الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه والتابعين.
وبعد؛ فهذا كتاب "لطائف المعارف" لابن رجب الحنبلي أقدمه اليوم، باذلًا فيه جهد الطاقة، ولم أضن عليه بوقت أو جهد، راجيًا أن يكون صفحة مشرقة من تراثنا العربي، ودعوة صادقة - كما أرادها المؤلف - نحو الهداية والرشاد والطريق السوي.
والكتاب فريد في بابه، تحدث فيه المؤلف - وهو الفقيه المحدّث الواعظ - عن وظائف الأشهر والأيام من الطاعات والعبادات، التي يتقرب بها العبد إلى ربِّه عز وجل، ولله فيها لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته.
وقد بدأ - بعد الخطبة - بذكر مجلس في فضل التذكير بالله تعالى ومجالس الوعظ. ثم تحدث عن وظائف شهر الله المحرم فجعله في مجالس: مجلس في فضله وعشره الأول، وفضل قيام الليل، وفي يوم عاشوراء. ثم عقد فصلًا في قدوم الحاج، وفي استلام الحجر الأسود، واستقبال الحاج. وانتقل إلى الحديث عن وظيفة شهر صفر، فتكلم على التوكل، وعلى النهي عن الطيرة. وتلا ذلك حديثه عن وظائف شهر ربيع الأول، فجعل المجلسين الأول والثاني في ذكر مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وختمه بمجلس في وفاته عليه السلام.
وفي الحديث عن وظيفة شهر رجب أفاض المؤلف في ذكر الأشهر الحرم وما يتعلق بها وبحرمتها. وجعل وظائف شهر شعبان في ثلاثة مجالس: الأول في صيامه، والثاني في نصف شعبان، والثالث في صيام آخر شعبان.
وتحدث مفصلًا عن وظائف شهر رمضان، فجعلها في ستة مجالس: في فضل
الصيام، وفي فضل الجود في رمضان وتلاوة القرآن، وفي ذكر العشر الأوسط منه وذكر نصفه الأخير، وفي ذكر العشر الأواخر، والسبع الأواخر، ثم في وداع رمضان.
وقسّم وظائف شوال إلى ثلاثة مجالس: الأول في صيام شوال كله واتباع رمضان بصيام ستة أيام من شوال. والثاني في ذكر الحج وفضله. والثالث فيما يقوم مقام الحج والعمرة عند العجز عنهما.
وتحدث في ذي القعدة عمن يواصل الصوم، وعن فضل الاعتدال في العبادة، وأنه من أشهر الحج، وأحد الأشهر الحرم.
وطوّل الكلام عن وظائف شهر ذي الحجة، وقد اشتمل على أربعة مجالس: مجلس في فضل عشر ذي الحجة، وفي يوم عرفة مع عيد النحر، وفي أيام التشريق، ومجلس رابع في ختام العام.
وعقد فصلًا خاصًّا بيّن فيه وظائف فصول السنة الشمسية، وجعله في ثلاثة مجالس: الأول في ذكر فصل الربيع، والثاني في ذكر فصل الصيف، والثالث في ذكر فصل الشتاء.
وختم الكتاب بمجلس في ذكر التوبة والحث عليها قبل الموت، وهي وظيفة العمر كله، وخاتمة مجالس الكتاب.
وقد ترك الحديث عن ثلاثة أشهر، هي: ربيع الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، لخلوها من وظائف الطاعات.
سلك ابن رجب في كتابه أسلوب الخطباء الوعّاظ تارة، وأسلوب الفقهاء والمحدثين تارة أخرى، بعبارة مسجوعة أو مطلقة، يحدوه الصدق والإخلاص، وحضور الشواهد والنصوص.
وهو واحد من أولئك العلماء الذين حملوا راية الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع علم ودراية في الفقه والحديث والرجال والأدب.
* * *
ولا يفوتني - وأنا أقدّم للكتاب - التنويه بفضل الأخ الكريم فضيلة الشيخ عبد القادر الأرناؤوط وولده محمود، لما كان لهما من سابقة في العمل، فقد كان المأمول أن
يشاركا بتحقيق الكتاب، لا سيما أننا أخرجنا - معًا - جزءًا صغيرًا منه بعنوان (مجالس في سيرة الرسول" صلى الله عليه وسلم، يتحدث عن وظائف شهر ربيع الأول، غير أن مشاغلهما حالت دون المضي في تحقيق الكتاب، الأمر الذي حدا بدار ابن كثير - التي كانت قد أعلنت عن نشر الكتاب لمرات عديدة خلال أعوام - أن تلح على في تحقيقه وإخراجه للناس.
فجزى الله الجميع خير جزاء، وألهمنا الرشد في القول والعمل، والحمد لله رب العالمين.
كتبه:
ياسين محمّد السّوّاس
دمشق في 27/ شعبان/ 1411 هـ
13/ آذار/ 1991 م
المؤلف
(1)
736 - 795 هـ
هو عبد الرّحمن بن أحمد بن عبد الرحمن رَجَب بن الحسن بن محمد بن مسعود، السَّلامي، البغداديّ، الدمشقي، الحنبلي، زين الدين، أبو الفرج، المشهور بابن رجب الحنبلي، الإمام، الحافظ، المقرئ، المحدِّث، الحجة، الفقيه، الزاهد.
ولد في بغداد سنة ست وثلاثين وسبعمائة، في أسرة مشهورة بالعلم والصَّلاح.
فجدّه: أبو أحمد رَجَب بن الحسن بن محمد، اسمه عبد الرحمن، وقيل له: رجب؛ لأنه ولد في شهر رجب، ونُسب إليه المؤلف رحمه الله. سمع "ثلاثيات البخاري" وحدَّث بها، وسمع من المعيد ابن المجلح، وابن غزال وغيرهما؛ وكان فقيهًا، عالمًا، قرئ عليه غير مرة في بغداد والمؤلف حاضر وكان في الثالثة والرابعة والخامسة من عمره؛ توفي سنة 742 هـ
(2)
.
وأما أبوه: فهو أحمد بن رَجَب عبد الرحمن بن الحسن بن محمد بن مسعود، أبو العباس، السَّلاميّ، البغداديّ، الحنبليّ، نزيل دمشق. ولد في بغداد ونشأ بها، وقرأ بالروايات، وسمع من مشايخها، وطلب الحديث، وخرَّج لنفسه معجمًا مفيدًا؛ ذكر ابن حجر أنه رآه. ورحل إلى دمشق مع أولاده، فأسمعهم بها وبالحجاز والقدس.
(1)
ترجمته في: "الدرر الكامنة" 2/ 321، و"إنباء الغمر" 3/ 175، و"الدليل الشافي" 1/ 398، و"المقصد الأرشد" 78 ترجمة رقم (568)، و"تاريخ ابن قاضي شهبة" 1/ 3/ 488، و"الرد الوافر" 106، و"بديعية البيان" وشرحها المسمى "التبيان" 159، و"طبقات الحفاظ" 536، و"الجوهر المنضد" ترجمة رقم (57) ص 46، و "المنهج الأحمد"(مخطوط) ص 470، و "مختصره" 169، و"الدارس" 2/ 76، و "البدر الطالع" 1/ 328، و"لحظ الألحاظ" 180، و"ذيل التذكرة" للسيوطي 367، و"شذرات الذهب" 6/ 339، و"السحب الوابلة" لابن حميد المكي 116، و"الأعلام" للزركلي 3/ 295، و "معجم المؤلفين" لكحالة 5/ 118.
(2)
الدرر الكامنة 2/ 107.
وجلس للإقراء بدمشق، وانتُفع به، وكان ذا خيرٍ ودينٍ وعفاف. مات سنة 774 أو التي قبلها
(1)
.
وذكر العليمي في طبقاته
(2)
أن ابن رجب قدم مع والده من بغداد إلى دمشق وهو صغير
(3)
سنة 744 هـ، فاشتغل بسماع الحديث باعتناء والده، وسمع معه من محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الخباز
(4)
، وإبراهيم بن داود العطار
(5)
.
وسافر به أبوه إلى مصر، فسمع من صدر الدين أبي الفتح الميدومي
(6)
، وأبي الحرم محمد بن القلانسي
(7)
، ومن جماعة من أصحاب ابن البخاري، ومن خلق من رواة الآثار والأخبار.
وسافر به أبوه أيضًا إلى مكة، فسمع بها من الفخر عثمان بن يوسف
(8)
.
(1)
الدرر الكامنة 1/ 140 وإنباء الغمر 1/ 175 وشذرات الذهب 6/ 230.
(2)
2/ 470 (مخطوط). وانظر شذرات الذهب 6/ 339.
(3)
وهذا يرجح أن ولادته كانت سنة 736 هـ، لا كما ورد في "الدرر الكامنة" أنه ولد سنة 706 هـ، فلعله سهو من الناسخ. ويؤكده أن ابن حجر نفسه أرخ ولادته في "إنباء الغمر" كتابة سنة 736 هـ.
(4)
هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن سالم الدمشقي الأنصاري العبادي، الحنبلي، أبو عبد الله، من ولد عبادة بن الصامت، المعروف بابن الخباز. مسند دمشق في عصره، تفرد برواية مسلم بالسماع المتصل، أكثر عنه العراقي، وسمع منه المزي والذهبي والسبكي وابن رجب وغيرهم. وكان صدوقًا مأمونًا محبًّا للحديث وأهله، مات في رمضان سنة 756 هـ، عن سبع وثمانين سنة. (الدرر الكامنة 3/ 384 وشذرات الذهب 6/ 181).
(5)
ليس لإبراهيم هذا ترجمة معروفة، وفي الدرر الكامنة (2/ 95) ترجمة لداود بن إبراهيم بن داود بن يوسف بن سليمان بن العطار، أخي الشيح علاء الدين الدمشقي، ولد سنة 665 هـ، وأجاز له ابن عبد الدائم والنجيب والنووي وابن مالك وغيرهم. حدث بالكثير، وخطه حسن، وكتب الكثير، روى عنه الذهبي والعلائي وابن رافع والحسيني. سمع الكثير، وكان فيه تعبد وخير. وهو شيخ فاضل حسن. توفي سنة 752 هـ. ولعله الشيخ المقصود.
(6)
هو محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومي، صدر الدين، أبو الفتح، حدث بالكثير في القاهرة ومصر، ورحل إلى القدس زائرًا، بعد الخمسين، فأكثروا عنه. وهو أعلى شيخ عند العراقي من المصريين، ولقد أكثر عنه. مات سنة 754 هـ. (الدرر الكامنة 4/ 157).
(7)
هو محمد بن محمد بن أبي الحرم بن أبي طالب، أبو الحرم بن أبي الفتح القلانسي الحنبلى. كان خيرًا دينًا متواضعًا، حدث بالكثير، فسمع منه المقرئ ابن رجب، وذكره في مشيخته وقال: فيه صبر وتودد على التحدث، سمعت عليه بالقاهرة أجزاء من السباعيات والثمانيات، حدث بالكثير، وصار مسند الديار المصرية في زمانه. توفي سنة 765 هـ. (الدرر الكامنة 4/ 235 وشذرات الذهب 6/ 206).
(8)
هو عثمان بن يوسف بن أبي بكر النويري المالكي، الفقيه، المحدث، فخر الدين، أحد العلماء الصالحين الزاهدين في الدنيا، والتاركين للمناصب. مات سنة 757 أو 756 هـ. (الدرر الكامنة 2/ 453).
كما كان رفيق الشيخ الحافظ زين الدين العراقي
(1)
في السماع كثيرًا، وهو شيخ ابن حجر العسقلاني. ولازم مجالس الإمام ابن قيم الجَوْزية
(2)
إلى أن مات ابن القيم رحمه الله. وأجازه ابن النقيب
(3)
والنووي
(4)
، وهو غير أبي زكريا النووي المتوفى سنة 676 هـ.
مكانته:
خرَّج ابن رجب لنفسه مشيخة مفيدة. وقال عنه ابن حِجّي: أتقن الفن - أي فن الحديث - وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق، وتخرّج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق
(5)
.
وقال فيه ابن حجر: أخذ عن مشاهير عصره، واستفاد منهم، ودرس الحديث والفقه حتى برع، وقد مهر في فنون الحديث: أسماءً، ورجالًا، وعللًا، وطرقًا، واطلاعًا على معانيه.
ووصفه العليمي بالشيخ الإمام، العالم العامل، العلّامة، الزاهد، القدوة، البركة، الحافظ، العمدة، الثقة، الجة، زين الملة والشريعة والدنيا والدين، شيخ الإسلام، وأحد الأعلام، واعظ المسلمين، مفيد المحدثين، جمال المصنفين
(6)
.
(1)
هو عبد الرحيم بن الحسين، زين الدين، المعروف بالحافظ العراقي، من كبار حفاظ الحديث، أصله من الكرد، تحوَّل صغيرًا مع أبيه إلى مصر، فتعلَّم ونبغ فيها، وقام برحلة إلى الحجاز والشام وفلسطين، وعاد إلى مصر، فتوفي في القاهرة سنة 806 هـ. خئف عددًا كبيرًا من المصنفات. (الضوء اللامع 4/ 171 وذيل تذكرة الحفاظ 220).
(2)
هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزُّرْعي الدمشقي، أبو عبد الله، شمس الدين، ابن قيم الجوزية، الحنبلي، من أركان الإصلاح الإسلامي، وأحد كبار العلماء، مولده ووفاته بدمشق، تتلمذ لشيخ الإسلام ابن تيمية حتى لا يكاد يخرج عن شيء من أقواله، وهو الذي هذَّب كتبه ونشر علمه، وسجن معه في قلعة دمشق، وأهين وعذب بشبه، وألف تصانيف كثيرة، توفي سنة 751 هـ. (الدرر الكامنة 3/ 400 والأعلام 6/ 56).
(3)
هو أحمد بن لؤلؤ بن عبد الله الرومي، أبو العباس، شهاب الدين، المعروف بابن النقيب، فقيه شافعي مصري، مولده ووفاته بالقاهرة، توفي سنة 769 هـ.
(4)
هو - على الأغلب - علاء الدين أحمد بن عبد المؤمن الشافعي، قال ابن قاضي شهبة: الشيخ الإمام السبكي ثم النووي، نسبة إلى نوى، من أعمال القليوبية، وكان خطيبًا بها. تفقّه على الشيخ عز الدين النسائي وغيره، وكتب شرحًا على "التنبيه" في أربع مجلدات. وصنف كتابًا آخر في ترجيحات مخالفة لما رجحه الرافعي والنووي. قال الزين العراقي عنه: كان رجلًا صالحًا، صاحب أحوال ومكاشفات، شاهدت ذلك منه غير مرة، وكان سليم الصدر ناصحًا للخلق، قانعًا باليسير، باذلًا للفضل، بل لقوت يومه مع حاجته إليه. مات سنة 749 هـ. (شذرات الذهب 6/ 158).
(5)
إنباء الغمر 1/ 461 وشذرات الذهب 6/ 339.
(6)
المنهج الأحمد للعليمي (مخطوط) ص 471.
عُرف ابن رجب بالفضل والورع، والميل إلى العزلة، والتفرغ للعلم والتصنيف، فقد كان لا يعرف شيئًا من أمور الناس، ولا يتردد إلى أحدٍ من ذوي الولايات، وكان يسكن بالمدرسة السكرية بالقصّاعين
(1)
.
وكان أحد الأئمة الحفّاظ الكبار، والعلماء الزهّاد الأخيار، وكانت مجالسه تذكرة للقلوب صادعة، وللناس عامة مباركة نافعة. اجتمعت الفرق عليه، ومالت القلوب بالمحبة إليه
(2)
.
وكان صاحب عبادة وتهجد، ذكر ابن حجر أنه كان يفتي بمقالات ابن تيمية، وأنّ الناس نقموا عليه ذلك، فأظهر الرجوع عن خطته، فنافره التيميّون، فهجر هؤلاء وهؤلاء. وكان قد ترك الإفتاء بآخرة
(3)
.
ترجم له ابن عبد الهادي
(4)
فأجمل كثيرًا من أخباره وفضائله، فقال: هو الشيخ الإمام، أوحد الأنام، قدوة الحفاظ، جامع الشتات والفضائل، الفقيه الزاهد البارع الأصولي المفيد المحدّث. قال القاضي علاء الدين بن اللحام - فيما وجدته بخطه: سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلّامة الأوحد الحافظ شيخ الإسلام، مجلّي المشكلات، وموضح المبهمات، أبو الفرج عبد الرحمن زين الدين بن رجب. ورأيت بخطه في موضع آخر يقول: شيخنا الإمام العالم الحافظ بقية السلف الكرام، وحيد عصره، وفريد دهره.
وقال ابن قاضي شهبة
(5)
: الشيخ الإمام العلّامة، الحافظ، الزاهد، الورع، شيخ الحنابلة وفاضلهم، أوحد المحدثين.
وليَ حلقة الثلاثاء بعد وفاة ابن قاضي الجبل في سنة 771، ودرَّس بالحنبلية بعد وفاة القاضي ابن التقي، ثم أخذ منه.
وبالجملة فقد أجمع من ترجموا له على فضله وعلمه وورعه وزهده، وإمامته في الفقه والحديث والمواعظ. أحبه الناس، ومالت إليه قلوبهم، وصدعت لدروسه أفئدتهم. وسنكشف بعض ما كان عليه من علم حين الحديث عن كتبه إن شاء الله.
(1)
المنهج الأحمد (مخطوط) 2/ 472 وشذرات الذهب 6/ 339.
(2)
المنهج الأحمد 2/ 472.
(3)
إنباء الغمر 3/ 176.
(4)
الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد، لابن عبد الهادي الترجمة (57) ص 46 - 53.
(5)
تاريخ ابن قاضي شهبة 1/ 3/ 488.
وفاته:
توفي ابن رجب سنة 795 هـ رابع شهر رمضان، وقيل في رجب، بأرض الخميرية ببستان كان استأجره، وصلي عليه من الغد، ودفن بالباب الصغير جوار قبر الشيخ الفقيه الزاهد أبي الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي، ثم المقدسي، الدمشقي، المتوفى سنة 486 هـ، وهو ناشر مذهب الإمام أحمد بن حنبل ببيت المقدس ثم بدمشق.
وفي قصة وفاته ما يدل على زهده وانتظاره الموت، قال ابن ناصر الدين الدمشقي
(1)
: لقد حدثني من حفر لحد ابن رجب أنّ الشيخ زين الدين بن رجب جاءه قبل أن يموت بأيام، قال: فقال لي: احفر لي هنا لحدًا، وأشار إلى البقعة التي دفن فيها، قال: فحفرت له، فلما فرغ نزل في القبر، واضطجع فيه فأعجبه، وقال: هذا جيد، ثم خرج.
قال: فوالله ما شعرت به بعد أيام إلا وقد أتي به ميتًا محمولًا في نعشه، فوضعته في ذلك اللحد وواريته فيه.
مؤلفاته:
كان لابن رجب مشاركة قوية في عدد من الفنون، وفي مقدمتها: الفقه والحديث والتاريخ والمواعظ، وترك لنا مؤلفات عديدة تشهد على تقدمه وإمامته، وقد سلم أكثرها من الضياع، وطبع عدد كبير منها واشتهر بين الناس، ولعل ذلك يدل على إخلاصه للعلم رحمه الله. وسأذكر ما وصل إليَّ علمه منها مرتبة حسب الحروف.
1 -
أحكام الخواتيم وما يتعلق بها. منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية رقم (23794 ب)، وفي برلين رقم (9690). وقد طبع في بيروت وأعيد طبعه سنة 1987 بتحقيق عبد الله القاضي.
2 -
اختيار الأبرار. مخطوطة في برلين رقم (1690).
3 -
اختيار الأوْلى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى. طبع في مصر سنة 1353 هـ وفي بيروت بتحقيق حسين الجمل سنة 1987 م. وطبع في الكويت بتحقيق جاسم الفهيد الدوسري.
(1)
الرد الوافر ص 107.
4 -
إزالة الشنعة عن الصلاة بعد النداء يوم الجمعة. ذكره ابن عبد الهادي في "الجوهر المنضد".
5 -
الاستخراج لأحكام الخراج. منه مخطوطة في باريس رقم (2454). طبع في مصر سنة 1934 م، وفي بيروت بتحقيق عبد الله الصديق سنة 1982 وبتحقيق محمد بن إبراهيم الناصر سنة 1984. والكتاب في الفقه الحنبلي.
6 -
الاستغناء بالقرآن. ذكره ابن رجب في كتابه "الخشوع في الصلاة"، وحاجي خليفة في "كشف الظنون" 1/ 79، وفي هدية العارفين 1/ 527 - 528.
7 -
استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس. ذكره محقق "نور الاقتباس" وذكر أنه مطبوع.
ذكره ابن حميد المكي. وذكرت أمينة الجابر في كتابها "ابن رجب الحنبلي وآثاره الفقهية" أنه طبع في مصر سنة 1363 هـ بمطبعة الإمام.
8 -
الاستيطان فيما يعتصم به العبد من الشيطان.
ذكره ابن حميد المكي.
9 -
إعراب أم الكتاب، مجلد. ذكره ابن عبد الهادي في "الجوهر المنضد".
10 -
إعراب البسملة. ذكره ابن عبد الهادي في "الجوهر المنضد".
11 -
الإلمام في فضائل بيت الله الحرام. ذكره صاحب هدية العارفين 1/ 527.
12 -
أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور. منه نسخة خطية في برلين رقم (2661)، وفي الاسكندرية مواعظ (6). طبع في مكة المكرمة، وفي بيروت بتحقيق محمد زغلول سنة 1955 م وبتحقيق عبد اللطيف السبع سنة 1990 م.
13 -
الإيضاح والبيان في طلاق كلام الغضبان. ذكره ابن عبد الهادي في (الجوهر المنضد".
14 -
البشارة العظمى في أن حظ المؤمن من النار الحمى. منه نسخة خطية في تركيا رقم (5318) مجاميع، وفي جامعة الرياض بالسعودية رقم 527/ 86 مجاميع، وتقع في (8) ورقات من القطع الصغير.
15 -
تحرير الفوائد وتقرير القواعد، بعضه بخط المؤلف. مخطوطة في مركز البحث العلمي في جامعة أم القرى، وفي بانكبور رقم 1881.
16 -
التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار. طبع أول مرة سنة 1357 هـ بمطبعة أم القرى بمكة، ثم طبع سنة 1378 بمطبعة الإمام بمصر. وطبع أيضًا
عدة طبعات غير محققة في بيروت ودمشق. منه مخطوطة في برلين 2697، وفي الزيتونة 3/ 243 (1711).
17 -
تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال. منه نسخة مخطوطة في تركيا برقم (5318) مجاميع.
18 -
تفسير سورة الإخلاص. منه نسخة مخطوطة في تركيا برقم (5318) مجاميع، وفي مكتبة الرياض بالسعودية رقم 527/ 86 مجاميع. وتقع في 12 ورقة من القطع الكبير.
19 -
تفسير سورة الفاتحة. طبعت في الدار السلفية بالكويت سنة 1407 هـ.
20 -
تفسير سورة النصر. طبع في لاهور بالهند، وفي بيروت (دار البشائر الإسلامية) بتحقيق حسن ضياء الدين عتر، سنة 1986 م.
21 -
التوحيد. منه مخطوطة في غوطا برقم (702).
22 -
جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم. وهو المعروف بشرح الأربعين النووية. منه عدة نسخ خطية، أهمها نسخة كتبت في حياة المؤلف وعليها خطه سنة 790 هـ بعد أن قرئت عليه بدار الحديث السكرية بالقصاعين بدمشق. وطبع الكتاب في الهند بلا تاريخ، وعنها طبع في مصر سنة 1346 هـ بمطبعة مصطفى البابي الحلبي. وتوالت طبعاته، وأكثرها بغير تحقيق، وقد قام محمد الأحمدي أبو النور بتحقيق الكتاب وصدر الجزء الأول منه سنة 1969 م، ثم تلاه الثاني فالثالث، ولعله الآن قد اكتمل.
23 -
الحكم الجديرة بالإذاعة: من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالسيف بين يدي الساعة". طبع في مصر سنة 1349 هـ، وفي بيروت سنة 1988 م.
24 -
الخشوع في الصلاة (أو الذل والانكسار). طبع في مصر سنة 1341 هـ. وفي بيروت سنة 1983 م، وفي عمان سنة 1986 م.
25 -
ذم الخمر وشاربها، جزء. ذكره ابن حميد المكي. ومنه نسخة مخطوطة في تركيا برقم (5318) مجاميع.
26 -
ذم قسوة القلب. منه نسخة مخطوطة بتركيا برقم (543)، وتقع في 4 ورقات.
27 -
ذم المال والجاه، جزء. ذكره ابن حميد المكي. وقد طبع في المطبعة المنيرية بمصر سنة 1386 هـ. ويقال: إنه شرح حديث "ما ذئبان جائعان
…
".
28 -
الذيل على طبقات الحنابلة. نشر الجزء الأول منه بتحقيق هنري لاووست
وسامي الدهان في دمشق - المعهد الفرنسي - سنة 1951. وطبع تامًّا في جزأين بعناية أحمد حامد الفقي بمصر سنة 1952 م. كما طبع في جزأين أيضًا بدار المعرفة ببيروت.
29 -
الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة. ذكره ابن عبد الهادي في "الجوهر المنضد".
30 -
رسالة في تعليق الطلاق بالولادة. مخطوطة في تركيا برقم (543) مجاميع.
31 -
رسالة في فتوى هلال ذي الحجة. مخطوطة في السعودية برقم 86/ 527.
32 -
رسالة في معنى العلم. مخطوطة في ليبسيك رقم (462).
33 -
رياض الأنس. ذكر في هدية العارفين 1/ 527.
34 -
سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز. طبعت في الرياض سنة 1378 هـ، كما أشارت إلى ذلك أمينة الجابر في كتابها "ابن رجب الحنبلي".
35 -
شرح جامع الترمذي. ذكر في كشف الظنون ص 559 وهدية العارفين 1/ 527، الموجود منه فقط مخطوطة في المكتبة الظاهرية تتعلق بالعلل الصغير. وقال ابن عبد الهادي في "الجوهر المنضد": شرح الترمذي في نحو عشرين مجلدًا.
36 -
شرح حديث أبي الدرداء: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا". منه مخطوطة في السعودية برقم 1637/ 5 وتقع في (30) ورقة من القطع الكبير. وقد طبع بمكة المكرمة سنة 1397 هـ. وطبع في القاهرة تحت عنوان: "ورثة الأنبياء شرح حديث أبي الدرداء
…
، بتحقيق أشرف بن عبد المقصود، سنة 1987.
37 -
شرح حديث: "إذا كنز الناس الذهب والفضة". منه مخطوطة في تركيا برقم (5318) مجاميع. وغوطا 639.
38 -
شرح حديث: "إن أغبط أوليائي عندي". منه مخطوطة في تركيا برقم (5318) مجاميع.
39 -
شرح حديث زيد بن ثابت في الدعاء: "لبيك اللهم لبيك". منه مخطوطة في تركيا برقم (5318) مجاميع، وفي مكتبة الرياض بالسعودية رقم 56/ 527.
40 -
شرح حديث: "ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا". منه مخطوطة في تركيا برقم (5318) مجاميع.
41 -
شرح حديث عمار بن ياسر: "الله يعلمك الغيب". رواية أحمد والنسائي. منه مخطوطة في تركيا برقم (5318) مجاميع، وفي مكتبة الرياض بالسعودية رقم
527/ 56، وتقع في (42) ورقة من القطع الصغير. وهو مطبوع على ما ذكره محقق كتاب "نور الاقتباس".
42 -
شرح حديث: "ما ذئبان جائعان". طبع في لاهور بالهند سنة 1320، وفي القاهرة سنة 1346 هـ.
43 -
شرح حديث: "يتبع الميت ثلاث". منه مخطوطة بتركيا برقم (5318) مجاميع.
44 -
شرح علل الترمذي، وهو ما تبقى من شرح جامع الترمذي للمؤلف. طبع في بغداد بتحقيق صبحي السامرائي سنة 1396 هـ، وأعيد طبعه سنة 1405 هـ ببيروت. كما طبع في دار الملاح بدمشق بتحقيق الدكتور نور الدين عتر سنة 1978 م.
45 -
شرح المحرر. ذكره ابن عبد الهادي في "الجوهر المنضد".
46 -
شرح مولدات ابن الحداد، في الفروع. ذكرته أمينة الجابر في كتابها "ابن رجب الحنبلي".
47 -
صدقة السر وبيان فضلها. منه مخطوطة في تركيا برقم (5318) مجاميع.
48 -
صفة النار وصفة الجنة. ذكره ابن عبد الهادي في "الجوهر المنضد".
49 -
العلم النافع، جزء. مخطوطة في ليبسيك رقم (462). ويسمى "العلم النافع"، ولعله المطبوع باسم: فضل علم السلف على الخلف.
50 -
غاية النفع بشرح حديث "تمثيل المؤمن بخامة الزرع"
(1)
. مطبوع في مكة المكرمة بتحقيق محمد ماجد الكردي سنة 1347 هـ.
51 -
فتح الباري شرح صحيح البخاري. قسم منه، وصل فيه إلى كتاب الجنائز، منه مخطوطة في دار الكتب الظاهرية بدمشق (الكواكب الدراري 377) ورقة (50 - 250). ومنه قطعة في دار الكتب المصرية رقم (9414) وتقع في (40) ورقة من القطع الصغير. وقد ذكر الكتاب في كشف الظنون ص 550 وهدية العارفين 1/ 527. ومنه أخذ ابن حجر عنوان شرحه على البخاري.
52 -
الفرق بين النصيحة والتعيير. طبع بدمشق سنة 1984 وبعمان سنة 1986.
53 -
فضائل الشام. مخطوطة في الإسكندرية برقم (108) تاريخ.
(1)
من حديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كمثل خامة الزرع، من حيث أتتها الريح تُفيئها، فإذا اعتدلت تُلَقَّى بالبلاء، والفاجر كالأرَزَة صمَّاء معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء". والخامات من النبات: الغضة الرَّطبة اللينة.
54 -
فضل علم السلف على الخلف. طبع في مصر سنة 1347 و 1351 هـ، وأعيد طبعه في القاهرة سنة 1980. وطبع في بيروت بتحقيق يحيى مختار غزاوي سنة 1983.
55 -
قاعدة غمّ هلال ذي الحجة. ذكره ابن عبد الهادي في "الجوهر المنضد".
56 -
القواعد الفقهية (أو القواعد الكبرى، في الفروع). وهو كتاب جليل يدل على معرفة المؤلف المتينة بأصول المذهب الحنبلي وفروعه. وصفه ابن عبد الهادي بأنه كتاب نافع من عجائب الدهر. طبع في مصر سنة 1343 و 1352 هـ و 1972 و 1980، وفي بيروت بدار المعرفة.
57 -
القول المعذاب في تزويج أمهات أولاد الغياب. ذكره ابن حميد المكي.
58 -
كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة، وهو شرح لحديث "بدأ الإسلام غريبًا". طبع بمصر في المطبعة المنيرية سنة 1351 هـ، وأعيد طبعه في القاهرة سنة 1954 م بتحقيق أحمد الشرباصي، وسماه "غربة الإسلام". وطبع في القاهرة أيضًا سنة 1987 م.
59 -
الكشف والبيان عن حقيقة النذور والأيمان. ذكره ابن حميد المكي.
60 -
كفاية أو حماية الشام بمن فيها من الأحلام. ذكره ابن حميد المكي.
61 -
كلمة الإخلاص وتحقيق معناها. طبع في القاهرة سنة 1352 هـ و 1950 م وفي دمشق سنة 1961، وبطنطا في مصر سنة 1987.
62 -
لطائف المعارف. وهو كتابنا الذي نقدم له. طبع قديمًا في القاهرة سنة 1924. وأخذ منه المكتب الإسلامي رسالة بعنوان: بغية الإنسان في وظائف شهر رمضان، طبعت سنة 1978 م. وطبعت أيضًا بعنوان: وظائف شهر رمضان.
63 -
المحجة في سير الدلجة. وهو شرح حديث: "لن ينجي أحدًا منكم عمله". منه مخطوطة في مكتبة الرياض بالسعودية رقم (1637) وتقع في (26) صفحة من القطع الكبير. طبع في مكة المكرمة سنة 1347 هـ، وفي بيروت بتحقيق يحيى مختار غزاوي سنة 1984 و 1986 م.
64 -
مختصر سيرة عمر بن عبد العزيز. أشار محقق "نور الاقتباس" إلى أنه مطبوع.
65 -
مختصر فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة الظالم السارق. منه مخطوطة في تركيا برقم (5318) مجاميع.
66 -
مسألة الصلاة يوم الجمعة بعد الزوال وقبل الصلاة، جزء. ذكره ابن حميد المكي.
67 -
مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة. نقله ابن عبد الهادي في كتابه "سير الحاث إلى علم الطلاق الثلاث".
68 -
مكفرات الذنوب ودرجات الثواب ودعوات الخير. رسالة طبعت في القاهرة، مكتبة التراث، سنة 1982.
69 -
منافع الإمام أحمد. ذكره ابن عبد الهادي في "الجوهر المنضد".
70 -
مولدات في فضائل الشهور. هدية العارفين 1/ 527. ذكره محقق كتاب "نور الاقتباس" وأنه مطبوع. ويشبه أن يكون كتابنا "لطائف المعارف".
71 -
نزهة الأسماع في مسألة السماع. أو (الاستماع في مسألة السماع). منه نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية رقم (21613 ب)، وفي مكتبة الرياض السعودية 686/ 86.
72 -
نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس. طبعت ناقصة في جدة سنة 1979 بتحقيق الأخ عز الدين البدوي النجار، وأعيد طبعها تامة في بيروت سنة 1989 بتحقيق محمد بن ناصر العجمي. كما طبعت في مصر تحت عنوان:"تحفة الأكياس بشرح وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس".
73 -
وقعة بدر، جزء. ذكره ابن حميد المكي.
هذا ما وصل إلينا علمه من مؤلفاته رحمه الله، ولعل مصنفات أخرى ما زالت غير معروفة لم نذكرها، يؤكد ذلك ما قاله ابن عبد الهادي في ترجمته للمؤلف بعد أن ذكر مجمل ما تركه من مؤلفات، قال: وله غير ذلك من الكتب النافعة المفيدة التي لم نر مثلها، وله تحقيق في المسائل على نصوص أحمد وكلام الأصحاب، وله مسائل كثيرة غريبة وأشياء حسنة يعجز الإِنسان عن حصرها.
* * *
الكتاب
اتفقت المصادر التي ترجمت للمؤلف على نسبة الكتاب إليه، غير أنها اختصرت عنوانه وأسمته "اللطائف"، وزاد ابن حجر عبارة "في وظائف الأيام"، وانفرد ابن عبد الهادي الذي حاول استقصاء مؤلفاته، فذكره مرتين؛ الأولى باسم "اللطائف" والثانية "لطائف المعارف".
وفي النسخ المخطوطة للكتاب ورد العنوان مختلفًا؛ ففي نسخة (ب): "لطائف المعارف"، وسقط في (ش)؛ لوجود خرم في أولها. وذكر تامًّا في النسختين (آ) و (ع)، ويوافق ذلك ما جاء في مقدمة المؤلف حيث قال: وسميته الطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف"، وهو ما اشتهر به بين الناس، وما اخترناه أيضًا.
تحدث المؤلف في الخطبة عن غايته من تأليفه، فبين أن الله تعالى علَّق أحكام اليوم من الصلاة بطلوع الفجر، وطلوع الشمس، وزوالها، وغروبها، ومصير ظلّ الشيء مثله، وغروب الشفق. وعلّق أحكام اليوم من الصيام بمدَّة النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وعلَّق بالحساب ما يحتاج إليه الناس من مصالح دينهم ودنياهم؛ كصيامهم، وفطرهم، وحجهم، وزكاتهم، ونذورهم وكفاراتهم، وعِدد نسائهم، ومُدد إيلائهم، ومدد إجاراتهم، وحلول آجال ديونهم، وغير ذلك مما يتوقَّت بالشهور والسنين.
وجعل الله في كل يوم وليلةٍ لعباده المؤمنين وظائف موظَّفة عليهم من وظائف طاعته؛ منها ما هو مفترض، كالصلوات الخمس. ومنها ما يندبون إليه من غير افتراض، كنوافل الصلاة والذِّكْر وغير ذلك.
كما أنَّ للشهور وظائف موظّفة أيضًا؛ منها ما هو مفروض: كالصيام، والزكاة، والحج. ومنها ما هو مندوب: كصيام شعبان، وشوال، والأشهر الحرم.
وجعل الله لبعض الشهور فضلًا على بعض، كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض.
ورأى المؤلف أنه ما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعاته، يتقرَّب بها إليه؛ ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه.
والسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرَّب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات.
ثم قال: "وقد استخرت الله تعالى في أن أجمع في هذا الكتاب وظائف شهور العام وما يختص بالشهور ومواسمها من الطاعات؛ كالصلاة، والصيام، والذكر، والشكر، وبذل الطعام، وإفشاء السلام وغير ذلك من خصال البررة الكرام؛ ليكون ذلك عونًا لنفسي ولإخواني على التزوّد للمعاد، والتأهب للموت قبل قدومه والاستعداد".
ولابن رجب هدف آخر من كتابه وهو أن يفيد منه من يريد أن ينتصب للتذكير والوعظ، وهي سمة بارزة للكتاب، قال:"وليكون أيضًا صالحًا لمن يريد الانتصاب للمواعظ من المذكرين، فإن من أفضل الأعمال عند الله، لمن أراد به وجه الله، إيقاظ الراقدين، وتنبيه الغافلين".
وقد جعل هذه الوظائف المتعلقة بالشهور، مجالس مجالسَ، مرتبة على ترتيب شهور السنة الهلالية، فبدأ بشهر المحرم، وختم بذي الحجّة، وذكر في كل شهر ما فيه من هذه الوظائف. وما لم يكن له وظيفة خاصة لم يذكر فيه شيئًا، فقد ترك ذكر ثلاثة أشهر، هي: ربيع الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، فلم يتحدث عنها بشيء.
وختم ذلك كله بوظائف فصول السنة الشمسية، وهي ثلاثة مجالس: في ذكر الربيع، والشتاء، والصيف.
وكان قد بدأ كتابه بمجلسٍ في فضل التذكير بالله، ثم ختمه بمجلس في التوبة والمبادرة قبل انقضاء العمر؛ فإن التوبة وظيفة العمر كلّه.
وقد أكثر من الاستشهاد بالقرآن الكريم والحديث الشريف، ومن شعر الوعظ والرقائق، يعزو الحديث إلى مخرّجه، ويبين درجته من الصحة أو الضعف، وغالب ما يذكره من الصحيح، وإن لم يكن كذلك بين موطن ضعفه، وهو العالم الخبير بفنون الحديث وعلله. وقلما ينسب الأبيات إلى قائلها، ولعل بعضها من نظمه، وهي من الشعر المتوسط.
يعمد ابن رجب في كتبه، وفي مقدمتها كتابنا هذا وكتاب "جامع العلوم والحكم" إلى الأسلوب المسجع أحيانًا على عادة عصره، ويهجره حينًا ليتعلق بعبارة الفقهاء والمحدثين، يؤدي ذلك بنبرة خطابية متدفقة، نابعة من إخلاصه وصدقه ووفرة محفوظه، يخاطب فيه القلب والعقل.
ولعل خير ما نصفه به ما قاله الذهبي قديمًا في شيخه ابن تيمية: "ما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، كان السنّة نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة وعين مفتوحة".
وكيف لا وهو واحد من تلك الدوحة الوارفة، التي حملت راية الإصلاح وجهرت به بكل إخلاص وصدق، فقد لازم ابن القيّم الجوزية وتأثر به وتتلمذ له حتى وفاته، وابن القيّم كان بدوره لصيقًا بشيخ الإسلام، يدعو دعوته، وينهج نهجه، ويحمل معه تبعات الإصلاح ومحاربة البدع، ويأتي ابن رجب ليتابع المسير بالروح نفسها وبالصدق والإخلاص اللذين عرفا عندهما، رحمهم الله جميعا.
النسخ المعتمدة في التحقيق:
اعتمدت في التحقيق على أربع نسخ خطية كتبت جميعًا - على الأغلب - بدمشق، في عهد قريب من المؤلف، إضافة إلى المطبوع الذي اعتبرته نسخة إضافية حسنة يعتمد عليها. وهذا وصفها:
1 -
مخطوطة (آ):
نسخة محفوظة في دار الكتب الظاهرية في دمشق برقم (3219)، وهي تامة، تقع في (231) ورقة من القطع الكبير، قياسها 27×18 سم، وفي الصفحة (21) سطرًا، وفي السطر نحو (10) كلمات. كتبت بخط نسخ واضح، مع ضبط يسير بالشكل، والعناوين بالأحمر. وكتبت بضع صفحات منها على يد ناسخ آخر بخط مختلف أقل جودة، وكذا رممت الصفحة الأولى بخط آخر مختلف أيضًا.
كتب النسخة سليمان بن حسن بن سليمان العرابي بقرية يلدان من غوطة دمشق المحروسة سنة 843 هـ، وأوقفها الوزير أسعد باشا محافظ الشام على مدرسة والده إسماعيل باشا. وهي أقدم النسخ جميعًا، مقروءة ومصححة، وفي مجملها جيدة.
2 -
مخطوطة (ب):
نسخة محفوظة أيضًا في دار الكتب الظاهرية برقم (5845)، وهي تامة، تقع في (197) ورقة من القطع الكبير، قياسها 27× 18 سم، وفي الصفحة (27) سطرا، وفي السطر نحو (10) كلمات. كتبت بخط نسخ معتاد مقروء أقل جودة من نسخة (آ)، مع ضبط يسير بالشكل، وكتبت رؤوس الفقر بالأحمر.
كتب النسخة عبد الوهاب بن محمد بن عمر المعروف بالفيومي سنة 873 هـ. وهي جيدة، مقروءة ومصححة، عليها تعليقات في الحواشي بخط مختلف، مما يشير إلى تداولها.
وتتوافق هذه النسخة مع المطبوع، بخلاف باقي النسخ، مما سأبينه بعد قليل. وعلى الغلاف عدد من التملكات؛ منها تملك باسم أحمد بن علي العمري المقرئ الشافعي، وآخر باسم سليمان المدرس بمدرسة السليمية بدمشق المحمية، وباسم خليل بن عمر الشطي، وقد طمست تواريخ تملكها. وفي آخر النسخة ما يفيد أنها قرئت بالسند المتصل إلى المؤلف في مجالس، آخرها يوم الثلاثاء 6 صفر الخير سنة 874 هـ على الشيخ محيي الدين عثمان بن محمد الدتلي.
3 -
مخطوطة (ع):
نسخة دمشقية الأصل من المدرسة العمرية في صالحية دمشق، مصورة في جامعة الكويت، تقع في (279) صفحة، قياسها 17×13 سم، وفي الصفحة (23) سطرًا، وفي السطر نحو (13) كلمة. كتبت بخط نسخ دقيق مقروء، ورؤوس العبارات والفقر بالأحمر، وكتبت عناوين الموضوعات في الهامش بخط كبير جميل.
كتب النسخة إلياس بن خضر بن محمد لمالكه علاء الدين علي بن سليمان المرداوي، وذلك في سنة 850 هـ بالمدرسة الموسومة بالشيخ أبي عمر.
والنسخة مقابلة ومصححة، قوبلت في البلد الحرام مكة المشرفة، كما ورد في الصفحة 213 والصفحة الأخيرة من المخطوط، وذلك في دار العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم،
في أيام آخرها خامس عشر جمادى الآخرة سنة 857 هـ، وكتب علي بن سليمان الوداوي.
وعلى الغلاف عدد من التملكات ظهر منها تملك باسم محمد بن أحمد الطواقي سنة 1135، وعبد الحليم الشطي سنة 1269، وعبد السلام الشطي سنة 1290، وعبد الله بن زين الدين النصروي، وعيسى بن إبراهيم أبي غزال من بلاد نابلس.
وعليها تعليقات في الحاشية، مما يدل على تداولها وقراءتها. وهي نسخة جيدة قليلة الخطأ، إلا أن هناك عددًا من الألفاظ الساقطة أو العبارات المحرفة.
4 -
مخطوطة (ش):
هي نسخة تشستر بيتي بدبلن في إيرلندا، برقم (4886)، مصورة في جامعة الكويت، وتقع في (310) ورقات، قياسها 18× 14 سم، وفي الصفحة (17) سطرًا، وفي السطر نحو (10) كلمات. خرمت من أولها، وشمل الخرم مقدمة المؤلف وبضع أسطر من الكتاب. كتبت بخط نسخ مقرؤ وفرغ من نسخها في سابع عشر رمضان سنة 905 هـ على يد محمد بن محمد الجماعيلي.
اضطرب ترتيب بعض الأوراق فتأخرت الورقة 172 إلى ما بعد الورقة 174، وأصابها بعض السقط، وتصرف الناسخ ببعض العبارات والألفاظ. وهي أقرب ما تكون شبهًا بنسخة (ع)، وهما تشبهان نسخة (آ) في كثير من الفروق والاختلافات.
5 -
المطبوع (ط):
طبع في مصر سنة 1343 هـ بدار إحياء الكتب العربية، صححه محمد الزهري الغمراوي، معتمدًا على نسخة خطية مكتوبة سنة 865 هـ، وهي مأخوذة عن نسخة بخط عبد الوهاب بن محمد بن عمر المعروف بالفيومي، وهو الناسخ نفسه الذي كتب نسخة ب، وقد عرفنا أنه كتبها سنة 873 هـ، وهي نسخة دمشقية، وهذا يدعونا للشك بصحة تاريخ النسخة المعتمدة في المطبوع. ونلاحظ تشابهًا شبه تام بين المطبوع ونسخة (ب) مما يؤكد الصلة بينهما.
واعتمد مصححه على أكثر من نسخة خطية، يدل على ذلك ما سجل من فروق في الهامش. وفي المطبوع عدد من السقط، منه سقط يبدأ في السطر الرابع عشر من
الصفحة 265 بمقدار صفحتين، وآخر يبدأ بعد السطر الأخير من الصفحة 282 ويقدر بخمس صفحات.
عملي في الكتاب:
عوَّلت على المطبوع فعمدت إلى مقابلته بالنسخ الخطية الأربع، وأثبت في المتن ما رجحت صحته على غيره، سواء أكان ذلك في المطبوع أم في المخطوط، وأشرت في الهامش إلى الفروق ذات الدلالة، مما له فائدة في توضيح النص وتوثيقه وتقريبه إلى القارئ. كما أثبت بعض الزيادات التي لم ترد في المطبوع، وورد في النسخ الخطية بعضها أو كلها، وأشرت إلى ذلك أيضًا.
قمت بترقيم النص وضبط ما يلتبس نطقه وشرح ما غمض من لفظه والتعليق على بعض المواضع مما له فائدة ولا يخرج عن حد الاعتدال.
رقمت الآيات بعد ضبطها، وخرجت الأحاديث من مظانها حسب الطاقة، كما خرجت الأشعار إذا كانت مما له أصل معروف، وترجمت لعدد من الأعلام.
قدمت للكتاب، فترجمت للمؤلف، متحدثًا عن حياته ومكانته وشيوخه وتلامذته. وتتبعت مؤلفاته ذاكرًا كل ما وصل لي علمه منها، مبينًا مصادرها وأماكن وجودها، وما كان مخطوطًا منها أو مطبوعًا.
ثم تحدثت عن الكتاب وخطة المؤلف فيه، وبينت هدفه منه ومجمل ما ضمّه من مجالس أو فصول. وعرفت بالنسخ المعتمدة في التحقيق.
كما صنعت فهارس فنية عامة للكتاب شملت فهرسًا للآيات وآخر للأحاديث والآثار، ثم للأشعار فالأعلام وغير ذلك.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل والحمد لله ربّ العالمين.
ياسين محمّد السّوّاس
المخطوطات
اللوحة الأولى من نسخة (آ)
اللوحة الأخيرة من نسخة (آ)
اللوحة الأولى من نسخة (ب)
اللوحة الأخيرة من نسخة (ب)
اللوحة الأولى من نسخة (ع)
اللوحة الأخيرة من نسخة (ع)
اللوحة الثانية من نسخة (ش)
اللوحة الأخيرة من نسخة (ش)
لطائف المعارف (فيما لمواسم العام من الوظائف)
تأليف
الإمام الحافظ زَيْن الدِّين أبي الفَرَج عبد الرحمن بن شِهاب الدِّين أحمد بن رَجَب الحَنبلي البغدادي الدّمشقي
(736 - 795 هـ)
حقّقه وعلّق عليه
ياسين محمّد السّوّاس
بسم الله الرحمن الرحيم
وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
(1)
الحمدُ لله الملكِ القهَّارِ، العزيز الجبَّارِ، الرحِيمِ الغفَّار، مقلِّب القلوب والأبصار، مقدِّرِ الأمور كما يشاءُ ويختار، مكوِّرِ النَّهار على الليل، ومكوِّرِ اللَّيل على النَّهار، أسبَلَ ذيلَ الليل فأظلمَ للسكون والاستتارِ، وأنار منارَ النَّهار، فأضاءَ للحركة والانتشار، وجعلهما مواقيتَ للأعمالِ ومقاديرَ للأعمار، وسخر الشمسَ والقَمَرَ يجريان بحُسْبَانٍ ومقدارٍ، ويَعْتَقبانِ
(2)
في دَارة
(3)
الفُلْكِ الدوَّارِ على تعاقب الأدوار، وجعلَهما معالِمَ تُعْلَمُ بهما أوقاتُ
(4)
الليالي والأيام والشهور والأعوام في هذه الدَّار، ويُهتدَى بهما إلى ميقاتِ الصَّلاة، والزكاة، والحجّ، والصّيام، والإفطار، حُجَّة قائمةً قاطعةً للأعذارِ، وحكمةً بالغة من حكيمٍ عليم ذي اقْتِدار.
أحمدُه وحلاوةُ محامِدِه تزدادُ مع التِّكرار، وأشكرُهُ وفضلُه على مَنْ شكَر مدرارٌ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، شهادةً تبرئُ قائلَها
(5)
من الشِّرْكِ بصحة الإقرارِ، وتُبوِّئُ قائلَها دارَ القرارِ. وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه؛ البَدْرُ جبينُه إذا سُرَّ
(6)
استنار، واليمُّ يمينُه فإذا سُئلَ أَعطى عطاءَ مَنْ لا يخشى الإقتاِر
(7)
، والحَنِيفيَّةُ
(8)
دينُهُ الدِّينُ القيّمُ المختار، رَفَعَ اللهُ ببعثَتِه عن أُمّتِهِ الأغلالَ والآصارِ
(9)
، وكَشَفَ بِدعوته أذى البصائر وقَذَى الأبصار، وفَرَّقَ بشريعتِهِ بينَ المتَّقين والفجّارِ، حتى امْتازَ أهلُ اليَمينِ مِن أهلِ اليسارِ، وانفتحَتْ أقفالُ القُلوبِ فانشرحت بالعِلْمِ والوقار، وزالَ عن
(1)
في ب: "وبالله التوفيق وهو حسبي"، وفي ع:"وبه ثقتي".
(2)
في ع: "ويتعاقبان" وفي هامشها عن نسخة "يعتقبان".
(3)
في آ: "دائرة".
(4)
في آ: "الأوقات".
(5)
في ط: "القلب".
(6)
لفظ "سُرّ" لم يرد في (آ).
(7)
الإقتار: ضيق العيش.
(8)
الدِّين الحنيف: الإسلام، والحنيفية: مِلَّة الإسلام.
(9)
الآصار: جمع إصْر، وهو الإثم والعقوبة.
الأسماعِ أثقالُ الأوقار
(1)
. صلّى الله عليه وعلى آله أُولِي الإقدام والأقدارِ، وعلى أصحابه أقطابِ الأقطارِ صلاةً تُبلّغهم في تلك الأوطان نهاية الأوطار، وسلم تسليمًا.
أما بعد؛ فقد قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}
(2)
. وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}
(3)
. فأخبرَ سبحانه وتعالى أنّه علَّقَ معرفة السنين والحساب على تقدير القمر منازلَ. وقيل: بل على جعلِ الشمس ضياءً والقمر نورًا؛ لأن
(4)
حسابَ السَّنة والشهر يُعرَفُ بالقمرِ، واليوم والأسبوع يُعرفُ بالشمس، وبهما
(5)
يتمُّ الحسابُ. وقوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ} لمّا كان الشهرُ الهلاليُّ لا يحتا إلى عَدٍّ لتوفِيَتِهِ
(6)
بما بين الهلالين، لم يقُلْ لتعلموا عددَ الشهور؛ فإنَّ الشهرَ لا يُحتاج إلى عَدِّهِ إلّا إذا غُمَّ آخِرُهُ، فيُكَمَّلُ عددُه بالاتفاق، إلّا في شهر شعبانَ إذا غُمَّ آخِرُه بالنِسبة إلى صوم رمضانَ خاصَّةً، فإنَّ فيه اختلافًا مشهورًا. وأمَّا السَّنَةُ فلا بدّ من عَددِها، إذْ ليس لها حدٌّ ظاهرٌ في السماءِ فيُحتاجُ إلى عَددِها بالشهور، ولا سيّما مع تطاولِ السّنينَ وتعدُّدِها.
وجعلَ اللهُ السَّنةَ اثنيْ
(7)
عشرَ شهرًا، كما قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ}
(8)
وذلك بعدد البُروج التي تكمُلُ بدَورِ الشمسِ فيها السنةُ الشمسيَّةُ، فإذا دارَ القمرُ فيها كلِّها كَمُلَتْ دورتُهُ السّنويّةُ؛ وإنما جعل اللهُ الاعتبَارَ بدورِ القمرِ؛ لأن ظهورَه في السماءِ لا يحتاجُ إلى حسابٍ ولا كتاب، بل هو أمرٌ ظاهرٌ يُشَاهَدُ بالبصر، بخلافِ سيرِ الشمسِ؛ فإنه تحتاجُ معرفتُه إلى حسابٍ وكتابٍ، فلم يُحوِجْنا إلى ذلك، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنا أُمّةٌ أمَّةٌ لا نكتُبُ ولا نحسُبُ
(9)
، الشهرُ
(1)
الوَقْرُ، بالفتح: ثقل في الأذن. والوِقْرُ، بالكسر: الحِمْل الثقيل. وجمعه أوقار.
(2)
سورة الإسراء، الآية 12.
(3)
سورة يونس، الآية 5.
(4)
في ط: "وجعل".
(5)
في ط: "وبمعرفة ذلك".
(6)
في ع: "لتوقيته".
(7)
في آ، ع:"اثنا عشر" محاكاة للفظ الآية.
(8)
سورة التوبة، الآية 36.
(9)
أراد أنهم على أصل ولادة أمِّهم لم يتعلموا الكتابة والحساب، فهم على جبلّتهم الأولى. وقيل: الأمي الذي لا يكتب. (النهاية 1/ 68).
هكذا وهكذا وهكذا، وأشارَ بأصابعِهِ العَشْرِ، وخَنَسَ
(1)
إبهامَهُ في الثالثة، صُومُوا لرؤيتِهِ وأفطِرُوا لرؤيته؛ فإنْ غُمّ عليكم فأكمِلُوا العِدّة"
(2)
. وإنما علَّق الله تعالى على الشمس أحكامَ اليوم مِن الصّلاةِ والصِّيام، حيث كان ذلك أيضًا مشاهدًا بالبصر لا يحتاج إلى حسابٍ وَلا كتاب
(3)
؛ فالصَّلاة تتعلَّقُ بطلُوعِ الفجرِ، وطُلوعِ الشمس، وزوالِها، وغروبِها، ومصيرِ ظلِّ الشيء مثله
(4)
، وغروبِ الشفَق. والصِّيامُ يتوقَّتُ
(5)
بمدّة النهارِ من طلوعِ الفجر إلى غروب الشمسِ. وقوله تعالى: {وَالْحِسَابَ} ، يعني بالحسابِ حسابَ ما يحتاجُ إليه الناسُ من مصالحِ دينهم ودنياهم، كصيامهم، وفطرهم، وحجّهم، وزكاتِهم، ونذورِهم، وكفاراتهم، وَعِدَدِ نسائهم، ومُدَدِ إيلائهم
(6)
، ومُدَدِ إجاراتهم، وحُلولِ آجالِ دُيونهم، وغيرِ ذلك مما يتوقّتُ بالشهور والسنين. وقد قال الله عز وجل:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}
(7)
، فأخبرَ أنّ الأهِلَّةَ مواقيتُ للناسِ عُمومًا، وخصَّ الحجّ من بين ما يُوقّتُ به؛ للاهتمام به، وجعَلَ الله سبحانه وتعالى في كل يوم وليلةٍ لعباده المؤمنينَ وظائفَ مُوَظّفةً عليهَم من وظائفِ طاعتِه. فمنها ما هو مفترض كالصلواتِ الخمس. ومنها ما يُنْدَبُونَ إليه من غير افتراض، كنوافلِ الصّلاةِ والذكر وغير ذلك.
وجَعَلَ في شهور الأهِلَّةِ وظائفَ مُوَظَّفةً أيضًا على عباده، كالصِّيامِ، والزّكاةِ،
(1)
في ط: "وختم". وخنَسَ إبهامه: أي قَبَضَها وجمعها على أخواتها.
(2)
رواه بهذا اللفظ مسلم رقم (1080)(15) و (16) في الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال. ورواه أيضًا مختصرًا البخاري رقم (1913) في الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا نكتب ولا نحسب"، وأبو داود رقم (2319) في الصوم، باب الشهر يكون تسعًا وعشرين، وأحمد في "المسند"(2/ 122) في حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
(3)
في آ: "وكتاب".
(4)
في آ: "مصير كل شيء مثليه".
(5)
في آ، ب:"يتوقّف".
(6)
الإيلاء: الحلف. وفي سورة البقرة الآية 226: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . والمراد أن الزوج إذا حلف ألا يقرب زوجته تنتظره الزوجة مدة أربعة أشهر، فإن عاشرها في المدة فبها ونعمت، ويكون قد حنث في يمينه وعليه الكفارة، وإن لم يعاشرها وقعت الفرقة والطلاق بمضي تلك المدة عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: ترفع أمره إلى الحاكم فيأمره إما بالفيئة أو الطلاق، فإن امتنع عنهما طلّق عليه الحاكم. وانظر تفصيل ذلك في تفسير القرطبي 3/ 152 وما بعدها.
(7)
سورة البقرة، الآية 189.
والحجِّ. ومنه فَرْضٌ مفروضٌ عليهم، كصيام رمضانَ، وحَجَّةِ الإسلام. ومنه ما هو مندوبٌ، كصيام شعبانَ، وشوال، والأشهرِ الحُرُمِ.
وجعل اللهُ سبحانه لبعض الشهور فضلًا على بعض، كما قال تعالى:{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}
(1)
. وقال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
(2)
. وقال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}
(3)
.
كما جعلَ بعضَ الأيام والليالي أفضلَ من بعض، وجعلَ ليلةَ القَدْرِ خيرًا من ألفِ شهرٍ، وأقسَمَ بالعَشْرِ؛ وهو عَشْرُ ذي الحِجَّةِ على الصحيح، كما سنذكُرُه في موضعه إن شاء الله تعالى. وما من هذه المواسم الفاضلةِ موسمٌ إلَّا ولله تعالى فيه وظيفةٌ من وظائفِ طاعاتِه، يتقرَّبُ بها إليه، ولله فيه
(4)
لطيفةٌ من لطائفِ نفحاتِه
(5)
، يُصيبُ بها من يعودُ
(6)
بفضله ورحمته عليه. فالسعيدُ من اغْتَنَمَ مواسِمَ الشهورِ والأيامِ والسَّاعاتِ، وتقرَّبَ فيها إلى مولاهُ بما فيها من وظائفِ الطّاعاتِ، فعسى أن تصيبَه نَفْحَةٌ من تلك النَّفَحاتِ، فيسعد بها سعادةً يأمَنُ بعدَها من النارِ وما فيها من اللّفَحَاتِ.
وقد خرَّجَ ابنُ أبي الدنيا
(7)
والطَّبَرانيَّ
(8)
وغيرُهما، من حديثِ أبي هريرةَ
(9)
مرفوعًا: "اطلُبُوا الخير دَهْرَكُم [كُلَّهُ]، وتعرَّضُوا لِنَفَحاتِ رحمةِ رَبِّكُم، فإِنّ لله نَفَحاتٍ
(1)
سورة التوبة، الآية 36.
(2)
سورة البقرة، الآية 197.
(3)
سورة البقرة، الآية 185.
(4)
في ب، ط وهامش ع:"فيها"، وسقط لفظ الجلالة من (ع).
(5)
في ب: "وظيفة من وظائف طاعاته يتقرب بها".
(6)
في ط: "يشاء".
(7)
هو عبد الله بن محمد بن عبيد، أبو بكر القرشي البغدادي، المعروف بابن أبي الدنيا، صاحب "كتاب الشكر لله عز وجل" المطبوع في دار ابن كثير وغير ذلك من التصانيف في الرقائق والمواعظ. مات سنة (281) هـ، رحمه الله تعالى.
(8)
هو أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الشامي الطبراني نسبة إلى طبرية من أرض فلسطين، ولد بعكا سنة 260 هـ، ورحل إلى معظم الأقطار لجمع الحديث النبوي، وحدَّث عن ألف شيخ أو يزيدون، وصنف ثلاثة معاجم في الحديث هي "المعجم الكبير" و "المعجم الأوسط" و "المعجم الصغير" مات سنة 360 هـ، رحمه الله تعالى.
(9)
اختلف في اسمه اختلافًا كبيرًا، ولكن الأصح عند العلماء أن اسمه عبد الرحمن بن صخر، ولد سنة (22) قبل الهجرة، وأسلم متأخرًا سنة (7) هـ، ولزم النبي صلى الله عليه وسلم، فروى عنه (5374) حديثًا، وولي إمرة المدينة مدة، ولما صارت الخلافة إلى عمر استعمله على البحرين، ثم رآه ليّن العريكة مشغولًا بالعبادة، فعزله، وأراده بعد زمن على العمل فأبى، وكان أكثر مقامه في المدينة، وتوفي فيها سنة (59) هـ، رضي الله عنه.
من رحمتِهِ يُصيبُ بها مَنْ يَشاءُ مِن عِبادِهِ، وسَلُوا الله أنْ يَسْتُرَ عوراتِكُم ويُؤمِّنَ روعاتِكُم"
(1)
. وفي رواية للطبراني من حديثِ محمد بن مَسْلَمةَ مرفوعًا: "إنَّ لله في أيام الدَّهرِ نَفَحاتٍ فتعرَّضُوا لها، فلعل أحدَكُم أنْ تُصيبَه نَفْحَةٌ فلا يَشْقَى بعدَها أبدًا". وفي "مسند الإمام أحمد" عن عقبةَ بن عامر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ليسَ مِن عملِ يَوْم إلا يُختَمُ عليه".
(2)
وروى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادِه، عن مجاهدٍ، قال: ما مِن يوم إلا يقولُ: ابنَ آدم! قد دخلْتُ عليك اليومَ ولن أرجِع إليكَ بعدَ اليومِ، فانْظُرْ ماذا تعملُ فيَّ، فإذا انقَضَى طواهُ، ثم يُختَمُ عليه فلا يُفَكُّ حتَّى يكونَ الله هو الذي يفُضُّ ذلك الخاتَمَ يومَ القيامةِ، ويقولُ اليومُ حين ينقضي: الحمدُ للهِ الذي أراحني من الدُّنيا وأهلِها، ولا ليلة تدخل على النَّاس إلا قالت كذلك.
