الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة
بسم الله الرحمن الرحيم
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحبر الكامل شيخ الإسلام قدوة الأنام، وحيد عصره وفريد دهره، سيدنا وشيخنا أبو الفرج عبد الرحمن بن سيدنا وشيخنا الإمام شهاب الدين أحمد بن رجب الحنبلي، فسح الله في مدته، ونفع به:
الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
خرج مسلم في "صحيحه"(1) من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» ، ومن حديث ابن عمر (2)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ".
وخرجه الإمام أحمد (3) وابن ماجه (4) من حديث ابن مسعود بزيادة في آخره: "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ:«النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ» .
وخرجه أبو بكر الآجري (5)، وعنده: قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ".
وخرجه غيره، وعنده: قال: "الذين يفرون بدينهم من الفتن"(6).
(1) برقم (145).
(2)
أخرجه مسلم (146)، وزاد: وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إِلَى حجرها.
(3)
(1/ 398).
(4)
برقم (3988).
(5)
في كتاب "الغرباء"(4).
(6)
أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(1513)، ونعيم بن حماد في "الفتن" (168) بلفظ:"الذين يفرون بدينهم يجتمعون إِلَى عيسى بن مريم .... ".
وخرجه الترمذي (1) من حديث كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَيَرْجِعُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي".
وخرجه الطبراني (2) من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديثه:"قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الَّذِينَ يُصْلِحُونَ حِينَ فَسَدَ النَّاسُ".
وخرجه أيضاً (3) من حديث سهل بن سعد بنحوه.
وخرجه الإمام أحمد (4) من حديث سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديثه:"فَطُوبَى يَوْمَئِذٍ لِلْغُرَبَاءِ، إِذَا فَسَدَ النَّاسُ".
وخرج الإمام أحمد (5) والطبراني (6) من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ. قُلْنَا: وَمَا الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي نَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» .
وروي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا (7) وموقوفًا (8) في هذا الحديث: قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ، يَبْعَثُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام» .
فقوله صلى الله عليه وسلم: "بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا" يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم عَلَى ضلالة عامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار الَّذِي خرجه مسلم (9):"إِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ".
(1) برقم (2630)
(2)
في "الأوسط"(4915، 8716).
(3)
في "الكبير"(6/ 202)، وفي "الصغير"(290).
(4)
(4/ 16).
(5)
(2/ 177، 222).
(6)
في "الأوسط"(8986).
(7)
أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد"(ص149) ومن طريقه: أبو نعيم في "الحلية"(1/ 25)، والبيهقي في "الزهد الكبير"(204).
(8)
أخرجه أحمد في "الزهد"(ص77).
(9)
برقم (2865).
فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إِلَى الإسلام لم يستجيب في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيله، وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى، وينال منه وهو صابر عَلَى ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين، يطردون ويشردون كل مشرد، ويهربون بدينهم إِلَى البلاد النائية، كما هاجروا إِلَى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إِلَى المدينة، وكان منهم من يعذب في الله، وفيهم من قتل، فكان الداخلون فى الإسلام حينئذٍ غرباء.
ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إِلَى المدينة وعزّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجًا، وأظهر الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة.
وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم والأمر عَلَى ذلك، وأهل الإسلام عَلَى غاية من الاستقامة.
في دينهم وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا عَلَى ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم أعمل الشيطان مكائده عَلَى المسلمين، وألقى بأسهم بينهم، وأفشى فيهم فتنة الشهوات والشبهات، ولم تزل هاتان الفتنتان لتزايدان شيئًا فشيئًا، حتى استحكمت مكيدة الشيطان، وأطاعه أكثر الخلق، فمهنم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه. فأما فتنة الشبهات، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن أمته ستفترق عَلَى أزيد من سبعين فرقة، عَلَى (خلاف)(*) الروايات في عدد الزائد عَلَى السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة، وهي من كان عَلَى ما هو عليه وأصحابه.
وأما فتنة الشهوات، ففي "صحيح مسلم"(1)، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَيفَ أَنتُمْ إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ خَزَائِنُ فَارِسَ وَالرُّومِ، أَيُّ قَوْمٍ
(1) برقم (2962).
