المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدّمة المحقّق بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين (1) وبعد، فهذا - كنز الدرر وجامع الغرر - م ٧

[ابن الدواداري]

الفصل: ‌ ‌مقدّمة المحقّق بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين (1) وبعد، فهذا

‌مقدّمة المحقّق

بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين (1) وبعد، فهذا هو الجزء السابع من تاريخ كنز الدرر وجامع الغرر لأبى بكر بن عبد الله بن أيبك الدوادارى؛ وهو الجزء الذى أسماه مؤلفه «الدر المطلوب فى أخبار ملوك بنى أيوب» ، تمشيا مع طريقته فى تسمية كل جزء من أجزاء مؤلفه الكبير باسم فرعى خاص يوضح العصر ويحدد الدولة التى خصص هذا الجزء أو ذاك لعلاج تاريخها.

ولا تخفى على المشتغلين بدراسة تاريخ الشرق الأدنى فى العصور الوسطى أهمية عصر الأيوبيين بالذات، بوصفه العصر الذى عاين حلقة من أخطر حلقات الحركة الصليبية. ففى ذلك العصر أخذت الصحوة الإسلامية تنطلق لتأخذ شكل موجة جهاد كبرى ضد الوجود الصليبى الغربى فى بلاد الشام، وهو الأمر الذى ساعد عليه وأدى إلى نجاحه تحقيق الوحدة بين مصر والشام فى ظل ملوك بنى أيوب. وبعبارة أخرى فإن جانبا هاما من جوانب أهمية العصر الأيوبى يبدو فى أنه شهد تحول الصليبيين من الهجوم إلى الدفاع، وتحول المسلمين-وخاصة فى بلاد الشام-من الدفاع إلى الهجوم؛ الأمر الذى جعل دعاة الحروب الصليبية، وأصحاب مشاريعها فى الغرب الأوربى يؤكدون حقيقة هامة لم تغب تماما عن أنظار الصليبيين الأوائل، وهى أن مصر بموقعها وإمكانياتها ومواردها مصدر خطر كبير على الصليبيين بالشام، وأنه إذا أراد الصليبيون إقامة آمنة هادئة فى بلاد الشام فعليهم بتأمين جبهتهم الجنوبية من ناحية

ص: 11

مصر أولا. وهكذا تعرضت مصر فى أواخر العصر الأيوبى-أعنى فى النصف الأول من القرن الثالث عشر للميلاد-لحملتين صليبيتين كبيرتين، ارتبط بهما كثير من الأحداث التى ميزت تاريخ الشرق الأدنى فى عصر الأيوبيين.

فإذا أضفنا إلى ذلك التيارات الأخرى الخارجية التى أثرت فى تاريخ المنطقة فى ذلك العصر، مثل تفكك الدولة الخوارزمية، وظهور خطر المغول أو التتار فى المشرق، وما صحب هذا وذاك من ردود فعل حضارية وسياسية واسعة الأصداء-وخاصة فى مصر والشام-أدركنا بعض الأهمية التى لعصر الأيوبيين فى تاريخ الشرق الأدنى.

ففى ذلك العصر انسابت كثير من العناصر-وخاصة من الأكراد والأتراك والتركمان- داخل المحيط العربى الكبير فى مصر والشام، لتترك آثار بصماتها واضحة فى التركيب الاجتماعى والتكوين البشرى والجنسى والبناء الحضارى، وخاصة ما يرتبط بالنظم واللغة والعادات والتقاليد. وحسب عصر الأيوبيين أن مصر والشام شهدتا فيه انتشار النظام الإقطاعى الحربى، والتوسع فى استخدام الرقيق الأبيض الذين عرفوا باسم المماليك، ثم ظهور كثير من الألفاظ والمصطلحات غير العربية لتصبح شائعة الاستعمال، لا عند العامة فحسب، بل أيضا عند الخاصة من العلماء والكتاب والمؤلفين، فضلا عن الحكام. وهذه كلها ظواهر أخذت تنمو ويشتد خطرها طوال العصر الأيوبى، حتى اكتملت صورتها مع قيام دولة المماليك، التى خلفت دولة الأيوبيين فى حكم مصر والشام.