وبإسناده عن مَالِكِ بن دينارٍ، قال: كان عيْسى عليه السلام، يقول: إن هذا الليلَ والنَّهارَ خِزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما. وكان يقول: اعملوا اللَّيلَ لِما خُلِقَ له، واعْمَلُوا النَّهارَ لِما خُلِقَ له. وعن الحَسَن
(3)
، قال: ليس يومٌ يأتي من أيام الدُّنيا إلّا يتكلَّمُ، يقول: يا أيُّها الناسُ! إنِّي يومٌ جَديدٌ، وإنّي على ما يُعمَلُ فيَّ شهيدٌ، وإنِّي لو قد غَرَبَتِ الشَّمسُ
(4)
لم أرجِعْ إليكم إلى يوم القيامةِ. وعنه أنه كان يقول: يا ابنَ آدمَ! اليومُ ضيفُكَ، والضيفُ مُرتحلٌ، يحمَدُكَ أوَ يذمُّكَ، وكذلك ليلتُكَ
(5)
. وبإسناده عن بكرٍ المزنيِّ أنّه قال: ما من يوم أخرجَه الله إلى أهل الدُّنيا إلا ينادي: ابنَ ادمَ!
(1)
ذكره الهندي في "كنز العمال"(2/ 74) و (7/ 769)، والسيوطي في "الجامع الصغير"(1/ 143). وقد رواه البيهقي في "شعب الإيمان" وابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة"(27) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. كما رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، وأبو نعيم في "الحلية" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وهو حديث ضعيف. وورد في "الإتحاف" 5/ 40 عن مسند بقي بن مخلد، من حديث أبي هريرة، مرفوعًا.
(2)
قطعة من حديث رواه الإمام أحمد في "المسند"(4/ 146)، وإسناده ضعيف؛ فيه عبد الله بن لهيعة ضعفه رجال الحديث. ورواه أيضًا الطبراني في "المعجم الكبير" والحاكم في "المستدرك"، كما في "كنز العمال"(3/ 304).
(3)
إذا أطلق الحسن فهو الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، إمام أهل البصرة في عصره، وحبر الأمة، وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك، ولد بالمدينة سنة (21) هـ، وشبَّ في كنف علي بن أبي طالب، وكانت له هيبة عظيمة في القلوب، فكان يدخل على الولاة فيأمرهم وينهاهم، لا يخاف في الله لومة لائم. مات سنة (110) هـ، رحمه الله تعالى.
(4)
في ع: "غربت شمسي".
(5)
في ع: "الليل".
اغتنمني، لعلَّه لا يومَ لكَ بعدي. ولا ليلة إلا تنادي: ابنَ آدم! اغتنمني، لعلَّه لا ليلةَ لكَ بعدي. وعن عُمَرَ بن ذرٍّ أنه كان يقول: اعملوا لأنفسِكم رحمكم الله في هذا الليل وسوادِهِ؛ فإنَّ المغبُونَ مَنْ غُبِنَ خَيْرَ اللَّيلِ والنَّهارِ، والمحرُومَ مَنْ حُرِمَ خيرَهما. إنَّما جُعِلا سبيلًا للمؤمنين إلى طاعةِ ربِّهم، ووبالًا على الآخرين للغَفلةِ عن أنفسِهِم؛ فأحيُوا للهِ أنفسَكُم بذكرِه، فإنما تحيا القلوبُ بذكرِ الله عز وجل.
[عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلُ الَّذي يذكُرُ ربَّهُ والّذي لا يذكُرُ ربَّه، مَثَلُ الحيِّ والميِّتِ"]
(1)
. كم من قائم للهِ في هذا الليلِ قد اغْتَبَطَ بقيامِهِ في ظُلْمةِ حُفْرتهِ، وكم من نائمٍ في هذا الليلِ قد ندِمَ على طُولِ نومِهِ، عندما يرَىَ من كرامةِ الله عز وجل للعابدين غدًا. فاغتنِمُوا ممر السّاعاتِ والليالي والأيام، رحمكم الله. وعن داود الطائيّ
(2)
أنه قال: إنّما اللّيلُ والنهارُ مراحلُ، ينزِلُها الناسُ مَرْحلَةً مَرْحَلَةً، حتى ينتهيَ بهم ذلك إلى آخِرِ سفرِهم، فإن استطعت أن تُقدِّمَ في كل مرْحلةٍ زادًا لما بينَ يديْها فافْعَلْ؛ فإنّ انقطاعَ السفَرِ عن قريبٍ ما هو، والأمرُ أعجلُ من ذلك. فَتزوَّدْ لِسَفَرِكَ، واقضِ ما أنتَ قاضٍ مِن أمرِكَ، فكأنّكَ بالأمرِ قَدْ بَغَتَكَ
(3)
.
قال ابنُ أبي الدُنيا: وأنشدنا محمود بن الحُسَيْن
(4)
:
مَضَى أمسُكَ الماضي شهيدًا مُعدّلًا
…
وأعقبَهُ يومٌ عليكَ جَديدُ
(1)
زيادة من (ط). والحديث أخرجه البخاري رقم (6407) في الدعوات: باب فضل ذكر الله عز وجل، ومسلم رقم (779) في صلاة المسافرين: باب استحباب صلاة النافلة في بيته.
(2)
هو داود بن نصير الطائي الكوفي، أبو سليمان، من أئمة المتصوفين، كان في أيام المهدي العباسي، توفي سنة 165 هـ.
(3)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 7/ 345 وابن الجوزي في "صفة الصفوة" 3/ 138 وتتمته فيهما: "إني لأقول لك هذا وما أعلم أحدًا أشد تضييعًا مني لذلك، ثم قام وتركني".
(4)
كذا في الأصول "محمود بن الحسين"، وهي رواية ضعيفة، وصوابه محمود بن الحسن الوراق، شاعر، أكثر شعره في المواعظ والرقائق. روى عنه ابن أبي الدنيا كثيرًا. توفي نحو سنة (225) هـ. والأبيات كلها أو معظمها مما نسب إلى أكثر من شاعر، مع شيء من الاختلاف في الرواية، فهي منسوبة إلى محمد بن يسير الرياشي في معجم الشعراء ص 354، والذخائر والأعلاق ص 53، وأدب الدنيا والدين ص 128. وإلى الإمام علي في ديوانه المجموع ص 65، وبلا نسبة في بستان الواعظين ص 152. وانظر الزهد الكبير للبيهقي ص 259، واقتضاء العلم العمل ص 225.
فيومُكَ إن أغنيتَهُ
(1)
عادَ نفعُهُ
…
عَلَيْكَ وَمَاضي الأمسِ ليسَ يَعُودُ
فإنْ كُنتَ بالأمسِ اقْتَرفْتَ إساءةً
…
فَثَنِّ بإحْسانٍ وأنتَ حَمِيدُ
فلا تُرْجِ فِعلَ الخيرِ يومًا إلى غدٍ
…
لعل غدًا يأتي وأنتَ فقيدُ
وفي "تفسير عَبْدِ بن حُميد"
(2)
وغيره من التفاسير المسندة عن الحَسَنِ في قول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}
(3)
، قال: مَنْ عَجَزَ
(4)
بالليل كانَ له في
(5)
أوَّلِ النَّهارِ مُسْتَعْتَبٌ، ومَنْ عَجَزَ عن النَّهارِ
(6)
كانَ له في (5) الليلِ مُسْتَعْتَبٌ
(7)
. وعن قَتَادَةَ، قال: إنَّ المؤمن قد ينسى بالليل ويذكُرُ بالنَّهارِ، وينسَى بالنَّهارِ ويذكُرُ بالليل. قال: وجاء رجل إلى سَلْمان [الفارسي]
(8)
، قال:[إني]
(9)
لا أستطيعُ قيامَ الليلِ. قال له: فلا تعجِزْ بالنَّهارِ. قال قَتَادَة: فأَدُّوا إلى اللهِ مِن أعمالِكُم خيرًا في هذا الليلِ والنَّهارِ؛ فإنَّهما مَطيَّتانِ تُقْحِمانِ النَّاسَ إلى آجالِهم، يقرِّبانِ كلّ بعيدٍ، ويُبْلِيانِ كُلَّ جديدٍ، ويجيئانِ بكلِّ موعودٍ، إلى يوم القيامة.
* * *
وقد استخرْتُ الله تعالى في أن أجمَعَ في هذا الكتاب وظائفَ شُهورِ العام وما يختصُّ بالشهورِ ومواسِمِها مِنَ الطاعاتِ، كالصَّلاةِ، والصِّيامِ، والذِّكْرِ، والشُّكْرِ، وبَذْلِ الطَّعامِ، وإفشاءِ السَّلامِ، وغيرِ ذلك مِن خِصالِ البَرَرَةِ الكِرامِ؛ ليكونَ ذلكَ
(1)
في آ، ع:"أعتبته"، وفي ب:"أغيبته"، وما أثبته من (ط).
(2)
هو عبد بن حميد، ابن نصر الكسي، ويقال: الكشي، ويقال: اسمه "عبد الحميد". حدّث عن عدد كبير من الأئمة، وحدّث عنه كثيرون، منهم: البخاري، ومسلم، والترمذي. مات سنة (249) هـ؛ وهو ممن ذكره ابن حبان في الثقات. انظر سير أعلام النبلاء 12/ 235 - 238.
(3)
سورة الفرقان الآية 62. والخِلْفَةُ: كل شي بعد شيء؛ وكل واحد من الليل يخلف صاحبه.
(4)
العَجْزُ: ترك ما يجب فعله بالتَّسويف، وهو عامٌّ في أمور الذنيا والدِّين. (النهاية). وقال ابن كثير في "التفسير" 3/ 324: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس في الآية، يقول: من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار، أو من النهار أدركه بالليل، وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن. وقال مجاهد وقتادة: خلفة: أي مختلفين؛ أي هذا بسواده وهذا بضيائه.
(5)
في ب، ط:"من".
(6)
في ب: "من النهار"، وفي ط:"بالنهار".
(7)
استعتب فلان، إذا طلب أن يعتَبَ، أي يُرضى. وفي الحديث:"ولا بعد الموتِ من مُسْتَعْتَب" أي ليس بعد الموت من استرضاء. وقال الزجاج: أراه يعني وقت استعتاب، أي وقت طلب عُتْبَى، كأنَّه أراد وقت استغفار. (اللسان).
(8)
زيادة من (ع).
(9)
زيادة من هامش نسخة (ع).
عونًا لنَفسي ولإخواني على التزوُّدِ للمعادِ، والتأهُّب للموتِ قبلَ قُدُومِهِ، والاستِعدادِ. وأفوِّضُ أمري إلى الله، إن الله بصيرٌ بالعباد. ويكوَن أيضًا صالحًا لمن يُريدُ الانتِصابَ للمواعظِ مِن المذكِّرينَ؛ فإنّ مِن أفضَلِ الأعمالِ عندَ اللهِ لِمن أرادَ به وَجْهَ الله إيقاظَ الراقدين، وتنبيهَ الغافلين؛ قال الله تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}
(1)
. ووعَدَ مَنْ أَمَرَ بصدَقةٍ أو معروفٍ [أو إصلاح بين الناس]
(2)
يبتغي به وَجْهَ الله،
(3)
أجرًا عظيمًا. وأخبرَ نبيُّه صلى الله عليه وسلم أن "مَنْ دَعَا إلى هُدًى فَلَهُ مثلُ أجرِ مَنْ تبِعَهُ"
(4)
، وكفَى بذلك فضلًا عميمًا. وقد جعلْتُ هذه الوظائفَ المتعلِّقةَ بالشهورِ مجالسَ مجالسَ، مُرتَّبةً على ترتيبِ شُهور السَّنةِ الهِلاليَّةِ؛ فأبدأ بالمحرَّم، وأختِمُ بذي الحجّةِ، وأذكُرُ في كل شهرٍ ما فيه من هذِه الوظائفِ، وما لم يكُنْ له وظيفة خاصَّةٌ لم أذكُرْ فيه شيئًا. وختمْتُ ذلك كله بوظائفِ فصولِ السَّنةِ الشمسيَّةِ، وهي ثلاثةُ مجالِسَ: في ذكر الرّبيع، والشتاءِ، والصيفِ. وختمْتُ الكتابَ كلَّهُ بمجلس في التوبةِ والمبادَرَةِ بها قبلَ انقِضاءِ العُمُرِ؛ فإنّ التوبةَ وظيفة العمرِ كلِّهِ. وأبدأ قبلَ ذكر وظائفِ الشهورِ بمجلس في فضل التذكيرِ بالله يتضمَّنُ ذِكْرَ بعض ما في مجالسِ التذكيرِ منَ الفَضْلِ، وسمَّيته:"لطائف المعارِف فيما لمواسم العامَ من الوظائف". والله تعالى المسَؤول أن يجعلَهُ خالصًا لوجهِهِ الكريمِ، ومقربًا إليه وإلى دارِه، دارِ السَّلامِ والنَّعيمِ المقيمِ، وأنْ ينفَعَنا
(5)
به وعبادَهُ المؤمنين، وأن يوفِّقَنا لما يحبُّ وَيرضى، وَيختِمَ لنا بخيرٍ في عافيةٍ؛ فَإنَّه أكرمُ الأكرمينَ وأرحمُ الراحمين، آمين.
وهذا أوانُ الشروع فيما أردناهُ والبُداءَة بالمجلسِ الأوَّلِ كما شَرَطناهُ. ولا حول ولا قوَّةَ إلا بالله.
* * *
(1)
سورة الذاريات الآية 55.
(2)
زيادة من (ط).
(3)
في ب، ط، ع:"وجهه".
(4)
رواه مسلم رقم (2674) في العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة؛ وأبو داود رقم (4609) في السنة، باب لزوم السُّنَّة؛ والترمذي رقم (2674) في العلم، باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتُّبع أو إلى ضلالة؛ وابن ماجه رقم (206) في المقدمة، باب من سن سنة حسنة أو سيئة. ولفظه عند مسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا. ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا".
(5)
في آ: "ينفعني".
مجلس في فضل التذكير بالله تعالى ومجالس الوعظ
خَرَّج الإمامُ أَحْمَد، والترمذي، وابنُ حبّان في "صحيحه" من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال: قلنا يا رسولَ الله، ما لنا إذا كُنَّا عندَكَ رقَّتْ قلُوُبنا وزهِدْنا في الدّنيا، وكنَّا من أهلِ الآخرة، فإذا خرَجْنا من عندك فآنسْنا
(1)
أهلَنا وشَمِمْنا أولادنا، أنكرنا أنفسنا؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لَوْ أَنَّكم إذَا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدي كُنْتُم عَلَى حَالِكُم ذَلِكُمْ لَزَارَتْكُم المَلَائِكَةُ في بِيُوتكُم، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ الله بخَلْقٍ جَدِيدٍ حتى يُذنِبُوا فيغفرَ لهم". قلتُ: يا رسولَ الله! مِمّ خُلِقَ الخَلْقُ؟ قال: من الماء. قلتُ: الجنّةُ ما بناؤها؟ قال: لَبِنةٌ مِن ذهبٍ، ولبِنة من فِضةٍ، ومِلاطُهَا المسْكُ الأذْفَرُ، وحَصْباؤها اللؤلؤ والياقُوتُ، وتُربَتُهَا الزعفرانُ، مَن يدخلُها ينعَمُ لا يبأسُ، ويخلُدُ لا يموتُ، لا تَبلَى ثيابُهم، ولا يَفْنَى شبابهُم"
(2)
. وكانت مجالسُ. النّبيِّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عامتُها مجالسَ تذكيرٍ بالله وترغيبٍ وترهيبٍ؛ إمّا بتلاوةِ القرآن، أو بما آتاهُ الله من الحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، وتعليمِ ما ينفعُ في الدِّين، كما أمرَهُ الله تعالى في كتابه أن يذكِّرَ ويعِظَ ويقُصَّ، وأن يدعوَ إلى سبيل ربَّه بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، وأن يبشِّر ويُنذرَ، وسمَّاه الله {وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ}
(3)
.
(1)
في ع، ش:"عافسنا". وهذه اللفظة من حديث آخر رواه مسلم في صحيحه رقم (2750) في التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، من حديث حنظلة الأسيدي رضي الله عنه. والمعافسة: المعالجة والممارسة والملاعبة. (النهاية 3/ 263).
(2)
رواه أحمد في "المسند" 2/ 304 - 305 و 445 مختصرًا؛ والترمذي رقم (2526) في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها؛ وابن حبان رقم (2621)"موارد" في صفة الجنة، باب فيما في الجنة من الخيرات، وهو حديث صحيح، وقد ساقه المؤلف بالمعنى من رواية الإمام أحمد. والمِلاط: الطين الذي يجعل بين سافَي البناء، يُمْلَط به الحائط، أي يُخْلَط. (النهاية 4/ 357) والذَّفَر، بالتحريك: يقع على الطَّيِّب والكريه، ويفرَق بينهما بما يضاف إليه ويوصف به. (النهاية 2/ 161).
(3)
سورة الأحزاب الآية 45 و 46. ويعده في المطبوع ما نصه: "بإذنه وسراجًا منيرًا. فقيل: سراجًا للمؤمنين في الدنيا، ومنيرًا للمذنبين يوم القيامة بالشفاعة. وسمي سراجًا، لأن السراج الواحد يوقد منها ألف سراج ولا ينتقص من نوره شيء. كذلك خلق الله الأنبياء من نور محمد صلى الله عليه وسلم ولم ينقص من نوره شيء. قال العلماء رضي الله عنهم: والسرج خمسة: واحد في الدنيا، وواحد =
والتبشيرُ والإنذارُ هو الترغيبُ والترهيبُ، فلذلك كانت تلك المجالسُ توجبُ لأصحابه - كما ذكر
(1)
أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه في هذا الحديث - رقَّةَ القلوب، والزُّهدَ في الدُّنيا، والرَّغبةَ في الآخرة. فأمّا رِقّةُ القلوبِ فتنشأُ عن الذِّكْرِ؛ فإن ذِكْر اللهِ يوجِبُ خُشوعَ القلبِ وصلاحَه ورِقَّته، وَيذْهَبُ بالغَفْلة عنه
(2)
.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .
(3)
. وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
(4)
. وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
(5)
(6)
(7)
.
وقال العِرْبَاضُ بنُ سَارِيَة
(8)
: وعظَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم موعِظَةً بليغَةً وجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العُيونُ
(9)
. وقال ابنُ مسعودٍ: نِعْمَ المجلسُ، المجلسُ الذي
= في الدين، وواحد في السماء، وواحد في الجنة، وواحد في القلب. ففي الدنيا النار، وفي السماء الشمس، وفي الدين محمد صلى الله عليه وسلم، وواحد في الجنة عمر سراج أهل الجنة، وفي القلب المعرفة".
(1)
في ب، ش، ط:"كما ذكره". وسبق حديث أبي هريرة قبل قليل.
(2)
في ع: "ويذهب الغفلة عنه".
(3)
سورة الرعد الآية 28.
(4)
سورة الأنفال الآية 2.
(5)
سورة الحج الآية 34 و 35.
(6)
سورة الحديد الآية 16.
(7)
سورة الزمر الآية 23.
(8)
هو العِرباض بن سارية السُّلمي، أبو نجيح، أحد أصحاب الصُّفَّة بالشام، سكن حمص، وحديثه في "السنن" الأربعة، و"مسند أحمد"، مات سنة 75 هـ. انظر سير أعلام النبلاء 3/ 419. والعِرْباض: الغليظ من الناس.
(9)
قطعة من حديث رواه أحمد في "المسند"(4/ 126 - 127)؛ وأبو داود رقم (4607) في السنة، باب في لزوم السنة؛ والترمذي رقم (2676) في العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسُّنة واجتناب البدع؛ والدارمي (1/ 44)؛ وابن ماجه رقم (42)، في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، وتمامه عند الإمام أحمد: صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظةً بليغةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقيل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودِّع، فماذا تعهد الينا؟ قال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلَّ =
تُنْشَرُ فيه الحِكْمةُ، وتُرْجَى فيه الرحمةُ؛ مجالِسُ الذِّكر
(1)
.
وشكا رجلٌ إلى الحَسَنِ قساوةَ قلبِهِ
(2)
فقال: ادْنُهُ مِنَ الذكْرِ. وقال:
مجالسُ
(3)
الذِّكْرِ مَحْيَاةُ العِلْمِ، وتُحدِثُ في القلب الخُشوعَ.
القلوبُ الميّتةُ تحيا بالذِكْرِ، كما تحيا الأرضُ الميتةُ بالقَطْرِ.
بِذِكْرِ اللهِ تَرْتَاحُ القُلُوبُ
…
ودُنْيَانَا بِذِكْراهُ تَطِيبُ
وأمّا الزهدُ في الدُنيا والرَّغْبَةُ في الآخرة، فبما يحصُلُ في مجالسِ الذِّكْرِ من ذكرِ عُيوب الدُّنيا وذمِّها، والتَّزهيدِ فيها، وذكر فضلِ الجنَّةِ ومدحِها، والترغيبِ فيها، وذِكْرِ النَّارِ وأهوالِهَا، والترهيبِ منها.
و
في مجالسِ الذِّكْرِ تنزِلُ
(4)
الرَّحمة،
وتغشَى السَّكينةُ، وتحُفُّ الملائكةُ، ويذكُرُ الله أهلَها فيمن عندَه
(5)
. وهمُ القومُ لا يشقَى بهم جليسُهم، فربَّما رُحِمَ معهم من جَلسَ إليهم وإن كان مذنبًا، وربَّما بَكى فيهم باكٍ مِن خَشيةِ اللهِ فوُهِبَ أهلُ المجلسِ كلُّهم له. وهي رياض الجنة، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إذا مررْتُم برياضِ الجنّةِ فارْتَعُوا" قالوا: وما رياضُ الجنّةِ؟ قال: "مجالسُ الذِّكْرِ"
(6)
. فإذا انقضى مجلسُ الذكر،
(7)
فأهلُه بعد ذلك على أَقسام:
= محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة". وهو حديث صحيح. وانظر "جامع العلوم والحكم" للمؤلف ص 243 - 254.
(1)
قوله: "مجالس الذكر" لم يرد في (ش).
(2)
في ب: "قساوة في قلبه".
(3)
في ب، ط:"مجلس".
(4)
في ع: "تتنزل".
(5)
في هامش نسختي (ع، ب) زيادة، هذا نصها:"وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: لا يقعد قوم يذكرون الله إلّا حفَّتْهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده". وهذا اللفظ الذي ورد في هامش نسختي (ب، ع) هو عند أحمد في "المسند" 3/ 92. وأما ما ألمح إليه المؤلف في متن الكتاب فهو اقتباس من جزء من حديث رواه مسلم رقم (2699) في الذكر والدعاء، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، وعلى الذكر؛ والترمذي رقم (2945) في القراءات، باب رقم (12)؛ وأحمد في المسند 2/ 407 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
رواه الترمذي رقم (3509) في الدعوات، باب رقم (83)، وقال: حديث حسن غريب. وفي سنده إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق الجوزجاني، ثقة حافظ، رمي بالنصَب، ولكن للحديث شاهد عند الطبراني في "المعجم الكبير" من حديث عبد الله بن عباس، كما ذكر صاحب "كنز العمال" 10/ 138، فهو به حسن.
(7)
قوله: "فإذا انقضى مجلس الذكر" ساقط في (آ).
فمنهم: مَن يرجع إلى هواهُ فلا يتعلَّق بشيءٍ مما سمِعَه في مجلسِ الذِّكْرِ، ولا يزدادُ هدًى، ولا يرتدِعُ عن ردي؛ وهؤلاء شر الأقسام، ويكونُ ما سمِعُوه حُجّةً عليهم، فتزدادُ
(1)
به عقوبتُهم؛ وهؤلاء الظالمون لأنفِسهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}
(2)
.
ومنهم: من ينتفِعُ بما سمِعَه، وهم على أقسامٍ: فمنهم مَنْ يردُّه مَا سمِعَه عن المحرَّمَاتِ، ويُوجبُ له التزامَ الواجباتِ؛ وهؤلاء المقتصدون أصحابُ اليمين. ومنهم من يرتقي عن ذلك إلى التشميرِ في نوافلِ الطاعات، والتورُّعِ عن دقائقِ المكروهات، ويشتاق إلى اتباع آثارِ مَنْ سلَفَ من السَّاداتِ، وهؤلاء السابقون المقرَّبون.
وينقسم المنتفعون بسماع مجلسِ الذكر في استحضار ما سمعوه في المجلس والغفلةِ عنه إلى أقسامٍ ثلاثةٍ
(3)
: فقسمٌ يرجعون إلى مصالح دنياهم المُبَاحةِ فيشتغلون بها، فتذهلُ بذلك قلوبُهم عمّا كانوا يجدونه في مجلس الذكر؛ من استحضارِ عظمة الله وجلاله وكبريائه، ووعدِه ووعيدِه، وثوابِه وعقابِه، وهذا هو الذي شكاهُ الصحابةُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وخشوا؛ لكمالِ معرفَتِهم، وشدَّةِ خوفِهم، أن يكونَ نِفاقًا، فأعلَمَهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّه ليس بنفاقٍ.
وفي "صحيح مسلم" عن حَنْظَلَةَ رضي الله عنه أنه قال: يا رسولَ الله، نافَقَ حَنْظَلَةُ. قال:"وَمَا ذَاكَ؟ " قال: نكونُ عندَكُ تُذكِّرُنا بالجنَّةِ والنَّارِ [حَتَّى] كأنهما
(4)
رَأْيُ عينٍ، فإذا رَجَعنا
(5)
من عِنْدِكَ عَافَسْنَا
(6)
الأزواجَ والضَّيْعَةَ
(7)
، ونسِينا
(8)
كثيرًا. فقال: "لو تَدُومونَ على الحال التي تقومُون بها من عندي لصافحتْكم الملائكةُ في
(1)
في ع: "فيزدادوا به عقوبة"، وفي هامشها عن نسخة ما يوافق المثبت. وفي ش:"فتزاد".
(2)
سورة النحل الآية 108.
(3)
في ب، ط:"ثلاثة أقسام".
(4)
في ب، ط:"كأنها".
(5)
في "صحيح مسلم": "فإذا خرجنا".
(6)
المعافَسَة: المعالجة والمداعبة. فلان يعافِسُ الأمور: أي يمارسها ويعالجها. (النهاية 3/ 108).
(7)
في صحيح مسلم: "والضَّيعات".
(8)
في صحيح مسلم وسنن الترمذي: "نسينا" بغير واو.
مجالسِكُم وفي طرقِكُم، ولكن يا حنظلةُ، سَاعةً وَسَاعةً [ثَلَاثَ مَراتٍ]
(1)
. وفي روايةٍ له أيضًا "لَوْ كَانَتْ تَكُوْنُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْملائِكَةُ حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ في الطُّرُقِ"
(2)
. ومعنى هذا أن اسْتِحضارَ ذِكْرِ الآخرةِ بالقلب في جميعِ الأحوالِ عزيزٌ جدًّا، ولا يقدِرُ كثير من الناس أو أَكثرُهم عليه، فيُكْتَفَى منهم بذِكْرِ ذلك أحيانًا وإن وقعتِ الغَفْلةُ عنه في حالِ التَّلبُّسِ بمصالحِ الدُّنيا المباحةِ، ولكنَّ المؤمنَ لا يرضَى من نفسِه بذلك، بل يلُومُ نفسَه عليه ويحزنُهُ ذلكَ من نفسِه. العارفُ يتأسَّفُ في وقتِ الكَدَرِ
(3)
على زَمَنِ الصَّفاء، ويحِنُّ إلى زمنِ القُربِ والوصالِ في حالِ الجَفاء، وأنشدوا
(4)
:
ما أَذكرُ عيشَنا الَّذي قد سَلَفا
…
إلا وجَفَ القلبُ وكَمْ قد وَجَفا
(5)
واهًا لِزمانِنا الّذي كان صَفَا
…
هَلْ يرجِعُ بَعْدَ فوتهِ واأَسَفَا
(6)
وقِسمٌ آخرُ يَستمرُّون على استِحضارِ حالِ مجلسِ سماعِ الذكْرِ، فَلَا يزال تَذَكُّرُ ذلك بقلوبهم ملازمًا لهم، وهؤلاء على قسمين:
أحدُهما: من يشغَلُهُ ذلك عن مصالح دُنياهُ المباحةِ، فينقطِعُ عن الخَلْقِ، فلا يَقْوَى على مُخالطتِهم، ولا القيام بوفاءِ حقوقهِم. وكان
(7)
كثيرٌ من السَّلَفِ على هذه الحالِ؛ فمنهم مَن كان لا يضحكُ
(8)
، ومنهم مَن كان يقولُ: لو فارقَ ذِكْرُ الموتِ قلبي ساعةً لفَسَدَ.
والثاني: مَن يستحضِرُ ذكرَ الله وعظَمَتَهُ وثوابَهُ وعِقَابَة بقلبِه، ويدخُلُ ببدَنِه في مصالحِ دُنياهُ من اكتساب الحلالِ والقيامِ على العيالِ، ويُخالِطُ الخَلقَ فيما يُوَصِلُ
(1)
رواه مسلم رقم (2750)(12) في التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، والمراقبة، وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات، والاشتغال بالدنيا؛ والترمذي رقم (2514) في القيامة، باب رقم (59). وقد أورده المؤلف بالمعنى، وما بين حاصرتين زيادة من صحيح مسلم.
(2)
هي عند مسلم رقم (2750)(13).
(3)
الكَدَر: نقيض الصفاه.
(4)
لفظ "وأنشدوا" لم يرد في ب، ط.
(5)
وجَفَ القَلْبُ: خفَق.
(6)
في هامش (ع) عن نسخة: "لو كان يردّ فائتًا واأسفا".
(7)
في آ: "كان" بلا واو.
(8)
في ط: "لا يضحك أبدًا".
إليهم به النفْعَ مِمّا هو عبادةٌ في نفسِه؛ كتعليم
(1)
العلمِ، والجهاد، والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهي عن المنكرِ، وهؤلاء أشرفُ القسمينِ، وهُم خُلفاءُ الرسُلِ، وهم الذين قال فيهم علي رضي الله عنه: صَحِبُوا الدُّنيا بأبدانٍ، أرواحُها معلَّقةٌ بالمحل الأعْلَى. وقد كان حالُ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم عندَ الذكر يتغيَّرُ، ثم يرجِعُ بعدَ انقضائه إلى مخالطَةِ النَّاسِ والقيامِ بحقوقهم.
ففي "مسند البزار" و"معجم الطبراني" عن جابر رضي الله عنه، قال: "كان النّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا نزَلَ عليه الوحي قلتَ: نذير قومٍ [أتاهم العذاب]، فإذا سُرِّيَ عنه فأكثَرُ النَّاسِ ضَحِكًا، وأحسنهم خُلُقًا
(2)
.
وفي "مسند الإمام أحمد" عن علي أو الزُّبير، قال: كان النّبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطُبُنا فيُذكِّرُنا بأيامِ اللهِ، حتى نعرِفَ ذلك في وجهِهِ وكأنَّهُ نذيرُ جيش
(3)
يُصبِّحُهم الأمرُ غُدْوَةً. وكان إذا كانَ حديثَ عهدٍ بجبريلَ لم يتبسَّمْ ضاحكًا حتى يرتفعَ عنه
(4)
.
وفي "صحيح مسلم" عن جابرٍ رضي الله عنه، أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا خطَبَ وذكر الساعةَ
(5)
اشتدَّ غضبُهُ، وعلا صوته كأنه منذرُ جيشٍ يقول:"صبَّحكم ومسَّاكم"
(6)
.
وفي "الصحيحين" عن عَدي بن حاتم، أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم، قال:"اتقوا النَّار" قال: وأشاح، ثم قال:"اتقوا النَّارَ"، ثم أعرَضَ وأشاحَ - ثلاثًا - حتى ظننَّا أنّه ينظُر إليها. ثم قال:"اتقوا النّارَ ولو بِشِقِّ تمرةٍ، فمَنْ لم يجِدْ فبِكلمةٍ طيّبةٍ"
(7)
.
(1)
في ب، ط:"كتعلم العلم".
(2)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 17، والزيادة منه، وقال:"رواه البزار وإسناده حسن".
(3)
في مسند أحمد: "كأنه نذير قوم"، وأما اللفظ الذي ذكره المؤلف فهو قطعة من حديث رواه النسائي 3/ 188 - 189 في العيدين، باب كيف الخطبة؟ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(4)
رواه أحمد في "المسند" 1/ 167.
(5)
قوله: "وذكر الساعة" لم يرد في (ع).
(6)
قطعة من حديث رواه مسلم رقم (867) في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، ورواه النسائي 3/ 188 - 189 في العيدين، باب كيف الخطبة؟
(7)
رواه البخاري رقم (6540) في الرقاق، باب من نوقش الحساب عُذِّبَ، ورقم (6023) في الأدب، باب طيب الكلام، و (6563) في الرقاق، باب صفة الجنة والنار. ومسلم رقم (1016) في الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار.
وسئلتْ عائشةُ رضي الله عنها: كيف كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا مع نسائِهِ؟ قالت: كان كرجلٍ من رجالكم، إلا أنَّه كان أكرَمَ النَّاسِ، وأحسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، وكان ضحَّاكًا بسَّامًا. فهذه الطبقة خلفاء الرسُلِ عامَلُوا الله تعالى بقلوبهم، وعاشروا الخَلْقَ بأبدانهم، كما قالت رَابِعَةُ رحمة الله عليها
(1)
:
ولقد جَعلْتُكَ في الفؤادِ مُحدِّثي
…
وأبحْتُ جِسْمِي مَنْ أرادَ جُلوسي
فالجسْمُ مني للجليسِ مُؤانِسٌ
…
وحبيبُ قلبي في الفُؤادِ أنيسي
المواعظُ سياطٌ تُضْرَبُ بها القلوبُ،
فتؤثِّرُ في القلوب
(2)
كتأثير السّياطِ في البدَنِ، والضّرْبُ لا يؤثِّرُ بعدَ انقضائه كتأثيره في حالِ وجودِه، لكن يبقى أثرُ التألُّم بحسب قوتِه وضعفِه، فكلَّما قوِيَ الضَّرْبُ كانت مدَّةُ بقاءِ الألم أكثَرَ.
كان كثيرٌ من السَّلَفِ إذا خرجوا من مجلسِ سماعِ الذِّكْرِ خرجُوا وعليهم السَّكِينةُ والوَقارُ؛ فمنهم مَن كان لا يستطيع أن يأكلَ طعامًا عَقيبَ
(3)
ذلك، ومنهم مَن كان يعمَلُ بمقتضى ما سمِعَهُ مُدَّةً. أفضلُ الصَّدقة تعليمُ جاهلٍ، أو إيقاظُ غافلٍ. ما وُصِلَ المُسْتَثْقِلُ في نومِ الغَفلةِ بأَفضلَ من ضَرْبِه بسياطِ الموعظةِ لِيَستيقظَ. المواعظُ كالسِّياط تقَعُ على نِياطِ القلوبِ، فمَنْ آلمتْهُ فصاحَ فلا جُنَاحَ، ومن زادَ أَلمُهُ فماتَ فدَمُهُ مُبَاحٌ.
قَضَى اللهُ في القَتْلَى قِصَاصَ دمائِهِمْ
…
ولكنْ دِماءُ العاشقينَ جُبَارُ
(4)
وعَظَ عبدُ الواحد بنُ زيدٍ يومًا
(5)
، فصاح
(6)
به رجلٌ: يا أبا عبيدة، كُفَّ، فقد
(1)
هي رابعة بنت إسماعيل العَدَوِيَّة البصرية الزاهدة العابدة الخاشعة، أم عمرو، لها أخبار في العبادة والنسك، ولها شعر، من كلامها:"اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم". توفيت بالقدس سنة 135 هـ، وستأتي ترجمتها بأوسع من هذا. (انظر سير أعلام النبلاء 8/ 215 - 217، ومرآة الجنان 1/ 305، وصفة الصفوة 4/ 27). والبيتان في وفيات الأعيان 2/ 286، والبداية والنهاية 10/ 187، والأول في سير أعلام النبلاء 8/ 216.
(2)
في آ: "فتؤثر في القلب"، وفي ش:"فتؤثر فيها".
(3)
في ب، ط:"عقب".
(4)
الجُبَار من الدَّم: الهَدَرُ، وهو ما لا قِصاصَ فيه ولا غُرْمَ.
(5)
لفظ "يومًا" لم يرد في آ، ع، ش.
(6)
في ع، ش:"فصاح رجل".
كشَفْتَ بالموعظةِ
(1)
قِناعَ قلبي، فأتمَّ
(2)
عبدُ الواحد موعظته فمات الرجلُ
(3)
.
صاحَ رجلٌ في حَلْقَةِ الشِّبْليِّ
(4)
فماتَ، فاسْتَعدَى أهلُه على الشِّبْليِّ إلى الخليفة، فقال الشِّبليُّ: نفسٌ رنت
(5)
فحنتْ، فدُعِيتْ فأجابَتْ، فما ذَنْبُ الشِّبليِّ؟
فَكَّرَ في أفعالِهِ ثمَّ صَاحْ
…
لا خَيْرَ في الحُبِّ بغيرِ افْتِضَاحْ
قد جئتُكُم مستأمِنًا فارْحَمُوا
…
لا تَقْتُلوني قد رَمَيْتُ السِّلَاحْ
إِنَّما يصلحُ التأديبُ بالسوط من صحيحِ البدَنِ، ثابت القلبِ، قويّ الذراعينِ، فيؤلمُ ضربُهُ فيردَعُ. فأمَّا مَن هو سَقيمُ البدَنِ لا قوةَ له، فماذا ينفعُ تأديبُهُ بالضَّرْبِ.
كان الحسنُ إذا خرج إلى النَّاس فكأنَّه رجلٌ عايَنَ الآخِرَةَ، ثم جاء يُخبِرُ عنها. وكانوا إذا خرجُوا من عنده خرجُوا وهم لا يَعدُّون الدُّنيا شيئًا. وكان سفيان الثوريّ
(6)
يتعزَّى بمجالسِهِ عن الدُّنيا. وكان أحمد لا تُذكَرُ الدُّنيا في مجالسه
(7)
، ولا تذكَرُ عندَه. قال بعضهم: لا تنفَعُ الموعِظَةُ إلَّا إذا خرجَتْ مِن القلب، فإنَّها تصِلُ إلى القلب، فأمَّا إذا خرجَتْ من اللسانِ، فإنَّها تدخُلُ من الأُذُنِ، ثم تخرجُ من الأخرى. قال بعضُ السَّلَفِ: إنَّ العالِمَ إذا لم يُرِدْ بموعظتِه وَجْهَ اللهِ تعالى زلَّتْ موعِظَتُهُ عن القلوبِ كما يَزِلُّ القَطْرُ عن الصَّفا
(8)
. كان يحيى بنُ معاذ
(9)
يُنشِدُ في مجالسِه:
مواعِظُ الواعِظِ لن تُقْبَلا
…
حتَّى تَعِيها نَفْسُه
(10)
أَوَّلا
(1)
في ع، ش:"كشفت الموعظة".
(2)
في آ: "فما تمَّ".
(3)
الخبر في سير أعلام النبلاء 7/ 179. وعبد الواحد من العبّاد الزهاد، أبو عبيدة البصري. مات بعد سنة 150 هـ. وستأتي ترجمته.
(4)
اختلف في اسمه، فقيل: دُلَفِ بن جحْدر، وقيل: جعفر بن يونس. وقيل: جعفر بن دُلَف، كنيته أبو بكر، أصله من الشِّبْليَّة، وهي قرية من قرى أشروسنة بما وراء النهر، من شيوخ القوم، وله شعر. مات ببغداد سنة 334 هـ. (سير أعلام النبلاء 15/ 367 - 369، ومعجم البلدان 3/ 322).
(5)
في ط: "رقَّت".
(6)
لفظ "الثوري" لم يرد في ع، ش. وهو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، سيد أهل زمانه في علوم الدين والتقوى. مات سنة 161 هـ.
(7)
في ب، ع، ط:"مجلسه".
(8)
الصَّفا: العريض من الحجارة الأملَسُ، جمع صَفَاة. والقَطْرُ: المطر.
(9)
هو يحيى بن معاذ بن جعفر الرَّازي، أبو زكريا، من كبار المشايخ، أقام ببلخ، ومات في نيسابور. له كلام جيد، ومواعظ مشهورة، توفي سنة 258 هـ. والأبيات في المنتظم 5/ 16.
(10)
في ع والمنتظم: "يعيها قلبه".
يا قَوْمِ مَنْ أَظلَمُ مِن واعظٍ
…
خالَفَ ما قد قالَهُ في المَلا
أَظْهَرَ بينَ النَّاسِ إحسانَهُ
…
وبارَزَ الرَّحمانَ لمَّا خَلَا
العالِمُ الذي لا يعمَلُ بعلمِهِ مَثَلُهُ كمثَلِ المِصبَاحِ، يُضيءُ للنَّاسِ ويحرِقُ نفسَهُ. قال أبو العتاهية
(1)
:
وَبَّخْتَ غَيْرَكَ بِالْعَمَى فأَفَدْتَهُ
…
بَصَرًا وأنتَ مُحَسِّنٌ لِعَمَاكَا
وفتيلَةُ المِصْبَاحِ تَحرِقُ نَفْسَها
…
وتُضيءُ لِلأَعْشَى وأَنْتَ كَذاكَا
المواعِظُ دِرياق
(2)
الذُّنوبِ، فلَا ينبغِي أن يَسْقِيَ الدِّرياقَ إلا طبيبٌ حاذِقٌ معافى. فأَمَّا لَدِيغُ الهوَى فهو إلى شُرْبِ الدِّرياقِ أحوَجُ من أن يسقيَهُ لغيره.
في بعض الكتبِ السالفة: إذا أردتَ أن تعِظَ النَّاسَ فعِظْ نفسَكَ، فإِن تَّعَظَتْ، وإلَّا فاستَحِي مِنّي.
وغيرُ تقِيٍّ يأمرُ النَّاسَ بالتُّقَى
…
طَبيبٌ يُداوِي النَّاسَ وَهْوَ سَقِيمُ
يا أيُّها الرَّجُلُ المُقَوِّمُ
(3)
غيرَهُ
…
هلَّا لِنَفْسِكَ كانَ ذَا التَّقْوِيمُ
(4)
فابْدأ
(5)
بنفسِكَ فانْهَها عن غَيِّها
…
فإن انتَهَتْ عنه فأنتَ حَكِيمُ
فَهُناكَ يُقبَلُ ما تقُولُ ويُقْتَدَى
…
بالقَوْلِ مِنْكَ ويَنْفَعُ التَّعلِيمُ
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتأْتِيَ مِثلَهُ
…
عارٌ عليكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ
(6)
(1)
ديوانه 264، ورواية الثاني فيه:
كفتيلةِ المِصْباحِ تحرقُ نفسَها
…
وتُنيرُ واقِدَها وأنت كذاكا
وأبو العتاهية: هو إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني العَنَزي بالولاء، أبو إسحاق، الشهير بأبي العتاهية. شاعر مكثر، كان ينظم المائة والمائة والخمسين بيتًا في اليوم حتى لم يكن للإِحاطة بشعره من سبيل، وأكثر شعره في الزهد. مات سنة 211 هـ.
(2)
في ب، ط:"ذرياق" بالذال، ورد ذلك في المواضع كلها. والدِّرياق: التِّرياق، والخمر، فارسي معرّب.
(3)
في ط وهامش ب: "المعلِّم"، وكذا في ع، وفوقها "المقوِّم" على جواز الروايتين.
(4)
في ط: "التعليم"، وكذا في ع وفوقها "التقويم" على جواز الروايتين.
(5)
في آ، ش:"ابدأ".
(6)
البيت الأخير من شواهد النحو المعروفة والأبيات السائرة، وقد اختلف في قائله، فنسب إلى المتوكل بن عبد الله الليثي، وإلى أبي الأسود الدؤلي. والأبيات عدا الأول والثاني في ديوان أبي الأسود الدؤلي (تحقيق الدجيلي) ص 233. وانظر حماسة البحتري 117، والخزانة 3/ 617، وشرح أبيات المغني للبغدادي 6/ 112.
لمَّا جَلَسَ عبدُ الواحد بن زيد
(1)
للوعْظِ أَتتهُ امرأةٌ مِنَ الصالحات فأنشدته
(2)
:
يا واعظًا قامَ لاحْتِسابٍ
…
يزجُرُ قَوْمًا عن الذُّنوبِ
تَنْهَى وأنْتَ المُريبُ
(3)
حقًّا
…
هذا من المُنْكَرِ العجيبِ
لو كنتَ أصلحْتَ قبلَ هذا
…
عَيْبَكَ أو تبتَ من قريبِ
كانَ لِما قُلْتَ يا حَبيبي
…
مَوقعُ صِدْقٍ مِنَ القُلُوبِ
تَنْهَى عن الغَيِّ والتَّمادِي
…
وأنتَ في النَّهي كالمُريبِ
لمَّا حاسَبَ المتَّقُون أنفسَهم خافوا من عاقبةِ الوَعْظِ والتَّذكيرِ. قال رجلٌ لابن عبَّاسٍ: أريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. فقال له: إنْ لم تخشَ أن تَفْضَحَكَ هذه الآياتُ الثلاثُ فافْعَلْ، وإلا فابدأْ بنفسِكَ، ثم تلا:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ}
(4)
. وقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}
(5)
. وقوله حكايةً عن شُعيبٍ عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}
(6)
.
قال النَّخَعِيُّ: كانوا يَكْرَهُونَ القَصَصَ؛ لهذه الآياتِ الثلاث. قيل لمورِّق العِجْلي
(7)
: أَلا تَعِظُ أصحابَكَ؟ قال: أكرَهُ أن أقولَ ما لا أَفْعَلُ. تقدَّمَ بعضُ التابعين ليصلِّي بالنَّاسِ إمامًا، فالتفتَ إلى المأمُومين يُعدِّلُ الصُّفوفَ، وقال: اسْتَوُوا، فغُشِيَ عليه، فسُئلَ عن سَبب ذلك، فقال: لمَّا قلْتُ لهم: استقيموا، فكَّرْتُ في نفسِي، فقلتُ لها: فأنتِ، هل اسْتَقَمْتِ معَ اللهِ طرفَةَ عَينٍ؟
مَا كُلُّ مَنْ وَصَفَ
(8)
الدَّواء يستعمِلُه
(9)
…
ولا كُلُّ مَنْ وَصَفَ (8) التُّقَى ذو تُقَى
(1)
هو عبد الواحد بن زيد، أبو عبيدة البصري، الزاهد، شيخ الصوفية وواعظهم. كان يسرح في الشام، وقدم دمشق. أخباره في تاريخ ابن عساكر - المجلدة العاشرة - الورقة 277 - 281، وفيه الأبيات وقصة المرأة الصالحة. وقد ضعفه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 3/ 20 والذهبي في ميزان الاعتدال 2/ 672.
(2)
في ع: "فأنشدت".
(3)
في ش: "المريض".
(4)
سورة البقرة الآية 44.
(5)
سورة الصف الآية 2 و 3.
(6)
سورة هود الآية 88.
(7)
في ب، ط:"لمطرف"، وفي آ، ع:"لمطرف العجلي"، وفي ش:"لمورق المطرف العجلي". وهو مورِّق بن المشمرج العجلي، أبو المعتمر، ثقة، عابد. مات في ولاية عمر بن هبيرة على العراق. انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء 4/ 353 وصفة الصفوة 3/ 250.
(8)
في ط: "وصب".
(9)
في آ: "استعمله".
وَصَفْتُ التُّقَى حتَّى كأنِّي ذو تُقَى
…
ورِيحُ الخَطَايا مِن ثِيابي تَعْبَقُ
(1)
ومع هذا كلِّه فلا بُدَّ للناس
(2)
من الأمر بالمعروفِ والنَّهْي عن المنكرِ، والوعظِ والتذكيرِ، ولو لم يعِظِ النَّاسَ إلا مَعْصُومٌ مِن الزَّلَلِ، لم يعِظْ بعدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ، لأنَّه لا عِصْمَةَ لأحدٍ بعدَهُ.
لئن
(3)
لم يَعظِ العاصِينَ مَنْ هُوَ مُذْنِبٌ
…
فَمَنْ يَعِظِ العَاصِينَ بَعْدَ مُحمَّدِ
ورَوى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادٍ فيه ضَعفٌ، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "مُروا بالمعروفِ وإن لم تعملُوا به كُلِّه، وانهَوْا عن المُنْكَرِ وإن لم تنتهوا
(4)
عنه كُلِّهِ"
(5)
. وقيل للحسن: إنَّ فلانًا لا يَعِظُ، ويقولُ: أخافُ أنْ أقولَ ما لا أَفعلُ. فقال الحسن: وأَيُّنا يفعَلُ ما يقولُ؟! ودَّ الشيطانُ أنَّه قد
(6)
ظفِرَ بهذا، فلم يأمُرْ أحدٌ بمعروفٍ، ولم ينهَ عن مُنْكَرٍ. وقال مالكٌ، عن ربيعة: قال سعيدُ بن جُبير: لو كان المرء لا يأمرُ بالمعروف ولا ينهَى عن المنكرِ حتى لا يكونَ فيه شيءٌ، ما أَمَرَ أحدٌ بمعروفٍ ولا نَهَى عن مُنْكَرٍ. قال مالكٌ: وصدَقَ، ومَن ذا الذي ليس فيه شيءٌ؟!
مَنْ ذا الَّذي ما ساءَ قَطْ
…
ومَنْ لَهُ الحُسْنَى فَقَطْ
خطب عُمَرُ بنُ عبد العزيز رحمه الله يومًا، فقال في موعظتِه: إنِّي لأقُولُ هذه المقالَةَ وما أعلمُ عندَ أحدٍ من الذُّنوبِ أكثرَ ممَّا أعلمُ عنْدِي، فأستغفِرُ الله وأتوبُ إليه. وكتبَ إلى بعض نوَّابِهِ على بعضِ الأمصار كتابًا يعِظُهُ فيه، فقال في آخره: وإني لأعِظُكَ بهذا، وإنِّي لكثيرُ الإِسْرافِ عَلى نَفْسِي، غَيْرُ مُحْكمٍ لكثيرٍ من أمْرِي، ولو أن المرءَ لَا يَعِظُ أخاهُ حتى يُحكِمَ نفسَهُ إذًا لتواكَلَ الناسُ
(7)
الخيرَ، وإذًا لرُفِعَ الأمْرُ
(1)
في آ، ع، ش:"تسطع"، والمثبت من (ب).
(2)
في ب، ط:"للإِنسان".
(3)
في ع: "إذا".
(4)
في آ، ب، ط:"تتناهوا"، والمثبت من ع، ش.
(5)
ورواه بنحوه الطبراني في "الأوسط" و"الصغير" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، من طريق عبد السلام بن عبد القدوس بن حبيب عن أبيه، وهما ضعيفان، كما ذكر الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 277.
(6)
لفظ "قد" لم يرد في ب، ط.
(7)
في ب، ط:"لتواكل الخير".
بالمعروفِ والنَّهْيُ عن المُنْكَرِ، وإذًا لاستُحِلَّتِ المَحارِمُ، وقَلَّ الواعِظُونَ والسَّاعون لله بالنَّصِيحةِ في الأرض؛ فإنَّ
(1)
الشيطان وأعوانَه يَودُّون أن لا يأمُرَ أَحدٌ بمعروفٍ ولا يَنْهَى عن مُنْكَرٍ، وإذا أمَرَهُم أحدٌ أو نَهاهُم، عَابُوه بما فيهِ وبما ليس فيه، كما قيل:
وأُعْلِنَتِ الفواحِشُ في البوادِي
…
وصارَ النَّاسُ أَعْوَانَ المريبِ
(2)
إذا ما عِبْتُهُم عَابُوا مَقَالِي
…
لِما في القَوْمِ مِن تلكَ العُيوبِ
وَوَدُّوا لو كَفَفْنا فاسْتَوَيْنا
…
فصَارَ النَّاسُ كالشيءِ المشوب
(3)
وكنَّا نَسْتَطِبُّ إذا مَرِضْنَا
…
فصارَ هلاكُنا بيدِ الطَّبِيبِ
كان بعضُ العلماءِ المشهورين له مجلِسٌ للوعظِ، فجلَسَ [فيه]
(4)
يومًا فنظرَ إلى مَن حَوْلَهُ وهُم خَلْقٌ كثيرٌ، وما منهم إلَّا مَن قد رقَّ قلبُه أو دَمِعَتْ عينُه، فقال لنفسِه فيما بينَه وبينَها: كيفَ بكِ إنْ نجا هؤلاء وهلَكْتِ أنتِ؟ ثم قال في نفسه: اللهمَّ، إن قضيْتَ عليَّ غدًا بالعذابِ فلا تُعْلِمْ هؤلاءِ بعذابي؛ صيانةً لكرمِكَ لا لأَجْلي
(5)
؟ لئلَّا يُقالَ: عذَّبَ مَن كان في الدُّنيا، يُدِلُّ عليه. إلهي! قد قيلَ لنبيِّكَ صلى الله عليه وسلم: اقتُلْ ابنَ أُبيّ المنافِقَ، فقال: لا يتحدَّثُ النَّاسُ أن محمَّدًا يقتُلُ أصحابَهُ، فامْتَنَعَ من عِقابه؛ لمَّا كانَ في الظَّاهر يُنْسَبُ إليه. وأنا على كُلِّ حالٍ فإليْكَ أُنْسَبُ.
زوَّرَ رجلٌ شفاعةً إلى بعضِ الملوكِ على لسانِ بعضِ أكابِرِ الدولةِ، فاطلعَ المزوَّرُ عليه على الحال، فسَعَى عند الملِكِ في قضاءِ تلك الحاجةِ، واجتهَدَ حتى قُضيَتْ، ثمَّ قال للمزوِّر عليه: ما كنَّا نخيِّبُ مَن علَّقَ أملَهُ بنا، ورجَا النَّفعَ من جهتنا.
إلهي! فأنتَ أكرمُ الأكرمين، وأرحمُ الراحمين، فلا تُخيِّبْ مَن علَّقَ أملَهُ ورجاءَهُ بكَ، وانتسبَ إليكَ، ودَعَا عبادَكَ إلى بابكَ، وإن كان مُتَطفِّلًا على كرمِكَ، ولم يكن أهلًا للسَّمْسَرَةِ بينَكَ وبينَ عبادِكَ، لكنَّه
(6)
طمِعَ في سَعَةِ جُودِكَ وكَرَمِكَ، فأنتَ أهلُ
(1)
لفظ "إن" لم يرد في ب، ش، ط.
(2)
المريب: صاحب الرِّيبة، وهي التُّهَمَة والظِّنَّة.
(3)
شاب الشيء: خَلَطَه، وهو مَشُوب.
(4)
زيادة من (ع، ش).
(5)
قوله: "لا لأجلي" ساقط في (آ).
(6)
في آ، ع:"لكن".
الجُودِ والكرمِ، وربَّما استحيا الكريمُ مِن رَدِّ مَن تطفَّلَ على سِمَاطِ
(1)
كَرَمِهِ.
إنْ كنْتُ لا أَصْلُحُ للقُرْبِ
…
فشأنُكُم صَفْحٌ عن الذَّنْبِ
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو لَمْ تُذْنِبُوا لجَاءَ الله بِخَلْقٍ جديدٍ حتى يُذْنِبُوا فيغفِر لهم"
(2)
.
وخرَّجه مسلمٌ مِن وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لو لم تُذْنِبُوا لَذَهَبَ الله بكم ثم جَاءَ بقومٍ يُذْنِبونَ ثم يَستغفِرُون فيُغفَرُ لهم"
(3)
. ومن حديثِ أبي أيُّوب، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"لولا أنَّكُم تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ، ثم يغفِرُ لهم"
(4)
. وفي رواية له أيضًا: "لو لم يكُنْ لَكُم ذنوبٌ يغفِرُها اللهُ لجاءَ الله بقَوْمٍ لهم ذُنوبٌ، فيغفِر لهم"
(5)
.
والمرادُ بهذا أن للهِ تعالى حكمةً في إلقاءِ الغَفْلةِ على قلوبِ عبادِه أحيانًا، حتى يَقَعَ منهم بعضُ الذُّنوبِ، فإنَّه لو استمرَّتْ لهمُ اليَقَظةُ التي يكونون عليها في حال سماعِ الذِّكْرِ، لما وقَعَ منهم ذنبٌ. وفي إيقاعِهم في الذُّنوبِ أحيانًا فائدتان عظيمتان:
إحداهما: اعترافُ
(6)
المذنبين بذنوبهم وتقصِيرِهم في حقِّ مولاهم، وتنكيسُ رؤوسِ عُجْبِهم، وهذا أحبُّ إلى الله من فعلِ كثيرٍ من الطاعاتِ، فإنَّ دَوامَ الطاعاتِ قد تُوجب لصاحبها العُجْبَ. وفي الحديثِ:"لو لم تُذْنِبوا لخَشِيتُ عليكم ما هُوَ أشدُّ من ذلك؛ العُجْب"
(7)
. قال الحسن: لو أن ابنَ آدم كلَّما قال أصاب، وكلما عَمِلَ
(1)
السِّماط: ما يُمَدُّ ليوضَعَ عليه الطعام في المآدب ونحوها.
(2)
رواه أحمد في "المسند" 1/ 289 من حديث عبد الله بن عبَّاس، وإسناده ضعيف، ولكن يشهد له الحديث الذي بعده.
(3)
رواه مسلم رقم (2749) في التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبةً. ورواه أيضًا أحمد في "المسند" 2/ 309.
(4)
رواه الترمذي رقم (3539) في الدعوات، باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده، وإسناده ضعيف، فيه محمد بن قيس قاصّ عمر بن عبد العزيز، حديثه عن الصحابة مرسل، ولكن يشهد له الحديث الذي قبله عند مسلم.
(5)
هي عند أحمد في "المسند" 5/ 414 وإسنادها ضعيف، فيها محمد بن قيس قاصّ عمر بن عبد العزيز، حديثه عن الصحابة مرسل، ولكن يشهد لها حديث مسلم المتقدم.
(6)
في آ: "إغراق"، وهو تحريف.
(7)
رواه البيهقي في "شعب الإِيمان"، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق"، والحاكم في تاريخه، وأبو نعيم في "الحلية" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
أحسَنَ، أوشكَ أن يَجُنَّ من العُجْبِ. قال بعضُهم: ذنبٌ أفتقِرُ به إليهِ أحبُّ إليَّ مِن طاعةٍ أَدِلُّ بها عليه. أنينُ المُذنبين أحَبُّ إليه من زَجَلِ
(1)
المسبِّحين؛ لأنَّ زَجَلَ المسبِّحينَ ربَّما شابَهُ
(2)
الافتِخارُ، وأنينُ المُذنبين يزِينُه الانكسار والافتِقارُ.
في حديثٍ: "إنَّ الله لَيَنْفَعُ العَبْدَ بالذَّنبِ يُذنِبُه"
(3)
. قال الحسنُ: إنَّ العبدَ لَيَعمَلُ الذَّنْبَ فلا ينساهُ، ولا يزالُ متخوِّفًا منه حتى يدخُلَ الجنَّةَ. المقصودُ من زَلَلِ المؤمنِ نَدَمُهُ، ومِن تَفْرِيطِه أَسَفُهُ، ومِن اعْوِجاجِه تقويمُه، ومِن تأخُّرِه تقديمُهُ، ومِن زَلَقِهِ في هُوَّةِ الهَوَى أن يُؤخَذَ بيدِه فيُنجَّى إلى نجوة النجاة، كما قيل:
قُرَّةَ عَينِي لا بدَّ لي منكَ وإنْ
…
أوْحَشَ بيني وبينَكَ الزَّلَلُ
قُرَّةَ عيني أنا الغَريقُ فَخُذْ
…
كَفَّ غَريقٍ عليكَ يَتَّكِلُ
الفائدة الثانية: حُصولُ المغفرةِ والعفو مِنَ اللهِ تعالى لعبدِه؛ فإنَّ الله تعالى يحبُّ أنْ يعفوَ ويغفِرَ، ومِن أسمائِهِ الغفَّارُ
(4)
، والعَفُوُّ، والتَّوَّابُ، فلو عُصِمَ الخَلقُ فلِمَنْ كانَ
(5)
العفْوُ والمغفرةُ؟
قال بعضُ السِّلَفِ: أوَّلُ ما خلَقَ اللهُ القلَمَ كتَبَ: إنِّي أنا التوَّابُ أتوبُ على مَن تابَ. قال أبو الجَلْدِ
(6)
: قال رجلٌ مِن العاملين لله بالطاعةِ: اللهم، أصلِحْني صلاحًا لا فسادَ عليَّ بعدَه. فأَوْحَى اللهُ تعالى إليه: أن عبادِيَ المؤمنين كلَّهم يسألوني مثلَ ما سألْتَ، فإذا أصلَحْتُ عِبادِي كُلَّهم فعلَى مَن أتفضَّلُ وعلَى مَن أجودُ
(7)
بمغفرتي؟. كان بعضُ السلف يقول: لو أعلمُ أحبَّ الأعمالِ إلى الله لأجْهَدْتُ نفسي فيها، فرأى في منامِهِ قائلًا يقولُ له: إنَّك تريدُ ما لا يكونُ، إنَّ الله يُحِبَّ أن يَغْفِرَ. قال
(1)
الزَّجَلُ: رفع الصوتِ الطَّرِبِ. وفي حديث الملائكة: لهم زَجَلٌ بالتسبيح، أي صوت رفيعٌ عالٍ.
(2)
شابَهُ: خالَطَهُ.
(3)
ذكره صاحب "كنز العمال" 4/ 240 وعزاه لأبي نعيم في "الحلية" من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وليس في المطبوع منها.
(4)
في ع، ش:"الغفور".
(5)
في ع، ش:"فلمن كان يكون العفو والمغفرة".
(6)
هو جيلان بن فروة البصري الجوني. انظر معرفة الرجال 2/ 97 وتاريخ الطبري 2/ 294.
(7)
في ب، ط:"أعود".
يحيى بن معاذ: لو لم يكنِ العفوُ أحبَّ الأشياءِ إليه لم يَبْتَلِ بالذَّنْبِ أَكرَمَ الخَلْقِ عليه.
يا ربِّ أَنْتَ رَجائِي
…
وفيكَ حَسَّنْتُ
(1)
ظَنِّي
يا ربِّ فاغْفِرْ ذُنوبِي
…
وعافِني واعْفُ عَنِّي
العفوُ مِنْكَ إلَهي
…
والذَّنْبُ قد جَاءَ مِنِّي
والظنُّ فيكَ جَميلٌ
…
حَقِّقْ بحقِّكَ ظَنِّي
وقولُه صلى الله عليه وسلم لأبي هريرةَ لمَّا سأَله: مِمَّ خُلِقَ الخَلْقُ؟ فقال له
(2)
: "من الماء" يدُلُّ على أن الماءَ أصلُ جميعِ المخلوقاتِ ومادَّتُها، وجميعُ المخلوقاتِ خُلِقَتْ منه.
وفي "المسند" من وجهٍ آخَرَ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قلْتُ يا رسولَ الله، إذا رأيتُكَ طابَتْ نفسِي وقرَّتْ عيني، فانبِئني عن كلِّ شيءٍ. فقال:"كلُّ شيءٍ خُلِقَ من ماءٍ"
(3)
.
وقد حكى ابنُ جرير وغيرُه، عن ابن مسعود رضي الله عنه وطائفةٍ مِن السَّلَفِ: أنَّ أوَّلَ المخلوقاتِ الماءُ.
وروى الجُوزَجَاني بإسنادِه عن عبد الله بن عمرو أنَّه سئلَ عن بدءِ الخَلْقِ، فقال: مِن ترابٍ، وماءٍ، وطينٍ، ومن نارٍ وظلمةٍ. فقيل له: فما بَدْءُ الخَلْق الذي ذكرْتَ؟ قال: مِن ماءٍ يَنْبُوعٍ.