(*) اختلاف: "نسخة".
أَنْتُمْ؟» فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ. قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ (تَتَبَاغَضُونَ)» (*).
وفي "صحيح البخاري"(1)، عن عمرو بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».
وفي "الصحيحين"(2) من حديث عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أيضاً.
ولما فتحت كنوز كسرى عَلَى عمر رضي الله عنه بكى وقال: إِنَّ هذا لم يفتح عَلَى قوم قط إلا جُعِلَ بأسُهُمْ بينهم -أو كما قال.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى عَلَى أمته هاتين الفتنتين، كما في "مسند الإمام أحمد"(3)، عن أبي برزة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ، وَمُضِلَّاتِ الفِتَنِ» ، وفي رواية:«وَمُضِلَّاتِ الْهَوَى» .
فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين، بعد أن كانوا إخوانًا متحالين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق، فافتتنوا بالدنيا وزهرتها، وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون، وبها يرضون، ولها يغضبون، ولها يوالون، وعليها يعادون، فقطعوا لذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.
(*) تتضاغنون: "نسخة".
(1)
برقم (3158، 4015، 6425)، وكذا مسلم (9261).
(2)
أخرجه البخاري (6426)، ومسلم (2296).
(3)
(4/ 420).
وأما فتنة الشبهات والأهواء الضلة فبسببها تَفَرَّقَ أهل القبلة، وصاروا شيعًا، وكفَّر بعضهم بعضًا، وصاروا أعداءً وفرقًا وأحزابًا، بعد أن كانوا إخوانًا قلوبهم عَلَى قلب رجل واحدٍ، فلم ينج من هذه الفرق إلا الفرقة الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، أَوْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» (1).
وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث، الذين يصلحون إذا فسد الناس، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن، وهم النُّزَّاع من القبائل؛ لأنهم قلُّوا، فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحد، كما كان الداخلون إِلَى الإسلام في أول الأمر كذلك، وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث.
قال الأوزاعي في قوله صلى الله عليه وسلم: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ» : أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد.
ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيرًا مدح السنة ووصفها بالغربة، ووصف أهلها بالقلة، فكان الحسن البصري رحمه الله يقول لأصحابه: يا أهل السنة، ترفقوا، رحمكم الله، فإنكم من أقل الناس.
وقال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها. وروي عنه أنه قال: أصبح من إذا عرف السنة فعرفها غريبًا، وأغرب منه من يعرفها.
وعن سفيان الثوري أنه قال: استوصوا بأهل السنة خيرًا، فإنهم غرباء.
ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان هو وأصحابه عليها، السالمة من الشبهات والشهوات.
(1) أخرجه البخاري (7311)، ومسلم (1524).
ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول: أهل السنة من عرف ما يدخل بطنه من حلال، وذلك لأنّ أكل الحلال من أعظم خصال السنة التي كان عليها صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
ثم صار في عرف كثير من العُلَمَاء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم السنة عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العِلْم تصانيف سموها كتب السنة، وإنما خصوا هذا العِلْم باسم السنة؛ لأنّ خطره عظيم، والمخالف فيه عَلَى شفا هلكة.
وأما السنة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات، كما قال الحسن ويونس بن عبيد، وسفيان والفضيل وغيرهم، ولهذا وصف أهلها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وعزتهم فيه، ولهذا ورد في بعض الروايات كما سبق في تفسير الغرباء:«قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي قَوْمِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» . وفي هذا إشارة إِلَى قلة عددهم، وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم، وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم.
ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان، وأنه كالقابض عَلَى الجمر، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم؛ لأنهم لا يجدون أعوانًا عَلَى الخير.
وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، وهو أعلى القسمين وأفضلها.
وقد خرج الطبراني وغيره (1) بإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلَّ شَيْءٍ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَإِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَإِنَّ مِنْ إِدْبَارِ الدِّينِ مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ العَمَى وَالجَهَالَةِ، وَمُخَالَفَةْ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّ مِنْ
(1) ذكره الهيثمي في "المجمع"(7/ 261 - 262)، وقال: رواه الطبراني، وفيه: علي بن يزيد، وهو متروك.