(2)

ومن داخل إطار هذه الصورة المبسطة تبدو الأهمية الخطيرة للحقبة التى يعالجها هذا الجزء السابع من تاريخ كنز الدرر لابن أيبك. ويزيد من هذه الأهمية أن ابن أيبك لم يكن مؤرخا عاديا، اقتصر فى كتابه على الجمع والتلخيص والنقل عمن سبقه من المؤرخين؛ وإنما انتمى ابن أيبك إلى أسرة كان لها من مسؤلية المشاركة فى صنع الأحداث المعاصرة نصيب مرموق. فإذا أضفنا إلى السنوات التى عاشها مؤلف هذا

ص: 12

الكتاب وشهد أحداثها، تلك التى عاشها أبوه وجده-وكان لهما قسط واضح فى المشاركة فى الأحداث المعاصرة-لخرجنا بحقبة زمنية تمتد على وجه التقريب من أوائل القرن السابع حتى قرابة منتصف القرن الثامن للهجرة-وهى حقبة لها أهميتها التاريخية البالغة بوصفها تمثل عصر الانتقال من دولة الأيوبيين إلى دولة المماليك؛ أو بعبارة أخرى الانتقال من العصر الذى اكتمل فيه بناء دولة الأيوبيين وبدأت تنخر فى جسمها العوامل الداخلية والخارجية التى أدت إلى سقوطها من ناحية، إلى العصر الذى نضجت فيه ملامح ومقومات دولة سلاطين المماليك لتصبح قوة فعالة، تمثل دولة من أغرب الدول التى عرفها التاريخ سواء من ناحية تكوينها أو من ناحية نظمها أو من ناحية الدور الحربى والسياسى والحضارى الذى قدر لها أن تلعبه على مسرح الشرق الأدنى أواخر العصور الوسطى.

فمؤلف هذا الكتاب الذى عاصر فترة نشطة حافلة بالأحداث فى صدر دولة سلاطين المماليك، ربطته ببعض بقايا ملوك بنى أيوب صلات قوية مما جعله يقف على تفصيلات عديدة عن الأيوبيين وحياتهم الخاصة ودقائق ما كان يجرى بين بعضهم وبعض من أحداث وأحاديث تلقى أضواء جديدة على روح العصر من ناحية وعلى حياة ملوك بنى أيوب الخاصة والعامة من ناحية أخرى. بل إن المؤلف يقول فى صراحة عند كلامه عن ابتداء دولة ملوك بنى أيوب فى بداية هذا الجزء السابع من كتابه كنز الدرر، إنه صاحب الملك الكامل بن الصالح إسماعيل الأيوبى، وأن الصداقة بينهما اشتدت إلى درجة أنه «كان يطلعنى على كثير من أسراره» .

وعند ما يشير المؤلف إلى جده عز الدين أيبك صاحب صرخد (ت 645) يبدو لنا بوضوح مدى مشاركة هذا الجد-الذى نسب إليه المؤلف-فى صنع الأحداث التى كانت تجرى على مسرح بلاد الشام فى النصف الأول من القرن السابع للميلاد.