وقد
أخبرَ اللهُ تعالى في كتابِه أن الماءَ كان موجودًا قبلَ خَلْقِ السماواتِ والأرضِ،
فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}
(4)
.
وفي "صحيح البخاري" عن عمْرَان بن حُصَيْنٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "كان الله
(1)
في ع، ش:"أحسنت".
(2)
لفظة "له" لم ترد في آ.
(3)
قطعة من حديث رواه أحمد في "المسند"(2/ 295 و 323 و 324 و 493).
(4)
سورة هود الآية 7.
ولم يكن شيء قبلَه - وفي رواية "معه" - وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض"
(1)
.
وفي "صحيح مسلم" عن عَبْد الله بن عَمْرو، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ الله قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ على الْمَاءِ"
(2)
.
وروى ابنُ جَرِيْرٍ، وغيرُه عن ابن عَبَّاسٍ: إنَّ الله عز وجل كانَ عَرْشُهُ على الماءِ ولم يخلُقْ شيئًا غيرَ ما خلَقَ قَبلَ الماءِ، فلمَّا أراد أن يخلُقَ الخَلْقَ أخرَجَ من الماءِ دُخانًا فارتفَعَ فوقَ الماء
(3)
، فسَمَا عليه فسُمِّيَ سماءً، ثمَّ أَيْبَسَ الماءَ فجعَلَه أرضًا واحدةً، ثم فتَقَها فجعلها سَبْعَ أرضِينَ، ثم اسْتَوَى إلى السَّماءِ وهي دُخان، وكان ذلك الدُّخانُ من نَفَسِ الماءِ حين تنفَّسَ، ثم جَعَلَها سماءً واحدةً، ثم فتَقَها فجعَلَها سَبْعَ سماواتٍ
(4)
.
وعن وَهْبٍ
(5)
: إنَّ العرشَ كان قبلَ أن تُخلَقَ السماواتُ والأرضُ على الماء، فلمَّا أرادَ اللهُ أنْ يخلُقَ السَّماواتِ والأرضَ قبضَ من صفاءِ
(6)
الماءِ قبضةً، ثم فتَحَ القبضَةَ فارتفعَتْ دُخانًا، ثم قَضَاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يومين، ثم أَخَذَ طِينةً من الماءِ فوضعها في مكانِ البيتِ، ثم دحا الأرض منها
(7)
.
(1)
رواه البخاري رقم (3191) في بدء الخلق، باب ما جاء في قول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، و (7418) في التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، وهو رب العرش العظيم. ورواه أيضًا أحمد في "المسند" 4/ 431 - 432.
(2)
رواه مسلم رقم (2653) في القدر، باب حجاج آدم موسى عليهما السلام، ولفظه عنده:"كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" قال: "وعرشه على الماء".
(3)
في آ: "السماء".
(4)
انظر "تاريخ الطبري" 1/ 39، وقد نقل عنه المؤلف بتصرف.
(5)
هو وَهْب بن منبِّه الأَبْنَاوي اليَماني الذِّماري الصنعاني، أبو عبد الله، الإمام العلّامة الإِخباري القصصي، توفي سنة 114 هـ. (سير أعلام النبلاء 4/ 544).
(6)
في ب، ط:"صفات" بالتاء المبسوطة، وفي "تاريخ الطبري":"صفاة" بالتاء المربوطة، وكلاهما محرّف، والصواب ما جاء في الأصل. قال ابن منظور: الصفو والصفاء ممدود: نقيض الكدر.
(7)
تاريخ الطبري 1/ 39 - 40، وقد نقل عنه المؤلف بتصرف.
[وقال بعضهم: خلق الله الأرضَ أولًا، ثم خلق السماء، ثم دَحَا الأرض بعد أن خلق السَّماء. وقيل: خلق الله تعالى زمردة خضراء كغلظِ السماوات والأرض، ثم نظر إليها نظر العظمة، فانْماعَتْ، يعني ذابت فصارت ماء، فمن ثمَّ يُرى الماءُ دائمًا يتحرَّك من تلك الهيبة. ثم إنَّ الله تعالى رفع من البحر بخارًا وهو الدُّخان الذي ذكره في قوله:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}
(1)
فخلق السَّماء من الدُّخان، وخلق الأرض من الماء، والجبالَ من موج الماء. وقال وهْب: أوَّل ما خلق الله تعالى مكانًا مظلمًا، ثم خلق جوهرةً فأضاءت ذلك المكان، ثم نظر إلى الجوهرة نظرةَ الهيبةِ فصارت ماء، فارتفع بخارها وزَبَدُها، فخلَقَ من البخار السماوات، ومن الزَّبَد الأرضين. وروى عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنَّ الله عز وجل خَلَقَ خَلْقَهُ من ظُلْمَةٍ، ثم ألقى عليهم مِن نوره، فمن أصابَهُ يومئذٍ من ذلك النُّور اهْتَدَى، ومن أخطأه ضَلَّ"
(2)
.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار: ما أوَّلُ شيءٍ ابتدأ الله تعالى من خلقه؟ قال كعب: كتب الله كتابًا لم يكتبْه قلمٌ ولا دواة، أي مداد؛ كتابه الزَّبرجدُ واللؤلؤ والياقوت: إنني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وأنَّ محمّدًا عبدي ورسولي، سبقَتْ رحمتي غضبي. قال كعب: فإذا كان يوم القيامة أخرج الله ذلك الكتابَ، فيخرج من النار مثلَيْ عددِ أهلِ الجنَّة فيدخلهم الجنة.
وقال سلمان وعبد الله بن عمرو: إنَّ لله تعالى مائةَ رحمةٍ كما بين السماء والأرض، فأنزل منها رحمةً واحدةً إلى أهل الدُّنيا، فبها يتراحم الجنُّ والإِنس، وطيرُ السَّماء، وحيتانُ الماء، وما بين الهواء ودوابّ الأرض وهوامها. وادخر عنده تسعًا وتسعين رحمةً، فإذا كان يوم القيامة أنزل تلك الرحمة إلى ما عنده فيرحم بها عباده]
(3)
. والآثارُ في هذا الباب كثيرةٌ، وهذا كله يُبيِّنُ أن السماواتِ والأرضَ خُلِقَتْ
(1)
سورة فصلت الآية 11.
(2)
رواه أحمد في "مسنده" 2/ 176، 197، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 193 - 194، وقال:"رواه أحمد بإسنادين، والبزار، والطبراني، ورجال أحد إسنادي أحمد ثقات".
(3)
ما بين القوسين زيادة لم ترد في النسخ الأربع المعتمدة، وهي في المطبوع فقط، ولعلها من زيادات النساخ.
مِن الماءِ، والخلافُ في أنَّ الماءَ هَلْ
(1)
هو أوَّلُ المخلوقاتِ أم لا مشهورٌ، وحديثُ أبي هريرة يدُلُّ على أن الماءَ مادَّةُ جميعِ المخلوقاتِ، وقد دَلَّ القرآنُ على أن الماءَ مادةُ جميع الحيوانات، قال الله تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}
(2)
. وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}
(3)
. وقولُ مَن قال: إنَّ المرادَ بالماء النُّطْفةُ التي يُخلَقُ منها الحيواناتُ بعيدٌ لوجهين:
أحدهما
(4)
: أن النُّطْفَةَ لا تُسمَّى ماءً مُطلقًا بل مقيَّدًا؛ لقوله تعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}
(5)
، وقوله تعالى:{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}
(6)
.
والثاني: أنَّ مِن الحيواناتِ ما يتولَّدُ مِن غيرِ نُطْفَةٍ، كدودِ الخلِّ، والفاكهةِ ونحوِ ذلك؛ فليس كلُّ حيوانٍ مَخلوقًا من نُطفةٍ. والقرآنُ دلَّ على خَلْقِ جميعِ ما يَدِبُّ وما فيه حياةٌ مِن ماءٍ، فعُلِمَ بذلك أن أصلَ جميعِها الماءُ المطلَقُ؛ ولا يُنَافِي هذا قولَه تعالى:{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}
(7)
، وقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"خُلِقَتِ الملائكةُ مِن نُورٍ"، فإنَّ حديثَ أبي هريرة رضي الله عنه دَلَّ على أن أصلَ النُّورِ والنَّارِ الماءُ، كما أن أصلَ التُّرابِ الذي خُلِقَ منه آدمُ الماءُ، فإنَّ آدمَ خُلِقَ من طينٍ، والطينُ ترابٌ مختلطٌ بماءٍ، والتُّرابُ خُلِقَ مِن الماءِ كما تقدَّمَ عن ابن عبَّاسٍ وغيرِه. وزعم مُقاتِلٌ: أن الماءَ خُلِقَ من النُّورِ، وهو مَردودٌ بحديثِ أبي هريرة هذا وغيره. ولا يُستنكَرُ خَلْقُ النَّارِ مِنَ الماءِ، فإنَّ الله عز وجل جَمَعَ بقدرتِه بينَ الماءِ والنَّارِ في الشَّجرِ الأخضَرِ، وجَعَلَ ذلك مِن أدلةِ القُدرةِ على البَعْثِ. وذكر الطبائعيون: أن الماءَ بانحدارِه يَصيرُ بُخارًا، والبخار ينقلبُ هواءً، والهواء ينقلبُ نارًا، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرةَ حين سأله عن بناءِ الجنَّةِ، فقال: "لَبِنةٌ مِن ذَهَبٍ، ولَبِنةٌ مِن
(1)
لفظ "هل" لم يرد في آ.
(2)
سورة الأنبياء الآية 30.
(3)
سورة النور الآية 45.
(4)
في آ: "أحدها".
(5)
سورة الطارق الآية 6 و 7.
(6)
سورة المرسلات الآية 20.
(7)
سورة الحجر الآية 27.
فضةٍ، ومِلاطُها
(1)
المِسْكُ الأذفَرُ، وحَصْباؤها اللؤلؤ والياقوتُ، وتربتُها الزَّعفرانُ. وقد رُوي أيضًا هذا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عُمَرَ مرفوعًا، أخرجه
(2)
الطبرانيُّ. فهذه أربعةُ أشياءَ:
أحدها: بناءُ الجنَّةِ، ويُحتملُ أن المرادَ بُنيانُ قُصورِها ودُورِها، ويُحتملُ أنْ يرادَ بناءُ حائطِها وسورِها المحيطِ بها وهو أشبَهُ. وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا وهو أَشبه:"حائطُ الجنَّةِ لَبِنِةٌ من فضةٍ، ولَبِنِةٌ مِن ذَهَبٍ، ودرجُها الياقوتُ واللؤلؤ". قال
(3)
: وكنَّا نتحدَّثُ أنَّ رَضْرَاضَ
(4)
أنهارِها اللؤُلؤ وترابها الزَّعفران
(5)
. وفي "مسند البزار" عن أبي سَعِيدٍ مرفوعًا: "خَلَقَ اللهُ الجنَّةَ لَبِنَةً مِن فضةٍ ولَبِنَةً مِن ذَهَبٍ، ومِلاطُها المِسْكُ
(6)
، فقال لها تكلَّمِي، فقالتْ: قد أفلَحَ المؤمنون، فقالَتْ الملائكةُ: طُوبَى لكِ منزِل الملوكِ
(7)
".
ومِمَّا يبيِّنُ أن المرادَ ببناءِ الجنَّةِ في هذه الأحاديث بناءُ سورِها المحيطِ بها ما في "الصحيحين" عن أبي موسى، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "جَنَّتَانِ مِن ذَهَبٍ، آنيتُهُما وما فيهما، وجنَّتانِ مِن فِضَّةٍ آنيتهُما وما فيهما
(8)
.
وقد رُوِي عن أبي موسى مرفوعًا وموقوفًا: "جنَّتانِ مِن ذَهَبٍ للمقرَّبينَ، وجنَّتانِ
(1)
المِلاط: الطين الذي يُجعل بين سافَي البناء ويُملَطُ به الحائط. ومسك أذفر: طيب الريح.
(2)
في ع، ش:"خرَّجه".
(3)
لفظ "قال" لم يرد في (آ).
(4)
الرَّضراضُ: الحَصَى الذي يجري عليه الماء.
(5)
الزعفران: نبات صبغي طبّي مشهور.
(6)
قوله صلى الله عليه وسلم: "وملاطها المسك" ليس في نص الحديث عند البزار، وإنما أدرجها المؤلف فيه من الحديث المتقدم.
(7)
ذكره الهيثمي في "كشف الأستار عن زوائد البزار" 4/ 189 وفي سنده سعيد بن إياس الجريري ثقة اختلط قبل موته بثلاث سنين، وباقي رجاله ثقات. ولفظ الحديث عنده:"خلق الله تبارك وتعالى الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وغرسها، وقال لها: تكلّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فدخلتها الملائكة، فقالت: طوباكِ منزل الملوك".
(8)
قطعة من حديث رواه البخاري رقم (7444) في التوحيد، باب قول الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، ومسلم رقم (180) في الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى. وفي الأصول:"وآنيتهما" في الموضعين، وما أثبته من مصادر التخريج. ورواه أيضًا أحمد في "المسند"(4/ 411 و 416)؛ والترمذي رقم (2528) في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة غرف الجنة؛ وابن ماجه رقم (186) في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية.
مِن فضَّةٍ لأصحابِ اليمينِ"
(1)
. وفي الصحيح أيضًا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال: "إِنَّها جِنانٌ
(2)
كثيرة
(3)
". وقد رُوي أن بناءَ بعضِها من دُرٍّ وياقوت. وخرَّج ابنُ أبي الدُّنيا من حديث أنسٍ مرفوعًا: "خلقَ اللهُ جنَّةَ عَدْنٍ بيدِه لَبِنةً من دُرَّةٍ بيضاءَ، ولَبِنةً من ياقوتة حمراءَ، ولَبِنةً من زَبَرْجَدَةٍ خَضْراءَ، مِلاطُها المِسْكُ، وحَصْباؤها اللؤلؤ، وحَشيشُها الزَّعفرانُ، ثم قال لها: انطقي، قالت: قد أفلَحَ المؤمنون، قال: وعِزَّتي لا يُجاوِرُني فيكِ بخيلٌ"
(4)
.
وروَى عطيةُ، عن أبي سعيد، قال: إنَّ الله خَلَقَ جنَّةَ عدنٍ من ياقوتةٍ حمراءَ، ثم قال لها: تزيَّنِي فتزيَّنَتْ، ثم قال لها: تكلَّمِي فقالتْ: طُوبَى لمن رضيتَ عنه؛ ثم أطبَقها وعلَّقها بالعرش، فَهي تُفتحُ في كلِّ سَحَرٍ، فذلك بَرْدُ السَّحَرِ. وعن ابن عبَّاس، قال: كان عرشُ الله على الماءِ، ثم اتخذَ لنفسِه جَنَّةً، ثم اتخذَ دونَها أخرى، وطبَّقهما بلؤلؤةٍ واحدةٍ لا يَعلمُ الخلائقُ ما فيهما وهما اللتانِ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(5)
. وذكر صفوان بن عمرو، عى بعض مشايخه، قال: الجنةُ مائةُ درجةٍ: أولها: درجةُ فِضةٍ، وأرضُها فِضةٌ، ومساكنُها فِضَّةً، وترابُها المِسْكُ.
والثانية: ذَهَبٌ، وأرضُها ذَهَبٌ، وآنيتُها ذَهَبٌ، وترابُها المِسْكُ.
والثالثة: لؤلؤ، وأرضُها لؤلؤ، وآنيتُها لؤلؤ، وترابُها المِسْكُ، وسبعٌ وتسعونَ بعد ذلك ما لا عَيْنٌ رأَتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، ثم تلا:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(5)
.
[وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "يقولُ
(1)
وذكره الحاكم في "المستدرك" 2/ 474 - 475 بلفظ "جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين" موقوفًا على أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ولم نقف عليه في المرفوع.
(2)
في آ: "جنات".
(3)
قطعة من حديث رواه البخاري رقم (2809) في الجهاد: باب من أتاه سهم غرب فقتله، و (3982) في المغازي: باب فضل من شهد بدرًا، و (6550) و (5568) في الرقاق: باب صفة الجنة والنار؛ وأحمد في "المسند" 3/ 210 و 215 و 260 و 264 و 272 و 283 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4)
لم يوقف عليه، ورواه بنحوه البزار في "مسنده" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. انظر "مجمع الزوائد" 9/ 397.
(5)
سورة السجدة الآية 17.
الله عز وجل
(1)
: أعددت لعبادي الصَّالحين ما لا عين رأت، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خطر على قلب بشرٍ. ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ]
(2)
.
وفي "صحيح مسلم" عن المغيرة بن شُعبةَ يَرفعُه: سأل موسى ربَّه، قال: يا ربّ، ما أدنى أهلِ الجنةِ منزلةً؟ قال: هو رجلٌ يجيء بعدَما أُدْخِلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، فيقالُ له: ادخُلِ الجنَّةَ، فيقولُ: يا ربّ، كيفَ وقد أخذَ النَّاسُ
(3)
منازلَهم، وأخذُوا أَخَذَاتِهم
(4)
؟ فيقال له: أترضى أن يكونَ لك مثلُ [مُلْكِ] مَلِكٍ مِن ملوكِ الدُّنيا؟ فيقولُ: رضيتُ يا ربِّ، فيقولُ: لكَ ذلكَ ومثلُهُ، ومثلُهُ ومِثلُهُ [وَمِثْلُهُ]، فقال له
(5)
في الخامسةِ: رضيتُ يا ربّ، فيقال: هذا لكَ وعشرةُ أمثالِه، ولكَ ما اشْتَهَتْ نفسُك ولذَّتْ عينُك، فيقول: رضيتُ ربِّ. قال: فأعلاهم منزِلةً؟ قال: أولئك الَّذِينَ أردْتُ، غرسْتُ كرامَتَهُم بيدي، وختمْتُ عليها، فلم تَرَ عَيْنٌ، ولم تسمَعْ أذُنٌ، ولم يخطُرْ على قَلْبِ
(6)
بشَرٍ. قال: ومِصداقُهُ في كتابِ اللهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}
(7)
(8)
.
الثاني: مِلاطُ الجنةِ وأنَّه المِسْكُ الأذْفَرُ، وقد تقدَّم مثلُ ذلك في غير حديثٍ
(9)
.
والمِلاطُ: هو الطّينُ، ويقال: الطّينُ الذي يُبنَى منه البُنيانُ. والأَذْفَرُ: الخالِصُ
(10)
.
ففي "الصحيحين" عن أنسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"دخلْتُ الجنَّةَ فإذا فيها جَنابِذُ اللؤلؤ، وإذا ترابُها المِسْكُ"
(11)
. والجَنابِذُ
(12)
: مثلُ القِبابِ. وقد قيل: "إنَّه أرادَ
(1)
أي في الحديث القدسي.
(2)
ما بين قوسين ساقط في (ط).
(3)
في صحيح مسلم: "نزل الناس".
(4)
أخذوا أخذاتِهم: أي نزلوا منازلهم.
(5)
لفظ "له" لم يرد في ب، ط.
(6)
لفظ "قلب" ساقط في (آ).
(7)
سورة السجدة الآية 17.
(8)
رواه مسلم رقم (189) في الإِيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.
(9)
انظر ص (62).
(10)
قال ابن الأثير: أي طيّب الريح.
(11)
قطعة من حديث طويل رواه البخاري رقم (3342) في الأنبياء: باب ذكر إدريس عليه السلام، و (349) في الصلاة: باب كيف فرضت الصلوات في الإِسراء؛ ومسلم رقم (163) في الإِيمان: باب الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات. ورواه أيضًا أحمد في "المسند" 5/ 144.
(12)
الجَنَابذ: مفردها جُنْبُذَة، وهو ما ارتفع من الشيء واستدار كالقُبَّة.
بترابِها ما خالطَه الماءُ، وهو طينُها، كما في صحيح البخاري، عن أنسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في الكوثر:"طينهُ المِسْكُ الأَذْفَرُ"
(1)
.
وقد قيل في تأويل قوله تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ}
(2)
أن المرادَ بالخِتام ما يبقَى في سُفْلِ الشرابِ من الثُّفْلِ
(3)
، وهذا يدُلُّ على أن أنهارَها تجري على المِسْكِ، ولذلك يرسُبُ منه في الإِناءِ في آخرِ الشرابِ، كما يرسُبُ الطينُ في آنيةِ الماء في الدُّنيا.
الثالث: حَصْباءُ الجنَّةِ وأنَّه اللؤلؤ والياقوتُ، والحَصْباء: الحَصَى الصِغارُ، وهو الرَّضْرَاضُ
(4)
. وفي "المسند" عن أنس، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذكر الكوثر أن رَضْرَاضَهُ اللؤلؤ
(5)
. وفي روايةٍ: حَصْبَاؤه اللؤلؤ
(6)
. وفي الترمذي من حديثِ ابن عُمَرَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أن مَجراهُ على الدُّرِّ والياقوتِ
(7)
".
وفي الطَّبَرَانيّ من حديثِ عبد الله بن عمرو، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"حالُهُ المِسْكُ الأبيضُ، ورَضْرَاضُه الجوهرُ، وحَصْبَاؤه اللؤلؤ"
(8)
. وفي "المسند" من حديث ابن مسعودٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"حالُهُ المِسْكُ، ورَضْرَاضُه التُّوَم"
(9)
، والتُّومُ: الجَوْهَرُ، والحال: الطّين. قال أبو العالية: قرأتُ في بعض الكتبِ: يا معشرَ الرَّبَّانيينَ مِن أمَّةِ محمدٍ، انتدِبُوا
(10)
لدارٍ أرضُها زَبَرْجَدٌ أخضَرُ، تجري عليها أنهارُ الجنَّةِ، فيها الدُّرُّ واللؤلؤ والياقوت، وسورُها زَبَرْجَدٌ أخضَرُ متدلّيًا عليها أشجارُ الجنَّةِ بثمارِها.
الرابع: ترابُ الجنَّةِ، وأنَّه الزَّعْفَرانُ، وقد سبق في رواية أخرى: الزَّعْفَرانُ والوَرْسُ
(11)
. وقد قيل: إن المرادَ بالتراب ها هنا تُربةُ الأرضِ التي لا ماءَ عليها. فأمَّا
(1)
رواه البخاري رقم (6581) في الرقاق: باب في الحوض.
(2)
سورة المطففين الآية 26.
(3)
الثُّفْلُ: ما سفل من كل شيء، وما رسب.
(4)
مضى تفسير كلمة "الرَّضراض" قبل قليل.
(5)
رواه أحمد في "المسند" 3/ 231 - 232.
(6)
هي في "المسند" 2/ 305 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7)
قطعة من حديث رواه الترمذي رقم (3361) في التفسير: باب ومن سورة الكوثر.
(8)
لم أقف عليه بهذا اللفظ.
(9)
قطعة من حديث رواه أحمد في "المسند" 1/ 398 - 399، وذكره بنحوه الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 61 - 62 من حديث ابن مسعود، وعزاه لأحمد في "المسند"، والبزار، والطبراني، وقال في آخره: وفي أسانيدهم كلهم عثمان بن عمير، وهو ضعيف.
(10)
انتدبوا: أجيبوا وسارعوا.
(11)
الوَرْس: نبتٌ أصفر يصبغ به.
ما كان عليه ماءٌ فإنَّه مِسْكٌ، كما سبق. وسبَقَ أيضًا في بعض الروايات: حشيشُها الزَّعْفَرانُ، وهو نباتُ أرضِها وترابِها. فأمَّا حديثُ "ترابُها المِسْكُ" فقد قيل: إنه محمولٌ على ترابٍ يُخالِطُه الماءُ، كما تقدم. وقيل: إنَّ المرادَ أن ريحَ تُرابِها ريحُ المِسْكِ، ولونُه لونُ الزَّعفرانِ. ويَشهَدُ لهذا حديثُ الكوثَرِ: أن حالَه المِسْكُ الأبيضُ، فريحُه ريحُ المِسْكِ، ولونُه مشرِقٌ لا يُشْبِهُ لَوْنَ مِسْكِ الدُّنيا، بل هو أبيضُ. وقد يكون منه أبيضُ، ومنه أصفرُ، والله أعلم.
وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سأل ابنَ صيَّادٍ
(1)
عن تُربةِ الجنَّةِ، فقال: دَرْمَكَةٌ
(2)
بيضاءُ مِسْكٌ خالصٌ، فصدَّقه النَّبي صلى الله عليه وسلم
(3)
. وفي روايةٍ أن ابنَ صَيَّادٍ سألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وصدَّقَه
(4)
. وفي "المسند" والترمذي عن البَراء بن عازب أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "تُرْبةُ الجنَّةِ دَرْمَكَةٌ. ثم سأل اليهودَ فقالوا: خُبزةٌ، فقال: الخبزُ من الدَّرْمَكِ"
(5)
.
والذي
(6)
تجتمع به هذه الأحاديثُ كلُّها أن
(7)
تربةَ الجنَّةِ في لونها بيضاءُ، ومنها
(8)
ما يُشبِهُ لونَ الزَّعفرانِ في بهجته وإشراقِه، وريحُها ريحُ المِسْكِ الأَذْفَرِ الخالِصِ، وطعمُها طَعْمُ الخبز الحُوَّارى الخالِصِ. وقد يختَصُّ هذا بالأبيضِ منها، فقد اجتمعتْ لها الفضائلُ كلُّها، لا حَرَمنا اللهُ تعالى ذلك برحمتِه وكرمِه
(9)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من يدخُلُها يَنْعَمُ لا يبأس، ويخلُدُ لا يموتُ، لا تَبْلَى ثيابُهم، ولا يَفْنَى شبابهُم" إشارة إلى بقاء الجنَّةِ وبقاءِ جميعِ ما فيها من النَّعيمِ، وأنَّ
(10)
صفاتِ أهلها الكاملة من الشباب لا تتغيَّرُ أبدًا، وملابسهم التي عليهم من الثياب لَا تبلَى
(1)
انظر خبره في "شذرات الذهب" لابن العماد 1/ 142 - 150 طبع دار بن كثير، و"جامع الأصول" 10/ 362 - 364.
(2)
الدَّرْمكة: الدقيق الحُوَّارَى. (النهاية 2/ 114).
(3)
رواه مسلم رقم (2928)(93) في الفتن: باب ذكر ابن صيَّاد؛ ورواه أيضًا أحمد في "المسند" 3/ 4 و 25.
(4)
هي عند مسلم رقم (2928)(92).
(5)
لم أجده عند أحمد في "المسند"، وهو عند الترمذي رقم (3327) في التفسير: باب ومن سورة المدثر من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(6)
في ب، ط:"والتي".
(7)
لفظة "أن" سقطت من (آ).
(8)
في آ، ش:"وفيها".
(9)
قوله: "لا حرمنا الله تعالى ذلك برحمته وكرمه" لم يرد في ع، ش.
(10)
في آ: "فإنْ".
أبدًا، وقد دَلَّ القرآنُ على مثل هذا في مواضعَ كثيرةٍ، كقوله تعالى:{وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}
(1)
.
وقوله تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}
(2)
. وقوله تعالى {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}
(3)
، في مواضعَ كثيرة. وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"من يدخُل الجنَّةَ ينعم لا يبأس، لا تَبْلَى ثيابُه، ولا يَفنَى شبابُه"
(4)
.
وفيه أيضًا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا دخل أهلُ الجنَّةِ الجَنَّةَ نادَى منادٍ: إنَّ لكم أن تَنْعَمُوا فلا تبأسُوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تصِحُّوا فلا تسقَمُوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبدًا {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
(5)
. وفي روايةٍ لغيره زيادةُ "وأن تَحيَوا فلا تموتوا أبدًا"
(6)
. وفي الترمذي عن أبي هريرة
(7)
مرفوعًا: "أهلُ الجنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ كُحْلٌ، لا يفنَى شبابُهم، ولا تَبْلَى
(8)
ثيابُهم"
(9)
.
وعن أبي سعيد مرفوعًا: "يدخُلُ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ
(10)
أبناء ثلاثين، لا يزيدون عليها أبدًا"
(11)
.
ومن حديث عليٍّ مرفوعًا: "إنَّ في الجنَّةِ مجتمعًا للحُورِ العِينِ يرفعْنَ بأصواتٍ
(12)
لم يسمَعِ الخلائقُ مثلَها؛ يقلْنَ: نحنُ الخالداتُ فلا نبيدُ، ونحنُ الناعماتُ فلا نَبْأسُ، ونحنُ الراضياتُ فلا نسخَطُ، طوبَى لمن كان لنا وكُنَّا له"
(13)
. وخرَّج الطبرانيُّ من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إن مما يغنّين به - يعني
(14)
الحورَ العِينَ: نحنُ الخالداتُ فلا
(1)
سورة التوبة الآية 21.
(2)
سورة الرعد الآية 35.
(3)
سورة النساء الآية 57 وغيرها.
(4)
رواه مسلم رقم (2836) في الجنة: باب في دوام نعيم الجنة، وقوله تعالى:{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].
(5)
سورة الأعراف الآية 43.
(6)
رواه مسلم رقم (2837) في الجنة، باب في دوام نعيم الجنة.
(7)
قوله: "عن أبي هريرة" لم يرد في ب، ط.
(8)
لفظة "تبلى" سقطت من آ، ش.
(9)
رواه الترمذي رقم (2539) في صفة الجنة: باب ما جاء في صفة ثياب أهل الجنة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(10)
لفظة "الجنة" الثانية سقطت من (آ).
(11)
رواه الترمذي رقم (2562) في صفة الجنة: باب ما جاء لأدنى أهل الجنة من الكرامة، وقد ذكره المؤلف بالمعنى.
(12)
في ش: "بأصواتهن".
(13)
رواه الترمذي رقم (2564) في صفة الجنة: باب ما جاء في كلام الحور العين.
(14)
في ب، ط:"مما يتغنين به الحور العين"، وفي هامش ب:"مما يتغنى به الحور".
نَمُتْنَهْ، نحن الآمناتُ فلا نَخَفْنَهْ، نحن المقيماتُ فلا نَظْعَنَّه".
ومن حديث أُمِّ سلمةَ مرفوعًا: "إن نساء أهلِ الجنَّةِ يَقُلْنَ: نحنُ الخالداتُ فلا نموتُ أبدًا، ونحنُ النَّاعماتُ فلا نبأسُ أبدًا، ونحنُ المقيماتُ فلا نَظْعَنُ أبدًا، ونحنُ الراضياتُ فلا نسخَطُ أبدًا، طوبَى لِمن كنَّا له وكان لنا". وفيما ذكرَه صلى الله عليه وسلم في صفةِ مَن يدخُلِ الجنَّةَ تعريضٌ بِذمِّ الدُّنيا الفانيةِ، فإنَّه من يَدْخُلها وإن نُعِّمَ فيها فإنَّه يبأس، ومَن أقامَ فيها فإنَّه يموتُ ولَا يُخلَّد، ويفنَى شبابُهم، وتبلَى ثيابُهم، بل تبلى أجسامهُم.
وفي "القرآن" نظير هذا، وهو
(1)
التعريضُ بذمِّ الدُّنيا وفنائِها، مع مدح الآخرةِ وذكرِ كمالِها وبقائِها، كما قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
(2)
.
(3)
(4)
(5)
.
(6)
.
(1)
في ب، ط:"وهذا".
(2)
سورة آل عمران الآية 14 و 15.
(3)
سورة يونس الآية 24.
(4)
سورة يونس الآية 25 و 26.
(5)
سورة الكهف الآية 45 و 46.
(6)
سورة العنكبوت الآية 64.
(1)
(2)
.
وقال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}
(3)
. وقال الله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}
(4)
. وقال الله تعالى عن مؤمنِ آلِ فرعونَ أنه
(5)
قال لقومه: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}
(6)
.
والمَتاعُ: هو ما يتمتَّعُ به صاحبُه بُرْهةً ثم ينقطِعُ ويفنَى. فما عِيبَتِ الدُّنيا بأبلغَ
(7)
من ذِكرِ فنائِها وتقلُّب أحوالِها، وهو أدلُّ دليلٍ على انقضائها وزَوالِهَا، فتتبدَّلُ صحتُها بالسُّقْمِ، ووجودُها بالعدَمِ، وشبيبتُها بالهرَمِ، ونعيمُها بالبؤسِ، وحياتُها بالموتِ، فتفارِقُ الأجسامُ النفوسَ
(8)
، وعمارتُها بالخراب، واجتماعُها بفُرْقةِ الأحبابِ، وكُلُّ ما فوقَ التُّرابِ ترابٌ.
قال بعضُ السَّلَفِ في يوم عيدٍ، وقد نظرَ إلى كثرة النَّاسِ وزينةِ لباسِهم: هل تَرَوْنَ إلَّا خِرَقًا تبلَى، أو لحمًا يأكلُه الدُّودُ غدًا؟. كان الإِمامُ أحمدُ رضي الله عنه يقولُ: يا دارُ، تخرَبينَ ويموتُ سُكانُك. وفي الحديث: عجبًا لمن رأى الدُّنيا وَسُرْعَةَ تَقلُّبِها بأهلِها كيفَ يطمئنُّ إليها. قال الحَسَن: إنَّ الموتَ قد فَضَحَ الدُّنيا فلم يَدَعْ لذِي لُبٍّ بها فرحًا. وقال مُطَرِّف
(9)
: إنَّ هذا الموتَ قد أفسَدَ على أهل النَّعيم نعيمَهم، فالتمِسُوا نعيمًا لا مَوْتَ فيه.
[وقال بعضهم: ذهَبَ ذِكرُ الموت بلذة كل عيشٍ وسرورِ كلِّ نعيمٍ، ثم بكى
(1)
سورة الحديد الآية 20.
(2)
سورة الحديد الآية 21.
(3)
سورة الأعلى الآية 16 و 17.
(4)
سورة التوبة الآية 38.
(5)
لفظة "أنه" سقطت من (آ).
(6)
سورة غافر الآية 39.
(7)
في ب، ط:"بأكثر".
(8)
في ع: "للنفوس".
(9)
هو مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير العامري البصري، الفقيه العابد، المجاب الدعوات، مات سنة 95 هـ، وقيل غير ذلك. (شذرات الذهب 1/ 386) طبع دار ابن كثير.
وقال: واهًا لدارٍ لا مَوْتَ فيها]
(1)
. وقال يونسُ بنُ عُبيد: ما تَرَكَ ذِكْرُ الموتِ لنا قُرَّةَ عَينٍ؛ في أهلٍ ولا مالٍ. وقال يزيد الرَّقاشي
(2)
: أمِنَ أهلُ الجنَّةِ الموتَ فطابَ لهم العيشُ وأمِنوا
(3)
الأسقامَ، فهنيئًا لهم في جوارِ اللهِ طولُ المقامِ.
عيوبُ الدُّنيا بادِيةٌ، وهي بعبرها
(4)
ومواعظِها منادِيةٌ، لكنَّ حبَّها يُعمِي ويُصِمُّ، فلا يَسْمَعُ محبُّها نداءَها، ولا يَرى كشفها للغير وإيذاءَها.
قد نادَتِ الدُّنيا على نَفْسِها
…
لو كانَ في العالَمِ مَن يَسْمَعُ
كَمْ واثقٍ بالعُمر أفنيتُه
…
وجَامعٍ بَدَّدْتُ ما يَجْمَعُ
كم قد تبدَّلَ نعيمُها بالضرِّ
(5)
والبؤسِ، كم أصبَحَ مَن هو واثقٌ يملِكُها، وأمسَى وهو منها قَنُوطٌ يؤوس. قالت بعضُ بناتِ مُلوكِ العربِ الذين نُكِبُوا: أصبحنا وما في العرب
(6)
أحدٌ إلَّا وهو يحسُدُنا ويخشانا
(7)
، وأمسينا وما في العربِ أحدٌ إلا وهو يرحمُنا، [ثم قالت:
وبينَا نَسُوسُ النَّاسَ والأَمْرُ أَمْرُنا
…
إذا نحنُ فيهم سُوقَةٌ ليس نُنْصَفُ
(8)
فأفٍّ لدارٍ لا يَدُومُ نَعِيمُها
…
تقلَّبُ تاراتٍ بنا وتُصرّفُ]
(9)
دخلت أمُّ جعفر
(10)
بن يحيى البَرمكي على قوم في عيد أضحى تطلُبُ جِلْدَ كَبْشٍ تلبَسُهُ، وقالت: هجَمَ عليَّ مثلُ هذا العيدِ وعلى رأسي أربعمائةِ وصيفةٍ قائمةً، وأنا أزعمُ أن ابني جعفرًا عاقُّ لي.
كانت أختُ أحمد بن طولون صاحبِ مصرَ كثيرةَ السَّرَفِ في إنفاقِ المالِ، حتَّى
(1)
ما بين حاصرتين ساقط في (ط).
(2)
في ط: "الهاشمي" خطأ. وهو يزيد بن أَبَان الرَّقاشي، أبو عمرو البصري، القاص، الزاهد، مات قبل سنة 120 هـ.
(3)
في آ: "وأمنوا من الأسقام".
(4)
في ط: "وهي تغيرها" خطأ.
(5)
لفظ "بالضرّ" لم يرد في آ، ع، ش.
(6)
في ب، ط:"والأرض".
(7)
لفظ "يخشانا" لم يرد في آ، ع.
(8)
في ب: "نعرف". والسوقة: الرعية، وأوساط الناس.
(9)
ما بين حاصرتين سقط من (ط).
(10)
سيدة جليلة ذات نفوذ وسلطان، كان الرشيد يشاورها مظهرًا لإِكرامها والتبرك برأيها. توفيت في الرقة. انظر أعلام النساء لكحالة 1/ 196 - 199.
إنَّها زوَّجَتْ بعضَ لُعبِها فأنفقَتْ على وليمةِ عُرسِها مائةَ ألفِ دينارٍ، فما مَضَى إلا قليلٌ حتى رؤيت في سوقٍ من أسواقِ بغدادَ وهي تسألُ النَّاسَ.
[خُلِعَ بعضُ خلفاءِ بني العبَّاسِ وكحّلَ وحُبِسَ ثم أُطلقَ، فاحتاج إلى أن وقف يوم جمعةٍ
(1)
في الجامع وقال للناس: تصدَّقوا عليَّ فأنا مَن قد عرفْتُم]
(2)
.
اجتازَ بعضُ الصالحين بدارٍ فيها فَرَحٌ وقائلةٌ تقولُ في غنائها:
أَلَا يا دارُ لا يَدْخُلْكِ حُزْنٌ
…
وَلَا يُزْري
(3)
بصاحبِكِ الزَّمانُ
ثم اجتازَ بها عن قريبٍ وإذا البابُ مُسْوَدٌّ، وفي الدَّارِ بكاءٌ وصُراخٌ، فسأل عنهم، فقيل: مات ربُّ الدَّارِ، فطرَقَ البابَ وقال: سمِعتُ من هذه الدَّارِ قائلةً تقولُ كذا وكذا، فبكَت امرأةٌ وقالت: يا عبدَ اللهِ، إنَّ الله يُغيِّرُ ولا يتغيَّرُ، والموتُ غايةُ كلِّ مَخلوقٍ، فانصرَفَ من عندِهم باكيًا.
بعث أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه في خلافتِه وفدًا إلى اليمن، فاجْتَازُوا في طريقهم بماءٍ من مياهِ العربِ، عندَهُ قصورٌ مَشِيدَةٌ، وهناك مَواشٍ عظيمةٌ، ورَقيقٌ كثيرٌ، ورأوا نِسوةً كثيراتٍ
(4)
مجتمعاتٍ في عُرسٍ لهُنَّ، وجاريةٌ بيدها دُفٌّ، وهي تقول:
مَعْشَرَ الحُسَّادِ مُوتُوا كمدا
…
كذا نَكُونُ ما بَقِينا أبدَا
فنزلُوا بقُربِهم فأكرمَهم سيِّدُ الماءِ، واعتذَرَ إليهم باشتغالِه بالعُرسِ، فدعَوا له وارْتَحَلُوا.
ثم إنَّ بعضَ أولئك الوَفدِ أرسلَهم معاويةُ إلى اليمن، فمرُّوا بالقُرْبِ من ذلك الماءِ، فعَدَلُوا إليه لينزلوا فيه، فإذا القُصورُ المَشِيدةُ قد خَرِبَتْ كلُّها وليسَ هَناك ماءٌ ولا أنيسٌ، ولم يبقَ من تلك الآثارِ إلَّا تَلٌّ خَرابٌ، فذهبُوا إليه، فإذا عجوزٌ عمياءُ تأوِي إلى نَقْبٍ في ذلك التَّلِّ، فسألوها عن أهلِ ذلك الماءِ، فقالت: هَلَكُوا كلُّهم، فسألوها عن
(1)
في ع، ش:"الجمعة".
(2)
ما بين قوسين ساقط في (ط).
(3)
في آ، ع:"يودي".
(4)
في ع، ب، ط:"كثيرة".
ذلك العُرسِ المتقدِّم، فقالت: كانت العروسُ أختي، وأنا كنتُ صاحبةَ الدَّفِّ، فطلَبُوا أن يحمِلُوها معهم فأبَتْ، وقالت: عزيزٌ عليَّ أنْ أفارِقَ هذه العِظامَ الباليةَ حتَّى أَصيرَ إلى ما صارَتْ إليه. فبينما هي تُحدِّثهُم إذ مالَتْ فنزَعَتْ نَزْعًا يَسِيرًا ثم ماتَتْ، فدفَنُوها وانطَلَقُوا.
حُمِلَ إلى سُليمانَ بن عَبْدِ الملك في خلافتِه من خُراسانَ ستةُ أحمالِ مسكٍ إلى الشام، فأُدْخِلَتْ على ابنِه أيوبَ، وهو وليُّ عهدِه، فدخَلَ عليه الرسولُ بها في دارِه، فدخل إلى دارٍ بيضاءَ وفيها غِلمانٌ عليهم ثيابٌ بياضٌ
(1)
وحِليتُهُم فِضَّةٌ، ثم دخلَ إلى دارٍ صفراءَ فيها غلمان عليهم ثيابٌ صفرٌ وحليتهُم الذَّهبُ؛ ثم دخَلَ إلى دارٍ خضراءَ فيها غلمانٌ عليهم ثيابٌ خضرٌ وحليتُهم الزمرّدُ، ثم دخَلَ على أيوبَ وهو وجاريتُهُ على سريرٍ، فلم يَعرِفْ أحدَهما مِن الآخرِ لقُربِ شبَههِما، فوُضِعَ المِسْكُ بين يديه فانتهبَهُ كُلَّه الغِلمانُ، ثم خرَجَ الرسولُ فغابَ بضعةَ عشرَ يومًا، ثم رجعَ فمرَّ بدارِ أيوبَ وهي بلاقِعُ
(2)
، فسأل عنهم، فقيل له: أصابَهم الطاعونُ فماتوا.
كان يزيدُ بن عبد الملك، وهو الذي انتهتْ إليه الخلافةُ بعد عمرَ بن عبد العزيز، له جاريةٌ تُسمَّى حَبَابَة، وكان شديدَ الشّغفِ بها، ولم يقدِرْ على تحصيلِها إلَّا بعدَ جُهدٍ شديدٍ، فلمَّا وصلَتْ إليه خَلا بها يومًا في بستانٍ وقد طارَ عقلُه فرحًا بها
(3)
، فبينما هو يلاعبُها ويُضاحكُها إذْ رَمَاها بحبَّةِ رُمَّانٍ أو حَبَّةِ عِنَبٍ وهي تضحَكُ، فدخلتْ في فيها فشَرِقَتْ بها فماتَتْ، فما سَمَحَتْ نفسُه بدفنِها حتَّى أراحَتْ
(4)
، فعُوتِبَ على ذلك فدفنَها. ويقالُ: إنَّه نبشَها بعدَ دفنِها. ويروى أنه دخَلَ بعد موتِها إلى خزائنها
(5)
ومقاصِيرها ومعه جاريةٌ لها، فتمثلت الجارية ببيت
(6)
:
كَفَى حَزَنًا بالوالِهِ الصَّبِّ أنْ يَرَى
…
مَنازِلَ مَن يَهْوَى مُعَطَّلةً قَفْرَا
فصاحَ وخَرَّ مغشيًّا عليه، فلم يُفِقْ إلى أن مَضَى هَوِيٌّ
(7)
من الليل، ثم أفاقَ فبكَى
(1)
في ع: "بيض".
(2)
مكان بَلْقَع: خالٍ. والبَلْقَعَةُ: الأرض القَفْر التي لا شيء بها، وجمعه بلا قع.
(3)
لفظ "بها" ساقط في "آ".
(4)
أراحت: أنتنَتْ.
(5)
في آ: "خزانتها".
(6)
لفظ "ببيت" لم يرد في ع، ش.
(7)
مَضَى هَوِيٍّ من الليل: أي مضى هزيعٌ منه، أو ساعةٌ.
بقيَّةَ ليلتِه ومن الغدِ، فدخَلُوا عليه فوجَدُوه ميتًا. قال بعضُ السَّلَف: ما من حَبْرَةٍ
(1)
إلَّا يَتْبَعُها عَبْرَةٌ، وما كان ضَحِكٌ في الدُّنيا إلَّا كان بعدَه بكاءٌ. من عرفَ الدُّنيا حقَّ معرِفتها حَقَرَهَا وأبغضَها، كما قيلَ:
أَمَا لو بيعَتِ الدُّنيا بِفَلْسٍ
…
أَنِفْتُ لِعَاقِلٍ أنْ يَشْتَرِيها
ومَنْ عَرَفَ الآخِرَةَ وعظمتَها رَغِبَ فيها.
عبادَ الله، هلُمُّوا إلى دارٍ لا يموتُ سكانُها، ولا يخرَبُ بنيانُها، ولا يهرَمُ شُبَّانُها
(2)
، ولا يتغيَّرُ حسنُها وإحسانُها، هواؤها النَّسيمُ، وماؤها التَّسنيمُ
(3)
، يتقلَّبُ أهلُها في رحمةِ أرحمِ الرَّاحمينَ، ويتمتَّعُون
(4)
بالنظر إلى وجهِه الكريمِ كلَّ حينٍ، {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(5)
.
قال عونُ بن عبد الله بن عُتبَة: بنَى ملِكٌ ممن كان قبلكم
(6)
مدينةً، فتنوَّقَ
(7)
في بنيانها
(8)
، ثم صنَعَ طعامًا ودعا الناسَ إليه، وأقعدَ على أبوابها ناسًا يسألون كلَّ مَن خرَج: هل رأيتم عَيبًا
(9)
؟ فيقولون: لا، حتَّى جاء في آخرِ النَّاسِ قومٌ عليهم أكسِيةٌ
(10)
، فسألوهم: هل رأيتم عيبًا؟ فقالوا: عَيبَيْن. فأدخَلُوهم على الملِكِ، فقال: هل رأيتم عيبًا؟ فقالوا: عيبَين، قال: وما هما؟ قالوا: تَخْرَبُ، ويموتُ صاحبُها. قال: فتعلمونَ دارًا لا تخرَبُ ولا يموتُ صاحبُها؟ قالوا: نعم، [دار الجنَّةِ]
(11)
، فدعُوه فاستجابَ لهم وانخلَع
(12)
من مُلْكِهِ وتعبَّدَ معهم. فحدَّثَ عونٌ بهذا الحديثِ عمرَ بن عبد العزيز، فوقَعَ منه موقعًا، حتَّى هَمَّ أن يخلَعَ نفسَهُ مِن الملكِ، فأتاه ابنُ عمِّه مَسْلمة، فقال: اتَّقِ الله يا أميرَ المؤمنين في أمَّةِ محمدٍ، فوالله لئن فعلْتَ لَيَقْتَتِلُنَّ
(1)
الحَبْرَةُ: السرور. والعَبْرَةُ: الدَّمْعَةُ والحزن.
(2)
في ش، ط:"شبابها".
(3)
التَّسنيم: عَيْنٌ في الجنَّة.
(4)
في ع: "ويتنغَّمون".
(5)
سورة يونس الآية 10.
(6)
في ش، ب، ط:"قبلنا".
(7)
في هامش ع عن نسخة: "فتأنَّق". وتنوَّقَ في بنيانها: أي تأنَّق، وبالغ في تجويدها.
(8)
في ع، ب، ط:"في بنائها".
(9)
في آ: "عيبًا فيها".
(10)
عليهم أكسية: أي ما يلبسه الزهاد والعابدون من ثياب خشنة.
(11)
ما بين قوسين زيادة من (ع).
(12)
في آ: "عن ملكه".
بأسيافهم. قال: ويحَكَ يا مَسْلَمةُ، حُمِّلْتُ ما لا أُطيقُ، وجعَلَ يُرَدِّدُها، ومَسْلمَةُ يناشِدُه حتَّى سَكَنَ.
بنى
(1)
بعض ملوك العرب الخَوَرْنَقَ
(2)
والسَّديرَ، فنظر إلى ملْكِهِ يومًا فقال: هل علمتم أحدًا أُوتي مثلَ ما أُوتيتُ؟ فقالوا
(3)
: لا، ورجلٌ منهم ساكتٌ، فقال: أيُّها الملك، إنْ أذنت لي تكلَّمْتُ، فقال
(4)
: تكلَّمْ، قال: أرأيتَ ما جمعْتَ، أشيءٌ هو لكَ لم يزُل ولا يَزولُ، أم هو شيء كان لمن قبلك وزَالَ عنه، وصار إليك، وكذلك يزولُ عنك؟ قال: بل كان لمن قبلي، وصار إليَّ، ويزولُ عنِّي. قال: فسررْتَ بشيءٍ تزولُ عنك لذَّتُه وتبقى تبِعتُه عليك، تكونُ فيه قليلًا وتُرْتَهَنُ به طويلًا. فبكى وقال: أين المَهْربُ؟ قال: إما أن تقيم وتعملَ بطاعة ربِّك، وإما أن تنخلعَ من مُلْكِك وتقيمَ وحدَك وتعبدَ ربَّكَ حتى يأتيك أجلُك، قال: فإذا فعلتُ ذلك فما لي؟ قال: حياة لا تموت، وشبابٌ لا يهرَمُ، وصحةٌ لا تسقمُ، وملك جديدٌ لا يَبْلَى. فقال: فأيُّ خيرٍ فيما يفنَى
(5)
، واللهِ لأطلبنَّ عيشًا لا يزول أبدًا، فانخلَعَ من ملكه، وسار في الأرض. وفيه يقول عدِيُّ بن زيد أبياتَه المشهورة السائرة
(6)
:
أيُّها الشَّامِتُ المُعَيّرُ
(7)
بالدَّهْـ
…
ـرِ أأنْتَ المُبَرَّأُ المَوْفُورُ
أَمْ لَدَيْكَ العَهْدُ الوَثِيقُ مِنَ
…
الأَيَّامِ بَلْ أَنْتَ جاهِلٌ مَغْرُورُ
مَنْ رأيْتَ المَنُونَ أَخْلَدْنَ
(8)
أَمْ مَنْ
…
ذا عليهِ مِنْ أن يُضَامَ خَفِيرُ
أينَ كِسْرَى، كِسْرَى المُلُوكِ أنو شِرْ
…
وانَ
(9)
أَمْ أَيْنَ قَبْلَهُ سَابُورُ
(1)
من هنا وحتى آخر أبيات عدي بن زيد ساقط في نسخة ب والمطبوع، وأثبته من آ، ع، ش. والخبر مع شيء من الاختلاف ورد في كتاب "الأغاني" دار الكتب (2/ 137).
(2)
الخَوَرْنَقُ والسَّدير: اسمان لقصرين، قيل: بناهما النعمان الأكبر الذي يقال له الأعور، وهو الذي لبس المسوح وساح في الأرض.
(3)
في ع، ش:"قالوا"، بغير فاء.
(4)
في ع، ش:"قال".
(5)
في ع: "بقي".
(6)
الأبيات في ديوان عدي بن زيد العبادي 48 - 50 من قصيدة طويلة بلغت خمسين بيتًا، والشعر والشعراء ص 225، والأغاني 2/ 138، وحماسة البحتري 86، ومعاهد التنصيص 1/ 315، وانظر الأبيات والمناسبة في كتاب التوابين للمقدسي ص 39 - 42.
(7)
في الأصول: "المُغْتَرُّ"، وأثبت ما جاء في الديوان والشعر والشعراء وغيرهما.
(8)
في المصادر والديوان "خَلَّدْن". والمنون: الموت، وقيل: الدهر.
(9)
ويروى: "أبو ساسان". وهم جميعًا من ملوك الفرس.
وبَنُو الأَصْفَرِ الكِرامُ مُلُوكُ الرُّومِ
…
لم يَبْقَ مِنْهُمُ مَذْكُورُ
وأَخُو الحَضْرِ إذْ بَنَاهُ وإذ دِجْـ
…
ـلَةُ تُجْبَى إليه والخابُورُ
(1)
شادَهُ مَرْمَرًا وَجَلَّلَهُ كِلْـ
…
ـسًا فلِلطَّيْرِ في ذُرَاهُ وُكُورُ
لَمْ يَهَبْهُ
(2)
رَيْبُ المَنُونِ فباد الـ
…
ـمُلْكُ عنه فبابُهُ مَهْجُورُ
وتذكَّرْ
(3)
رَبَّ الخَوَرْنَقِ إذْ أَشْـ
…
ـرَفَ يومًا ولِلْهُدَى تَفكِيرُ
سَرَّةُ مالُهُ
(4)
وكثرةُ ما يَمْـ
…
ـلِكُ والبَحْرُ مُعْرِضًا
(5)
والسَّديرُ
فارْعَوَى قلْبُهُ وقالَ وما غِبْـ
…
ـطَةُ حَيٍّ إلى المَمَاتِ يَصيرُ
ثمَّ أَضْحوْا كأنَّهم ورقٌ جَفَّ
…
فأَلْوَتْ
(6)
به الصَّبَا والدَّبُورُ
ثمَّ بَعْدَ الفَلَاحِ والمُلْكِ
(7)
…
والإِمَّةِ وارَتْهُمُ هناكَ القُبُورُ
* * *
(1)
الحَضْر: اسم مدينة (أو حصن) بإزاء تكريت في البرّيّة، بينها وبين الموصل والفرات. والخابور: نهر كبير بين رأس عين والفرات، من أرض الجزيرة. (ياقوت)، وقد ذكر هذا البيت والبيتين بعده.
(2)
في ع: "لم يمضه".
(3)
ويروى: "وَتَبَيَّنْ"، وفي الديوان:"وتأمَّلْ". والخورنق: قصر للنعمان بظاهر الحيرة.
(4)
ويروى: "حاله".
(5)
في الأصول: "معرض" والمثبت من الديوان والمصادر. ومعرضًا: متسعًا. والسَّدير: نهر، وقيل: قصر؛ فارسي معرب، وهو أحد قصور النعمان كما مَرَّ.
(6)
أَلْوَتْ به: ذهبت به. والصَّبا: ريح، ومثلها الدَّبور. وتأخر هذا البيت في المصادر عما بعده.
(7)
في آ، ع:"والإِمَّة والملك". والإِمَّة: غضارة العيش والنعمة.
وظائف شهر الله المحرم
ويشتمل على مجالس:
المجلس الأول في فضل
(1)
شهر الله المحرم وعشره الأول
(2)
خرَّجَ مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "أفضلُ الصِّيام بعد شهر رمضانَ شهرُ اللهِ الذي تدعونه المحرمَ، وأَفضلُ الصَّلاةِ بعدَ الفريضةِ قيامُ الليل
(3)
". الكلام على هذا الحديث في فصلين: في أفضل التطوع بالصيام، وأفضلِ التطوع بالقيام.
الفصل الأول في فضل التطوع بالصِّيام
وهذا الحديثُ صريحٌ في أن أفضلَ ما تُطوِّعَ به من الصِّيام بعد رمضان صومُ شهر الله المحرم، وقد يَحتملُ أن يراد أنه أفضلُ شهرٍ تُطوِّعَ بصيامه كاملًا بعدَ رمضان. فأمَّا بعضُ التطوّع ببعضِ شهرٍ فقد يكون أفضل من بعضِ أيامه، كصيامِ يومِ عرفةَ، أو عشرِ ذي الحجة، أو ستةِ أيامٍ من شوالٍ، ونحو ذلك. ويشهد لهذا ما خرَّجه الإِمام أحمد
(4)
والترمذيُّ من حديث عليٍّ أن رجلًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله، أخبرني بشهرٍ أصومُه بعدَ شهرِ رمضانَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنْ كنْتَ صائمًا شهرًا بعدَ رمضانَ فصُمِ المحرمَ فإنه شهرُ اللهِ؛ وفيه يومٌ تاب اللهُ فيه على قومٍ ويتوبُ على آخرين"
(5)
. وفي إسناده مقالٌ.
ولكن يقال: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصومُ شهرَ شعبانَ، ولم ينقل [عنه]
(6)
أنَّه كان
(1)
لفظة "فضل" سقطت من (آ). وفي ع: "فضائل".
(2)
قوله: "وعشره الأول" لم يرد في (آ).
(3)
رواه مسلم رقم (1163) في الصيام، باب فضل صوم المحرم، وعنده في آخره:"صلاة الليل" بدل "قيام الليل" كما ذكر المؤلف رحمه الله.
(4)
قوله: "الإمام أحمد" سقط من ب، ط.
(5)
رواه الترمذي رقم (741) في الصوم، باب ما جاء في صوم المحرم. ورواه أيضًا أحمد في "المسند" 1/ 154 - 155.
(6)
زيادة من ع، ش.
يصوم المحرمَ، إنما كان يصوم عاشوراء. وقوله في آخر سنة:"لئن عِشْتُ إلى قابلٍ لأصومَنَّ التاسِعَ"
(1)
يدُلُّ على أنه كان لا يصومُ التاسعَ قبلَ ذلك. وقد أجاب النَّاسُ عن هذا السؤال بأجوبةٍ فيها ضَعفٌ.
والذي ظهر لي - والله أعلم - أن التطوُّعَ بالصِّيام نوعان:
أحدهُما: التطوعُ المطلَقُ بالصومِ، فهذا أفضلُه المحرمُ، كما أن أفضلَ التطوّعِ المطلَقِ بالصَّلاةِ قيامُ الليل.
والثاني: ما صيامُهُ تبعٌ لصيامٍ رمضانَ قبلَه وبعدَه، فهذا ليس من التطوُّع المطلَقِ، بل صيامُه تبَعٌ لصيام رمضان، وهو ملتحِقٌ بصيام رمضانَ، ولهذا قيل: إنَّ صيامَ ستةِ أَيام من شهر شوال يلتحِقُ بصيامِ رمضانَ، ويُكْتَبُ بذلك لمن صامَها معَ رمضانَ صيامُ الدَّهر فرضًا. وقد رُوي أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهرَ الحُرُمَ، فأمرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بصيامِ شوال، فترك الأشهرَ الحُرُمَ وصام شوالًا
(2)
. وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. فهذا النوعُ من الصِّيام يلتحِقُ
(3)
برمضانَ، وصيامُه أفضلُ التطوُّعِ مطلقًا. فأما التطوُّعُ المطلَقُ فأفضلُه صيامُ الأشهرِ الحُرُمِ. وقد رُوي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه أمَرَ رجلًا أن يصومَ الأشهرَ الحُرُمَ، وسنذكره في موضعٍ آخر إن شاء الله تعالى.
وأفضلُ صيامِ الأشهرِ الحُرُم
(4)
صيامُ شهر الله المحرَّمِ، ويشهَدُ لهذا أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث:"وأفضَلُ الصَّلاةِ بعدَ المكتوبةِ قيامُ اللَّيلِ"
(5)
، ومرادُه بعد المكتوبة
(1)
رواه مسلم رقم (1134)(34) في الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء؛ وابن ماجه رقم (1736) في الصيام، باب صيام يوم عاشوراء؛ وأحمد في "المسند" 1/ 224 - 225 و 236 و 345.
(2)
رواه ابن ماجه رقم (1744) في الصيام، باب صيام أشهر الحرم، وفيه محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي المدني، وهو ممن أرسل عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، ولم يدركه.
(3)
في ب، ش، ع، ط:"ملتحق".
(4)
لفظة "الحرم" سقطت من (آ).
(5)
وهو قطعة من حديث صحيح، رواه مسلم رقم (1163)(202) و (203) في الصيام، باب فضل صوم المحرم؛ وأبو داود رقم (2429) في الصوم، باب في صوم المحرم؛ والترمذي رقم (438) في الصلاة، باب ما جاء في فضل صلاة الليل، والنسائي 3/ 206 - 207 في الصلاة، باب فضل صلاة الليل؛ وأحمد في "المسند" 2/ 342 و 344 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولواحِقِها من سننِها الرَّواتبِ، فإنَّ الرَّواتِبَ قبلَ الفرائض وبعدَها أفضلُ من قيام الليل عند جمهور العلماءِ؛ لالتحاقِها بالفرائض. وإنما خالَفَ في ذلك بعضُ الشافعية. فكذلك الصِّيامُ قبلَ رمضانَ وبعدَه ملتحِقٌ برمضانَ، وصيامُه أفضَلُ من صيام الأشهر الحُرُمِ، وأفضَلُ التطوُّعِ المطلَقِ بالصِّيام صيامُ المحرَّمِ.
وقد اختلف العلماءُ في أي الأشهر الحُرُمِ أفضلُ، فقال الحَسَنُ وغيرُهُ: أفضلُها شهرُ اللهِ المحرَّمِ، ورجَّحَهُ طائفةٌ من المتأخرين. وروى وَهْبُ بن جَرِيْر، عن قُرَّةَ بن خالد، عن الحَسَن، قال: إن الله افتتح السَّنَةَ بشهر حَرام، وختمَها بشهر حَرام. فليس شهرٌ في السَّنةِ بعدَ شهرِ رمضانَ أعظم عند الله من المحرَّم، وكان يُسمى "شهرَ اللهِ الأصمَّ"؛ من شدَّة تحريمه. وقد روي عنه مرفوعًا ومرسلًا
(1)
، قال آدم بن أبي إياس: حدثنا أبو هلال الراسبيّ، عن الحَسَن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضَلُ الصَّلاةِ بعدَ المكتوبةِ الصَّلاةُ في جَوْفِ الليل الأوسَطِ، وأفضَلُ الشهور بعدَ شهرِ رمضانَ المحرَّمُ، وهو شهرُ الله الأصَمُّ".
وخرَّج النسائي من حديث أبي ذَرٍّ، قال: سألتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الليل خيرٌ، وأي الأشهر أفضَلُ؟ فقال:"خيرُ الليل جَوْفُهُ، وأفضلُ الأشهرِ شهرُ الله الذي تدعونه المحرَّم". وإطلاقُه في هذا الحديث "أفضل الأشهر" محمولٌ على ما بعدَ رمضان، كما في رواية الحسن المرسلة. وقال سعيد بن جبير وغيرُه: أفضلُ الأشهرِ الحُرُمِ ذو القَعْدَة
(2)
، أو ذو الحِجَّةِ. بل قد قيل: إنه أفضلُ الأشهرِ مطلقًا، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وزعم بعضُ الشافعية أن أفضل الأشهرِ الحُرُمِ رَجَبٌ، وهو قولٌ مَردودٌ. وأفضلُ شهر الله المحرَّمِ عشرُهُ الأوَّلُ. وقد زعم يَمَانُ بن رِئاب
(3)
أنه العَشْرُ الذي أقسَمَ الله به
(1)
في ع، ش:"مرسلًا" بلا واو.
(2)
قوله: "ذو القعدة أو "ساقط في آ، ش، ع، وهو في المطبوع وفي هامش نسخة (ب).
(3)
يمان بن رئاب، خراساني. قال الدارقطني: ضعيف، من الخوارج. (ميزان الاعتدال 4/ 460).