إِقْبَالِ هَذَا الدِّينِ أَنْ تَفْقَهَ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا، حَتَّى لَا يُوجَدُ فِيهَا إِلَّا الْفَاسِقُ وَالْفَاسِقَانِ، فَهُمَا مَقْهُورَانِ ذَلِيلَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا قَمْعًا وَقَهْرًا وَاضْطُهِدَا، أَلَا وَإِنَّ مِنْ إِدْبَارِ هَذَا الدِّينِ أَنْ تَجْفُوَ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا، حَتَّى لَا يُرَى فِيهَا الْفَقِيهُ وَالْفَقِيهَانِ، وَهُمَا مَقْهُورَانِ ذَلِيلَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا فَأمَرَا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَيَا عَنِ الْمُنْكَرِ: قمعا وقهرا وَاضْطُهِدَا، فَهُمَا مَقْهُورَانِ ذَلِيلَانِ، لَا يَجِدَانِ عَلَى ذَلِكَ أَعْوَانًا وَلَا أَنْصًارًا".
فوصف في هذا الحديث المؤمن العالم بالسنة الفقيه في الدين بأنه يكون في آخر الزمان عند فساده مقهورًا ذليلاً، لا يجد أعوانًا ولا أنصارًا.
وخرج الطبراني أيضاً بإسناد فيه ضعف، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم
في حديث طويل في ذكر أشراط الساعة قال: «وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِهَا أَنْ يَكُون المُؤمن فِي القَبِيلَةِ أَذَلّ مِنَ النَّقْدِ» (1) والنَّقَدُ: هي الغنم الصغار.
وفى "مسند الإمام أحمد"(2) عن عبادة بن الصامت قال لرجل من أصحابه: يوشك إِن طالت بك حياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن عَلَى لسان محمد صلى الله عليه وسلم، أو عَلَى من قرأه عَلَى لسان محمد فأعاده وأبداه، فأحل حلاله وحرم حرامه، ونزل عند منازله لا يجوز فيكم إلا كما يجوز رأس الحمار الميت.
ومنه قول ابن مسعود: وسيأتي عَلَى الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأَمَة.
وإنما ذل المؤمن في آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات، فكلهم يكرهه ويؤدِّيه، لمخالفة طريقه لطريقهم، ومقصوده لمقصودهم، ومباينته لهم فيما هم عليه.
ولما مات داود الطائي قال ابن السماك: إِنَّ داود نظر بقلبه إِلَى ما بين يديه
(1) ذكره الهيثمي في "المجمع"(7/ 322 - 323) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير"، وفيه: سيف بن مسكين، وهو ضعيف.
(2)
(4/ 126).
فأغشى (بصر قلبه)(*) بصر العيون، فكأنه لم ينظر إِلَى ما أنتم إِلَيْهِ تنظرون، وكأنكم لا تنظرون إِلَى ما إِلَيْهِ ينظر، فأنتم منه تعجبون، وهو منكم يعجب، استوحش منكم أنه كان حيًّا وسط موتى.
ومنهم من كان يكرهه أهله وولده لاستنكار حاله، سمع عمر بن عبد العزيز امرأته مرة تقول: أراحنا الله منك. فَقَالَ: آمين.
وقد كان السلف قديمًا يصفون المؤمن بالغربة في زمانهم، كما سبق مثله عن الحسن والأوزاعي وسفيان وغيرهم.
ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي -وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني-: إني أدركت من الأزمنة زمانًا عاد فيه الإسلام غريبًا كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريبًا كما بدأ، إِن ترغب فيه إِلَى عالم وجدته مفتونًا بحب الدُّنْيَا، يحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إِلَى عابد وجدته جاهلاً في عابدته مخدوعًا، صريع عدوه إبليس، قد صعد به إِلَى أعلى درجة العبادة، وهو جاهل بأدناها، فكيف له بأعلاها؟! وسائر ذلك من الرعاع قبيح أعوج، وذئاب مختلفة، وسباعٌ ضارية، وثعالب صائلة، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة أهل العِلْم والقرآن ودعاة الحكمة.
خرجه أبو نعيم في "الحلية".
فهذا وصف أهل زمانه، فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله، ولم تَدُر في خياله؟!