ص: 13

ثم إن الأمير عز الدين أيبك-جد المؤلف-لم يكن مجرد أمير من أرباب السيوف الذين لا شغل لهم فى الحياة إلا المساهمة فى تبعات الحكم، وإنما يبدو مما كتبه حفيده -صاحب هذا الكتاب-أن الأمير الجد عرف بشدة التدين والحرص على تلاوة القرآن الكريم، والاشتغال بالكتابة، فكانت له كتابات بخط يده كما كانت له خزانة كتب عامرة. وهنا يكشف المؤلف عند إشارته إلى جده فى هذا الجزء عن حقيقة جديدة هامة هى أن أسرة ابن أيبك تنحدر من نسل بنى سلجوق، وأن عز الدين أيبك اسمه الحقيقى ميكائيل بن بهرام، أسره الخوارزمية، وباعوه للملك المعظم الأيوبى، فنسب إليه وصار يعرف بالمعظمى. ويلقى المؤلف أضواء جديدة على أسرته-فى هذا الجزء السابع من كتابه-فيروى أن السلطان الصالح نجم الدين أيوب هو الذى كاد لجده الأمير عز الدين أيبك ودسّ له السم ليتخلص منه ويستولى على أمواله وممتلكاته. فلما أحس الأمير أيبك بالسم يسرى فى جسده، وتحقق من مؤامرة السلطان الصالح، دبر للسلطان مؤامرة أدت إلى إصابته بمرض السقية الذى مات به بعد ذلك. وكانت من جملة جوارى الأمير أيبك-اللائى استولى عليهن السلطان الصالح-أم عبد الله والد المؤلف، وهى امرأة خطائية الجنس، فباعها الصالح-وهى حامل بوالد المؤلف من الأمير عز الدين-إلى رجل من كبار أهل صرخد، فولدت عنده. ونشأ عبد الله-أبو المؤلف-عند ذلك الرجل، حتى بلغ السابعة عشر من عمره وعندئذ انتقل إلى السلطان الظاهر بيبرس فى قصة طويلة، فأنعم عليه بإقطاع عبرته ألفى وأربعمائة دينار، وسلمه للأمير سيف الدين بلبان الرومى الدوادار، وقال له «علمه وخليه يمشى معك» فعرف عبد الله-أبو المؤلف- بالدوادارى.

ويفهم من سياق هذه القصة أن عبد الله بن أيبك-أبا المؤلف-نشأ هو الآخر

ص: 14

نشأة قويمة، حيث أن الرجل الذى اشترى أم عبد الله «كان دينا. . . وكان رجلا فقيها صوفيا فاضلا محققا، له عندى كتاب تأليفه بخطه فى التصوف» . مما يشير إلى أن والد المؤلف نفسه شب فى بيت علم وأدب. هذا إلى أن عبد الله والد المؤلف كان مقربا من السلطان الأشرف خليل بن قلاون ثم من السلطان الناصر محمد بن قلاون، الذى أمّره وولاه بلبيس والعربان سنة 703 هـ، فأقام إلى سنة 710 هـ، فنقله إلى الشام بسؤاله، وجعله مهمندارا، ثم ألزم بشد الدواوين بدمشق. . . وهكذا ظل والد المؤلف يشارك فى شئون الحكم حتى وفاته سنة 713 هـ.

وهكذا ولد أبوبكر-مؤلف كنز الدرر-وشب فى بيت عرف قيمة العلم وقدره.

وإذا كانت المصادر المعاصرة قد صمتت صمتا غريبا عن ذكر شئ عن حياة أبى بكر ابن عبد الله بن أيبك، إلا أن مؤلفاته العديدة تشهد على تمرسه فى حياة العلم وسعة معلوماته وأفقه. ومن جملة هذه المؤلفات التى ألفها صاحب كنز الدرر كتاب فى خطط القاهرة، أسماه «اللقط الباهرة فى خطط القاهرة» ومعروف عن موضوع الخطط أنه ليس بالموضوع السهل، وأنه لا يجرؤ على الخوض فيه إلا عالم متمكن واسع المعرفة. كذلك يشير المؤلف فى هذا الجزء السابع إلى أنه كان يرجع إلى مسوداته بين حين وآخر ليتحقق من حدث أو نبأ، مما يوضح أنه كان حريصا على تدوين ما يتوصل إليه من معلومات فى مسودات يرجع إليها وقت الحاجة، وهذا أسلوب لا يأخذ به إلا صاحب منهج علمى منظم.

(3)

أما عن كتاب كنز الدرر لابن أيبك فإن الصفة الغالبة عليه هى الإيجاز الشديد، والاكتفاء بالإشارة إلى الأحداث الكبرى الرئيسية دون الدخول فى التفاصيل،

ص: 15

والبعد عن ذكر التفريعات الثانوية التى تتصف بها حوليات العصور الوسطى بوجه عام. وقد توخى المؤلف هذا النهج فى كتابة التاريخ متعمدا، فيقول عن بعض الأحداث «أضربت عنه لطوله، وكون تاريخنا تاريخ تلخيص» . كذلك نراه يحرص على عدم تكرار بعض الأحداث فيقول «. . . بعد عدة وقائع قد تقدمت أخبارها بحكم التلخيص» .

