما إذا أجاز النِّصف كائناً ما كان؛ فإنَّه يصحُّ ويكون إسقاطاً لحقِّه من المجهول، فينفذ؛ كالإبراء.

(1)

قوله: (إجازة) سقط من (ب).

ص: 309

وطريقة صاحب «المغني» : أنَّ الإجازة لا تصحُّ

(1)

بالمجهول، ولكن؛ هل يصدَّق في دعوى الجهالة؟ على وجهين.

ومن الأصحاب من قال: إن قلنا: الإجازة تنفيذ؛ صحَّت بالمجهول ولا رجوع، وإن قلنا: هبة؛ فوجهان.

ومنها: لو وقف على وارثه فأجازه، فإن قلنا: الإجازة تنفيذ؛ صحَّ الوقف ولزم.

وإن قلنا: هبة؛ فهو كوقف الإنسان على نفسه

(2)

.

ومنها: إذا كان المجاز عتقاً، فإن قلنا: الإجازة تنفيذ؛ فالولاء للموصي يختصُّ به عصبته.

وإن قلنا: عطيَّة؛ فالولاء لمن أجاز، وإن كان أنثى.

ومنها: لو كان المجيز أباً للمجاز له؛ كمن وصَّى لولد ولده، فأجازه ولده؛ فليس للمجيز الرُّجوع فيه إن قلنا: هو تنفيذ.

وإن قلنا: عطيَّة؛ فله ذلك؛ لأنَّه قد وهب ولده مالاً.

ومنها: لو حلف لا يهب، فأجاز، فإن قلنا: هي عطيَّة؛ حنث، وإلَّا فلا.

ومنها: لو قبل الوصيَّة المفتقرة إلى الإجازة قبل الإجازة، ثمَّ أجيزت، فإن قلنا: الإجازة تنفيذ؛ فالملك ثابت له من حين قبوله أوَّلاً.

(1)

في (ب): يصحُّ.

(2)

كتب على هامش (و): وفي صحة وقف الإنسان على نفسه روايتان.

ص: 310

وإن قلنا: عطيَّة؛ لم يثبت الملك إلَّا بعد الإجازة، ذكره القاضي في «خلافه» .

ومنها: أنَّ ما جاوز الثُّلث من الوصايا إذا أجيز؛ هل يزاحِم بالزَّائد ما لم يجاوزه؟

هو مبنيٌّ على هذا الاختلاف، ذكره صاحب «المحرَّر» ، وأشكل توجيهه على الأصحاب، وهو واضح؛ فإنَّه إذا كانت معنا وصيَّتان، إحداهما مجاوزة للثُّلث، والأخرى لا تجاوزه؛ كثلث ونصف

(1)

، وأجاز الورثة الوصيَّة المجاوِزة

(2)

للثُّلث خاصَّةً.

فإن قلنا: الإجازة تنفيذ؛ زاحم صاحبُ النِّصف صاحبَ الثُّلث بنصف كامل؛ فيقسم الثُّلث بينهما على خمسة، لصاحب النِّصف ثلاثة أخماسه، وللآخر خُمُساه، ثمَّ يُكمَّل لصاحب النِّصف نصفه بالإجازة.

وإن قلنا: الإجازة عطية؛ فإنَّما يزاحمه بثلث خاصَّةً؛ إذ الزِّيادة عليه عطيَّة محضة من الورثة لم تُتَلقَّ من الميِّت؛ فلا يزاحم بها الوصايا؛ فيقسم الثُّلث بينهما نصفين

(3)

،

(1)

قوله: (كثلث ونصف) هو في (ب) و (ج) و (هـ) و (و) و (ن): كنصف وثلث.

(2)

في (أ): للمجاوزة.

(3)

كتب على هامش (و) و (ن): (لأن الوصية بما زاد على الثلث باطلة، كما بين المصنف في آخر هذا الكلام على هذه المسألة: أن الخلاف فيها في كون الإجازة تنفيذاً أو ابتداءَ عطيةٍ؛ مفرع على القول بإبطال الوصية بالزائد على الثلث وصحتها، فإن قلنا بصحة الوصية بالزائد على الثلث وأجازه الورثة؛ فالإجازة تنفيذ للوصية، وإن قلنا ببطلان الوصية بالزائد على الثلث وأجازه الورثة؛ فهي ابتداء عطية، فيكون الموصي كأنه أقرَّ بثلث لإنسان وبثلث لآخر، فيقسم الثلث بينهما نصفين، كما لو أوصى لكل منهما بالثلث ابتداء، فقِسْمَةُ الثلث بينهما على هذا صحيحة، وليس كما قال شيخ الإسلام ابن نصر الله: إنها ليست صحيحة، بل تجب قسمة الثلث أخماساً، سواء قلنا الإجازة تنفيذ أو ابتداء عطية، وإن دعوى المصنف لوضوح ما قاله صاحب «المحرر» ليس صواباً، وما قاله المصنف من تفريع الخلاف على القول بإبطال الوصية بالزائد على الثلث وصحتها صرح به صاحب «الفروع»، وحلَّ به قاضي القضاة ناصر الدين الكناني عبارة «المحرر»، فاتضح بذلك عبارته وإن كان ظاهرها مشكلاً، والله أعلم).

قال في الإنصاف (17/ 232) بعد أن ذكر كلام ابن رجب: (وقد تكلم القاضي محب الدين بن نصر الله البغدادي على هذه المسألة في كراسة بما لا طائل تحته. وما قاله ابن رجب صحيح واضح).

ص: 311

ثمَّ يكمل لصاحب النِّصف ثلثٌ

(1)

بالإجازة، وهذا مبنيٌّ على أنَّ القول بأنَّ الإجازة عطيَّة أو تنفيذ مفرَّع على القول بإبطال الوصيَّة بالزائد على الثُّلث وصحَّتها؛ كما سبق.

ومنها: لو أجاز المريض في مرض موته وصيَّة موروثه، فإن قلنا: إجازته عطيَّة؛ فهي معتبرة من ثلثه.

(1)

كتب على هامش (و) و (ن): (أي: يضاف إلى السدس الذي حصل له من قسمة الثلث بينه وبين الموصى له بالثلث، فيكمل له النصف الذي أوصي له به).

ص: 312

وإن قلنا: تنفيذ؛ فطريقان:

أحدهما: القطع بأنَّها من الثُّلث أيضاً، كذا قال القاضي في «خلافه» وصاحب «المحرر» ، وشبَّهه بالصَّحيح إذا حابى في بيع له فيه خيار، ثمَّ مرض في مدَّة الخيار؛ فإنَّه تصير محاباته من الثُّلث؛ لأنَّه تمكَّن من استرداد ماله إليه، فلم يفعل، فقام ذلك مقام ابتداء إخراجه في المرض، ونظيره لو وهب الأب لولده شيئاً، ثمَّ مرض وهو بحاله ولم يرجع فيه.

والطَّريق الثَّاني: أنَّ المسألة على وجهين، وهي طريقة أبي الخطَّاب في «انتصاره» ، وهما منزَّلان على أصل الخلاف في حكم الإجازة، وقد يتنزَّلان على أنَّ الملك هل ينتقل إلى الورثة في الموصى به، أم تمنع الوصيَّة الانتقال؟ وفيه وجهان.

فإن قلنا: ينتقل إليهم؛ فالإجازة من الثُّلث؛ لأنَّه إخراج مال مملوك، وإلَّا فهي من رأس المال؛ لأنَّه امتناع من تحصيل مال لم يدخل بعد في ملكه، وإنَّما تعلَّق به حقُّ ملكه، بخلاف محاباة الصَّحيح إذا مرض، فإنَّ المال كان على ملكه، وهو قادر على استرجاعه.

ومنها: إجازة المفلس، وفي «المغني»: هي نافذة، وهو يتنزَّل

(1)

على القول بالتَّنفيذ.

ولا يبعد على قول القاضي في الَّتي قبلها ألَّا ينفذ، وقاله صاحب «المغني» في السَّفيه، معلِّلاً بأنَّه ليس من أهل التَّبرُّع.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): منزَّل.

ص: 313

[11] الموصى له؛ هل يملك الوصيَّة من حين الموت، أو من حين قبوله لها

؟

في المسألة وجهان معروفان.

وعلى القول بأنَّه إنَّما يملكها من حين قبوله؛ فهل هي قبله على ملك الميِّت، أو على ملك الورثة؟

على وجهين أيضاً، وأكثر الأصحاب على القول بأنَّه ملك للموصى له، وهو قول أبي بكر والخرقيِّ ومنصوص أحمد، بل نصَّ أحمد في مواضع

(1)

على أنَّه لا يعتبر له القبول؛ فيملكه قهراً؛ كالميراث، وهو وجه للأصحاب، حكاه غير واحد.

ولهذا الاختلاف فوائد عديدة:

فمنها: حكم نمائه بين الموت والقبول؛ فإن قلنا: هو على ملك الموصى له؛ فهو له

(2)

، لا يحسب عليه من الثُّلث.

وإن قلنا: هو على ملك الميِّت؛ فتتوفَّر به التَّركة، فيزداد به الثُّلث.

وإن قلنا: على ملك الورثة؛ فنماؤه لهم خاصَّةً.

(1)

في (ب): موضع.

(2)

قوله: (له) سقط من (أ).

ص: 314

وذكر القاضي في «خلافه» : أنَّ ملك الموصى له لا يتقدَّم القبول، وأنَّ النَّماء قبله للورثة، مع أنَّ العين باقية على حكم ملك الميِّت؛ فلا يتوفَّر به الثُّلث؛ لأنَّه لم يكن ملكاً له حين الوفاة.

وذكر أيضاً: إذا قلنا: إنَّه مراعًى، وإنَّا نتبين بقبول الموصى له ملكه له من حين الموت؛ فإنَّ النَّماء يكون للموصى له معتبراً من الثُّلث، فإن خرج من الثُّلث مع الأصل؛ فهما له، وإلَّا كان له بقدر الثُّلث من الأصل، فإن فَضَل شيء من الثُّلث؛ كان له من النَّماء.

ومنها: لو نَقَص الموصى به في سعر أو صفة؛ ففي «المحرَّر» : إن قلنا: يملكه بالموت؛ اعتبرت قيمته من التركة بسعره يوم الموت على أدنى صفاته من يوم الموت إلى القبول؛ لأنَّ الزِّيادة حصلت في ملكه؛ فلا تحتسب

(1)

عليه، والنَّقص لم يدخل في ضمانه، بل هو من ضمان التركة، ولهذا لو تلفت العين أو بعضها؛ لبطلت الوصيَّة

(2)

في التَّالف، وأمَّا نقص الأسعار؛ فلا يُضمن عندنا.

وإن قلنا: يملكه من حين القبول؛ اعتبرت قيمته يوم القبول سعراً وصفةً

(3)

؛ لأنَّه لم يملكه قبل ذلك.

(1)

قوله: (تحتسب) هو في (ب) و (د): يحتسب. وفي (ج): يحسب.

(2)

كتب على هامش (ن): (قوله: "لبطلت الوصية" أي: كأنها لم توجد بالكلية، فلذلك لم يدخل النقص في ضمانه، وإنما يكون من ضمان التركة).

(3)

في (أ): أو صفة.

ص: 315

والمنصوص عن أحمد في رواية ابن منصور، وذكره الخرقيُّ: أنَّه تعتبر قيمته يوم الوصيَّة

(1)

، ولم يحكِ صاحب «المغني» فيه خلافاً.

فظاهره: أنَّه يُعتبر بيوم

(2)

الموت على الوجوه كلِّها؛ لأنَّ حقَّه تعلَّق بالموصى به تعلُّقاً قطع تصرُّف الورثة فيه؛ فيكون ضمانه عليه؛ كالعبد الجاني إذا أخَّر المجني عليه استيفاء حقِّه منه حتَّى تلف أو نقص.

ومنها: لو كان الموصى به أمةً، فوطئها الموصى له قبل القبول وبعد الموت، فإن قلنا: الملك له؛ فهي أمُّ ولده، وإلَّا فلا.

ولو وطئها الوارث، فإن قلنا: الملك له؛ فهي أمُّ ولد، ويلزمه قيمتها للموصى له، وإن قلنا: لا يملكها؛ لم تكن أمَّ ولد له.

ومنها: لو وصَّى بأمة لزوجها، فلم يعلم حتَّى أولدها أولاداً، ثمَّ قَبِلَ الوصيَّة، فإن قيل: يملكها بالموت؛ فولده حرٌّ، والأمة أمُّ ولده، ويبطل

(3)

نكاحه بالموت.

وإن قيل: لا يملكها إلَّا بعد القبول؛ فنكاحه باقٍ قبل القبول، وولده رقيق للوارث.

ومنها: لو وصَّى لرجل بأبيه، فمات الموصى له قبل القبول، وقلنا:

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (8/ 4337): قلت: قال سفيان: من أُوِصي له بشيء فلم يأخذه زماناً، فإنما يحتسب على الموصى له من قيمته يوم يأخذه، ولا يُنظر إلى ماكان قبل ذلك. قال أحمد:(وجب له يوم أوصى له).

(2)

في (ب): تعتبر بيوم. وفي (ج) و (و) و (ن): يعتبر يوم.

(3)

في (أ): وبطل.

ص: 316

يقوم وارثه مقامه فيه، فقبل ابنه؛ صحَّ وعتق.

وهل يرث من ابنه الميِّت، أم لا؟

إن قلنا: يملكه بالموت؛ فقد عتق به؛ فيكون حرًّا عند موت ابنه، فيرث منه.

وإن قلنا: إنَّما يملكه بعد القبول؛ فهو عند موت ابنه رقيق؛ فلا يرث.

ولو كانت الوصيَّة بمال في هذه الصُّورة، فإن قلنا: ثبت الملك بالموت؛ فهو ملك للميِّت، فتوفَّى منه ديونه ووصاياه.

وعلى الوجه الآخر: هو ملك للوارث

(1)

الَّذي قَبِل، ذكره في «المحرَّر» .

ويتخرَّج وجه آخر: أنَّه يكون ملكاً للموصى له على الوجهين؛ لأنَّ التَّمليك حصل له؛ فكيف يصحُّ الملك ابتداءً لغيره؟!

ولهذا نقول على إحدى الرِّوايتين: إنَّ المكاتب إذا مات وخلَّف وفاء: أنَّه يؤدَّى منه بقية مال الكتابة، ويتبيَّن بذلك موته حرًّا، مع أنَّ الحرِّيَّة لا تثبت للمكاتب إلَّا بعد الأداء.

ومنها: لو وُصِّي لرجل بأرض، فبنى الوارث فيها وغرس قبل القبول، ثمَّ قَبِل؛ ففي «الإرشاد»: إن كان الوارث عالماً بالوصيَّة؛ قُلع بناؤه وغرسُه مجَّاناً، وإن كان جاهلاً؛ فعلى وجهين.

وهذا متوجِّه على القول بالملك بالموت.

(1)

في (أ): الوارث.

ص: 317

أمَّا إن قيل: هي قبل القبول على ملك الوارث؛ فهي

(1)

كبناء مشتري الشِّقص المشفوع وغرسِه؛ فيكون محترماً، يُتملَّك بقيمته.

ومنها: لو بِيع شقص في شركة الورثة والموصى له قبل قبوله، فإن قلنا: الملك له من الموت؛ فهو شريك للورثة في الشُّفعة، وإلَّا فلا حقَّ له فيها.

ومنها: جريانه من حين الموت في حول الزَّكاة، فإن قلنا: ملكه للموصى له؛ جرى في حوله.

وإن قلنا: للورثة؛ فهل يجري في حولهم حتَّى لو تأخَّر القبول سنة كانت زكاته عليه، أم لا؛ لضعف ملكهم فيه وتزلزله، وتعلُّق حقِّ الموصى له به، فهو كمال المكاتب؟ فيه تردُّد.

(1)

في (ب) و (د) و (هـ) و (ن): فهو.

ص: 318

[12] الدَّين؛ هل يمنع انتقال التَّركة إلى الورثة، أم لا

؟

في المسألة روايتان:

أشهرهما: الانتقال، وهو اختيار أبي بكر والقاضي وأصحابه، قال ابن عقيل:(هي المذهب)، وقد نصَّ أحمد: أنَّ المفلس إذا مات؛ سقط حقُّ البائع من عين ماله؛ لأنَّ الملك انتقل إلى ورثته.

والرِّواية الثَّانية: لا ينتقل، نقلها ابن منصور في رجل مات وترك داراً وعليه دين، فجاء الغرماء يبيعون المال، وقال أحد بنيه: أنا أعطي ربع الدَّين ودعوا لي ربع الدَّار؛ قال أحمد: (هذه الدَّار للغرماء، لا يرثونها)

(1)

؛ يعني: الأولاد.

ولا فرق بين ديون الآدميِّين وديون الله عز وجل، ولا بين الدُّيون الثَّابتة في الحياة والمتجدِّدة بعد الموت بسبب منه يقتضي الضَّمان؛ كحفر بئر ونحوه، صرَّح به القاضي.

وهل يعتبر كون الدَّين محيطاً بالتَّركة، أم لا؟

ظاهر كلام طائفة اعتباره؛ حيث فرضوا المسألة في الدَّين المستغرِق، وكلام أبي الخطَّاب في «انتصاره» كالصَّريح فيه.

(1)

ينظر: مسائل ابن منصور (8/ 4499).

ص: 319

ومنهم من صرَّح بالمنع من الانتقال وإن لم يكن مستغرِقاً، ذكره في مسائل الشُّفعة.

وعلى القول بالانتقال؛ فيتعلَّق حقُّ الغرماء بها جميعها؛ وإن لم يستغرقها الدَّين، صرَّح به صاحب «التَّرغيب

(1)

».

وهل يتعلَّق

(2)

حقُّهم بها تعلُّق رهن أو جناية؟

فيه خلافٌ يتحرَّر بتحرير مسائل:

إحداها: هل يتعلَّق جميع الدَّين بالتَّركة وبكلِّ جزء من أجزائها، أم يتقسَّط؟

صرَّح القاضي في «خلافه» بالأوَّل إن كان الوارث واحداً، وإن كان متعدِّداً؛ انقسم على قدر حقوقهم، وتعلَّق بحصَّة كلِّ وارث

(3)

منهم قسطها من الدَّين وبكلِّ جزء منها؛ كالعبد المشترك إذا رهنه الشَّريكان بدين عليهما.

والثَّانية: هل يمنع هذا التَّعلُّق من نفوذ التَّصرُّف؟ وسنذكره.

والثَّالثة: هل يتعلَّق الدَّين بعين التركة مع الذِّمة؟ فيه للأصحاب

(4)

ثلاثة أوجه:

أحدها: ينتقل إلى ذمم الورثة، قاله القاضي وأبو الخطَّاب في

(1)

زاد في (ب) و (ج) و (ن): (المغني)، وضُرب عليها في (أ). وقد نقله العبارة المرداوي في الانصاف (5/ 309) وذكر الترغيب فقط.

(2)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (و): تعلَّق.

(3)

في (أ): واحد.

(4)

قوله: (فيه للأصحاب) هو في (أ): للأصحاب فيه.

ص: 320

«خلافهما» ، وابن عقيل.

ومنهم من قيَّده بالمؤجَّل

(1)

.

ومنهم من خصَّه بالقول بانتقال التَّركة إليهم.

والثَّاني: هو باقٍ في ذمَّة الميِّت، ذكره القاضي أيضاً، والآمديُّ، وابن عقيل في «فنونه» ، وصاحب «المغني» ، وهو ظاهر كلام الأصحاب في ضمان دين الميِّت.

والثَّالث: يتعلَّق بأعيان التَّركة فقط، قاله ابن أبي موسى.

ورُدَّ: بلزوم براءة ذمَّة الميِّت منها بالتَّلف.

وإذا عرف هذا؛ فلهذا الاختلاف فوائد:

منها: نفوذ تصرُّف الورثة فيها ببيع أو غيره من العقود، فإن قلنا بعدم الانتقال إليهم؛ فلا إشكال في عدم النُّفوذ.

وإن قلنا بالانتقال؛ فوجهان:

أحدهما: لا ينفذ، قاله القاضي في «المجرَّد» وابن عقيل في باب الشركة من كتابيهما، وحمل القاضي في غير «المجرَّد» رواية ابن منصور على هذا.

والثَّاني: ينفذ، قاله القاضي وابن عقيل أيضاً في باب الرَّهن والقسمة، وجعلاه المذهب، وإنَّما يجوز لهم التَّصرُّف بشرط الضَّمان، قاله القاضي؛ قال:(ومتى خلَّى الورثة بين التَّركة والغرماء؛ سقطت مطالبتهم بالدُّيون، ونصَّب الحاكم من يوفِّيهم منها، ولم يملكها الغرماء بذلك).

(1)

في (ب): بالرَّجل.