وخرج الطبراني من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» (1).
(*) بقلبه: "من المطبوعة، وهي الطبعة المنيرية".
(1)
ذكره الهيثمي في "المجمع"(1/ 172) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه محمد بن صالح العدوي، ولم أر من ترجمه، وبقية رجاله ثقات.
وخرج أبو الشيخ الأصبهانى بإسناده عن الحسن قال: لو أن رجلاً من الصدر الأول بعث اليوم: ما عرف من الإسلام شيئًا إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله، لئن عاش عَلَى هذه النكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إِلَى بدعته، وصاص دنيا يدعو إِلَى دنياه، فعصمه الله عز وجل، وقلبه يحن إِلَى ذلك السلف الصالح، فيتبع آثارهم، ويستن بسنتهم، ويتبع سبلهم كان له أجر عظم.
وروى المبارك بن فضالة، عن الحسن أنه ذكر الغني المترف، الَّذِي له سلطان يأخذ المال ويدعي أنه لا عقاب فيه، وذكر المبتدع الضال الَّذِي خرج بسيفه عَلَى المسلمين، وتأول ما أنزله الله في الكفار عَلَى المسلمين ثم قال: سنتكم والله الَّذِي لا إله إلا هو بينهما بين الغالي والجافي، والمترف والجاهل، فاصبروا عليها، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس الذين لم يأخذوا من أهل الإتراف إترافهم ولا مع أهل البدع أهواءهم، وصبروا عَلَى سنتهم، حتى أَتَوْا ربهم، فكذلك إِنَّ شاء الله فكونوا.
ثم قال: والله لو أن رجلاً أدرك هذه النُّكُرات، يقول هذا: هَلُم إليَّ، ويقول هذا: هَلُم إِلَيّ، فيقول: لا أريد إلا سُنة محمد صلى الله عليه وسلم، يطلبها ويسأل عنها، إِنَّ هذا ليقرض له أجرٌ عظيم، فكذلك إِنَّ شاء الله فكونوا.
ومن هذا المعنى ما رواه أبو نعيم وغيره، عن كميل بن زياد، عن علي رضي الله عنه أنه قال: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم عَلَى سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العِلْم، ولم يلجئوا إِلَى ركن وثيق، ثم ذكر كلامًا في فضل العِلْم إِلَى أن قال:(هاه)(*) إِنَّ ها هنها -وأشار إِلَى صدره- علمًا، لو أصبت له حملة، بل أصيبه لقنا غير مأمون عليه نستعمل آلة الدين للدنيا، نستظهر بحجج الله عَلَى كتابه، وبنعمته عَلَى عباده أو منقادًا لأهل الحق، لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه
(*) آه: "نسخة".
بأول عارض من شبهة، لا ذا، ولا ذا، أو منهومًا باللذات سلس (الانقياد)(*) للشهوات، أو مغرى بجمع المال والادخار، وليسا من دعاة الدين، أقرب شبهًا بهما الأنعام السارحة، كذلك يموت العِلْم بموت حامليه، اللهم بلى لن تخلوا الأرض عن قائم لله بحجة لكيلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عددًا والأعظمون عند الله قدرًا، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدونها إِلَى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العِلْم عَلَى حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأَنَسُوا بما استوحشَ منه الجاهلون، صحبوا الدُّنْيَا بأبدان، أرواحها معلقة بالمنظر الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده، ودعاته إِلَى دينه، هاه هاه شوقًا إِلَى رؤيتهم.
فقسم أمير المؤمنين- رضي الله عنه حملة العِلْم إِلَى ثلاث أقسام:
قسم هم أهل الشبهات، وهم من لا بصيرة له من حملة العِلْم؛ بل ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، فتأخذه الشبهة، فيقع في الحيرة والشكوك ويخرج من ذلك إِلَى البدع والضلالات.