على أننا لا يمكن أن ننزع ابن أيبك من العصر الذى عاش فيه فعلا، وهو عصر اتصفت عقليته بحب الاستطراد فى الكلام والكتابة. وكان المعاصرون يرون فى هذا الاستطراد نوعا من التنويع لزيادة الفائدة من ناحية والترويح عن المستمع والقارئ ودفع السأم عنهما من ناحية أخرى. ولذا نجد المؤلف فى بعض أجزاء كتابه يجنح أحيانا إلى الاستطراد، بل ربما انتقل من فن التاريخ إلى فن الأدب، مثلما حدث فى ترجمته للقاضى الفاضل فى حوادث سنة 596 هـ، إذا لم يكتف بذكر فقرات من بليغ أدبه، وإنما ساقته المعانى إلى ذكر بعض محفوظاته-محفوظات المؤلف نفسه-من الشعر الرقيق. وعند ما يتنبه المؤلف إلى أنه خرج عن الموضوع واستسلم للاستطراد، يبرر سلوكه بأنه فعل ذلك متعمدا «لتنشيط القارئ، ولا يمل ويسأم من فن واحد، فإذا خرج به شجون الحديث من فن إلى فن كان لزناد فكرته أقدح، ولطير نظرته أصدح. . .» !!. على أن ابن أيبك لم يستسغ فى قرارة نفسه هذا الاستطراد الذى وقع فيه أحيانا، فكان يعلن بسرعة عودته «إلى سياقة التاريخ بمعونة الله وحسن توفيقه» . وربما أحسّ أنه باستطراده قد وقع فى خطأ فعلا، فيعترف بالخطأ الذى وقع فيه، ويستغفر الله منه، ويقولها فى صراحة «وقد خرج بنا الكلام وشجونه عن شرط الاختصار، وأنا أقول استغفر الله من ذلك!!» .

ص: 16

ومع روح الإيجاز الشديد التى سادت كتاب كنز الدرر، ينبغى أن نعترف بأن ابن أيبك استطاع أن يأتى فى كتابه هذا بجديد فعلا. ويبدو هذا الجانب الجديد فى بعض المعلومات والآراء والحقائق التى يشير إليها ابن أيبك إشارات قد تكون موجزة، ولكننا لا نعثر عليها فى مصدر آخر من المصادر التى تعرضت لتاريخ نفس الفترة.

ويبدو السر فى هذه الحقيقة فى أن بعض المصادر التى أخذ عنها ابن أيبك واستقى منها معلوماته قد اندثرت ولم تصل إليها أيدى غيره من المؤرخين الذين عالجوا تاريخ نفس الحقبة الزمنية التى عالجها.

من ذلك ما نجده فى كتابة ابن أيبك من تلميحات طريفة عن أصل التتار وأخبارهم. كذلك نراه يشير فى هذا الجزء إلى أن رسل الصليبيين إلى المسلمين كانوا يدعون أنهم لا يعرفون العربية وهم يعرفونها. وإلى سياسة صلاح الدين فى مصانعة الفرنج-وخاصة أرناط صاحب الكرك-وكيف أنه كان يبذل لهم الأموال فى الدور الأول الذى شغل فيه صلاح الدين بإعادة بناء الجبهة الإسلامية، وتعبئة جهود المسلمين فى مصر والشام استعدادا لمرحلة الجهاد، «وكان يعطى الإفرنج شيئا كثيرا لا يعلم له قيمة، ويصانعهم فيما بينه وبينهم، ويجتهد بكتمان ذلك، لا يسمع عنه أنه يصانع عن نفسه وبلاده» . . . إلى غير ذلك من الإشارات السريعة الخاطفة التى لا نجد لكثير منها أثرا فى بقية المصادر المعاصرة، والتى تلقى أضواء لها أهميتها على روح العصر.