ص: 321

وهذا يدلُّ على أنَّهم إذا تصرَّفوا فيها طولبوا بالدُّيون كلِّها

(1)

؛ كما نقول

(2)

في سيِّد الجاني إذا فداه: إنَّه يَفْدِيه بأرش الجناية بالغاً ما بلغ على رواية، وكلام أحمد في رواية البرزاطيِّ ههنا يدلُّ عليه، وسنذكره.

وفي «الكافي» : إنَّما يضمنون أقلَّ الأمرين من قيمة التَّركة أو الدَّين.

وعلى الأوَّل

(3)

: ينفذ العتق خاصَّةً؛ كعتق الرَّاهن، ذكره أبو الخطَّاب في «انتصاره» .

(1)

كتب على هامش (و) و (ن): (في دلالة كلام القاضي على ذلك نظر، إنما يدل على أن الورثة يضمنون ما تصرفوا فيه، وكيف يضمنون ما زاد على ذلك مع أنه لم يصدر منهم عدوان ولا تعدٍّ يقتضي ضمانهم للزائد! وكذلك في دلالة رواية البرزاطي؛ فإنه ليس فيها أن الورثة تصرفوا في التركة، وإنما هي دالة على عدم انتقال التركة إلى الورثة، وأن حق الغرماء متعلِّق بغير التركة، وأين هذا من صحة نفوذ تصرف الورثة في التركة بناء على أنها انتقلت إليهم؟! والمذهب: أن السيد يَفْدي الجاني بأقل الأمرين [من قيمته أو أرش الجناية]، فكذلك الورثة إذا تصرفوا في التركة، ويؤيد هذا ما نقله عن «الكافي»، مع أن الشيخ في «الكافي» لم يحك غيره، وجَعْلُهم تعلُّقَ الدين بالتركة كتعلق أرش الجناية، والله أعلم)، ما بين المعقوفتين سقط من (و).

(2)

في (ب): يقول.

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: من الوجهين بعد قولنا في الانتقال إلى الورثة).

ص: 322

وحكى القاضي في «المجرَّد» في باب العتق في نفوذ العتق مع عدم العلم بالدَّين وجهين، وأنَّه لا ينفذ مع العلم.

وجعل صاحب «الكافي» مأخذهما: أنَّ حقوق الغرماء المتعلِّقة بالتَّركة؛ هل تملك

(1)

الورثة إسقاطها بالتزامهم الأداء من عندهم، أم لا؟

ورواية ابن منصور السَّابقة تدلُّ على أنَّهم لا يملكون ذلك.

وفي «النَّظريَّات» لابن عقيل: إنَّ عتق الورثة إنَّما ينفذ مع يسارهم دون إعسارهم؛ اعتباراً بعتق موروثهم في مرضه؛ لأنَّ موروثهم كان ملكه ثابتاً فيها بغير خلاف، ولا ينفذ عتقه مع الإعسار، فلَأَنْ لا يَنفذ عتقهم مع إعسارهم والاختلافِ في ملكهم أولى.

وهل يصحُّ رهن التَّركة عند الغرماء؟

قال القاضي في «المجرَّد» : لا يصحُّ، وعلَّل بأنَّها كالمرهونة عندهم بحقِّهم، والمرهون لا يصحُّ رهنه، وبأنَّ التَّركة ملك للورثة؛ فلا يصحُّ رهن ملك الغير بغير إذنه.

فعلى التَّعليل الأوَّل: لا يصحُّ رهن الورثة لها من الغرماء وإن قلنا: هي ملكهم.

وعلى الثَّاني؛ ينبغي أن يصحَّ رهن الوصيِّ لها إذا قلنا: ليست ملكاً للورثة.

ومنها: نماء التَّركة، فإن قلنا: لا ينتقل إلى الورثة؛ تعلَّق حقُّ

(1)

في (ب) و (ج) و (هـ) و (ن): يملك.

ص: 323

الغرماء بالنَّماء؛ كالأصل.

وإن قلنا: ينتقل إليهم؛ فهل يتعلَّق حقُّ الغرماء بالنَّماء؟ على وجهين.

وقد سبق بسط هذه المسألة في قاعدة النَّماء

(1)

.

ومنها: لو مات رجل عليه دين وله مال زكويٌّ؛ فهل يبتدئ الوارث حول زكاته من حين موت موروثه، أم لا؟

إن قلنا: لا تنتقل التَّركة إليه مع الدَّين؛ فلا إشكال في أنَّه لا يجري في حوله حتَّى ينتقل إليه.

وإن قلنا: ينتقل؛ انبنى على أنَّ الدَّين هل هو مضمون في ذمَّة الوارث، أو هو في ذمَّة الميِّت خاصَّةً؟

فإن قلنا: الدَّين في ذمَّة الوارث، وكان ممَّا يمنع الزَّكاة؛ انبنى على أنَّ الدَّين المانع هل يمنع انعقاد الحول من ابتدائه، أو يمنع الوجوب في انتهائه خاصَّةً؟ فيه روايتان محكيَّتان في شرح «الهداية» .

والمذهب: أنَّه يمنع الانعقاد، فيمنع انعقاد الحول على مقدار الدَّين من المال.

وإن قلنا: إنَّما يمنع وجوب الزَّكاة في آخر الحول؛ منع الوجوب ههنا آخر الحول في قدره أيضاً.

وإن قلنا: ليس في ذمَّة الوارث شيء؛ فظاهر كلام الأصحاب

(2)

:

(1)

ينظر: القاعدة (82). ص ....

(2)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): أصحابنا.

ص: 324

أنَّ تعلُّق الدين بالمال مانع أيضاً، وسنذكره.

ومنها: لو كان له شجر، وعليه دين فمات؛ فههنا صورتان:

إحداهما: أن يموت قبل أن يثمر، ثمَّ أثمر قبل الوفاء؛ فينبني على أنَّ الدَّين هل يتعلَّق بالنَّماء، أم لا؟

فإن قلنا: يتعلَّق به؛ خرج على الخلاف في منع الدَّينِ الزَّكاةَ في الأموال الظَّاهرة.

وإن قلنا: لا يتعلَّق به؛ فالزَّكاة على الوارث.

وهذا كلُّه بناءً على القول بانتقال الملك إليه، أمَّا إن قلنا: لا ينتقل؛ فلا زكاة عليه فيه، إلَّا أن ينفكَّ التَّعلُّق قبل بدوِّ صلاحه.

الصُّورة الثَّانية: أن يموت بعدما أثمرت، فيتعلَّق الدَّين بالثَّمرة، ثمَّ إن كان موته بعد وقت الوجوب؛ فقد وجبت عليه الزَّكاة، إلَّا أن نقول: إنَّ الدَّين يمنع الزَّكاة في المال الظَّاهر؛ وإن كان قبل وقت الوجوب، فإن قلنا: تنتقل التَّركة إلى الورثة مع الدَّين؛ فالحكم كذلك؛ لأنَّه مال لهم تعلَّق به دين

(1)

، ولا سيما إن قلنا: إنَّه في ذممهم.

وإن قلنا: لا تنتقل التَّركة إليهم؛ فلا زكاة عليهم.

وهذه المسألة تدلُّ على أنَّ النَّماء المتَّصل

(2)

يتعلَّق به حقُّ الغرماء

(1)

قوله: (دين) سقط من (ب) و (ج).

(2)

في (و) و (ن): المنفصل. والذي في الإنصاف (5/ 313) نقلاً عن ابن رجب: (المنفصل)، قال ابن رجب في آخر القاعدة (82) ص .... :(تنبيه: اضطرب كلام الأصحاب في الطلع والحمل؛ هل هما زيادة متصلة أو منفصلة).

ص: 325

بغير خلاف.

ومنها: لو مات وعليه دين وله عبيد

(1)

، وأهلَّ هلال الفطر، فإن قلنا: لا ينتقل الملك؛ فلا فطرة لهم على أحد.

وإن قلنا: ينتقل؛ ففطرتهم على الورثة.

ومنها: لو كانت التَّركة حيواناً، فإن قلنا بالانتقال إلى الورثة؛ فالنَّفقة عليهم، وإلَّا فمن التَّركة.

وكذلك مؤنة المال؛ كأجرة المخزن ونحوه.

ومنها: لو مات المدين وله شقص، فباع شريكه نصيبه قبل الغرماء؛ فهل للورثة الأخذ بالشُّفعة؟

إن قلنا بالانتقال إليهم؛ فلهم ذلك، وإلَّا فلا.

ولو كان الوارث شريك الموروث، وبِيع نصيب الموروث

(2)

في دَينه، فإن قلنا بالانتقال؛ فلا شفعة للوارث؛ لأنَّ البيع وقع في ملكه؛ فلا يملك استرجاعه.

وإن قيل بعدمه؛ فله الشُّفعة؛ لأنَّ المبيع لم يكن في ملكه، بل في شركته.

ومنها: لو وطئ الوارث الجارية الموروثة - والدَّين مستغرِق

(3)

-، فأولدها، فإن قلنا: هي ملكه؛ فلا حدَّ، ويلزمه قيمتها يوفي منها

(1)

في (ب): وله عبيد وعليه دين.

(2)

في (أ): للموروث.

(3)

في (أ): يستغرق.

ص: 326

الدَّين؛ كما لو وطئ الرَّاهن.

وإن قلنا: ليست ملكه؛ فلا حدَّ أيضاً؛ لشبهة الملك، فإنَّه يملكها بالفكاك؛ فهي كالرَّهن، وعليه قيمتها ومهرها يوفي بها الدَّين، ذكره أبو الخطَّاب في «انتصاره» .

ففائدة الخلاف حينئذ: وجوب المهر.

ومنها: لو تزوَّج الابن أمَةَ أبيه، ثمَّ قال لها: إن مات أبي فأنت طالق، وقال أبوه: إن متُّ فأنتِ حرَّة، ثمَّ مات وعليه دين مستغرِق؛ لم تعتق؛ لاستغراق الدَّينِ التَّركةَ

(1)

؛ فلا ثلث للميِّت لينفذ منه العتق.

وهل يقع الطَّلاق؟

قال القاضي في «المجرَّد» : نعم، وعلَّل بأنَّه

(2)

لم يملكها؛ فهي باقية على نكاحه.

وقال ابن عقيل: لا تطلق؛ لأنَّ التَّركة تنتقل إلى الورثة؛ فيسبق الفسخ الطَّلاق.

فالوجهان مبنيَّان على الانتقال وعدمه، وكذلك لو لم يدبِّرها الأب سواء.

وفي المذهب وجه آخر بالوقوع وإن قيل بالانتقال، حتَّى ولو لم يكن دين؛ بناءً على سبق زمن الطَّلاق للفسخ، وقد ذكرناه في القواعد

(3)

.

(1)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): للتَّركة.

(2)

في (أ): بأنَّها.

(3)

ينظر القاعدة (57) ص ......

ص: 327

ومنها: لو أقرَّ لشخص، فقال: له في ميراثي ألف؛ فالمشهور: أنَّه متناقض في إقراره.

وفي «التَّلخيص» : يحتمل أن يلزمه؛ إذ المشهور عندنا: أنَّ الدين لا يمنع الميراث؛ فهو كما لو قال: له في هذه التَّركة ألف؛ فإنَّه إقرار صحيح.

وعلى هذا؛ فإذا قلنا: يمنع الدَّين الميراث؛ كان تناقضاً بغير خلاف.

ومنها: لو مات وترك ابنين وألف درهم، وعليه ألف درهم دين، ثمَّ مات أحد الابنين وترك ابناً، ثمَّ أبرأ الغريم الورثة؛ فذكر القاضي: أنَّه يستحق ابن الابن نصف التَّركة بميراثه عن أبيه، وذكره في موضع إجماعاً، وعلَّله في موضع: بأنَّ التَّركة تنتقل مع الدَّين؛ فانتقل ميراث الابن إلى ابنه

(1)

.

وهذا يفهم

(2)

منه: أنَّه على القول بمنع الانتقال يختصُّ به ولد الصُّلب؛ لأنَّه هو الباقي من الورثة، وابن الابن ليس بوارث معه، والتَّركة لم تنتقل إلى أبيه، وإنَّما انتقلت بعد موته.

ويشهد لهذا ما ذكره صاحب «المحرَّر» في الوصيَّة إذا مات الموصى له وقَبِل وارثه؛ فإنَّه يملكه هو دون موروثه على قولنا بملك

(3)

الوصيَّة

(1)

في (أ): أبيه.

(2)

في (ب): نفهم.

(3)

في (أ): يملك.

ص: 328

من حين القبول.

ومنها: رجوع بائع المفلس في عين ماله بعد موت المفلس؛ يحتمل بناؤه على هذا الخلاف، فإن قلنا: ينتقل إلى الورثة؛ امتنع رجوعه، وبه علَّل الإمام أحمد.

وإن قلنا: لا ينتقل؛ رجع به، لا سيما والحقُّ هنا متعلِّق في الحياة تعلُّقاً متأكداً.

ومن العجيب: أنَّ عن أحمد روايةً بسقوط حقِّ المرتهن من الرَّهن بموته

(1)

؛ فيكون أسوة الغرماء؛ كغريم المفلس، حكاها القاضي وابن عقيل، وهذا عكس ما نحن فيه.

ومنها: ما نقل البرزاطيُّ عن أحمد: أنَّه سئل عن رجل مات وخلَّف ألف درهم، وعليه للغرماء ألفا درهم، وليس له وارث غير ابنه، فقال ابنه لغرمائه: اتركوا هذه

(2)

الألف في يدي، وأَخِّروني في حقوقكم ثلاث سنين حتَّى أوفِّيكم جميع حقوقكم؛ قال: إذا كانوا قد استحقُّوا قبض هذه الألف، وإنَّما يؤخِّرونه ليوفِّيهم لأجل تركها في يديه؛ فهذا لا خير له فيه، إلَّا أن يقبضوا الألف منه، ويؤخِّرونه في

(1)

أي: موت الراهن؛ لأنه المدين، وجاء ذلك في رواية علي بن سعيد، قال في الروايتين والوجهين (1/ 367): (اختلفت الرواية إذا مات الراهن مفلساً وعليه دين؛ هل يكون المرتهن أحق به أم يكون أسوة الغرماء؟

فنقل أبو طالب، وابن منصور: المرتهن أحق به. ونقل أحمد بن سعيد: المرتهن أسوة الغرماء).

(2)

في (أ): هذا.

ص: 329

الباقي ما شاؤوا

(1)

.

قال بعض مشايخنا

(2)

: تُخرَّج هذه الرِّواية على القول بأنَّ التَّركة لا تنتقل، قال: وإن قلنا: تنتقل إليهم؛ جاز ذلك، وهو أقيس بالمذهب.

وتوجيه

(3)

ما قال: أنَّ حقَّ الغرماء في عين التَّركة دون ذمَّة الورثة، فإذا أسقطوا حقهم

(4)

من التَّعلُّق

(5)

بشرط أن توفيهم الورثة بقيَّة حقوقهم؛ فهو إسقاط بعوض غير لازم للوارث.

فإن قيل: بانتقال التَّركة إلى الوارث؛ فقد أذن له في الانتفاع بماله بعوض يلزمه

(6)

له في ذمَّته.

وإن قيل: بعدم الانتقال؛ فهو شبيه بتمليكه ألفاً بألفين إلى أجل، وإن لم يكن تمليكاً من الغريم لما يملكه، لكنَّه لمَّا أسقط حقَّه؛ ملكه الوارث حينئذ فصار تمليكاً، مع أنَّ قول أحمد:(لا خير فيه) ليس صريحاً

(7)

بالتَّحريم، فيحتمل الكراهة.

وقوله: (ويؤخِّرونه في الباقي ما شاؤوا)؛ يدلُّ على أنَّ الورثة إذا

(1)

ينظر: بدائع الفوائد (4/ 59).

(2)

في (ب): شيوخنا. لعله ابن القيم، ينظر معنى كلامه في بدائع الفوائد (4/ 59).

(3)

في (أ): ويوجبه.

(4)

في (أ): حقوقهم.

(5)

كتب على هامش (و): (يعني: بعين التركة).

(6)

في (ب) و (و) و (ن): يلتزمه.

(7)

في (ب) و (ن): تصريحاً.

ص: 330

تصرَّفوا في التَّركة؛ صاروا ضامنين جميع الدَّين في ذممهم

(1)

؛ فيطالَبون به، ومتى كان الدَّين في ذمم الورثة؛ قوي الجواز؛ لأنَّ انتقاله إلى ذممهم فرع انتقال التَّركة إليهم؛ فيبقى كالمفلس إذا طلب من غرمائه الإمهال وإسقاط حقوقهم من أعيان ماله ليوفِّيهم إيَّاها كاملة إلى أجل.

ومنها: ولاية المطالبة بالتَّركة إذا كانت ديناً ونحوه؛ هل هو للورثة خاصَّة أم للغرماء والورثة؟

قال أحمد في رواية عبد الله، في رجل مات وخلَّف وديعة عند رجل، ولم يوصِ إليه بشيء، وخلَّف عليه ديناً، يجوز لهذا المودَع أن يدفع إلى ولد الميِّت؟ فقال: إن كان أصحاب الدَّين يعلمون أنَّه مودَع، ويخاف تَبِعَتَهم أن يرجعوا عليه فيحلِّفوه، جَمَع

(2)

أصحاب الدَّين والورثة فسلم إليهم جميعاً

(3)

. ونقل صالح نحوه.

(1)

كتب على هامش (و) و (ن): (في دلالة قول الإمام: "ويؤخرونه في الباقي ما شاؤوا" على أن الورثة يصيرون ضامنين جميع الدين في ذممهم؛ نظر؛ لأنه ليس في النص ما يقتضي أن الورثة تصرفوا في التركة، بل قوله في النص: "إلا أن يقبضوا الألف" يعني الغرماء، صريح في أن الوارث لم يتصرف في التركة، مع أن قول الإمام إذا كانوا قد استحقوا قبض هذه الألف - يعني الغرماء -؛ يقتضي عدم انتقال التركة إلى الورثة، وأن حق الغرماء متعلق بعين التركة، وصحة تصرف الورثة في التركة إنما هو فرع انتقال التركة إلى الورثة، فأين هذا من ذاك؟! ثم إن قياس الوارث على المفلس في لزوم توفية جميع الدين إذا طلب الإمهال قياس مع وجود الفارق؛ لأن المفلس قد ترتب في ذمته الدين ووجب، بخلاف الوارث؛ فإن ذمته بريئة منه، وطلبه للإمهال على أن يوفي جميع الدين التزام بما لا يلزمه، والله أعلم).

(2)

في (ب) و (ج) و (و): جميع.

(3)

ينظر: مسائل عبد الله (ص 390).

ص: 331

وهذا يدلُّ على أنَّ للغرماء ولايةَ المطالبة والرُّجوع على المودَع إذا سلَّم الوديعة إلى الورثة.

وحمله القاضي على الاحتياط؛ قال: لأنَّ التَّركة ملكٌ للورثة، ولهم الوفاء من غيرها.

فظاهر

(1)

كلامه: أنَّا إن قلنا: التَّركة ملك لهم؛ فلهم ولاية الطَّلب والقبض.

وإن قلنا: ليست ملكاً لهم؛ فليس لهم

(2)

الاستقلال بذلك.

وقال الشَّيخ مجد الدِّين: (عندي أنَّ نصَّ أحمد على ظاهره؛ لأنَّ الورثة والغرماء تتعلَّق حقوقهم بالتَّركة؛ كالرَّهن والجاني؛ فلا يجوز الدَّفع إلى بعضهم)، قال:(وإنَّما المشكل أنَّ مفهوم كلامه جواز الدَّفع إلى الورثة بمفردهم، ولعلَّه أراد إذا وثق بتوفيتهم للدَّين) انتهى.

ولا ريب أنَّ حقوق الورثة تتعلَّق بها أيضاً - وإن قلنا: لا تنتقل إليهم-، وهم قائمون مقام الوصيِّ عند عدمه في إيفاء الدُّيون وغيرها

(1)

في (أ): بظاهر.

(2)

في (ب): له.

ص: 332

عند طائفة من الأصحاب.

والمتوجِّه

(1)

: هو الدَّفع إلى الورثة والغرماء جميعاً، ولا يملك الدَّفع إلى الغرماء بانفرادهم بكلِّ حال.

وقد نصَّ أحمد في رواية مهنَّى، فيمن عنده وديعة وصَّى بها ربُّها لرجل ثمَّ مات: أنَّ المودَع لا يدفعها إلى الموصى له، فإن فعل؛ ضمن، ولكن تجمع الورثة والموصى

(2)

له، فإن أجازوا، وإلَّا دفعه إليهم جميعاً.

ولعلَّ هذا فيما إذا لم تثبت الوصيَّة في الظَّاهر، وإنَّما المودَع يدَّعي ذلك، أو أنَّها لا تخرج من الثُّلث، ولذلك قال:(فإن أجازوا)؛ يعني: الورثة، وإلَّا فالعين الموصى بها إذا خرجت من الثُّلث لا حق فيها للورثة، ولا تنتقل إليهم بكلِّ حال على الصَّحيح.