وقسم هم أهل الشهوات، وجعلهم نوعين:
أحدهما: من يطلب الدُّنْيَا بنفس العِلْم، فيجعل العِلْم آلة لكسب الدُّنْيَا، والثاني: من يطلب الدُّنْيَا بغير العِلْم وهذا النوع ضربان:
أحدهما من همه من الدُّنْيَا لذاتها وشهواتها، فهو منهوم بذلك، سريع الانقياد إِلَيْهِ، والثاني من همه جمع الدُّنْيَا واكتنازها وادخارها، وكل هؤلاء ليسوا من دعاة الدين، وإنما هم كالأنعام، ولهذا شبه الله تعالى من حُمِّل التوراة ثم لم يحملها بالحمار الَّذِي يحمل أسفارًا، وشبه عالم السوء الَّذِي انسلخ من آيات الله وأخلد إِلَى الأرض واتبع هواه بالكلب، والكلب والحمار أخس الأنعام وأضل سبيلاً.
(*) القياد: "نسخة".
القسم الثالث من حملة العِلْم هم أهله وحملته، ورعاته والقائمون بحجج الله وبيناته، وذكر أنهم الأقلون عددًا، [الأعظمون](*) عند الله قدرًا إشاره إِلَى قلة هذا القسم وعزته في حملة العِلْم، وغربته بينهم.
وقد قسم الحسن البصري رحمه الله حملة القرآن إِلَى قريب من هذا التقسيم الَّذِي قسمه علي رضي الله عنه لحملة العِلْم.
قال الحسن: قراء القرآن ثلاثة أصناف:
صنف اتخذوه بضاعة يأكلون به، وصنف أقاموا حروفه وضيعوا حدوده، واستطالوا به عَلَى أهل بلادهم، واسدنوا به الولاية، كثر هذا الضرب من حملة القرآن، لا كثرهم الله.
وصنف عمدوا إِلَى دواء القرآن، فوضعوه عَلَى داء قلوبهم، فركدوا به في محاريبهم، وحنوا في (برانسهم)(1)، واستشعروا الخوف، وارتدوا الحزن، فأولئك الذين يسقي الله بهم الغيث، وينصر بهم عَلَى الأعداء. والله لهؤلاء الضرب في حملة القرآن أعز من الكبريت الأحمر. فأخبر أن هذا القسم - وهم الذين قرءوا القرآن لله وجعلوه دواءًا لقلوبهم، فأثمر لهم الخوف والحزن- أعز من الكبريت الأحمر بين قراء القرآن.
ووصف أمير المؤمين علي رضي الله عنه هذا القسم من حملة العِلْم بصفات:
منها أنه هجم بهم العِلْم عَلَى حقيقة الأمر، ومعنى ذلك أن العِلْم دلهم عَلَى المقصود الأعظم منه، وهو معرفة الله تعالى، فخافوه وأحبوه، حتى سهل بذلك عليهم كل ما تعسر عَلَى غيرهم ممن لم يصل إِلَى ما وصلوا إِلَيْهِ، ممن وقف مع الدُّنْيَا وزهرتها، واغتر بها ولم يباشر قلبه معرفة الله وعظمته وإجلاله.
(*) كتب في الهامش: الأعظم.
(1)
البرنس: قلنسوة طويلة، وكل ثوب رأسه منه ملتزق. "اللسان" مادة:"برنس". [وهو يشبه الثوب المغربي].
فلذلك قال استلانوا ما استوعر منه المترفون، فإن المترف الواقف مع شهوات الدُّنْيَا ولذاتها يصعب عليه ترك لذاتها وشهواتها؛ لأنّه لا عوض عنده من لذات الدُّنْيَا إذا تركها، فهو لا يصبر عَلَى تركها.
وهؤلاء في قلوبهم العوض الأكبر بما وصلوا إِلَيْهِ من لذة معرفة الله ومحبته وإجلاله، كما كان الحسن يقول: إِنَّ أحباء الله هم الذين ورثوا طيب الحياة وذاقوا نعيمها بما وصلوا إِلَيْهِ من مناجاة حبيبهم، وبما وجدوا من لذة حبه في قلوبهم في كلام يطول ذكره هاهنا في هذا المعنى.
وإنما أنس هؤلاء بما استوحش منه الجاهلون؛ لأنّ الجاهلين بالله يستوحشون من ترك الدنيا وشهواتها؛ لأنهم لا يعرفون سواها، فهي أنسهم وهؤلاء يستوحشون من ذلك، ويستأنسون بالله وبذكره، ومعرفته ومحبته وتلاوة كتابه.