في كتابه
(1)
، ولكن الصحيح أن العشرَ المقسَمَ به عشرُ ذي الحِجَّةِ
(2)
، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقال أبو عثمان النَّهْدِيّ
(3)
: كانوا يعظِّمون ثلاثَ عشراتٍ: العشرَ الأخيرَ من رمضان، والعشرَ الأولَ من ذي الحِجَّةِ، والعشرَ الأولَ من المحرَّمِ، وقد وقع هذا في بعض نسخ كتاب "فضائل العشر"
(4)
لابن أبي الدُّنيا، عن أبي عثمان، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه كان يعظِّمُ هذه العشراتِ الثلاثَ، وليس ذلك بمحفوظٍ. وقد قيل: إنه العشرُ الذي أتمَّ اللهُ به ميقاتَ
(5)
موسى عليه السلام أربعينَ ليلةً، وأن التَّكلُّمَ
(6)
وقع في عاشرِهِ.
ورُوي عن وَهْب بن منبّهٍ، قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن مُرْ قومَكَ أن يتقربوا
(7)
إليَّ في أول عشر المحرم، فإذا كان يومُ العاشرِ فليخرجُوا إليَّ أغفِرْ لهم.
وعن قتادة أن الفجرَ الذي أقسمَ الله تعالى به في أوَّل سورةِ الفجر هو فجرُ أولِ يومٍ من المحرَّمِ، تنفجرُ منه السَّنَةُ. ولما كانت الأشهرُ الحرُمُ أفضلَ الأشهرِ بعدَ رمضانَ أو مُطلقًا، وكان صيامُها كلِّها مندوبًا إليه، كما أمر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وكان بعضُها ختامَ السَّنةِ الهِلاليَّةِ، وبعضُها مفتاحًا لها، فمن صامَ شهرَ ذِي الحِجَّةِ سِوى الأيام المحرَّم صيامُها منه، وصامَ المحرَّمَ، فقد خَتَمَ السَّنَةَ بالطَّاعة وافْتَتَحَها بالطَّاعة، فيُرْجَى أن تكتبَ له سنتُه كلُّها طاعةً، فإنَّ مَن كان أولُ عملِه طاعةً وآخرُهُ طاعةً، فهو في حكم من استغرقَ بالطاعة ما بين العَمَلَيْن.
وفي حديثٍ مرفوعٍ: "ما من حافِظَيْن يرفعان إلى الله صحيفةً فيرى في أوَّلها
(1)
في سورة الحجر الآية 2؛ قال تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} .
(2)
وهو قول ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف.
(3)
هو عبد الرحمن بن ملّ، بلام ثقيلة والميم مثلثة، بن عمر بن عدي البصري، مخضرم معمر، أدرك الجاهلية والإِسلام، وغزا في خلافة عمر، وبعدها غزوات، وكان من سادة العلماء العاملين. ثقة ثبت عابد، مات سنة 95 هـ، وقيل بعدها، وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل أكثر.
(4)
منه نسخة خطية في برلين رقم (10213)، وفي دار الكتب، فهرس ج 7، 6، 103، 230.
(5)
في سورة الأعراف الآية 142؛ قال تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً
…
} الآية.
(6)
في ش، ع:"التكليم".
(7)
في ب، ط:"يتوبوا".
وفي آخرها خيرًا إلَّا قال الله لملائكته
(1)
: أُشْهِدُكم أَنِّي قد غَفَرْتُ لِعَبْدِي ما بين طَرَفيها"
(2)
. خرَّجه الطبرانيُّ وغيرُه، وهو موجودٌ في بعض نسخ كتاب الترمذي.
وفي حديثٍ آخرَ مرفوعٍ: "ابنَ آدمَ اذكُرْني من أوَّلِ النَّهارِ ساعةً ومِن آخرِ النَّهارِ ساعةً اغفرْ لكَ ما بينَ ذلك، إلا الكبائرَ أو تتوبَ منها"
(3)
. وقال ابن المبارك: مَن ختمَ نهارَه بذكرِ الله
(4)
كُتِبَ نهارُه كلُّه ذكرًا. يشيرُ إلى أن الأعمالَ بالخواتيم، فإذا كان البُداءَةُ والختامُ ذِكرًا فهو أولى أن يكون حكمُ الذكر شاملًا للجميع. ويتعيَّنُ افتتاحُ
(5)
العام بتوبةٍ نصوحٍ تمحو ما سلفَ من الذُّنوبِ السالفةِ في الأيام الخالية.
قطعْتَ شُهورَ العَامِ لَهْوًا وَغَفْلَةً
…
ولم تحترِمْ فيما أتيتَ المُحَرَّما
فلا رَجَبًا وافيْتَ فيهِ بحقِّهِ
…
ولا صُمْتَ شهرَ الصَّومِ صَوْمًا مُتمَّما
ولا في لياليْ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ الذي
…
مَضَى كُنْتَ قوَّامًا ولا كُنْتَ مُحْرِمَا
فهلْ لكَ أنْ تَمحُوَ الذُّنوبَ بِعَبْرَةٍ
…
وتبكِي عليها حَسْرَةً وَتَنَدُّما
وتَسْتَقبِلَ العامَ الجَديدَ بتوبةٍ
…
لعلَّكَ أن تمحو بها ما تَقَدَّما
وقد
(6)
سمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم المحرَّمَ شهرَ اللهِ. وإضافته إلى الله تدُلُّ على شرفه وفَضْلِهِ، فإنَّ الله تعالى لا يضيفُ إليه إلا خواصَّ مخلوقاته، كما نسَبَ محمدًا وإبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ وغيرَهم من الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - إلى عبوديته، ونسَبَ إليه بيته
(7)
وناقته.
(1)
في آ، ع:"للملائكة".
(2)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 208 من حديث أنس بن مالك بلفظ مقارب، وقال:"رواه البزار، وفيه تمام بن نجيح، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه البخاري وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(3)
رواه الطبراني عن ابن عمر، وليس فيه لفظ "إلا الكبائر أو تتوب منها". الكنز برقم (21524). وأخرح أبو نعيم في "الحلية" 8/ 213 عن محمد بن صبيح، عن جبير، عن الحسن، عن أبي هريرة:"ابن آدم! اذكرني بعد الفجر وبعد العصر ساعة أكفك ما بينهما". قال أبو نعيم: غريب من حديث الحسن عن أبي هريرة، لم يروه عنه إلا جبير.
(4)
لفظ الجلالة لم يرد في ب، ش، ع، ط.
(5)
في آ، ش، ع:"استفتاح".
(6)
من هنا وحتى قوله: "وهو الصيام" ورد في آ قبل الأبيات.
(7)
في آ: "بيته وما فيه". وأراد ببيته بيتَ الله المحرَّم؛ قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} . وأراد بناقته ناقة الله؛ قال تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} .
ولما كان هذا الشهرُ مختصًّا بإضافته إلى اللهِ تعالى، وكان الصِّيامُ من بين الأعمالِ مضافًا إلى اللهِ تعالى؛ فإنَّه له من بين الأعمال، ناسَبَ أن يختصَّ هذا الشهرُ المضافُ إلى الله بالعملِ المضاف إليه، المختصِّ به، وهو الصِّيامُ.
وقد قيلَ في معنى إضافة هذا الشهرِ إلى الله عز وجل: إنه إشارةٌ إلى أن تحريمَه إلى الله عز وجل ليس لأحدٍ تبديلُهُ، كما كانتِ الجاهليةُ يُحِلُّونه ويُحرِّمُونَ مكانه صَفَر، فأشارَ إلى أنه شهرُ اللهِ الذي حرَّمَهُ، فليس لأحدٍ من خَلْقِه تبديلُ ذلك وتغييرُه.
شهرُ الحَرَامِ مُبَاركٌ مَيْمُونُ
…
والصَّومُ فيهِ مُضَاعَفٌ مَسْنُونُ
وثوابُ صائمِهِ لوجهِ إلهِهِ
…
في الخُلْدِ عندَ مَليكِهِ مَخْزُونُ
الصِّيامُ سرٌّ بينَ العبدِ وبين ربِّهِ، ولهذا يقولُ اللهُ تبارك وتعالى:"كلُّ عملِ ابن آدمَ له إلَّا الصَّومَ فإنَّه لي وأنا أَجْزِي به، إنَّه تركَ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجلي"
(1)
. وفي الجنة بابٌ يقال له "الرَّيَّانُ" لا يدخلُ منه إلَّا الصائمون، فإذا دخلوا أُغلِقَ فلم يدخلْ منه غيرُهم
(2)
، وهو جُنَّةٌ
(3)
للعبد من النَّارِ كجُنَّةِ أحدِكم
(4)
من القتال.
وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ صامَ يومًا ابتغاءَ وجهِ اللهِ تعالى بَعَّدَه اللهُ من نارِ جهنَّمَ كبعدِ غُرابٍ طارَ وهو فرخٌ حتى ماتَ هَرِمًا"
(5)
. وفيه أن أبا أمامةَ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال:"عليك بالصَّوْمِ فإنَّهُ لَا عِدْلَ له"
(6)
، فكان أبو أمامةَ وأهلُه يصومون، فإذا رؤي في بيتهم دُخانٌ بالنَّهارَ عُلِمَ أنه قد نزل بهم ضيفٌ. وممن سَرَدَ
(7)
الصومَ عُمَرُ وأبو طلحةَ وعائشةُ وغيرُهم من الصحابة، وخلْقٌ كثيرٌ من السَّلفِ. وممن
(1)
رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، وله روايات عدة. انظر "جامع الأصول" 9/ 450.
(2)
أخرجه مسلم في "صحيحه"(1152) في الصيام، باب فضل الصيام، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ في الجنّة بابًا يقال له الرَّيَّان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم. يقال: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخل آخرهم أُغلِق فلم يدخل منه أحد".
(3)
الجُنَّةُ: الوقاية. وفي الحديث: "الصوم جُنَّة"، أي يقي صاحبه ما يؤذيه من الشَّهوات. (النهاية 1/ 308).
(4)
في آ: "أحدهم".
(5)
رواه أحمد في "المسند" 2/ 526، من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(6)
قطعة من حديث رواه الإِمام أحمد في "المسند" 5/ 249، 255، 258، 264 من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
(7)
سَرَدَ: تابَعَ.
صام الأشهرَ الحرُمَ كلَّها ابنُ عمرَ والحسنُ البصريُّ وغيرُهما. قال بعضهم: إنما هو غَداءً وعَشاءٌ، فإن أخَّرْتَ غَداءَك إلى عشائكَ أمسيْتَ وقد كُتِبْتَ في ديوان الصائمين.
"للصائم فَرْحَتان
(1)
: فَرْحَةٌ عند فِطرِه، وفرحةٌ عند لقاءِ ربِّه" إذا وجد ثوابَ صيامه مدخورًا. سمِعَ بعضُهم مناديًا ينادي على السَّحُورِ في رمضان: ياما خبَّأْنا للصُوَّام، فانتبَه لذلك
(2)
وسَرَدَ الصوم. ورُوي أن الصائمين توضَعُ لهم مائدةٌ تحت العرش، فيأكلون والناسُ في الحسابِ، فيقولُ الناسُ: ما بالُ هؤلاء يأكلون ونحنُ نحاسَبُ؟ فيقالُ: كانوا يَصُومونَ وأنتمَ تُفْطِرون. وروي أنَّهم يُحكَّمُونَ في ثمارِ الجنَّة والناسُ في الحساب.
رَوَى ذلك ابنُ أبي الدنيا في "كتاب الجوع"
(3)
(4)
. وقال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}
(5)
. قال مجاهدٌ وغيرُه: نزلت في الصُّوَّامِ. من تركَ لله طعامَه وشرابَه وشهوتَه عوَّضه اللهُ خيرًا من ذلك طعامًا وشرابًا لا ينفَدُ، وأزواجًا لا تموتُ.
وفي التوراة: طُوبَى لمن جَوَّعَ نفسَه ليومِ الشبَعِ الأكبرِ، طُوبَى لمن ظمَّأَ نفسَه ليومِ الرِّيِّ الأكبرِ، طُوبَى لمن تَرَك شهوةً حاضرةً لموعدِ غَيبٍ لم يَرَه، طُوبَى لمن تَرَك طعامًا ينفَدُ في دارٍ تنفَدُ، لدارٍ {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}
(6)
:
مَنْ يُرِدْ مُلْكَ الجِنانِ
…
فَلْيَذَرْ عنهُ التَّوانِي
وَلْيَقُمْ في ظُلْمَةِ اللَّيـ
…
ـلِ إلى نُورِ القُرانِ
(1)
في ش: "فرحتان يفرحهما". وهو قطعة من حديث رواه مسلم رقم (1151)(161) في الصيام، باب فضل الصيام.
(2)
في ش، ع:"بذلك".
(3)
منه نسخة خطية في دار الكتب الظاهرية بدمشق، مجموع رقم (89).
(4)
سورة الأحزاب الآية 35.
(5)
سورة الحاقة الآية 24.
(6)
سورة الرعد الآية 35، وتمامها:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} .
وَلْيَصِلْ صَوْمًا بِصَوْمٍ
…
إنَّ هذا العيشَ فاني
إنَّما العيشُ جِوارُ
…
اللهِ في دارِ الأمَانِ
كان بعضُ الصالحين يُكثرُ الصومَ، فرأى في منامِهِ كأنَّه دخلَ الجنةَ، فنُودِي من ورائِهِ: يا فلان، تذكُرُ أنكَ صُمتَ لله يومًا قطّ؟ قال: إي واللهِ، يومٌ ويومٌ ويومٌ، فإذا صوانيّ
(1)
النِّثار قد أخذتْه يَمْنةً ويَسْرَةً. كان بعضُ الصالحين قد صامَ حتى انحنَى وانقطع صوتُه، فماتَ فرُئي بعض أصحابه في المنام، فسُئِل عن حالِه، فقال:
قَدْ كُسِي حُلَّةَ البَهاءِ وطافَتْ
…
بالأباريق
(2)
حَوْلَه الخُدَّامُ
ثم حُلّي وقيلَ يا قارِيَ ارْقَه
(3)
…
فلَعَمري لَقَدْ بَرَاكَ
(4)
الصِّيامُ
صام بعضُ التابعين حتى اسودَّ من طولِ صيامه. وصام الأسودُ بن يزيدَ
(5)
حتى اخضرَّ جسمُه واصفرَّ
(6)
، فكان إذا عُوتِبَ في رفقِهِ بجسدِه يقولُ: كرامَةَ هذا الجسد أريدُ. وصام بعضهم حتى وجدَ طعم دماغِه في حَلْقِهِ. كان بعضهم يَسرُدُ
(7)
الصَّوْمَ، فمرِضَ وهو صائمٌ، فقالوا له: أفطرْ، فقال: ليس هذا وقتُ تركِ الصيام
(8)
. وقيل لآخرَ منهم وهو مَريض: أفطرْ، فقال: كيف أفطرُ وأنا أسيرٌ لا أدري ما يُفعل بي.
مات عامِرُ بن عبد الله بن الزُّبير وهو صائمٌ ما أفطَر. ودخلوا على أبي بكر بن أبي مريم وهو في النَّزْعِ، وهو صائمٌ، فعرضوا عليه ماءً ليُفطِرَ، فقال: أغربتِ الشَّمْسُ؟ قالوا: لا، فأبَى أن يُفطِرَ، ثم أَتوه بماءٍ وقد اشتدَّ نَزْعُهُ، فأومأ إليهم: أغربتِ الشمس؟ قالوا: نعم، فقَطَّرُوا في فيهِ قطرةً من ماءٍ ثم مات. واحتُضِرَ إبراهيمُ ابنُ هانئٍ صاحبُ الإمام أحمد وهو صائمٌ، وطلبَ ماءً، وسأل: أغربتِ الشمسُ؟
(1)
الصَّواني: الأواني، منسوبة إلى الصين. والنِّثار: ما ينثر من الجوز واللوز والسكَّر، وكذلك نثر الحب إذا بُذر. ونُثَار الخِوان: الفُتات المتناثر حوله. وفي ب، ط:"صواني النتار" بالتاء.
(2)
في ش، ع:"وأطافت بأباريق"، وفي آ:"وأطافت بأباريق"، والمثبت من ب، ط.
(3)
في آ، ش:"ارقا".
(4)
براك: هزلك.
(5)
في ش، ع:"زيد". وهو الأسود بن يزيد بن قيس النَّخعي، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الفقيه، العابد، كان يصلي في اليوم والليلة سبعمائة ركعة، واستسقى به معاوية فسقوا. مات سنة 75 هـ، وقيل غير ذلك. (التقريب 1/ 77 وشذرات الذهب 1/ 313 طبع دار ابن كثير).
(6)
لفظ: "أصفر" ساقط في آ.
(7)
يسرد الصوم: أي يتابع الصيام.
(8)
لفظ "الصيام" لم يرد في ب، ش، ع، ط.
فقالوا: لا، وقالوا له: قد رُخِّصَ لكَ في الفَرْضِ وأنتَ متطوِّعٌ، قال: أجل، امهلوا
(1)
، ثم قال:{لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}
(2)
، ثم خرجَتْ نفسُه وما أفطَرَ.
الدنيا كلُّها شهرُ صيام المتقين، وعيدُ فِطرِهم يوم لقاءِ ربِّهم، ومعظمُ نهار الصيام قد ذَهَبَ، وعيدُ اللِّقاءَ قد اقترَبَ.
وقَدْ صُمْتُ عن لذَّاتِ دَهْرِيَ كلِّها
…
ويومَ لقاكُمْ ذاكَ فِطْرُ صِيامي
ولما كان الصِّيامُ سرًّا بينَ العبدِ وربِّه اجتهدَ المخلصون في إخفائه بكلِّ طريقٍ، حتى لا يطَّلِعَ عليهم
(3)
أحدٌ. قال بعضُ الصالحين
(4)
: بلغنا عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال: إذا كان يومُ صَوْمِ أحدِكم فَلْيَدْهُنْ لحيتَه ويمسَحْ شَفتيهِ من دُهنِه، حتى ينظرَ إليه الناظِرُ فيظنَّ أنه ليسَ بصائم. وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: إذا أَصْبَحَ أحدُكم صائمًا فليترجَّلْ، يعني يُسرِّحُ شَعرَه ويَدْهُنه؛ وإذا تصدَّق بصدقةٍ عن يمينِهِ فليُخْفِها عن شمالِه، وإذا صلَّى تطوعًا فليُصلِّ داخلَ بيته.
(5)
. وقال أبو التَّيَّاح
(6)
: أدركتُ أبي ومشيخةَ الحيِّ، إذا صام أحدُهم ادَّهَنَ ولبِسَ صالحَ ثيابِه.
صام بعضُ السَّلَفِ أربعين سنةً لا يَعلمُ به أحدٌ؛ كان له دُكَّانٌ
(7)
، فكان كلَّ يوم يأخذ من بيتِه رغيفينِ، ويخرجُ إلى دكَّانِه، فيتصدَّقُ بهما في طريقه، فيظُنُّ أهلُه أنه يأكلهما في السوقِ، ويظُنُّ أهلُ السوقِ أنه قد أكلَ في بيته قبل أن يجيءَ. اشتهر بعضُ الصالحين بكثرة الصِّيامِ فكان يقومُ يومَ الجمعة في مسجد الجامعِ فيأخذُ إبريقَ الماءِ
(8)
، فيضعُ بُلْبُلَتَهُ
(9)
في فيه ويمتصُّها والنَّاسُ ينظرون إليه ولا يَدْخُلُ حلقَه منه شيءٌ؛ لينفيَ عن نفسِه ما اشْتُهر به من الصَّوم.
(1)
في ب، ط:"قال: امهل".
(2)
سورة الصافات الآية 61.
(3)
في ب، ط:"عليه".
(4)
في ش، ع:"بعض السلف".
(5)
شطره الأول من حديث مرفوع، في صحيح البخاري، في الصوم: باب اغتسال الصائم.
(6)
هو يزيد بن حُميد الضُّبَعي البصري، أبو التَّيَّاح، مشهور بكنيته، ثقة ثبت. مات سنة 128 هـ.
(7)
الدُّكَّان: الحانوت، فارسي معرب.
(8)
في آ: "فيأخذ الإِبريق".
(9)
بُلْبُلَةُ الإِبريق: قناته التي يَنْصَبُّ منها الماء.
كم يسترُ الصَّادقون أحوالَهم وريحُ الصِّدْقِ ينُمُّ عليهم.
ما أَسرَّ أحدٌ سَريرةً إلا ألبسَهُ اللهُ رداءَها علانِيةً.
كم أكتُمُ حُبَّكُم عن الأغيارِ
…
والدَّمعُ يُذيعُ في الهوَى أسراري
كم أستُركم هتكتمُوا أستارِي
(1)
…
مَن يُخفي في الهوَى لهيبَ النَّارِ
ريحُ
(2)
الصائم
(3)
أطيبُ عند الله من ريحِ المسك، فكلَّما اجتهَدَ صاحبُه على إخفائه فاحَ ريحُه للقلوبِ فَتَسْتَنشِقُه الأرواحُ، وربَّما ظهرَ بعدَ الموت ويومَ القيامةِ.
فكاتِمُ الحُبِّ يَوْمَ البَيْنِ مُنْهَتِكٌ
…
وصاحِبُ الوَجْدِ لا تخفَى سَرائرُهُ
ولمَّا دُفنَ عبدُ الله بنُ غالب
(4)
كان يفوحُ مِن ترابِ قبرِه رائحةُ المِسْكِ، فرؤي في المنامِ، فسُئل عن تلك الرائحةِ التي توجدُ من قبرِه، فقال: تلكَ رائحةُ التلاوة والظَّمأِ.
وجاء في حديثٍ مرفوعٍ: "يخرُجُ الصائمونَ مِن قُبُورِهم يُعرَفونَ بريحِ صيامِهم؛ أفواهُهُم أَطيبُ مِن رِيحِ المِسْكِ".
وَهَبْنِي كَتَمْتُ السِّرَّ أو قُلْتُ غيرَهُ
…
أتخفَى على أهلِ القُلُوبِ السَّرائرُ
أَبَى ذَاكَ أن السِّرَّ في الوجهِ ناطِقٌ
…
وأنَّ ضميرَ القلبِ في العينِ ظاهِرُ
* * *
(1)
في ط: "أسراري".
(2)
لفظة "ريح" سقطت من آ.
(3)
في آ: "الصيام".
(4)
عبد الله بن غالب الحُدَّاني البصري، العابد، صدوق، قليل الحديث، قتل مع ابن الأشعث سنة 83 هـ. (انظر خبره في صفة الصفوة 3/ 334).
الفصل الثاني في فضل قيام الليل
وقد دلَّ حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه هذا على أنه أفضلُ الصَّلاةِ بعدَ المكتوبةِ. وهل هو أفضلُ من السُّنن الراتبةِ؟ فيه خلافٌ سبَقَ ذكرُه. وقال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: "فضلُ صلاةِ اللَّيلِ على صلاةِ النَّهارِ كفضلِ صَدقةِ السِّرِّ على صَدَقةِ العَلانيةِ"
(1)
. وخرَّجه الطبراني عنه مرفوعًا، والمحفوظُ وقفُه. وقال عمرو بن العاص: رَكْعَةٌ بالليل خيرٌ مِن عشرٍ بالنَّهارِ. خرَّجه ابنُ أبي الدنيا. وإنما فُضِّلتْ صلاةُ الليل على صلاةِ النَّهار، لأنها أبلغُ في الإِسْرارِ وأقربُ إلي الإِخلاص.
كان السَّلَفُ يجتهدون على إخفاء تهجُّدِهم؛ قال الحسن: كان الرجل يكون عندَه زُوَّاره
(2)
، فيقوم من الليلِ يصلِّي لا يعلَمُ به زُوَّارُه. وكانوا يجتهدون في الدعاء ولا يُسمَعُ لهم صوتٌ. وكان الرجلُ ينام مع امرأتِه على وسادةٍ، فيبكي طولَ ليلتِه وهي لا تشعر. وكان محمدُ بنُ واسع
(3)
يصلِّي في طريق الحجِّ طولَ ليله في محمله
(4)
، ويأمُر حاديَه أن يرفعَ صوتَه ليُشغِلَ الناسَ عنه. وكان بعضهم يقوم في
(5)
وسط الليلِ ولا يُدرَى به، فإذا كان وقتُ
(6)
طلوعِ الفجر رفَعَ صوتَه بالقرآن، يُوهِمُ أنَّه قام تلك الساعة. ولأن صلاة الليل أشقُّ على النفوس؛ فإنَّ الليل محلُّ النَّوم والراحةِ من التعبِ بالنهار؛ فتركُ النَّومِ مع ميلِ النفسِ إليه مُجَاهَدَةٌ عظيمةٌ. قال بعضُهم: أفضلُ
(1)
الطبراني في الكبير 10/ 221، ورواه يحيى بن صاعد في الزهد لابن المبارك 25 وأبو نعيم في الحلية 4/ 167 و 5/ 36 و 7/ 238. ورواه ابن المبارك في الزهد 23 وأبو نعيم في الحلية 7/ 238 موقوفًا على ابن مسعود من قوله. وقال أبو نعيم: هكذا رواه شعبة والناس موقوفًا، وتفرد مخلد بن يزيد برفعه عن سفيان الثوري، عن يزيد. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 251 وقال:"رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات"، ولم يلتفت إلى ذلك الشيخ الألباني ولذا ضعفه؛ لأن مخلد بن يزيد صدوق له أوهام.
(2)
في آ: "زوَّار".
(3)
محمد بن واسع بن جابر الأزدي. فقيه ورع، من الزهاد، من أهل البصرة، وهو من ثقات أهل الحديث. مات سنة 123 هـ. وقد أخرج الخبر ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 3/ 266.
(4)
قوله: "في محمله" ساقط في ط.
(5)
في ب، ع، ش:"من".
(6)
في ب، ع، ط:"قرب".
الأعمالِ ما أُكْرِهَتْ عليه النُّفوسُ، ولأنَّ القراءة في صلاة الليلِ أقربُ إلى التَّدبُّرِ؛ فإنه تنقطِعُ الشواغلُ بالليل، ويحضُر القلبُ، ويتواطأُ هو واللسانُ على الفهم، كما قال تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}
(1)
. ولهذا المعنى أُمِرَ بترتيلِ القرآن في قيام الليل ترتيلًا، ولهذا كانت صلاةُ الليل مَنْهَاة
(2)
عن الإِثم، كما يأتي في حديثٍ خَرَّجَه الترمذيُّ.
وفي المسند
(3)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قيل له: إنَّ فلانًا يصلِّي مِنَ الليل، فإذا أصبَحَ سَرَقَ، فقال:"سينهاهُ ما تقولُ". ولأن وقتَ التهجُّدِ من الليل أفضلُ أوقاتِ التطوُّع بالصَّلاةِ، وأقربُ ما يكون العبدُ من ربِّه، وهو وقتُ فتحِ أبوابِ السَّماءِ واستجابةِ الدعاءِ، واستعراض حوائج السائلين. وقد مدَح الله تعالى المستيقظِينَ بالليل لذكرِه ودعائِه واستغفاره ومناجاتِه، فقال الله تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(4)
. وقال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}
(5)
. وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
(6)
. وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}
(7)
(8)
. وقال تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}
(9)
.
وقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}
(10)
. وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}
(11)
. وقال
(1)
سورة المزمل الآية 6.
(2)
في ب، ط:"تنهاه".
(3)
رواه أحمد في "المسند" 2/ 447 قال: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، قال: أخبرنا أبو صالح عن أبي هريرة. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 89، قال:"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، إلا أن الأعمش قال: أرى أبا صالح عن أبي هريرة".
(4)
سورة السجدة الآية 16 و 17.
(5)
سورة آل عمران الآية 17.
(6)
سورة الذاريات الآية 17 و 18.
(7)
سورة الفرقان الآية 64.
(8)
سورة الزمر الآية 9.
(9)
سورة آل عمران الآية 13.
(10)
سورة الإسراء الآية 79.
(11)
سورة الإنسان الآية 26.
(1)
.
قالت عائشة رضي الله عنها لرجلٍ: "لا تَدَعْ قيامَ الليلِ؛ فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان لا يَدَعُهُ، وكان إذا مَرِضَ - أو قالت كَسِلَ - صلَّى قاعدًا
(2)
". وفي رواية أخرى عنها، قالت: بلغني عن قومٍ يقولون: إنْ أدَّيْنا الفرائضَ لم نبالِ ألَّا نزدادَ، ولعَمري، لا يسألهم اللهُ إلَّا عمَّا افترضَ عليهم، ولكنَّهم قومٌ يُخطئون بالليل والنَّهارِ، وما أنتم إلا من نبيِّكم، وما
(3)
نبيُّكم إلَّا منكُم، واللهِ ما تركَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قيامَ الليل، ونزعَتْ كلَّ آيةٍ فيها قيامُ الليلِ، فأشارت عائشةُ رضي الله عنها إلى أن قيامَ الليل فيه فائدتان عظيمتان: الاقتِداءُ بسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتأسِّي به، وقد قال الله عز وجل:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
(4)
. وتكفيرُ الذنوبِ والخطايا؛ فإنَّ بني آدمَ يخطئون باللَّيلِ والنهارِ؛ فيحتاجون إلى الاستكثارِ من مُكفِّرَاتِ الخطايا، وقيامُ الليلِ من أعظم المُكَفِّراتِ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل:"قيامُ العبد في جَوْفِ الليلِ يُكفِّرُ الخطيئة"، ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}
(5)
الآية. خرجه الإِمامُ أحمد
(6)
وغيرُه.
وقد رُوي أنَّ المتهجِّدينَ يدخلُون الجنةَ بغير حسابٍ. ورُوي عن شهر بن حَوْشَب، عن أسماء بنتِ يزيدَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا جمعَ اللهُ الأوَّلِين والآخِرينَ يومَ القيامةِ جاءَ منادٍ ينادِي بصوتٍ يُسمِعُ الخلائقَ: سيعلمُ الخلائقُ اليومَ مَنْ أَوْلَى بالكرمِ، ثم يرجعُ فينادي: أينَ الذين كانوا {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}
(7)
؟ فيقومون وهم قليلٌ، ثم يرجعُ فينادي: لِيَقُمِ الَّذينَ كانوا يحمَدُونَ الله في السرَّاء والضرَّاءِ، فيقومون وهم قليلٌ، [ثم يرجع فينادي: ليقُم الذين كانت تتجافَى
(1)
سورة المزمّل الآيات 1 - 4.
(2)
أخرجه أبو داود رقم (1307) في الصلاة: باب قيام الليل، وإسناده صحيح.
(3)
في ش، ع:"ولا".
(4)
سورة الأحزاب الآية 21.
(5)
سورة السجدة الآية 16.
(6)
قطعة من حديث في "مسند أحمد" 5/ 237، و"مجمع الزوائد" 7/ 90، و"تفسير ابن كثير" 3/ 459.
(7)
سورة النور الآية 37.
جُنَوبُهم عن المضاجِع، فيقومون وهم قليلٌ]
(1)
، ثم يحاسَبُ سائرُ الناسِ". خرَّجَه ابنُ أبي الدنيا وغيرُه
(2)
. ويُروى عن شهر بن حَوْشَب، عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله. ويُروى نحوُه أيضًا
(3)
من حديث أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عُقبةَ بن عامر مرفوعًا، وموقوفًا. ويُروى نحوُه
(4)
أيضًا عن عُبَادةَ بن الصَّامتِ، وربيعةَ الجُرَشِيّ، والحسن، وكعب من قولهم.
قال بعضُ السلف: قيامُ الليل يُهوِّنُ طولَ القيام يومَ القيامة، وإذا كان أهلُه يسبِقون إلى الجنَّة بغيرِ حسابٍ، فقد استراح أهلُه من طولِ المَوقفِ للحساب. وفي حديث أبي أمامةَ وبلالٍ المرفوعِ:"عليكم بقيام اللَّيل؛ فإنَّه دَأْبُ الصَّالحين قَبْلَكُم، وإنَّ قيامَ الليل قُرْبَةٌ إلى اللهِ تعالى، وتكفيرٌ للسيئاتِ، ومَنْهاةٌ عن الإِثم، ومَطْرَدَةٌ للدَّاءِ عن الجسدِ". خرَّجه الترمذي
(5)
. ففي هذا الحديث أن قيام الليل يوجبُ صحةَ الجسدِ، ويطرُدُ عنه الدَّاءَ. وكذلك صيامُ النهارِ: ففي الطبراني، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"صومُوا تَصِحُّوا"
(6)
. وكما أن قيام الليل يكفِّر السيئاتِ، فهو يَرفعُ الدَّرجاتِ، وقد ذكرنا أن أهلَه من السَّابقين إلى الجنة بغير حسابٍ.
وفي حديث المنامِ المشهور الذي خرَّجَه الإِمامُ أحمدُ والترمذيُّ: أن الملأ الأعلى يختصِمُونَ في الدَّرجاتِ والكفاراتِ، وفيه أن الدَّرجاتِ: إطعامُ الطَّعامِ، وإفشاءُ السَّلام، والصَّلاةُ بالليل والنَّاسُ نيامٌ
(7)
. وفي المسند والترمذي وغيرهما، عن
(1)
ما بين قوسين لم يرد في (ط)، كما لم يرد في المطالب العالية.
(2)
أخرجه ابن كثير في "تفسيره" 4/ 460، وابن حجر في "المطالب العالية" رقم (4627) من حديث أسماء بنت يزيد.
(3)
لفظ "أيضًا" لم يرد في (آ).
(4)
قوله: "يروى نحوه" لم يرد في (آ).
(5)
أخرجه الترمذي برقم (3543) و (3544) في الدعوات، باب رقم (112)، ورواه أيضًا أحمد والحاكم والبيهقي عن بلال، والحاكم والبيهقي عن أبي أمامة، وابن عساكر عن أبي الدرداء، والطبراني عن سلمان، وابن السني عن جابر، وهو حديث حسن. انظر "جامع الأصول" 9/ 433.
(6)
الحديث عند أحمد في "المسند" 2/ 380 عن أبي هريرة به مرفوعًا، ولفظه:"سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا". وأخرجه أبو نعيم في الطب من حديثه مقتصرًا على "صوموا تصحوا"، والطبراني والحاكم عن ابن عباس بلفظ "سافروا تصحوا وتغنموا". وهو من الأحاديث الضعيفة. انظر المقاصد الحسنة ص 381 وتمييز الطيب من الخبيث ص 101 والأحاديث الضعيفة 253.
(7)
بعض حديث في "مسند أحمد" 1/ 368، والترمذي (3231) في التفسير، باب تفسير سورة (ص)، عن ابن عباس.
النبي صلى الله عليه وسلم مِن وجوهٍ: "إنَّ في الجنة غُرَفًا يُرى ظاهِرُها من باطِنها، وباطنُها من ظاهِرِها، وأَنَّها لأهل هذه الخصالِ الثلاثةِ
(1)
". وفي حديث عبد الله بن سلام المشهور المخرَّجِ في السُّننِ: أنه أوَّلُ ما سُمِعَ النبي صلى الله عليه وسلم يقولُ عند قدومه المدينةَ: "يا أيُّها النَّاسُ، أطعِموا الطَّعامَ، وأفشُوا السَّلامَ، وصِلُوا الأرحامَ، وصَلُّوا باللَّيل والنَّاسُ نيامٌ، تدخلُوا الجَنَّةَ بسلامٍ"
(2)
. ومن فضائل التهجُّدِ أن الله تعالى يحبُّ أهلَه، ويباهي بهم الملائكةَ، ويستجيب دعاءهم.
روى الطبراني
(3)
وغيرُه من حديث أبي الدَّرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ثلاثة يحبُّهم اللهُ ويضحَكُ إليهم، ويستبشرُ بهم". فذكرَ منهم الذي له امرأةٌ حسناءُ وفراشٌ حسنٌ، فيقومُ من الليل، فيقولُ الله تعالى: يذَرُ شهوتَه فيذكرُني، ولو شاء رَقَدَ؛ والذي إذا كان في سَفَرٍ وكان معه رَكْبٌ، فسهِرُوا ثمَّ هَجَعُوا، فقامَ من السَّحَرِ في سرَّاءَ وَضَرَّاءَ. وخرَّج الإِمامُ أحمد
(4)
والترمذي والنسائي من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ثلاثةٌ يحبُّهم الله" فذكر منهم: وقومٌ سارُوا ليلَهم حتَّى إذا كان النَّومُ أحبَّ إليهم ممَّا يُعدَلُ به، فوضعوا رؤوسهم، فقام
(5)
يتملَّقنِي ويتلو آياتي. وصححه الترمذي.
وفي المسند عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "عَجِبَ ربُّنا من رجلين
(6)
: رجلٍ ثارَ عن وِطائه ولحافه من بين أهله وحبِّهِ إلى صلاته، فيقول ربُّنا
(1)
أي إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام. والحديث رواه أحمد في "المسند" 1/ 156 عن علي بن أبي طالب و 2/ 173 عن عبد الله بن عمرو، و 5/ 343 عن أبي مالك الأشعري. ورواه الترمذي (1985) في البر، باب ما جاء في قول البر، و (2529) في الجنة، باب ما جاء في صفة غرف الجنة، عن علي أيضًا.
(2)
أخرجه الترمذي (2487) في صفة القيامة، باب رقم (43)، وإسناده صحيح، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح وأخرجه ابن ماجه رقم (1334) و (3251).
(3)
رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن، وانظر "الترغيب والترهيب" 1/ 435 و 2/ 325.
(4)
رواه الإِمام أحمد في "مسنده" 5/ 153، والنسائي 3/ 206 في فضل صلاة الليل في السفر و 5/ 84 في الزكاة، باب ثواب من يعطي، ورواه الترمذي رقم (2571) في صفة الجنة، باب رقم (25)؛ كلهم من حديث شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، عن زيد بن ظُبيان، رفعه إلى أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو حديث حسن؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(5)
في آ: "قام".
(6)
لفظ "رجلين" زيادة من ط والمسند، ولم يرد في باقي النسخ.
تبارك وتعالى: يا ملائكتي، انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه ومن بين حبِّهِ وأهلِه إلى صلاته، رغبةً فيما عندي، وشفقةً مما عندي.
[ورجلٍ غزا في سبيل الله عز وجل، وانهزم أصحابُه، وعلِمَ ما عليه في الانهزام ومالَهُ في الرجوعِ فرجع، حتى أُهَرِيقَ دمُه، فيقولُ الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رجاءً فيما عندي، وشفقةً مما عندي، حتى أُهَرِيقَ دمُه. رواه أحمد]
(1)
، وذكر بقية الحديث.
وقوله "ثار" فيه إشارة إلى قيامه بنشاطٍ وعزمٍ.
ويروى من حديث عطية عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الله يضحك إلى ثلاثةِ نفرٍ؛ رجلٍ قام من جوف الليل فأحسَنَ الطَّهور فصلَّى، ورجلٍ نام وهو ساجدٌ، ورجلٍ في كتيبة منهزمةٍ فهو على فرس جوادٍ، لو شاء أن يذهبَ لذهب"
(2)
.
وخرَّجه ابنُ ماجه من رواية مُجَالدٍ، عن أبي الوَدَّاكِ، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إنَّ الله ليضحَكُ إلى ثلاثةٍ: الصفِّ
(3)
في الصَّلاة، والرجلِ يصلِّي في جوفِ الليل، والرجلِ يقاتِلُ، أُراهُ قال: خلفَ الكتيبةِ"
(4)
.
وروينا من حديث أبان، عن أنس، عن ربيعةَ بن وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ثلاثُ مواطِنَ لا تُردُّ فيها دعوةٌ: رجلٌ يكون في بَرِّيةٍ حيثُ لا يراه أحدٌ، فيقومُ
(1)
ما بين قوسين زيادة في (ط). وتمام الحديث في المسند 1/ 416: عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"عجب ربُّنا عز وجل من رجلين؛ رجلٍ ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحِبِّه إلى صلاته، فيقول ربُّنا: أيا ملائكتي! انظروا إلى عبدي ثار من فراشه ووطائه، ومن بين حبِّه وأهله إلى صلاته رغبةً فيما عندي، وشفقةً مما عندي؛ ورجلٍ غزا في سبيل الله عز وجل فانهزموا، فعلم ما عليه من الفرار وماله في الرجوع، فرجع حتى أُهَرِيقٍ دمُه، رغبةً فيما عندي، وشفقةً مما عندي، فيقول الله عز وجل لملائكته: انظروا إلى عبدي، رجع رغبةً فيما عندي، ورهبةً مما عندي، حتى أُهَريق دمُه". ورواه أيضًا أبو داود رقم (2536) في الجهاد، باب في الرجل يشري نفسه، وهو حديث حسن. وانظر "الترغيب والترهيب" 1/ 435 - 436.
(2)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 256 عن أبي سعيد الخدري، وقال:"رواه ابن ماجه وغيره بغير هذا السياق".
(3)
في سنن ابن ماجه "للصف .. وللرجل
…
".
(4)
أخرجه ابن ماجه في المقدمة، رقم (200)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 256: في إسناده مقال.
فيصلي، فيقولُ اللهُ لملائكته: أرى عبدي هذا يعلم أن له ربًّا يغفرُ الذنبَ
(1)
، فانظروا ما يطلُبُ، فتقول الملائكةُ: أي ربّ، رضاكَ ومغفرتكَ، فيقول: اشهدوا أني قد غَفَرْتُ له [ورضيت عنه]
(2)
. ورجلٌ يقومُ من الليل، فيقولُ الله عز وجل: أليسَ قد جعلْتُ الليلَ سكنًا والنومَ سُبَاتًا، فقام عبدي هذا يصلي، يعلم أن له ربًّا [يغفر الذنوب]
(3)
، فيقولُ الله لملائكته: انظروا ما يطلبُ عبدي هذا، فتقولُ الملائكةُ: يا رب، رضاكَ ومغفرتكَ، فيقول: اشهدوا أنِّي قد غفرْتُ له". وذكر الثالث الذي يكونُ في فئةٍ فيفِرُّ أصحابُه ويثبُتُ هو. وهو مذكورٌ أيضًا في كلِّ الأحاديثِ المتقدِّمة.
وفي "المسند" و"صحيحِ ابن حِبَّان" عن عُقبةَ بن عامرٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "رجلان من أمتي يقومُ أحدُهما من الليل يعالج
(4)
نفسه إلى الطَّهُور، وعليه عُقَدٌ، فيتوضأ، فإذا وضَّأَ يَدَيْه انحلَّتْ عُقْدَةٌ، وإذا وضَّأَ وَجْهَه انحلَّتْ عُقْدَة، وإذا مَسَحَ رأسَه انحلَّتْ عُقْدَةٌ، وإذا وضَّأَ رجليه انحلَّتْ عقدَةٌ. فيقولُ الربُّ عز وجل للذين وراءَ الحِجاب: انظُروا إلى عبدِي هذا يُعالِجُ نفسَه [يسألني]
(5)
، ما سألني عبدي هذا فهو له"
(6)
. وفي الصحيحين
(7)
أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال:"نِعْمَ الرَّجُلُ عبدُ الله - يعني ابنَ عمر - لو كان يُصلِّي من الليل. فكان عبدُ الله لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلًا".
كان أبو ذر رضي الله عنه يقول للناس: أرأيتم لو أن أحدَكم أرادَ سفرًا، أليس يتَّخِذُ من الزَّادِ ما يُصْلِحُه وَيُبلِّغه؟ قالوا: بلى، قال: فسفَرُ طريقِ القيامةِ أبعدُ، فخُذُوا له ما يُصلِحُكم، حُجُّوا حَجةً لِعظائم الأمور، صُوموا يومًا شديدًا حَرُّة لحرِّ يوم النّشور،
(1)
في ش: "الذنوب".
(2)
زيادة من ش، ع.
(3)
زيادة من ش.
(4)
في آ، ش، ع:"فيعالج" وهي رواية ثانية، وما أثبتناه من ب، ط، وهو يوافق ما جاء في مسند أحمد 4/ 201 وصحيح ابن حبان.
(5)
زيادة من مسند أحمد، وفي صحيح ابن حبَّان "ليسألني".
(6)
رواه أحمد في المسند 4/ 201 و 4/ 159، وابن حبَّان في "صحيحه" 3/ 329 - 330 (ط. الرسالة). وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 224 وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير، وله سندان، رجال أحدهما ثقات.
(7)
أخرجه البخاري رقم (1122) في التهجد، باب فضل قيام الليل، وفي مواضع أخرى؛ ومسلم رقم (2478) و (2479) في فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن عمر.
صلُّوا ركعتين في ظلمة الليل لوحشة
(1)
القبور، تصدَّقوا بصدقةٍ
(2)
لشرِّ يومٍ عسيرٍ
(3)
أين رجالُ الليل، أين الحسنُ وسفيانُ وفُضَيل؟
يا رجالَ الليلِ جِدُّوا
…
رُبَّ داعٍ لا يُرَدُّ
ما يقومُ اللَّيلَ إلَّا
…
مَنْ لَهُ عَزْمٌ وجِدُّ
ليسَ شيءٌ كَصَلاةِ
…
اللَّيل للقَبْرِ يُعَدُّ
صلَّى كثيرٌ من السَّلَفِ صلاةَ الصُّبحِ بِوضوءِ العشاءِ عشرين سنةً، ومنهم من صلَّى كذلك أربعين سنة. قال بعضُهم: منذ أربعين سنةً ما أحزنني إلا طلوعُ الفجر.
قال ثابت: كَابَدْتُ
(4)
قيامَ الليل عشرين سنةً، وتنعَّمتُ به عشرين سنة أخرى. أفضَلُ قيام الليلِ وسَطُه. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أفضَلُ القيامِ قيامُ داودَ، كان يَنَامُ نِصْفَ الليلِ، ويقومُ ثلثَه، وينامُ سُدُسَه"
(5)
.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعَ الصَّارِخَ يقومُ للصَّلاة
(6)
. والصَّارِخُ: الدِّيكُ، وهو يصيحُ وسَطَ الليل.
وخرَّج النسائي عن أبي ذر، قال: سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الليلِ خيرٌ؟ قال: جوفُهُ
(7)
. وخرَّج الإمامُ أحمد
(8)
، عن أبي ذر، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "أيُّ قيامِ الليلِ أفضلُ؟ قال: "جَوْفُ الليل الغابِر، أو نصفُ الليلِ، وقليلٌ فاعِلُه". وخرَّج ابنُ
(1)
في ب، ط، ع:"لظلمة".
(2)
في آ، ع:"صدقة".
(3)
أخرجه ابن الجوزي بنحوه في "صفة الصفوة" 1/ 592.
(4)
كابد الأمر: قاسَى شدته.
(5)
في "صحيح البخاري" رقم (1131) في التهجد، باب من نام عند السحر. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"أحَبُّ الصَّلاة إلى الله صلاة داو عليه السلام، وأحبُّ الصيام إلى الله صيامُ داود، وكان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا".
(6)
في ع وهامش ب عن نسخة: "إلى الصلاة". والحديث أخرجه البخاري رقم (1132) في التهجد، باب من نام عند السحر؛ ومسلم رقم (741)، في صلاة المسافرين، باب صلاة الليل؛ عن عائشة رضي الله عنها.
(7)
من حديث طويل أخرجه النسائي عن عمرو بن عَبَسَة رقم (572) و (584) مواقيت.
(8)
مسند أحمد 5/ 179. والغابر من الليل: ما بقي منه.
أبي الدنيا من حديث أبي أمامة أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ الله، أيُّ الليل
(1)
أفضلُ؟ قال: جوفُ الليل الأوسَطِ. قال: أيُّ الدُّعاءِ أسمعُ؟ قال: دُبُرَ الصَّلوات
(2)
المكتوباتِ.
وخرَّجه الترمذي والنسائي، ولفظهما أنه سأله
(3)
: أيُّ الدُّعاءِ أسمعُ؟ قال: جوف الليلِ الأخيرِ، ودُبُرَ الصلواتِ المكتوباتِ"
(4)
. وخرَّج الترمذي
(5)
من حديث عمرو بن عبَسَة
(6)
[أنه]
(7)
سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، يقول:"أقربُ ما يكونُ الربُّ من العَبْدِ في جَوْفِ الليلِ، فإن استطعْتَ أن تكونَ ممَّن يذكُرُ الله في تلك الساعةِ فكُنْ".
ويُروى أن داودَ عليه السلام، قال: يا ربّ، أيُّ وقتٍ أقومُ لك؟ قال: لا تقمْ أوَّلَ الليلِ، ولا آخِرَه، ولكن قُمْ وسَطَ الليلِ حتَّى تخلو بي وأخلُو بك، وارفَعْ إليَّ حوائجَكَ. وفي الأثَر المشهور: كَذَبَ مَن ادَّعَى محبَّتي، فإذا جنَّه الليلُ نام عنِّي، أليس كلُّ مُحبٍّ يُحبُّ خلوةَ حبيبِهِ، فها أنا ذا مُطّلعٌ على أحبابي، إذا جنَّهم الليلُ جعلْتُ أبصارَهُم في قلوبهم، فخاطَبُوني على المشاهدة، وكلَّمُوني على حُضوري، غدًا أُقِرُّ أعيُنَ أحبابي في جِناني.
اللَّيلُ لي ولأحبابي أُحَادِثهُمْ
…
قد اصْطفيتُهُم كَيْ يَسْمَعُوا ويَعُوا
لَهُم قلوبٌ باسْراري لها
(8)
مُلئتْ
…
على ودادِي وإرشادِي لهم طُبعُوا
سَروا فما وَهَنُوا عَجْزًا ولا ضَعُفُوا
…
وواصَلُوا حَبْلَ تقريبي فما انقطعُوا
ما عندَ المحبِّينَ ألذُّ مِن أوقاتِ الخَلْوةِ بمناجاةِ محبوبهم، هو شفاءُ قلوبهم، ونهايةُ مطلوبهم.
كَتَمْتُ اسْمَ الحَبيبِ مِنَ العِبادِ
…
وَرَدَّدْتُ الصَّبَابةَ في فؤادِي
(1)
في ب، ش، ط:"الصلاة".
(2)
لفظ "الصلوات" لم يرد في ب، ش، ط.
(3)
في آ: "سأل".
(4)
رواه الترمذي رقم (3494) في الدعوات، باب رقم (80)، وقال: هذا حديث حسن.
(5)
رواه الترمذي رقم (3574) في الدعوات، باب رقم (129) وصححه، وهو كما قال، وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه والنسائي والحاكم وصححه.
(6)
تحرفت في المطبوع إلى "عنبسة". وهو عمرو بن عَبَسَةَ بن عامر بن خالد السّلمي، أبو نجيح. صحابي مشهور، أحد السابقين، ومن كان يقال: هو ربع الإِسلام.
(7)
زيادة من نسخة (ش).
(8)
في ط: "بها".
فيا شَوْقًا
(1)
إلى بلدٍ خَلِيٍّ
…
لَعلِّيَ باسْمِ مَنْ أَهْوَى أنادِي
كان داود الطائي
(2)
يقولُ في الليل: همُّكَ عطَّلَ عليَّ الهمومَ، وحالَفَ بيني وبين السُّهادِ، وشَوْقي إلى النظر إليك أوثَقَ منِّي اللذات، وحالَ بيني وبين الشهواتِ. وكان عُتبةُ الغُلامُ
(3)
يقولُ في مناجاتِه بالليل: إن تُعَذبْني فإنِّي لَكَ محبٌّ، وإن تَرحَمْني فإنِّي لكَ محبٌّ.
لَوَ انَّكَ أَبْصَرْتَ أَهْلَ الهوَىَ
…
إذا غَارَتِ الأَنْجُمُ الطُّلَّعُ
فهذا يَنُوحُ على ذَنْبِهِ
(4)
…
وهذا يُصَلِّي وذا يَرْكَعُ
مَنْ لم يشاركْهُم في هواهم وذوق
(5)
حلاوة نجواهم، لم يَدْرِ ما الذي أبكاهم.
من لم يشاهد جمال يوسُفَ لم يَدْرِ ما الذي آلم قلبَ يعقوبَ.
مَنْ لم يَبِتْ والحبُّ حَشْوُ فؤادِهِ
…
لم يَدْرِ كيفَ تفتُّتُ الأَكْبَادِ
كان أبو سليمان
(6)
يقول: أهلُ الليل
(7)
في ليلهم ألذُّ مِن أهلِ اللهو في لهوهم، ولولا الليلُ ما أحببتُ البقاءَ في الدُّنيا
(8)
. وسَطُ الليل للمحبِّينَ للخلوةِ بمناجاةِ حبيبهم، والسَّحَرُ
(9)
للمذنبين للاستغفار من ذنوبهم، فوسَطُ الليلِ خاصٌّ لخلوةِ الخواصِّ، والسَّحَرُ عامٌّ لرفعِ قَصَصِ الجميع، وبروز التواقيع لأهلها بقضاء الحوائج، فمن عَجَزَ عن مسابقةِ المحبِّينَ في مَيْدَانِ مِضْمارِهم فلا يَعجِزُ عن مشاركةِ المذنبينَ في استغفارهم واعتذارِهم. صحائفُ التائبين خدودُهم، ومدادُهم دموعُهُم. قال بعضهم:
(1)
في آ، ش، ع:"فواشوقًا".
(2)
هو داود بن نصير الطائي، أبو سليمان، من أئمة المتصوفين. مات سنة 165 هـ. والخبر في صفة الصفوة 3/ 141.
(3)
هو عتبة بن أبان بن صمعة البصري، وإنما سمِّي بالغلام لجدّه واجتهاده، لا لصغر سنه. اشتغل عتبة بالعبادة عن الرواية. وكان يشبّه في حزنه بالحسن البصري. قتل شهيدًا في بعض الغزوات. والخبر في "صفة الصفوة" 3/ 371.
(4)
في ش: "على نفسه".
(5)
في آ: "ويذوق".
(6)
هو أبو سليمان الداراني، عبد الرحمن بن أحمد، الإِمام الكبير، زاهد العصر، توفي نحو سنة 190 هـ. (ترجم في حلية الأولياء 9/ 254 وسير أعلام النبلاء 10/ 182).
(7)
وفي رواية: "أهل الطاعة".
(8)
انظر الحلية 9/ 275 وتاريخ بغداد 10/ 249 والبداية والنهاية 10/ 257.
(9)
السَّحَرُ: قبيل الصُّبْح.
إذا بكى الخائفون فقد كاتبوا الله بدموعهم. رسائلُ الأسحارِ تُحملُ ولا يَدرِي بها الفلكُ، وأجوبتُها تَرِدُ إلى الأسرارِ ولا يعلَم بها المَلَكُ.
صَحائِفُنا إشارَتُنا
(1)
…
وأكثرُ رُسْلِنا الحُرَقُ
لأنَّ الكُتْبَ قد تُقرا
…
بغيرِ
(2)
الدَّمعِ لا تَثِقُ
لا تَزالُ القصصُ تُستعرَضُ وتوقَّع
(3)
بقضاء حوائج أهلِها إلى أن يطلُعَ الفجرُ. ينزل ربُّنا كلَّ ليلةٍ إلى السَّماء الدُّنيا، فيقول: هل من تائبٍ فأتوبَ عليه؟ هل من مستغفر فأغفِرَ له؟ هل من داعٍ فأجيبَ دعوتَه؟ إلى أن ينفجرَ الفجرُ
(4)
. فلذلك كانوا يفضِّلون صلاةَ آخر الليلِ على أوله.
نحنُ الذين إذا أتانا سائِلٌ
…
نُولِيه إحسانًا وحُسْنَ تَكَرُّمِ
ونقولُ في الأسحارِ هل مِن تائبٍ
…
مُستغفرٍ لِينَالَ خَيْرَ المغنَمِ
الغنيمةُ تُقسَمُ على كلِّ مَن حضَرَ الوقعةَ، فيعطَى منها
(5)
الرجَّالةُ
(6)
والأُجراءُ والغِلمانُ مع الأمراءِ والأبطالِ والشجعانِ والفرسانِ، فما يطلُعُ فجرُ الأجرِ إلَّا وقد حاز القومُ الغنيمةَ، وفازوا بالفَخْرِ، وحمِدوا عند الصَّباح السُّرَى
(7)
، وما عند أهلِ الغَفْلَةِ والنومِ خَبَرٌ ممَّا جَرَى.
كان بعضُ الصالحين يقوم الليل، فإذا كان السَّحَرُ نادى بأعلى صوته: يا أيُّها الرّكبُ
(8)
المُعرِّسُون
(9)
، أَكُلَّ هذا الليل ترقُدُونَ؟ ألا تقومون فترحَلُون؟ فإذا سمِعَ الناسُ صوتَه وثَبُوا مِن فُرُشِهم؛ فيُسْمَعُ من هنا باكٍ، ومن هنا داعٍ، ومن هنا تالٍ،
(1)
في آ: "إشاراتنا".
(2)
في آ: "وبغير".
(3)
في ش، ع:"ويوقّع عليها".
(4)
أخرجه مسلم رقم (758)(170) و (172) في صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإِجابة فيه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والمؤلف يورد الحديث بالمعنى.
(5)
لفظ "منها" لم يرد في آ، ش، ع.
(6)
الرجِّالة: جمع رجل.
(7)
السُّرَى: سيرُ الليل عامَّته. وقيل: سيرُ الليل كلَّه. وفي المثل: "عند الصباح يحمَدُ القومُ السُّرَى".
(8)
الرَّكب: أصحاب الإِبل في السفر.
(9)
عرَّس المسافر: نزل في وجه السحر. والتعريس: نزول القوم في السفر من آخر الليل، يقعون فيه وقعة للاستراحة ثم يرحلون.
ومن هنا متوضئ، فإذا طلع الفجرُ نادى بأعلى صوته:"عند الصَّباح يحمَدُ القومُ السُّرَى"
(1)
.
يا نفسُ قُومي فَقَدْ نَامَ الوَرَى
…
إنْ تَصْنَعِي
(2)
الخيرَ فذو العَرْش يَرَى
وأنتِ يا عينُ دعي عنكِ الكَرَى
…
عندَ الصَّباحِ يحمَدُ القَوْمُ السُّرَى
يا قُوَّامَ الليلِ اشفعوا في النُّوَّامِ، يا أحياءَ القلوبِ ترحَّموا على الأموات. قيل لابن مسعودٍ رضي الله عنه: ما نستطيعُ قيامَ الليل، قالَ: أقعدَتْكُم
(3)
ذنوبُكُم. وقيل للحسن: قد أعجزَنا قيامُ الليلِ، قال: قيَّدَتْكُم خطاياكُم. وقال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدِرْ على قيامِ الليلِ وصيامِ النَّهارِ، فاعلم أنَّكَ محرومٌ [مُكَبَّلٌ]
(4)
، كبَّلَتْكَ خطيئتُكَ.
قال الحسن: إنَّ العبدَ لَيُذنبُ الذنبَ فيُحرَمُ به قيامَ الليل. قال بعض السّلف: أذنبْتُ ذنبًا فحُرمْتُ به قيامَ الليل ستةَ أشهرٍ. ما يؤهِّلُ الملوكُ للخلوة بهم إلَّا مَن أخلصَ في ودِّهم ومعاملتِهم، فأمَّا مَن كان مِن أهل المخالفة فلا يُؤهِّلُونه. في بعض الآثار أن جبريلَ عليه السلام ينادي كلَّ ليلةٍ: أَقِمْ فلانًا وأنِمْ فلانًا. قام بعضُ الصالحين في ليلةٍ باردةٍ وعليه ثيابٌ رثةٌ، فضربَهُ البردُ فبكى، فهتَفَ به هاتفٌ: أقمناكَ وأنمناهم، ثم تبكي علينا!
يا حُسْنَهُمْ واللَّيلُ قَدْ جنَّهُم
…
ونورُهُم يفوقُ نُورَ الأَنْجُمِ
ترنَّموا بالذِّكْر في لَيْلِهِم
…
فعيشُهُم قدْ طَابَ بالتَّرَنُّمِ
قلوبُهُم للذِّكْر قَدْ تفرَّغَتْ
…
دُمُوعُهُم كَلُؤلؤٍ مُنظَّم
(5)
أسحارُهُم بهم لَهُمْ قد أشرَقَتْ
…
وخِلَعُ الغُفْرانِ خَيْرُ القِسَمِ
(1)
مثل تجده في كتاب الأمثال لأبي عبيد 170 و 231 والفاخر 193 وأمثال العسكري 2/ 42 والميداني 2/ 3 والزمخشري 2/ 168.
(2)
في آ: "واصنعي"، وفي ع:"واصطنعي".
(3)
في آ، ش:"أبعدتكم".
(4)
زيادة من ش، ع.
(5)
في آ، ع:"منتظم".
الليلُ مَنْهَلٌ يَرِدُه أهلُ الإرادة كلُّهم، ويختلفون فيما يَرِدُون ويُريدون {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}
(1)
، فالمحِبُّ يتنعَّمُ بمناجاةِ محبوِبه، والخائفُ يتضرَّعُ لطلبِ العفوِ ويبكي على ذنوبِه، والراجي يُلحُّ في سؤالِ مَطلوِبه، والغافلُ المسكينُ أحسنَ اللهُ عَزاءَه في حرمانِه وفواتِ نصيبه. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:"لا تكُنْ مِثلَ فلانٍ، كانَ يقومُ اللَّيلَ فتَرَكَ قيامَ الليلِ"
(2)
.
مرِضَتْ رابعةُ
(3)
مرَّةً فصارت تصلِّي وِرْدَها بالنَّهار فعوفيَتْ، وقد أَلِفَتْ ذلك وانقطَعَ عنها قيامُ اللَّيلِ، فرأتْ ذاتَ ليلةٍ في نومِها كأنَّها أُدخِلَتْ إلى روضةٍ خضراءَ عظيمةٍ، وفُتِحَ لها فيها بابُ دارٍ، فسَطَعَ منها نورٌ حتَّى كادَ يَخْطَفُ بصَرَها، فخرَجَ منها وُصَفَاءُ كأنَّ وجوهَهُمُ اللؤلؤ، بأيديهم مجامِرُ، فقالت لهم امرأةٌ كانت مع رابعَةَ: أين تريدون؟ قالوا: نريدُ فلانًا قُتِلَ شهيدًا في البحر، فنُجَمِّرُهُ، فقالتْ لهم: أفلا تجمِّرُونَ هذه المرأةَ؟ تعني رابعةَ، فنظَرُوا إليها وقالوا: قد كان لها حظٌّ في ذلك فتركَتْهُ، فالتفتَتْ تلك المرأةُ إلى رابعةَ وأنشدَتْ:
صَلاتُكِ نورٌ والعِبادُ رُقُودُ
…
ونومُكِ ضدٌّ للصَّلاةِ عَنِيدُ
وكان بعضُ العلماء يقومُ السَّحَرَ، فنامَ عن ذلك لياليَ، فرأى في منامِه رجلين وقفا عليه وقال أحدُهما للآخر: هذا كان من المستغفرين بالأسْحارِ، فتركَ ذلك. يا من كان له قلبٌ فانقلب، يا من كان له وقتٌ مع اللهِ فذهَب؛ قيامُ السَّحَرِ يستوحِشُ لكَ، صيامُ النَّهارِ يُسائِلُ عنكَ، ليالي الوِصالِ تُعاتِبكَ على الهَجْرِ.
تَغَيَّرْتُمُ عنَّا بصُحْبَةِ غَيْرِنا
…
وأظهرتُم الهِجْرانَ مَا هكذا كُنَّا
(1)
سورة البقرة الآية 60.
(2)
رواه البخاري رقم (1152) في التهجد، باب ما يكره من ترك قيام الليل؛ ومسلم رقم (1159) في الصيام، باب النهي عن صوم الدهر؛ والنسائي 3/ 253 في قيام الليل، باب ذم من ترك قيام الليل، وأحمد في مسنده 2/ 170؛ كلهم من طريق الأوزاعي.