وفي «المحرَّر» : أنَّ من عليه دَين موصًى به لمعيَّن؛ فهو مخيَّر: إن شاء دفعه إلى الوصي، وإن شاء إلى الموصى له؛ بخلاف الوصيَّة المطلقة؛ فإنَّه لا يبرأ بدون الدَّفع إلى الوارث والوصي جميعاً؛ لأنَّها كالدَّين.

وقد نصَّ أحمد أيضاً في رواية أبي طالب؛ فيمن عليه دين لميِّت وعلى الميِّت دين؛ فقضاه به عنه: أنَّه يجوز في الباطن دون الظَّاهر.

ووجَّهه القاضي: بأنَّ الورثة لا حق لهم في ذلك المال الَّذي في

(1)

في (ب) و (د) و (هـ) و (و): فالمتوجِّه.

(2)

في (ب): الموصى.

ص: 333

مقابلة الدَّين؛ فلا يكون متصرِّفاً في حقوقهم.

وهذا متوجِّه على القول: بأنَّ التَّركة لا تنتقل إليهم مع الدَّين؛ فلا يكون القضاء من أموالهم، ويرجع ذلك إلى أنَّ كلَّ مال مستحَقٍّ يجوز دفعه إلى مستحِقِّه مع وجود من له ولاية القبض، وقد سبق ذكره في القواعد

(1)

.

(1)

ينظر القاعدة (96)، ص .......

ص: 334

[13] التَّدبير؛ هل هو وصية، أو عتق بصفة

؟

في المسألة روايتان.

وينبني عليهما فوائد كثيرة:

منها: لو قتل المدبَّرُ سيِّدَه؛ هل يعتق؟ وفيه طريقتان:

إحداهما: بناؤه على الرِّوايتين؛ إن قلنا: هو عِتقٌ بصفةٍ عتَقَ.

وإن قلنا: وصيَّة؛ لم يَعتق؛ لأنَّ المذهب أنَّ الموصى له إذا قتل الموصي بعد الوصيَّة لم يستحِقَّ الوصية

(1)

، وهي طريقة ابن عقيل وغيره.

والثَّانية: أنَّه لا يعتق على الرِّوايتين، وهي طريقة القاضي؛ لأنَّه لم يعلِّقه على موته بقتله إيَّاه.

ومنها: بيع المدبَّر وهبته، والمذهب: الجواز؛ لأنَّه وصيَّة أو تعليق بصفة، وكلاهما لا يمنع نقل الملك قبل الصِّفة.

وفيه رواية أخرى: بالمنع؛ بناء على أنَّه عِتق

(2)

؛ فيكون لازماً؛ كالاستيلاد.

(1)

قوله: (لم يستحقَّ الوصيَّة) هو في (أ) و (د) و (و): لم يعتق. وفي (ج): لم يستحقَّ شيئاً.

(2)

زاد في (ب) و (و) و (ن): (بصفة)، وضرب عليها في (أ).

ص: 335

ومنها: اعتباره من الثُّلث على المذهب؛ لأنَّه وصيَّة.

ونقل حنبل: أنَّه من رأس المال

(1)

، وهو

(2)

متخرِّج على أنَّه عتق لازم؛ كالاستيلاد.

ومنها: إبطال التَّدبير والرُّجوع عنه بالقول، وفي صحَّته روايتان، بناهما الخرقيُّ والأكثرون على هذا الأصل؛ فإن قلنا: هو وصيَّة؛ جاز الرُّجوع فيه.

وإن قلنا: عِتق؛ فلا.

وللقاضي وأبي الخطَّاب في تعليقهما طريقة أخرى: أنَّ الرِّوايتين هنا على قولنا: إنَّه وصيَّة؛ لأنَّها وصيَّة تتنجز بالموت من غير قبول، بخلاف بقيَّة الوصايا.

وهو منتقض بالوصيَّة لجهات البرِّ.

ولأبي الخطَّاب في «الهداية» طريقة ثالثة: وهي بناء هاتين الرِّوايتين على جواز الرُّجوع بالبيع.

أمَّا إن قلنا: يمنع الرُّجوع بالفعل؛ فبالقول أولى.

ومنها: لو باع المدبَّرَ ثمَّ اشتراه؛ فهل يكون بيعه رجوعاً فلا يعود تدبيره، أو لا يكون رجوعاً فيعود؟ فيه روايتان أيضاً، بناهما القاضي والأكثرون على هذا الأصل؛ فإن قلنا: التَّدبير وصيَّة؛ بَطَلت بخروجه عن ملكه، ولم يَعُد بعوده.

(1)

ينظر: الروايتين والوجهين (3/ 114).

(2)

في (ب): هو.

ص: 336

وإن قلنا: هو تعليق

(1)

بصفة؛ عاد بعود الملك؛ بناء على أصلنا في عود الصِّفة بعود الملك في العتق والطَّلاق.

وطريقة الخرقيِّ وطائفة من الأصحاب: أنَّ التَّدبير يعود بعود الملك ههنا رواية واحدة

(2)

، بخلاف ما إذا أبطل تدبيره بالقول.

وهو يتنزَّل على أحد أمرين: إمَّا أنَّ الوصيَّة لا تبطل بزوال الملك مطلقاً، بل يعود بعوده، وإمَّا أنَّ هذا حكم الوصيَّة بالعتق خاصَّة.

ومنها: لو قال: عبدي فلان حرٌّ بعد موتي بسنة؛ فهل يصحُّ ويعتق بعد موته بسنة، أم يبطل ذلك؟ على روايتين بناهما طائفة من الأصحاب على هذا الأصل، فإن قلنا: التَّدبير وصيَّة؛ صحَّ تقييدها بصفة أخرى توجد بعد الموت.

وإن قلنا: عتق بصفة؛ لم يصحَّ ذلك.

وهؤلاء قالوا: لو صرَّح بالتَّعليق، فقال: إن دخلتَ الدَّار بعد موتي بسنة فأنت حرٌّ؛ لم يَعتق رواية واحدة، وهي طريقة ابن عقيل في «إشارته» .

والصَّحيح: أنَّ هذا الخلاف ليس مبنيًّا على هذا الأصل؛ فإنَّ التَّدبير والتَّعليق بالصِّفة إنَّما بطل بالموت مع الإطلاق؛ لأنَّ مقتضى الإطلاق وجود الصِّفة في حياة السَّيِّد، فأمَّا مع التَّقييد بما بعد الموت؛ فيتقيَّد به.

(1)

في (ب): تعلُّق.

(2)

في (أ): رواية واحدة ههنا.

ص: 337

ثمَّ من الأصحاب من يجعل هذا العقد تدبيراً، ومنهم من ينفي ذلك، ولهم في حكاية الخلاف فيه أربعة طرق قد ذكرناها في غير هذا الموضع.

ومنها: لو كاتب مدبَّره؛ فهل يكون رجوعاً عن التَّدبير؟

إن قلنا: التَّدبير عتق بصفة؛ لم يكن رجوعاً.

وإن قلنا: هو وصيَّة؛ انبنى على أنَّ كتابة الموصى به هل يكون رجوعاً؟ وفيه وجهان:

أشهرهما: أنَّه رجوع.

والمشهور في المذهب: أنَّ كتابة المدبَّر ليست

(1)

رجوعاً عن تدبيره.

ونقل ابن الحكم عن أحمد ما يدلُّ على أنَّه رجوع.

ومنها: لو وصَّى بعبد ثمَّ دبَّره؛ ففيه وجهان:

أشهرهما: أنَّه رجوع عن الوصيَّة.

والثَّاني: ليس برجوع، فعلى هذا؛ فائدة الوصيَّة به: أنَّه لو أبطل تدبيره بالقول؛ لاستحقَّه

(2)

الموصى له، ذكره في «المغني» .

وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: (ينبني على أنَّ التَّدبير هل هو عتق بصفة أو وصيَّة؟ فإن قلنا: هو عتق بصفة؛ قدِّم على الوصيَّة، وإن قلنا: هو وصيَّة؛ فقد ازدحمت وصيَّتان في هذا العبد؛ فينبني على أنَّ الوصايا

(1)

في (أ): ليس.

(2)

قوله: (لاستحقَّه) هو في (ب) و (ج): لا يستحقَّه.

ص: 338

المزدحمة إذا كان بعضها عتقاً؛ هل يقدَّم أم يتحاصَّ العتق وغيره؟ على روايتين، فإن قلنا بالمحاصَّة؛ فهو كما لو دبَّر نصفه ووصَّى بنصفه، ويصحُّ ذلك على المنصوص).

وقد يقال: الموصى له إن قيل: لا يملك حتَّى يقبل؛ فقد سبق زمن العتق لزمن ملكه؛ فينفذ، وإن قيل: إنَّه يملك من حين الموت؛ فقد تقارن زمن ملكه وزمن العتق؛ فينبغي تقديم العتق، كما نصَّ عليه أحمد في مسألة من علَّق عتق عبده ببيعه.

ومنها: الوصيَّة بالمدبَّر، والمذهب: أنَّها لا تصحُّ، ذكره القاضي وأبو الخطَّاب في «خلافيهما»

(1)

؛ لأنَّ التَّدبير الطارئ إذا أبطل الوصيَّة - على المشهور-؛ فكيف يصحُّ طريان الوصيَّة على التَّدبير ومزاحمتها له؟!

وبنى الشَّيخ هذه المسألة أيضاً على الأصول السَّابقة.

(2)

ومنها: ولد المدبَّرة، والمشهور: أنَّه يتبعها في التَّدبير كلُّ ما ولدته بعده، سواء كان موجوداً حال التَّعليق

(3)

أو العتق، أو حادثاً بينهما.

وحكى القاضي في «كتاب الرِّوايتين» في تبعيَّة الولد روايتين، وبناهما على أنَّ التَّدبير هل هو عتق لازم؛ كالاستيلاد، أو وصية؟

(1)

في (ب) و (د): خلافهما.

(2)

يريد ابن قدامة رحمه الله، فإن المرداوي في الإنصاف نقل عبارة ابن رجب وقال (19/ 155):(وبنى المصنف هذه المسألة أيضا على الأصول السابقة). والمرداوي يريد بالمصنف: ابن قدامة.

(3)

في (ب): التَّعلُّق.

ص: 339

ومن هنا قال أبو الخطَّاب في «انتصاره» : تبعيَّة الولد مبنيٌّ على لزوم التَّدبير.

وخرَّج أبو الخطَّاب في «الهداية» وجهاً: أنَّه لا يتبعها الولد

(1)

الحادث بينهما، وإنَّما يتبعها إذا كان موجوداً معها في أحدهما، مِنْ حُكْمِ ولدِ المعلَّقِ عتقُها بصفة، بناء على أنَّ التَّدبير تعليق بصفة.

وينبغي على هذا أن يخرَّج طريقة أخرى: أنَّه لا يتبعها الولد الحادث بينهما بغير خلاف.

وإن كان موجوداً في أحد الحالين؛ فهل يتبعها؟ على وجهين؛ بناء على أنَّ التَّدبير وصيَّة.

وحكم ولد الموصى بها كذلك عند الأصحاب.

ومنها: لو جحد السَّيِّد التَّدبير؛ فالمنصوص عن أحمد: أنَّه ليس برجوع.

وقال الأصحاب: إن قلنا: هو عتق بصفة؛ لم يكن رجوعاً، وإن قلنا: هو وصيَّة؛ فوجهان؛ بناء على أن جحد الموصي الوصيَّة؛ هل هو

(2)

رجوع أم لا.

(1)

قوله: (الولد) سقط من (أ) و (د).

(2)

قوله: (هو) سقط من (أ).

ص: 340

[14] نفقة الحامل

(1)

؛ هل هي واجبة لها أو لحملها

؟

في المسألة روايتان مشهورتان، أصحُّهما: أنَّها للحمل، وهي اختيار الخرقيِّ وأبي بكر.

وينبني عليهما فوائد:

منها: إذا كان أحد الزَّوجين رقيقاً؛ فإن قلنا: النَّفقة للزَّوجة؛ وجبت لها

(2)

على الزَّوج؛ لأنَّ نفقة زوجة العبد عليه

(3)

في كسبه أو تتعلَّق برقبته، حكاه

(4)

ابن المنذر إجماعاً.

وفي «الهداية» : نفقة زوجته على سيِّده، فتجب ههنا على السَّيِّد.

وإن قلنا: للحمل؛ لم تجب عليه؛ لأنَّه إن كان هو الرَّقيقَ؛ فلا يجب عليه نفقة أقاربه، وإن كانت هي الرَّقيقةَ؛ فالولد مملوك لسيِّد الأمة؛ فنفقته على مالكه.

ومنها: إذا كان الزَّوج معسراً؛ فإن قلنا: النَّفقة للزَّوجة؛ وجبت عليه.

(1)

كتب في هامش (د): (قال ابن عقيل في التذكرة: وهل تجب نفقة الحامل لأجل الحمل؟ على روايتين، أصحُّهما أنَّها لها لأجل الحمل).

(2)

في (ب): لهما.

(3)

قوله: (عليه): سقط من (ب) و (ج) و (و) و (ن).

(4)

في (ب) و (ج): حكاها.

ص: 341

وإن قلنا: للحمل؛ لم تجب؛ لأنَّ نفقة الأقارب مشروطة باليسار دون نفقة الزَّوجة

(1)

.

ومنها: لو مات الزَّوج؛ فهل يلزم أقاربَه النَّفقةُ؟ إن قلنا: هي للحمل؛ لزمت الورثة.

وإن قلنا: للزَّوجة؛ لم تلزمهم

(2)

بحال.

ومنها: لو غاب الزَّوج؛ فهل تثبت النَّفقة في ذمَّته؟ فيه طريقان:

أحدهما: إن قلنا: هي للزَّوجة؛ ثبتت في ذمَّته، ولم تسقط بمضي الزَّمان على المشهور من المذهب.

وإن قلنا: هي للحمل؛ سقطت؛ لأنَّ نفقة الأقارب لا تثبت في الذِّمَّة.

والثَّاني: لا تسقط بمضي الزَّمان على الرِّوايتين، وهي طريقة «المغني» ، وعلَّل: بأنَّها مصروفة إلى الزَّوجة، ويتعلَّق

(3)

حقُّها بها؛ فهي كنفقتها، ويشهد له قول الأصحاب: لو لم ينفق عليها يظنُّها حائلاً، ثمَّ بانت

(4)

حاملاً؛ لزمه نفقة الماضي.

(1)

كتب على هامش (و): (إذا كان أبوه مفقودًا بالقرب أو معسراً، فإن قلنا: النفقة للحمل؛ وجب على الجد النفقة كما لو كان منفصلاً، ذكره القاضي في تعليقه، قال الشيخ أبو البركات: وهذا يدل على أنها تجب على من تلزمه نفقته منفصلاً).

(2)

في (ب) و (ج): يلزمهم.

(3)

في (أ): تتعلَّق.

(4)

في (ب) و (ن): فبانت.

ص: 342

ومنها: إذا اختلعت الحامل بنفقتها؛ فهل يصحُّ جعل النَّفقة عوضاً للخلع؟

قال الشِّيرازيُّ: إن قلنا: النَّفقة لها؛ صحَّ، وإن قلنا: للحمل؛ لم يصحَّ؛ لأنَّها لا تملكها.

وقال القاضي والأكثرون: يصحُّ على الرِّوايتين؛ لأنَّها مصروفة إليها، وهي المنتفعة بها

(1)

.

ومنها: لو نشزت الزَّوجة حاملاً، فإن قلنا: نفقة الحامل لها؛ سقطت بالنُّشوز.

وإن قلنا: للحمل؛ لم تسقط به.

ومنها: الحامل من وطء الشُّبهة أو نكاح فاسد؛ هل تجب نفقتها على الواطئ؟

إن قلنا: النَّفقة لها؛ لم تجب؛ لأنَّ النَّفقة لا تجب للموطوءة بشبهة ولا نكاح فاسد؛ لأنَّه لا يتمكَّن من الاستمتاع بها

(2)

، إلَّا أن يسكنها في منزل يليق بها تحصيناً لمائه؛ فيلزمها ذلك، ذكره

(3)

في «المحرَّر»

(4)

، وتجب النَّفقة لها حينئذٍ

(5)

، ذكره الشَّيخ تقيُّ الدِّين.

(1)

من قوله: (ومنها: إذا اختلعت الحامل بنفقتها) إلى هنا سقط من (أ) و (د) و (و).

(2)

قوله: (لأنَّه لا يتمكَّن من الاستمتاع بها) سقط من (ب).

(3)

كتب على هامش (ن): (أي: لزوم السكنى).

(4)

قوله: (ذكره في المحرَّر) سقط من (ب).

(5)

قوله: (وتجب النفقة لها حينئذ) هو في (ب): (وتجب لها النفقة).

ص: 343

وإن قلنا: النَّفقة للحمل؛ وجبت؛ لأنَّ النَّسب لاحق بهذا الوطء، ونصَّ أحمد في رواية ابن الحكم على وجوب النَّفقة لها.

وقال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: يتوجَّه وجوب النَّفقة لها مطلقاً من غير حمل؛ كما يجب لها المهر المسمَّى، ويتقرَّر بالخلوة على المنصوص؛ ولأنَّها

(1)

محبوسة عليه في العقد الفاسد، ولا تتزوَّج عندنا

(2)

بدون طلاقه. وقاسه على العبد المقبوض بعقد فاسد.

ولو ألزم حاكم بالنَّفقة في النِّكاح الفاسد المختلف فيه لاعتقاده صحَّته؛ فللزَّوج الرُّجوع بالنَّفقة عند من يرى فساده، ذكره القاضي في «المجرَّد» .

وذكر صاحب «المغني» احتمالاً بعدم الرُّجوع؛ لأنَّه نقض للحكم المختلف فيه، ولا يجوز ما لم يخالف كتاباً أو إجماعاً.

وذكر في «المغني» أيضاً: أنَّه إذا

(3)

أنفق في النِّكاح الفاسد من غير حاكم؛ لم يرجع؛ لأنَّه إن علم فساده

(4)

؛ كان متبرعاً، وإن لم يعلم؛ فهو مفرط

(5)

.

(1)

في (ب): لأنها.

(2)

في (ب): عندها.

(3)

في (أ): لو. مكان قوله: (أنه إذا).

(4)

في (أ): بفساده.

(5)

في (ب) و (ن): كان مفرطاً. قوله: (إن علم فساده؛ كان متبرعاً، وإن لم يعلم؛ فهو مفرط) هو في (ج) بعد قوله: (بعدم الرُّجوع).

ص: 344

ومنها: لو كان الحمل موسراً؛ بأن يوصَى له بشيء فيقبله الأب؛ فإن قلنا: النَّفقة له؛ سقطت نفقته عن أبيه.

وإن قلنا: لأمِّه؛ لم تسقط، ذكره القاضي في «خلافه» .

ومنها: لو دفع إليها النَّفقة، فتلفت بغير تفريط؛ فإن قلنا: النَّفقة لها؛ لم يلزمه بدلها.

وإن قلنا: للحمل؛ وجب إبدالها؛ لأنَّ ذلك حكم نفقة الأقارب.

ومنها: لو أعتق الحاملَ من ملك يمينه؛ فهل تلزمه

(1)

نفقتها؟ إن قلنا: النَّفقة لها؛ لم تجب إلَّا حيث يجب نفقة العتيق

(2)

.

وإن قلنا

(3)

: النَّفقة للحمل؛ وجبت بكلِّ حال.

ومنها: فطرة المطلَّقة الحامل، إن قلنا: النَّفقة لها؛ وجبت لها الفطرة.

وإن قلنا: للحمل؛ ففطرة الحمل على أبيه غير واجبة على الصَّحيح.

ومنها: هل تجب السُّكنى للمطلَّقة الحامل؟ إن قلنا: النَّفقة لها، فلها السُّكنى أيضاً.

وإن قلنا: للحمل؛ فلا سكنى لها، ذكره الحلوانيُّ في «التَّبصرة» .

(1)

في (ب): يلزمه.

(2)

في (ب) و (و): العتق.

(3)

قوله: (قلنا) سقط من (أ).

ص: 345

ومنها: نفقة المتوفَّى عنها إذا كانت حاملًا، وفي وجوبها روايتان، بناهما ابن الزَّاغونيِّ على هذا الأصل؛ قال:(فإن قلنا: النَّفقة للحمل؛ وجبت من التَّركة، كما لو كان الأب حيًّا، وإن قلنا: للمرأة؛ لم يجب).

وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ نفقة الأقارب لا تجب بعد الموت.

والأظهر: أنَّ الأمر بالعكس، وهو أنَّا إن قلنا: النَّفقة للحمل؛ لم تجب للمتوفَّى عنها لهذا المعنى، وإن قلنا: للمرأة؛ وجبت؛ لأنَّها محبوسة على الميِّت لحقه، فتجب نفقتها من ماله، وقد سبق ذكر ذلك في قاعدة الحمل: هل له حكم أم لا؟

(1)

.