والجاهلون بالله يستوحشون من ذلك ولا يجدون الأنس به.
ومن صفاتهم التي وصفهم بها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: أنهم صحبوا الدُّنْيَا بأبدان أرواحها معلقة بالمنظر الأعلى، وهذا إشارة إِلَى أنهم لم يتخذوا الدنيا وطنًا، ولا رضوا بها إقامة (ومسكنًا)(*)، إِنَّمَا اتخذوها ممرًّا ولم يجلوها مستقرًّا.
وجميع الكتب والرسل أوصت بهذا، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه في جملة وعظه لهم:{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (1)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر (2):«كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» ، وفي رواية:«وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» (3).
(*) وسكنًا: "نسخة".
(1)
غافر: 39.
(2)
أخرجه البخاري (6416).
(3)
أخرجها أحمد (2/ 24) بلفظ: "واعدد نفسك في الموتى".
ومن وصايا المسيح المروية عنه عليه السلام، أنه قال لأصحابه: اعبروها ولا تعمروها.
وعنه عليه السلام أنه قال: "من الَّذِي يبني عَلَى موج البحر دارًا؟ تلك الدُّنْيَا فلا تتخذوها قرارًا". فالمؤمن في الدُّنْيَا كالغريب المجتاز ببلدة، غير مستوطن فيها، فهو يشتاق إِلَى بلده، وهمه الرجوع إِلَيْهِ والتزود بما يوصله في طريقه إِلَى وطنه، ولا ينافس أهل ذلك البلد المستوطنين فيه في عزهم، ولا يجزع مما أصابه عندهم من الذل.
قال الفضيل بن عياض: المؤمن في الدُّنْيَا مهموم حزين، همه مرمة (1) جهازه.
وقال الحسن: المؤمن في الدُّنْيَا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس فى عزها، له شأن وللناس شأن.
وفي الحقيقة فالمؤمن في الدُّنْيَا غريب؛ لأنّ أباه إِنَّمَا كان في دار البقاء، ثم أخرج منها، فهمه الرجوع إِلَى مسكنه الأول، فهو أبدًا يحن إِلَى وطنه الَّذِي أخرج منه كما يقال:"حب الوطن من الإيمان"(2).
وكما قيل:
وَكَمْ مَنْزِلٍ لِلْمَرْءِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى
…
وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ
وَلِبَعْضِ شُيُوخِنَا فِي هَذَا المَعْنَى:
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا
…
مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى
…
نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنَسْلَمُ
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَأَى
…
وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهُوَ مُغْرَمُ
وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِي
…
لَهَا أَضْحَتِ الْأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ
(1) الرمُّ: إصلاح الشيء الَّذِي فسد بعضه "اللسان" مادة: (رمم).
(2)
نسب هذا القول إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح عنه. انظر "كشف الخفاء"(1/ 413/1 - 414)، و"الضعيفة" برقم (36).
والمؤمنون في هذا أقسام: منهم من قلبه معلق بالجنة، ومنهم من قلبه معلق عند خالقه، وهم العارفون، ولعل أمير المؤمنين إِنَّمَا أشار إِلَى هذا القسم، فالعارفون أبدانهم في الدُّنْيَا وقلوبهم عند المولى.
وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ:«عَلَامَةُ الطُّهْرِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُ الْعَبْدِ عِنْدِي مُعَلَّقًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْسَنِي عَلَى حَالٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَنَنْتُ عَلَيْهِ بِالِاشْتِغَالِ بِي، كَيْ لَا يَنْسَانِي، فَإِذَا لَمْ يَنْسِنِي حَرَّكْتُ قَلْبَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ لِي، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ لِي، فَذَلِكَ الَّذِي تَأْتِيهِ الْمَعُونَةُ مِنْ عِنْدِي» (1).
وأهل هذا الشأن هم غرباء الغرباء، وغربتهم أعز الغربة، فإن الغربة عند أهل الطريقة غربتان: ظاهرة، وباطنة.
فالظاهرة: غربة أهل الصلاح بين الفساق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق، وغربة العُلَمَاء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق، وغربة أهل الآخرة بين علماء الدُّنْيَا الذين سلبوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدين بين الراغبين في كل ما ينفد وليس هو بباق.