هذا فضلا عن أن ابن أيبك نفسه-بالإضافة إلى أبيه وجده-شاركوا فى كثير من أحداث الفترة التى عاشوها-كما سبق أن أشرنا-مما جعله فى كتابته عن هذه الفترة بالذات يحيط بما لم يحط به غيره علما. ومع هذا فقد تحلى ابن أيبك فى كتابته

ص: 17

بالتواضع الشديد، وعدم الاستبداد بالرأى، والاعتراف بعدم تثبته أحيانا من بعض البيانات. فهو مثلا فى حوادث سنة 591 هـ يقول إن العادل عاد إلى دمشق «وخلف بعض أولاده بالشرق، لا أعلم أيهم كان» . وهو عندما يشير إلى واقعة حطين يفعل ذلك ضمن أحداث سنة 568 هـ، ولكنه يذكر أن ابن واصل قال إن هذه الواقعة حدثت سنة 583 هـ، ويؤيد رأى ابن واصل قائلا «وأقول إنه الصحيح» . ويعلل ابن أيبك ذلك بأن المصدر الذى نقل عنه أخبار تلك الواقعة-وهو أبو المظفر جمال الدين يوسف-اتبع طريقة رواية الأحداث والوقائع متكاملة لا مجزأة وفق السنوات التى استغرقتها، بحيث يذكر الواقعة «واستمر على ذكرها هل يكون فى سنيها أو غير سنيها» . أما ابن واصل فقد اتبع أسلوب تتابع السنين، بحيث لا يذكر فى السنة الواحدة إلا ماتم فيها من أحداث، ولذا «فالرجوع إليه فى وقائع السنين أولى من غيره. . .» .

وهكذا يبدو لنا أنه إذا كان البعض قد أخذ على كتاب كنز الدرر لابن أيبك بعض المآخذ، كالاستطراد حينا، والإيجاز الشديد أحيانا؛ فضلا عن ركاكة الأسلوب وكثرة الأخطاء اللغوية. . . فإن هذا كله لا ينبغى أن يصرفنا عن مزايا هذا الكتاب ومحاسنه، بوصفه مصدرا هاما من مصادر الحقبة الزمنية التى تصدى لعلاجها. هذا إلى أننا فى حكمنا على أى عمل تاريخى ينبغى ألا ننظر إليه بأعين العصر الذى نعيش نحن فيه، ولا نحكم عليه بمقاييسنا ومثلنا ومستوياتنا نحن؛ وإنما تتطلب العدالة أن تقيّم هذا العمل أو ذاك فى ضوء المثل والمقاييس والمستويات التى سادت العصر الذى تم فيه إنجاز ذلك العمل فعلا. ولا يخفى علينا أن ابن أيبك عاش وكتب فى عصر شهد زحف الأعاجم على الوطن العربى فى الشرق الأدنى وتغلغلهم فيه وبسط سيادتهم عليه. . . ونجم عن هذا كله زحف كثير من عادات الترك والتتار وغيرهم من شعوب المشرق، وانتشار عديد من نظمهم وتقاليدهم فى العراق والشام ومصر بوجه خاص، وانسياب كثير من ألفاظهم المستغربة فى هذه البلاد، حتى غدت مألوفة الاستعمال فى الحياة اليومية عند العامة والخاصة سواء، بحيث صار

ص: 18

لا يخلو منها كتاب أو مصدر أو موسوعة مما تم تأليفه بالعربية فى ذلك العصر. وعلى هذا فإن ابن أيبك-فيما ظنه البعض مخطئا-لم يكن فى حقيقة أمره إلا قطعة من العصر الذى عاش فيه، وكتب بروحه، وتأثر بأوضاعه واتجاهاته. وحسب ابن أيبك أنه استطاع أن يقدم لنا فى كتابه كنز الدرر الكثير من المعلومات الجيدة الحبك التى لا تخلو من جديد وطريف.

(4)

وإذا كان لى أن أختار صفة نصف بها ابن أيبك فى الأجزاء الأخيرة من كتابه «كنز الدرر وجامع الغرر» ؛ فإننى لا أجد أفضل من أن أصفه بأنه «مؤرخ النيل» .