ومنها: البائن في الحياة بفسخ أو طلاق إذا كانت حاملاً؛ فلها النَّفقة.

وحكى الحلوانيُّ وابنه رواية: أنَّه لا نفقة لها؛ كالمتوفَّى عنها، وخصَّها ابنه بالمبتوتة بالثَّلاث، وبناها على أنَّ النَّفقة للمرأة، والمبتوتة لا تستحقُّ نفقة، وإنَّما تستحقُّ النَّفقة إذا قلنا: هي للحمل.

وهذا متوجِّه في القياس، إلَّا أنَّه ضعيف مخالف للنَّصِّ

(2)

والإجماع -فيما أظنُّ-

(3)

، ووجوب النَّفقة للمبتوتة الحامل يرجِّح القول بأنَّ

(1)

ينظر: القاعدة (84) ص ....

(2)

وهو قوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).

(3)

ونقل الإجماع عليه ابن قدامة في المغني (8/ 232).

ص: 346

النَّفقة للحمل.

ومنها: لو تزوَّج امرأة على أنَّها حرَّة، فبانت أمة، وهو ممَّن يباح له نكاح الإماء، ففسخ بعد الدُّخول وهي حامل منه؛ ففي كتاب

(1)

النِّكاح من «المجرَّد» : هو كالنِّكاح الفاسد؛ إن قلنا: النَّفقة للحمل؛ وجبت على الزَّوج، وإن قلنا: للحامل؛ لم تجب عليه.

وذكر في النَّفقات ما يدلُّ على وجوبها عليه على الرِّوايتين، وهو الصَّحيح؛ لأنَّ هذا نكاح صحيح؛ فيلزم فيه النَّفقة، وفي عدَّته.

ومنها: لو وُطِئتِ الرَّجعيةُ بشبهة أو نكاح فاسد، ثمَّ بان بها حمل يمكن أن يكون من الزَّوج والواطئ؛ فيلزمها أن تعتدَّ بعد وضعه عدَّة الوطء.

فأمَّا

(2)

نفقتها في مدَّة العدَّة:

فإن قلنا: النَّفقة للحمل؛ فعليهما النَّفقة عليها حتَّى تضع؛ لأنَّ الحمل لأحدهما يقيناً، ولا نعلم عينه، ولا ترجع المرأة على الزَّوج بشيء من الماضي.

وإن قلنا: النَّفقة للحامل؛ فلا نفقة لها على واحد منهما مدَّة الحمل؛ لأنَّه يحتمل أنَّه من الزَّوج؛ فيلزمه النَّفقة، ويحتمل أنَّه من الآخر؛ فلا نفقة لها؛ فلا تجب بالشَّكِّ.

فإذا وضعته؛ فقد علمنا أنَّ النَّفقة على أحدهما، وهو غير معيَّن؛ فيلزمهما جميعاً النَّفقة حتَّى ينكشف الأب منهما، وترجع المرأة على

(1)

قوله: (كتاب) سقط من (أ).

(2)

في (أ): وأمَّا.

ص: 347

الزَّوج بعد الوضع بنفقة أقصر المدَّتين من مدَّة الحمل، أو قدر ما بقي من العدَّة بعد الوطء الفاسد؛ لأنَّها تعتدُّ عنه بأحدهما قطعاً، ثمَّ إذا زال الإشكال، وألحقته القافة بأحدهما بعينه؛ عُمل بمقتضى ذلك، فإن كان معها وفق حقِّها من النَّفقة، وإلَّا رجعت على الزَّوج بالفضل.

ولو كان الطَّلاق بائناً؛ فالحكم كما تقدَّم في جميع ما ذكرنا، إلَّا في مسألة واحدة، وهي أنَّه لا ترجع المرأة بعد الوضع بشيء على الزَّوج، سواء قلنا: النَّفقة للحمل أو للحامل؛ لأنَّ النَّفقة لا تستحقُّ مع البينونة إلَّا بالحمل، وهو غير متحقِّق هنا أنَّه منه، بخلاف الرَّجعيَّة، ذكر ذلك القاضي في «المجرَّد» .

ولو قيل في صورة الرَّجعيَّة: إذا قلنا: النَّفقة للحمل؛ إنَّها تجب على من خرجت عليه القرعة من الزَّوج والواطئ، وكذا بعد الوضع وقبل ثبوت نسبه من أحدهما؛ لتوجَّه، إلَّا أن يقال: يحتمل أن يكون منهما جميعاً؛ فتمتنع القرعة على أحدهما لذلك.

ومتى ثبت نسبه من أحدهما؛ فقال

(1)

القاضي في موضع من «المجرَّد» : يرجع عليه الآخر بما أنفق؛ لأنَّه لم ينفق متبرِّعاً.

وقيَّده في موضع آخر منه: بأن يشرط الرُّجوع وينفق بإذن الحاكم، فإن شرط الرُّجوع وأنفق بغير إذن حاكم؛ فعلى روايتين؛ كقضاء الدَّين، وقد ذكرنا ذلك مستوفًى في القواعد

(2)

، والصَّحيح هنا: الرُّجوع

(1)

في (ب): قال.

(2)

ينظر: القاعدة (75) ص ....

ص: 348

مطلقاً

(1)

؛ لأنه واجب عليه في الظَّاهر.

وقد ذكر صاحب «المغني» : أنَّ الملاعِنة لو أنفقت على الولد ثمَّ استلحقه الملاعِن؛ رجعت عليه؛ لأنَّها إنَّما أنفقت لظنِّها أنَّه لا أب له.

وأمَّا إذا قلنا: النَّفقة للحامل؛ فإنَّما لم تجب لها النفقة

(2)

على واحد منهما؛ لأنَّ الحامل لا نفقة لها على الواطئ بشبهة أو في

(3)

نكاح فاسد؛ كما سبق، والزَّوج ليس بمتمكِّن من الاستمتاع بها في حال الحمل؛ لأنَّ الرَّجعيَّة إذا حملت في عدَّتها من شبهة؛ انقطعت عدَّة الزَّوج في

(4)

مدَّة الحمل، وحرم على الزَّوج الاستمتاع بها.

وهل له رجعتها في هذه المدَّة؛ لبقاء

(5)

بقيَّة عدَّته عليها؟ على وجهين.

وجزم

(6)

القاضي في «خلافه» بالمنع.

ورجَّح صاحب «المغني» الجواز.

(1)

كتب على هامش (و): (وقيده الشافعية: بألَّا يكون المنفق مدعياً للولد؛ فإنه بزعمه إنما أنفق على ولده).

(2)

قوله: (فإنما لم تجب لها النفقة) هو في (ب): (فإنَّها لم تجب). وفي (د) و (و): وإنما لم تجب لها النَّفقة.

(3)

قوله: (في) سقط من (ب).

(4)

في (ب) و (د) و (هـ): من.

(5)

قوله: (لبقاء) سقط من (ب).

(6)

في (ب): جزم.

ص: 349

وعلى الوجهين: لا نفقة لها؛ لتحريم الاستمتاع بها على الزَّوج، سواء كانت مكَّنت من الوطء أو لا، فإنَّه لو غصبها غاصب؛ فلا نفقة لها.

ص: 350

[15] القتل العمد؛ هل موجَبُه القَوَدُ عيناً، أو أحد أمرين

؟

في المسألة روايتان، وقد سبق ذكرهما وفوائدهما في القواعد بما يغني عن إعادتها هنا

(1)

.

(1)

ينظر: القاعدة (137)، ص .....

ص: 351

[16] المرتد؛ هل يزول ملكه بالرِّدَّة أم لا

؟

في المسألة روايتان:

إحداهما: لا يزول ملكه؛ بل هو باقٍ عليه؛ كالمستمرِّ على عصمته.

والثَّانية: يزول، وفي وقت زواله روايتان:

إحداهما: من حين موته مرتدًّا.

والثَّانية: من حين ردَّته، فإن أسلم؛ أعيد إليه ماله ملكاً جديداً، وهي اختيار أبي بكر وابن أبي موسى.

وفيه رواية ثالثة: أنَّا نتبيَّن بموته مرتدًّا زوال ملكه من حين الرِّدَّة.

ولهذا الاختلاف فوائد كثيرة:

منها: لو ارتدَّ في أثناء حول الزَّكاة:

فإن قلنا: زال ملكه بالرِّدَّة؛ انقطع الحول بغير تردُّد.

وإن قلنا: لا يزول؛ فالمشهور: أنَّ الزَّكاة لا تجب عليه، وإن عاد إلى الإسلام؛ فينقطع الحول أيضاً؛ لأنَّ الإسلام من شرائط وجوب الزَّكاة؛ فيعتبر وجوده في جميع الحول.

وحكى ابن شاقلا رواية: أنَّه تجب عليه الزكاة إذا عاد لما مضى من الأحوال، واختارها ابن عقيل.

ص: 352

وإن ارتدَّ بعد الحول؛ لم يسقط عنه، إلَّا إذا عاد إلى الإسلام وقلنا: إنَّ المرتدَّ لا يلزمه قضاء ما تركه قبل الرِّدَّة من الواجبات، والصَّحيح من المذهب خلافه.

ومنها: لو ارتدَّ المعسر، ثمَّ أيسر في زمن الرِّدَّة، ثمَّ عاد إلى الإسلام وقد أعسر:

فإن قلنا: إنَّ ملكه يزول بالرِّدَّة؛ لم يلزمه الحجُّ باليسار السَّابق.

وإن قلنا: لا يزول ملكه؛ فهل يلزمه الحجُّ بذلك اليسار؟ ينبني على وجوب العبادات عليه في حال الرِّدَّة، وإلزامه قضاءها بعد عوده إلى الإسلام، والصَّحيح: عدم الوجوب؛ فلا يكون بذلك مستطيعاً.

ومنها: حكم تصرُّفاته بالمعاوضات والتَّبرُّعات وغيرها:

فإن قلنا: لا يزول ملكه بحال، فهي صحيحة نافذة.

وإن قلنا: يزول بموته؛ أُقِرَّ المال بيده في حياته، ونُفِّذت معاوضاته، ووُقِفَت تبرُّعاته المنجزة والمعلَّقة بالموت، فإذا مات؛ رُدَّت كلُّها وإن لم تبلغ الثُّلث؛ لأنَّ حكم الرِّدَّة حكم المرض المَخُوفِ، وإنَّما لم تنفذ من ثلثه؛ لأنَّ ماله يصير فيئاً بموته مرتدًّا.

وإن قلنا: يزول ملكه في الحال؛ جُعِل في بيت المال، ولم يصحَّ تصرُّفه فيه بحال، لكن إن أسلم؛ رُدَّ إليه ملكاً جديداً.

وإن قلنا: هو موقوف مراعًى؛ حفظ الحاكم ماله ووقفت تصرُّفاته كلُّها، فإن أسلم؛ أمضيت، وإلَّا تبيَّنا فسادها.

ص: 353

تنبيه:

إنَّما تبطل

(1)

تصرُّفاته لنفسه في ماله، فلو تصرَّف لغيره بالوكالة؛ صحَّ، ذكره القاضي وابن عقيل؛ لأنَّ إبطال تصرُّفاته

(2)

إنَّما هو لزوال ملكه، ولا أثر لذلك في تصرُّفه بالوكالة.

نعم، لو كان قد

(3)

وكَّل وكيلاً ثمَّ ارتدَّ، وقلنا: يزول ملكه؛ بطلت وكالته.

ولو تصرَّف لنفسه بنكاح؛ لم يصحَّ؛ لأنَّ الرِّدَّة تمنع الإقرار على النِّكاح.

وإن زوَّج موليَّته؛ لم يصحَّ؛ لزوال ولايته بالرِّدَّة، حتَّى على أمته الكافرة.

ومنها: لو باع شقصاً مشفوعاً في الرِّدَّة، فإن حكمنا بصحَّة بيعه؛ أخذ منه بالشُّفعة، وإلَّا فلا.

ولو بيع في زمن ردَّته شقص في شركته، فإن قلنا: ملكه باق؛ أخذ بالشُّفعة، وإلَّا فلا.

ومنها: لو حاز مباحاً، أو عمل عملاً بأجرة؛ فإن قلنا: ملكه باق؛ ملك ذلك، وإن قلنا: زال ملكه؛ لم يملكه.

فإن عاد إلى الإسلام بعد ذلك؛ فهل يعود ملكها إليه؟ فيه احتمالان

(1)

(أ) و (ج): يبطل.

(2)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): تصرُّفه.

(3)

قوله: (كان قد) سقط من (ب).

ص: 354

مذكوران في «المغني» .

ومنها: الوصيَّة له، وفي صحَّتها وجهان، بناء على زوال ملكه وبقائه، فإن قلنا: زال ملكه؛ لم تصحَّ

(1)

الوصيَّة له، وإلَّا صحَّت.

ومنها: ميراثه؛ فإن قلنا: لا يزول ملكه بحال؛ فهو لورثته من المسلمين، أو مِن أهل دينه الَّذي اختاره على اختلاف الرِّوايتين في ذلك.

وإن قلنا: يزول ملكه من حين الرِّدَّة أو بالموت؛ فماله فيء، ليس لورثته منه شيء.

ومنها: نفقة من تلزمه نفقته؛ فإن قلنا: ملكه باقٍ ولو في حياته

(2)

، أو مراعًى مدَّة الرِّدة

(3)

؛ أنفق عليهم من ماله.

وإن قلنا: زال بالرِّدَّة؛ فلا نفقة لهم منه في مدَّة الرِّدَّة؛ لأنَّه لا يملكه.

ومنها: قضاء ديونه، وهو كالنَّفقة؛ فتقضى

(4)

ديونه على الرِّوايات كلِّها، إلَّا على رواية زوال ملكه من حين الرِّدَّة؛ فلا يقضى منه الدُّيون المتجدِّدة في الرِّدَّة، وتقضى منه الدُّيون الماضية؛ فإنَّه إنَّما يكون فيئاً ما فَضَل عن أداء ديونه ونفقات من تلزمه نفقته؛ لأنَّ هذه الحقوق لا يجوز تعطيلها؛ فتؤخذ من ماله، ويصير الباقي فيئاً.

(1)

في (ب): يصحَّ.

(2)

قوله: (في حياته) ضرب عليه في (ب).

(3)

زاد في (ب): (في حياته) ضرب عليه في (أ).

(4)

في (أ): فيقضي.

ص: 355

ومنها: لو دبَّر عبداً، ثمَّ ارتدَّ السَّيِّد، ثمَّ عاد إلى الإسلام؛ فإن قلنا: لا يزول ملكه؛ فالتَّدبير بحاله.

وإن قلنا: زال ملكه؛ انبنى على أنَّ زوال الملك عن المدبَّر؛ هل يبطل تدبيره أم لا؟ وجزم ابن أبي موسى ببطلان تدبيره.

ص: 356

[17] الكفَّار؛ هل يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء أم لا

؟

المذهب عند القاضي: أنَّهم يملكونها من غير خلاف.

والمذهب عند أبي الخطَّاب في «انتصاره» : أنَّهم لا يملكونها، وقد نقل أبو طالب عن أحمد ما يدلُّ على ذلك

(1)

.

وحكى طائفة روايتين في المسألة، منهم ابن عقيل في «فنونه» و «مفرداته» ، وصحَّح فيها عدم الملك.

وذكر الشَّيخ تقيُّ الدِّين: أنَّ أحمد لم ينصَّ على الملك ولا على عدمه، وإنَّما نصَّ على أحكام أخذ منها ذلك

(2)

.

والصَّواب: أنَّهم يملكونها ملكاً مقيَّداً، لا يساوي أملاك المسلمين من كلِّ وجه.

ولهذا الخلاف فوائد:

منها: أنَّ من وَجَد من المسلمين عينَ مالِه قبل القسمة؛ أخذه مجَّاناً بغير عوض.

(1)

ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 361).

(2)

في (ب): ذلك منها.

ص: 357

وإن وجده بعد القسمة؛ فالمنصوص عن أحمد: أنَّه لا يأخذه بغير عوض

(1)

.

وهل يسقط حقُّه منه بالكليَّة، أو يكون أحقَّ به بالثَّمن؟ على روايتين، واختار أبو الخطَّاب: أنَّه أحقُّ به مجَّاناً بكلِّ حال.

وقد قال أحمد في رواية أبي طالب: هذا هو القياس؛ لأنَّ الملك لا يزول إلَّا بهبة أو صدقة، لكنَّ عمر قال: لا حقَّ له

(2)

.

ومنها: إذا قلنا: يملكون أموال المسلمين، فغُنِمت منهم، ولم تعلم أربابها من المسلمين؛ فإنَّه يجوز قسمتها والتَّصرُّف فيها.

ومن قال: لم يملكوها، فقياس قوله أنَّه لا تجوز قسمتها ولا التَّصرُّف فيها، بل توقف كاللُّقطة، ذكره صاحب «المغني» وغيره.

وأمَّا ما عرف مالكه من المسلمين؛ فإنَّه لا تجوز قسمته، بل يردُّ إليه على القولين، ونصَّ عليه أحمد في رواية غير واحد

(3)

.

وقيَّد ذلك في رواية أبي داود: فيما

(4)

إذا كان مالكه

(5)

بالقرب

(6)

.

(1)

جاء في مسائل ابن هانئ (2/ 124): (وسُئِلَ عن العبد يأبق، والفرس يشرد، فيصيران في بلاد الروم، فيؤخذان فيباعان في المقسم، فيجيء المولى أو صاحب الفرس، فهل يفرق بينهما قبل البيع أو بعد؟ قال أبو عبد الله: كل هذا يصير إلى المولى ما لم يقسم، فإذا قسم فهو أحق بالثمن).

(2)

رواه عبد الرزاق (9354)، وسعيد بن منصور (2799)، والبيهقي (18255).

(3)

ينظر: مسائل ابن هانئ (2/ 124).

(4)

في (ب): بما.

(5)

قوله: (مالكه) سقط من (أ) و (د) و (هـ) و (و).

(6)

ينظر: مسائل أبي داود (ص: 326).

ص: 358

ومنها: إذا أسلموا وفي أيديهم أموال المسلمين؛ فهي لهم، نصَّ عليه أحمد، وقال في رواية أبي طالب:(ليس بين النَّاس اختلاف في ذلك)، وهذا متنزِّل

(1)

على القول بالملك.

فإن قيل: لا يملكونها؛ فهي لربِّها متى وجدها، وقاله أبو الخطَّاب في «انتصاره» .

ونفى صاحب «المغني» الخلاف في المذهب في المسألة

(2)

، فكأنَّه ظنَّ أنَّ أبا الخطَّاب وافق عليها؛ فإنَّه لم يقف على «الانتصار» ، ولعلَّ مأخذه: أنَّ الشَّارع ملَّك الكافر بإسلامه ما في يده من أموال المسلمين بقوله: «من أسلم على شيء؛ فهو له»

(3)

، فهذا تمليك جديد يملكونها به، لا بالاستيلاء الأوَّل، والله أعلم.

وقد قيل: إنَّ هذا يرجع إلى أنَّ كلَّ ما قبضه الكفَّار من الأموال وغيرها قبضاً يعتقدون جوازه، فإنَّه يستقرُّ لهم بالإسلام؛ كالعقود الفاسدة والأنكحة والمواريث وغيرها، ولهذا لا يضمنون ما أتلفوه على المسلمين من النُّفوس والأموال بالإجماع.

ومنها: لو كان لمسلمٍ أمتان أختان، فأبَقَت إحداهما إلى دار الحرب، فاستولوا عليها؛ فله وطء الباقية عنده؛ لأنَّ ملكه زال عن أختها.

(1)

في (أ): يتنزل.

(2)

قوله: (في المسألة) سقط من (ب).

(3)

رواه أبو يعلى الموصلي (5847)، والبيهقي (18259)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 359

وقياس قول أبي الخطَّاب: لا يجوز حتَّى يحرِّم الآبقة بعتق أو نحوه

(1)

؛ لأنَّه يمنع من وطء إحدى الأختين ابتداء قبل تحريم

(2)

الأخرى.

ومنها: لو استولى العدو على مال مسلم، ثمَّ عاد إليه

(3)

بعد حولٍ أو أحوال:

فإن قلنا: ملكوه؛ فلا زكاة عليه لما مضى من المدَّة بغير خلاف.

وإن قلنا: لم يملكوه؛ فهل تلزمه زكاته لما مضى؟ على روايتين؛ بناء على زكاة المال المغصوب والضَّائع من ربِّه.

ومنها: لو أعتق المسلم عبدَه الَّذي استولى عليه الكفَّار، فإن قلنا: ملكوه؛ لم يعتق، وإلَّا عتق.