وأما الغربة الباطنة: فغربة الهمَّة، وهي غربة العارف بين الخلق كلهم، حتى العُلَمَاء والعباد والزهاد، فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادتهم وزهدهم، وهؤلاء واقفون مع معبودهم، لا يعرجون بقلوبهم عنه.
كان أبو سليمان يقول في وصفهم: همتهم غير همة الناس، وإرادتهم من الآخرة غير إرادة الناس، ودعاؤهم غير دعاء الناس.
وسئل عن أفضل الأعمال، فبكى وقال: أن يطَّلع عَلَى قلبك فلا يراك تريد من الدُّنْيَا والآخرة غيره.
(1) ذكره ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" في شرح الحديث الخامس عشر (1/ 342) وقال: خرجه إبراهيم بن الجنيد.
وقال يحيى بن معاذ: الزاهد غريب الدُّنْيَا، والعارف غريب الآخرة يشير إِلَى أن الزاهد غريب بين أهل الدُّنْيَا، والعارف غريب لن أهل الآخرة، لا يعرفه العباد ولا الزهاد، وإنما يعرفه من هو مثله، وهمته كهمته.
وربما اجتمعت للعارف هذه الغربات كلها، أو كثير منها أو بعضها، فلا تسأل عن غربته حينئذ، فالعابدون ظاهرون لأهل الدُّنْيَا والآخرة، والعارفون مستورون عن أهل الدُّنْيَا والآخرة.
قال يحيى بن معاذ: العابد مشهور والعارف مستور، وربما خفي حال العارف عَلَى نفسه؛ لخفاء حاله، وإساءته الظن بنفسه.
قال إبراهيم بن أدهم: ما أرى هذا الأمر إلا في رجل لا يعرف ذاك من نفسه، ولا يعرفه الناس منه.
وفي حديث سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ التَّقِيَّ"(1).
وفي حديث معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْأَخْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، وَإِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا أُولَئِكَ أَئِمَّةَ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الْعِلْمِ» "(2).
وعن علي: طوبى لكل عبد لومة عرف الناس، ولم تعرفه الناس، وعرفه الله منه برضوان، أولئك مصالح الهدى، تجلى عنهم كل فتنة مظلمة.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، مصابيح الظلال، تخفون عَلَى أهل الأرض وتعرفون في أهل السماء.
فهؤلاء هم أخص أهل الغربة، وهم الفرارون بدينهم من الفتن، وهم النزاع من القبائل، الذين يحشرون مع عيسى ابن مريم عليه السلام، وهم بين أهل
(1) أخرجه مسلم (2965).
(2)
أخرجه ابن ماجه (3989)، والحاكم (1/ 4)، (4/ 328).
الآخرة أعز من الكبريت الأحمر، فكيف يكون حالهم بين أهل الدُّنْيَا؟!
وتخفى أحوالهم غالبًا عَلَى الفريقين كما قال القائل:
تورايت من دهري بظلٍّ جناحه
…
فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت
…
وأين مكاني ما عرفن مكاني
ومن ظهر منهم للناس، فهو بينهم ببدنه، وقلبه معلق بالملأ الأعلى، كما قال أمير المؤمنين في وصفهم، وكما قيل:
جسمي معي غير أن الروح عندكم
…
فالجسم في غربة والروح في وطن
وكانت رابعة تنشد في هذا المعنى:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي
…
وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانسٌ
…
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وأكثرهم لا يقوى عَلَى مخالطة الخلق، فهو يفر إِلَى الخلوة بحبيبه، ولهذا كان أكثرهم يطيل الوحدة.
قيل لبعضهم: ألا تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟!
وقال آخر: وهل يستوحش مع الله أحد؟
وعن بعضهم: من استوحش من وحدته فذاك لقلة أنسه بربه.
كان يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد، فعاتبه أخوه فَقَالَ له: إِن كنت من الناس فلابد لك من الناس، فَقَالَ يحيى: إِن كنت من الناس، فلا بد لك من الله.
وقِيلَ لَهُ: إذا هجرت الخلق مع من تعيش؟ قال: مع من هجرتهم له.