(3)
هي رابعة العدوية، مولاة آل عتيك البصرية، الزاهدة، العابدة، من أهل البصرة، لها أخبار في العبادة والنسك. توفيت سنة 135 هـ، وقيل غير ذلك. قال ابن خلكان: وقبرها يزار، وهو بظاهر القدس من شرقيه، على رأس جبل يسمى الطور. (وفيات الأعيان 3/ 215، صفة الصفوة 4/ 27، سير أعلام النبلاء 8/ 215).
وأقسمْتُمُ ألَّا تَحُولُوا عن الهَوَى
…
فحلْتُم عن العهدِ القَديم وما حُلْنا
لياليَ كُنَّا نستقِي مِن وِصالِكُم
…
وقلبي إلى تِلكَ الليالِيَ قَدْ حَنَّا
قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلانًا نامَ حتَّى أصبحَ. فقال: "بالَ الشيطانُ في أُذنِهِ"
(1)
. كان سرِيٌّ
(2)
يقول: رأيتُ الفوائدَ تَرِدُ في ظُلمَةِ الليلِ، ماذا فاتَ مَن فاتَهُ خيرُ اللَّيلِ؟ لقد حصَلَ أهلُ الغَفْلةِ والنَّومِ على الحِرْمانِ والوَيْلِ. كان بعضُ السلف يقومُ بالليل، فنامَ ليلةً فأتاهُ آتٍ في منامِه، فقال له: قُمْ فصَلِّ، ثم قال له: أما علِمْتَ أن مفاتيحَ الجنَّةِ مع أصحابِ اللَّيلِ هُم خُزَّانُها
(3)
. وكان آخَرُ يقومُ الليلَ، فنامَ ليلةً فأتاه آتٍ في منامِه، فقال: ما لكَ قصَّرْتَ في الخِطْبَةِ؟ أما علِمْتَ أن المتهجِّدَ إذا قام إلى تهجُّدِه قالت الملائكة: قامَ الخاطِبُ إلى خِطْبَتِهِ.
وَرَأى بعضهم حوراءَ في نَوْمِهِ، فقال لها: زوجيني نفسَكِ، قالت: اخطُبْنِي إلى ربِّي وأمْهِرْني، قال: ما مَهْرُكِ؟ قالتْ: طولُ التهجُّدِ.
نام ليلة أبو سليمان الدَّاراني
(4)
فأيقظته حوراءُ وقالت: يا أبا سليمان، تنامُ وأنا أُربَّى لكَ في الخُدُورِ من خمسمائةِ عام
(5)
؟. واشترى بعضهُم من الله تعالى حوراءَ
(1)
رواه البخاري رقم (1144) في التهجد، باب إذا نام ولم يصلِّ بالَ الشيطانُ في أُذُنه، وفي بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده؛ ومسلم رقم (774) في صلاة المسافرين، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح؛ والنسائي 3/ 204 في قيام الليل، باب الترغيب في قيام الليل؛ وابن ماجه رقم (1330) في الإِقامة، باب ما جاء في قيام الليل؛ كلهم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وفي معنى "بال الشيطان في أذنه" قال النووي في شرح مسلم 6/ 63: اختلفوا في معناه؛ فقال ابن قتيبة: معناه: أفسده، يقال: بال في كذا، إذا أفسده. وقال المهلب والطحاوي وآخرون: هو استعارة وإشارة إلى انقياده للشيطان، وتحكمه فيه، وعقده على قافية رأسه "عليك ليل طويل" وإذلاله له. وقيل: معناه: استخف به واحتقره واستعلى عليه، يقال لمن استخف بإنسان وخدعه: بال في أذنه، وأصل ذلك في دابة تفعل ذلك بالأسد إذلالًا له. وقال الحربيّ: معناه: ظهر عليه وسخر منه. قال القاضي عياض: ولا يبعد أن يكون على ظاهره؛ قال: وخص الأذن لأنها حاسة الانتباه.
(2)
هو سَريّ بن المغلس السَّقطي، أبو الحسن. من كبار المتصوفة، وهو أول من تكلَّم في بغداد بلسان التوحيد وأحوال الصوفية، وهو خال الجنيد وأستاذه. مات سنة 253 هـ. وانظر الخبر وترجمته في "صفة الصفوة" 2/ 375.
(3)
عبارة "هم خزانها" مكررة في ب، ط.
(4)
لفظة "الداراني" لم ترد في ب، ع، ط.
(5)
أخرجه ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 4/ 224.
بصَدَاق ثلاثين ختمةً، فنامَ ليلةً قَبلَ أن يُكمِلَ الثلاثين، فرآها في منامِه تقول له:
أتخطُبُ مِثلي وَعَنِّي تَنَامُ
…
وَنوْمُ المحبِّينَ عنِّي
(1)
حَرَامُ
لأنَّا خُلِقْنا لِكُلِّ امْرِئٍ
…
كثيرِ الصَّلاةِ بَرَاهُ الصِّيَامُ
كان النبي صلى الله عليه وسلم يطرُقُ بابَ فاطمةَ وعليٍّ، ويقول: ألا تُصلِّيانِ
(2)
؟. وفي الحديث: "إذا استيقَظَ الرَّجُلُ وأيقَظَ أهلَه فَصَلَّيا رَكْعَتَيْنِ كُتِبا مِنَ الذَّاكِرينَ الله كثيرًا والذاكراتِ"
(3)
.
كانت امرأةُ حَبيبٍ العَجَمي
(4)
تُوقِظُهُ بالليل وتقولُ: ذهَبَ الليلُ وبين أيدينا طريق بعيد، وزادُنا قليل، وقوافِلُ الصالحينَ قد سارت قُدَّامَنا ونحنُ قد بَقِينا.
يا راقدَ اللَّيلِ كَمْ تَرْقُدُ
…
قُمْ يا حَبِيبي قَدْ دَنَا المَوْعِدُ
وخُذْ مِنَ اللَّيلِ وأوقاتِهِ
…
وِرْدًا إذا ما هَجَعَ الرُّقَّدُ
مَن نَامَ حتَّى ينقضِي ليلُهُ
…
لم يَبْلُغ المَنْزِلَ أوْ يَجْهَدُ
قُلْ لِأولِي الألبابِ أهلِ التُّقَى
…
قَنْطَرةُ العَرْضِ لكُم مَوْعِدُ
* * *
(1)
في آ: "عنّا".
(2)
رواه البخاري رقم (1127) في التهجد، باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب، وفي تفسير سورة الكهف، باب وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا؛ ومسلم رقم (775) في صلاة المسافرين، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح؛ والنسائي 3/ 205، 206 في قيام الليل، باب الترغيب في قيام الليل، كلهم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(3)
رواه أبو داود رقم (1309) في الصلاة، باب قيام الليل، ورقم (1451)، باب الحث على قيام الليل، من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، وإسناده صحيح. ورواه ابن ماجه رقم (1335) في إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل.
(4)
لفظ "العجمي" لم يرد في ب، ش، ع، ط. وهو حبيب بن محمد، زاهد أهل البصرة وعابدهم، كان مجاب الدعوة، تؤثر عنه كرامات وأحوال، روى عن الحسن البصري، مات نحو سنة 140 هـ.
المجلس الثاني في يوم عاشوراء
في الصحيحين
(1)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن صَوْمِ يوم عاشوراء، فقال:"ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صامَ يومًا يتحرَّى فَضْلَه على الأيام إلَّا هذا اليوم، يعني يوم عاشوراء؛ وهذا الشهر، يعني رمضان". يوم عاشوراء له فضيلةٌ عظيمة وحرمةٌ قديمةٌ، وصومُهُ لفضلِهِ كان معروفًا بين الأنبياء عليهم السلام، وقد صامَه نوحٌ وموسى عليهما السلام، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وروى إبراهيمُ الهَجَرِيُّ
(2)
، عن أبي عِياضٍ
(3)
، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"يومُ عاشوراءَ كانت تصومُهُ الأنبياءُ فصُومُوه أنتُم". خرَّجَه بَقِيُّ بن مَخْلَدٍ
(4)
في "مسنده". وقد كان أهلُ الكتاب يَصُومُونه، وكذلك قريش في الجاهلية كانت تصومُه. قال دَلْهَمُ بنُ صالح
(5)
: قلْتُ لَعكْرِمَةَ: عاشوراء ما أمرُه؟ قال: أذنبَتْ قريشٌ في الجاهلية ذنبًا فتعاظَمَ في صُدُورِهم، فسألوا ما تَوبتُهم، قيل: صَوْمُ عاشوراء، يوم العاشر من المحرم. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في صيامه أربعُ حالات:
الحالة الأولى: أنه كان يصومُه بمكة ولا يأمر الناسَ بالصوم. ففي الصحيحين عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: "كان عاشُوراءُ يومًا تصومُه قريشٌ في الجاهليَّة، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصومُه، فلمَّا قدِمَ المدينةَ صَامَهُ وأمَرَ بصيامِهِ، فلما نزلتْ فريضةُ شهرِ
(1)
رواه البخاري رقم (2006) في الصوم، باب صيام يوم عاشوراه؛ ومسلم رقم (1132) في الصيام، باب صوم يوم عاشوراء؛ والنسائي 4/ 204 في الصوم، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
هو إبراهيم بن مسلم العَبْدي، أبو إسحاق الهَجَري، ليِّن الحديث، ليس بالقويّ، رفع الموقوفات. قال ابن عدي: وأحاديثه عامّتها مستقيمة المتن، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبي الأحوص، عبد عبد الله؛ وهو عندي ممن يُكتب حديثه. (تهذيب الكمال 2/ 203).
(3)
هو عمرو بن الأسود العَنسي، ويكنى أبا عياض، حمصي، سكن داريّا، مخضرم، ثقة، عابد، من كبار التابعين، مات في خلافة معاوية. (تقريب التهذيب 2/ 65).
(4)
بقِي بن مَخْلَد بن يزيد، أبو عبد الرحمن الأندلسي القرطبي، صاحب "التفسير" و "المسند" اللذين لا نظير لهما. كان إمامًا مجتهدًا، انتشرت كتبه وتداولها القراء والدارسون في أيام حياته. وكان بقيّ أوَّل من كثر الحديث بالأندلس ونشره. مات سنة 276 هـ. (معجم الأدباء 7/ 75، تذكرة الحفاظ 2/ 629، سير أعلام النبلاء 13/ 285).
(5)
دَلْهَم بن صالح الكندي الكوفي، يروي عن عكرمة بن عبد الله، مولى ابن عباس. ضعفه ابن حجر في التقريب.
رمضانَ كان رمضانُ هو الذي يصومُه، فتَرك يومَ عاشوراءَ، فَمَن شاءَ صامهُ، ومَن شاء أفطرَهُ"
(1)
. وفي رواية للبخاري
(2)
: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَاءَ فليصم
(3)
، ومن شاء أفطرَ".
الحالة الثانية: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قدِمَ المدينةَ ورأى صيامَ أهلِ الكتاب لهُ وتعظيمَهم لهُ، وكان يحبُّ موافقَتَهم فيما لم يؤمَرْ به، صامَة، وأمَرَ النَّاسَ بصيَامه، وأكَّدَ الأمْرَ بصيامه، والحثَّ عليه، حتَّى كانوا يُصَوِّمُونَه أطفالهُم.
ففي الصحيحين عن ابن عباس، قال: "قدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ فوجَدَ اليهودَ صُيَّامًا يومَ عاشوراءَ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليومُ الذي تصُومُونه؟ قالوا: هذا يومٌ عظيم أنجى
(4)
الله فيه موسى وقومَه، وأغرَق فرعونَ وقومَه، فصَامَهُ مُوسى شُكرًا، فنحنُ نصُومُهُ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: فنحنُ أحقُّ وأولى بموسى منكم، فصَامَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأمَرَ بصيامه
(5)
.
وفي مسند الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: مرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأناسٍ من اليهود قد صاموا يوم
(6)
عاشوراء، فقال: ما هذا من الصَّوم؟ قالوا: هذا اليومُ الذي نجَّى الله عز وجل فيه
(7)
موسى عليه السلام وبني إسرائيلَ من الغَرَقِ، وغَرَّق
(8)
فيه فرعون. وهذا يومٌ استوت فيه السفينة على الجُودِي
(9)
، فصامَ نوحٌ وموسى
(1)
رواه البخاري رقم (2002) في الصوم، باب صوم يومٍ عاشوراء، وباب وجوب الصوم، وفي الحج، باب قول الله تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} ، وفي فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب أيام الجاهلية، وفي تفسير سورة البقرة، باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ، ومسلم رقم (1125) في الصيام، باب صوم عاشوراء.
(2)
هي في فتح الباري 4/ 244 رقم (2003): "فمن شاء فلْيَصُمْ، ومن شاء فليفطر".
(3)
في ب، ط:"فليصمه".
(4)
في ش: "نجَّى".
(5)
رواه البخاري رقم (2004) في الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، وفي الأنبياء، باب قول الله تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} ، وفي فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب إتيان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، وفي تفسير سورة يونس، وفي تفسير سورة طه. ورواه مسلم رقم (1130) في الصيام، باب صوم يوم عاشوراء.
(6)
لفظة "يوم" وردت في نسخة آ فقط.
(7)
لفظة "فيه" لم ترد في ب، ط.
(8)
في ش: "وإغرق".
(9)
الجُودِي: جبل مطِلٌّ على جزيرة ابن عمر في الجانب الشرقي من دجلة من أعمال الموصل، عليه استوت سفينة نوح عليه السلام. (ياقوت).
عليهما السلام شكرًا لله عز وجل. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنا
(1)
أحقُّ بموسى وأحقُّ بصوم هذا اليوم، فأمَرَ أصحابَهُ بالصَّوم
(2)
. وفي الصحيحين عن سَلَمة بن الأَكْوَعِ
(3)
رضي الله عنه: "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رجلًا مِن أَسْلَمَ: أنْ أذِّنْ في النَّاسِ: مَنْ أَكَلَ فليَصُمْ بَقيَّةَ يومِهِ، ومَنْ لَمْ يَكنْ أكَلَ فلْيَصُمْ؛ فإنَّ اليومَ يومُ عاشوراءَ"
(4)
.
وفيهما
(5)
أيضًا عن الرُّبَيِّعِ
(6)
بِنْتِ مُعَوِّذ، قالت: "أرسلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غَداةَ عاشوراءَ إلى قُرَى الأَنْصَار التي حولَ المدينةِ: مَنْ كان أصبَحَ صائمًا فليُتِمَّ صَوْمَهُ، ومَنْ كانَ أصبَحَ مفطِرًا فليُتِمَّ بقيَّةَ يومِهِ. فكُنَّا بعدَ ذلك نصومُهُ، ونُصَوِّم صِبيانَنا الصغارَ منهم، ونَذْهَبُ إلي المسجد فنجعَلُ لهم اللُّعْبةَ مِنَ العِهْنِ
(7)
، فإذا بكى أحدُهُم على الطَّعامِ أَعْطَيْناهُ إيَّاها حتَّى يكونَ عند الإِفطار". وفي رواية
(8)
: "فإذا سألونا
(9)
الطَّعامَ أعطيناهم اللعبةَ تُلْهِيهِم، حتى يُتِمُّوا صَوْمَهُم. وفي الباب أحاديثُ كثيرة جدًّا.
وخرَّجَ الطبرانيُّ بإسنادٍ فيه جَهَالة، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو يومَ عاشوراءَ برُضَعَائِهِ ورُضَعَاءِ ابنتِهِ فاطمةَ فَيَتْفُلُ في أفواهِهِم، ويقولُ لأمَّهاتِهم: لا تُرْضِعوهُم إلى الليل، وكان ريقُهُ صلى الله عليه وسلم يجزئهم. وقد اختلفَ العلماءُ رضي الله عنهم، هل كان صومُ يومِ عاشوراءَ قبلَ فرضِ شهرِ رمضانَ واجبًا أم كان سنةً متأكدَةً
(10)
؟ على قولين مشهورين؛ ومذهبُ أبي حنيفةَ أنَّه كان واجبًا حينئذ، وهو ظاهرُ كلام الإمام أحمد وأبي بكر
(1)
في آ: "أنا أحق بصوم هذا اليوم".
(2)
رواه أحمد في "المسند" 2/ 359 - 360.
(3)
هو سلمة بن عمرو بن سنان الأكْوَع الأسلمي، صحابي، قيل: شهد مؤتة، وهو من أهل بيعة الرضوان. غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وكان شجاعًا بطلًا راميًا عدَّاءً، وهو ممن غزا إفريقية في أيام عثمان، له 77 حديثًا، توفي في المدينة سنة 74 هـ، رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري رقم (2007) في الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، وباب إذا نوى بالنهار صومًا؛ وفي خبر الواحد، باب ما كان يبعث النبي صلى الله عليه وسلم من الأمراء والرسل واحدًا بعد واحد. ورواه مسلم رقم (1135) في الصيام، باب مَن أكل في عاشوراء فليكفّ بقية يومه.
(5)
صحيح البخاري رقم (1960) في الصوم، باب صوم الصبيان؛ وصحيح مسلم رقم (1136) في الصيام، باب من أكل في عاشوراء فليكفّ بقية يومه.
(6)
هي الرُّبَيع بنت معَوِّذ بن عفراء الأنصارية، من بني النجار. لها صحبة ورواية، وقد زارها النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة عرسها صلة لرحمها. وأبوها من كبار البدريين، قتل أبا جهل. عمِّرت دهرًا، وروت أحاديث. توفيت في خلافة عبد الملك سنة بضع وسبعين، رضي الله عنها.
(7)
العهْن: الصوف.
(8)
هي عند مسلم رقم (1136) في الصيام: باب صوم يوم عاشوراء.
(9)
في آ: "سألوا".
(10)
في ع: "مؤكدة".
الأثْرَم
(1)
. وقال الشافعي رحمه الله: بلْ كانَ متأكّدَ الاستحبابِ فقَطْ، وهو قولُ كثير من أصَحابنَا وغيرِهم.
الحالة الثالثة: أنه لما فُرِضَ صيامُ شهرِ رمضانَ ترك النبي صلى الله عليه وسلم أَمْرَ أصحابِه
(2)
بصيام يوم عاشوراءَ وتأكيده فيه، وقد سَبَقَ حديث عائشةَ في ذلك. وفي "الصحيَحين"
(3)
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:"صامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عاشوراءَ وأمَرَ بصيامِهِ، فلمّا فُرِضَ رمضانُ تركَ ذلك". وكان عبد الله لا يصومُه إلَّا أن يوافق صومَه. وفي روايةٍ لمسلم
(4)
: أن أهلَ الجاهلية كانوا يَصُومُونَ يومَ عاشوراءَ، وأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صامَهُ، والمسلمون، قبلَ أن يُفْرَضَ
(5)
رمضانُ، فلمّا فُرِضَ افتُرِض
(6)
رمضانُ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن عاشُوراءَ يومٌ من أيَّامِ الله؛ فمَنْ شَاءَ صَامَهُ، ومَنْ شَاءَ تَرَكَهُ". وفي رواية
(7)
له أيضًا: "فَمَنْ أحَبَّ منكم أن يَصُومَهُ فليصُمْهُ، ومَنْ كَرِهَ فَلْيَدَعْهُ".
وفي "الصحيحين"
(8)
أيضًا عن معاوية، قال: سمعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "هذا يومُ عاشوراءَ، ولم يَكْتُب الله عليكم صيامَهُ، وأنا صائمٌ؛ فَمَنْ شاءَ فَلْيَصُمْ، ومَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ". وفي رواية لمسَلم
(9)
التَّصريحُ برفع آخرِه. وفي رواية للنسائي
(10)
أن آخره مُدْرَجٌ
(11)
من قول مُعَاوِيَةَ، وليس بمرفوعٍ.
(1)
هو أحمد بن محمد بن هانئ، الإسكافي الأثرم الطائي، أحد الأعلام، تلميذ الإمام أحمد، ومصنِّف "السنن". مات نحو سنة 261 هـ.
(2)
في ب، ط:"الصحابة".
(3)
رواه البخاري رقم (1892) في الصوم: باب وجوب صوم رمضان، ومسلم رقم (1126)، وأبو داود رقم (2443)، وانظر "الفتح الباري" 4/ 246.
(4)
صحيح مسلم رقم (1126).
(5)
في صحيح مسلم "يفترض".
(6)
في ب، ط:"فرض".
(7)
صحيح مسلم رقم (1126).
(8)
أخرجه البخاري 4/ 244 رقم (2003) في الصوم، واللفظ له؛ ومسلم رقم (1129).
(9)
مسلم رقم (1129).
(10)
أخرجه النسائي 4/ 204 في الصيام: باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم.
(11)
الحديث المُدْرَج: هو الهديث الذي اطلع في متنه أو إسناده على زيادة ليست منه، وهو على أقسام: أحدها: مدرج في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يذكر الراوي عقيبه كلامًا لنفسه أو لغيره، فيرويه مَنْ بعده متصلا بالحديث من غير فصل، فيُتوهم أنه من الحديث. الثاني: أن يكون عنده متنان بإسنادين، فيرويهما بأحدهما. الثالث: أن يسمع حديثًا من جماعة مختلفين في إسناده أو متنه، فيرويه عنهم باتفاق، ولا يبين ما اختُلِف فيه. قالوا: تعمدُ كل واحد من الثلاثة حرام، وصاحبه ممن يحرِّف الكلِم عن مواضعه، وهو ملحق بالكذابين. نعم، ما أدرج لتفسير غريب لا يمنع، ولذلك فعله الزُّهري وغير واحد من الأئمة. (انظر الباعث الحثيث 80، علوم الحديث لابن الصلاح 86 - 89، قواعد التحديث للقاسمي 124).
وفي صحيح مسلم
(1)
، عن ابن مسعودٍ، أنه قال في يوم عاشوراءَ:"هو يومٌ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصُومُه قبل أن ينزِلَ رمضانُ، فلمَّا نَزَلَ شهرُ رمضانَ تُرِكَ". وفي رواية "أنه تَرَكه"
(2)
. وفيه أيضًا
(3)
عن جابر بن سَمُرَةَ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يومِ عاشوراء، ويحثُّنا عليه، ويتعاهَدُنا
(4)
عندَه، فلمَّا فُرِضَ رمضانُ لم يأمُرْنا ولم يَنْهَنا عنه، ولم يَتَعَاهَدْنا عنده.
وخرَّج الإمامُ أحمد
(5)
، والنسائي، وابنُ ماجه، من حديث قيسِ بن سَعدٍ قال:"أمرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراءَ قبلَ أن ينزِلَ رمضانُ، فلمَّا نَزَلَ رمضانُ لم يأمرْنا ولم ينْهَنا". وفي رواية
(6)
: ونحن نَفعلُه. فهذه الأحاديث كلها تدُلُّ على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُجدِّدْ أمرَ الناسِ بصيامِه بعدَ فرضِ صيام شهرِ رمضانَ، بل تركَهم على ما كانوا عليه من غير نَهْي عن صيامِه، فإن كان أمَرُه صلى الله عليه وسلم بصيامِه قبلَ فرضِ صيام شهرِ رمضانَ للوجوبِ، فإنَّه يَنْبَني على أن الوُجوبَ إذا نُسِخَ فهلْ يبقَى الاستحبابُ أَم لا، وفيه اختلافٌ مشهورٌ بين العلماءِ. وإن كان أمرُه للاستحباب المؤكِّدِ فقد قيلَ: إنَّه زالَ التَّأكيدُ وبقي أصلُ الاستحباب، ولهذا قال قيسُ بن سَعدٍ: ونحنُ نفعَلُه.
وقد رُوي
(7)
عن ابن مسعود وابن عُمَرَ رضي الله عنهما مَا يَدُلُّ على أن أصلَ استحباب صيامه زالَ. وقال سعيدُ بن المسيّب: لم يَصُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عاشوراءَ؛ وروي عنه عن سعد
(8)
بن أبي وقَّاص. والمرسلُ أصحُّ؛ قاله الدَّارَقطني. وأكثرُ العلماء على استحبابِ صيامِه من غير تأكيدٍ.
(1)
صحيح مسلم رقم (1127) في الصيام، باب صوم يوم عاشوراء. وقال أبو كُرَيب: تَرَكَهُ.
(2)
في ش، ع:"أنه تركه له".
(3)
صحيح مسلم رقم (1128).
(4)
يتعاهدنا عنده: أي يراعي حالنا عند عاشر المحرم، هل صمنا فيه أم لم نصم.
(5)
رواه الإمام أحمد في "المسند" 3/ 422 و 6/ 6، والنسائي رقم (2506) في الزكاة، باب فرض صدقة الفطر قبل نزول الزكاة، وإسناده حسن.
(6)
هي في مسند أحمد 3/ 422 وفي سنن النسائي: "وكنا نفعله".
(7)
أخرج مسلم في "صحيحه" رقم (1126) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه، والمسلمون، قبل أن يفترض رمضان. فلما افتُرض رمضان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه".
(8)
في آ: "سعيد" خطأ.
وممن رُوي عنه صيامُه من الصَّحابةِ عمرُ، وعلي، وعبدُ الرحمن بن عوف، وأبو موسى، وقيسُ بن سَعْدٍ، وابنُ عباس وغيرُهم. ويدُلُّ على بقاءِ استحبابِه قولُ ابن عباس
(1)
رضي الله عنهما: "لم أرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصُومُ يومًا
(2)
يتحرَّى فَضْلَه. على الأيام إلا يومَ عاشوراءَ وشهرَ رمضانَ". وابنُ عباس إنما صحِبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بآخرة، وإنما عَقَلَ منه صلى الله عليه وسلم ما كان من آخر أمرِه.
وفي صحيح مسلم
(3)
، عن أبي قَتَادَة: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء، فقال:"أحتسِبُ على اللهِ أن يُكفِّر السنةَ التي قبلَه". وإنَّما سألَه عن التَّطوُّعِ بصيامِه، فإنه سأله أيضًا عن صيام يوم عَرَفَةَ، وصيام الدَّهرِ، وصيامِ يومٍ وفطرِ يومٍ، وصيامِ يومٍ وفطر يومين. فعُلمَ أنَّه إنَّما سأله عن صَيام التطوُّعِ.
وخرَّج الإمامُ أحمد، والنسائي
(4)
من حديث حَفْصَةَ بنتِ عُمَرَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدَعُ صيامَ يوم عاشوراء والعشرِ، وثلاثةِ أيَّامٍ من كل شَهْرٍ. وخرَّجُه أبو داود
(5)
إلَّا أن عنده: "عن بعضِ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، غير مُسَمَّاةٍ.
الحالة الرابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم عَزَمَ في آخِرِ عُمره على إلا يَصُومَه مفردًا، بل يَضُمُّ إليه يومًا آخرَ مخالفَةً لأهل الكتابِ في صيامِه. ففي صحيح مسلم
(6)
، عن ابن
(1)
رواه مسلم رقم (1132) في الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وسئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يومًا، يطلب فضله على الأيام، إلا هذا اليوم؛ ولا شهرًا إلا هذا الشهر؛ يعني رمضان.
(2)
في آ: "يصوم صومًا".
(3)
أخرجه مسلم رقم (1162) في الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس. ورواه الترمذي رقم (752) في الصوم، باب ما جاء في الحث على صوم يوم عاشوراء، وإسناده حسن.
(4)
مسند الإمام أحمد 6/ 287، والنسائي 4/ 220، وفي سنده أبو إسحاق الأشجعي الكوفي، وهو مجهول. ولفظه عند النسائي:"أربع لم يكن يدعهن النبي صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة".
(5)
رواه أبو داود رقم (2437) في الصوم، باب في صوم العشر، حدث به هُنَيْدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
واختلف على هنيدة بن خالد في إسناده، فروي عنه كما ذكره أبو داود. وروي عنه عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عنه عن أمه عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مختصرًا. (قاله المنذري).
(6)
مسلم (1134)(133) في الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء. وأبو داود رقم (2445) في الصوم، باب ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع.
عباس رضي الله عنهما أنه قال: حين صامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عاشوراءَ وأمَرَ بصيامِه، قالوا: يا رسولَ الله! إنه يومٌ تُعظِّمُهُ اليهودُ والنَّصارَى. فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العامُ المقبِلُ - إن شاء الله - صُمْنا اليومَ التاسعَ". قال: فلم يأتِ العامُ المقبِلُ حتى توفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية له أيضًا
(1)
، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بَقِيتُ إلى قابِل لأصُومَنَّ التَّاسِعَ". يعني عاشوراءَ. وخرَّجَه الطبراني
(2)
، ولفظه: إنْ عِشْتُ - إن شاء الله
(3)
- إلى قابِل صُمْتُ التَّاسِعَ، مخافَةَ أن يفوتني عاشوراءُ.
وفي مسند الإمام أحمد
(4)
، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"صُومُوا يومَ عاشوراء، وخالِفُوا اليهودَ، صُومُوا قَبْلَه يومًا وبعدَه يومًا". وجاء في روايةٍ "أو بعده".
فإمَّا أن يكون "أو"
(5)
للتخيير أو يكونَ شكًّا من الراوي؛ هل قالَ قبلَه أو بعدَه. وروي هذا الحديثُ بلفظٍ آخرَ وهو: "لئن بَقِيتُ
(6)
لأمُرَنَّ بصيام يوم قبلَهُ ويومٍ بعدَه". يعني عاشوراء. وفي رواية أخرى "لئن بقيتُ إلى قابِل لأصُومَنَّ التاسَعَ
(7)
ولآمُرنَّ بصيامِ يوم قبلَه ويوم بعدَه"، يعني عاشوراء. أخرجَهما الحافظُ أبو موسى المَدِيني
(8)
. وقد صحَّ هذا عن ابن عباس من قوله من رواية ابن جُرَيجٍ، قال: أخبرني
(9)
عطاء أنه سمعَ ابنَ عبَّاسٍ يقولُ في يوم عاشوراءَ: خالِفُوا اليهودَ، وصُومُوا التَّاسِعَ والعاشِرَ
(10)
. قال الإمامُ أحمدُ: أنا أذهَبُ إليه.
(1)
مسلم (1134)(134) في الصوم أيضًا.
(2)
رواه الطبراني في "المعجم الكبير" 10/ 401. وذكره الشيخ الألباني في الأحايث الصحيحة رقم (350).
(3)
قوله: "إن شاء الله" ورد في ش، ع والطبراني.
(4)
في مسند أحمد (1/ 241) أخبرنا ابن أبي ليلى، عن داود بن علي، عن أبيه، عن جده ابن عباس، وإسناده حسن. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (3/ 188) وقال:"رواه أحمد والبزار، وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام".
(5)
لفظ "أو" لم يرد في آ، ش، ع.
(6)
في ع: "بقيت إلى قابل لأصومَنَّ".
(7)
لفظة "التاسع" سقطت من آ، ش.
(8)
هو محمد بن عمر بن أحمد، أبو موسى المديني، من حافظ الحديث، المصنفين فيه. مولده ووفاته في أصبهان. مات سنة 581 هـ، ونسبة "المديني" إلى مدينة أصبهان.
(9)
في ب، ط:"أخبرنا".
(10)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 287.
ورُوي عن ابن عباس أنَّه صام التاسعَ والعاشِرَ، وَعُلَّلَ بخشية فواتِ عاشوراء. ورَوَى ابنُ أبي ذِئبٍ، عن شعبةَ مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أنه كان يصومُ عاشوراءَ في السَّفَرِ، ويُوالي بينَ اليَوْمين؛ خشيةَ فواته. وكذلك رُوي عن أبي إسحاق أنَّه صامَ يومَ عاشوراءَ ويومًا قبلَه، ويومًا بعدَه، وقال: إنما فعلْتُ ذلك خشيةَ أنْ يفوتَنِي. وروي عن ابن سيرين أنَّه كان يَصُومُ ثلاثةَ أيام عند الاختلافِ في هلالِ الشهر احتياطًا. ورُوي عن ابن عباس، والضحَّاك، أن يومَ عاشوراءَ هو تاسع المحرَّمِ.
قال ابن سيرين: كانوا لا يختلفون أنه اليومُ العاشِرُ، إلا ابن عباس، فإنه قال: إنَّه التاسعُ. وقال الإمامُ أحمد في رواية الميمُوني: لا أَدْرِي، هو التَّاسِع أو العاشِرُ، ولكنْ نصومُهما. فإن اختُلِفَ في الهلال صامَ ثلاثةَ أيام احتياطًا. وابن سيرين يقول ذلك.
وممَّن رأى صيامَ التاسِع والعاشِر الشافِعيُّ وأحمدُ وإسحاق. وكَرِهَ أبو حنيفةَ إفرادَ العاشر وحدَه بالصَّوْم. وروى الطبرانيُّ من حديث ابن أبي الزِّناد، عن أبيه، عن خارجةَ بن زيدٍ، عن أَبيه، قال: ليس يومُ عاشوراء باليوم الذي يقول النَّاسُ، إنَّما كان يومًا تُسْتَرُ فيه الكَعْبَةُ وتقلِسُ
(1)
فيه الحَبَشَةُ عندَ النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يدُورُ في السنةِ، فكان الناسُ يأتون فلانًا اليهوديَّ يسألونه، فلمّا ماتَ اليهوديُّ أتوا زيدَ بن ثابتٍ فسألوه.
وهذا فيه إشارة إلى أن عاشوراءَ ليس هو في المحرم، بل يُحسَبُ بحساب السَّنة الشمسيةِ، كحسابِ أهلِ الكتابِ. وهذا خلافُ ما عليه عمل المسلمينَ قديمًا وحديثًا.
وفي صحيح مسلم
(2)
عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَعُدُّ من هلالِ المحرَّم، ثم يُصبِحُ يومَ التاسِعِ صائمًا. وابنُ أبي الزِّناد لا يُعْتَمَدُ على ما ينفَرِدُ به، وقد جَعَلَ الحديثَ كُلَّه عن زيدِ بن ثابتٍ، وآخرُه لا يصلُحُ أنْ يكونَ من قولِ زيدٍ، فلعلَّه مِن
(1)
التَّقْلِيسُ: الضرْب بالدُّفِّ، والغناء. والمُقَلسون: هم الذين يلعبون بين يدي الأمير إذا وصل البلد، الواحد: مُقَلِّس. (النهاية).
(2)
مسلم (1133)(132) في الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء.
قولِ مَن دُونَهُ، والله أعلم. وكان طائفةٌ من السَّلفِ يَصُومونَ عاشوراء في السَّفَر؛ منهم ابنُ عبَّاسٍ، وأبو إسحاقَ السَّبيعيُّ، والزُّهْريُّ. وقال: رمضانُ له عِدَّةٌ مِن أيّام أُخَرَ، وعاشوراءُ يَفوتُ. ونصَّ أحمدُ على أنه يُصامُ عاشوراءُ في السَّفَر.
وروى عبدُ الرزاق في كتابه، عن إسرائيلَ، عن سِماك بن حَرْبٍ، عن مَعبد القُرشيّ، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بقُدَيْدٍ
(1)
، فأتاه رَجُلٌ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أطَعِمْتَ اليومَ شيئًا؟ - ليومِ عاشوراءَ - قال: لا، إلا أنِّي شرِبْتُ ماءً، قال: فلا تَطْعَمْ شيئًا حتى تغرُبَ الشَّمسُ، وأمُرْ مَن وَرَاءَكَ أنْ يَصُومُوا هذَا اليومَ
(2)
. ولَعَل المأمورَ كانَ مِن أهلِ قُدَيْدٍ. ورَوَى بإسنادِهِ عن طاووس أنه كان يصُومُ عاشوراءَ في الحضر، ولا يَصُومُه في السَّفَرِ. ومِنْ أعجب ما وَرَدَ في عاشوراء أنه كان يَصُومُه الوحشُ والهَوامُّ.
وقد رُوي مرفوعًا أن الصُّرَدَ
(3)
أوَّلُ طير صامَ عاشوراءَ. خرجَهُ الخطيبُ في تاريخه، وإسنادُه غريبٌ. وقد رُوي ذلك عن أبي هريرةَ.
ورُوي عن فتحِ بن شَخْرَف
(4)
، قال: كنْتُ أفتُّ للنَّمْلِ الخبزَ كلَّ يومٍ، فلمَّا كانَ يومُ عاشوراءَ لم يأكلوه.
ورُوي عن القادرِ باللهِ الخليفةِ العباسي أنَّه جرَى له مثلُ ذلك وأنه عَجبَ منه، فسأل أبا الحسن القزويني الزَّاهدَ، فذكر له أن يومَ عاشوراء تصُومُه النَّمْلُ. وروى أبو موسى المَدِيني بإسنادِه، عن قيس بن عُبَاد، قال: بلغني أن الوحشَ كانت تصومُ عاشوراءَ. وبإسنادٍ له، عن رجلٍ أتى الباديةَ في يوم عاشوراءَ، فرأى قومًا يذبَحُون ذبائحَ، فسألهم عن ذلك، فأخبروه أن الوُحوشَ صائمة، وقالوا: اذهَبْ بنا نُرِك، فذهَبُوا
(1)
قُدَيد: اسم موضع قرب مكة. (ياقوت).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 286
وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 187 وقال: "أخرجه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات".
(3)
الصُّرَد: طائر فوق العصفور. وفي النهاية لابن الأثير 3/ 21: "هو طائر ضخمُ الرأس والمنقار، له ريش عظيم نصفه أبيض ونصفه أسود" و "في الحديث أنه نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة، والنحلة، والهُدهد، والصُّرَد، نهى عن الهدهد والصّرد لحرمة لحمهما".
(4)
فتح بن شخرف بن داود بن مزاحم، أبو نصر الكشي. من الزهاد، لم يأكل الخبز ثلاثين سنة. وكان ذا أخلاق حسنة، حسن العبادة والورع والزهد. توفي سنة 273 هـ ببغداد. (صفة الصفوة 2/ 402).
بهِ إلى رَوضةٍ فأوقفوه. قال: فلمَّا كان بعد العصر جاءت الوحوشُ من كل وَجْهٍ، فأحاطتْ بالروْضةِ رافعةً رؤوسَها [إلى السماء]
(1)
ليس شيءٌ منها يأكلُ، حتى إذا غابَتِ الشمسُ أسرَعَتْ جميعًا فأكلَتْ. وبإسنادِه عن عبد الله بن عمرو، قال: بين الهند والصين أرضٌ كان بها بَطَّةٌ من نُحاسٍ، على عَمُودٍ من نحاس، فإذا كان يومُ عاشوراءَ مَدَّتْ مِنقارَها، فَيَفيضُ من مِنقارِها ماءٌ يَكفِيهم لزروعهم
(2)
ومَوَاشيهم إلى العام المُقْبِلِ.
ورُئِي بعضُ العلماء المتقدِّمين في المنامِ فسئل عن حاله، فقال: غُفِرَ لي بصيام عاشورَاءَ ستينَ سنةً. وفي رواية: ويوم قبلَه ويوم بعدَه. وذكر عبدُ الوهاب الخَفّافُ
(3)
في كتاب الصيام، قال سعيد: قال قَتادَةُ: كان يقالُ: صَومُ عاشوراء كفارةٌ لما ضيَّع الرَّجُلُ من زكاةِ مالِه. وقد رُوي أن يومَ عاشوراء كان يومَ الزِّينةِ الذي كان فيه ميعادُ موسى لفرعونَ، وأنه كان عيدًا لهم. ويروى أن موسى عليه السلام كان يلبَسُ فيه الكَتَّانَ ويكتحِلُ فيه بالإثمِدِ
(4)
. وكانت اليهودُ مِن أهل المدينة وخيبَر
(5)
في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتَّخِذُونه عيدًا، وكان أهلُ الجاهلية يقتَدُون بهم في ذلك، وكانوا يَسْتُرُون فيه الكَعْبَةَ. ولكنْ شَرْعُنا وَرَدَ بخلافِ ذلك. ففي "الصحيحين"
(6)
عن أبي موسى، قال: كان يومُ عاشوراءَ يومًا تعظِّمُه اليهودُ وتتَّخِذُه عيدًا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"صُومُوه أَنْتُم". وفي رواية لمسلم
(7)
: كان أهلُ خيبَرَ يَصُومُون يومَ عاشوراءَ، يتخذُونَهُ عيدًا، ويُلْبِسُونَ نِساءَهُم فيه حُليَّهُم وشارَتَهُم
(8)
، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"فَصُومُوه أنتم".
(1)
زيادة من ع، ط.
(2)
في آ، ع:"لزرعهم".
(3)
هو عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، أبو نصر العجلي البصري، سكن بغداد، راوية سعيد بن أبي عَرُوبة. صدوق، ربما أخطأ. قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 9/ 451: حديثه في درجة الحسن. مات نحو سنة 204 هـ.
(4)
الإثمد: حجر يُكتَحل به.
(5)
قوله: "من أهل المدينة وخيبر" سقط في آ.
(6)
البخاري 4/ 244 (2005) في الصوم، باب صيام يوم عاشوراء؛ ومسلم (1131)(130) في الصيام، باب صوم يوم عاشوراء.
(7)
مسلم رقم (1131)(130) في الصيام، باب صوم يوم عاشوراء.
(8)
الشارة: اللباس والهيئة. أي يُلبسونهن لباسهم الحسن الجميل.
وخرَّجه النسائي وابنُ حِبَّانَ
(1)
، وعندهما:"فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: خالِفُوهم فَصُومُوه". وهذا يَدُلُّ على النهي عن اتخاذه عيدًا وعلى اسْتحباب صيامِ أعياد المشركين
(2)
؛ فإن الصَّومَ يُنافي اتخاذَهُ عيدًا فيوافقون في صيامه معَ صيامِ يوم آخرَ معه، كما تقدّمَ. فإن في ذلك مخالفةً لهم في كيفيَّةِ صيامِهِ أيضًا، فلا يبقى فيه موافقةٌ لهم في شيء بالكُليَّةِ. وعلى مثل هذا يُحملُ ما خرجه الإمامُ أحمد، والنسائي، وابنُ حِبَّانَ من حديث أمِّ سلمة: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يصومُ يومَ السبتِ ويومَ الأحدِ أكثرَ ما يَصُومُ من الأيام، ويقولُ:"إنَّهما يوما عيدٍ للمشركين، فأنا أحِبُّ أن أخالِفَهُم"
(3)
. فإنه إذا صامَ اليومين معًا خرَجَ بذلك عن مُشابهَةِ اليهودِ والنصارى في تعظيم كل طائفةٍ ليومِها مُنْفرِدًا، وصيامُه فيه مخالفةٌ لهم في اتخاذِه عيدًا، ويجمعُ
(4)
بذلك بين هذا الحديث وبين حديث النهي عن صيامِ يومِ السبتِ.
وكلُّ ما رُوي في فضل الاكتحالِ في يومِ عاشوراءَ والاختضابِ والاغتسَالِ فيه، فموضوعٌ لا يصِحُّ.
وأَمّا الصَّدَقَةُ فيه فقد رُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: مَن صامَ عاشوراءَ فكأنما صام السَّنةَ، ومَنْ تصدَّقَ فيه كان كصدَقةِ السَّنةِ. أخرَجَهُ أبو موسى المَدِيني.
وأمَّا التوسِعَةُ فيه على العيالِ فقال حربٌ
(5)
: سألْتُ أحمدَ عن الحديث الذي جاء: "مَنْ وسَّعَ على أهلِهِ يومَ عاشوراءَ" فلَمْ يَرَهُ شيئًا. وقال ابنُ منصور
(6)
: قلت لأحمَدَ: هل سمعتَ في الحديثِ "مَنْ وسَّعَ على أهلِه يومَ عاشوراءَ وَسَّعَ
(7)
الله عليه
(1)
أخرجه ابن حبان في "صحيحه" 5/ 255 عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: كانت يهود تتخذ يوم عاشوراء عيدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خالفوهم، صوموا أنتم".
(2)
في آ، ش، ع:"الكفار".
(3)
رواه أحمد في "المسند" 6/ 324، وابن حبان في "صحيحه" 5/ 251، 262.
(4)
في آ: "أو يجمع ذلك".
(5)
هو حرب بن إسماعيل الكرماني، الفقيه الحافظ، صاحب الإمام أحمد، توفي سنة 280 هـ. (تذكرة الحفاظ 613).
(6)
هو إسحاق بن منصور بن بَهْرام الكَوسج، روى عن أحمد بن حنبل، وله عنه مسائل مفيدة. ثقة ثبت، أحد الأئمة من أصحاب الحديث. مات سنة 251 هـ. (تهذيب الكمال 2/ 474).
(7)
في آ، ب، ط:"أوسع".
سائرَ السَّنَةِ"؟ فقال: نعم. رواه سفيان بن عُيَيْنة، عن جعفر الأحمر
(1)
، عن إبراهيم بن محمد بن
(2)
المُنتشِر، وكان من أَفضل أهل زمانه، أنه بلَغَه أنَّه مَنْ وسَّعَ على عيالِهِ يومَ عاشوراءَ وَسَّعَ
(3)
الله عليه سائرَ سنتِهِ. فقال ابنُ عُيينَة: جرَّبناه منذُ خمسين سنة أو ستين سنة فما رأينا إلا خيرًا.
وقول حَرْبٍ: "إن أَحمَد لم يَرَهُ شيئًا" إنما أرادَ به الحديثَ الذي يُروَى مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يصِحُّ إسنادُهُ. وقد رُوِي من وجوهٍ متعددةٍ لا يصِحُّ منها شيءٌ
(4)
. ومِمَّن قال ذلك محمدُ بن عبد الله بن عبد الحكم
(5)
. وقال العقيلي: هو غيرُ محفوظٍ. وقد رُوِي عن عُمَرَ من قوله، وفي إسناده مجهول لا يُعْرَفُ.
وأما اتخاذُهُ مأتمًا كما تفعَلُهُ الرافضَةُ لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فيه، فهو من عَمَلِ مَنْ ضَلَّ سعيُهُ في الحياةِ الدنيا وهو يحسَبُ أنَّه يُحْسِنُ صُنعًا، ولم يأمر الله ولا رسولُه باتخاذ أيَّامِ مصائبِ الأنبياءِ وموتهم مأتمًا، فكيف بمن دُونَهم.
ومن فضائل يوم عاشوراء
أنه يومٌ تاب الله فيه على قوم. وقد سبَقَ حديثُ علي الذي خرَّجه الترمذي
(6)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "إنْ كُنْتَ صائمًا شهرًا بعدَ رمضانَ فصُمِ المحرَّمَ؛ فإنَّ فيه يومًا تابَ الله فيه على قوم ويتوبُ فيه على آخرين". وقد صَحّ من حديث أبي إسحاق
(7)
،
(1)
هو جعفر بن زياد الأحمر، صدوق، يتشيع، مات سنة 167 هـ (التقريب).
(2)
في ط: "عن" خطأ. وهو إبراهيم بن محمد بن المنتشر الأجدع الهمداني الكوفي، ثقة، من الخامسة. (التقريب).
(3)
في آ، ش، ع:"أوسع".
(4)
ذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 189 عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وسّع على أهله في يوم عاشوراء وسّع الله عليه سنته كلها". رواه الطبراني في الأوسط، وفيه "محمد بن إسماعيل الجعفري"، قال أبو حاتم: منكر الحديث. وذكر أيضًا عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من وسّع على عياله يوم عاشوراء لم يزل في سعة سائر سنته". رواه الطبراني في الكبير، وفيه الهيصم بن الشداخ، وهو ضعيف جدًّا.
(5)
فقيه أهل مصر، روى عن ابن وهب، وأنس بن عياض. أكثر عنه الأصم وغيره. احتج به النسائي، وقال: ثقة. مات سنة 286 هـ (ميزان الاعتدال 3/ 611).
(6)
رواه الترمذي رقم (741) في الصوم، باب ما جاء في صوم المحرّم، وقال: حديث حسن غريب. ويشهد له حديث مسلم رقم (1163) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام، بعد رمضان، شهر الله المحرَّم، وأفضل الصلاة، بعد الفريضة، صلاة الليل".
(7)
هو أبو إسحاق السَّبيعي، عمرو بن عبد الله الهمداني، مكثر، ثقة، عابد، مات سنة 129 هـ وقيل قبل ذلك. (التقريب).
عن الأسود بن يزيد
(1)
، قال: سألتُ عبيدَ بنَ عُمَير
(2)
عن صيام يوم عاشوراءَ، فقال: المحرَّمُ شَهْرُ الله الأصم، فيه يومٌ تِيبَ فيه على آدمَ، فإن اسَتطعت ألا يمرَّ بك إلَّا صُمْتَه [فافعل]
(3)
. كذا رُوي عن شُعبة، عن أبي إسحاقَ. ورَوَاه إسرائيلُ
(4)
عن أبي إسحاقَ، ولفظه: قال: إنَّ قومًا أذْنَبُوا فتابوا فيه فتيبَ عليهم، فإن استطعتَ إلا يمر بك إلَّا وأنتَ صائمٌ فافْعَلْ.
ورواه يونُس عن أبي إسحاقَ، ولفظُه، قال: إنَّ المحرَّمَ شهرُ الله، وهو رأسُ السنةِ تُكتبُ فيه الكتُبُ، ويؤرَّخُ فيه التاريخُ، وفيه تُضربُ الوَرِقُ
(5)
، وفيه يومٌ تابَ فيه قومٌ فتابَ الله عليهم، فلا يمرُّ بكَ إلا صُمْتَه، يعني يومَ عاشوراء. وروى أبو موسى المَدِيني من حديث أبي موسى مرفوعًا:"هذا يومٌ تابَ اللهُ فيه على قوم، فاجعلُوه صلاةً وصومًا". يعني يومَ عاشوراءَ. وقال: حسنٌ غريبٌ، وليس كما قال. ورَوَى بإسناده عن علي، قال: يومُ عاشوراء هو اليومُ الذي تِيبَ فيه على قوم يُونُسَ.
وعن ابن عباس، قال: هو اليومُ الذي تِيبَ فيه على آدمَ. وعن وَهْب أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: أنْ مُرْ قومَكَ يتقرَّبوا
(6)
إليَّ في أوَّلِ عشرِ المحرمِ، فإذا كان يومُ العاشرِ فليخرجوا إليَّ حتى أغفِرَ لهم. ورَوَى عبدُ الرزاق
(7)
، عن ابن جُريجٍ، عن رجلٍ، عن عِكْرِمَةَ، قال: هو يومٌ تابَ اللهُ فيه على آدمَ، يومُ عاشوراء. ورَوَى عبد الوهاب الخفَّافُ، عن سعيد، عن قَتَادَةَ، قال: كنا نتحدث أن اليومَ الذي تِيبَ فيه على آدمَ يومُ عاشوراءَ، وهبَطَ فيه آدمُ إلى الأرض يومُ عاشوراءَ.
(1)
هو الأسود بن يزيد بن قيس النَّخعي، أبو عمرو أو أبو عبد الرحمن، مخضرم، ثقة، مكثر، فقيه. مات سنة 74 أو 75 هـ، وقد سبقت ترجمته.
(2)
عبيد بن عمير بن قتادة الليثي، أبو عاصم المكي، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، قاله مسلم، وعدَّه غيره في كبار التابعين. وكان قاص أهل مكة، مجمع على ثقته. مات سنة 68 هـ (تهذيب التهذيب 6/ 77 والتقريب).
(3)
زيادة من ش، ع.
(4)
هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق الهمداني السَّبيعي، أبو يوسف الكوفي. روى عن جده أبي إسحاق السَّبيعي وغيره، روى له الجماعة. ثقة صدوق، مات سنة 160 هـ وقيل بعدها. (تهذيب الكمال 2/ 515).
(5)
الوَرِق: الدراهم، والفضة.
(6)
في ب، ط:"يتوبوا".
(7)
أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 4/ 291.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي: "ويتُوبُ فيه على آخرِينَ" حَثَّ للنَّاسِ على تجديدِ التوبةِ النَّصُوحِ في يوم عاشوراءَ، وترجِيَةٌ لِقَبُولِ التوبةِ مِمَّن تابَ فيه إلى الله عز وجل مِن ذنوبه، [تابَ الله عليه]
(1)
، كما تابَ فيه على مَن قبلَهم. وقد قال الله تعالى عن آدَم:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}
(2)
.
وأخبَرَ عنه وعن زَوْجِه
(3)
(4)
.
كتب عُمَرُ بن عبد العزيز إلى الأمصار كتابًا وقال فيه: قولوا كما قال أبوكم آدم عليه السلام: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}
(4)
. وقولوا كما قال نُوحٌ: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)}
(5)
. وقولوا كما قالَ موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}
(6)
.
وقولوا كما قال ذو النون
(7)
: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}
(8)
.
اعترافُ المُذنِب بذنبِه مَع النَّدَم عليه توبةٌ مقبولةٌ. قال الله عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}
(9)
، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنّ العَبْدَ إذا اعترَفَ بذنبِهِ ثمَّ تابَ تابَ الله عليه"
(10)
.
وفي دعاء الاستفتاحِ الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتحُ به: "اللهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إلَه
(1)
ما بينهما لم يرد في ش، ع.
(2)
سورة البقرة الآية 37. وبعدها في نسخة ع ما نصه "الكلمات. سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، عملت سوءًا، وظلمت نفسي فتب عليَّ، إنك أنت التوَّاب الرحيم".
(3)
في آ، ع "زوجته".
(4)
سورة الأعراف الآية 23.
(5)
سورة هود الآية 47.
(6)
سورة القصص الآية 16.
(7)
هو يونس بن متى عليه السلام، صاحب الحوت. والنون: الحوت، نسب إليه لأنه ابتلعه. وفي سنن أبي داود، عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"دعاء ذي النون في بطن الحوت: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له". (تفسير القرطبي 11/ 334).
(8)
سورة الأنبياء الآية 87.
(9)
سورة التوبة الآية 102.
(10)
متفق عليه، رواه البخاري 5/ 255، ومسلم رقم (2770)(56) في التوبة، باب حديث الإفك وقبول توبة القاذف.
إلا أَنْتَ، ظَلَمْتُ نفسِي واعْتَرَفْتُ بذَنْبِي فاغْفرْ لي إنَّه لا يغفرُ الذنُوبَ إلا أَنْتَ"
(1)
. وفي الدُّعاء الذي علَّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم للصدِّيق أنْ يقولَه في صلاته: "اللهمَّ إني ظَلَمْتُ نَفْسِي ظلمًا كثيرًا ولا يغفِرُ الذُّنُوبَ إلا أَنْتَ؛ فاغفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِن عندِكَ، وارْحَمْنِي، إنكَ أنتَ الغفورُ الرَّحيمُ"
(2)
.
وفي حديث شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"سيِّدُ الاستغفارِ أَنْ يقولَ العَبْدُ: اللهمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلهَ إلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا على عهدِك ووَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أعوذُ بكَ من شرِّ ما صنعتُ، أَبوءُ بنعمَتكَ عليَّ، وأبوءُ بذنبِي، فاغْفِرْ لي، إنه لا يغفِرُ الذُّنُوبَ إلا أنْتَ"
(3)
. الاعترافُ يمحو الاقترافَ، كما قيل:
فإنَّ اعْتِرَافَ المرءِ يَمْحُو اقتِرَافَهُ
…
كما أن إنْكارَ الذُّنُوب ذُنُوبُ
لمّا أُهْبطَ
(4)
آدمُ من الجنةِ بكَى على تلك المعاهد - فيما يُرْوَى - ثلاثمائة عام، وحُقَّ لهَ ذلك. كان في دَارٍ لا يجوعُ فيها ولا يَعْرَى، ولا يَظمأ فيها ولا يَضْحَى
(5)
، فلمَّا نزَلَ إلى الأرضِ أصابَهُ ذلك كلُّه، فكان إذا رأى جبريلَ عليه السلام يتذكَّرُ برؤيته تلك المعاهِدَ، فيشتدُّ بكاؤه حتى يبكيَ جبريلُ عليه السلام لبكائِه، ويقولُ له: ما هذا البكاءُ يا آدمُ؟ فيقولُ: وكيفَ لا أبكي وقد أُخْرِجْتُ من دارِ النعمةِ إلى دار البؤسِ. فقال له بعضُ ولدِهِ: لقد آذيْتَ أهلَ الأرضِ ببكائكَ، فقال: إنما أبكي على أصواتِ الملائكةِ حولَ العرش. وفي رواية، قال: إنما أبكي على جِوار ربِّي في دارٍ تربتُها
(1)
جزء من دعاء الاستفتاح، أخرجه مسلم رقم (771)(201) في صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه؛ والترمذي رقم (3417) و (3418) و (3419) في الدعوات، باب دعاء في أول الصلاة؛ وأبو داود رقم (760) في الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء.
(2)
أخرجه البخاري 2/ 317 في الأذان، باب الدعاء قبل السلام، ومسلم (2705)(48) في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر.
(3)
أخرجه البخاري 11/ 97 في الدعوات، باب أفضل الاستغفار، و 11/ 130 باب ما يقول إذا أصبح؛ والترمذي رقم (3390) في الدعوات، باب رقم (15)؛ والنسائي 8/ 279 في الاستعاذة، باب الاستعاذة من شر ما صنع.
(4)
في ش، ع:"هبط".
(5)
من قوله تعالى في سورة طه الآية 118 و 119: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} . لا تضحى: أي لا يصيبك حرُّ الشمس.
طيبةٌ، أسمَعُ فيها أصواتَ الملائكةِ. وفي رواية، قال: أبكي على دارٍ لو رأيتَها لزَهقَتْ نفسُكَ شوقًا إليها.
ورُوي أنه قال لولده: كُنا نَسْلًا مِن نَسْلِ السَّماءِ، خُلِقْنا كخلقِهم، وغُذِّينا بغذائهم، فسبَانا عدوُّنا إبليسُ؛ فليس لنا فرحٌ ولا راحة إلا الهَمُّ والعَنَاءُ حتى نُرَدَّ إلى الدَّارِ التي أُخْرِجْنَا منها.
فحيَّ على جَنَّاتِ عَدْنٍ فإنَّها
…
منازِلُكَ الأولى وفيها المُخَيم
ولكِننا سَبْيُ العَدُوِّ فهلْ تُرى
…
نَعُودُ إلى أوطانِنا ونُسَلِمُ
لمَّا التقى آدمُ وموسى عليهما السلام عاتَبَه
(1)
موسى على إخراجه نفسَهُ وذريّتَه من الجنة، فاحتجَّ آدمُ بالقدَرِ السابِقِ
(2)
. والاحتجاج بالقَدرِ على المصائب حَسَن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنْ أصابَكَ شيء فلا تَقُلْ لو أني فعلْتُ كذا كان كذا
(3)
، ولكن قُلْ قَدَّرَ الله وما شاءَ فَعَلَ"
(4)
، [كما قيل]
(5)
:
واللهِ لولا سابِقُ الأقدارِ
…
لم تبعُدْ قَط دارُكُمْ عن دارِي
مِن قَبْل النأي جرية المقدار
(6)
…
هل يمحو العبدُ ما قَضَاهُ البارِي
لمَّا ظهرَتْ فضائلُ آدمَ عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له، وبتعليمه أسماء كل شيءٍ وإخبارِه الملائكةَ بها، وهم يَستمِعُون له كاستماع المتعلّم من معلِّمِه،
(1)
في ب، ط:"عاتب موسى آدم على إخراجه".
(2)
روى البخاري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"حاج موسى آم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى! أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؟ أتلومني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن يخلقني، أو قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحجَّ آدم موسى".
(3)
قوله: "كان كذا" زيادة من (ط)، وفي صحيح مسلم:"لو أني فعلت كان كذا وكذا".
(4)
قطعة من حديث أخرجه مسلم (2664)(34) في القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف؛ وفي كل خير. احْرصْ على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجزْ، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلْتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فَعَل، فإنَّ "لو" تفتح عمل الشيطان".
(5)
زيادة من آ، ع.
(6)
في آ: "جراية الأقدار"، وفي ع:"جرية الأقدار"، والمثبت من ب، ط.
حتى أقرُّوا بالعَجزِ عن علمه، وأقرُّوا له بالفضلِ، وأسْكِنَ هو وزوجتُه الجنةَ، ظَهَرَ الحسَدُ من إبليسَ وسَعَى في الأذى، وما زالتِ الفضائلُ إذا ظهرَتْ تُحْسَدُ، كما قيل:
لا ماتَ حُسَّادُكَ بَلْ خُلِّدُوا
…
حتى يَروْا منكَ الذي يُكْمِدُ
لا زلْتَ محسُودًا على نِعْمةٍ
…
فإنَّما الكاملُ مَن يُحْسَدُ
فما زالَ يحتالُ على آدمَ حتى تسبَّب في إخراجه من الجنةِ، وما فهِمَ الأبلَهُ أن آدمَ إذا خرجَ منها كَمُلَتْ فضائلُه، ثم عاد إلى الجنَّةِ على أكملِ مِن حالِه الأوَّلِ. إنما أهلَكَ إبليسَ العُجْبُ بنفسِه، ولذلك قال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}
(1)
. وإنما كَمُلَتْ فضائلُ آدم باعترافهِ على نفسه {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}
(2)
. كان إبليس كلَّما أوقَدَ نار الحسدِ لآدم فاح بها ريحُ طِيبِ آدم واحترَقَ إبليسُ.
وإذا أراد الله نشْر فضيلةٍ
…
طُوِيتْ أتاحَ لها لسان حَسُود
لولا اشْتعالُ النَّارِ فيما جَاوَزتْ
…
ما كان يُعْرَفُ طيبُ عَرْفِ العُودِ
(3)
قال بعضُ السَّلفِ: آدمُ أُخرِج من الجنةِ بذنْبٍ واحدٍ، وأنتُم تعملُون الذنوب وتُكثِرون منها، وتُرِيدون أن تدخلوا بها الجنة! [كما قيل]
(4)
:
تَصِلُ الذنوت إلى الذنوب وتَرْتَجي
…
درجُ الجنان بها وفوز العابِد
ونسِيت أن الله أخرجَ آدمًا
…
منها إلى الدُّنيا بذنْبٍ واحد
[وقال:
بِفرْدِ خطيئةٍ وبفرْدِ ذَنْبٍ
…
من الجنَّاتِ
(5)
أُخْرِجَتِ البَرايا
فقلْ لي كيف ترجو في دخولٍ
…
إليها بالألوف من الخطايا]
(6)
(1)
سورة الأعراف الآية 12.
(2)
سورة الأعراف الآية 23.
(3)
في آ، ب، ع:"فيما حاولت".
والبيتان لأبي تمام في ديوانه بشرح التبريزي 1/ 397 من قصيدة يمدح بها أحمد بن أبي دواد، ومطلعها:
أرأيت أي سَوَالفٍ وخدُودِ
…
عَنَّتْ لنا بين اللوى فَزرود
(4)
زيادة من (أ).
(5)
في الأصل: "الجنان".
(6)
زيادة من (آ).
احذرُوا هذا العدوَّ الذي أخرج أباكم من الجنة؛ فإنَّه ساعٍ في منعكم من العود إليها بكل سبيلٍ، والعداوةُ بينَكم وبينَهُ قديمة؛ فإنه ما أُخرجَ مِن الجنة وطُرِدَ عن الخِدمَةِ إلا بسبب تكبُّرِه على أبيكم وامتناعِهِ من السجود له لمَّا أُمِرَ به. وقد أُبلِسَ
(1)
من الرَّحمة وأيِسَ من العَوْدِ إلى الجنةِ، وتحقَّقَ خلودهُ في النارِ، فهو يجتهِدُ على أن يُخلِّدَ معه في النار بني آدمَ؛ بتحسينِ الشركِ؛ فإن عجِزَ قنعَ بما دونَه مِن الفُسُوقِ والعصيانِ، وقد حذَّرَكم مولاكم منه، وقد أُعذرَ مَن أنذر، فخذوا حِذرَكم {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ}
(2)
.
العَجبُ مِمن عَرَفَ ربَّه ثم عصاهُ، وعَرَفَ الشيطان ثم أطاعه، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}
(3)
.