ومنها: لو سبى الكفَّار أمةً مزوَّجة بمسلم، فإن قلنا: يملكونها؛ فالقياس: أنَّه ينفسخ النِّكاح؛ لأنَّهم يملكون رقبتها ومنافعها، فيدخل فيه منفعة بُضعها، فينفسخ نكاح زوجها؛ كما ينفسخ نكاح الكافرة المسبيَّة لسَبْيِنَا

(4)

لها لهذا المعنى.

ومن الأصحاب من علَّل انفساخ نكاح الكافرة المسبيَّة: بالجهل ببقاء زوجها؛ فيكون كالمعدوم، وعلى هذا يمتنع انفساخ النِّكاح ههنا.

(1)

قوله: (أو نحوه) هو في (ب) و (ج): ونحوه.

(2)

قوله: (قبل تحريم) هو في (ب): حتى يحرم.

(3)

قوله: (إليه) ضرب عليه في (أ).

(4)

في (د) و (هـ): بسبينا.

ص: 360

وأبو الخطَّاب منع من انفساخ النِّكاح بالسَّبي بكلِّ حال، وهو قول شاذٌّ يخالف الكتاب والسُّنَّة

(1)

.

والعين المُؤْجَرة كالأمة المزوَّجة سواء.

فأمَّا الزَّوجة الحرَّة؛ فلا ينفسخ النِّكاح بسببها؛ لأنَّهم لا يملكون الحرَّة بالسَّبي؛ فلا يملكون بضعها.

وفي مسائل ابن هانئ عن أحمد

(2)

: إذا سبيت المرأة ولها زوج، ثمَّ استنقذت؛ تعود إلى زوجها إن شاءت.

وهذا يدلُّ على انفساخ النِّكاح بالسَّبي، ووجهه: أنَّ منافع الحرِّ في حكم الأموال، ولهذا تضمن بالغصب على رأي؛ فجاز أن تملك بالاستيلاء، بخلاف عينه، لا سيَّما والاستيلاء سبب قويٌّ يملك به ما لا يملك بالعقود الاختياريَّة، ولهذا يملكون به المصاحف، والرَّقيق المسلمين، ويملكون به أمَّ الولد على رواية؛ فجاز أن يملكوا به منفعة بضع الحرَّة، ولا يلزم من ذلك إباحة وطئها لهم؛ لأنَّ تصرُّفهم في أموال المسلمين لا يباح

(3)

لهم وإن قيل: إنَّهم يملكونها.

(1)

أخرج مسلم (1456) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس، فلقوا عدوًّا، فقاتلوهم فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكأن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك:{والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} ، أي: فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن.

(2)

ينظر: مسائل ابن هانئ (1/ 211).

(3)

في (أ): تباح.

ص: 361

وعلى هذا، فلو سَبَوْا حرًّا مستأجراً لمسلم؛ انفسخت الإجارة أيضاً.

وقد تأوَّل الآمديُّ قول أحمد: (ترجع إليه إن شاءت) على أنَّ المراد إن شاءت ترجع إليه في العدَّة من وطء أهل الحرب، وإن شاءت اعتدت في موضع آخر؛ لأنَّ العدَّة ليست بحقٍّ له، وإنَّما هي حقٌّ عليها لزمها من غير جهته.

ولا يخفى

(1)

بُعْدُ هذا التَّأويل من كلام أحمد، وأنَّ كلامه لا يدلُّ عليه بوجه.

ومنها: لو استولى الكفَّار على مدبَّر لمسلم، ثمَّ عاد إلى سيِّده؛ فهل يبطل تدبيره؟

إن قلنا: إنَّهم لم يملكوه؛ لم يبطل.

وإن قلنا: ملكوه؛ انبنى على أنَّ المدبَّر إذا زال الملك فيه؛ فهل يبطل التَّدبير أم لا؟ على روايتين

(2)

، وجزم ابن أبي موسى ببطلانه ههنا.

فأمَّا المكاتب؛ فلا تبطل كتابته؛ لأنَّه يجوز بيعه ويبقى على كتابته.

وكذلك المرهون؛ لأنَّ الملك ينتقل فيه بالإرث وغيره، والرَّهن باقٍ.

(1)

قوله: (ولا يخفى) هو في (أ): ويخفى.

(2)

كتب على هامش (و): (الصحيح عدم البطلان؛ لأنه إذا عاد إليه عاد التدبير).

ص: 362

سؤال:

عندكم الكافر لا يملك انتزاع ملك المسلم بالشُّفعة قهراً، مع أنَّها معاوضة؛ فكيف يملك عليه قهراً بغير عوض؟

الجواب عنه:

أنَّ الكفَّار لا يملكون أموال المسلمين بمجرَّد الاستيلاء على المنصوص عن أحمد

(1)

، بل بالحيازة إلى دارهم؛ فعلى هذا لا يثبت لهم تملُّك في دار الإسلام.

وعلى الرِّواية الأخرى المخرَّجة أنَّهم يملكونها بمجرَّد الاستيلاء؛ فالمستولى عليه إمَّا أن يكون عقاراً؛ فلا يتصوَّر استيلاؤهم عليه إلَّا أن تصير

(2)

الدَّار دار حرب؛ فلا ملك لهم في دار الإسلام أيضاً.

وإمَّا أن يكون منقولاً؛ فالمنقول يخالف حكمه حكم العقار؛ لأنَّ العقار يختصُّ

(3)

بدار الإسلام، والكافر ملتجئ إليها ومُسْتذِمٌّ ومتحقن بها، وليس من أهلها بالأصالة؛ فهو كالمستأجر مع المالك، ولهذا يمنع الكافر من إحياء موات دار الإسلام على قول، مع أنَّه زيادة عمارة، وليس الموات ملكاً لمعيَّن من المسلمين؛ فكيف يمكَّن من انتزاع ملك المسلم المعيَّن؟!

وإذا كان المسلم يباح له مزاحمة الكافر فيما يثبت

(4)

له فيه حقُّ

(1)

ينظر: الروايتين والوجهين (2/ 361).

(2)

قوله: (أن تصير) هو في (ب) وباقي النسخ: بمصير.

(3)

في (أ): تختص.

(4)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): ثبت.

ص: 363

رغبة، وإبطال حقِّه منه بعد سبقه إليه بالخِطبة على خِطبته والسَّوم على سومه، كما نص عليه أحمد استدلالاً بالحديث

(1)

، فكيف يُمَكَّن من نقض مِلك المسلم وانتزاعه منه

(2)

قهراً بعد ثبوت الملك له؟! هذا باطل قطعاً.

وهذا أحسن من الاستدلال بقوله: «وإذا لقيتموهم في طريق؛ فاضطروهم إلى أضيقه»

(3)

، مع أنَّي لم أر أحداً استدلَّ به.

وقد استدلَّ أحمد بحديث الطَّريق، وبالأمر بإخراجهم من جزيرة العرب

(4)

.

(1)

ينظر: المغني (7/ 146).

والمراد بالحديث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد، أو يتناجشوا، أو يخطُب الرجل على خِطبة أخيه، أو يبيع على بيع أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في إنائها، أو ما في صحفتها» ، وفي رواية لمسلم:«ولا يَسُم الرجل على سوم أخيه» . أخرجه البخاري (2723، 2727)، ومسلم (1413) واللفظ له.

(2)

قوله: (منه) سقط من (أ).

(3)

أخرجه مسلم (2167) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

جاء في أحكام أهل الملل (ص: 115): (أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم، قال: حدثنا إسحاق، أنه قال لأبي عبدالله، فقال: ليس لليهودي والنصراني شفعة. قيل: ولم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب»).

والحديث أخرجه مالك في الموطأ (2/ 892) عن ابن شهاب مرسلاً، وأصله في مسلم من حديث عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لأخرجن اليهود، والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا» .

ص: 364

[18] الغنيمة؛ هل تملك بالاستيلاء المجرَّد، أم لا بدَّ معه من نيَّة التَّملُّك

؟

المنصوص عن أحمد وعليه أكثر الأصحاب: أنَّها تملك بمجرَّد الاستيلاء، وإزالة أيدي الكفَّار عنها.

وهل يشترط مع ذلك فعل الحيازة؛ كالمباحات أم لا؟ على وجهين.

وقال القاضي في «خلافه» : لا تملك بدون اختيار التَّملُّك، وتردَّد في الملك قبل القسمة؛ هل هو باق للكفَّار، أو أنَّ ملكهم انقطع عنها؟

وينبني على هذا الاختلاف فوائد عديدة:

منها: جريانه في حول الزَّكاة، فإن كانت الغنيمة أجناساً؛ لم ينعقد عليها حول بدون القسمة وجهاً واحداً؛ لأنَّ حقَّ الواحد منهم لم يستقرَّ في جنس معيَّن.

وإن كانت جنساً واحداً، فوجهان:

أحدهما: ينعقد الحول عليها بالاستيلاء، بناء على حصول الملك به، قاله القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل.

والثَّاني: لا ينعقد بدون القسمة، قاله القاضي في «خلافه» ، وحكاه عن أبي بكر، وبناه على أنَّ الملك لا يثبت فيها بدون اختيار

ص: 365

التَّملُّك

(1)

لفظاً.

وهذا بعيد؛ لأنَّ أبا بكر يقول بنفوذ العتق قبل القسمة، ولأنَّه لو كان كذلك؛ لانعقد الحول عليها باختيار التَّملُّك دون القسمة؛ إذ القسمة بمجرَّدها لا تفيد الملك عند القاضي.

وإنَّما مأخذ أبي بكر: أنَّ استحقاق الغانمين ليس على وجه الشَّركة المحضة، ولذلك لا يتعيَّن حقُّ أحد منهم في شيء منها

(2)

بدون حصوله له بالقسمة؛ فلا ينعقد عليها الحول قبلها؛ كما لو كانت أصنافاً.

ومنها: لو أعتق أحد الغانمين رقيقاً من المغنم بعد ثبوت رقِّه، أو كان فيهم

(3)

من يعتق عليه بالملك؛ عتق إن كان بقدر حقِّه، وإن كان حقُّه دونه؛ فهو كمن أعتق شقصاً من عبد، نصَّ عليه أحمد في رواية المروذيِّ وابن الحكم، واختاره أبو بكر والقاضي في «المجرَّد» .

وقال في «الخلاف» : لا يعتق حتَّى يسبق تملُّكه لفظاً، ووافقه أبو الخطَّاب في «انتصاره» ، لكنَّه أثبت الملك بمجرَّد قصد التَّملُّك.

واختار صاحب «المحرَّر» المنصوص فيما إذا كانت الغنيمة جنساً واحداً، وقول القاضي فيما إذا كانت أجناساً؛ كما سبق في الزَّكاة

(4)

.

وفي «الإرشاد» لابن أبي موسى: (إن أعتق جارية معيَّنة قبل

(1)

في (ب): التَّمليك.

(2)

في (ب): منهما.

(3)

في (ب): بهم.

(4)

ينظر: الفرع الأول من هذه الفائدة.

ص: 366

القسمة؛ لم تعتق، فإن حصلت له بعد ذلك بالقسمة؛ عتقت).

قال: (وإن كان في السَّبي من يعتق عليه بالملك؛ عتق عليه إن كان بقدر حصَّته، وإلَّا عتق منه بقدر حصَّته)، فكأنَّه جعله عتقاً قهريًّا؛ كالإرث، وفرَّق بينه وبين العتق الاختياري.

ومنها: لو استولد أحد الغانمين جارية من السَّبي قبل القسمة؛ فالمنصوص: أنَّها تصير أمَّ ولد له، ويضمن لبقيَّة الغانمين حقوقهم منها.

وقال القاضي في «خلافه» : لا تصير مستولدة له، وإنَّما يتعيَّن حقُّه فيها؛ لأنَّ حملها بحُرٍّ يمنع بيعها وقسمتها، وفي تأخير قسمتها حتَّى تضع ضررٌ على أهل الغنيمة؛ فوجب تسليمها إليه من حقِّه. وهذا بعيد جدًّا.

ولأبي الخطَّاب في «انتصاره» طريقة

(1)

أخرى: وهي أنَّه إنَّما نفذ استيلادها لشبهة الملك فيها، وإن لم ينفذ إعتاقها، كما ينفذ استيلاد الأب في أمة ابنه دون إعتاقها.

وهو أيضاً ظاهر ما ذكره صاحب «المحرَّر» .

وحكى في تعليقه على «الهداية» احتمالاً آخر بالفرق بين أن تكون الغنيمة جنساً واحداً أو أجناساً؛ كما ذكره في العتق.

ومنها: لو أتلف أحد الغانمين شيئاً من الغنيمة قبل القسمة، فإن قلنا: الملك ثابت فيها؛ فعليه ضمان نصيب شركائه خاصَّة، ونصَّ عليه

(1)

في (أ): طريق.

ص: 367

أحمد في الاستيلاد.

وإن قلنا: لم يثبت الملك فيها؛ فعليه ضمان جميعها.

ومنها: لو أسقط الغانم حقَّه قبل القسمة؛ ففيه طريقان:

أحدهما: أنَّه مبنيٌّ على الخلاف، فإن قلنا: ملكوها؛ لم يسقط الحقُّ بذلك، وإلَّا سقط، وهو ظاهر ما ذكره القاضي في «خلافه» .

والثَّاني: يسقط على القولين؛ لضعف الملك، وعدم استقراره، وهو ما ذكر صاحبا

(1)

«التَّرغيب» و «المحرَّر» .

ومنها: لو مات أحدهم قبل القسمة والاختيار؛ فالمنصوص: أنَّ حقَّه ينتقل إلى ورثته.

وظاهر كلام القاضي: أنَّه وافق على ذلك، وجعل الموروث هو الحقَّ دون المال.

وفي «التَّرغيب» : إن قلنا: لا يملك بدون الاختيار، فمن مات قبله؛ فلا شيء له، ولا يورث عنه؛ كحقِّ الشُّفعة، ويحتمل أن يقال على هذا: يكتفي بالمطالبة في ميراث الحقِّ؛ كالشُّفعة.

ومنها: لو شهد أحد الغانمين بشيء من المغنم قبل القسمة، فإن قلنا: قد ملكوا؛ لم تقبل؛ كشهادة أحد الشَّريكين للآخر، وإن قلنا: لم يملكوا؛ قُبلت، ذكره القاضي في «خلافه» .

قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: وفي قبولها نظر؛ وإن قلنا: لم يملكوا؛ لأنَّها شهادة تجرُّ نفعاً.

(1)

في (أ) و (ج): صاحب.

ص: 368

قلت: هذا ذكره القاضي في مسألة ما إذا وطئ أحد الغانمين جارية من المغنم، وذكر في مسألة السَّرقة من بيت المال والغنيمة: أنَّه لا تقبل شهادة أحد الغانمين بمال الغنيمة مطلقاً، وهو الأظهر، والله أعلم

(1)

.

(1)

قوله: (والله أعلم) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و).

ص: 369

[19] القسمة؛ هل هي إفراز أو بيع

؟

المذهب: أنَّ قسمة الإجبار - وهي ما لا يحصل فيه ردُّ عوض من أحد الشَّريكين ولا ضرر عليه

(1)

-؛ إفراز لا بيع.

وذهب ابن بطَّة: إلى أنَّها كالبيع في أحكامه

(2)

.

قال الشَّيخ مجد الدِّين: (الَّذي يتحرَّر عندي فيما فيه ردٌّ: أنَّه بيع فيما يقابل الرَّدَّ، وإفراز في الباقي؛ لأنَّ الأصحاب

(3)

قالوا في قسمة الطَّلق عن الوقف: إذا كان فيها ردٌّ من جهة صاحب الوقف؛ جاز؛ لأنَّه يشترى به الطَّلق، وإن كان من جهة صاحب الطَّلق؛ لم يجز).

ويتفرَّع على الاختلاف في كونها إفرازاً أو بيعاً فوائد كثيرة:

منها: لو كان بينهما ماشية مشتركة، فقسَّماها

(4)

في أثناء الحول، واستداما خلطة الأوصاف، فإن قلنا: القسمة إفراز؛ لم ينقطع الحول

(1)

قوله: (قسمة الإجبار: وهي ما لا يحصل فيه ردُّ عوض من أحد الشَّريكين ولا ضرر عليه) هو في (ب): (القسمة)، وزاد في (ن): فيه.

(2)

زاد في (ج) و (د) و (و): وحكى الآمديُّ روايتين. وزاد في (هـ) و (ن): وحكى الآمديُّ روايتين، فأمَّا ما كان فيه ردُّ عوض؛ فهو بيع.

(3)

في (ب) وباقي النسخ: أصحابنا.

(4)

في (أ): فقسمها. وفي (ج) و (د) و (هـ): فاقتسماها.

ص: 370

بغير خلاف، وإن قلنا: بيع؛ خُرِّج على بيع الماشية بجنسها في أثناء الحول؛ هل يقطعه أم لا؟

ومنها: إذا تقاسما وصرَّحا بالتَّراضي، واقتصرا على ذلك؛ فهل يصحُّ؟

إن قلنا: هي إفراز؛ صحَّت.

وإن قلنا: هي بيع؛ فوجهان ذكرهما صاحب «التَّرغيب» ، وكأن مأخذهما الخلاف في اشتراط الإيجاب والقبول.

وظاهر كلامه: أنَّها تصحُّ بلفظ القسمة على الوجهين.

ويتخرَّج ألَّا يصحَّ من الرِّواية الَّتي حكاها في «التَّلخيص» باشتراط لفظ البيع والشِّراء في البيع

(1)

.

ومنها: لو تقاسموا ثمر النَّخل والعنب على الشَّجر، أو الزَّرع المشتدَّ في سنبله خرصاً، أو الرِّبويَّات على ما يختارون من كيل أو وزن، فإن قلنا: هي إفراز؛ جاز، نصَّ عليه أحمد في رواية الأثرم في جواز القسمة بالخرص.

وإن قلنا: بيع؛ لم يصحَّ.

وفي «التَّرغيب» إشارة إلى خلاف في الجواز مع القول بالإفراز.

وكذلك لو تقاسموا الثَّمر على الشَّجر قبل صلاحه بشرط التَّبقية؛ فيجوز على القول بالإفراز دون البيع.

ومنها: لو تقاسموا أموالاً رِبويَّة؛ جاز أن يتفرَّقوا قبل القبض على

(1)

قوله: (في البيع) سقط من (أ).

ص: 371

القول بالإفراز، ولم يجز على القول بالبيع.

ومنها: لو كان بعض العقار وقفاً وبعضه طلقاً، وطلب أحدهما القسمة؛ جازت إن قلنا: هي إفراز.

وإن قلنا: بيع؛ لم يجز؛ لأنَّه بيع للوقف.

فأمَّا إن كان الكلُّ وقفاً؛ فهل يجوز قسمته؟ فيه طريقان:

أحدهما: أنَّه كإفراز الطلق

(1)

من الوقف سواء، وهو المجزوم به في «المحرَّر» .

والثَّاني: أنَّه لا تصحُّ

(2)

القسمة على الوجهين جميعاً على الأصح، وهي طريقة «التَّرغيب» .

وعلى القول بالجواز؛ فهو مختصٌّ بما إذا كان وقفاً على جهتين لا على جهة واحدة، صرَّح به الأصحاب، نقله الشَّيخ تقيُّ الدِّين

(3)

.

ومنها: قسمة المرهون كلِّه أو بعضه مشاعاً، إن قلنا: هي إفراز، صحَّت.

(1)

في (أ): المطلق.

(2)

في (ب): يصحُّ.

(3)

جاء في الفروع (11/ 242): (وقال أيضًا - أي شيخ الإسلام-: صرَّح الأصحاب بأن الوقف إنما يجوز قسمته إذا كان على جهتين، فأما الوقف على جهة واحدة فلا تقسم عينه قسمة لازمة اتفاقًا؛ لتعلق حق الطبقة الثانية والثالثة، لكن تجوز المهايأة، وهي قسمة المنافع، ولا فرق في ذلك بين المناقلة بالمنافع وبين تركها على المهايأة بلا مناقلة.

والظاهر: أن ما ذكر شيخنا عن الأصحاب وجه، وظاهر كلامهم لا فرق، وهو أظهر).

ص: 372

وإن قلنا: بيع؛ لم تصحَّ

(1)

.

ولو استضرَّ بها المرتهن؛ بأن رهنه أحد الشَّريكين حصَّة من بيت معيَّن من دار، ثمَّ اقتسما فحصل البيت في حصَّة شريكه؛ فظاهر كلام القاضي: أنَّه لا يمنع منه على القول بالإفراز.

وقال صاحب «المغني» : يمنع منه.

ومنها: إذا اقتسما أرضاً، فبنى أحدهما في نصيبه وغرس، ثمَّ استحِقَّت الأرض، فقُلع غرسه وبناؤه، فإن قلنا: هي إفراز؛ لم يرجع على شريكه.

وإن قلنا: بيع؛ رجع عليه بقيمة النَّقص إذا كان عالماً بالحال دونه، ذكره في «المغني» .