وأنشد إبراهيم بن أدهم في هذا المعنى:
هجرت الخلق طرًّا في هواكا
…
وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربًا
…
لما حنَّ الفؤاد إِلَى سواكا
وعوتب غزوان عَلَى خلوته فَقَالَ: أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي.
ولغربتهم بين الناس ربما نسب بعضهم إِلَى الجنون لبعد حاله من حال الناس، كما كان أويس يقال ذلك عنه.
وكان أبو مسلم الخولاني كثير اللهج بالذكر، لا يفتر لسانه منه، فَقَالَ رجل لجلسائه: أمجنون صاحبكم؟ قال أبو مسلم: لا يا أخي، ولكن هذا دواء الجنون.
وفي الحديث (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اذْكُرُوا اللَّهَ حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُونٌ» .
وقال الحسن في صفتهم: إذا نظر إليهم الجاهل حسبهم مرضى وما بالقوم مرض. ويقول: قد خولطوا، وقد خالط القوم أمرٌ عظيم، هيهات والله مشغولون عن دنياكم.
وفي هذا المعنى يقول القائل:
وحرمة الود ما لي عنكم عوض
…
وليس لي في سواكم سادتي غرضُ
ومن حديثي بكم قالوا به مرضٌ
…
فقلتُ لا زال عني ذلك المرضُ
وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْضَلَ الْإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُ كُنْتُ» (3).
(1) أخرجه أحمد (3/ 68)، وعبد بن حميد (925)، وأبو يعلى (1376)، وابن عدي فى "الكامل"(3/ 980)، وابن حبان (816)، والحاكم (1/ 499) من حديث أبي سعيد الخدري. وإسناده ضعيف، لضعف رواية دراج أبي السمح عن أبي الهيثم. والحديث استنكره ابن عدي فى "الكامل" والذهبي فى "الميزان".
(2)
أخرجه ابن عدي في "الكامل"(2/ 560، 4/ 1410) وهو ضعيف.
(3)
أخرجه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" كما فى "مجمع الزوائد"(1/ 60).
وفي حديث آخر: "أَنَّهُ سُئِلَ صلى الله عليه وسلم: مَا تَزْكِيَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ؟ قَالَ: «أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ» (1).
وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلَاثَةٌ فِي ظِلِّ اللهِ يَوْمَ لاً ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ
…
فذكر منهم رَجُلٌ حَيْثُ تَوَجَّهَ عَلِمَ أَنَّ اللهَ مَعَهُ" (2).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الإحسان فَقَالَ: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" (3).
ولأبي عبادة البختري في هذا المعنى أبيات حسنة، لكنه أساء بقولها في مخلوق، وقد أصلحت منها كلمات حتى استقامت عَلَى الطريقة:
كَأَن رقيبا مِنْك يرْعَى خواطري
…
وَآخر يرْعَى ناظري ولساني
فَمَا أَبْصرت عَيْنَايَ بعْدك منْظرًا
…
يسوءك إِلَّا قلت قد رمقاني
وَلَا بدرت من فِيّ بعْدك لَفْظَة
…
لغيرك إِلَّا قلت قد سمعاني
وَلَا خطرت من ذكر غَيْرك خطرة
…
على الْقلب إِلَّا عرجا بعناني
إذا ما تسلى القاعدون عن الهوى
…
بذكر فلانٍ أو كلام فلان
وجدت الَّذِي يسلّى سواى يشوقني
…
إِلَى قربكم حتى أملّ مكاني
إخوان صدق قد سئمت لقاهمُ
…
وغضضت طرفي عنهم ولساني
وما البعض أسلى عنهم غير أني
…
أراك عَلَى كل الجهات تراني
انتهى ما ذكره الشيخ فسح الله في مدته من هذا الكلام، والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
"بلغ مقابلة عَلَى أصل مقروء عَلَى المؤلف وعليه خطه رحمه الله".
…
(1) أخرجه الطبراني في "الصغير"(1/ 201، 557).
(2)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(8/ 286) من حديث أبي أمامة. قال الهيثمي في "المجمع"(10/ 279): وفيه بشر بن نمير، وهو متروك ..
(3)
أخرجه مسلم (8).