رَعَى اللهُ مَنْ نَهْوَى وإنْ كان مَا رعَى
…
حَفِظْنا لَهُ العَهْدَ القَدِيمَ فَضَيَّعا
وصاحَبْتَ قومًا كُنْتُ أنهاكَ عنهُمُ
…
وَحَقِكَ ما أبقيْتَ للصلحِ مَوْضِعا
لمَّا أُهبِطَ آدمُ إلى الأرض وُعِدَ العودَ إلى الجنةِ هو ومَن آمن مِن ذريَّتِه واتبعَ الرُّسُلَ {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)}
(4)
. فليُبَشَّر المؤمنونَ بالجنةِ، هي إقْطَاعُهم، وقد وصل مَنْشُورُ الإقْطَاعِ مَعَ جبريلَ إلى محمد صلى الله عليه وسلم {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}
(5)
.
إنما خرَجَ الإقطاعُ عمَّن خرَجَ عن الطاعةِ، فأما مَنْ تابَ وآمَنَ فالإقطاعُ مردودٌ عليه. المؤمنون في دارِ الدنيا في سَفَرِ جِهادٍ، يجاهِدُون فيه النفوسَ والهوَى، فإذا انقضَى سَفَرُ الجِهادِ عادُوا إلى وطنهم الأوَّلِ الذي كانوا فيه في صُلْبِ أبيهم
(6)
. تكفَّلَ الله للمجاهدِ في سبيله أنْ يردَّه إلى وطنِه بما نالَ من أجرٍ أو غنيمةٍ.
(1)
أبلس من رحمة الله: أي يئس، ومنه سمي إبليس.
(2)
سورة الأعراف الآية 27.
(3)
سورة الكهف الآية 50.
(4)
سورة الأعراف الآية 35.
(5)
سورة البقرة الآية 25.
(6)
في ب، ط:"في صلب آدم".
وصلتْ إليكم مَعْشَرَ الأمَّةِ رسالة من أبيكُم إبراهيمَ مع نبيِّكم محمد عليهما السلام، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ ليلةَ أسري بي
(1)
إبراهيمَ، فقال: يا محمد، أقرئ أمَّتَك مني السَّلامَ وأخبرْهُم أن الجنةَ عَذبةُ الماءِ، طيبةُ التربةِ، وأنها قِيعانٌ، وأن غِراسَها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"
(2)
.
وخرَّج النسائي، والترمذي، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قال سبحانَ الله العظيم وبحمده، غُرِسَتْ له نَخْلَةٌ في الجنة"
(3)
. وخرَّج ابنُ ماجه، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه مرفوعًا: "مَنْ قال
(4)
سبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يُغرسُ لك بكل واحدةٍ شجرة في الجنة"
(5)
. وخرَّجه الطبراني
(6)
من حديث ابن عباس مرفوعًا. وخرجه ابنُ أبي الدنيا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "مَن قال سبحانَ الله العظيم بني له بُرجٌ في الجنة". ورُوي موقوفًا
(7)
.
وعن الحسن
(8)
، قال: الملائكةُ يعمَلُون لبنِي آدمَ في الجِنان يَغرِسُونَ وَيبْنُونَ، فربَّما أمسَكُوا، فيقالُ لهم:[ما لكم]
(9)
قد أمسكتم؟ فيقولون: حتى تأتِينا النفقات. وقال الحسن: فابعثوهم
(10)
، بأبي أنتم وأمي على العمل
(11)
. وقال بعضُ السلف:
(1)
زاد في نسخة آ: "أبي إبراهيم".
(2)
أخرجه الترمذي رقم (3458) في الدعوات، باب رقم (60)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وحسنه، وهو كما قال. وأخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة"(827).
(3)
أخرجه الترمذي رقم (3460) و (3461) في الدعوات، باب رقم (61)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير، عن جابر. ورواه المنذري في "الترغيب والترهيب" 2/ 422 وقال: رواه الترمذي وحسنه، واللفظ له والنسائي، إلا أنه قال: غرست له شجرة في الجنة، وابن حبان في صحيحه، والحكم في موضعين بإسنادين (1/ 501، 512)، قال في أحدهما: على شرط مسلم، وقال في الأخرى: على شرط البخاري.
(4)
عبارة "من قال" لم ترد في آ، ش، ع. وفي سنن ابن ماجه:"قل".
(5)
رواه ابن ماجه رقم (3807) في الآدب، باب فضل التسبيح.
(6)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 91، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ غُرس له بكل واحدة منهن شجرة في الجنة". رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثوقون.
(7)
في آ، ش:"مرفوعا".
(8)
إذا أطلق الحسن، فالحسن البصري التابعي.
(9)
زيادة من نسخة (آ).
(10)
في ع، ط وهامش ب:"فأتعبوهم".
(11)
في آ، ع:"بالعمل"، وفي ش "في العمل".
بلغني أنَّ دُورَ الجنَّةِ تُبْنَى بالذكْرِ، فإذا أُمسِكَ عن الذكْر أمسكُوا عن البناء، فيقال لهم، فيقولون: حتى تأتينا نفقة.
أرضُ الجنةِ اليومَ قِيعانٌ
(1)
والأعمَالُ الصَّالِحةُ لها عُمران، بها تُبْنَى القُصُورُ وتُغْرَسُ أرضُ الجِنانِ، فإذا تكامَلَ الغراسُ والبُنيانُ انتَقَل إليه السكَّانُ. رأى بعض الصالحين في منامه قائلًا يقولُ له: قد أُمِرْنا بالفراغِ من بناءِ داركَ، واسمُها دارُ السُّرورِ، فأبْشِرْ؛ وقد أُمِرْنا بتنجيدِها وتزيينها والفراغِ منها إلى سبعةِ أيام. فلمَّا كان بعدَ سبعة أيامٍ مات، فرؤي في المنام فقال: أُدْخِلْتُ دارَ السرور [وأنا في سرور]
(2)
، فلا تسألْ عمَّا فيها. لم يُرَ مثلُ الكريم إذا حل به مطيع
(3)
. رأى بعضُهم كأنَّه أُدخِلَ الجنَّةَ وعُرِضَ عليه منازلُه وأزواجُه، فلمَّا أرادَ أنْ يخرُجَ تعلَّقَ به أزواجُهُ، وقالوا له: باللهِ حَسِّنْ عملَكَ، فكلَّما حسنْتَ عملَكَ ازْدَدْنا نحنُ حُسْنًا.
العاملون اليومَ يُسْلِفُونَ رؤوسَ أموالِ الأعمالِ فيما تشتهِي الأنفُسُ وتلَذُّ الأعينُ، إلى أجل يومِ المزيدِ في سُوقِ الجنةِ، فإذا حَل الأجلُ دخلُوا السُّوقَ فحمَلُوا منه ما شاؤوا بغير نقدِ ثَمَنٍ، على قدرِ ما سَلَفَ مِن تعجيلِ رأسِ مال السلفِ، لكن بغير مكيال ولا ميزان. فيا مَن عَزَمَ أنْ يُسْلِفَ اليومَ إلى ذلك المَوسِمِ، عَجِّلْ بتقبيضِ
(4)
رأسِ المال، فإن تأخيرَ التقبيضِ يُفسِدُ العقدَ.
فللهِ وادِيها
(5)
الذِي هُوَ مَوْعدُ الـ
…
مزيدِ لِوَفْدِ الحُبِّ لو كنْتَ منهُمُ
فما شِئتَ خذْ مِنْهُ بلا ثَمَنٍ لَهُ
…
فقدْ أسْلَفَ التُّجَّارُ فيه وأَسْلَمُوا
(6)
وفي الحديث: "إن الجنَّةَ تقولُ: يا رب! ائتني بأهلِي وبما وَعَدْتَني؛ فقد كَثُرَ حَريرِي وإسْتَبْرَقي وسُنْدُسِي ولؤلؤي ومَرجاني [وزبرجدي]
(7)
وفِضتي وذهبي وأباريقي وخَمرِي وعَسَلي ولبَنِي، فاتِني بأهلي وبما وعدتنِي".
(1)
قيعان: جمع قاع، وهو المكان المستوي الواسع في وَطاءٍ من الأرض، يعلوه ماء السماء، فيمسكه ويستوي نباته، ويجمع على قيعة وقيعان.
(2)
زيادة من آ، ع.
(3)
في ب، ط:"المطيع".
(4)
في آ، ش:"بقبض".
(5)
في ب، ش، ع، ط: "فلله ذاك السوق الذي
…
"، والمثبت من (آ).
(6)
أدرج البيتان في المطبوع على أنهما من الكلام المنثور.
(7)
زيادة من آ، ع.
وفي الحديث أيضًا: "من سأل الله الجنةَ شفعتْ له الجنةُ إلى ربِّها وقالت: اللهم أدخِلْه الجنَّةَ"
(1)
. وفي الحديث أيضًا: "إنَّ الجنة تُفتح في كلِّ سحرٍ، ويقالُ لها: ازدادي طيبًا لأهلِكِ، فتزدادُ طيبًا، فذلك البردُ الذي يجدُه الناسُ في السَّحَر". قلوبُ العارِفينَ تستنشِقُ أحيانًا نسيمَ الجنةِ. قال أنس بن النضر
(2)
يومَ أُحُدٍ: واهًا لريح الجَنَّةِ، والله أني لأجِدُ ريحَ الجنةِ مِن قِبَلِ أُحُدٍ، ثم تقدَّمَ فقاتَلَ حتى قُتِلَ. [كما قيل]
(3)
:
تَمرُّ الصَّبا صفحًا
(4)
بِسَاكِنِ ذِي الغَضا
(5)
…
ويَصْدَعُ قلبي أنْ يَهُبَّ هُبُوبُها
قَرِيبةُ عَهْدٍ بالحبيبِ وإنما
…
هَوَى كُل نفسٍ حيثُ
(6)
حل حَبيبُها
كم لله من لطفٍ وحكمةٍ في إهباطِ آدمَ إلى الأرض، لولا نزولُهُ لما ظَهَرَ جِهادُ المجاهدينَ واجتهادُ العابدين المجتهدين، ولا صَعِدَتْ زَفَراتُ أنفاسِ التائبين، ولا نزلَتْ قطراتُ دموعِ المذنبين. يا آدم! إن كنْتَ أُهْبِطْتَ من دار القرب {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ}
(7)
، إن كان حصَلَ لك بالإخراج مِنَ الجنةِ كسرٌ، فأنا عند المُنكَسِرةِ قلوبُهُم من أجلي، إن كان فاتَكَ في السماء سماعُ زَجَلِ المُسبِّحين
(8)
، فقد تعوَّضْتَ
(9)
في الأرضِ بسماع أنينِ المذنبينَ. أنينُ المذنبين أحبُّ إلينا من زَجَلِ المسبِّحينَ. زَجَلُ المسبِّحين ربَّما يَشُوبُه الافتخارُ، وأنينُ المُذْنِبينَ يَزينُهُ الانكسارُ. "لو لم تُذْنِبُوا لَذَهَبَ الله بكم، وجاءَ بقوم يُذْنِبُونَ ثم يَسْتَغفِرُون فَيَغْفِرُ لهم"
(10)
.
(1)
أخرجه الترمذي رقم (2575) في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة أنهار الجنة؛ والنسائي 8/ 279 في الاستعاذة من حرّ النار، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:"من سأل الله الجنة ثلاثًا، قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاث مرات، قالت النار: اللهم أجره من النار".
(2)
أنس بن النضر بن ضمضم، عم أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل يوم أحد. (انظر سيرة ابن هشام 2/ 83، 124 والاشتقاق ص 452).
(3)
زيادة من نسخة (آ).
(4)
في ب، ط:"صُبْحًا".
(5)
الغضا: شجر من الأثل، خشبه من أصلب الخشب. وأهل النضا: أهل نجد، لكثرته هنالك.
(6)
في ب، ع، ط:"أين".
(7)
سورة البقرة الآية 186.
(8)
زجل المسبِّحين: يعني أصوات الملائكة في تسبيحهم.
(9)
في آ، ش:"تعرضت".
(10)
رواه مسلم رقم (2749)(11) في التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار.
سبحان مَن إذا لطفَ بعبده في المِحن قلبَها مِنحًا، وإذا خذَلَ عبدًا لم ينفعْهُ كثرَةُ اجتهادِه، وعادَ عليه وبَالَا. لُقِّنَ آدمُ حجَّتَه وأُلقِي إليه ما تُتقبَّلُ به توبتُه، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ}
(1)
.
وطُردَ إبليسُ بعد طولِ خدمتِه فصارَ عملُه هباءً منثورًا، {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}
(2)
. إذا وضَعَ عَدْلَهُ على عَبْدٍ لم تَبْقَ له حَسَنَةٌ، وإذا بَسَطَ فضلَه على عبدٍ لم تَبْقَ له سيئَةٌ.
يُعْطِي ويمْنَعُ من يشاء
(3)
كما يَشَا
…
وهِباتُهُ لَيْسَتْ تُقارِنُها الرُّشا
(4)
لمَّا ظهرَ فضلُ آدمَ على الخلائقِ بالعلمِ، وكان العِلْمُ لا يكمُلُ بدون العمَلِ بمقتضاه، والجنَّةُ ليسَتْ دارَ عمل ومجاهدةٍ، وإنما هي دارُ نعيمٍ ومشاهدةٍ، قيل له: يا آدمُ! اهبِطْ إلى رباطِ الجهادِ، وصابِرْ جُنودَ الهَوَى بالجِدِّ والاجتهاد، واذْرِ
(5)
دُمُوعَ الأسَفِ على البِعَادِ، فكأنكَ بالعيشِ الماضي وقد عادَ على أكملِ من ذلك الوجه المعتاد، [كما قيل]
(6)
:
عُودُوا إلى الوَصْلِ عُودُوا
…
فالهجْرُ صَعْبٌ شَدِيدُ
لو ذاقَ طَعْمَ الفِراقِ رَضْوَى
(7)
…
لَكَادَ مِنْ وَجْدِهِ يَمِيدُ
قَدْ حَمَّلُوني عَذَابَ شوقٍ
…
يَعجِزُ عن حَمْلِهِ الحَدِيدُ
قُلْتُ وقلبي أسيرُ وَجْدٍ
…
متَيَّمٌ في الجَفَا عَمِيدُ
(8)
أنتُم لنا في الهَوَى مَوالٍ
…
ونحنُ في أسرِكُم عَبيدُ
(9)
* * *
(1)
سورة البقرة الآية 37.
(2)
سورة الحجر الآيتان 34 و 35.
(3)
في آ: ا يشاء".
(4)
الرُّشا، بضم الراء وكسرها: جمع رشوة، وهو ما يعطى لقضاء مصلحة.
(5)
أذرت العينُ دمعها: أسألته.
(6)
زيادة من نسخة (آ).
(7)
رَضْوَى: جبل بالمدينة. ورضْوَى: اسم جبل بعينه.
(8)
العميد: الشديد الحزن. وقلبٌ عميد: هدَّه العِشق وكسره.
(9)
المَوالي: أراد بها هنا المالكين، وضدها العبيد.
المجلس الثالث في قدوم الحاج
في "الصحيحين"
(1)
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ حَجَّ هذا البيت فلم يَرْفُثْ، ولم يَفْسُقْ، رَجَعَ من ذنوبه كيوم وَلَدَته أُمُّه". مباني الإِسلام الخمسُ؛ كلُّ واحدٍ منها يُكفِّرُ الذنوبَ والخطايا وَيهدِمُها، ولا إله إلَّا الله لا تُبقي ذنبًا ولا يسبِقُها عَمَل؛ والصَّلواتُ الخمسُ؛ والجُمعَةُ إلى الجُمعةِ، ورَمَضَانُ إلى رمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِما بينَهُنَّ ما اجْتُنِبَتِ الكبائرُ؛ والصَّدَقَةُ تُطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النَّارَ؛ والحجُّ الذي لا رَفَثَ فيه ولا فُسُوقَ، يرجِعُ صاحبُه من ذنوبهِ كيومِ ولَدَتْه أمُّه. وقد استنبَطَ معنى هذا الحديث من القرآنِ طائفةٌ من العلماء، وتَأوَّلُوا قولَ اللّه تعالى:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}
(2)
، بأنَّ مَن قَضَى نُسُكَهُ ورجَعَ منه فإنَّ آثامَه تَسقُطُ عنه إذا اتَّقَى الله عز وجل في أَداءِ نُسُكِهِ، وسواءٌ نَفَرَ في اليوم الأوَّلِ من يَوْمَي النَّفْرِ متعجِّلًا، أو تأخَّر
(3)
إلى اليوم الثاني.
وفي مسند أبي يعلَى الموصلي
(4)
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من قضَى نُسُكَهُ، وسَلِمَ المُسلمونَ مِن لسانِهِ ويدِهِ، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِهِ وما تأخَّر". وفي الصحيحين
(5)
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الحجُّ المبرورُ ليس له جَزاءٌ إلَّا الجنَّةُ". وفي صحيح مسلم
(6)
عنه صلى الله عليه وسلم، قال:"الحجُّ يهدِمُ ما قبلَه". فالحجُّ المبرورُ يُكفِّرُ السيئاتِ ويُوجِبُ دُخُولَ الجنَّاتِ. وقد رُوي أنه صلى الله عليه وسلم سُئلَ عن بِرِّ الحجِّ، فقال:"إطعام الطعامِ، وطيبُ الكلامِ"
(7)
.
(1)
رواه البخاري 3/ 382 في الحج، باب فضل الحج المبرور؛ ومسلم رقم (1350) في الحج، باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة، وليس فيهما "من ذنوبه".
(2)
سورة البقرة الآية 203.
(3)
في ب، ط:"أو متأخرًا".
(4)
ليس في مسند أبي يعلى بهذا اللفظ، وهو في كنز العمال (11810)، والمطالب العالية برقم (1087) في مسند عبد بن حميد، عن جابر بن عبد الله رفعه.
(5)
قطعة من حديث رواه البخاري 3/ 597 في العمرة، باب وجوب العمرة وفضلها، ومسلم رقم (1349) في الحج، باب فضل الحج والعمرة يوم عرفة. وتمامه:"العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما. والحج المبرور ليس له جزاءً إلا الجنة".
(6)
قطعة من حديث رواه مسلم رقم (121) في الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة والحج. وأخرجه المنذري في "الترغيب والترهيب" 2/ 163 مختصرًا.
(7)
رواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 483 من حديث جابر بن عبد الله، وصححه، ووافقه الذهبي.
فالحجُّ المبرورُ ما اجتمع فيه فِعلُ أعمالِ البِرِّ مع اجتنابِ أعمالِ الإثمِ، فما دعا الحاجُ لنفسِهِ ولا دعا له غيرُهُ بأحسَنَ من الدُّعاءِ بأنْ يكونَ حجُّهُ مبرورًا. ولهذا يُشرَعُ للحاج إذا فَرَغَ من أعمالِ حَجّه وشَرَعَ في التحلُّل من إحرامِهِ بِرَمْي جَمْرَةِ العَقَبَةِ يومَ النَّحْرِ أنْ يقول: اللهم اجعلْهُ حجًّا مبرورًا، وسَعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا. رُوي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر من قولهما، وروي عنهما مرفوعًا. وكذلك يُدعَى للقادم من الحج بأن يجعَلَ الله حجَّه مبرورًا.
وفي الأثر أن آدمَ عليه السلام لمَّا حجَّ البيتَ وقضَى نُسُكَهُ أتتْهُ الملائكةُ، فقالوا له: يا آدمُ! بَرَّ حجُّك! لقد حَجَجْنا هذا البيتَ قبلَكَ بألفي عام. وكذلك كان السَّلَفُ يَدعُون لمن رَجَعَ من حَجِّه. لمَّا حجَّ خالدٌ الحذَّاءُ
(1)
ورجَعَ، قال له أبو قِلابةَ
(2)
: بَرَّ العمَلُ! معناه: جعَلَ الله عملَكَ مبرورًا. للحجِّ المبرورِ علاماتٌ لا تخفَى:
قيل للحسن: الحجُّ المبرورُ جزاؤه الجنة. قال: آيةُ ذلك أن يرجِعَ زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة. وقيل له: جزاءُ الحجِّ المبرور
(3)
المغفرةُ. قال: آيةُ ذلك أن يَدَعَ سيئَ ما كان عليه من العمل. الحجّ المبرورُ مثلُ حجِّ إبراهيمَ بن أدهم
(4)
مع رفيقه الرَّجُلِ الصَّالحِ الذي صحِبَهُ من بَلْخ
(5)
، فرجَعَ من حجِّه زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة، وخرَجَ عن مُلْكِهِ ومالِه وأهلِه وعشيرتِه وبلادِه، واختارَ بلادَ الغُرْبَةِ، وقَنَعَ بالأكلِ من عملِ يدِه؛ إمَّا من الحصاد، أو من نِظَارَةِ البساتينِ.
(1)
هو خالد بن مِهران الحذَّاء، أبو المنازل البصريّ. كثير الحديث، كان رجلًا مهيبًا ثقة. توفي سنة 141 هـ.
(2)
هو عبد الله بن زيد بن عمرو الجَرْمي، أبو قلابة البصري. تابعي، ثقة، فاضل. مرض أبو قلابة بالشام، فأتاه عمر بن عبد العزيز يعوده، فقال: يا أبا قلابة! تشدَّد، لا يشمت بنا المنافقون. مات بالشام سنة 104 أو 105 هـ.
(3)
لفظ "المبرور" لم يرد في ب، ط.
(4)
إبراهيم بن أدهم بن منصور التميمي البلخي، أبو إسحاق، زاهد مشهور، من الأشراف، كان أبوه كثير المال والخدم، ومن أهل الغنى في بلخ، فتفقَّه إبراهيم ورحل إلى بغداد، وجال في العراق والشام والحجاز، وكان يعيش من العمل بالحصاد وحفظ البساتين والحمل والطحن، كما يشترك مع الغزاة في قتال الروم. مات سنة 161 هـ. انظر أخباره مفصلة في تهذيب تاريخ ابن عساكر 2/ 167 ومختصره لابن منظور 4/ 17، وصفة الصفوة 4/ 152.
(5)
بَلْخ: مدينة مشهورة بخراسان. (ياقوت).
حجَّ مرَّةً مع جماعةٍ من أصحابه، فشرَطَ عليهم في ابتداء السَّفَرِ ألَّا يتكلَّمَ أحدُهم إلا الله تعالى، ولا ينظرَ إلا له. فلمَّا وصَلُوا وطافُوا بالبيت رأوا جماعةً من أهلِ خُراسانَ في الطوافِ معهم غُلامٌ جميلٌ قد فُتِنَ النَّاسُ بالنظر إليه، فجَعَلَ إبراهيمُ يسارِقُهُ النظرَ ويبكي، فقال له بعضُ أصحابه: يا أبا إسحاق! ألم تقُلْ لنا لا تنظروا
(1)
إلا لله تعالى؟ فقال: ويحكَ! هذا ولدي، وهؤلاء خدمي وحشَمِي، [ثم أنشد]
(2)
:
هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرًّا في هواكَ
…
وأيتمْتُ العِيالَ لكي أَرَاكَا
فلو قطَّعْتَنِي في الحبِّ إرْبًا
…
لَما حَنَّ الفؤادُ إلى سوَاكا
قال بعضُ السَّلَف: استِلامُ الحجَرِ الأسوَدِ هو ألَّا يعودَ إلى مَعْصيةٍ. يشير إلى ما قاله ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: أن الحجَرَ الأسودَ يمينُ اللهِ في الأرضِ، فمن استلَمَه وصافَحَه فكأنما صافَحَ الله وقبَّلَ يمينَه. وقال عكْرمَةُ: الحجَرُ الأسودُ يمينُ اللهِ في الأرضِ، فَمَنْ لم يدرِكْ بَيْعَةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ. الرُّكْنَ فقد بايَعَ الله ورسولَه. وورد في حديثٍ أن الله لمَّا استخرَجَ من ظهر آدمَ ذرّيَّتَه وأخذَ عليهم الميثاقَ، كتبَ ذلك العهدَ في رَقٍّ
(3)
، ثم استودَعَه هذا الحَجَر، فمِنْ ثَمَّ يقولُ مَنْ يستَلِمهُ: وفاء بعهدِكَ. فمستلِمُ الحجَر يبايعُ الله على اجتناب معاصيه
(4)
، والقيام بحقوقه {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)}
(5)
.
يا مُعَاهِدينا على التَّوبةِ! بينَنا وبينَكم عهودٌ أكيدَةٌ، أوَّلُها: يومَ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}
(6)
. والمقصُودُ الأعظمُ مِن هذا العهدِ ألَّا تعبُدُوا إلَّا إياهُ. وتمامُ العَمَل بمقتضاهُ أن اتَّقُوا اللّه حقَّ تقواه
(7)
. وثانيها: يومَ أرسَلَ إليكم رسولَه وأنزلَ عليه في كتابه {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}
(8)
.
(1)
في ب، ش، ط:"لا ننظر".
(2)
زيادة من آ، ش.
(3)
الرَّق، بالفتح: ما يكتب فيه، وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى:{فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)} .
(4)
في آ: "معصيته".
(5)
سورة الفتح الآية 10.
(6)
سورة الأعراف الآية 172.
(7)
في سورة آل عمران الآية 102 {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} الآية.
(8)
سورة البقرة الآية 40.
قال سهل التُّسْتَريُّ
(1)
: منْ قال لا إله إلا الله فقد بايَعَ الله، فحرامٌ عليه إذ بَايعَهُ أنْ يعصِيَهُ في شيءٍ مِن أمرِهِ، في السِّرِّ والعَلانيةِ، أو يُوالِي عدوَّه، أو يُعادِي وليَّهُ.
يا بَني الإسلام منْ عَلَّمَكُمْ
…
بَعْدَ إذْ عاهَدْتُمُ نَقْضَ العُهُودِ
كلُّ شَيءٍ في الهوَى مُسْتحْسَنٌ
…
ما خَلا الغَدْرَ وإخْلافَ الوُعُودِ
وثالثها: لِمن حَجَّ إذا استلَم الحجَرَ فإنَّه يجدَّدُ البَيْعَةَ، ويلتزِمُ الوفاءَ بالعهدِ المتقدِّم، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}
(2)
. الحرُّ الكريمُ لا ينقُضُ العَهْدَ القديمَ.
أَحَسِبْتُمُ أنَّ الليالي غَيَّرَتْ
…
عقدَ الهَوَى لا كانَ مَنْ يَتَغَيَّرُ
يَفْنَى الزَّمانُ وليسَ نَنْسَى
(3)
عَهْدَكُمْ
…
وعلى مَحَبَّتِكُم أَمُوتُ وأُحْشَرُ
(4)
إذا دعتْكَ نفسُكَ إلى نقضِ عهدِ مولاكَ فقُلْ لها: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)}
(5)
.
اجتاز بعضُهم على منظورٍ مُشْتَهى، فهمَّتْ عينُه أن تمتدَّ، فصاحَ:
حَلَفْتُ بِدِينِ الحُبِّ لا خُنْتُ عَهْدَكُمْ
…
وذلك عَهْدٌ لو عَرَفْتَ وَثيِقُ
تاب بعضُ من تقدَّمَ، ثم نقَضَ، فهتَفَ به هاتفٌ بالليل يقول:
سأتْرُكُ ما بيني وبينَكَ واقِفًا
…
فإن عُدْتُ عُدْنا والوِدَادُ مُقِيمُ
تُواصِلُ قومًا لَا وفاءَ لِعَهْدِهِم
(6)
…
وتَتْرُكُ مِثْلِي والحِفاظُ قَدِيمُ
من تكرَّرَ منه نقضُ العهدِ لم يُوثَقْ بمعاهدتِه. دخل بعضُ السَّلفِ على مريض مكروبٍ فقال له: عاهِدِ الله على التوبةِ لعلَّه أن يُقيلَكَ صَرْعَتَكَ
(7)
. فقال: كنتُ كلَّما مَرِضْتُ عاهدْتُ اللّه على التَّوبةِ فيُقيلني، فلمَّا كان هذه المرة ذهبْتُ أعاهِدُ كما كنْتُ
(1)
هو سهل بن عبد الله بن يونس التُّسْتَريّ، أبو محمد، الصوفي الزاهد، أحد أئمة الصوفية وعلمائهم، لم يكن له في وقته نظير في المعاملات والورع. توفي سنة 283 هـ. انظر وفيات الأعيان 2/ 429، صفة الصفوة 4/ 64، سير أعلام النبلاء 13/ 330.
(2)
سورة الأحزاب الآية 23.
(3)
في آ، ع:"ينسى"، وفي ش:"يفنى".
(4)
في آ: "وأقْبرُ".
(5)
سورة يوسف الآية 23.
(6)
في ب: "لوعدهم".
(7)
يقيلك صرعتك: شفاك وصفح عنك. يقال: أقال الله عثرته: صفح عنه وتجاوز.
أعاهِدُ، فهتفَ بي هاتفٌ من ناحيةِ البيت: قد أقلْنَاكَ مرارًا فوجدناك كَذَّابًا، ثم مات عن قريبٍ.
لا كان من ينقُضُ العَهْدَ لا كانْ
(1)
…
ما ينقض العَهْدَ إلا كل خوَّانْ
[غيره]
(2)
:
تُرَى الحيّ الأُلى بانُوا
…
على العَهْدِ كما كَانُوا
أم الدَّهْرُ بهم خَانا
…
ودَهرُ المَرْءِ خَوَّانُ
إذا عَزَّ بغيرِ الله
…
يومًا مَعْشَر هانُوا
مَنْ رَجَعَ مِن الحج فلْيُحافِظْ على ما عاهَدَ اللّهَ عليه عندَ استلامِ الحَجَر. حجَّ بعضُ من تقدَّمَ فباتَ بمكةَ مع قوم، فدعتْهُ نفسُه إلى معصيةٍ، فسمعَ هاتفًا يقولُ: ويلك! ألم تحجَّ؟ فعصَمَهُ الله من ذلك. قبيحٌ بمن كمَّلَ القيامَ بمباني الإسلام الخَمْسِ
(3)
أن يشرَعَ في نَقْضِ ما بَنَى بالمعاصِي. في حديثٍ مرسَل خرَّجه ابنُ أبي الدنيا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "يا فلَان! إنَّكَ تبني وتهدِمُ"، يعني تعمَلُ الحسناتِ والسيئاتِ. فقال: يا رسولَ الله، سوف أبني ولا أهدِمُ.
خُذْ في جِدٍّ فقد تَوَلَّى العُمرُ
…
كَمْ ذا التَّفْرِيطُ قد تَدَانَى الأمرُ
أَقْبِلْ فَعَسَى يُقْبَلُ مِنْكَ العُذرُ
…
كَمْ تبنِي كم تَنْقُضُ كم ذا الغَدْرُ
علامةُ قَبُولِ الطَّاعةِ أن تُوصَلَ بطاعةٍ بعدَها، وعلامَةُ ردِّها أن تُوصَلَ بمعصيةٍ. ما أحسن الحسنةَ بعد الحسنَةِ، وأقبَحَ السيئةَ بعدَ الحَسَنةِ
(4)
!! ذنبٌ بعدَ التوبةِ أقبَحُ مِن سبعين قبلَها. النَّكْسَةُ أصعَبُ من المرضِ الأوَّلِ. ما أوحشَ ذُلَّ المعصيةِ بعدَ عِزِّ الطاعة! ارْحَمُوا عزيزَ قومٍ بالمعاصِي ذلَّ، وغنِيَّ قومٍ بالذُّنوبِ افتَقَرَ. سَلُوا الله الثباتَ
(1)
في ب، ط:"لا كان من نقض العهد مَن كان". وأدرج البيت في المطبوع على أنه من الكلام المنثور.
(2)
زيادة من نسخة (ع).
(3)
في الحديث الصحيح: "بني الإسلام على خمس؛ شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاء الزكاة، وحجِّ البيت، وصوم رمضان".
(4)
في آ: "السيئة بعد السيئة".
إلى المماتِ، وتعوَّذُوا من الحَوْرِ بعدَ الكَوْرِ
(1)
. كان الإمامُ أحمدُ يدعو ويقولُ: اللهمَّ أعِزَّني بطاعتِكَ ولا تذلَّني بمعصيتِكَ.
وكان عامة دعاءِ ابراهيمَ بن أدهَم: اللهم انقلْنِي مِن ذُلِّ المعصيةِ إلى عزِّ الطاعةِ. وفي بعضِ الآثارِ الإلهيةِ: يقول الله تبارك وتعالى: أنا العزيزُ، فَمَنْ أرادَ العِزَّ فليُطِع العَزِيزَ.
ألا إنَّما التَّقوَى هِيَ العِزُّ والكَرَمْ
…
وحبُّكَ للدُّنيا هُوَ الذُّلُّ والسَّقَمْ
وليسَ على عَبْدٍ تقيٍّ نَقِيصَةٌ
…
إذا حقَّقَ التَّقْوَى وإنْ حاكَ أو حَجَمْ
الحاج إذا كان حجُّه مَبرورًا غُفِرَ له ولمن استغفرَ له، وشُفِّعَ فيمن شُفِّعَ فيه. وقد رُوِيَ أن الله تعالى يقولُ لهم يومَ عرفَةَ:"أفيضُوا مغفورًا لكُم ولمن شَفَعْتُم فيه"
(2)
. وروى الإِمامُ أحمدُ بإسناده عن أبي موسى الأشعري، قال:"إن الحاجَّ لَيشفَعُ في أربعمائة بيتٍ من قومِه، ويُبارَكُ في أربعينَ من أُمَّهاتِ البعيرِ الذي يحمِلُهُ، ويخرجُ من خطاياهُ كيومِ ولدتْهُ أمُّه، فإذا رَجَعَ من الحجِّ المبرورِ، رجَعَ وذنْبُهُ مغفورٌ، ودُعاؤه مستجابٌ"
(3)
. فلذلك يُستَحَبُّ تلقيهِ والسلامُ عليه وطلبُ الاستغفارِ منه. وتلقِي الحاج مَسْنُونٌ.
وفي "صحيح مسلم"
(4)
، عن عبد الله بن جعفر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدِمَ من سَفَرٍ تُلقِّيَ بصبيانِ أهلِ بيته"
(5)
، وإنه قدِمَ مِن سَفَرٍ فسُبِقَ بي إليه، فَحَمَلَني بين يدَيه، ثم جِيء بأحدِ ابنَيْ فاطِمة، فأرْدَفَهُ خَلْفَه، فأُدْخِلْنا المدينةَ، ثلاثةً على دابَّة. وقد ورد النهيُ عن ركوبِ ثلاثةٍ على دابةٍ في حديثٍ مرسل، فإنْ صَحَّ حُمِلَ على رُكوبِ
(1)
في الحديث: "نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر"، أي الرجوع بعد الاستقامة.
(2)
قطعة من حديث طويل رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد ذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" 2/ 172، 187.
(3)
ذكره الهيثمي مختصرا في "مجمع الزوائد" 3/ 211، قال: وعن أبي موسى رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"الحاج يشفع في أربعمائة من أهل بيت، أو قال: من أهل بيته، ويخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وقال: رواه البزار، وفيه من لم يسم. وأخرجه أيضًا المنذري في "الترغيب والترهيب" 2/ 166.
(4)
صحيح مسلم رقم (2428)(66) في فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما.
(5)
في ط وهامش ب "أهل المدينة"، والمثبت يوافق ما جاء في مسلم.
ثلاثةِ رجالٍ؛ فإنَّ الدَّابةَ يشُقُّ عليها حملهم بخلافِ رجلٍ وصغيرين.
وفي المسند و"صحيح الحاكم"
(1)
، عن عائشةَ، قالت: أقبلْنا مِن مكَّةَ في حجٍّ أو عمرةٍ، فتلقانا غِلمانٌ من الأنصار كانوا يتلقَّوْن أهاليهم إذا قدِمُوا. وكذلك السَّلامُ على الحاج إذا قدِمَ ومصافحتُه، وطلبُ الدعاء منه. وفي المسند
(2)
بإسنادٍ فيه ضعفٌ، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا لقيتَ الحاجّ فسلِّمْ عليه، وصافِحْه، ومُرْهُ أن يستغفرَ لك قبلَ أن يدخلَ بيتَه؛ فإنه مغفورٌ له". وفيه أيضًا عن حبيب بن أبي ثابت
(3)
، قال: خرجْتُ مع أبي نتلقَّى الحاجَّ ونسلِّمُ عليهم قبلَ أن يتدنسُوا.
ورَوَى معاذُ بن الحكم، قال
(4)
: حدثنا موسى بن أعين، عن الحسن، قال: إذا خرج الحاجّ فشيِّعُوهم وزوِّدُوهم الدعاء وإذا قَفَلُوا فالتقوهم
(5)
وصافحوهم قبل أن يخالِطُوا الذنوبَ؛ فإِن البركةَ في أيديهم. ورَوى أبو الشيخ الأصبهاني
(6)
وغيرُه من رواية ليث
(7)
، عن مجاهد، قال: قال عمر: يُغفَرُ للحاج ولمن استغفَرَ له الحاج بقيَّةَ ذي الحجَّةِ، ومحرَّم، وصفَرَ، وعشْرٍ من ربيع الأول. وفي مسند البزار وصحيح الحاكم من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"اللهم اغفِرْ للحاجِّ، ولِمَن اسْتَغفَرَ له الحاج"
(8)
.
(1)
رواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 488، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
(2)
أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 69: عن عفان، عن محمد بن الحارث الحارثي، عن محمد بن عبد الرحمن بن البَيْلَماني، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 16، وقال: رواه أحمد، وفيه محمد بن البيلماني، وهو ضعيف.
(3)
حبيب بن أبي ثابت، واسم أبي ثابت: قيس بن دينار، ويقال: قيس بن هند، ويقال: هند، الأسدي، أبو يحيى الكوفي. ثقة فقيه جليل، وكان مفتي الكوفة قبل حماد بن سلمة. روى له الجماعة. توفي سنة 119 هـ. (طبقات ابن سعد 6/ 320، تهذيب الكمال 5/ 358، سير أعلام النبلاء 5/ 288).
(4)
لفظة "قال" زيدت من آ، ع.
(5)
في ب، ط:"فالْقَوهم".
(6)
هو عبد الله بن محمد بن جعفر بن حِبَّان الأصبهاني، أبو محمد، ويقال له: أبو الشيخ، ونسبته إلى جده حبّان. من حفاظ الحديث العلماء برجاله، له تصانيف، مات سنة 369 هـ. (النجوم الزاهرة 4/ 136، الأعلام للزركلي 4/ 120).
(7)
في ب: "اليت"، وفي ط:"لبنت" وهو تحريف.
(8)
روى المنذري في "الترغيب والترهيب" 2/ 167 عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاجُّ. رواه البزار والطبراني في الصغير، وابن خزيمة في صحيحه والحاكم، ولفظهما، قال: اللهم اغفر للحاجِّ، ولمن استغفر لها لحاجُّ. وقال الحاكم (1/ 441): صحيح على شرط مسلم. قال الحافظ: في إسناده شريك القاضي، ولم يخرَّج له مسلم إلا في المتابعات.
ورَوى أبو معاوية الضَّريرُ، عن حجاج، عن الحكم، قال: قال ابن عباس: لو يعلَمُ المقيمُونَ ما للحاج عليهم من الحق لأتَوْهُم حينَ يَقْدَمُون حتَّى يقبِّلُوا رواحِلَهم
(1)
؛ لأنهم وفدُ اللّهِ في جميعِ الناسِ. ما للمنقطِعِ حيلةٌ سِوى التعلُّقِ بأذيالِ الواصِلينَ.
هل الدَّهرُ يومًا بوَصْلٍ يَجُودُ
…
وأيَّامُنا باللِّوَى
(2)
هَلْ تَعُودُ
زَمَانٌ تَقَضَّى وعَيْشٌ مَضَى
…
بِنَفْسِيَ واللهِ تلكَ العُهُودُ
ألا قُلْ لِزوَّارِ دَارِ الحَبِيب
…
هنيئًا لكُمْ في الجِنانِ الخُلُودُ
أَفِيضُوا علينا مِنَ الماء فَيضًا
…
فنحنُ عِطاشٌ وأنتُمْ وُرُودُ
أحبُّ ما إلى المُحبِّ سؤالُ مَنْ قدِمَ مِن ديارِ الحَبيبِ.
عارِضَا بي رَكْبَ الحجازِ أسائلـ
…
ـه متى عهدُهُ بأيَّامِ سَلْعِ
(3)
واستملَّا
(4)
حديثَ مَن سَكَنَ الخَيفَ
(5)
…
ولا تَكْتُباهُ إلَّا بِدَمْعِي
فاتنِي أَنْ أَرَى الدِّيارَ بطرفِي
…
فلَعلِّي أَرَى الدِّيارَ بسَمْعِي
مَنْ مُعيدٌ
(6)
أيَّامَ جَمعٍ على ما
…
كانَ منها وأينَ أيَّامُ جمعِي
لقاءُ الأحبابِ لِقاحُ الألبابِ، وأخبارُ تلك الديار أَحْلَى عند المحبينَ مِن الأسمارِ.
إذا قدِمَ الرَّكْبُ يَمَّمْتُهُم
…
أُحيِّي الوُجُوهَ قُدُومًا ووِرْدا
وأسألهُمْ عن عَقيقِ
(7)
الحِمَى
…
وعَنْ أرض نجْدٍ وَمَنْ حَلَّ نَجْدا
حَدِّثُوني عن العَقِيقِ حَديثًا
…
أَنْتُمُ بالعَقِيقِ أَقْرَبُ عَهْدا
(8)
أَلَا هَلْ سمِعْتُم ضَجِيجَ الحَجيجِ
…
على ساحةِ الخيفِ والعِيسُ تُحْدَا
فذِكْرُ المشاعِرِ والمَرْوَتَيْنِ
…
وذِكْرُ الصَّفا يطرُدُ الهَمَّ طَرْدَا
(1)
في هامش ب، ط:"أرجلهم".
(2)
اللِّوَى: موضع بعينه، قد أكثرت الشعراء من ذكره.
(3)
سَلْع: جبل بسوق المدينة. (ياقوت).
(4)
استمليت الكتاب: سألت من يمليه عليَّ.
(5)
أي مسجد الخَيف من مِنى.
(6)
في ش، ع: "من يُعِد لي أيام
…
".
(7)
يقال لكل مسيل ماء شقه السيل في الأرض فأنهره ووسعه: عقيق. ومنه: عقيق بناحية المدينة فيه عيون ونخل. (ياقوت).
(8)
هذا البيت من وزن الخفيف غير بقية الأبيات، فهي من المتقارب.
أرواحُ القَبُولِ تَفُوحُ مِنَ المقبُولينَ، وأنوارُ الوُصُولِ تَلوحُ على الواصِلينَ.
تفوحُ أرواحُ نَجْدٍ مِن ثيابهم
…
عندَ القُدُوم لِقُرْب العَهْدِ بالدّارِ
أَهْفُو إلى الرَّكْب تَعْلُو لي ركائبُهُم
…
مِنَ الحِمَى في أُسَيْحاقٍ وأَطْمارِ
(1)
يا راكبانِ قِفا لِي واقْضِيَا وَطَرِي
…
وحَدِّثانيَ عن نَجْدٍ بأخْبارِ
[أهلًا وسهلًا بزوَّار الحبيب ويا
…
طُوبَى لكُمْ فَلأنْتُم خَيْرُ زُوّارِ
يا مَرْحبًا بالقريبِ العَهْدِ من جُدُرِ الـ
…
ـبيتِ العتيقِ وتقبيلٍ لأحجارِ
بشراكُمُ نِلْتُمُ الفَوْزَ العظيمَ وَعُدْ
…
تُمْ ظافرين بآمال وأَوْطارِ
قد قلْتُ للرَّكْبِ إذْ لاحَتْ أوائلهم
…
كأنجمٍ زهرَتْ حسنًا وأقمارِ
مِن نظرةِ القُرْبِ قد لاحَتْ مترجمة
…
على وجوههمُ آثار أنوارِ
مِن الكآبةِ قد عُوفُوا كما حُفِظُوا
…
في ذلك القصدِ مِن وَعْثاء أسفارِ
كيف نجادٌ وهل جادَتْ مرابعه
…
جود السَّحاب بتهتانٍ ومِدْرارِ
قَنعْتُ مِن رؤيةِ الأحباب معجزةً
…
بطيب ذِكْرٍ ونِشْدَانٍ لأخبارِ
بالله كيفَ حِمَى سَلْعٍ
…
ومنعرَجِ اللِّوى ومَا فيه مِن طَلْحٍ وأشجارِ
وأَبْرَقِ الجذْع والأعلام من إضَمٍ
…
والمأزِمَانِ سقاها الله من دارِ
كيف الرِّياضُ بأكنافِ العقيق وهَلْ
…
أَمَالَ باناتها ريحُ الصَّبا السَّاري
وهل نزلتُمْ على وادي العروس
…
وَرَويتُمْ بهِ العِيسَ في وِردٍ وإصدارِ
لله أنتُمْ وقَدْ لاحَتْ قِبابُ قُبا
…
عند الصَّباحِ لقصَّادٍ وزُوَّارِ
وهل رأيتُم عَروسَ الكون سافرةً
…
تُجلَى بأعينِ جُلَّاسٍ وحُضَّارِ
قد أبرزت لمحبِّيها محاسنَها
…
لطفًا بتشهير أذيالٍ وأستارِ
ما اختارت
…
الملوك
…
إلَّا حفاظًا لأحداقٍ وأبصارِ
لولاهُ ما كادَتِ الأبْصَارُ تبصِرُهُ
…
خوفًا على العين من
…
أنوارِ
والعاشقون حواليها لِذِي وَلَهٍ
…
يهزهم مزعجا وَجْدٍ وتِذْكارِ
(1)
في ش: "من أخلاق وأطمار". والأطمار: جمع طِمْر، وهو الثوب الخلَق، ومثلها "أسيحاق".
طُوبَى لعينٍ رأَتْ ذاكَ الجنابَ لَقَدْ
…
رأت جلاءً لأبدانٍ وإبصارِ
وَجْهٌ تعفَّرَ في ذاكَ التُّراب بَدَتْ
…
عليه نَضْرَةُ حُسْنٍ عند إبصارِ
تُرَى خَطَرْتُ لكم يومًا عَلى خلَدٍ
…
لصاحبٍ ساعةً في الدَّهر أو
…
يقول بعده:
وإخَجْلَةَ المتواني عند رؤية مَنْ
…
قد فاز سابقةً من غير إقصارِ
ما لي وإن بَعُدَت بي عن ديارِهم
…
عوائقٌ من آثامي وأوزارِي
إلَّا حنينٌ إليها كلَّما خَمَدَتْ
…
نيرانه هاجَهُ وَجْدِي وتِذكاري
ولا أزالُ وإنْ شطَّت وإن قَرُبَتْ
…
أثني بجهدي في جهرِي وإسراري
على نبيٍّ له في الفضلِ منزلةٌ
…
علياء يقصُرُ عنها كل مختار
محمَّدٍ موضح الإِشكال
…
الآمال واضعُ أغلال وآصارِ
يا سيّدَ الرُّسْلِ يا أَسْمَى الأنام عُلى
…
يا خير الورى يا صفوةَ الباري
عليك أَزكَى سلامُ اللهِ ما صَدَحَتْ
…
وَرقاءُ أو سحَرت أنفاسُ أسحارِ]
(1)
ما يُؤهَّلُ للإكثارِ منَ التردُّدِ إلى تلك الآثار إلَّا محبوب
(2)
مختار.
حجَّ عليّ بن الموفَّق
(3)
ستين حَجّةً، قال: فلما كان بعدَ ذلك جلسْتُ في الحجْرِ أفكِّرُ في حالي وكثرةِ تردادِي إلى ذلك المكانِ، ولا أدرى هَل قُبِلَ مِنِّي حجّي أم رُدَّ. ثم نِمْتُ فرأيتُ في منامي قائلًا يقولُ لي: هل تدعو إلى بيتِك إلَّا مَن تحِبُّ؟ قال: فاستيقظْتُ وقد سُرِّيَ عنِّي. ما كلَ من حجَّ قُبِلْ، ولا كُلُّ مَن صلَّى وُصِل. قيل لابن عمرَ: ما أكثرَ الحاجَّ! قال: ما أقلَّهُم! وقال: الرَّكْبُ كثيرٌ، والحاجُّ قليلٌ.
حجَّ بعضُ المتقدمين فتُوفي في الطريق في رجوعِهِ، فدَفَنَه أصحابُه ونَسُوا الفأسَ
(1)
ما بين قوسين زيادة مثبتة في هامش نسخة (آ)، ولم ترد في باقي النسخ.
(2)
في آ: "حبيب" وفي ط وهامش ب عن نسخة "محب".
(3)
هو أبو الحسن العابد، ثقة، عزيز الحديث، وكان من الزاهدين المذكورين. مات سنة 265 هـ. له ترجمة في حلية الأولياء 20/ 311، تاريخ بغداد 12/ 110، صفة الصفوة 2/ 387، وورد الخبر بنحوه فيها.
في قبرِهِ، فنَبَشُوه ليأخذوا الفأسَ، فإذا عُنقُه وَيداهُ قد جُمِعَتْ في حَلْقَةِ الفأسِ، فردُّوا عليه الترابَ، ثم رجَعُوا إلى أهلِه فسألوهم عن حالِهِ، فقالوا: صحِبَ رجلًا فأخَذَ مالَهُ، فكان يَحُجُّ منه.
إذا حَجَجْتَ بمالٍ أصلُهُ سُحُتٌ
…
فما حَجَجْتَ ولكنْ حَجَّتِ العِيرُ
لا يَقبَلُ الله إلا كُلَّ صالِحةٍ
…
ما كل مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللهِ مَبْرُورُ
مَنْ حَجُّهُ مَبْرورٌ قليلٌ، ولكنْ قد يُوهَبُ المسيءُ للمحسنِ. وقد رُويَ أن الله تعالى يقول عشيَّةَ عَرَفَةَ:"قد وَهَبْتُ مسيئكم لمحسِنِكُم". حجَّ بعضُ المتقدمينَ، فنامَ ليلةً، فرأى مَلَكَيْنِ نَزَلا من السَّماءِ، فقال أحدُهما للآخر: كم حجَّ العامَ؟ قال: ستمائة ألفٍ، فقال له: كم قُبِلَ منهم؟ قال: ستةٌ، قال: فاستيقظَ الرجُلُ وهو قَلِقٌ ممَّا رأى. فرأى في الليلة الثانية كأنَّهما نزلا وأعادا القولَ، وقال أحدهما: إن الله وَهَبَ لكل واحدٍ من الستةِ مائةَ ألفٍ. كان بعضُ السَّلفِ يقولُ في دعائه: اللهم إن لم تقبلْني فهبني لمن شئتَ من خَلْقِكَ. مَنْ رُدَّ عليه عملُه ولم يُقْبَلْ منه فقد يعوَّضُ ما يعوَّضُ المُصَابُ، فيُرحَمُ بذلك.
قال بعضُ السَّلفِ في دعائه بعرفةَ: اللهم إن كنتَ لم تَقْبَلْ حَجِّي وتَعَبِي ونَصَبِي، فلا تَحْرِمْنِي أجرَ المُصيبةِ على ترككَ
(1)
القَبُولَ مِني. وقال آخر منهم: اللهم ارحمني؛ فإنَّ رحمتَكَ قريبٌ من المحسنين، فإن لم أكن محسنًا فقد قلت {وكانَ بالمؤمِنينَ رَحِيمًا}
(2)
، فإن لم أكُنْ كذلك فأنا شيءٌ، وقد قلْتَ:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُل شَيء}
(3)
، فإن لم أكنْ شيئًا فأنا مصابٌ بِرَدِّ عَمَلِي وتعَبي ونَصَبِي، فلا تحرمْنِي ما وعدْتَ المُصَابَ من الرَّحْمةِ. قال هلالُ بن يساف
(4)
: بلغنِي أن المسلم إذا دعا الله فلم يستجبْ له كُتِبَ له حسنةٌ. خرَّجه ابنُ أبيَ شيبةَ. يعني جزاءً لمصيبةِ رَدِّهِ.
(1)
في آ: "ترك".
(2)
سورة الأحزاب الآية 43.
(3)
سورة الأعراف الآية 156.
(4)
في ط "يسار"، وهو هلال بن يساف، وقال: ابن إساف، الأشجعي الكوفي. كان ثقة، كثير الحديث. من الثالثة. (تهذيب التهذيب 11/ 86).
ومن كانَ في سُخْطِهِ مُحْسِنًا
…
فكيفَ يكونُ إذا ما رَضِي
قُدُومُ الحاجِّ يُذكِّرُ بالقُدُومِ على اللهِ عز وجل.
قَدِمَ مسافر فيما مضَى على أهله، فَسُروا به، وهناك امرأة مِن الصَّالحات، فَبكَتْ وقالَتْ: أَذْكَرَنِي هذا بقُدُومِه القُدُومَ على اللهِ عز وجل، فمِنْ مَسْرُورٍ ومَثْبُورٍ
(1)
. قال بعضُ الملوك لأبي حازمٍ
(2)
: كيفَ القُدُومُ على الله تعالى؟ فقال أبو حازم: أمَّا قُدُومُ الطائعِ على الله تعالى فكَقُدُوم الغائب على أهلِه المشتاقين إليه، وأمَّا قُدُومُ العاصِي فكَقُدوم [العبدِ]
(3)
الآبقِ على سَيِّدِه الغضبان.
لَعَلَّكَ غَضْبَانُ وَقلبِيَ غافِل
…
سَلامٌ على الدّارَيْن إنْ كُنْتَ رَاضِيا
في بعض الآثار الإسرائيلية: يقولُ اللهُ عز وجل: ألا طَالَ شوقُ الأبرارِ إليَّ، وأنا إلى لقائهم أشَدُّ شَوْقًا. كم بين الذين {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)}
(4)
وبين الذين {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)}
(5)
. قال علي رضي الله عنه: تتلقَّاهُم الملائكةُ على أبواب الجنة {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}
(6)
. ويَلْقَى كُل غِلمانٍ صاحبَهم يُطِيفُونَ به فِعْلَ الوِلْدان بالحَميم جاء من الغَيبةِ، ويقولون
(7)
: أبشِرْ فقدْ أعدَّ الله لكَ مِن الكرامةِ كذا وكذا
(8)
، وينطلِقُ غُلامٌ من غلمانِهِ إلى أزواجِهِ مِن الحُور العِينِ، فيقول: هذا فلان، باسمِه في الدنيا، فيقلْنَ: أَنتَ رأيتَه؟ فيقول: نعم. فيستخَفُّهُنَّ الفَرَحُ حتى يخرُجْنَ إلى أُسْكُفةِ الباب
(9)
.
قال أبو سليمان الدارانيُّ: تَبْعَث الحَوْراءُ من الحُورِ الوَصِيفَ من وَصَائفِها، فتقول: ويحَكَ! انظُرْ ما فُعِلَ بوليّ الله، فتستبطِئُه فتبعثُ وصيفًا آخَرَ، فيأتي الأوَّلُ
(1)
المثبور: الهالك والخاسر.
(2)
هو أبو حازم الأعرج، سلمة بن دينار المخزومي، عالم المدينة وقاضيها وشيخها، وله أخبار كثيرة. مات سنة 140 هـ. وقد ورد الخبر بنحوه في صفة الصفوة 2/ 158 قاله لسليمان بن عبد الملك.
(3)
زيادة من ط، ب. والآبق: الهارب.
(4)
سورة الأنبياء الآية 103.
(5)
سورة الطور الآية 13.
(6)
سورة الزمر الآية 73.
(7)
لفظة "ويقولون" زيادة من نسخة (آ) فقط.
(8)
تكررت عبارة "قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا" في ب، ط.
(9)
أُسْكُفَّةُ الباب: عتبته.
فيقولُ: تركْتُه عندَ الميزانِ، ويأتي الثاني فيقول: تركْتُه عندَ الصِّراطِ، ويأتي الثالث فيقولُ: قد دخل باب الجنة، فيستخفُّهَا
(1)
الفرَحُ فتقفُ على باب الجنة، فإذا أتاها اعتَنَقَتْهُ، فيدخُلُ خياشيمَهُ مِن ريحها ما لا يخرُجُ أبدًا.
قَدْ أُزْلِفَتْ جنَّةُ النعِيمِ فيا
…
طُوبَى لِقَوْمٍ برَبْعِها نَزَلُوا
أكوابُها
(2)
عَسْجَدٌ يُطافُ بها
…
والخمرُ والسلسبيلُ والعسَلُ
والحورُ تلقاهُمُ وَقَدْ كُشفَتْ
…
عن الوجوه بها الأستار والكِللُ
* * *
(1)
في آ، ش:"فيستقبلها"، وفي ع:"فيستقيلها".
(2)
في ع، ب، ط:"أكوابهم".
وظيفة شهر صفر
في "الصحيحين"
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:"لا عَدْوَى ولا هامَةَ ولا صفَرَ". فقال أعرابي: يا رسولَ الله، فما بالُ الإبل تكونُ في الرَّملِ كأنها الظِّباءُ فيخالطُها البَعيرُ الأجرَبُ فيُجْرِبُها؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"فمن أعْدَى الأول"؟. أما العَدْوَى فمعناها أنَّ المرضَ يتعدّى من صاحبِه إلى مَن يُقارِبُه مِنَ الأصحَّاءِ فيمرَضُ بذلك. وكانت العَرَبُ تعتقِدُ ذلك في أمراض كثيرةٍ منها الجرَبُ، ولذلك سأل الأعرابيُّ عن الإبل الصحيحة يُخالِطُها البعيرُ الأجرَبُ فتجربُ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: فَمَنْ أَعْدَى الأول؟ ومُرادُه أن الأوَّلَ لم يجرَبْ بالعَدْوَى بل بقضاءِ اللهِ وقدَرِه، فكذلك الثاني وما بعدَه.
وقد وردَتْ أحاديثُ أشكَلَ على كثيرٍ من الناس فهمُها، حَتَّى ظَنَّ بعضُهم أنها ناسخةٌ لقوله: لا عَدْوَى، مثل ما في الصحيحين
(2)
، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصحٍّ".
والمُمْرِضُ: صاحبُ الإِبل المريضةِ، والمُصِحُّ: صاحبُ الإبلِ الصَّحيحةِ.
(1)
أخرجه البخاري 10/ 241 في الطب، باب: لا هامة. ومسلم رقم (2220) في السلام، باب لا عدوى ولا طيرة الخ. وأبو داود في سننه رقم (3911) في الطب، باب في الطيرة. والعدوى: اسم من الإعداء، يقال: أعداه الداء يعديه إعداء، وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء. وأما الهامة: فإن العرب تقول: إن عظام الموتى تصير هامة فتطير، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من قولهم. والصفر: دواب في البطن، وهي دود. كانوا يعتقدون أن في البطن دابة تهيج عند الجوع، وربما قتلت صاحبها، وكانت العرب تراها أعدى من الجرب.
(2)
أخرجه البخاري 10/ 241 في الطب، باب: لا هامة. ومسلم رقم (2221) في السلام، باب لا عدوى ولا طيرة الخ. وأبو داود رقم (3911) في الطب، باب في الطيرة.
والمرادُ النَّهيُ عن إيراد الإبل المريضةِ على الصحيحة. ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "فِرَّ من المَجْذُوم فراركَ من الأسدِ"
(1)
. وقوله صلى الله عليه وسلم في الطاعون: "إذا سَمِعتم به بأرض فلا تدخلُوها"
(2)
. ودخولُ النَّسخِ في هذا كما تخيَّلَه بعضُهم لا معنَى له؛ فإن قوله "لا عَدْوَى" خبرٌ محضٌ لا يُمكنُ نسْخُه إلَّا أن يقال: هو نهيٌ عن اعتقادِ العَدْوَى، لا نَفْيٌّ لها. ولكن يمكن أنْ يكونَ ناسخًا للنهي في هذه الأحاديث الثلاثةِ وما في معناها. والصحيح الذي عليه جُمهورُ العلماءِ أنه لا نَسْخَ في ذلك كلِّه
(3)
، ولكن اختلفوا في معنى قوله "لا عدوى"، وأظهرُ ما قيل في ذلك أنه نَفيٌ لما كان يعتقدُه أهلُ الجاهليةِ مِن أن هذه الأمراضَ تُعْدِي بطبعها من غير اعتقادِ تقديرِ اللهِ لذلك، ويدُلُّ على هذا قولُه "فمن أعْدَى الأول"، يشير إلى أن الأول إنما جَرِبَ بقضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ، فكذلك الثاني وما بعده.
وخرَّج الإمامُ أحمد
(4)
والترمذي من حديث ابن مسعود، قال: قال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُعدِي شيءٌ شيئًا" قالها ثلاثًا. فقال أعرابي: يا رسولَ الله! النُّقْبَةُ
(5)
مِنَ الجَرَب تكونُ بمِشْفَرِ البَعيرِ أو بِذَنَبِه في الإبل العظيمةِ، فتَجْرَبُ كلُّها. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"فما أَجْرَبَ الأول؟ لَا عَدْوى ولا هَامَةَ ولا صَفَرَ، خَلَقَ الله كل نَفْس وكَتَبَ حياتَها ومُصَابَها ورِزْقَها". فأخبَرَ أن ذلك كلَّه بقضاءِ الله وقَدَرِه، كما دَلَّ عليه قوله تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}
(6)
.
فأما نهيُهُ صلى الله عليه وسلم عن إيرادِ المُمْرِضِ على المُصِحِّ، وأمرُه بالفرارِ من المَجْذُومِ،
(1)
أخرجه البخاري 10/ 158 في الطب: باب الجذام، وأحمد في "مسنده" 2/ 443.
(2)
قطعة من حديث أخرجه مسلم رقم (2218) و (2219) في السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، والبخاري 10/ 178 في الطب، باب ما يذكر في الطاعون.
(3)
لفظ "كله" لم يرد في آ، ش، ع.
(4)
أخرجه الترمذي رقم (2144) في القدر: باب ما جاء لا عدوى ولا هامة ولا صفر، وهو حديث
حسن، قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة، وابن عباس، وأنس. ورواه أحمد في "المسند"
1/ 440 بإسناد ضعيف، لجهالة راويه عن ابن مسعود. وفيه أيضًا 2/ 327 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
النُّقْبَةُ: هي أوَّل جَرَبٍ يبدو، وجمعها نُقْبٌ.
(6)
سورة الحديد الآية 22.
ونهيُهُ عن الدخولِ إلى موضعِ الطَّاعونِ، فإنَّه مِن بابِ اجتِناب الأسبابِ التي خَلَقَها اللهُ تعالى، وجعلَها أسبابًا للهلاكِ أو الأذَى. والعبدُ مأمورٌ باتقاءَ أسباب البَلاء إذا كان في عافيةٍ منها، فكما أنه يُؤمَرُ أن لا يُلْقيَ نفسَه في الماءِ، أو في النار، أو يدخُلَ تحتَ الهَدْمِ ونحوِهِ، مِمَّا جرت به
(1)
العادَةُ بأنَّه يُهلِكُ أو يُؤذِي، فكذلك اجتِنابُ مقارَبَةِ المريضِ كالمجذومِ، أو القُدومِ على بلدِ الطاعونِ؛ فإنَّ هذه كلَّها أسبابٌ للمرضِ والتَّلَفِ؛ والله تعالى هو خالقُ الأسبابِ ومُسَبَباتها، لا خالِقَ غيرُه، ولا مقدِّرَ غيرُه.
وقد رُوي في حديثٍ مرسل خرَّجَه أبو داود في "مراسيله" أن النبيَّ يكون مَرَّ بحائطٍ مائلٍ فأسرَعَ وقالَ: "أخافُ مَوْتَ الفَوَاتِ"
(2)
. ورُوي متصلًا، والمرسَلُ أصَحُّ. وهذه الأسبابُ التي جعلها الله أسبابًا يخلُقُ المُسبِّبات بها كما دَلَّ عليه قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}
(3)
. وقالت طائفة: إنه يخلُقُ المسبّباتِ عِندَها لا بِها.