وجزم القاضي بالرُّجوع عليه مع قوله: إنَّ القسمة إفراز.

ومنها: ثبوت الخيار فيها، وفيه طريقان:

أحدهما: ينبني على الخلاف، فإن قلنا: إفراز؛ لم يثبت فيها خيار، وإن قلنا: بيع؛ ثبت، وهو المذكور في «الفصول» و «التَّلخيص» ، وفيه ما يوهم اختصاص الخلاف بخيار المجلس، فأمَّا خيار الشَّرط؛ فلا

(2)

يثبت فيها على الوجهين.

والثَّاني: يثبت فيها خيار المجلس وخيار الشَّرط على الوجهين جميعاً، قاله القاضي في «خلافه» ، معلِّلاً: بأنَّ ذلك جعل للارتياء فيما

(1)

في (ب): يصحَّ.

(2)

في (ب): لا.

ص: 373

فيه الحظُّ، وهذا المعنى موجود في القسمة.

قال الشَّيخ تقيُّ الدِّين: وهذا صريح في أنَّ قسمة التَّراضي إفراز؛ لأنَّ قسمة الإجبار لا معنى لثبوت الخيار فيها؛ إذ في كلِّ لحظة يملك الإجبار؛ فلا ينفع ثبوت الخيار في فسخها.

وذكر أيضاً: أنَّه حيث وجبت القسمة؛ فينبغي أن تكون

(1)

لازمة؛ لأنَّ أحدهما إذا فسخها؛ كان للآخر مطالبته بإعادتها؛ فلا فائدة فيه، وقد يكون فيه ضرر على أحدهما؛ فإنَّه قد يتصرَّف فيما حصل له وبغيره، فإذا نُقضت القسمة؛ تضرر بذلك، ولم يحصل له الانتفاع، ولا سيَّما إن تكرر ذلك من شريكه مضاررة.

(2)

قلت: ويشهد لهذا ما ذكره القاضي في «خلافه» في المعسر بالنَّفقة إذا طلَّق الحاكم عليه رجعيًّا، ثمَّ ارتجع من غير يسار تجدَّد له: أنَّه لا تصحُّ رجعته؛ لما فيه من إعادة الضَّرر الَّذي أزلناه بالطَّلاق.

وقال ابن عقيل في «عمد الأدلَّة» ، وصاحب «المغني»: له الرَّجعة، فإذا ارتجع؛ عادت المطالبة له، فإن أبى؛ طلَّق عليه حتَّى يستوفي الطَّلاق الثَّلاث.

وأخذه ابن عقيل من المُولي إذا طلَّق في أثناء المدَّة بعد طلب الفيئة

(3)

طلاقاً رجعيًّا، فإنَّ له الرَّجعة، ويطالب بالفيئة

(4)

ثانياً.

(1)

في (ب): يكون.

(2)

قوله: (مضاررة) سقط من (ب)، وفي (هـ): مضارَّة.

(3)

في (ب): القيمة.

(4)

في (ب): بالقيمة.

ص: 374

والقاضي يفرِّق بينهما: بأنَّ رجعة المُولي أقرب إلى حصول مقصود المرأة من الفيئة من حال العدَّة الجارية إلى البينونة، بخلاف رجعة المعسر.

ولكن لا يتوجَّه على قول ابن عقيل: التَّمكينُ من فسخ قسمة الإجبار هنا؛ لأنَّ الضَّرر في الطَّلاق لا يتأبَّد؛ لأنَّه محدود بثلاث مرَّات، بخلاف ضرر الفسخ هنا؛ فإنَّه لا نهاية له.

وذكر الشَّيخ تقيُّ الدِّين: أنَّ المولي إذا طلَّق؛ لم يمكَّن من الرَّجعة إلَّا بشرط أن يفيء؛ لأنَّ أصل الرَّجعة إنَّما أباحها الله تعالى لمن أراد الإصلاح؛ فكيف بالمولي الَّذي ظهر

(1)

منه قصد الإضرار؟! فلا يمكَّن من الرَّجعة بدون شرط الفيئة؛ لئلَّا يكون ارتجاعه زيادة في الإضرار

(2)

.

وذكر في «الكافي» في هذه المسألة: أنَّهما إن اقتسما بأنفسهما؛ لم تلزم القسمة إلَّا بتراضيهما وتفرُّقهما

(3)

؛ كالبيع، وإن قسم بينهما الحاكم، أو قاسمه، أو رجل عالم

(4)

نصباه بينهما؛ لزمت قسمته بغير رضاهما، إلَّا أن يكون فيها ردٌّ؛ فوجهان؛ نظراً إلى أنَّها بيع، فيقف على الرِّضا، وإلى أنَّ القاسم كالحاكم، وقرعته كحكمه.

ومنها: ثبوت الشُّفعة بها

(5)

، وفيه طريقان:

(1)

في (ب): يظهر.

(2)

ينظر: الاختيارات (ص 394).

(3)

في (ب): ومعرفتهما.

(4)

قوله: رجل عالم) هو في (ب): عدل.

(5)

في (أ): فيها. وقوله: (بها) سقط من (ج).

ص: 375

أحدهما: بناؤه على الخلاف، فإن قلنا: إفراز؛ لم يثبت، وإن قلنا: بيع؛ ثبتت، وهو ما ذكره السَّامريُّ في باب الرِّبا.

والثَّاني: لا يوجب الشُّفعة على الوجهين، قاله القاضي وصاحب «المحرَّر» ؛ لأنَّه لو ثبت لأحدهما على الآخر؛ لثبت للآخر عليه، فيتنافيان

(1)

.

ومنها: قسمة المتشاركين في الهدي والأضاحي اللَّحمَ، فإن قلنا: إفراز؛ جازت، وإن قلنا: بيع؛ لم يجز، هذا ظاهر كلام الأصحاب.

ومنها: لو حلف لا يبيع، فقاسم، فإن قلنا: القسمة بيع؛ حنث، وإلَّا فلا، ذكره الأصحاب.

وقد يقال: الأيمان محمولة على العرف، ولا تسمَّى القسمة بيعاً في العرف؛ فلا يحنث بها، ولا بالحوالة، ولا بالإقالة، وإن قيل: هي بيوع.

ومنها: لو اقتسم الورثة التَّركة، ثمَّ ظهر على الميت دين أو وصيَّة: فإن قلنا: هي إفراز؛ فالقسمة باقية على الصِّحَّة.

وإن قلنا: بيع؛ فوجهان، بناءً على الخلاف في بيع التَّركة المستغرقة بالدَّين، وقد سبق.

(2)

ومنها: لو ظهر في القسمة غَبن فاحش: فإن قلنا: هي إفراز؛ لم تصح

(3)

؛ لتبيُّن فساد الإفراز.

(1)

في (أ): فيتباينان.

(2)

ينظر: الفائدة: الدين هل يمنع انتقال التركة ص

(3)

في (أ) و (د) و (و): يصح.

ص: 376

وإن قلنا: بيع؛ صحَّت، وثبت فيها خيار الغبن في البيع، ذكره في «التَّرغيب» ، وقيَّده بقسمة القراض.

ومنها: لو اقتسما داراً نصفين، ثمَّ ظهر بعضُها مستحَقًّا: فإن قلنا: إفراز؛ انتقضت القسمة؛ لفساد الإفراز.

وإن قلنا: بيع؛ لم تنتقض، ويرجع

(1)

على شريكه بقدر حقِّه في المستحَقِّ إذا قلنا بذلك في تفريق الصَّفقة؛ كما لو اشترى داراً، فبان بعضُها مستحَقًّا، ذكره الآمدي.

وفي «المحرَّر» : إن كان المستحَقُّ معيَّناً وهو في الحصَّتين؛ فالقسمة بحالها، ولم يحك خلافاً.

وذكر صاحب «الكافي» احتمالاً بالبطلان؛ بناءً على عدم تفريق الصَّفقة إذا قلنا: هي بيع.

وإن كان المستحَقُّ معيَّناً في إحدى الحصَّتين، أو شائعاً فيها، أو في إحداهما؛ فثلاثة أوجه في «المحرَّر»:

أحدها: تبطل.

والثاني: لا يبطل.

والثالث: يبطل بالإشاعة في إحداهما خاصَّةً، وهو ظاهر كلام صاحب «المغني» .

والأوَّل اختيار القاضي وابن عقيل، مع قولهما بتفريق الصَّفقة.

قال الشَّيخ مجد الدِّين: والوجهان الأوَّلان فرع على قولنا بتفريق

(1)

في (أ): ورجع.

ص: 377

الصَّفقة في البيع، فأمَّا إن قلنا: لا تتفرَّق هناك؛ بطلت ههنا وجهاً واحداً.

وفي «البلغة» : إذا ظهر بعض حصَّة أحدهما مستحَقًّا؛ انتقضت القسمة، وإن ظهر في حصَّتهما على استواء النِّسبة وكان

(1)

معيَّناً؛ لم تنتقض إذا علَّلنا فساد تفريق الصَّفقة بالجهالة، وإن علَّلناه باشتمالها على ما لا

(2)

يجوز؛ بطلت، وإن كان المستحَقُّ مشاعاً؛ انتقضت القسمة في الجميع على أصحِّ الوجهين.

ومنها: إذا مات رجل وزوجته حامل- وقلنا: لها السُّكنى-، فأراد الورثة قسمة المسكن قبل انقضاء العدَّة، من غير إضرار بها، بأن يُعلموا الحدود بخطٍ أو نحوه من غير نقض ولا بناء؛ ففي «المغني»:(يجوز ذلك)، ولم يبنه على الخلاف في القسمة

(3)

، مع أنَّه قال:(لا يصحُّ بيع المسكن في هذه الحال؛ لجهالة مدَّة الحمل المستثناة فيه حكماً)، وهذا يدلُّ على أنَّ مثل هذا يغتفر في القسمة على الوجهين.

ويحتمل أن يقال: متى قلنا: القسمة بيع، وإنَّ بَيْعَ هذا المسكن لا يصحُّ؛ لم تصح القسمة.

ومنها: قسمة الدَّين في ذمم الغرماء، فإن قلنا: القسمة إفراز؛ صحَّت.

(1)

في (ب) و (ن): فإن كان.

(2)

قوله: (لا) سقط من (ب).

(3)

في (أ): القسم.

ص: 378

وإن قلنا: بيع؛ لم تصح

(1)

.

وقد حكى الأصحاب في المسألة روايتين، وهذا البناء يتوجه على طريقة من طرد الخلاف في قسمة التراضي؛ كالشيخ تقي الدين رحمه الله

(2)

، مع أنه يميل إلى دخول الإجبار في قسمة الديون على الغرماء المتقاربين في الملاءة؛ لأنَّ الذِّمم عندنا تتكافأ، بدليل الإجبار على قبول الحوالة على المليء.

وخصَّ القاضي وابن عقيل الروايتين بما إذا كان الدَّين في ذمَّتين فصاعداً، فإن كان في ذمَّةٍ واحدة؛ لم تصحَّ قسمته رواية واحدة.

وأنكر ذلك الشيخ مجد الدين

(3)

،

ويشهد لقوله أن القاضي في «خلافه» قال

(4)

: (إذا قبض أحد الشريكين من الدَّين بإذن شريكه؛ اختصَّ بما قبضه).

وفرَّق في موضع آخر بين الدَّين الثابت بعقد؛ فيختص أحد الشريكين بما قبضه منه ولو بغير إذن شريكه، وبين الثابت بإرث ونحوه؛

(1)

في (أ) و (د): يصح.

(2)

ينظر: الاختيارات (ص 214).

(3)

في (ب): تقي الدين. وقوله: (ذلك الشَّيخ مجد الدين) هو في (ج): الشيخ مجد الدين ذلك.

جاء في الاختيارات لشيخ الإسلام (ص 214): (ويجوز قسمة الدين في ذمة أو ذمم، وهو رواية عن أحمد). وقد عزاه في الإنصاف (14/ 40) لشيخ الإسلام أيضاً.

(4)

قوله: (في خلافه قال) هو في (ب) و (ن): قال في خلافه.

ص: 379

فلا يختصُّ.

وقد نصَّ أحمد في «رواية ابن منصور» على الاشتراك في ثمن الطعام المشترك

(1)

، ونصَّ في روايته أيضاً على جواز القسمة بالتراضي في الذِّمَّة الواحدة

(2)

.

وسلك صاحب «المغني» في توجيه الروايتين في المسألة طريقةً ثانية، وهي أنَّ قبض أحد الشريكين من الدَّين المشترك؛ هل هو قسمة للدَّين، أو تعيين لحقه بالأخذ كالإبراء؟

فإن قلنا: هو قسمة

(3)

؛ لم يجز لأحدهما الانفراد بالقبض، فإن أذن الشريك؛ فيه وجهان

(4)

:

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2886): قلت: سئل سفيان عن رجلين باعا من رجل طعاماً بمائة درهمٍ وكَتَبا الصك جميعاً باسميهما، فأخذ أحدهما دراهم من الصك؟ قال: ما أخذ فهو له، إلا أن يكونا خلطا الطعام قبل البيع. قال أحمد:(إذا خلطا، فما أخذا من شيء فهو بينهما).

(2)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 2884): قلت: سئل سفيان عن رجلين أخوين وَرِثا صكاً من أبيهما، فذهبا إلى الذي عليه الحق، فتقاضياه، فقال: عندي طعام، فاشتَرِيا مني طعاماً بما لكما عليّ، فقال أحد الأخوين: أنا آخذ بنصيبي طعاماً، وقال الآخر: لا آخذ إلا الدراهم، فأخذ أحدهما منه عشرة أقفزة بخمسين درهماً، وهو الذي يصيبه. قال: جائز، ويتقاضاه الآخر، فإن تَوِيَ وذهب ما على الغريم؛ رجع الأخ على أخيه بنصف الدراهم التي أخذ ولا يرجع بالطعام. قال أحمد:(لا يرجع عليه بشيء، إذا كان قد رضي به، حديث ابن عباس: يتخارج أهل الميراث).

(3)

قوله: (للدَّين، أو تعيين لحقه بالأخذ كالإبراء؟ فإن قلنا: هو قسمة) سقط من (أ).

(4)

في (ب): فوجهان.

ص: 380

أحدهما: يصحُّ، وينفرد به القابض؛ لأنَّ الحقَّ لشريكه، وقد أسقطه.

والثاني: لا يصحُّ، وهو قول أبي بكر؛ لأنَّ حقَّ الشريك في الذِّمَّة، لا في عين المال؛ فلا تنفع إذنه في قبض الأعيان.

وفيه ضعف؛ فإنَّ الأعيان هي متعلَّقُ حقِّه، ولذلك تتعلَّق حقوق غرماء المفلس بماله.

وإن قلنا: ليس القبض قسمةً؛ جاز؛ لأنَّ حقَّ الشريك في الذِّمَّة، ولا

(1)

ينتقل إلى العين إلا بقبض الغريم أو وكيله، فقبض الشريك لنفسه تعيين لحقِّه لا غير؛ فيختصُّ به دون شريكه، سواء كان بإذن الشريك أو بدونه.

كذلك

(2)

حكى صاحب «المغني» هذه الرواية، وذكر عن أحمد ما يدلُّ عليها

(3)

، وقد ذكرها

(4)

أبو بكر عبد العزيز.

(1)

في (ب): لا.

(2)

في (ب) و (هـ) و (ن): وكذلك.

(3)

قال في المغني (5/ 59): (وقد روي عن أحمد ما يدل على أن لأحدهما أن يأخذ حقه دون صاحبه، ولا يشاركه الآخر فيما أخذه، وهو قول أبي العالية، وأبي قلابة، وابن سيرين، وأبي عبيد، قيل لأحمد: بعت أنا وصاحبي متاعًا بيني وبينه، فأعطاني حقي، وقال: هذا حقك خاصة، وأنا أعطي شريكك بعد. قال: لا يجوز. قيل له: فإن أخره أو أبرأه من حقه دون صاحبه؟ قال: يجوز. قيل: فقد قال أبو عبيد: له أن يأخذ دون صاحبه إذا كان له أن يؤخر، ويبرئه دون صاحبه؟ ففكر فيها، ثم قال: هذا يشبه الميراث إذا أخذ منه بعض الورثة دون بعض، وقد قال ابن سيرين، وأبو قلابة، وأبو العالية: من أخذ شيئًا فهو من نصيبه. قال: فرأيته قد احتج له وأجازه).

(4)

في (ب): أنكرها.

ص: 381

ويتوجَّه عندي في توجيه الروايتين طريقةٌ ثالثة، وهي: أنَّ أحد الشريكين إذا قبض من الدَّين المشترك؛ فإنَّما قبض حقَّه المختصَّ به، لكن ليس له القبض دون شريكه؛ لاشتراكهما في أصل الاستحقاق؛ كغرماء المفلس، فإذا قبض بدون إذن شريكه؛ فهل لشريكه مقاسمته فيما قبضه

(1)

أم لا؟ على الروايتين.

فوجه المحاصَّة: القياس على قبض بعض الشركاء من الأعيان المشتركة بدون قسمة؛ كالمواريث، أو من الأعيان المتعلِّق بها حقوقهم؛ كمال المفلس.

ووجه عدم المحاصَّة: أنَّ المقبوض من الدين كلِّه حقٌّ للقابض

(2)

؛ ولهذا لو تلف في يده؛ لتلف كلُّه من نصيبه، ولم يضمن لشريكه شيئاً، بخلاف القبض من الأعيان.

فعلى هذه الرواية: لا فرق بين أن يقبض بإذن الشريك أو بدونه.

وعلى الأولى

(3)

: إن قبض بإذنه؛ فهل له محاصَّته فيه؟ على وجهين؛ لأنَّ حقَّه في المحاصَّة إنَّما يثبت بعد القبض؛ فهو كإسقاط الشُّفعة قبل البيع.

وقد يقال: التراضي بقبض كل واحد منهما بعض الدَّين؛ قسمة له؛ لأنَّ القسمة في الأعيان تقع بالمحاسبة والأقوال في المنصوص

(4)

،

(1)

قوله: (فيما قبضه) سقط من (ب).

(2)

في (ب) و (ج) و (هـ) و (و): القابض.

(3)

في (أ) و (د) و (و): الأول.

(4)

في (ب): المقبوض.

ص: 382

فكذا في الدُّيون.

وأمَّا إن كان المشترك بعضه عيناً وبعضه ديناً؛ فأخذ بعض الشركاء العين، وبعضهم الدَّين؛ فقد نصَّ أحمد على جوازه مع الكراهة، وحكاه عن ابن عبَّاس

(1)

، وقال: لا يكون إلَّا في الميراث.

وخرَّجه الشيخ مجد الدين على القول بجواز بيع الدَّين من غير الغريم؛ لأنَّ هذه القسمة بيع بغير خلاف عنده.

وعلى ما ذكره الشيخ تقي الدين: قد يطَّرد فيها الخلاف، والله أعلم.

ومنها: قبض أحد الشريكين نصيبه من المال المشترك المثلي مع غيبة

(2)

الآخر، أو امتناعه من الإذن بدون إذن الحاكم، وفيه وجهان سبق ذكرهما في القواعد

(3)

، والوجهان على قولنا: القسمة إفراز.

فإن قلنا: هي بيع؛ لم يجز وجهاً واحداً.

فأمَّا غير المثليِّ؛ فلا يقسم إلَّا مع الشريك أو من يقوم مقامه؛ كالوصيِّ، والوليِّ، والحاكم.

ومنها: لو اقتسما داراً، فحصل الطريق في نصيب أحدهما، ولم

(1)

علقه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما بصيغة الجزم (3/ 94)، في باب الحوالة، وهل يرجع في الحوالة؟ ووصله عبد الرزاق (15253)، وابن أبي شيبة (20788)، ولفظ البخاري:«يتخارج الشريكان وأهل الميراث، فيأخذ هذا عينًا وهذا دينًا، فإن تَوِيَ لأحدهما لم يرجع على صاحبه» .

(2)

في (ب): عينه.

(3)

ينظر: القاعدة (23) ص ....

ص: 383

يكن للآخر منفذ يتطرَّق منه؛ فقال أبو الخطَّاب، وصاحبا

(1)

«المغني» و «المحرر» : تبطل القسمة.

وخرَّج صاحب «المغني» فيه

(2)

وجهاً آخر: أنَّها تصحُّ، ويشتركان في الطريق؛ من نصِّ أحمد رحمه الله على اشتراكهما في مسيل الماء، وقد ذكرنا ذلك فيما سبق في القواعد.

ويتوجَّه أن يقال: إن قلنا: القسمة إفراز؛ بطلت، وإن قلنا: بيع؛ صحَّت، ولزم الشريك تمكينه من الاستطراق، بناءً على قول الأصحاب: إذا باعه بيتاً من وسط داره، ولم يذكر طريقاً؛ صحَّ البيع، واستتبع طريقه، كما

(3)

ذكره القاضي في «خلافه» .