قد يقول البعض بأن هذه الصفة ليست من خصائص ابن أيبك وحده فى كتابه كنز الدرر، وإنما يشاركه فيها ابن تغرى بردى، المؤرخ الذى عاش فى القرن التاسع الهجرى (ت 874 هـ) والذى عنى هو الآخر عناية فائقة بذكر أمر النيل فى كل سنة من سنوات حوليته الشهيرة «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة». ولكن علينا هنا أن نضع أمام أعيننا اعتبارين هامين: أولهما أن ابن أيبك عاش وكتب فى عصر يتقدم من الناحية الزمنية العصر الذى عاش وكتب فيه المؤرخ ابن تغرى بردى، مما يجعل ابن أيبك فى هذه الناحية مبتكرا ورائدا لا مقلدا ومحاكيا. هذا مع عدم استطاعتنا أن ننفى أن يكون هناك من المؤرخين والمؤلفين من سبق ابن أيبك زمنيا فى العناية بذكر أمر النيل فى كل سنة من السنوات التى تصدى لعلاج تاريخها.

ولكننا فيما نعلمه-وفوق كل ذى علم عليم-لم نتوصل إلى أحد قبل ابن أيبك استن هذه القاعدة فى العناية بذكر أمر نهر النيل سنة بعد أخرى. أما الاعتبار الثانى الذى يميز ابن أيبك عن ابن تغرى بردى فى هذا الصدد فهو أن ابن أيبك جعل للنيل مكان الصدارة فى أحداث كل سنة من حولياته، فى حين جعل ابن تغرى بردى للنيل مكان الخاتمة أو الذيل. ويبدو لنا فى هذا الجزء السابع من كتاب كنز الدرر كيف حرص ابن أيبك على أن يستهل أحداث كل سنة بعنوان ثابت لا يحيد عنه، هو:«النيل المبارك فى هذه السنة» . فى حين ينهى ابن تغرى بردى فى حولياته «النجوم

ص: 19

الزاهرة» حوادث كل سنة بذكر من توفى فيها من الأعيان ثم يختتمها بعنوان جانبى نصه «أمر النيل فى هذه السنة» .

وهكذا أدرك ابن أيبك أن نهر النيل «مبارك» وأن الوقوف على حال فيضانه هو المفتاح لدراسة أحوال مصر وأهلها، ولذا يبدأ بذكر أمر الفيضان. وفى ضوء وضع النيل والفيضان يمكن تفسير ما ألمّ بالبلاد والعباد فى هذه السنة أو تلك من أحداث اقتصادية واجتماعية وسياسية. حقيقة إنه قد يؤخذ على ابن أيبك عدم دقته أحيانا عند تسجيل مدى الماء القديم فى النيل، ومقدار زيادة ماء الفيضان؛ ولكننا مرة أخرى نكرر ما سبق أن ذكرناه من أنه علينا قبل أن نحكم على عمل من أعمال التاريخ أن نقدر ظروف العصر الذى تم فيه ذلك العمل، ومدى إمكانيات المؤلف، والمصادر التى كان عليه أن يستقى منها معلوماته. . . إلى غير ذلك من الاعتبارات العديدة التى لا يقدرها حق قدرها إلا المؤرخ الذى يتمتع بحاسة تاريخية نفّاذة.

(5)

وأخيرا، فإنه لا يسعنى بالنيابة عن جميع المشتغلين فى حقل تاريخ العصور الوسطى سوى أن أشكر المعهد الألمانى للآثار بالقاهرة لعنايته-وعناية القائمين على أمره-بنشر هذا الكتاب، كتاب كنز الدرر وجامع الغرر لأبى بكر بن عبد الله بن أيبك الدوادارى، والحرص على إخراجه فى هذه الصورة السليمة المتكاملة التى تم إخراجه فيها فعلا.

وأرجو أن أكون قد وفقت فى النهوض بنصيبى فى هذا العمل العلمى الجليل، بتحقيق الجزء السابع من هذا الكتاب، وهو الجزء الذى أتشرف بتقديمه اليوم للباحثين، لنضيف به لبنة جديدة إلى صرح بناء حركة إحياء التراث العربى.

والله ولى التوفيق.

سعيد عبد الفتاح عاشور

أستاذ كرسى تاريخ العصور الوسطى كلية الآداب-جامعة القاهرة

ضاحية المعادى بالقاهرة فى ذى الحجة سنة 1391

فبراير سنة 1972

ص: 20