وأمَّا إذا قَوِيَ التوكُّلُ على الله تعالى والإِيمانُ بقضائِه وقدَرِه، فقوَيتِ النَّفْسُ على مباشرَةِ بعضِ هذه الأسباب اعتمادًا على الله ورجاءً منه ألَّا يحصُلَ به ضررٌ، ففي هذه الحال تجوزُ مباشرةُ ذلك، لا سيَّما إذا كان فيه مصلحة عامَّةٌ أو خاصّةٌ. وعلى مثل هذا يُحملُ الحديثُ الذي خرجه أبو داود
(4)
والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بيدِ مَجْذوم، فأدخَلَهَا مَعَهُ في القَصْعَةِ، ثم قال:"كُلْ باسْم اللهِ، ثقة باللهِ، وتوكُّلًا عليه". وقد أخذَ بهِ الإِمامُ أحمد. وقد رُوي نحو ذلك عن عُمَرَ وابنِه عبدِ اللهِ وسلمان رضي الله عنهم.
(1)
لفظ "به" زيادة من آ، ع.
(2)
مسند أحمد 2/ 356 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وموت الفَوَات: موت الفجَاءة.
(3)
سورة الأعراف الآية 57.
(4)
أخرجه أبو داود رقم (3925) في الطب: باب في الطيرة، والترمذي رقم (1818): باب ما جاء في الأكل مع المجذوم، من حديث المفضل بن فضالة عن حبيب بن الشهيد عن محمد بن المنكدر، وإسناده ضعيف. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد عن المفضل بن فضالة، والمفضل بن فضالة هذا شيخ مصري، والمفضل بن فضالة شيخ آخر مصري أوثق من هذا وأضهر. وقد روى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن ابن بريدة: أن ابن عمر أخذ بيد مجذوم؛ وحديث شعبة أثبت عندي وأصح. ورواه أيضًا الحاكم 1/ 137 وصححه، ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ ابن حجر في أمالي الأذكار.
ونظيرُ ذلك ما رُوي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه مِن أَكْلِ السُّمِّ
(1)
. ومنه مشيُ سعدِ بن أبي وقاص، وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متنِ البَحْرِ
(2)
. ومنه أمرُ عُمَرَ رضي الله عنه لتميم
(3)
حيثُ خرجَتِ النارُ من الحَرَّةِ أن يَرُدَّها، فدخلَ إليها في الغار التي خرجَتْ منه
(4)
. فهذا كلُّه لا يصلُحُ
(5)
إلا لخواصّ من الناس، قوي إيمانهم بالله وقضائِه وقدَرِه، وتوكُّلُهم عليه وثقتُهم به.
ونظير ذلك دخولُ المفاوِزِ
(6)
بغير زادٍ، فإنَّه يجوزُ لمن قوي يقينُه وتوكُّلُه خاصَّةً.
وقد نصَّ عليه أحمد وإسحاق وغيرُهما من الأئمة. وكذلك تَرْك التكسُّبِ والتَّطَبُّبِ.
كلُّ ذلك يجوز عند الإِمام أحمد لمن قوِي توكُّلُه؛ فإنَّ التوكُّلَ أعظَمُ الأسبابِ
(1)
ذكر ابن عساكر في تاريخه أن خالد بن الوليد نزل الحيرة على بني أمِّ المرازبة، فقالوا: احْذَرِ السُّم لا يسقيكه الأعاجم، فقال: ائتوني به، فأُتي منه بشيء، فأخذه بيده ثم اقتحفَه، وقال: بسم الله، فلم يضرَّه شيئًا. (مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور 8/ 16).
(2)
انظر خبر أبي مسلم الخولاني في صفة الصفوة 4/ 210.
(3)
هو تميم بن أوس الدَّاري، أبو رُقَيَّة، نسبته إلى الدار بن هانئ، من لخم، صحابي، أسلم سنة 9 هـ، وكان يسكن المدينة، ثم انتقل إلى الشام بعد مقتل عثمان، فنزل بيت المقدس. وهو أول من أشرج السراج في المسجد. وكان راهب أهل عصره وعابد أهل فلسطين. وله عدة أحاديث، وكان عابدًا تلاءً لكتاب الله. مات سنة 40 هـ. (ترجم له ابن عساكر في تاريخه، المجلد العاشر المطبوع ص 446 - 482، والذهبي في سير أعلام النبلاء 2/ 442 - 448 وغيرهما).
(4)
أخرج الخبر ابن عساكر في تاريخه، عن حماد بن زيد، عن الجُريري، عن أبي العلاء، عن معاوية بن حرمل، قال: قدمت المدينة، فلبثت في المسجد ثلاثًا لا أطعم. قال: فأتيت عُمَرَ، فقلت: يا أمير المؤمنين! تائب من قبل أن تقدر عليه، قال: من أنت؟ قلت: أنا معاوية بن حرمل، قال: اذهب إلى حَبْر المؤمنين فانزل عليه. قال: وكان تميم الداري إذا صلَّى ضرب بيده عن يمينه وعن شماله، فأخذ رجلين فذهب بهما، فصليت إلى جنبه، فضرب يده وأخذ بيدي وذهب بي، فأتينا بطعام، فأكلت أكلًا شديدًا، وما شبعت من شدة الجوع. قال: فبينا نحن ذات يوم إذ خرجت نار بالحَرَّة، فجاء عُمَرُ إلى تميم، فقال: قم إلى هذه النار، فقال: يا أمير المؤمنين! ومن أنا، وما أنا؟! قال: فلم يزل به حتى قام معه. قال: وتبعتهما، فانطلقا إلى النار، فجعل تميم يحوشها بيده حتى دخلت الشّعب، ودخل تميم خلفها؛ قال: فجعل عُمَرُ يقول: ليس في رأى كمن لم يَرَ؛ قالها ثلاثًا. وأخرجه الذهبي في السير، وقال: سمعها عفَّان من حمَّاد، وابن حرمل لا يُعْرَف. إلا أن الحافظ ابن حجر ذكره في "الإصابة" 3/ 497، القسم الثالث، فقال: معاوية بن حرمل الحنفي، صهر مسيلمة الكذاب، له إدراك، وكان مع مسيلمة في الردة، ثم قدم على عمر تائبًا، ثم أورد هذا الخبر من طريق البغوي، عن الجريري، عن أبي العلاء، عن معاوية بن حرمل.
(5)
في ش: "لا يصح".
(6)
المفاوز: جمع مفازة، وهي الصحراء، سميت بذلك تفاؤلًا بالفوز والنجاة.
التي تستجلَبُ بها المنافعُ ويُسْتَدفَعُ بها المَضارُّ، كما قال الفُضَيل: لو علم الله منكَ إخراجَ المخلوقينَ من قلبك لأعطاكَ كل ما تُريدُ.
وبذلك فسَّرَ الإِمامُ أحمد التوكُّلَ، فقال: هو قطعُ الاسْتِشْرَافِ
(1)
باليأسِ مِنَ المخلوقين، قيل له: فما الحجَةُ فيه؟ قال: قولُ إبراهيَم عليه السلام لمَّا أُلقي في النارِ، فعرَضَ له جبريلُ عليه السلام، فقال: ألكَ حاجة؟ قال: أمَّا إليكَ فلا. فلا يُشْرَعُ تركُ الأسبابِ الظاهرةِ إلَّا لمن تعوَّضَ عنها بالسَّببِ الباطِن، وهو تحقيقُ التوكُّلِ عليه، فإنَّه أقوى من الأسباب الظاهرة لأهله، وأنفَعُ منها. فالتوكُّلُ عِلْمٌ وعمَلٌ؛ فالعِلْمُ معرفةُ القَلْب بتوحيدِ الله بالنَّفْعِ والضرِّ، وعامةُ المؤمنين تعلمُ ذلك. والعمَلُ هو ثقة القلب بالله تعالى وفراغه من كلِّ ما سواه، وهذا عَزيزٌ ويختصُّ به خواصُّ المؤمنين. والأسبابُ نوعان:
أحدهما: أسبابُ الخير، فالمشروع أنَّه يفرَحُ بها، ويستبشِرُ، ولا يَسْكُنُ إليها، بل إلى خالقِها ومسبِّبها، وذلك هو تحقيقُ التوكُّلِ على اللهِ والإِيمان بهِ، كما قال تعالى في الإِمداد بالملائكة:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}
(2)
. ومِن هذا الباب الاستبشارُ بالفألِ، وهو الكلِمةُ الصالحةُ يسمعُها طالِبُ الحاجَة، وأكثرُ الناسِ يَرْكَنُ بقلبِه إلى الأسباب وَينْسَى المسبِّبَ لها، وقلَّ مَن فعَلَ ذلك إلَّا وُكِلَ إليها وخُذِلَ، فإنَّ جميعَ النِّعمِ مِنَ الله وفضلِه، كما قال تعالى:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}
(3)
، وقال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}
(4)
، [كما قيل]
(5)
:
لا نِلْتُ خَيْرًا ما بَقِيـ
…
تُ ولا عَدَانِي الدَّهْرَ شرّ
إن كُنْتُ أعلَمُ أن غَيـ
…
ـر اللهِ يَنْفَعُ أو يَضُرّ
(1)
الاستشراف: التطلع إلى الشيء.
(2)
سورة الأنفال الآية 10.
(3)
سورة النساء الآية 79.
(4)
سورة النحل الآية 53.
(5)
زيادة من نسخة (آ).
ولا تُضافُ النِّعمُ إلى الأسبابِ، بل إلى مُسبِّبها ومُقدِّرِها، كما في الحديث الصحيح
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلَّى بهم الصبحَ في إثر سماءٍ
(2)
، ثم قال:"أتدرون ما قال ربُّكم الليلةَ؟ قال: أصبَحَ مِن عبادي مؤمن بي وكافرٌ؛ فأمَّا المؤمنُ فقال: مُطِرْنا بفضلِ اللّهِ ورحمتِه، فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكبِ؛ وأما الكافرُ فقال: مُطِرْنا بِنَوْءِ كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب". وفي صحيح مسلم
(3)
، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا عَدْوَى، ولا هامَةَ، ولا نَوْءَ، ولا صفَرَ".
وهذا مما يَدُلُّ على أن المرادَ نفيُ تأثيرِ هذه الأسبابِ بنفسها من غير اعتقادٍ أنَّها بتقدير اللّه وقضائِه، فمن أضافَ شيئًا من النِّعمِ إلى غيرِ الله مع اعتقادِه أنَّه ليس من الله فهو مُشرِك حقيقةً، ومع اعتقادِ أنَّه من اللهِ فهو نوعُ شِركٍ خفيٍّ.
والنوع الثاني: أسبابُ الشرِّ، فلا تُضافُ إلَّا إلى الذُّنوب؛ لأنَّ جميعَ المصائب إنما هي بسبب الذُّنوب، كما قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}
(4)
، وقال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}
(5)
، فلا تضافُ إلى شيءٍ من الأسباب سِوى الذنوبِ، كالعَدْوَى أو غيرها. والمشروعُ: اجتنابُ ما ظهرَ منها واتقاؤه بقدْرِ ما وردَتْ به الشريعةُ، مثل اتقاء المجذوم. والمريضِ، والقدومِ على مكانِ الطاعونِ. وأما ما خَفِي منها فلا يُشْرَعُ اتقاؤه واجتنابُه، فإنَّ ذلك مِن الطيرةِ المَنهيِّ عنها؛ والطِّيرَةُ مِن أعمالِ أهلِ الشرِّكِ والكُفْرِ، وقد حكاها الله تعالى في كتابه عن قوم فرعونَ وقوم صالح وأصحابِ القريةِ التي جاءها المرسلون. وقد ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا طيَرةَ"
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري رقم (1038) في صلاة الاستسقاء باب (28)، و (4147) في المغازي: باب غزوة الحديبية. ومسلم رقم (125)(71) في الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء. وأبو داود في سننه رقم (3906) في الطب، باب في النجوم. وأحمد في "المسند" 4/ 117، كلهم من حديث زيد بن خالد الجهني.
(2)
السماء: المطر، والعرب تسمي المطر سماء لأنه نزل منها.
(3)
أخرجه مسلم رقم (2220) في السلام، باب لا عدوى ولا طيرة الخ؛ وأبو داود رقم (3912) في الطب، باب في الطِّيرة.
(4)
سورة النساء الآية 79.
(5)
سورة الشورى الآية 30.
(6)
انظر صحيح البخاري 10/ 158، 212، 214، 215، 243، ومسلم رقم 2220، 2222، 2223، 2225.
وفي حديثٍ: "مَنْ ردَّتْهُ الطيرَةُ فقد قَارَفَ الشِّرْكَ"
(1)
. وفي حديثِ ابن مسعود المرفوع: "الطِّيرةُ مِن الشِّرْكِ، وما منّا إلا
(2)
، ولكنَّ الله يذهِبُهُ بالتَّوَكُّلِ"
(3)
. والبحثُ عن أسباب الشر من النظرِ في النجوم ونحوِها هو من الطِّيرَةِ المَنهيِّ عنها؛ والباحثونَ عن ذلكَ غالبًا لا يشتغلون بما يدفعُ البلاءَ من الطاعاتِ، بل يأمرون بلزومِ المنزلِ وتركِ الحركةِ، وهذا لا يمنَعُ نُفوذَ القضاء والقَدَرِ. ومنهم من يَشتَغِلُ بالمعاصي، وهذا مما يُقوِّي وقوعَ البَلاءِ ونُفوذَهُ. والذي جاءت به الشريعة هو تركُ البحث عن ذلك، والإعراضُ عنه، والاشتغالُ بما يدفَعُ البلاءَ
(4)
؛ مِن الدُّعاءِ، والذِّكْر، والصدقةِ، وتحقيق التوكُّل على الله عز وجل، والإيمان بقضائه وقدره.
وفي "مسند ابن وهب" أن عبد الله بن عمرو بن العاص الْتَقَى هو وكعبٌ
(5)
، فقال عبد الله لكعبٍ: علمُ النُّجوم؟ قال كعب: لا خَيْر فيه، قال عبد اللهِ: لم؟ قال: ترَى فيه
(6)
ما تكرَهُ، يُريدُ الطِّيرَةَ. فقال كعب: فإن مضى، وقال: اللهم لا طَيْرَ إلا طيرُكَ، ولا خَيْرَ إلا خَيْرُكَ، ولا رَبَّ غيرُكَ. فقال عبد الله: ولا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلَّا بك
(7)
. فقال كعب: جاء بها عبد الله، والذي نفسي بيده إنَّها لرأسُ التوكُّل وكنزُ العَبْدِ في الجنةِ، ولا يقولهُنَّ عبدٌ عند ذلك ثم يمضي إلا لم يضرَّه شيءٌ. قال عبد الله: أرأيتَ إن لم يمضِ وقَعَدَ؟ قال طَعِمَ قلبُهُ طَعْمَ الإشراكِ.
(1)
أخرج الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 220 عن ابن عمر، قال: قال رسول الله: "من ردَّته الطيرة من حاجة فقد أشرك". قالوا: يا رسول الله! ما كفَّارة ذلك؟ قال: "أن يقول أحدُهم: اللهم لا خيرَ إلا خيرك، ولا طير إلَّا طيرك، ولا إله غيرك".
(2)
زيد بعدها في آ، ع:"يتطيَّر". وقوله "وما منا إلَّا": أي وما منا إلا من يعتريه التطير ويسبق إلى قلبه الكراهة فيه، فحذف اختصارًا للكلام واعتمادًا على فهم السامع. وقال محمد بن إسماعيل: كان سليمان بن حرب ينكر هذا ويقول: هذا الحرف ليس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه قول ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو داود رقم (3910) في الطب، باب في الطيرة؛ والترمذي رقم (1614) في السير؛ وابن ماجه رقم (3538) في الطب، باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة.
(4)
لفظة "البلاء" سقطت من (آ).
(5)
هو كعب بن ماتع الحميري اليماني، ويقال له: كعب الأحبار، كان من كبار علماء يهود اليمن فأسلم زمن أبي بكر الصديق، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر، فجالس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فكان يحدِّثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب، ويأخذ السنن عن الصحابة، وكان حسن الإسلام من نبلاء العلماء. خرج إلى الشام وتوفي في حمص سنة 32 هـ، وقيل: سنة 34 هـ، وقد بلغ مائة وأربع سنين. (الإصابة تر 7496، طبقات ابن سعد 7/ 445، سير أعلام النبلاء 3/ 489).
(6)
في ع: "فيها".
(7)
في آ: "إلا بالله".
وفي "مراسيل"
(1)
أبي داود أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال:"ليس عبدٌ إلا سيدخُلُ قلبَهُ طِيَرةٌ، فإذا أحَسَّ بذلك، فلْيقُلْ: أنا عبدُ الله، ما شاءَ الله، لا قوةَ إلا بالله، لا يأتي بالحسناتِ إلا اللهُ، ولا يذهَبُ بالسيِّئاتِ إلَّا الله، أشهدُ أن الله على كل شيء قدير. ثم يَمضي لوجهِهِ".
وفي مسند الإمام أحمد
(2)
عن عبد الله بن عمر مرفوعًا: مَن رجعَتْهُ الطيرةُ مِن حاجتِهِ فقد أشرَكَ. وكفَّارةُ ذلك أن يقولَ أحدُهم: اللهمّ لا طَيْرَ إلَّا طيرُكَ، ولا خَيْرَ إلا خيرُكَ، ولا إلهَ غيرُك. وخرَّج الإمام أحمد، وأبو داود
(3)
من حديث عروة بن عامر القرشي، قال: ذُكِرَت الطيرَةُ عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسَنُها الفَألُ، ولا تَرُدُّ مسلمًا، فإذا رأى أَحدُكم مَا يكرهُ فليقُلْ: اللهم لا يأتي بالحسناتِ إلا أنتَ، ولا يدفَعُ السيئاتِ إلا أنت، ولا حَوْلَ ولا قوة إلا بكَ". وخرجه أبو القاسم البَغويُّ
(4)
، وعنده:"ولا تضُرُّ مسلمًا".
وفي صحيح ابن حِبَّانَ
(5)
عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا طِيرَةَ، والطِّيرَةُ على مَن تطيَّرَ". وقال النخعيُّ: قال عبد الله بن مسعود: لا تضرُّ الطيرَةُ إلَّا من تطيَّر. ومعنى هذا أن من تطيَّر تطيُّرًا منهيًّا عنه، وهو أن يعتمِدَ على ما يسمعُه أو يراهُ مما يتطيَّرُ به حتى يمنعَهُ ممَّا يُريدُ من حاجته، فإنَّه قد يُصيبُه ما يكرهُه. فأمَّا من توكَّلَ على الله، ووثِقَ به، بحيثُ علَّقَ قلبَه بالله خوفًا ورجاء وقطعَهُ عن الالتفاتِ إلى هذه الأسباب المخوفَةِ، وقال ما أُمِرَ به من هذه الكلماتِ، ومضى، فإنه لا يضرُّه ذلك
(6)
.
(1)
مراسل أبي داود ص 362 باب (114) ما جاء في الطيرة.
(2)
مسند أحمد 2/ 220، وقد مضى تخريجه.
(3)
أخرجه أبو داود رقم (3919) في الطب: باب في الطيرة، من حديث حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن عامر القرشي، وعروة بن عامر القرشي، ويقال: الجهني المكي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا في الطيرة، وقال الحافظ في "التهذيب": والظاهر أن رواية حبيب عنه منقطعة. أقول: وحبيب بن أبي ثابت مدلس، وقد عنعنه. وانظر كنز العمال رقم (28583).
(4)
هو عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن المرزبان، أبو القاسم البغوي، مولده ووفاته ببغداد، كان محدّث العراق في عصره. له "معالم التنزيل" في التفسير، و"الجعديات" في الحديث، توفي سنة 317 هـ.
(5)
صحيح ابن حبان 7/ 642.
(6)
لفظ "ذلك" زيادة من ش، ب، ط.
وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا سمعَ نَعْقَ
(1)
الغُرابِ قال: اللهم لا طَيْرَ إلا طَيرُكَ، ولا خَيْرَ إلا خيْرُكَ.
وكذلك أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند انعقادِ أسباب العذاب السَّماويةِ المخوفةِ، كالكسُوفِ، بأعمالِ البِر؛ من الصَّلاةِ، والدُّعاءِ، والصَّدَقةِ، وَالعِتْقِ، حتى يُكشَفَ ذلك عن الناس. وهذا كله مما يدُلُّ على أن الأسبابَ المكروهةَ إذا وُجِدَت فإنَّ المَشروعَ الاشتغالُ بما يُرْجَى به دَفْعُ العذاب المَخُوفِ منها؛ من أعمالِ الطَّاعاتِ، والدُّعاءِ، وتحقيقِ التوكُّلِ على الله والثقة به، فإن هذه الأسبابَ كلَّها مُقْتضياتٌ لا مُوجباتٌ، ولها موانعُ تمنعُها. فأعمالُ البِرِّ والتَّقْوَى والدُّعاءُ والتوكُّلُ من أعظم ما يُستدفَعُ به.
ومن كلام بعضِ الحكماء المتقدِّمين: ضجيجُ الأصواتِ في هياكِلِ العباداتِ بأفنانِ
(2)
اللغاتِ تُحَلِّلُ ما عَقَدَتهُ الأفلاكُ الدائراتُ؛ وهذا على زعمهم واعتقادِهم في الأفلاك. وأما اعتقادُ المسلمين فإنَّ الله وحدَه هو الفاعلُ لما يشاءُ، ولكنَّه يعقِدُ أسبابًا للعذابِ، وأسبابًا للرحمةِ؛ فأسبابُ العذابِ يُخوفُ الله بها عبادَه ليتوبوا إليه ويتضرعوا إليه، مَثلُ كُسوفِ الشمس والقمرِ؛ فإنّهَما آيتان من آيات الله يخوِّفُ الله بهما عبادَه؛ لينظرَ من يحدثُ له توبةً، فدَلَّ على أن كسوفَهما
(3)
سببٌ يُخشَى منه وُقوعُ عذابٍ. وقد أمرَ عائشةَ رضي الله عنها أن تستعيذَ مِن شرِّ القَمَرِ، وقال: هو الغاسِقُ إذا وَقَبَ. وقد أَمَرَ الله تعالى بالاستعاذةِ مِن شر غاسقٍ إذا وَقَبَ، وهو الليلُ إذا أظلم؛ فإنه ينتشر فيه شياطينُ الجِنِّ والإنس. والاستعاذة مِن القَمَرِ؛ لأنه آية الليل، وفيه إشارة إلى أن شرَّ الليلِ المَخُوفِ لا يندفِعُ بإشراقِ القَمَرِ فيه، ولا يَصِيرُ بذلك كالنَّهارِ، بل يُستعاذُ منه وإن كان مقمرًا.
وخرَّج الطَّبراني
(4)
من حديث جابرٍ مرفوعًا: "لا تَسُبُّوا اللَّيلَ، ولا النَّهارَ، ولا
(1)
كذا في الأصول. وهو "نعيق الغراب"، ويقال بالغين "نغيق".
(2)
أفنان: ألوان وأنواع.
(3)
في آ، ع:"كسوفها".
(4)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 71 باب النهي عن سب الليل والنهار وغير ذلك، وقال:"رواه الطبراني في الأوسط، وفيه سعيد بن بشير، وثقه جماعة، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات، ورواه أبو يعلى (4/ 139) بإسناد ضعيف". ويشهد للجزء المتعلق بالريح أحاديث صحيحة عند ابن ماجه والترمذي.
الشمسَ، ولا القَمَرَ، ولا الرِّيحَ؛ فإنَّها رحمةٌ لِقومٍ، وعذابٌ لآخرين". ومثلُ اشتدادِ الرِّياح؛ فإن الرِّيح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مِن رَوْحِ الله، تأتي بالرحمةِ، وتأتي بالعذابِ
(1)
.
وأَمَرَ إذا اشتدَّتِ الريحُ أن يُسألَ الله خيرَها وخيرَ ما أُرْسِلَتْ به، ويُستعَاذَ به من شَرِّها وشَرِّ ما أرسِلَتْ
(2)
به. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى ريحًا أو غيمًا تغيَّر وجْهُهُ، وأقبَلَ وأدْبَرَ، فإذا مَطَرَتْ سُرِّيَ عنه، ويقول: قد عُذِّبَ قومٌ بالرِّيح. ورأى قومٌ السِّحابَ، فقالوا:{هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}
(3)
.
وأسبابُ الرحمةِ يُرجّي بها عبادَهُ، مثلُ الغيمِ الرطب والريحِ الطيبةِ، ومثلُ المطرِ المعتادِ عند الحاجة إليه، ولهذا يقال عند نزوله: اللهم سُقْيا رحمةٍ ولا سُقْيا عذابٍ.
وأمَّا من اتَّقى أسبابَ الضَّرَرِ بعدَ انعقادِها بالأسباب المنهِيِّ عنها، فإنه لا ينفعُه ذلك غالبًا، كمن ردَّتْهُ الطيرَةُ عن حاجته خشيةَ أن يُصيبَهُ ما تطيَّرَ به، فإنَّه كثيرًا ما يُصاب بما خشي
(4)
منه، كما قاله ابنُ مسعودٍ، ودَل عليه حديثُ أنس المتقدِّم. وكمن اتَّقَى الطَّاعونَ الواقِعَ في بلدِهِ بالفِرارِ منه، فإنَّه قلَّ أن يُنجيَهُ ذلك. وقد فَرَّ كثيرٌ مِن المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ من الطاعون فأصابهم، ولم ينفعهُم الفِرارُ، وقد قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ
(1)
أخرج أبو داود في سننه رقم (5097) في الأدب، باب ما يقول إذا هاجت الريح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرِّيح من رَوْح الله، ورَوْح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها، وسلوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرها". ورواه بمعناه ابن ماجه رقم (3727) في الأدب، باب النهي عن سب الريح، وإسناده حسن.
(2)
من حديث أخرجه البخاري 6/ 216 في بدء الخلق، ومسلم رقم (899) في الاستسقاء، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم، والترمذي رقم (3445) في الدعوات، باب ما يقول إذا هاجت الريح، عن عائشة رضي الله عنها:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا عصفت الرِّيح، قال: اللهم، إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرِّها وشرّ ما فيها، وشر ما أرسلت به".
(3)
سورة الأحقاف، الآية 24، وروى الحديث البخاري 8/ 578 في تفسير سورة الأحقاف، ومسلم رقم (899) في الاستسقاء، وأبو داود رقم (5098) و (5099) في الأدب، والترمذي رقم (3254) في التفسير، بروايات متعددة أوردها ابن الأثير في "جامع الأصول" 4/ 10 - 12.
(4)
في آ، ش:"يخشى".
مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}
(1)
. وقد ذُكِرَ كثيرٌ مِن السَّلفِ أنَّهم كانوا قد فَرُّوا من الطَّاعون فأصابهم. وفَرَّ بعضُ المتقدِّمين من طاعونٍ وَقَعَ، فبينا هو يَسيرُ باللَّيلِ على حمارٍ له إذ سمعَ قائلًا يقول:
لنْ يُسْبَقَ اللهُ على حِمارٍ
…
ولَا عَلَى ذي مَيْعَةٍ مُطَارِ
(2)
أو يأتيَ الحَتْفُ على مِقْدَارِ
…
قَدْ يُصْبِحُ الله أمام السَّارِي
فأصابَهُ الطاعونُ، فمات.
وأمَّا قولُه صلى الله عليه وسلم: "لا هامَةَ" فهو نفيٌ لِما كانَتِ الجاهليةُ تعتقدُه أن الميتَ إذا ماتَ صارَتْ روحُه، أو عظامُه، هامةً، وهو طائر يطير. وهو شبيه باعتقادِ أهلِ التناسخِ؛ أن أرواحَ الموتى تنتقلُ إلى أجسادِ حيواناتٍ من غير بَعثٍ ولا نُشورٍ، وكل هذه اعتقاداتٌ باطلةٌ جاءَ الإسلامُ بإبطالِها وتكذيبِها. ولكن الذي جاءتْ به الشريعةُ "إنَّ أرواحَ الشُّهداءِ في حواصل طيرٍ خُضْرٍ تأكُلُ مِن ثمار الجنَّةِ، وترِدُ من أنهارِ الجنة، إلى أَن يَرُدَّها الله تعالى إلى أجسادها يوم القيامة
(3)
". [ورُوي أيضًا "إنَّ نَسَمَةَ المؤمن طائر يعلُقُ في شجر الجَنَّة حتى يرجعهَا الله إلى أجسادِها يومَ القيامة"]
(4)
.
وأمَّا قولُه صلى الله عليه وسلم "ولا صَفَرَ" فاختُلف في تفسيرِه؛ فقال كثيرٌ من المتقدمين: الصَّفَرُ داءٌ في البطن، يقال: إنه دُودٌ فيه، كبارٌ كالحيّاتِ، وكانوا يعتقدون أنَّه يُعْدِي، فنفَى
(5)
ذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
سورة البقرة الآية 243.
(2)
في آ: "ولا على بَيْعَةٍ طيَّار"، وفي ط:"ولا على منعة مطار"، وفي ع:"ولا على ذي منعة طيَّار"، وفي ش:"ولا على ذي بيعة طيار". ولعل الصواب فيما أثبتناه. والمَيْعة: سيلان الشيء المصبوب.
(3)
قوله: "يوم القيامة" زيادة من آ، ع. وهو جزء من حديث أخرجه مسلم رقم (1887) في الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، والترمذي رقم (3014) و (3015) في التفسير، باب ومن سورة آل عمران. انظر رواياته في "جامع الأصول" 9/ 497 - 500.
(4)
ما بين قوسين لم يرد في (آ). والحديث رواه أحمد في "مسنده" 6/ 386، والنسائي 8/ 104 في الجنائز، باب أرواح المؤمنين؛ وابن ماجه رقم (4271) في الزهد، باب ذكر القبر والبلى، من حديث كعب بن مالك، وهو حديث صحيح. ونَسَمَة المؤمن: أي روح المؤمن الشهيد.
(5)
أي في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عَدْوى ولا هامَةَ ولا صَفَر".
وممن قال هذا من العلماء ابنُ عُيَينة، والإمامُ أحمدُ وغيرُهما. ولكن لو كان كذلك لكان هذا داخلًا في قوله "لا عَدْوَى". وقد يقال: هو من باب عَطفِ الخاصِّ على العام، وخصَّه بالذكر؛ لاشتهارِهِ عندهم بالعَدْوَى. وقالت طائفة: بلِ المرادُ "بصَفَر" شهرُ صفرَ، ثم اختلفوا في تفسيره، على قولين:
أحدُهما: أن المرادَ نفيُ ما كانَ أهلُ الجاهلية يفعلونه في النَّسيء
(1)
، فكانوا يُحِلُّونَ المُحرَّمَ ويُحَرِّمُونَ صَفَرَ مكانَه؛ وهذا قولُ مالكٍ.
والثاني: أن المرادَ أن أهلَ الجاهليةِ كانوا يَسْتَشْئِمُونَ بصفَرَ ويقولون: إنه شهر
(2)
مشؤوم، فأبطَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك؛ وهذا حكاه أبو داود
(3)
عن محمد بن راشد المكحولي، عمَّن سمعَه يقول ذلك. ولعل هذا القولَ أشبهُ الأقوالِ. وكثيرٌ من الجُهَّالِ يتشاءَم بصفَرَ، وربَّما ينهَى عن السَّفرِ فيه. والتشاؤمُ بصفَرَ هو من جنسِ الطيرةِ المَنهيِّ عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيومِ الأربعاء.
وقد رُوي أنَّه يومُ نحسٍ مستمرٍ؛ في حديثٍ لا يَصِح، بل في "المسند" عن جابرٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الأحزاب يوم الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، فاستجيبَ له يومَ الأربعاء بين الظهرِ والعصرِ؛ قال جابر: فما نَزَلَ بي أمرٌ مهم غائظ إلا توخّيْتُ ذلك الوقتَ، فدعوتُ الله فيه، فرأيتُ الإجابةَ، أَو كما قال. وكذلك تشاؤم أهلِ الجاهلية بشوَّال في النِّكاح فيه خاصّةً. وقد قيلَ: إن أصلَه أن طاعونًا وقَعَ في شوال في سنةٍ من السنين، فمات فيه كثير من العرائسِ، فتشاءم بذلك أهلُ الجاهلية.
وقد وَرَدَ الشَّرْعُ بإبطالِهِ، قالت عائشةُ رضي الله عنها: "تزوَّجَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في
(1)
النسيء في الجاهلية: تأخيرهم المحرّم إلى صفر في تحريمه، ويجعلون صفرًا هو الشهر الحرام، فأبطل. قال الله عز وجل:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} . انظر اللسان (نسأ، صفر).
(2)
لفظة "شهر" لم ترد في (آ). وفي ش: "شهر شؤم".
(3)
أخرجه أبو داود رقم (3915) في الطب، باب في الطيرة. ومحمد بن راشد المكحول الخزاعي، الدمشقي، نزل البصرة، صدوق يهم، ورمي بالقدر، مات بعد 160 هـ. (التقريب 2/ 160).
شَوَّال، وبَنَى بي في شَوَّال، فأيُّ نسائِهِ كانَ أحظَى عندَه منّي! وكانت عائشةُ تَسْتَحِبُّ أنْ تُدْخِلَ نِسَاءَها في شَوَّال"
(1)
. وتزوَّجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّ سَلَمَةَ في شَوَّالٍ أيضًا
(2)
.
فأمَّا قولُ النبي صلى الله عليه وسلم "لا عَدْوَى ولا طِيَرَة، والشؤمُ في ثلاثٍ؛ في المرأة، والدَّارِ، والدَّابَّةِ"، خَرَّجاه في "الصحيحين"
(3)
مِن حديثِ ابن عُمَرَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اختلفَ الناسُ في معناه أيضًا؛ فروي عن عائشة رضي الله عنها أنَّها أنكرَتْ هذا الحديثَ، أنْ يكونَ من كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقالت: إنَّما قال: كانَ أهلُ الجاهلية يقولون ذلك
(4)
، خرَّجه الإمام أحمد
(5)
. وقال مَعْمَر: سمِعْتُ مَن يفسِّر هذا الحديثَ، يقول: شؤمُ المرأةِ إذا كانت غيرَ وَلُودٍ، وشؤمُ الفَرَسِ إذا لم يكن يُغزَى عليه
(6)
في سبيل اللّه، وشؤمُ الدَّارِ جارُ السّوء. رُوي
(7)
هذا المعنى مرفوعًا من وجوهٍ لا تَصِحُّ.
ومنهم من قال: قد رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا شؤمَ، وإن يَكنِ اليُمْنُ في
(1)
أخرجه مسلم رقم (1423) في النكاح، باب استحباب التزوج في شوال واستحباب الدخول فيه؛ والترمذي رقم (1093) في النكاح، باب في الأوقات التي يستحب فيها النكاح؛ والنسائي 6/ 130 في النكاح، باب البناء في شوال؛ وابن ماجه رقم (1990) في النكاح، باب متى يستحب البناء بالنساء.
(2)
أخرجه ابن ماجه رقم (1991) في النكاح، باب ما يستحب البناء بالنساء.
(3)
أخرجه البخاري 10/ 212 و 243 في الطب: باب الطيرة، وباب لا عدوى، وفي غيرهما. ومسلم رقم (2225) في السلام، باب الطيرة.
(4)
ذكر الحافظ في "الفتح" عن عائشة أنها أنكرت هذا الحديث، فروى أبو داود الطيالسي في مسنده، عن محمد بن راشد، عن مكحول، قال: قيل لعائشة: إن أبا هريرة قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشؤم في ثلاثة"، فقالت: لم يحفظ؛ إنه دخل وهو يقول: "قاتل الله اليهود، يقولون: الشؤم في ثلاثة"، فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله. قلت: ومكحول لم يسمع من عائشة فهو منقطع، لكن روى أحمد وابن خزيمة والحاكم من طريق قتادة عن أبي حسان: أن رجلين من بني عامر دخلا على عائشة، فقالا: إن أبا هريرة قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الطيرة في الفرس والمرأة والدار" فغضبت غضبًا شديدًا، وقالت: ما قاله، وإنما قال:"إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك" انتهى. ولا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة مع موافقة من ذكرنا من الصحابة له في ذلك، وقد تأوله غيرها على أن ذلك سيق لبيان اعتقاد الناس في ذلك، لا أنه إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بثبوت ذلك، وسياق الأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها يبعد هذا التأويل. قال ابن العربي: هذا جواب ساقط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث ليخبر الناس عن معتقداتهم الماضية والحاصلة، وإنما بعث ليعلمهم ما يلزمهم أن يعتقدوه. انتهى. انظر "الفتح الباري" 6/ 61 - 63 (باب ما يذكر من شؤم الفرس).
(5)
المسند 2/ 8، 36، 115، 126.
(6)
في آ، ب "عليها".
(7)
في ب، ع، ش:"وروي".
شيءٍ ففي ثلاثةٍ"، فذكَرَ هذه الثلاثة
(1)
. وقال: هذه الرواية أشبه بأصُولِ الشرعِ؛ كذا قاله ابن عبد البر، ولكن إسناد هذه الرواية لا يُقاوِمُ ذلك الإسنادَ.
والتحقيقُ أنْ يقالَ في إثباتِ الشؤم في هذه الثلاثِ، ما ذكرناه في النهي عن إيرادِ المريض على الصحيح، والفرارِ منَ المجذومِ، ومن أرضِ الطاعونِ؛ إنَّ هذه الثلاثَ أسبابٌ يقدِّر اللهُ تعالى بها الشؤمَ واليُمْنَ ويَقْرِنُه بها، ولهذا يشرع لمن استفادَ زوجةً، أو أمَةً، أو دابَّةً أنْ يسألَ الله تعالى مِن خيرها وخيرِ ما جُبِلتْ عليه، ويستعيذَ بهِ من شرِّها وشرِّ ما جُبِلَتْ عليه، كما في حديث عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي خرَّجه أبو داود
(2)
وغيرُه.
وكذا ينبغي لمن سكن دارًا أن يفعل
(3)
ذلك. وقد أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومًا سكنوا دارًا فقلَّ عددُهُم، وقل مالهم أن يتركوها ذَميمةً
(4)
.
فترْكُ ما لا يجدُ الإنسانُ فيه بركةً مِن دارٍ أو زوجةٍ أو دابَّةٍ غيرُ منهي عنه.
[وكذلك مَن اتَّجَر في شيءٍ فلم يربحْ فيه ثلاثَ مراتٍ، فإنَّه يتحوَّل عنه]
(5)
.
رُوي ذلك عن عُمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فإنْ
(6)
بُورك له في شيء فلا يتغير عنه. ففي "المسند"
(7)
و"سنن ابن ماجة" عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا "إذا كان لأحدكم رِزْقٌ في شيءٍ فلا يَدَعْهُ حتَّى يتغيَّر له، أو يتنكَّرَ له".
(1)
أي المرأة والفرس والدَّار. أخرجه ابن ماجه رقم (1993) في النكاح، باب ما يكون فيه اليمن والشؤم؛ والترمذي رقم (2826) في الأدب، باب ما جاء في الشؤم، من حديث حكيم بن معاوية. وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1930)، وفي صحيح الجامع الصغير رقم (7500).
(2)
أخرجه ابن ماجه رقم (1918) في النكاح، باب ما يقول الرجل إذا دخلت عليه أهله، والبيهقي في "السنن" 7/ 148. ولم أجده في سنن أبي داود.
(3)
في آ: "يقول".
(4)
أخرجه أبو داود في "سننه" رقم (3924) في الطب، باب في الطيرة. والموطأ 2/ 972 في الاستئذان، باب ما يتقى من الشؤم.
(5)
ما بين قوسين ساقط في (آ).
(6)
في ط: "فإنه قال: من بورك له
…
".
(7)
رواه أحمد في "المسند" 6/ 246، وابن ماجه رقم (2148) في التجارات، باب إذا قسم للرجل رزق من وجه فليلزمه. وفي إسناده مقال، كما في الزوائد. ونصه عند ابن ماجه:"إذا سبَّبَ الله لأحدكم رزقًا من وجه، فلا يَدَعْهُ حتى يتغيَّر له، أو يتنكَّر له".
وأمَّا تخصيصُ الشؤم بزمانٍ دونَ زمانٍ، كشهرِ صفَرَ أو غيره، فغيرُ صحيحٍ، وإنَّما الزَّمانُ كلُّه خلقُ
(1)
الله تعالى، وفيه تقعُ أفعالُ بني آدمَ. فكلُّ زمانٍ شَغَلَه المؤمنُ بطاعةِ اللهِ، فهو زمان مبارَك عليه، وكُلُّ زمانٍ شَغَلَه العبدُ بمعصيةِ اللهِ تعالى فهو مشؤومٌ عليه. فالشؤمُ في الحقيقة هو مَعْصِيةُ اللهِ تعالى، كما قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: إنْ كان الشؤم في شيءٍ ففيما بين اللّحيين
(2)
، يعني اللسان. وقال: ما من شيء أحوجُ إلى طول سجنٍ من لسانٍ.
وقال عَدِيُّ
(3)
بن حاتم: أيمنُ أمرٍ
(4)
وأشأمُهُ بينَ لحييهِ، يَعني لسانَه. وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "حُسْنُ الملكَةِ نَمَاءٌ، وسُوءُ الملَكَةِ شؤمٌ، والبِرُّ زِيادةٌ في العمرِ، والصدقة تمنَعُ
(5)
ميتة السوء"
(6)
. فجَعَلَ سُوءَ الملَكَةِ شؤمًا.
وفي حديثٍ آخَرَ: "لا يدخُلُ الجنَّةَ سَيّئُ الملكَةِ
(7)
"وهو مَن يُسيءُ إلى مماليكه ويظلِمهُم.
وفي الحديث: "إنَّ الصَّدَقَة تدفَعُ مِيتةَ السُّوءِ"
(8)
.
ويروى من حديث عليٍّ مرفوعًا: "باكِرُوا بالصَّدَقةِ فإنَّ البَلاءَ لا يتخطَّاها".
(1)
في ب: "خَلْقٌ لله تعالى".
(2)
اللحيان: حائطا الفم، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم من كل ذي لَحْي. (اللسان: لحي).
(3)
عدي بن حاتم بن عبد الله الطاثي، أبو طريف، أمير، صحابي شهير، من الأجواد العقلاء، كان رئيس طيئ في الجاهلية والإسلام. حضر فتوح العراق وحروب عليّ. وهو ابن حاتم الطائي الذي يضرب بجوده المثل. مات عدي بالكوفة سنة 68 هـ.
(4)
في ش: "أيمن أمري"، وفي ع:"أيمن امرءٍ"، وفي ط:"أيمن أمر بي".
(5)
في ب: "تدفع".
(6)
سنن أبي داود رقم (5162) و (5163) في الأدب، باب في حق المملوك، ورواه أيضًا أحمد في "المسند" 3/ 502 وإسناده ضعيف، وله شاهد من حديث جابر عند ابن عساكر في التاريخ، نقل المناوي تحسينه عن العامري. واللفظ لأحمد، وليس في السنن "والبر زيادة في العمر، والصدقة تمنع ميتة السوء". وفي النهاية 4/ 358: "يقال: فلان حَسَنُ الملكةِ، إذا كان حَسَنَ الصَّنيع إلى مماليكه".
(7)
أخرجه الترمذي رقم (1947) في البر والصلة، باب ما جاء في الإحسان إلى الخدم، وفي سنده فرقد بن يعقوب السبخي، وهو لين الحديث؛ قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد تكلم أيوب السختياني وغير واحد في فرقد السبخي من قبل حفظه. وأخرجه أيضًا ابن ماجه رقم (3691) في الأدب، باب الإحسان إلى المماليك.
(8)
أخرجه الترمذي رقم (664) في الزكاة، باب ما جاء في فضل الصدقة، عن أنس رضي الله عنه، وإسناده ضعيف. ونصه:"إنَّ الصَّدقة تُطفِئُ غضب الرَّبِّ، وتدفع ميتة السوء".
خرَّجه الطبراني
(1)
. وفي حديثٍ آخر: "إنَّ لِكُلِّ يومٍ نَحْسًا، فادْفَعُوا نَحْسَ ذلك اليومِ بالصَّدَقةِ"
(2)
. فالصَّدَقةُ تمنَعُ وقُوعَ البَلاءِ بعدَ انعقادِ أسبابِهِ، وكذلك الدُّعاءُ.
وفي الحديث: "إنَّ البَلاءَ والدُّعاءَ يلتقيان بينَ السَّماءِ والأرضِ، فيعتلجانِ إلى يوم القيامة". خرَّجه البزار والحاكم
(3)
.
وخرَّج الترمذي من حديث سلمان مرفوعًا: "لا يردُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ"
(4)
.
وقال ابن عباس: لا ينفَعُ الحذَرُ من القَدَرِ، ولكن الله يمحو بالدُّعاء ما يشاء من القَدَرِ
(5)
. وعنه قال: "الدُّعاءُ يدفَعُ القَدَرَ، وهو إذا دَفَعَ القَدَرَ فهو مِنَ القَدَرِ". وهذا كقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لما سُئلَ عن الأدوية والرُّقى: هل تَرُدُّ مِن قَدَرِ اللهِ شيئًا؟ فقال: "هي من قَدرِ اللهِ تعالى"
(6)
. وكذلك قال عمر رضي الله عنه لمَّا رَجَعَ من الطاعون، فقال له أبو عُبيدَةَ: أفرارًا
(7)
مِن قدَر اللهِ؟ فقال عُمَرُ: نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللهِ إلى قَدَرِ اللهِ؟ فإنَّ الله تعالى يقدِّرُ المقاديرَ ويقدِّرُ ما يدفَعُ بعضَها قبلَ وقوعِهِ. وكذلك الأذكارُ المشروعةُ تدفَعُ البَلاءَ.
وفي حديث عثمانَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قال حينَ يُصبحُ
(1)
ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (3122) وعزاه إلى الطبراني في الأوسط عن علي، والبيهقي في السنن 4/ 189 عن أنس. وقد ذكره الألباني في ضعيف الجامع الصغير رقم (2316). وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 110 من حديث علي، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عيسى بن عبد الله بن محمد، وهو ضعيف.
(2)
جزء من حديث ذكر في كنز العمال رقم (4559) عن علي رضي الله عنه.
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 492 وقال: صحيح الإسناد. وذكره المنذري في "الترغيب" 2/ 482. ويعتلجان: أي يتصارعان ويتدافعان.
(4)
أخرجه الترمذي رقم (2140) في القدر، باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء، وتمامه:"ولا يزيد في العُمُر إلا البر". وهو حديث حسن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(5)
في مسند أحمد 5/ 234 عن معاذ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"لن ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء عباد الله". وهو في كنز العمال 2/ 3123.
(6)
أخرجه ابن ماجه رقم (3437) في الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء؛ والترمذي رقم (2066) في الطب، باب ما جاء في الرقى والأدوية، ورقم (2149) في القدر، باب ما جاء لا ترد الرقى ولا الدواء من الله شيئًا، من حديث أبي خزامة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، والرُّقى: جمع رقية، وهو ما يقرأ من الدعاء. لطب الشفاء.
(7)
في آ: "أفرار".
ويُمسِي: بسم اللهِ الذي لا يضُرُّ مع اسْمِهِ شيء في الأرضِ ولا في السَّماءِ، وهو السَّميعُ العليمُ، لم يُصِبْهُ بَلاءٌ"
(1)
. وفي "المسند"
(2)
عن عائشةَ رضي الله عنها، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الشؤمُ سُوءُ الخلقِ". وخرَّجَه الخرائطيُّ
(3)
، ولفظُه "اليُمْنُ حُسْنُ الخُلُقِ". وفي الجملة: فلا شُؤمَ إلَّا المعاصي والذنوب؛ فإنَّها تُسخِطُ الله عز وجل، فإذا سخِطَ الله عز وجل على عبدِهِ شقيَ في الدنيا والآخرةِ، كما أنه إذا رضي عن
(4)
عبدِهِ سَعِدَ في الدنيا والآخرة.
قال بعضُ الصالحين، وقد شُكي إليه بلاءٌ وقع في
(5)
الناسِ، فقال: ما أَرَى ما أنتم فيه إلَّا بشؤمِ الذُّنوبِ. وقال أبو حازم: كُلُّ ما شغَلَكَ عن اللهِ مِن أهلٍ أو ولدٍ أو مالٍ فهو عليك مَشْؤومٌ.
وقد قيل:
فلا كانَ ما يُلهِي عن اللهِ إنَّه
…
يَضُرُّ ويُؤذِي إنَّه لَمشؤومُ
فالشؤم في الحقيقة هو المعصيةُ
(6)
، واليُمْنُ هو طاعةُ الله وتقواهُ، كما قيلَ:
إنَّ رأيًا
(7)
دَعا إلى طَاعَةِ
…
اللهِ لرأيٌ مُبَارَكٌ مَيْمُونُ
والعَدْوَى التي تُهلِكُ مَن قاربَهَا هي المعاصي؛ فَمَنْ قاربَهَا وخالطَهَا وأصَرَّ عليها هَلَكَ، وكذلك مُخالطةُ أهلِ المعاصي، ومن يُحسِّنُ المعاصي
(8)
ويُزيّنُها ويدعو إليها
(1)
أخرجه الترمذي رقم (3385) في الدعوات، باب ما جاء إذا أصبح وإذا أمسى؛ وأبو داود رقم (5088) و (5089) في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح؛ وابن ماجه رقم (3869) في الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح أو إذا أمسى، وإسناده حسن؛ وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وذكره المؤلف هنا مختصرًا.
(2)
المسند 6/ 85، وسنن أبي داود رقم (5162) و (5163) في الأدب، باب في حق المملوك، ولفظه:"حسن الملكة نماء، وسوء الخلق شؤم".
(3)
مكارم الأخلاق ص 8، والجامع الصغير للسيوطي، وعزاه إلى الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن عائشة، وهو ضعيف. وكذا ذكره الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" رقم (6469).
(4)
في آ، ب:"على".
(5)
في آ: "وقد شكي إليه ما وقع فيه الناس"، وفي ش:"وقد شكي إليه بلاء وقع فيه الناس".
(6)
في ط: "هو معصية الله".
(7)
في آ: "إن داعٍ".
(8)
في ب، ش، ط:"المعصية".
من شياطينِ الإِنسِ، وهم أضرُّ مِن شياطينِ الجنِّ. قال بعضُ السَّلَفِ: شيطانُ الجنِّ تَستعيذُ بالله منه، فينصرف؛ وشيطانُ الإِنس لا يبرَحُ حتَّى يُوقعَكَ في المعصيةِ. وفي الحديث:"يُحشَرُ المرءُ على دينِ خليله؛ فلينظرْ أحدُكُم من يُخالِلُ"
(1)
. وفي حديثٍ آخرَ: "لا تَصْحَبْ إلَّا مؤمنًا ولا يأكُل طعامَكَ إلَّا تقِيٌّ"
(2)
. ومما يُروى لعليٍّ رضي الله عنه
(3)
:
فلا
(4)
تصحَبْ أخا الجَهْلِ
…
وإياكَ وإياهُ
فكم مِنْ جاهلٍ أرْدَى
…
حكيمًا حينَ آخاهُ
(5)
يُقاسُ المرءُ بالمرءِ
…
إذا ما المرءُ ماشاهُ
(6)
وللشيءِ على الشيءِ
…
مقاييسٌ وأَشْبَاهُ
وللقلبِ عَلَى القلبِ
…
دَليلٌ حينَ يَلْقَاهُ
فالعاصي مشؤومٌ على نفسِهِ وعلى غيرِهِ؛ فإنَّه لا يُؤمنُ أنْ ينزلَ عليه عذابٌ فيعمُ النَّاسَ، خصوصًا مَنْ لم يُنكِرْ عليه عَمَلَهُ
(7)
، فالبعدُ عنه متعيِّنٌ، فإذا كَثُرَ الخبثُ هَلَكَ الناسُ عمومًا.
وكذلك أماكنُ المعاصِي وعقوباتُها يتعيَّنُ البُعْدُ عنها، والهربُ منها، خشيةَ نزولِ العذابِ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابِهِ لمَّا مَرَّ
(8)
على ديارِ ثمودَ بالحِجْرِ: "لا تَدْخُلُوا
(1)
أخرجه الترمذي رقم (2379) في الزهد، باب الرجل على دين خليله. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وأبو داود رقم (4833) في الأدب، باب من يؤمر أن يجالس.
(2)
أخرجه أبو داود رقم (4832) في الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، والترمذي رقم (2397) في الزهد، باب ما جاء في صحبة المؤمن، وإسناده حسن. ورواه أحمد في "المسند" 3/ 38، وابن حبان 2/ 266 (ط. مؤ سسة الرسالة)، والحاكم 4/ 128، وصححه ووافقه الذهبي. قال الخطابي: هذا إنما جاء في طعام الدعوة، دون طعام الحاجة، وذلك أن الله سبحانه قال:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الدهر: 9]، ومعلوم أن أسراهم كانوا كفارًا غير مؤمنين ولا أتقياء. وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، فإنَّ المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب.
(3)
ديوان علي بن أبي طالب ص 205 (ط. زرزور).
(4)
في آ، ع:"لا تصحب".
(5)
في آ، ع:"واخاه".
(6)
في آ والديوان: "إذا ما هو ماشاه".
(7)
لفظة "عمله" لم ترد في (آ).
(8)
في ب: "مروا".
على هؤلاء المعذَّبين، إلَّا أن تكونوا باكينَ؛ خشيةَ أنْ يُصيبَكُم ما أصابَهُم"
(1)
. ولما تاب الذي
(2)
قَتَلَ مائةَ نفسٍ مِن بني إسرائيلَ، وسأل العالِمَ: هل
(3)
لَهُ من توبةٍ؟ قال له: نعم، فأمَرَهُ أنْ ينتقلَ مِن قرية السُّوءِ إلى القريةِ الصالحةِ، فأدركَهُ الموتُ بينَهما، فاختَصَمَ فيه ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العذابِ، فأَوْحَى الله إليهم: أنْ قِيسُوا بينَهما فإلى أيَّهما كانَ أقربَ فأَلْحِقُوه بها، فوَجَدُوه إلى القريةِ الصالحةِ أقربَ بِرَمْيَةِ حَجَرٍ، فغُفِرَ له.
هِجرانُ أماكنِ المعصية وإخوانها مِن جملة الهِجرةِ المأمورِ بها، فإنَّ المهاجِرَ مَنْ هَجَرَ ما نَهى الله عنه. قال إبراهيمُ بنُ أدهَمَ: مَن أرادَ التَّوبَةَ فلْيَخْرجْ مِن المظالِمِ، وليدَعْ مخالَطَةَ مَن كانَ يخالِطُه، وإلَّا لم يَنَلْ ما يُريدُ.
احذَرُوا الذُّنوبَ، فإنَّها مشؤومةٌ، عواقبُها ذميمةٌ، وعُقُوباتُها أليمة، والقلوبُ المُحِبَّةُ لها سَقِيمةٌ، [والنفوسُ المائلةُ إليها غيرُ مستقيمةٍ، و]
(4)
السَّلامةُ منها غنيمةٌ، والعافِيةُ منها ليس لها قيمةٌ، والبَليَّةُ بها، لا سيما بعدَ نُزولِ الشَّيبِ، دَاهِيةٌ عظيمةٌ.
طاعةُ اللهِ خيرُ ما اكتسَبَ العَبْدُ
…
فكنْ طائعًا لله لا تعصِيَنْهُ
مَا هَلاكُ النُّفوسِ إلَّا المعاصِي
…
فاجْتَنِبْ ما نَهَاكَ لَا تَقْرَبَنْهُ
إنَّ شيئًا هَلَاكُ نَفْسِكَ فيهِ
…
ينبغِي أنْ تَصُونَ نَفْسَكَ عَنْهُ
يا مَنْ ضَاعَ قلبُه اِنشِدْهُ في مجلسِ الذِّكرِ، عسى أن تجده. يا مَن مرِضَ قلبُه احمِلْه إلى مجلسِ الذّكرِ، لعلَّه أن يُعافَى. مجالسُ الذّكْرِ مارَسْتانات
(5)
الذنوب تُداوَى فيها أمراضُ القلوبِ، كما تُداوى أمراضُ الأبدانِ في مارستانات الدُّنيا
(6)
، ونزهٌ
(7)
(1)
أخرجه البخاري 6/ 379 (3381) في الأنبياء: باب قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]؛ وفي المساجد: باب الصلاة في مواضع الخسف؛ وفي المغازي: باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر؛ وفي تفسير سورة الحجر: باب {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ} . وأخرجه مسلم رقم (2980) في الزهد والرقائق: باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين.
(2)
في آ: "ولما تاب الله عمن قتل". وأخرجه البخاري 6/ 512 رقم (3470) في الأنبياء، ومسلم رقم (2766) في التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله.
(3)
في آ: "هل له توبة".
(4)
ما بين قوسين ماقط في (ط).
(5)
في ب، ط:"مارستان". وهو دار المرضى، معرَّب.
(6)
في ب: "مارستان الدنيا"، وفي ط:"مارستان الذكر".
(7)
في ب: "نزهة"، وسقطت الواو من (ط). وفي ش:"وقوَّة".
لقلوبِ المؤمنين تتنزه فيه بسماع كلام الحكمة، كما تتنزه أبصارُ أهلِ الدُّنيا في رياضِها وبساتينها.
مجلسنا هذا حَضْرَةٌ في رَوضةِ الخُشُوعِ؛ طعامُنا فيه الجُوعُ، وشرابُنا فيه
(1)
الدُّموعُ، ونُقْلُنا
(2)
هذا الكلامُ المسموعُ، نُداوِي فيه أمراضًا أعيَتْ جالينوسَ
(3)
وبَخْتَيشُوعَ
(4)
، نسقي فيه دِرياق
(5)
الذنوب وفاروق المعاصي، فمن شربَ لم يكن له إلى المعصية رجوع. كم أفاقَ فيه منَ المعصيةِ مصروع، وبرِئَ فيه من الهوَى مَلْسُوع، ووصَلَ فيه إلى الله مقطوع، ما عيبُه إلَّا أنَّ الطبيبَ الذي له لو كان يستعمِلُ ما يصِفُ للنَّاسِ لكان إلى قوله المرجوع
(6)
.
يا ضيعةَ العُمر إنْ نَجَا السَّامِعُ وهلَكَ المسموع! يا خيبَةَ المَسْعَى إنْ وَصَلَ التَّابِعُ وانقطَعَ المتبوع!
وغَيْرُ تَقِيٍّ يأمُر النَّاسَ بالتُّقَى
…
طبيبٌ
(7)
يُداوِي النَّاسَ وهو سَقِيمُ
(8)
يا أيُّها الرَّجُلُ المقوِّمُ غَيْرَهُ
…
هلَّا لنفسِكَ كانَ ذا التَّقويمُ
ابدأْ
(9)
بنفسِكَ فانْهَها عَنْ غَيِّها
…
فإن
(10)
انْتَهَتْ عَنْهُ فأَنْتَ حَكِيمُ
فهُناكَ يُقْبَلُ ما تَقولُ ويُقْتَدَى
…
بالقولِ مِنْكَ وينفعُ التَّعليمُ
(1)
لفظة "فيه" لم ترد في آ، ش.
(2)
النُّقْل: ما يتنقّل به على الشراب من فواكه وكوامخ وغيرها، وما يتفكَّه به من جوز ولوز وبُندق ونحوها.
(3)
جالينوس: طبيب يوناني مات نحو 201 قبل الميلاد، له اكتشافات مهمة في التشريح، أخذ عنه أطباء العرب.
(4)
اشتهر بهذا الاسم عدد من الأطباء من أصل سرياني، منهم بختيشوع بن جرجس، مات نحو سنة 184 هـ.
(5)
الدِّرياق، ويقال: الترياق: دواء السموم.
(6)
في آ: "الرجوع".
(7)
في آ، ش:"مريض".
(8)
هذا البيت من البحر الطويل، وبقية الأبيات من الكامل. والبيت الأخير "لا تنه عن خلق .. " من شواهد النحو المشهورة، استشهد به سيبويه (1/ 424) على نصب "تأتي" بإضمار "أَنْ" بعد واو المعية، والتقدير: لا يكن منك نهي وإتيان. والأبيات الثلاثة الأخيرة ذكرها البغدادي في شرح أبيات المغني (6/ 113) منسوبة إلى المتوكل بن عبد الله الليثي، كما نسبت إلى أبي الأسود الدؤلي. انظر كتاب الأمثال لأبي عبيد ص 74، والمؤتلف والمختلف 273، والأغاني 12/ 156، والمستقصى للزمخشري 2/ 260، والخزانة 3/ 617، وديوان المتوكل الليثي 283 - 284، وديوان أبي الأسود 404 ضمن قصيدة (في القسم المشكوك من شعره).
(9)
في ش، ع:"فابدأ".
(10)
في ب، ط:"فإذا"، وهي رواية ثانية.
لا تَنْهَ عَن خُلُقٍ وتأتيَ مِثلَهُ
…
عارٌ عليكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ
غيره
(1)
:
[كم ذا التَّمادِي فَهَا قَدْ جاءَنا صَفَرٌ
…
شَهْرٌ بهِ الفَوْزُ والتَّوفِيقُ والظَّفَرُ
فابدأْ بمَا شئتَ مِنْ فِعْلٍ تُسَرُّ بهِ
…
يومَ المَعادِ ففيهِ الخيرُ يُنْتَظَرُ
تُوبوا إلى اللهِ فيهِ مِن ذُنُوِبكُمُ
…
مِن قَبْلُ يبلغُ فيكُم حدُّهُ العُمُرُ]
(2)
* * *
(1)
لفظ "غيره" لم يرد في (آ، ط).
(2)
الأبيات بين قوسين ساقطة في (آ).
وظائف شهر ربيع الأوَّل
وفيه مجالس:
المَجلسُ الأَوَّل في ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم
-
خرَّج الإمام أَحمد من حديث العِرْبَاض بن سَارِيَةَ السُّلَمِي
(1)
رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنِّي عِنْدَ اللهِ
(2)
في أمِّ الكتاب، لخَاتمُ النبيين، وإنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ
(3)
في طينتِهِ، وسَوف أنبئكُم بتأويل ذلكَ: دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبِشارَةُ عيسى قَوْمَه، ورؤيا أمِّي التي رأتْ أنَّه خَرَجَ منها نورٌ أضاءَتْ له قُصُورُ الشَّام، وكذلك أمَّهاتُ النبيينَ يَرَيْنَ"
(4)
. وخرَّجَه الحاكمُ
(5)
، وقال: صحيحُ الإسنادِ.
وقد رُوي معناه من حديثِ أبي أمامةَ البَاهليِّ، ومِن وجوهٍ أُخَرَ مرسلةٍ.
المقصودُ من هذا الحديث أنَّ نبوَّةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كانتْ مذكورةً معروفةً من قبلِ أن يخلُقَه الله ويُخرِجَه إلى دار الدُّنيا حيًّا، وأنَّ ذلك كان مكتوبًا في أمِّ الكتاب من قبلِ
(1)
نسبة إلى سُلَيم بن منصور بن عكرمة بن خَصْفة بن قيس عيلان بن مضر، وهي قبيلة من العرب، وهو من أعيان أهل الصُّفَّة وأحد من نزل فيه قول الله تعالى:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} [التوبة: 92]، وقد تقدمت ترجمته.
(2)
في ط: "عبد الله"، وهو خطأ.
(3)
المنجدل: الساقِط. وشرحها المؤلف بعد قليل، فقال: المراد بالمنجدلِ الطريح الملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه.