ولو اشترط عليه الاستطراق في القسمة؛ صحَّ، قال الشيخ مجد الدين: هذا قياس مذهبنا في جواز بيع الممر.

ومنها: لو حلف لا يأكل ممَّا اشتراه زيد، فاشترى زيد وعمرو طعامًا مشاعاً، وقلنا: يحنث بالأكل منه، فتقاسماه، ثمَّ أكل الحالف من نصيب عمرو:

فذكر الآمديُّ: أنَّه لا يحنث؛ لأنَّ القسمة إفراز حقٍّ

(4)

لا بيع، وهذا يقتضي أنَّه يحنث إذا قلنا: هي بيع.

(1)

في (ب) و (ج) و (هـ) و (و): وصاحب.

(2)

قوله: (فيه) سقط من (أ) و (ج).

(3)

قوله: (كما) سقط من (ب) و (و) و (ن).

(4)

قوله: (حق) سقط من (ب).

ص: 384

وقال القاضي: قياس المذهب: أنَّه يحنث مطلقاً؛ لأنَّ القسمة لا تخرجه عن أن يكون زيد اشتراه.

ويحنث عند أصحابنا بأكل ما اشتراه زيد، ولو انتقل الملك عنه إلى غيره.

وفي «المغني» احتمال: لا يحنث هنا

(1)

.

وعليه يتخرج: أنَّه لا يحنث إذا

(2)

قلنا: القسمة بيع، والله أعلم

(3)

.

(1)

في (ب) و (ن): ههنا.

(2)

في (ب) و (ن): إن. وفي (هـ): وإن.

(3)

قوله: (والله أعلم) سقط من (أ) و (ج) و (د) و (هـ) و (و).

ص: 385

‌ونختم هذه الفوائد بذكر فائدتين، بل قاعدتين يكثر ذكرهما في مسائل الفقه، وتنتشر فروعهما انتشاراً كثيراً، ونذكر ضوابطها وأقسامها:

‌الفائدة الأولى

التصرفات للغير بدون إذنه؛ هل تقف

(1)

على إجازته أم لا؟ ويعبَّر عنها بتصرُّف الفضوليِّ

.

وتحتها أقسام:

القسم الأول: أن تدعو الحاجة إلى التصرُّف في مال الغير أو حقِّه، ويتعذَّر استئذانه؛ إمَّا للجهل بعينه، أو لغيبته، أو مشقَّة

(2)

انتظاره؛ فهذا التصرُّف مباح جائز موقوف على الإجازة.

وهو في الأموال غير مختلف فيه في المذهب، وغير محتاج إلى إذن حاكم على الصحيح.

وفي الأبضاع مختلف فيه، غير أنَّ الصحيح من المذهب جوازه

(1)

في (أ) و (ج): يقف.

(2)

في (ب) و (و): ومشقة.

ص: 386

أيضاً، وفي افتقاره إلى الحاكم خلاف.

فأمَّا الأموال: فكالتصدق باللُّقطة التي لا تملك، وكالتَّصدُّق بالودائع والغصوب التي لا يُعرَف ربُّها أو انقطع خبره، وقد سبق في القواعد استقصاء صور هذا النوع

(1)

، ويكون ذلك موقوفاً، فإن أجازه المالك

(2)

؛ وقع له أجره، وإلَّا ضمنه المتصرِّف، وكان أجره له، صرَّح بذلك الصحابة رضي الله عنهم

(3)

.

وأمَّا الأبضاع: فتزويج امرأة المفقود إذا كانت غيبته ظاهرها الهلاك، فإنَّ امرأته تتربَّص أربع سنين، ثمَّ تعتدُّ وتباح للأزواج، وفي توقُّف ذلك على الحاكم روايتان.

واختلف في مأخذه: فقيل: لأنَّ أمارات موته ظاهرة؛ فهو كالميت حكماً.

(1)

ينظر: القاعدة (97) ص .....

(2)

في (أ): الملك.

(3)

علق ابن عبد البر في التمهيد (2/ 24)، عن سنيد حدثنا أبو فضالة عن أزهر بن عبد الله قال: غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم، فغلَّ رجل مائة دينار، فأتى بها معاوية بن أبي سفيان، فأبى أن يقبلها، وقال: قد نفر الجيش وتفرق، فخرج فلقي عبادة بن الصامت، فذكر ذلك، له فقال: ارجع إليه، فقل له: خُذْ خُمُسها أنت، ثم تصدق أنت بالبقية، فإن الله عالم بهم جميعًا، فأتى معاوية فأخبره، فقال: لأن كنت أنا أفتيتك بهذا كان أحب إلي من كذا وكذا. انتهى، قال ابن عبد البر:(وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس؛ لأنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه)، ثم قال:(وقد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها، وجعلوه - إذا جاء - مخيرًا بين الأجر والضمان، وكذلك الغصوب).

ص: 387

وقيل: بل لأنَّ انتظاره يعظم به الضرر على زوجته؛ فيباح لها فسخ نكاحه؛ كما لو ضارَّها بالغيبة، وامتنع من القدوم مع المراسلة.

وعلى هذين المأخذين ينبني: أنَّ

(1)

الفرقة هل تنفذ ظاهراً وباطناً، أو ظاهراً فقط؟

وينبني الاختلاف في طلاق الوليِّ لها.

وله مأخذ ثالث - وهو الأظهر -: وهو أنَّ الحاجة دعت هنا إلى التصرُّف في حقِّه من بضع الزوجة بالفسخ عليه؛ فيصحُّ الفسخ وتزوُّجها بغيره ابتداءً؛ للحاجة، فإن لم يظهر؛ فالأمر على ما هو عليه، وإن ظهر؛ كان ذلك موقوفاً على إجازته، فإذا قدم؛ فإن شاء أمضاه، وإن شاء ردَّه.

القسم الثاني: ألَّا تدعو الحاجة إلى هذا التصرُّف ابتداءً، بل إلى صحَّته وتنفيذه؛ بأن تطول مدَّة التصرُّف

(2)

، ويتعذَّر استرداد أعيان أمواله؛ فللأصحاب فيه طريقان:

أشهرهما: أنَّه على الخلاف الآتي ذكره.

والثاني: أنَّه ينفذ ههنا بدون إجازة؛ دفعاً لضرر المالك بتفويت الربح، وضرر المشترين بتحريم ما قبضوه بهذه العقود، وهذه طريقة صاحب «التلخيص» في باب المضاربة، وصاحب «المغني» في

(3)

(1)

في (ب) و (ج) و (و): على أن.

(2)

زاد في (ب) وبقية النسخ: (وتكثر)، وقد ضرب عليها في (أ).

(3)

في (أ): في باب.

ص: 388

موضع منه.

القسم الثالث: ألَّا تدعو الحاجة إلى ذلك ابتداءً ولا دواماً؛ فهذا القسم في

(1)

التصرُّف فيه من أصله ووقوفه على إجازة المالك وتنفيذه روايتان معروفتان.

واعلم أنَّ لتصرف الشخص في مال غيره حالتين:

إحداهما: أن يتصرَّف فيه لمالكه؛ فهذا محلُّ الخلاف الذي ذكرناه، وهو ثابت في التصرُّف في ماله بالبيع والإجارة ونحوهما.

وأمَّا في النِّكاح؛ فللأصحاب فيه طريقان:

إحداهما: إجراؤه على الخلاف، وهو ما قال القاضي والأكثرون.

والثاني: الجزم ببطلانه قولاً واحداً، وهو طريق أبي بكر، وابن أبي موسى، ونصَّ أحمد على التفريق بينهما في رواية ابن القاسم؛ فعلى هذا لو زوَّج المرأة أجنبيٌّ، ثمَّ أجازه الوليُّ؛ لم ينفذ بغير خلاف؛ كما لو زوَّجت المرأة نفسها.

نعم، لو زوَّج غيرُ الأب من الأولياء الصغيرةَ بغير

(2)

إذنها، أو زوَّج الوليُّ البكرَ

(3)

بدون إذنها؛ فهل يبطل من أصله، أو يقف على إجازتها؟ على روايتين، ذكر ذلك ابن أبي موسى.

الحالة الثانية: أن يتصرَّف فيه لنفسه، وهو الغاصب، ومن يتملَّك مال غيره لنفسه، فيجيزه له المالك.

(1)

زاد في (ب) وباقي النسخ: (بطلان)، وقد ضرب عليها في (أ).

(2)

في (ب): بدون.

(3)

في (ب): الكبيرة.

ص: 389

فأمَّا الغاصب: فذكر أبو الخطَّاب في جميع تصرُّفاته الحكميَّة روايتين:

إحداهما: البطلان.

والثانية: الصِّحَّة.

قال: (وسواء في ذلك العبادات؛ كالطهارة والصلاة والزكاة والحجِّ، والعقود؛ كالبيع والإجارة والنكاح).

وتبعه على ذلك جماعة ممَّن بعده.

ثمَّ منهم من أطلق هذا الخلاف غير مقيَّد بالوقف على الإجازة، ومنهم من قيَّده بها؛ كالقاضي في «خلافه» ، وابن عقيل وصاحب «المغني» في موضع من كلامهما.

فإن أريد بالصِّحَّة من غير وقف على الإجازة؛ وقوعُ التصرُّف عن المالك، وإفادة ذلك للملك له؛ فهو الطريق الثانية في القسم الثاني الذي سبق ذكره.

وإن أريد الوقوع للغاصب من غير إجازة؛ ففاسد قطعاً، إلَّا في صورة شرائه في الذِّمَّة إذا نقد المال من المغصوب؛ فإنَّ الملك يثبت له فيها، نصَّ عليه في رواية المروذي.

ولا ينافي ذلك قولنا: إنَّ الربح للمالك؛ لأنَّه فائدة ماله وثمرته؛ فيختصُّ به، وإن كان أصل الملك لغيره، صرح به القاضي في «خلافه» .

ومن فروع ذلك في العبادات المالية: لو أخرج الزكاة عن ماله من

ص: 390

مال حرام؛ فالمشهور: أنَّه يقع باطلاً.

وحُكِيَ عن أحمد: أنَّه إن أجازه المالك؛ أجزأته، وإلَّا فلا.

ومنها: لو تصدَّق الغاصب بالمال؛ فإنَّه لا تقع الصَّدقة له، ولا يثاب عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا يقبل الله صلاةً بغير طُهور، ولا صدقةً من غُلول»

(1)

.

ولا يثاب المالك على ذلك أيضاً؛ لعدم تسبُّبه إليه، ذكره ابن عقيل في «فنونه» ، ونقل نحوه عن سعيد بن المسيب.

ومن الناس من قال: يثاب المالك عليه، ورجَّحه بعض شيوخنا

(2)

؛ لأنَّ هذا البرَّ تولَّد من مال اكتسبه؛ فيؤجر عليه وإن لم يقصده؛ كما يؤجر على المصائب التي تولِّد له خيراً، وعلى عمل ولده الصالح، وعلى ما ينتفع به الناس والدَّواب من زروعه وثماره.

ومنها: لو غصب شاةً، فذبحها لمتعتِه أو قرانِه - مثلاً -؛ فإنَّه لا يجزئه

(3)

، صرَّح به الأصحاب، ونصَّ عليه أحمد في رواية علي بن سعيد؛ لأنَّ أصل الذَّبح لم يقع قربةً من الابتداء؛ فلا ينقلب قربةً بعده؛ كما لو ذبحها للحمها، ثمَّ نوى بها المتعة.

وحكى الأصحاب رواية: بوقفه على إجازة المالك؛ كالزكاة.

(1)

أخرجه مسلم (224) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(2)

كتب في هامش (ج): (هو شمس الدين بن القيم)، ينظر: بدائع الفوائد (3/ 172).

(3)

قوله: (لا يجزئه) هو في (ب): ألا يجزئه.

ص: 391

ونصَّ أحمد على الفرق بين أن يعلم أنَّها لغيره؛ فلا تجزئه، وبين أن يظنَّها لنفسه؛ فتجزئه، في رواية ابن القاسم وسندي.

وسوَّى كثير من الأصحاب بينها في حكاية الخلاف، ولا يصحُّ.

ومنها: لو أنكح

(1)

الأمة المغصوبة، وفي وقفه على الإجازة الخلاف.

وعلى طريقة أبي بكر، وابن أبي موسى: هو باطل قولاً واحداً.

ويبعد ههنا القول بنفوذه مطلقاً بدون إجازة، بل هو باطل مخالف لنصِّ السُّنَّة

(2)

، ولنصوص أحمد المتكاثرة

(3)

.

وأمَّا من يتملَّك مال غيره لنفسه بعوض أو بغيره

(4)

، فيجيزه المالك؛ فهو شبيه بتصرُّف الفضوليِّ المحض، فيخرَّج

(5)

على الخلاف فيه.

ومن صور ذلك: ما إذا قال: عبد فلان حرٌّ في مالي، فأجازه المالك؛ فالمنصوص عن أحمد: أنَّه لا ينفذ

(6)

.

(1)

في (ب): نكح.

(2)

لعله يشير إلى ما أخرجه أحمد (19518)، وأبو داود (2085)، والترمذي (1101)، وابن ماجه (1881)، عن أبي موسى رضي الله عنه مرفوعاً:(لانكاح إلا بولي)

(3)

ينظر: مسائل ابن هانئ (1/ 195)، ومسائل أبي داود (ص 357)، ومسائل عبد الله (ص 319).

(4)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): غيره.

(5)

في (ب): فيتخرج.

(6)

جاء في مسائل ابن منصور (8/ 4491): قلت لأحمد: رجل قال لعبدِ رجلٍ: أنت حر في مالي، فبلغ ذلك السيد، فقال: قد رضيت، وأبى الآخر؟ قال: ليس بشيء. قال أحمد: (ليس بشيء).

ص: 392

وخرَّج ابن أبي موسى وجهاً: بنفوذه بالإجازة، ويلزمه ضمانه.

القسم الرابع: التصرُّف للغير في الذِّمَّة دون المال بغير ولاية عليه:

فإن كان بعقد نكاح: ففيه الخلاف السابق.

وإن كان ببيع ونحوه، مثل: أن يشتري له في ذمَّته؛ فطريقان:

أحدهما: أنَّه على الخلاف أيضاً، قاله القاضي، وابن عقيل في موضع، وأبو الخطاب في «الانتصار» .

والثاني: الجزم بالصِّحَّة ههنا قولاً واحداً، ثمَّ إن أجازه المشتري له ملكه، وإلَّا لزم من اشتراه، وهو قول الخرقي والأكثرين.

وقال القاضي في موضع آخر، وابن عقيل: يصحُّ بغير خلاف، لكن هل يلزم المشتري ابتداءً، أو بعد ردِّ المشتري له؟ على روايتين.

واختلف الأصحاب: هل تفترق

(1)

الحال بين أن يسمَّى المشترَى له في العقد، أم لا؟

فمنهم من قال: لا فرق بينهما، منهم ابن عقيل، وصاحب «المغني» .

ومنهم من قال: إن سمَّاه في العقد؛ فهو كما لو اشترى له بعين ماله، ذكره القاضي، وأبو الخطاب في «انتصاره» - في غالب ظنِّي -؛ وابن المني، وهو مفهوم كلام صاحب «المحرَّر» .

القسم الخامس: التصرُّف في مال الغير بإذنه على وجه يحصل فيه مخالفة الإذن، وهو نوعان:

(1)

في (ب) و (د): تفرق. وفي (ج): يفترق. وفي (هـ): يفتقر.

ص: 393

أحدهما: أن يحصل له

(1)

مخالفة الإذن على وجه يرضى به عادةً، بأن يكون التصرُّف الواقع أولى بالرضا به من المأذون فيه؛ فالصحيح: أنَّه يصحُّ؛ اعتباراً فيه بالإذن العرفيِّ.

ومن صور ذلك: ما لو قال له

(2)

: بعه بمائة، فباعه بمائتين؛ فإنَّه يصحُّ.

وكذا لو قال له: اشتره لي بمائة، فاشتراه له بثمانين.

ومنها: لو قال له: بعه بمائةٍ نسيئة، فباعه بها نقداً؛ فإنَّه يصحُّ.

ومنها: لو قال: بعه بمائة درهم، فباعه بمائة دينار؛ فإنَّه يصح على الصَّحيح.

وفيه وجه: لا يصحُّ؛ للمخالفة في جنس النَّقد.

ومنها: لو قال: بع هذه الشاة بدينار، فباعها بدينار وثوب، أو ابتاع شاةً وثوباً بدينار؛ فإنَّه يصحُّ، قال القاضي: هو المذهب.

ثم ذكر احتمالًا: أنَّه يبطل في الثوب بحصته من الشاة؛ لأنَّه من غير الجنس.

ومنها: لو أمره أن يشتري له شاة بدينار، فاشترى شاتين بالدينار

(3)

، تساوي إحداهما أو كل واحدة منهما ديناراً؛ فإنَّه يصحُّ كذلك.

(1)

في: (له) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن).

(2)

قوله: (له) سقط من (أ).

(3)

قوله: (شاتين بالدينار) هو في (ب) و (د) و (و): بالدينار شاتين.

ص: 394

فإن باع إحداهما بدون إذنه؛ ففيه طريقان:

إحداهما

(1)

: أنَّه يخرَّج على تصرُّف الفضوليِّ.

والثاني: أنَّه صحيح وجهاً واحداً، وهو المنصوص عن أحمد

(2)

، لخبر عروة بن الجعد

(3)

، ولأنَّ ما فوق الشاة المأمور بها لم يتعيَّن؛ فصار موكولاً إلى نظره وما يراه.

النوع الثاني: أن يقع التصرُّف مخالفاً للإذن على وجه لا يرتضي به الآذن عادة؛ مثل مخالفة المضارِب والوكيل في صفة العقد دون أصله؛ كأن يبيع المضارِب نَساءً على قولنا بمنعه منه، أو يبيع الوكيل بدون ثمن المثل، أو يشتري بأكثر منه، أو يبيع نَساءً، أو بغير نقد البلد، صرَّح القاضي في «المجرَّد» باستواء الجميع في الحكم؛ فللأصحاب ههنا طرق:

إحداها: أنَّه يصحُّ، ويكون المتصرِّف ضامناً للمالك، وهو اختيار القاضي في «خلافه» ، ومن اتَّبعه في المخالفة في قدر الثَّمن؛ لأنَّ التصرُّف هنا مستند أصله إلى إذن صحيح، وإنَّما وقعت المخالفة في بعض أوصافه؛ فيصحُّ العقد بأصل الإذن، ويضمن المخالف بمخالفته في صفته.

ص: 395

وعلى هذا: فلا فرق بين أن يبيع الوكيل بدون ثمن المثل، أو يشتري بأكثر منه، على المنصوص في «رواية ابن منصور»

(1)

.

ومن الأصحاب من فرَّق بينهما، وأبطله في صورة الشراء؛ كصاحب «المغني» والسامري.

ولا فرق أيضاً بين أن يقدَّر له الثَّمن أوْ لا على أصحِّ الطريقين، وصرَّح به القاضي في الخلاف وغيره، ونصَّ أحمد على ذلك في رواية الأثرم، وأبي داود، وابن منصور

(2)

.

والثاني: أنَّه

(3)

يبطل العقد مع مخالفة التسمية لمخالفته صريح الأمر، بخلاف ما إذا لم يسم؛ فإنَّه إنَّما خالف دلالة العرف، وممَّن قال ذلك القاضي في «المجرَّد» ، وابن عقيل في «فصوله» .

وفرَّق القاضي في «خلافه» وكثير من الأصحاب: بين البيع نَساءً وبغير نقد البلد؛ فأبطلوه فيهما، بخلاف نقص الثمن وزيادته.

(1)

جاء في مسائل ابن منصور (6/ 3141): قلت لأحمد: إذا أمر رجل رجلاً أن يبيع له شيئاً، فباعه بأقل؟ قال:(البيع جائز، وهو ضامن لما نقص).

وفيها أيضاً (6/ 2529): قلت: قال: اشتر لي سلعةً، ولم يصف له، فإن اشترى بأقل أو بأكثر ضمن؟ قال أحمد:(هذا لم يشتر له، أرأيت إن أراد هو روميًّا فاشترى له حبشيًّا؟ لا، حتى يصفه له). قلت: إذا وصف له لم يضمن إلا أن يشتري بأكثر؟ قال: (يضمن إذا اشترى بأكثر).

(2)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2529)، ولم نجد في مسائل أبي داود ما يدل على عدم الفرق بين تقدير الثمن وعدم التقدير، بل فيه (272):(سمعت أحمد سئل عن رجل أمر رجلًا يبيع ثوبًا بأربعة دنانير، فباعه بأقل؟ قال: هذا ضامن).

(3)

قوله: (أنه) سقط من (أ).

ص: 396

وفرَّقوا: بأنَّ المخالفة في النَّساء وغير نقد البلد وقعت في جميع العقد، وفي النقص والزيادة في بعضه، وفيه ضعف، ولكن قد نصَّ أحمد على التفريق بينهما في رواية ابن منصور

(1)

.

والطريقة الثانية: أنَّ في الجميع روايتين:

إحداهما: الصِّحَّة والضَّمان.

والثانية: البطلان، وهي طريقة القاضي في «المجرد» ، وابن عقيل، وصحَّحا رواية البطلان، وتأوَّلا رواية الضَّمان على بطلان العقد، وأنَّ العين تعذَّر ردُّها؛ فيأخذ المالك الثَّمن، ويضمن المشتري ما نقص من قيمة السِّلعة من الثمن.

وهذا بعيد جدًّا، وهو مخالف لصريح كلام أحمد.

وحاصل هذه الطريقة: أنَّ هذه المخالفة تجعله كتصرُّف الفضوليِّ سواء.

وظاهر كلام الخرقي: الوقف ههنا على الإجازة، دون المخالفة في أصل العقد، مثل أن يشتري بعين ماله ما لم يأذن له في شرائه؛ فإنَّه صرَّح بالبطلان ههنا، وجعله كتصرُّف الفضوليِّ المحض.

ونصَّ أحمد في رواية عبد الله وصالح، فيمن أمر رجلاً يشتري له شيئاً فخالفه: كان ضامناً، فإن شاء الذي أعطاه؛ ضمَّنه، وأخذ ما دفع إليه، وإن شاء؛ أجاز البيع، فإن كان فيه ربح؛ فهو لصاحب المال على حديث عروة البارقيِّ

(2)

.

(1)

ينظر: مسائل ابن منصور (6/ 2529).

(2)

ينظر: مسائل عبد الله (ص 307)،

ص: 397

وهذا نصٌّ بالوقف

(1)

بالمخالفة؛ إلَّا أنَّه لم يقيِّده بالمخالفة في الصِّفة.

والطريقة الثالثة: أنَّ في البيع بدون ثمن المثل وغير نقد البلد إذا لم يقدَّر له الثمن ولا عُيِّن النقد روايتين:

البطلان؛ كتصرُّف الفضوليِّ.

والصِّحَّة، ولا يضمن الوكيل شيئاً؛ لأنَّ إطلاق العقد يقتضي البيع بأيِّ ثمن كان وأيِّ نقد كان؛ بناءً على أنَّ الأمر بالماهيَّة الكلِّيَّة ليس أمراً بشيء من جزئيَّاتها، والبيع نَساءً كالبيع بغير نقد البلد.

وهذه الطريقة سلكها القاضي في «المجرد» ، وابن عقيل أيضاً في موضع آخر، وهي بعيدة جدًّا، مخالفة لنصوص

(2)

أحمد.

وكذلك حكم المخالفة

(3)

في المهر، فلو أذنت المرأة لوليِّها أن يزوِّجها بمهرٍ سمَّته، فزوَّجها بدونه؛ فإنَّه يصحُّ، ويضمن

(4)

الزيادة، نصَّ عليه أحمد في رواية ابن منصور.

وحكى الأصحاب روايةً أخرى: أنَّه يسقط المسمَّى، ويلزم الزَّوج مهر المثل.

وكذا لو لم يسمَّ المهر؛ فإنَّ الإطلاق ينصرف إلى مهر المثل.

(1)

في (ب): للوقف.

(2)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): لمنصوص.

(3)

في (ب): الخالفة.

(4)

في (ب): تضمن.

ص: 398

ويستثنى من ذلك: الأب خاصَّةً؛ فإنَّه لا يلزم في عقده سوى المسمَّى؛ ولو لم تأذن فيه، أو طلبت

(1)

تمام المهر، نصَّ عليه في رواية مهنى.

وأمَّا المخالفة في عوض الخلع إذا خالع وكيل الزوجة بأكثر من مهر المثل، أو وكيل الزوج بدونه؛ ففيه ثلاثة أوجه:

البطلان، وهو قول ابن حامد، والقاضي.

والصِّحَّة، وهو قول أبي بكر، ومنصوص أحمد

(2)

.

والبطلان بمخالفة وكيله، والصِّحَّة بمخالفة وكيلها، وهو قول أبي الخطاب.

ومع الصِّحَّة: يضمن الوكيل الزيادة والنقص.

وهذا الخلاف: مِنَ الأصحاب من أطلقه، مع تقدير المهر وتركه، ومنهم: من خصَّه بما إذا وقع التقدير، فأمَّا مع الإطلاق؛ فيصحُّ الخلع وجهاً واحداً.

وفيه وجهان آخران ذكرهما القاضي:

أحدهما: يبطل المسمَّى، ويرجع إلى مهر المثل.

(1)

في (ب): طلب.

(2)

قوله: (البطلان، وهو قول ابن حامد، والقاضي. الصِّحَّة، وهو قول أبي بكر، ومنصوص أحمد) سقط من (هـ).

جاء في الروايتين والوجهين (2/ 139): (وذكر - أي: أبو بكر- من قول أحمد في رواية ابن القاسم: إذا أمره أن يخالع بمائة، فخالع بخمسين؛ الخلع جائز، والخمسون للآمر، ولو خالعها بخمسين، وقد أمره بثلاثين؛ كانت الزيادة عليه).

ص: 399

والثاني: يخيَّر الزوج بين قبول العوض ناقصاً، ولا شيء له غيره، ويسقط حقُّه من الرَّجعة، وبين ردِّه على المرأة، وتثبت له الرَّجعة.

وفي مخالفة وكيل الزوجة وجه آخر: أنَّه يلزمها أكثر الأمرين من المسمَّى ومهر المثل، ذكره ابن البنا.

القسم السادس: التصرُّف للغير بمال المتصرِّف، مثل: أن يشتري بعين ماله لزيد سلعة:

ففي «المجرَّد» يقع باطلاً رواية واحدة.

ومن الأصحاب من خرَّجه على الخلاف في تصرُّف الفضوليِّ، وهو أصحُّ؛ لأنَّ العقد يقف على الإجازة، وتعيُّن الثمن من ماله يكون إقراضاً للمشترى له، أو هبةً له؛ فهو كمن أوجب لغيره عقداً في ماله، فقبله الآخر بعد المجلس، فقد نصَّ أحمد على صحَّة مثل ذلك في النكاح في رواية أبي طالب

(1)

.

والصحيح في توجيهها: أنَّها

(2)

من باب وقف العقود على الإجازة، وهو مأخذ ابن عقيل وغيره؛ فعلى هذا لا فرق في ذلك بين عقد وعقد؛ فكل من أوجب عقدًا لغائب عن المجلس، فبلغه، فقبله، فقد أجازه وأمضاه، ويصحُّ على هذه الرواية.

(1)

جاء في المغني (7/ 81): (وقد نقل أبو طالب عن أحمد، في رجل مشى إليه قوم فقالوا له: زوج فلانًا. قال: قد زوجته على ألف. فرجعوا إلى الزوج فأخبروه، فقال: قد قبلت. هل يكون هذا نكاحًا؟ قال: نعم).

(2)

في (ج) و (د) و (هـ) و (ن): أنه. وضرب عليها في (أ).

ص: 400

وحكى أبو بكر رواية أخرى: أنَّه لا يصحُّ إلَّا في مجلس واحد، واختارها.

ص: 401

‌الفائدة الثانية

الصفقة الواحدة؛ هل تتفرَّق، فيصحُّ بعضها دون بعض، أم لا، فإذا بطل بعضها بطل كلها

؟

في المسألة روايتان، أشهرهما: أنَّها تتفرَّق.

وللمسألة صور:

أحدها: أن يجمع العقد بين ما يجوز العقد عليه وما لا يجوز بالكلِّيَّة، إمَّا مطلقاً، أو في تلك الحال؛ فيبطل العقد فيما لا يجوز العقد عليه

(1)

بانفراده.

وهل

(2)

يبطل في الباقي؟ على الروايتين.

ولا فرق في ذلك بين عقود المعاوضات وغيرها؛ كالرهن والهبة والوقف، ولا بين ما يبطل بجهالة عوضه؛ كالبيع، وما لا يبطل؛ كالنكاح، فإنَّ النِّكاح فيه روايتان منصوصتان عن أحمد.

غير أنَّ صاحب «المغني» اختار: أنَّ البيع إذا كان الثمن منقسماً عليه بالقيمة

(3)

؛ كعبدين أحدهما مغصوب: أنَّه لا يصحُّ العقد فيهما؛

(1)

قوله: (العقد عليه) هو في (ب) و (ج) و (د) و (هـ): عليه العقد.

(2)

في (أ): فهل.

(3)

في (ب): بالقيم.

ص: 402

تعليلاً بجهالة العوض، بخلاف ما ينقسم الثمن عليه بالأجزاء؛ كقفيزين من صبرة واحدة.

وهذا مأخذ للبطلان وراء تفريق الصفقة، كما قالوا فيما إذا باع معلوماً ومجهولاً: إنَّه لا يصحُّ رواية واحدة؛ لجهالة الثمن، فهذا هو المانع هنا من تفريقها.

وفي «التلخيص» : أنَّ للبطلان في الكلِّ مأخذين:

أحدهما: كون الصفقة لا تقبل التجزُّؤ والانقسام.

والثاني: جهالة العوض.

قال: فعلى الأول؛ يطَّرد الخلاف في كلِّ العقود، وعلى الثاني؛ لا يطَّرد فيما لا عوض فيه، أو لا يفسد بفساد عوضه؛ كالنكاح.

قال: وعلى الأول؛ لو قال: بعتك كلَّ واحد بكذا؛ لم يصحَّ، ويصحُّ على الثاني، انتهى.

ثمَّ إنَّه حكى في تعدُّد الصفقة بتفصيل الثمن وجهين، وصحَّح: تعدُّدها.

فعلى هذا: يصحُّ في قوله: «بعتك كلَّ واحد بكذا» على المأخذين.

ثمَّ إنَّه اختار: أنَّ المتبايعين إن عَلِمَا أنَّ بعض الصفقة غير قابل للبيع؛ لم يصحَّ رواية واحدة؛ لأنَّهما دخلا على جهالة الثمن، وإن جهلا ذلك؛ فهو محلُّ الروايتين؛ لأنَّ للجهل بمثل ذلك تأثيراً في الصِّحَّة، كما في شراء المعيب الذي يسقط أرشه بعد العقد.

وهذا ضعيف؛ فإنَّ البائع قد يعلم بالعيب في العقد، ولا يمنع

ص: 403

الصحة، وكذا في بيع النجْش وإخبار البائع بزيادة على الثمن عمداً؛ فإنَّ البيع يصحُّ في ذلك كلِّه، ويسقط بعض الثمن.

وههنا طريقة ثانية لدفع جهالة الثمن: وهي تقسيطه على عدد المبيع، لا على القيمة

(1)

، ذكره القاضي وابن عقيل وجهاً في باب الشَّركة والكتابة من «المجرَّد» و «الفصول» فيما إذا باع عبدين، أحدهما له والآخر لغيره: أنَّ الثمن يقسَّط

(2)

عليهما نصفين، كما لو تزوَّج امرأتين في عقد.

وهذا بعيد جدًّا، ولا أظنُّه يطَّرد إلَّا فيما إذا كانا جنساً واحداً.

وذكرا في باب الضمان من كتابيهما طريقة ثالثة، وهي

(3)

: أنَّه يمسك ما يصحُّ العقد عليه بكل الثمن، أو يردُّ.

وهذا في غاية الفساد، اللَّهمَّ إلَّا أن يخصَّ هذا بمن كان عالماً بالحال، وأنَّ بعض المعقود عليه لا يصحُّ العقد عليه؛ فيكون قد دخل على بذل الثمن في مقابلة ما يصحُّ العقد عليه خاصَّةً؛ كما نقول فيمن أوصى لحيٍّ وميت يعلم موته بشيء: أنَّ الوصية كلَّها للحيِّ

(4)

.

ولبعضهم طريقة أخرى في المسألة، وهي: إن كان ما لا يجوز العقد عليه غير قابل للمعاوضة بالكلِّيَّة - كالطريق -؛ بطل البيع؛ لأنَّه

(1)

في (ب) و (ج) و (هـ) و (و): القيم.

(2)

في (ب): يتقسط.

(3)

في (أ): وهو.

(4)

من قوله: (اللَّهمَّ إلَّا أن يخصَّ هذا) إلى هنا سقط من (ب).

ص: 404

غير قابل للتموُّل بالكلِّيَّة، وقياسه الخمر، وإن كان قابلاً للصِّحَّة؛ ففيه الخلاف، ذكره الأزجي.

ولا يثبت ذلك في المذهب.

وعلى القول بالتفريق: فللمشتري الخيار

(1)

لتبعُّض الصَّفقة عليه، وله أيضاً الأرش إذا أمسك بالقسط فيما ينقص بالتفريق؛ كالعبد الواحد، والثوب الواحد، ذكره صاحب «المغني» في الضمان.

الصورة الثانية: أن يكون التحريم في بعض أفراد الصفقة ناشئاً من الجمع بينه وبين الآخر؛ فههنا حالتان:

إحداهما: أن يمتاز بعض الأفراد بمزِيَّة؛ فهل يصحُّ العقد فيه بخصوصه، أم يبطل في الكلِّ؟ فيه خلاف، والأظهر: صحَّة ذي المزيَّة.

فمن صور ذلك: ما إذا جمع في عقد بين

(2)

نكاح أمٍّ وبنت؛ فهل يبطل فيهما، أم يصحُّ في البنت؛ لصحَّة ورود عقدها على عقد الأمِّ من غير عكس؟ على وجهين.

ومنها: لو جمع حرٌّ واجدٌ للطَّول أو غيرُ خائف للعنت بين حرَّة وأَمَةٍ في عقدٍ؛ ففيه روايتان منصوصتان:

إحداهما: يبطل النكاحان معاً.

والثانية: يصحُّ نكاح الحرَّة وحدها، وهو أصحُّ، لأنَّها تمتاز بصحَّة ورود نكاحها على نكاح الأمة، من غير عكس؛ فهي كالبنت مع الأم،

(1)

زاد في (ج) و (د) و (هـ) و (و) و (ن): إذا لم يكن عالماً.

(2)

في (ب): عقدين. مكان: (عقد بين).

ص: 405

وأولى؛ لجواز دوام نكاح الأمة معها على الصحيح أيضاً.

ومنها: أن يتزوَّج حرٌّ خائف للعنت غيرُ واجد للطَّول حرَّةً تُعِفُّه بانفرادها وأمةً في عقد واحد، وفيه وجهان:

أحدهما: يصحُّ نكاح الحرَّة وحدها، وهو ظاهر كلام القاضي في «المجرد» ؛ لأنَّ الحرَّة تمتاز على الأمة بصحَّة ورود نكاحها عليها؛ فاختصَّت بالصِّحَّة.

والثاني: يصحُّ فيهما معاً، قاله القاضي وأبو الخطاب في «خلافيهما»

(1)

؛ لأنَّ له في هذه الحال قبول نكاح كلِّ واحدة منهما على الانفراد؛ فيصحُّ الجمع بينهما؛ كما لو تزوَّج أمةً ثمَّ حرَّة.

والأوَّل أصحُّ؛ لأنَّ قدرته على نكاح الحرَّة تمنعه من نكاح الأمة؛ فمقارنة نكاح الحرَّة أولى بالمنع.

أمَّا إن كان المتزوِّج عبداً، وقلنا بمنعه من نكاح الأمة على الحرَّة التي تعفُّه؛ ففيه وجهان:

أحدهما: أنَّه كالحرِّ سواء، قاله القاضي في «الجامع» ، وصاحب «المحرر» .

والثاني: يصحُّ جمعه بينهما في عقد بغير خلاف، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب وصاحب «المغني» ؛ لأنَّ العبد لا تمنعه القدرة على نكاح الحرَّة من نكاح الأمة؛ فلا يمنعه مقارنة نكاحها، وإنَّما يمتنع بسبق نكاح الحرَّة.

(1)

في (ب): خلافهما.

ص: 406

الحالة الثانية: ألَّا يمتاز بعضها عن بعض بمزية؛ فالمشهور: البطلان في الكل؛ إذ ليس بعضها أولى من بعض بالصِّحَّة.

مثل: أن يتزوَّج أختين في عقد، أو خمساً في عقد؛ فالمذهب: البطلان في الكل، ونصَّ عليه أحمد في رواية صالح وأبي الحارث.

ونقل عنه ابن منصور: إذا تزوَّج أختين في عقد: (يختار إحداهما)

(1)

.

وتأوَّله القاضي: على أنَّه يختارها بعقد مستأنف. وهو بعيد.

وخرَّج القاضي فيما إذا زوَّج الوليَّان من رجلين، ووقعا معاً: أنَّه يقرع بينهما، فمن قَرَع؛ فهي زوجته. ويخرَّج ههنا مثله.

الصورة الثالثة: أن تجمع الصفقة شيئين يصحُّ العقد فيهما، ثمَّ يبطل العقد في أحدهما قبل استقراره؛ فإنَّه يختصُّ بالبطلان دون الآخر.

قال القاضي وابن عقيل: رواية واحدة؛ لأنَّ التفريق وقع ههنا

(2)

دواماً لا ابتداءً، والدوام أسهل من الابتداء.

ومع هذا؛ فقد حكوا فيما إذا تفرَّق المتصارفان عن قبض بعض الصرف: أنَّه يبطل العقد فيما لم يقبض، وفي الباقي روايتا تفريق الصفقة، وهذا تفريق في الدوام، إلَّا أن يقال: القبض في الصرف شرط لانعقاد العقد، لا لدوامه، وأنَّ العقد مراعىً بوجوده، كما صرَّح به جماعة من الأصحاب؛ فيكون التفريق حينئذ في الابتداء؛ غير أنَّ القاضي في «خلافه» حكى الخلاف في تفريق الصفقة في السَّلَم

(1)

ينظر: مسائل ابن منصور (4/ 1522).

(2)

في (ب) و (ج) و (د) و (هـ) و (ن): هنا.

ص: 407

والصرف، مع تصريحه في المسألة: بأنَّ القبض شرط للدوام دون الانعقاد، وهذا يقتضي - ولا بدَّ - تخريج الخلاف في تفريق الصفقة دواماً قبل استقرار العقد.

وذكر أبو بكر في «الشافي» : أنَّ مال الزكاة إذا بِيع ثمَّ أعسر البائع بالزكاة؛ فللساعي الفسخ في قدرها، فإذا فسخ في قدرها؛ فهل ينفسخ في الباقي؟ يُخرَّج على روايتي تفريق الصفقة.

وهذا تصريح بإجراء الخلاف في التفريق في الدوام؛ فإنَّ الفسخ هنا بسبب سابق على العقد؛ فلا يستقرُّ العقد معه، فهذا في البيع ونحوه.

فأمَّا في النكاح:

فإن طرأ ما يقتضي تحريم إحدى المرأتين بعينها؛ كردَّة أو رضاع؛ اختصَّت بانفساخ النكاح وحدها بغير خلاف.

وإن طرأ ما يقتضي تحريم الجمع بينهما:

فإن لم يكن لإحداهما مزيَّة على الأخرى، بأن صارتا أختين بإرضاع امرأة واحدة لهما؛ انفسخ نكاحهما.

وإن كان لإحداهما مزيَّة؛ بأن صارتا أمًّا وبنتاً بالإرضاع؛ فروايتان، أصحُّهما: يختصُّ الانفساخ بالأمِّ وحدها إذا لم يدخل بهما؛ لأنَّ الاستدامة أقوى من الابتداء، فهو كمن أسلم على أمٍّ وبنت لم يدخل بهما؛ فإنَّه يثبت نكاح البنت دون الأم، والله أعلم.

وصلَّى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً

(1)

.

(1)

قوله: (وصلَّى الله على سيِّدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً) سقطت من (ب) و (ج) و (د) و (و) و (هـ) و (ن). =

ص: 408

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= جاء في آخر (أ): (بلغ مقابلةً بالأصل، صحَّحتها عليه بحسب الإمكان في مجالس، وذلك في شهر ذي القعدة، سنة ثمان وسبعين وسبع مائة، وكتبه مؤلِّفه عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي عفا الله عنه، والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم).

وجاء فيها أيضًا: (ثم قوبلت هذه النسخة على نسخة قرئت على المصنف، فزيد فيها أشياء كثيرة، فصحت بحسب الطَّاقة والإمكان، وذلك في مجالس آخرها في شهر القعدة سنة ثلاث وثمانين وسبع مائة، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. كانت هذه النسخة المباركة من تلاميذ ابن رجب كما وجدته في هامش تلك القواعد).

وجاء في (ب): (بلغ مقابلة لجميع الكتاب بأصلي الذي بخطي بحضوري، وذلك مجالس، آخرها عاشر شوال سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وكتبه مؤلفه عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي عفا الله عنه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم).

ص: 409