(4)
رواه أحمد في "المسند" 4/ 127 و 128، وابن حبان في "صحيحه" رقم (2093) موارد، والبغوي في "شرح السنة" 13/ 207. وهو حديث صحيح، وانظر "مجمع الزوائد" للهيثمي 8/ 223 و 224.
(5)
رواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 418 و 600 وصححه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
نَفْخِ الرُّوحِ في آدَمَ، عليه السلام. وفُسِّرَ "أمُّ الكتاب" باللَّوحِ المحفوظِ، وبالذِّكرِ، في قوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}
(1)
.
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه سأل كَعبًا
(2)
عن "أمِّ الكتاب" فقال: عَلِمَ اللهُ ما هو خالقٌ، وما خَلْقُه عَامِلون، فقال لِعلمِهِ: كُنْ كتابًا، فكان كِتابًا، ولا رَيْبَ أنَّ علم الله تَعالى قديمٌ أزلِيٌّ لم يَزلْ عالمًا بما يُحدِثُهُ من مخلوقاتِهِ، ثم إنَّه تعالى كَتَبَ ذلك في كتابِ عندَه قَبْلَ خَلْقِ السَّماوات والأرضِ، كما قال تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
(3)
.
وفي "صحيح البخاري" عن عِمْرانَ بن حُصَيْنٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"كان اللهُ ولا شيءَ قَبلَهُ، وكان عرشُهُ على الماءِ، وكتَبَ في الذِّكْرِ كلَّ شيءٍ، ثم خلَقَ السَّماوات والأرضَ"
(4)
.
وفي "صحيح مسلم" عن عَبْد الله بن عَمْرو بن العَاصِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال،
(5)
: "إنَّ الله كَتبَ مَقَادِيرَ الخلائِقِ قبلَ أن يخلُقَ السماواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، وكان عرشُهُ على الماءِ"
(6)
.
ومن جُمْلةِ ما كتبَهُ فِي هذا الذِّكرِ وهو "أمُّ الكتاب" أن محمدًا خاتَمُ النبيِّينَ، ومن حينئذ انتقلَتِ المخلوقاتُ من مرتبةِ العلمِ إلى مرتبةِ الكتابةِ
(7)
، وهو نوعٌ من أنواعِ الوجودِ الخارجيِّ، ولهذا قال سعيدُ بن راشدٍ
(8)
: سألتُ عطاءً: هل كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نبيًّا
(1)
سورة الرعد الآية 39.
(2)
أي كعب الأحبار، وقد سبقت ترجمته.
(3)
سورة الحديد، الآية 22.
(4)
رواه البخاري رقم (3191) في بدء الخلق: باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} الروم: 27،، و (7418) في التوحيد: باب [قوله تعالى]: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، [وقوله تعالى]:{وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129].
(5)
ما بين حاصرتين سقط من (آ).
(6)
رواه مسلم رقم (2653) في القدر، باب حجاج آدم موسى عليهما السلام.
ورواه الترمذي رقم (2156) في القدر، باب رقم (18)، وأحمد في "المسند" 2/ 169، ولفظه عندهما:"قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة".
(7)
في آ: "الكتاب".
(8)
هو سعيد بن راشد، أبو محمد المازني البصري السماك، روى عن الحسن وابن سيرين وعطاء والزهري. قال البخاري في الكبير 3/ الترجمة 1572: منكر الحديث.
قبلَ أن يُخلَقَ
(1)
؟ قال: إي واللهِ، وقبلَ أن تُخلَقَ الدُّنيا بألفي عامٍ.
خرَّجه أبو بكر الآجُرِي
(2)
في "كتاب الشريعة"، وعطاء، الظَّاهِرُ أنَّه الخُرَاسَانيُّ. وهذا إشارة إلى ما ذكرناه من كتابةِ نبوَّتِه صلى الله عليه وسلم في "أمِّ الكتاب" عند تقديرِ المقاديرِ. وقولُه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "إني عند
(3)
اللهِ في أمِّ الكتاب لخَاتمُ النبيِّينَ، وَإنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِه"، ليس المرادُ بهِ - واللهُ أعلمُ - أنَّه حينئذٍ كُتِبَ في "أمِّ الكتاب" خَتْمُهُ للنبيينَ، وإنَّما المرادُ الإخبارُ عن كون ذلك مكتوبًا في "أمِّ الكتابِ" في تلك الحالِ قبل نَفْخِ الرُّوحِ في آدمَ، وهو أوَّلُ ما خُلِقَ من النَّوعِ الإنسانيّ.
وجاء في حديث آخر
(4)
، أنه في تلك الحال وجبَتْ له النبوَّةُ، وهذه مرتبةٌ ثالثةٌ، وهي انتقالُه من مرتبةِ العِلْمِ والكتابةِ إلى مرتبةِ الوجودِ العَينيِّ
(5)
الخارجيِّ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم استُخرِجَ حينئذ من ظهرِ آدمَ ونُبِّئَ، فصارت نُبوَّتُه موجودةً في الخارج بعد كونها كانت مكتوبةً مقدَّرةً في أمِّ الكتاب. ففي حديث مَيْسَرَةَ الفجر
(6)
، قال: قلتُ: يا رسولَ الله، متى كُنتَ نبيًّا؟ قال:"وَآدَمُ بين الرُّوحِ والجسدِ". خرَّجَه الإِمامُ أحمد، والحاكم
(7)
.
قال الإمام أحمد في رواية مُهَنَّا
(8)
: وبعضهم يرويه: "متى كتبت
(9)
نبيًّا؟ "، من الكِتابةِ. فإنْ صحَّتْ هذه الرِّوايةُ، حُمِلَتْ مع حديثِ العِرْباض بن سارِيَةَ على وُجوب نبوَّتهِ وثُبوتها وظهورها
(10)
في الخارج؛ فإنَّ الكتابَةَ إنَّما تُستعمَلُ فيما هو واجبٌ؛ إمَّا
(1)
في ب: "قبل أن يُخلق الخلق".
(2)
هو محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر الآجري، فقيه شافعي محدّث، نشأ في بغداد وانتقل إلى مكة، وتوفي فيها سنة 360 هـ. له تصانيف كثيرة، منها "كتاب الشريعة" في السنّة، وهو مطبوع. (وفيات الأعيان 4/ 292، سير أعلام النبلاء 16/ 134).
(3)
في ط: "عبد" وهو تصحيف.
(4)
في ب، ش، ط:"أحاديث أخر".
(5)
لفظة "العيني" سقطت من (آ).
(6)
قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" 9/ 303 - 304: ميسرة الفجر صحابي ذكره البخاري، والبغوي، وابن السكن، وغيرهم في الصحابة
…
وقد قيل: إنه عبد الله بن أبي الجدعاء.
(7)
رواه أحمد في "المسند" 5/ 59، وابن أبي عاصم في السنة رقم (410)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 608، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند أبي نعيم في "أخبار أصبهان" 2/ 226 وهو حديث صحيح. وساقه الحافظ ابن حجر في "الإصابة" 9/ 303 - 304، و [قال]: هذا إسناد قوي، لكن اختلف فيه على بُديل بن ميسرة. وانظر تتمة كلامه فيه، فهو مفيد إن شاء الله تعالى.
(8)
هو مُهَنَّا بن يحيى الشامي، صاحب الإمام أحمد بن حنبل، انظر ترجمته في "المنهج الأحمد" 1/ 231 - 333.
(9)
في آ، ب:"كنت".
(10)
لفظة: "وظهورها" لم ترد في (آ).
شرعًا كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
(1)
، أو قَدَرًا كقوله تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}
(2)
. وفي حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم قالوا: يا رسولَ اللهِ! متى وجبَتْ لكَ النبوَّةُ؟ قالَ: "وآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ والْجَسَدِ". خرَّجه الترمذي وحسَّنه. وفي نسخة: صحَّحه
(3)
، وخَرَّجه الحاكم
(4)
.
وروى ابن سعد
(5)
من رواية جابر الجُعْفِي، عن الشَّعْبيِّ.
(6)
، قال: قال رجلٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: متى استُنْبِئْتَ؟ قال: "وآدَمُ بَيْنَ الرُّوْحِ وَالجَسَدِ، حين
(7)
أُخِذَ مِنِّي الميثاقُ"
(8)
. وهذه الرِّواية تدُلُّ على أنَّه صلى الله عليه وسلم حينئذ استُخرِجَ مِن ظهرِ آدَمَ ونُبِّئ، وأُخِذَ ميثاقُهُ. فيحتمِلُ أن يكونَ ذلك دليلًا على أن استِخراجَ ذُريَّةِ آدَمَ من ظهرِه وأخذَ الميثاق منهم كان قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ في آدَمَ. وقد رُوِيَ هذا عن سلمان الفارسيِّ وغيره من السِّلَفِ. ويُستَدَلُّ له أيضًا بظاهِرِ قولهِ تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}
(9)
على ما فسَّره به مُجَاهدٌ
(10)
وغيره، أن المراد إخراجُ ذُريَّةِ آدمَ من ظهرِهِ قبلَ أمرِ الملائكةِ بالسُّجود
(11)
له، ولكن أكثرَ السَّلفِ على أن استِخراجَ
(1)
سورة البقرة، الآية 183.
(2)
سورة المجادلة، الآية 21.
(3)
في آ، ب:"وصحيحه"، وهو خطأ.
(4)
رواه الترمذي رقم (3609) في المناقب، باب في فضل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي الباب عن ميسرة الفجر. والحاكم في "المستدرك" 2/ 609، وأخرجه أيضًا أبو نعيم في "أخبار أصبهان" 2/ 226 وهو حديث صحيح بشاهده الذي قبله.
(5)
في آ: "ابن سعيد" وهو تحريف، والحديث في "الطبقات الكبرى" لابن سعد 1/ 148.
(6)
هو عامر بن شراحيل الهمداني، ثم الشعبي أبو عمرو، من الفقهاء في الدِّين، وجلة التابعين، أدرك خمسين ومئة من الصحابة، وهو من رجال الحديث الثقات، ولد في إمرة عمر بن الخطاب لست سنين خلَت منها، وقيل: ولد سنة إحدى وعشرين ومات سنة (105) هـ، وقيل: غير ذلك.
(7)
في آ: "حتى" وفي ط: "حيث".
(8)
رواه ابن سعد في "الطبقات" 1/ 148، من مرسل الشعبي، ورواه الطبراني في "الأوسط"، والبزار في "مسنده"، كما في "مجمع الزوائد" 8/ 223، وجابر الجعفي ضعيف، ولكن الحديث حسن بشواهده التي قبله.
(9)
سورة الأعراف، الآية 11.
(10)
في ط: "ابن مجاهد" وهو خطأ. وهو مجاهد بن جَبْر أبو الحجَّاج المكِّي، الإمام شيخ القراء والمفسرين، روى عن ابن عبَّاس، فأكثر وأطاب، وعنه أخذ القرآن، والتفسير، والفقه، وحدث عنه عكرمة البربري، وطاووس بن كيسان، وعطاء، وهم من أقرانه. قال الأنصاري: حدثنا الفضل بن ميمون: سمعت مجاهدًا يقول: عَرَضْتُ القرآن على ابن عباس ثلاثين مرَّة. مات سنة (102) هـ، وقيل (104) هـ، وقيل غير ذلك. (سير أعلام النبلاء 4/ 449، طبقات القراء 2/ 41).
(11)
لفظة: "بالسجود" سقطت من (آ).
ذُريَّة آدَمَ منه كان بعد نَفْخِ الرُّوحِ فيه، وعلى هذا تدلُّ أكثرُ الأحاديث، فيحتَملُ
(1)
على هذا أن يكون محمدٌ صلى الله عليه وسلم خُصَّ باستخراجِهِ من ظهرِ آدَمَ قَبْلَ نفخِ الرُّوحِ فيه، فإنَّ محمّدًا صلى الله عليه وسلم هو المقصودُ من خَلقِ النَّوْعِ الإنسانيِّ، وهو عينُه، وخلاصَتُه
(2)
، وواسطةُ عقدِهِ؛ فلا يبعُدُ أنْ يكونَ أُخرِجَ من ظهرِ آدمَ عند خلقِهِ قبلَ نفخِ الرُّوحِ فيهِ.
وقد رُوِيَ أن آدَمَ عليه السلام رأى اسمَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم مكتوبًا على العَرْش، وأنَّ الله عز وجل قال لآدَمَ: لولا محمَّدٌ ما خلقتُكَ .. وقد خرجه الحاكمُ في "صحيحه"
(3)
، فيكون حينئذٍ من حين صُوِّرَ آدمُ طِينًا استُخْرِجَ منه محمدٌ صلى الله عليه وسلم ونُبِّئ، وأُخِذَ منه الميثاقُ، ثم أعيدَ إلى ظهر آدمَ حتى خرجَ في وقت خُروجِهِ الذي قدَّرَ الله خروجَه فيه. ويشهدُ لذلك ما روي عن قَتَادَةَ
(4)
، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"كنْتُ أوَّل النَّبِيِّينَ في الخَلْقِ وآخرَهُم في البعثِ".
وفي روايةٍ: "أوَّل النَّاسِ في الخَلْقِ". خرَّجه ابنُ سعد
(5)
وغيرُه. وخرَّجه الطّبَرانيُّ
(6)
من رواية قتادةَ عن الحسن، عن أبي هُرَيْرةَ مرفوعًا، والمرسَلُ أشبَهُ. وفي
(1)
في (ط): "فتحمل".
(2)
في ع: "وخاصته".
(3)
رواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 615، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وتعقبه الحافظ الذهبي، فقال: قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن (أي عبد الرحمن بن زيد بن أسلم)، واهٍ. وعبد الله بن مسلم الفهري لا أدري من هو. أقول: وعبد الله بن مسلم الفهري هذا، ذكره الحافظ الذهبي في الميزان وذكر له خبرًا باطلًا (يا آدم لولا محمد ما خلقتك)، انظر:"ميزان الاعتدال" 2/ 504.
(4)
هو قتادة بن دعامة السَّدُوسي أبو الخطَّاب، ولد أعمى، وكان من علماء الناس بالقرآن والفقه، ومن حفاظ أهل زمانه. قال الذهبي: وهو حجة بالإجماع إذا بيَّن السماع، وإلا فإنَّه مدلِّسٌ معروف بذلك، وكان يرى القدر، نسأل الله العفو، ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يَعْذُرُ أمثالَه ممن تلبس ببدعة يُريد بها تعظيمَ الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يُسأل عما يفعل. مات بواسط في الطاعون سنة (118) هـ. (سير أعلام النبلاء 5/ 269 - 283).
(5)
في "الطبقات"(9/ 141)، وهو حديث ضعيف بهذا اللفظ.
(6)
قوله: "وخرجه الطبراني" سقط من (آ). وهو سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم، مسند الدُّنيا، الإمام الحجة، أصله من طبرية الشام وإليها ينسب. ولد بعكا من أرض فلسطين، ورحل إلى معظم الأقطار لجمع الحديث النبوي، وحدَّث عن ألف شيخ أو يزيدون، وصنف ثلاثة معاجم في الحديث النبوي "الصغير" و "الأوسط" و "الكبير". قال أبو العباس الشيرازي: كتبت عن الطبراني ثلاثمائة ألف حديث. مات سنة 360 هـ. وعاش مائة سنة. (سير أعلام النبلاء 16/ 119).
روايةٍ عن قتادَةَ مرسَلةٍ، ثم تلا:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}
(1)
، فبدأ به قبلَ نوحٍ الذي هو أوَّلُ الرسُل. فمحمدٌ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ الرُّسُلِ خَلْقًا
(2)
وآخرهم بعثًا؛ فإنَّه استُخرِجَ من ظهرِ آدمَ لما صُوِّرَ
(3)
، ونُبِّئ حينئذٍ، وأُخِذَ ميثاقُه، ثم أُعِيدَ إلى ظهرِهِ.
ولا يقالُ: فقد خُلِقَ آدمُ قبلَهُ؛ لأنَّ آدَمَ كان حينئذٍ مَواتًا لا روحَ فيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان حيًّا حين استُخرِجَ ونُبِّئَ وأُخِذَ ميثاقُهُ، فهو صلى الله عليه وسلم أوَّلُ النبيينَ خَلْقًا وآخرُهُم بعثًا، فهو خاتَمُ النَّبِيِّينَ باعتبار أن زمَانَهُ تأخَّرَ عنهم، فهو المُقَفِّي
(4)
والعاقِبُ الذي جاء عقيبَ
(5)
الأنبياء ويقفوهم. قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}
(6)
.
وفي "الصحيحين" عن جَابرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"مَثَلِي ومَثلُ الأنبياءِ كمثلِ رجلٍ بَنى دارًا فأكمَلَها وأحسَنَها، إلَّا موضِعَ لَبِنةٍ، فجعَلَ الناسُ يدخُلُونَها ويَعجَبُون منها، ويقولون: لولا مَوضِعُ اللَّبِنَةِ"
(7)
. زاد مسلم، قال:"فجئتُ فختمْتُ الأنبياء"
(7)
. وفيهما أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم معناه. وفيه:"فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفونَ به ويقولون: هلَّا وُضِعَتِ اللبِنةُ؟ فأنا اللَّبنَةُ، وأنا خاتَمُ النَّبيِّينَ"
(8)
. وقد استدل الإمامُ أحمد بحديث العِرْبَاضِ
(9)
هذا على أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَزَلْ على التوحيدِ منذ نَشَأَ. وَرَدَّ بذلك على مَنْ زَعَمَ غيرَ ذلك. بل قد يُستَدلُّ بهذا الحديث على أنَّه صلى الله عليه وسلم وُلد نبيًّا، فإنَّ نبوَّتَه وجبَتْ له مِن حين أُخِذَ الميثاقُ منه
(10)
، حيث استُخرِجَ مِن صُلْب آدَمَ، فكان نبيًّا من حينئذٍ، لكن كانت مدَّةُ خروجه إلى الدُّنيا متأخِّرَةً عن ذلك، وذَلك لا
(1)
سورة الأحزاب، الآية 7.
(2)
أي في علم الله تعالى، ومدة خروجه إلى الدنيا متأخرة عن ذلك. (ع).
(3)
في آ: "لما صور بل ونبئ".
(4)
المُقَفِّي: المتبع للنبيين، والعاقب: آخر الأنبياء. وكلاهما من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن قيم الجوزية (1/ 86 - 87).
(5)
في ع، ش:"عقب".
(6)
سورة الآحزاب، الآية 40.
(7)
رواه البخاري رقم (3534) في المناقب: باب خاتم النبيين، ومسلم رقم (2287) في الفضائل: باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين.
(8)
رواه البخاري رقم (3535) في المناقب: باب خاتم النبيين، ومسلم (2286) (21) في الفضائل: باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين.
(9)
يعني العرباض بن سارية رضي الله عنه وقد تقدم تخريج حديثه.
(10)
لفظة: "منه" سقطت من (آ).
يمنعُ كونَهُ نبيًّا قبلَ خُروجِه، كَمَنْ يُوَلِّي وِلايةً ويؤمَرُ بالتَّصرُّفِ فيها
(1)
في زمنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فحُكْمُ لوِلايةِ ثابتٌ له من حين ولايتِهِ وإن كان تصرُّفُه يتأخَّر
(2)
إلى حين مجيءِ الوقتِ.
قال حَنْبَلُ
(3)
: قلت لأبي عبدِ اللهِ - يعني أحمد: مَنْ زَعَمَ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان على دِين قومه أن يُبعَثَ؟ قالَ: هذا قولُ سُوءٍ، ينبغي لصاحب هذه المقالةِ [أن]
(4)
يُحذَرَ كلامُه، ولا يجالَسَ، قُلْتُ له: إنَّ جارنا النَّاقِدَ أبا العبَّاسِ يقولُ هذه المقالَةَ، قال: قاتلَهُ الله! وأيّ شيءٍ أبقَى إذا زَعَمَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان على دينِ قَوْمِهِ وهم يعبُدونَ الأصنامَ؟!
قال الله تعالى مخبرًا
(5)
عن عيسى عليه السلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}
(6)
. قلت له: وزَعَم أن خديجةَ كانتْ على ذلك حين
(7)
تزوَّجَها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الجاهلية. قال: أمَّا خديجةُ فلا أقولُ شيئًا، قد كانَتْ أوَّلَ مَنْ آمنَ به مِن النساء، ثم قال: ماذا يُحدِثُ النَّاسُ مِن الكلام إ؟ هؤلاء أصحابُ الكلام، مَنْ أَحَبَّ الكلامَ
(8)
لم يُفْلِحْ. سبحان اللهِ لهذا القولِ!! واحتجَّ في ذلك بكلامٍ لم أحفَظْهُ. وذكر أن
(9)
أمَّه حين وَلدت رأتْ نورًا أَضاء له [قُصُور الشام]
(10)
، أو ليس هذا عندما ولدتْ رأتْ هذا، وقبلَ أنْ يُبعَثَ كان طاهرًا مطهَّرًا من الأوثانِ، أو لَيْسَ كان لا يأكُلُ ما
(11)
ذُبِحَ على النُّصُب؟
(12)
ثم قال: احذروا
(13)
الكلام، فإنَّ أصحابَ الكلام لا يؤولُ أمرُهُم إلى خيرٍ. خرجَّه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر
(14)
في "كتاب السُّنَّ".
(1)
في ب، ش:"بها".
(2)
في آ: "متأخِّرًا".
(3)
هو حنبل بن إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد الشَّيباني، أبو علي، الإمام الحافظ المحدِّث الصدوق، ابن عم الإمام أحمد وتلميذه، مات سنة 273 هـ. (سير أعلام النبلاء 13/ 51).
(4)
زيادة من نسخة (ع).
(5)
في ع، ط:"حاكيًا".
(6)
سورة الصف، الآية 6.
(7)
في آ: "حتى".
(8)
قوله: "من أحب الكلام" سقط من (ط).
(9)
في آ، ش "وذكرَتْ".
(10)
ما بين حاصرتين لم يرد في آ، ب.
(11)
في ط: "لما".
(12)
النُّصُبُ: حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها، فنهى الله عن ذلك. قال تعالى - المائدة الآية 3 - : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه
…
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ
…
}.
(13)
في آ: "احذر".
(14)
ويعرف بغلام الخلَّال. مفسِّر، ثقة في الحديث، من أعيان الحَنابلة، من أهل بغداد. كان تلميذًا لأبي بكر الخلال فلقب به. مات سنة 363 هـ. (سير أعلام النبلاء 16/ 143).
ومُرادُ [الإمام] أحمدَ الاستِدلالُ بتقديم البشارةِ بنبوَّتهِ من الأنبياءِ الذين قبلَه، وبما شُوهِدَ عندَ ولادتِهِ مِن الآيات، على أَنَّه كان نبيًّا من قبِلِ خروجِهِ إلى الدُنيا وولادتِهِ، وهذا هو الذي يدُل عليه حديثُ العِرْباضِ هذا
(1)
؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم ذكَرَ فيهِ أنَّ نبوَّتَه كانَتْ حاصِلةً مِن حين كانَ آدَمُ مُنْجَدِلًا في طِينتِه؛ والمرادُ بالمُنْجَدِلِ الطَّرِيحُ المُلْقَى على الأرضِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فيه، ويقالُ للقتيل: إنَّه مُنْجَدِلٌ لذلك. ثم استدلَّ صلى الله عليه وسلم على سَبْقِ ذِكْرِهِ، والتنويهِ باسْمِهِ، ونبوَّتهِ، وشَرَفِ قَدْرِهِ لِخُروجِهِ إلى الدُّنيا، بثلاثِ دَلائِلَ؛ وهو مرادُه بقوله
(2)
: "وسأنبئكم بتأويل. ذلك".
الدَّليلُ الأوَّلُ: دعوةُ أبيه إبراهيمَ عليه السلام؛ وأشارَ بذلك إلى ما قَصَّ اللهُ في كتابه عن إبراهيمَ وإسماعيلَ أنَّهما قالا عند بناءِ البيتِ الذي بمكة: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
(3)
.
[فاستجابَ الله دُعاءَهُما وبَعَثَ في أهلِ مكَّةَ منهم رسُولًا بهذِه الصِّفةِ مِن وَلَدِ إسماعيلَ الذي دَعَا مع أبيه إِبراهيمَ عليهما السلام بهذا الدُّعاءِ. وقد امتَنَّ الله تعالى على المؤمنين بِبَعْثِ هذا
(4)
النَّبيِّ فيهم
(5)
على هذه الصِّفة التي دعا بها إبراهيمُ وإسماعيلُ.
قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]
(6)
}
(7)
. وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ
(1)
سبق في بداية هذا المجلس.
(2)
أي بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
(3)
سورة البقرة، الآيات: 127 - 129.
(4)
في ط: "ببعثه لهذا".
(5)
في ع، ش، ط:"منهم".
(6)
ما بين حاصرتين لم يرد في (آ).
(7)
سورة آل عمران، الآية 164.
مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
(1)
.
ومَعْلُومٌ أنَّه لم يُبْعَثْ في
(2)
مكَّةَ رسولٌ منهم
(3)
بهذه الصفةِ غيرُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وهو مِن وَلَدِ إسماعيلَ، كما أن أنبياءَ بنِي إسرائيلَ مِن وَلَدِ إسحاق. وذكر الله تعالى أنَّه مَنَّ على المؤمنينَ بهذه الرِّسالةِ، فليس للهِ نِعمَةٌ أعظم مِن إرسال محمدٍ صلى الله عليه وسلم يَهْدِي إلى الحقِّ وإلى صراطٍ
(4)
مستقيمٍ.
وقوله: {فِي الْأُمِّيِّينَ} - والمرادُ بهم العَرَبُ - تنبيهٌ لهم على قَدْرِ هذه النِّعمةِ وعِظَمِها، حيثُ كانوا أمِّيِّينَ لا كِتابَ لهم، وليسَ عندَهم شيء من آثارِ النُّبوَّاتِ، كما كان عندَ أهلِ الكتاب، فمنَّ الله عليهم بهذا الرسولِ وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفْضَلَ الأمم وأعلَمَهمَ، وعَرَفُوا ضلالَةَ مَنْ ضَلَّ من الأمم قَبلَهم. وفي كونِهِ منهم فائدتان:
إحداهما: أن هذا الرَّسُولَ كان أيضًا أميًّا كأمَّتِهِ المبعوثِ إليهم، لم يقرأْ كتابًا قَطُّ، ولم يَخُطَّهُ بيمينِهِ، كما قال الله تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} الآيات
(5)
، ولا خَرَجَ عن ديارِ قَوْمِهِ فأقامَ عندَ غيرِهم حتَّى تعلَّمَ منهم شيئًا، بلْ لم يزَلْ أُمِّيًّا بين أمَّةٍ أمِّيَّةٍ، لا يكتُبُ ولا يَقرأُ حتى كَمَّلَ الأربعينَ من عُمُرِهِ، ثمَّ جاءَ بعد ذلك بهذا الكتابِ المُبين
(6)
، وهذه الشريعةِ الباهِرةِ، وهذا الدِّينِ القيِّمِ، الذي اعترفَ حُذَّاقُ
(7)
أهل الأرضِ ونُظَّارُهُم أنَّه لم يَقْرَعِ العالَمَ ناموسٌ
(8)
أعظَمُ منه. وفي هذا بُرهانٌ ظاهِرٌ على صِدْقِهِ.
(1)
سورة الجمعة، الآيات: 2 - 4.
(2)
في ط: "من".
(3)
في ط: "فيهم".
(4)
في ب، ع، ش، ط:"طريق".
(5)
سورة العنكبوت، الآية: 48، وفيها من الآيات قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} .
(6)
من المفيد أن نشير إلى أن الأمية كانت في رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصية ولم تكن نقيصة كما قد يتوهم بعضهم عن جهل أو تعمد.
(7)
حَذَق فلانٌ الشيءَ: مَهَرَ فيه، فهو حاذق، وجمعه حُذَّاقٌ.
(8)
الناموس هنا: الشريعة أو القانون. والناموس أيضًا: جبريل.
والفائدة الثانية: التنبيهُ على أن المبعوثَ فيهم
(1)
- وهم الأمِّيُّون خُصوصًا أهل مكَّةَ - يَعرِفُون نَسَبَهُ، وشرَفَهُ، وصِدْقَهُ، وأمَانَتَهُ، وعِفَّتَهُ، وأنَّه نَشَأ بينَهُمْ معروفًا بذلك كُلِّه، وأنَّه لم يكذِبْ قَطُّ؛ فكيفَ كانَ يَدَعُ الكَذِبَ على النَّاسِ ثم يَفْترِي الكَذِبَ على الله عز وجل، وهذا
(2)
هو الباطِلُ، ولذلك سَأَلَ هِرقْلُ
(3)
عن هذه الأوصافِ، واستدلَّ بها على صدقِهِ فيما ادَّعاهُ من النُّبوَّةِ والرِّسالةِ.
وقوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} ، يعني يتلُو عليهم ما أنزَلَ
(4)
الله عليه من آياتِهِ المتلُوَّةِ، وهو القرآنُ، وهو أعظَمُ الكُتبِ السَّماوِيَّةِ، وقد تضمَّنَ من العلوم
(5)
والحِكَم، والمواعِظِ، والقَصَصِ، والترغيب والترهيب
(6)
، وذكرِ أخبارِ مَنْ سَبقَ، وأخبارِ ما يأتي مِن البَعْثِ والنُّشور والجنَّةِ والنَّارِ، ما لمَ يشتمِلْ عليه كتابٌ غيرُهُ، حَتَّى قالَ بعض العلماءِ: لو أن هذا الكتابَ وُجِدَ مكتوبًا في مُصْحَفٍ
(7)
في فلاةٍ من الأرضِ، ولم يُعْلَمْ مَنْ وَضَعَهُ هناك، لشهِدَتِ العُقُولُ السَّلِيمةُ أنَّه منزَلٌ مِن عندِ اللهِ، وأنَّ البَشَرَ لا قدرَةَ لهم على تأليفِ ذلك، فكيف إذا
(8)
جاءَ على يدَيْ أَصْدَقِ الخلْقِ وأبَرِّهِمْ وأتْقاهُم، وقال: إنَّه كلامُ اللهِ، وتحدَّى الخَلْقَ كلَّهم أن يأتوا بسُورةٍ
(9)
من
(10)
مثلِهِ، فعَجَزُوا. فكيف يَبْقى مع هذا شكٌّ فيه؟ ولهذا قال تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ}
(11)
.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ}
(12)
. فلو لم يَكُنْ لِمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنَ المُعجِزاتِ الدَّالَّةِ على صدقِهِ غَيْرُ هذا الكتابِ [لكفَاهُ]
(13)
، فكيفَ
(1)
في ب، ش، ط:"منهم".
(2)
في ب، ع، ش:"هذا"، وفي ط:"فهذا".
(3)
من حديث طويل أخرجه الشيخان والترمذي، وانظر رواياته وتخريجه في "جامع الأصول" 11/ 265 - 271، و"إعلام السائلين" ص 67 - 80.
(4)
في ب، ط، ش:"ما أنزله".
(5)
في آ: "العلم".
(6)
في آ: "الرغب والرهب".
(7)
المُصْحَفُ: مجموعٌ من الصُّحف في مجلد، وغلب استعماله في القرآن الكريم، وجمعه مصاحف.
(8)
في آ: "إذ".
(9)
وذلك في قوله تعالى [البقرة: 23]: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . وقوله تعالى [يونس: 38]: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
(10)
لفظة: "من" لم تر في ب، ش، ط.
(11)
سورة البقرة، الآية 2.
(12)
سورة العنكبوت، الآية 51.
(13)
زيادة من ب، ش، ع، ط.
وَلَهُ مِن المُعْجِزاتِ الأرضِيَّةِ والسَّماويَّةِ ما لا يُحْصَى. وقوله: {وَيُزَكِّيهِمْ} : يعني أنه يُزَكِّي قلوبَهُم وَيُطَهِّرُها من أدناسِ الشِّركِ والفُجورِ والضَّلالِ؛ فإنَّ النفوسَ تزكو إذا طَهُرَتْ مِن ذلك كلِّه، ومَنْ زكَتْ نَفْسُه فقد أفلَحَ، كما قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}
(1)
. وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى}
(2)
.
وقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} ، يعني بالكتاب القرآنَ، والمرادُ: وَيعلِّمُهم تِلاوةَ ألفاظِهِ. ويعني بالحكمةِ فَهْمَ معاني القرآنِ والعَمَلَ بما فيه. فالحِكْمَةُ هي فهمُ القرآنِ والعملُ به
(3)
، فلا يُكْتَفَى بتِلَاوةِ ألفاظِ الكتاب حتَّى يُعْلَمَ معناهُ ويُعْمَلَ بمقتضاهُ، فمَنْ جُمِعَ له
(4)
ذلك كلُّه فقد أُوتِيَ الحِكْمَة. قالَ تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}
(5)
.
قال الفُضَيلُ
(6)
: العلماءُ كثيرٌ، والحُكَماءُ قليلٌ. وقال: الحُكَماءُ وَرَثَةُ الأنبياءِ. فالحِكمةُ هي العِلمُ النافعُ الذي يتبَعُه العمَلُ الصَّالحُ. وهي
(7)
نورٌ يُقْذَفُ في القَلْبِ يُفهَمُ بها معنى العلم المنَزَّلِ مِنَ السَّماءِ، ويحُضُّ على اتِّباعِه والعملِ به. ومَن قال: الحِكْمَةُ السُّنَّةُ، فقولُه حقٌّ؛ لأنَّ السُّنَّةَ تفسِّرُ القرآنَ وتُبيِّنُ
(8)
معانيَهُ وتحُضُّ على اتِّباعِهِ والعَمَلِ به؛ فالحكيمُ هو العالم المستنبطُ لدقائِقِ العِلمِ المنتفَعِ بعلمِهِ بالعمل بِهِ. ولأبي العتاهية
(9)
:
وكَيْفَ تُحِبُّ أنْ تُدْعَى حَكِيمًا
…
وأَنْتَ لِكُلِّ ما تَهْوَى رَكُوبُ
وتَضْحَكُ دَائِبًا ظَهْرًا لِبَطْنٍ
…
وَتَذْكُرُ مَا عَمِلْتَ فَلَا تَتُوبُ
(1)
سورة الشمس، الآية 9. والمعنى: لقد فاز وأفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وطهَّرها من دنس المعاصي والآثام.
(2)
سورة الأعلى، الآية 14. أي قد فاز من طهَّر نفسه بالإيمان، وأخلص عمله للرحمن.
(3)
في ب: "والعمل بما فيه".
(4)
لفظة: "له" لم ترد في (آ).
(5)
سورة البقرة، الآية 269.
(6)
هو الفضيل بن عِيَاض بن مسعود التميمي اليربوعي، أبو علي، شيخ الحرم المكي، من أكابر العباد الصلحاء. كان ثقة في الحديث، أخذ عنه خلق منهم الإمام الشافعي. ولد في سمرقند سنة (105) هـ ونشأ بأيبوَرْد، ودخل الكوفة وهو كبير، وأصله منها، ثم سكن مكة وتوفي بها، من كلامه:"من عرف الناس استراح". مات سنة (187) هـ. وانظر ترجمته وكثيرًا من أقواله في "صفة الصفوة" 2/ 237 - 247.
(7)
في ب، ط:"وهو "وهو تحريف لأن الضمير يعود إلى الحكمة.
(8)
في آ: "تفسير القرآن وتبيين".
(9)
ديوانه 22 - 23 ورواية البيت الثاني:
وتُصْبِحُ ضاحِكًا ظَهْرًا لِبَطْنٍ
…
وتَذْكُرُ ما اجْتَرَمْتَ فلا تذوبُ
وقوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
(1)
، إشارة إلى ما كان النَّاسُ عليه قبلَ إنزالِ هذا الكتاب من الضلالِ، فإنَّ الله تعالى نظرَ حينئذٍ إلى أهلِ الأرضِ، فمقَتَهُم، عربَهُم وعَجمَهُم، إلَّا بقايا مِن أهلِ الكتابِ تمسَّكُوا بدينِهِم الذي لم يُبَدَّلْ ولم يُغيَّرْ، وكَانوا قليلًا جدًّا.
فأمَّا عامَّةُ أهلِ الكتاب فكانوا قد بدَّلُوا كُتُبَهُم وغيَّرُوها وحَرَفُوها، وأَدْخَلُوا في دينِهِم ما ليسَ منه فَضَلُّوا وأضَلُّوا. وأمَّا غيرُ أهلِ الكتابِ فكانُوا على ضَلالٍ مُبينٍ
(2)
؛ فالأمّيُّون أهلُ شركٍ يَعبُدُونَ الأوثانَ، والمجوسُ يعبُدُونَ النيرانَ ويقولون بإلهَيْنِ اثنينِ، وكذلك غيرُهُم مِن أهلِ الأرضِ؛ منهم مَن كان يعبُدُ النُّجومَ، ومنهم مَن كان يعبُدُ الشَّمسَ أو القمر، فهدَى الله المؤمنينَ بإرسالِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلى ما جاءَ بهِ مِنَ الهُدَى ودِينِ الحقِّ؛ وأظهَرَ الله دينَهُ حتى بَلَغَ مشارِقَ الأرضِ ومغارِبَها، فظهرَتْ فيها كلمةُ التَّوحيدِ والعَمَل بالعَدْلِ بعد أن كانَتْ الأرضُ كلُّها ممتلئةً مِن ظُلمةِ
(3)
الشِّرْكِ والظُّلْمِ. فالأمّيُّون هم العَربُ، والآخرون الذين لم يَلْحَقُوا بهم هم أَهْلُ فارِسَ والرُّومُ، فكانَتْ أهلُ فارِسَ مجوسًا، والرُّومُ نصارَى، فهدَى اللهُ تعالى جميعَ هؤلاءِ برسالة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلى التوحيدِ.
وقد رُئي الإمامُ أحمدُ
(4)
بعد موتِه في المنام، فسُئِلَ عن حالِهِ، فقال: لولا هذا النَّبيُّ لكنَّا مجوسًا، وهو كما
(5)
قال، فإنَّ أهلَ العِرَاقِ لولا رسالةُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم لكانوا مَجُوسًا، وأهلُ الشَّامِ ومِصْرَ والرُّومُ لولا [رسالةُ]
(6)
محمدٍ صلى الله عليه وسلم[لكانُوا نصارَى، وأهلُ جزيرة العربِ لولا رسالةُ محمد]
(7)
لكانوا مشرِكينَ عُبَّادَ أَوْثَانٍ. ولكن رَحِمَ اللهُ عبادَهُ بإرسالِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فأنقذَهُم مِن الضَّلالِ، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
(8)
. ولهذا قال الله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
(9)
. فمن حصَلَ له نصيبٌ من دِين الإِسلامِ فقد حصَلَ له الفَضْلُ العَظِيمُ،
(1)
سورة الجمعة، الآية 2.
(2)
في ب، ش، ع 8 ط:"بَيِّن".
(3)
لفظة: "ظلمة" لم ترد في (ط).
(4)
لفظة: "أحمد" لم ترد في (ط).
(5)
قوله: "وهو كما" سقط من (ط).
(6)
لفظة: "رسالة" زيادة من (ط).
(7)
ما بين قوسين سقط من (آ).
(8)
سورة الأنبياء، الآية 187.
(9)
سورة الجمعة 8 الآية 4.
وقد عَظُمَتْ عليه نعمَةُ اللهِ، فما أحوَجَهُ إلى القيام بشكرِ هذه النِّعْمَةِ وسؤالِهِ دوامَها والثَّباتَ عليها إلى المماتِ، والموتَ عليها، فبذلِكَ تَتِمُّ النِّعمةُ.
فإبراهيمُ عليه السلام هو إمامُ الحنفاء المأمورُ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ومَنْ قَبْلَه مِنَ الأنبياءِ عليهم السلام بالاقْتِداء به، وهو الَّذي جَعَلَهُ الله للنَّاسِ إمامًا. وقَدْ دعا هو وابنُه إسماعيلُ عليه السلام بأن يبعَثَ الله في أهلِ مَكَّةَ رَسُولًا مِنْهُم مَوْصُوفًا بهذِهِ الأوصافِ
(1)
، فاستجابَ الله لهما وجَعَلَ هذا النَّبيَّ المَبْعُوثَ
(2)
فيهم مِن وَلَدِ إسماعِيلَ بن إبراهيمَ كما دَعَيا بذلك، وهو النَّبيُّ الَّذِي أَظْهَرَ دِينَ إبراهيمَ الحنِيفَ بعدَ اضمِحلالِهِ وخفائِهِ على أهلِ الأرضِ، فلهذا كان أَوْلَى النَّاسِ بإبراهيمَ، كما قال تعالى:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} .
(3)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وَلِيًّا مِن النَّبيِّينَ
(4)
إنَّ وليي
(5)
إبراهيم"
(6)
، ثم تلا هذه الآية. وكان صلى الله عليه وسلم أَشْبَهَ وَلَدِ إبرَاهِيمَ بهِ صُورةً ومعنىً، حتى إنَّه أشْبَهَهُ في خُلَّةِ
(7)
اللهِ تعالى، فقال:"إنَّ الله اتَّخذَنِي خَلِيلًا كما اتَّخَذَ إبراهيمَ خليلًا"
(8)
.
الثاني
(9)
: بِشَارةُ عيسى بهِ، وعيسى آخِرُ أنبياءِ بني إسرائيلَ، وقد قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}
(10)
.
وقد كان المسيحُ عليه السلام يَحُضُّ على اتِّباعِهِ، ويقولُ: إنَّه يُبعَثُ
(1)
وذلك في سورة البقرة، الآية 129، قال تعالى:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقد مضى ذكر ذلك.
(2)
في ط: "مبعوثًا".
(3)
سورة آل عمران، الآية 68.
(4)
في ط: "المؤمنين".
(5)
في ع، ط:"وأنا ولي".
(6)
رواه الترمذي رقم (2995) في التفسير، باب ومن سورة آل عمران، والطبري في "تفسيره" رقم (7216)، وأحمد في "مسنده" 1/ 401 والحاكم في "المستدرك" 2/ 292 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وقد ذكره المؤلف رحمه الله بالمعنى.
(7)
الخُلَّةُ: الصداقة المختصَّة التي ليس فيها خلَلٌ، وجمعها خِلالٌ. والخليل: الصديق.
(8)
قطعة من حديث رواه ابن ماجه رقم (141) في المقدمة، وهو حديث ضعيف جدًّا.
(9)
أي الدليل الثاني على نبوَّته صلى الله عليه وسلم.
(10)
سورة الصف، الآية 6.
بالسَّيْفِ، فَلا يَمنعنَّكُم ذلك منه. ورُوي عنه أنَّه قالَ: سوف أذهَبُ أنا ويأتِي الذي بعدِي لا يَتَحمَّدُكم
(1)
بدَعْواهُ، ولكنْ يَسُلُّ السَّيفَ فتدخلُونَه طَوْعًا وكُرْهًا. وفي "المسند" عن أبي الدَّرْدَاء
(2)
رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أن الله عز وجل أَوْحَى إلى عِيسى عليه السلام: "إنِّي باعثٌ
(3)
بَعْدَكَ أُمَّةً، ان أصَابَهُمْ ما يُحبُّونَ حَمِدُوا وشَكَرُوا
(4)
، وإنْ أصَابَهُم ما يَكْرَهُونَ، احْتَسَبُوا وصَبَرُوا، ولا حِلْمَ ولا عِلْمَ. قال: يا ربّ! كيفَ هذا ولا حِلْمَ ولا عِلْمَ؟ قال: أُعْطِيهم مِن حِلْمِي وعِلْمِي".
قال ابنُ إسحاق
(5)
: حدَّثني بعضُ أَهْل العِلْمِ أن عِيسَى بنَ مَرْيَمَ عليه السلام قال: إنَّ أحَبَّ الأُمَمِ إلى اللهِ عز وجل لأَمَّةُ أحمَدَ. قيلَ له: وما فَضْلُهم الذي تَذكُرُ؟ قال: لم تُذَلَّلْ
(6)
"لَا إلهَ إلَّا اللهُ" على ألسُنِ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ تَذلِيلَها على ألسِنَتِهِم.
الثالث: مِمَّا دل على نُبوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم قبْلَ ظُهورِهِ رُؤيا أمِّهِ التي رَأَتْ أنَّهُ خَرَجَ منها نورٌ أضاءَتْ لهُ قُصُورُ الشَّامِ، وذَكَرَ أن أمَّهَاتِ النَّبيِّينَ كذلك يَرَيْنَ. والرؤيا هنا إنْ أُرِيدَ بها رُؤيا
(7)
المَنَامِ، فَقَدْ رُوِيَ أن آمِنَةَ بنتَ وَهْبٍ رَأَتْ في أوَّلِ حَمْلِها بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّها بُشِّرَتْ بأنَّه يَخرُجُ مِنها عندَ وِلادَتِها نورٌ تُضِيءُ له قُصُورُ الشَّامِ.
(1)
في آ: "لا ينجدكم".
(2)
هو عويمر بن زيد بن قيس، ويقال: عويمر بن عامر، ويقال: عويمر بن عبد الله، وقيل ابن ثعلبة بن عبد الله الأنصاري الخزرجي، حكيم هذه الأمة، وسيد القراء بدمشق وهو معدود فيمن تلا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو معدود فيمن جمع القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصدر للإقراء بدمشق في خلافة عثمان رضي الله عنه وكان قبل البعثة تاجرًا في المدينة، ثم انقطع للعبادة. قال ابن الجزري: كان من العلماء الحكماء. مات بالشام سنة (32) هـ. قال ابن حبَّان: وقبره بباب الصغير بدمشق مشهور يزار قد زرته غير مرة.
(3)
في آ: "أبعث".
(4)
لفظ: "وشكروا، لم يرد في (آ).
(5)
هو محمد بن إسحاق بن يسار القرشي المطلبي، أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله، مولى قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، من أقدم مؤرخي العرب، وكان بحرًا من بحور العلم ذكيًا، حافظًا، طلابة للعلم، أخباريًا، نسابة، علامة، صاحب "السيرة النبوية"، وكل من تكلم في "السيرة" من بعده فعليه اعتماده. ولد في المدينة المنورة، وأخذ العلم عن كبار العلماء فيها، ورحل في طلب العلم إلى أقطار كثيرة إلى أن ألقى عصا الترحال في بغداد، فالتقى بالمنصور، وصنف لابنه المهدي كتاب "السيرة" - التي قام بتهذيبها ابن هشام - وعاش ببغداد إلى أن وافته المنية سنة (151 هـ)، وقيل غير ذلك.
(6)
الذُّلُّ: ضد الصعوبة، وذَلَّ يذلُّ فهو ذلولٌ.
(7)
في ش، ع:"رؤية".
وروَى الطبرانِي بإسنادِه عن أبي مَرْيم
(1)
الكندِيِّ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه سُئِلَ: أيُّ شيءٍ كانَ أوَّل مِنْ أَمْرِ نُبوَّتِكَ؟ قال: "أَخَذَ الله مِنِّي المِيثاقَ كما أَخَذَ مِنَ النَّبِيِّينَ ميثاقَهُم"، وتلا:{[وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ] وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ}
(2)
الآية، وبشرَى المسيح بن مريم. ورأَتْ أمُّ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في مَنَامِها أنَّه خَرَجَ من بين يَدَيْها سِراجٌ أضاءَتْ لها منهُ قُصُورُ الشَّام. ثم قال: "ووراء
(3)
ذلك"
(4)
. مرتين
(5)
أو ثلاثًا. وإِنْ أريدَ بها رؤيا
(6)
عَينٍ، كما قَال ابنُ عبَّاس في قَولِ الله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}
(7)
: إنها رؤيا عَينٍ أُرِيها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسْرِيَ بِهِ، فقد رُوي أنَّ آمنة
(8)
رأَتْ ذلكَ عندَ وِلادةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قال ابنُ إسحاق
(9)
: كانت آمنةُ بنتُ وَهْب تُحدِّثُ أنَّها أُتيَتْ حينَ حَمَلَتْ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقيلَ لها: إنَّكِ حَمَلْتِ بسيِّدِ هذه الأُمَّةِ، فإذَا وَقَعَ إلى
(10)
الأرض فقُولي: أُعيذُهُ بالواحدِ من شَرِّ كُلِّ حاسد - وآيةُ ذلك أن يخرُجَ معهُ نورٌ يملأُ قُصُورَ بُصْرَى من أرضِ الشَّامِ - فإذا وَقَعَ فسمِّيهِ
(11)
محمَّدًا، فإنَّ اسْمَهُ في التوراةِ أحمدُ، يحمَدُه أهلُ السَّماءِ وأهلُ الأرضِ، واسْمُهُ فِي الإِنجيلِ أحمدُ، يحمَدُهُ أهلُ السَّماءِ وأهلُ الأرض؛ واسْمُهُ في القرآن محمَّدٌ.
وذَكَرَ ابنُ سَعْدٍ
(12)
، عن الواقِدِيِّ بأسانِيدَ له متعددة، أن آمنةَ بنتَ وَهْبٍ قالَتْ: لَقَد عَلِقْتُ به
(13)
- تعني النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فما وَجَدْتُ له مشقَّةً حتَّى وضعْتُه، فلمَّا فُصِلَ منِّي خَرَجَ معه نورٌ أضاءَ له ما بينَ المشرقِ إلى المَغرب، ثم وَقَعَ إلى الأرض معتمِدًا على يَدَيْهِ، ثمَّ أَخَذَ قَبْضَةً مِن التُّراب فَقَبَضَها ورَفعَ رأسَهُ إلى السَّماءِ. وفي حديثِ بعضهِم:
(1)
في آ، ش، ع:"أبي مُرَّة". ولعله أبو مريم الكندي، ذكره البغوي ولم يخرج له شيئًا، وذكره ابن السكن في الصحابة. وقال أبو أحمد الحاكم: له صحبة وحديثه في أهل الشام. (الإصابة برقم 1043).
(2)
سورة الأحزاب، الآية 7.
(3)
في آ: "ورؤيا"، وهو تحريف.
(4)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 224 وقال: رواه الطبراني ورجاله وثقوا. وما بين حاصرتين في الحديث مستدرك منه وقد تقدم.
(5)
في ب، ط:"قريتين".
(6)
في ب، ش، ع، ط:"رؤية".
(7)
سورة الإسراء، الآية 60.
(8)
في ط: "أمه".
(9)
انظر: "السيرة النبوية" 1/ 157 - 158.
(10)
في آ: "على".
(11)
في آ: "سميه".
(12)
في "الطبقات" 1/ 98.
(13)
عَلِقْتُ به: حَمَلْت به.
وقَعَ جاثيًا على رُكْبَتيهِ وخَرَجَ مَعَهُ نورٌ أضاءَتْ لَهُ قصورُ الشَّام وأسواقُها حتَّى رُؤيتْ أعناقُ الإبِلِ بِبُصْرَى، رافعًا رأسَهُ إلى السَّماءِ.
وروى البيهقِيُّ
(1)
بإسنادِهِ، عن عُثْمَانَ بن أبي العَاصِ، حدَّثتني أمِّي أنَّها شَهِدَتْ وِلادَةَ آمِنَةَ بنتِ وَهْبٍ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ وَلَدَتْهُ، قَالَتْ: فَما شَيءٌ أنظُرُ اليهِ مِنَ البيتِ
(2)
إلَّا نور، وإنِّي أنظُرُ إلى النُّجوم تَدنُو حتَّى إنِّي لأقُولُ: لَيَقَعَنَّ عَليَّ
(3)
. وخرَّج الإِمامُ أحمدُ مِن حديث عُتْبَةَ
(4)
بن عبَدٍ السُّلَمِي، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن أمَّه قالت: إنِّي رَأيْتُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أضاءَتْ مِنه قُصُورُ الشَّامِ
(5)
.
وروى ابنُ إسحاقَ
(6)
، عن جَهْمِ بن أبي جَهْمٍ، عن عبدِ اللهِ بن جعفرٍ، عمَّن حدَّثَ عن حَلِيمةَ أمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التي أرضعَتْهُ، أن آمِنةَ بنتَ وَهْبٍ حدَّثَتْها، قالَتْ: إنِّي حَمَلْتُ بِه فلمِ أرَ حَمْلًا قَطُّ كانَ أخفَّ عليَّ منهُ، ولا أعظَمَ بركَةً منه، لَقَدْ رأيْتُ نُورًا كأنَّه شِهابٌ خرَجَ مِنِّي حينَ وضَعْتُه، أضاءَتْ له أَعْنَاقُ الإِبِلِ بِبُصْرَى. وخُروجُ هذا النُّورِ عندَ وَضْعِهِ إشارَةٌ إلى ما يَجيءُ به مِنَ النُّورِ الذي اهْتَدى به أهلُ الأرضِ، وزالت
(7)
به ظلمةُ الشِّرْكِ منها، كما قال تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(8)
.
(9)
. وفي هذا المعنَى يقولُ [عمُّه]
(10)
العبَّاسُ في أبياتِهِ المشهورةِ السائرةِ:
(1)
هو أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، الإمام المُحدِّث الكبير، صاحب "السنن الكبرى" و "شعب الإيمان" المتوفى سنة (458) هـ.
(2)
قوله: "من البيت" سقط من (ط).
(3)
انظر: "دلائل النبوة" للبيهقي 1/ 112 - 114.
(4)
في آ: "عقبة" وهو تحريف. وهو آخر من مات بالشام من الصحابة. الإصابة (تر 5407).
(5)
رواه أحمد في "المسند" 4/ 127 و 184 - 185 من حديث العرباض بن سارية، ورواه البغوي في "شرح السنة" رقم (3626) وهو حديث صحيح.
(6)
في "السيرة النبوية" 1/ 165 وقد نقل المؤلف رحمه الله كلامه بتصرف.
(7)
في ب، ش، ع، ط:"زال".
(8)
سورة المائدة، الآيتان: 15، 16.
(9)
سورة الأعراف، الآية 157.
(10)
زيادة من (ط).
وأَنْتَ لمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْـ
…
أَرْضُ وضَاءَتْ بنُورِت الأفُقُ
فَنَحْنُ في ذلكَ الضِّياءِ وفي الـ
…
ــنُّورِ وسُبلِ الرَّشاد نَخْتَرِقُ
(1)
وأما إضاءةُ قُصورِ بُصْرَى بالنُّورِ الذي خَرَجَ مَعَهُ فهو إشارَةٌ إلى ما خَصَّ الشَّامَ مِن نُورِ نبوَّتهِ، فإنَّها
(2)
دارُ مُلْكِهِ. كما ذَكَرَ كَعْبٌ أن فِي الكتب السابقةِ: محمدٌ رسولُ اللهِ، مولدُهُ بمكَّةَ، ومهاجَرُه يثرِبُ
(3)
، ومُلْكُهُ بالشَّام؛ فمِنْ مَكَّةَ بُدِئَتْ نبوَّةُ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وإلى الشَّام يَنتهِي مُلْكُهُ، ولهذا أُسْرِيَ بِهِ صلى الله عليه وسلم إلى الشَّام، إلى بَيْتِ المقدِسِ، كما هَاجَرَ إبراهيَم عليه السلام من قَبْلِهِ إلى الشَّام.
قال بعضُ السَّلَفِ: ما بعَثَ اللهُ نبيًّا إلَّا مِنَ الشَّامِ، فإنْ لم يُبْعَثْ مِنها هاجَرَ إليها. وفي آخرِ الزَّمانِ يستقرُّ العِلْمُ والإِيمانُ بالشامِ، فيكونُ نُورُ النبوَّةِ فيها أظهَرَ مِنْهُ في سائِرِ بلادِ الإِسلام.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ من حديث عمرو بن العاص
(4)
، وأبي الدَّرداء. وخرَّجَ الحاكِمُ من حديثِ عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"رَأَيْتُ عَمُودَ الكِتابِ انتُزِعَ مِنْ تحتِ وسادتِي، فأتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فإذا هو عَمُودٌ سَاطِعٌ عُمِدَ بِهِ إلى الشام، أَلَا وإن الإيمانَ إذا وقعَتِ الفِتَنُ بالشام"
(5)
. وفي "المسند" والترمذي وغيرهَما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"سَتكُونُ هِجْرَةٌ بعدَ هِجرةٍ، فخِيارُ أهْلِ الأَرضِ ألزَمُهُم مُهَاجَرَ إبراهيمَ"، يعني الشَّام
(6)
.
وبالشام ينزلُ عيسى بنُ مريمَ عليه السلام في آخِرِ الزَّمانِ، وهو المُبشِّرُ
(1)
البيتان في "أسد الغابة" لابن الأثير 2/ 130، و "سير أعلام النبلاء" للذهبي 2/ 103.
(2)
في ط: "بأنها".
(3)
في آ: "بيثرب".
(4)
في ط: "عبد الله بن عمرو بن العاص"، وهو خطأ.
(5)
رواه أحمد في "المسند" 4/ 198 والحاكم في "المستدرك" 4/ 509 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ورواه أيضًا أحمد في "المسند" 5/ 199 من حديث أبي الدَّرْدَاء، رضي الله عنه. وهو حديث صحيح، وله شواهد أخر.
(6)
رواه أحمد في "المسند" 2/ 199 و 209 وأبو داود رقم (2482) في الجهاد: باب سكنى الشام، والحاكم في "المستدرك" 4/ 510 - 511 وصححه ووافقه الذهبي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ورواه أيضًا أحمد في "المسند" 2/ 84 من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وليس الحديث عنه الترمذي كما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى.
بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، [فيقرِّرُ عنذ نُزولِهِ دين محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم]
(1)
، ويَحْكُمُ بهِ، ولا يَقْبَلُ مِن أحدٍ غيرَ دينِهِ، فيكسِرُ الصَّلِيبَ، ويقتُلُ
(2)
الخِنزير، ويضَعُ الجِزْيَةَ، ويُصلِّي خَلْفَ إمامِ المسلمينَ، ويقولُ: إنَّ هذه الأمة أئمَّةٌ بعضُهُم لِبَعْض، إشارة إلَى أنَّه متَّبعٌ لِدِينِهم غيرُ ناسخٍ له. والشَّامُ هي في آخِرِ الزَّمانِ أَرْضُ المحشَر والمَنْشَرِ
(3)
، فَيُحْشَرُ النَّاسُ إليها قبلَ القِيامةِ مِن أقطارِ الأرض، فيُهاجرُ خيارُ أهلِ الأرض إلى مُهَاجرِ إبراهيمَ، وهي أرضُ الشَّام طوعًا. كما تقدَّمَ أن خِيَارَ أهلِ الأرض ألزمُهُم مُهَاجَرَ إبراهِيمَ.
وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالشَّام؛ فإنَّها خِيرةُ اللهِ مِن أرضِهِ، يَجْتَبِي
(4)
إليها خِيرَتَهُ مِن عِبَادِهِ". خرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ، وأَبو داود، وابنُ حِبَّانَ، والحاكم في "صحيحيهما"
(5)
. وقال أبو أُمامَةَ: لا تقومُ السَّاعَةُ حتَّى ينتقِلَ خِيارُ أهلِ العِراقِ إلى الشامِ، وشرارُ أهْلِ الشام إلى العراقِ. خرَّجه الإمام أحمد
(6)
.
وقد ثبتَ في "الصحيحين" عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قالَ: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تخرُجَ نارٌ بن أرض الحِجازِ فتضيء لها أعناقُ الإِبل بِبُصْرَى"
(7)
.
وقد خرجت هذه النَّارُ بالحجاز بقرب المدينة، ورُئيتْ أعناق الإبلِ مِنْ ضَوْئِها بِبُصْرَى في سنةِ أربعٍ وخمسين وستمائة
(8)
، وعقيبها جَرَتْ
(1)
ما بين حاصرتين سقط من (ط).
(2)
في ط: "وينقل" هو تصحيف.
(3)
رواه أحمد في "المسند" 6/ 463، وابن ماجه رقم (1407) من حديث ميمونة بنت سعد مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح. وفي اللسان عن ابن عمر، رضي الله عنهما: فهلَّا إلى الشام، أرض المَنْشر، أي موضع النُّشور، وهي الأرض المقدسة من الشام يحشر الله الموتى إليها يوم القيامة، وهي أرضَ المحشر.
(4)
يجتبي: يصطفي ويختار.
(5)
رواه أحمد في "المسند" 4/ 110 وأبو داود رقم (2483) في الجهاد: باب في سكنى الشام من حديث عبد الله بن حوالة رضي الله عنه، واللفظ لهما، وهو بالمعنى عند الحاكم 4/ 509 و 510 من حديث أبي أمامة، وانظر "مجمع الزوائد" 10/ 59.
(6)
رواه أحمد في "المسند" 5/ 249. وإسناده ضعيف.
(7)
رواه البخاري رقم (7118) في الفتن: باب خروج النار، ومسلم رقم (2902) في الفتن وأشراط الساعة: باب لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز.
(8)
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 13/ 79: قال القرطبي في "التذكرة": قد خرجت نار بالحجاز بالمدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العتمة، الثالث من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، واستمرت إلى ضحى النهار يوم الجمعة فسكنت، وظهرت النار بقريظة بطرف الحرة ترى في صورة البلد العظيم عليها سورٌ محيط عليه شراريف وأبراج ومآذن، وترى رجال يقودونها،=
واقعةٌ
(1)
ببغداد، وقُتِلَ بها الخليفةُ وعامَّةُ مَنْ كانَ ببغدادَ. وتكاملَ خرابُ أَرْضِ العِراقِ على أيدي التَّتَارِ، وهاجَرَ خِيارُ أهلِها إلى الشام مِن حينئذٍ. فأمَّا شِرارُ النَّاس فتخرجُ نارٌ في آخِرِ الزَّمانِ تسوقُهُم إلى الشَّام قهرًا، حتَّى يجتمعَ الناسُ كلُّهم بالشَّامِ قبلَ قيام السَّاعَةِ.
وفي "سنن أبي داود"، عن أبي الدَّرْداء رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ: "إنَّ فُسْطَاطَ
(2)
المسلمينَ يومَ المَلْحَمَةِ بالغُوطَةِ
(3)
، إلى جانِبِ مَدِينةٍ يقالُ لها دِمَشْقُ، مِنْ خَيْرِ مدائِنِ الشامِ"
(4)
. وخرجه الحاكمُ، ولفظُه:"خيرُ منازِلِ المسلمينَ يومئذٍ"
(5)
.
إخوانِي! مَنْ كانَ من هذه الأمة فهو مِن خير الأممِ عندَ اللهِ عز وجل. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
(6)
. وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمْ تُوفُّونَ سَبعِينَ أُمَّةً، أنتُمْ خيرُها وأكرَمُها على اللهِ عز وجل"
(7)
.
لمَّا كان هذا الرَّسولُ النَّبِيُّ الأمِّيُّ خَيْرَ الخَلْقِ وأفضلَهُم
(8)
، كانَتْ أمَّتُه خَيْرَ أمَّةٍ وأفضلَها، فما يحسُنُ بِمَنْ كانَ مِن خيرِ الأُممِ، وانتَسَبَ إلى متابَعَةِ خَيرِ الخَلْقِ،
= لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك مثل النهر، أحمر وأزرق، له دوي كدوي الرعد يأخذ الصخور بين يديه وينتهي إلى محط الركب العراقي، واجتمع من ذلك ردم صار كالجبل العظيم، فانتهت النار إلى قرب المدينة، ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد، وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر. وقال لي بعض أصحابنا: رأيتها صاعدة في الهواء من نحو خمسة أيام، وسمعت أنها رؤيت من مكة ومن جبال بصرى. وانظر تتمة كلامه.
(1)
في آ: "وقعة". وانظر كلام ابن العماد في "شذرات الذهب"(5/ 270 - 271) ففيه فائدة.
(2)
الفُسْطَاطُ: بيت من شَعْرٍ. وكل مدينة فسطاط. وفيه لغاتٌ: فُسْتَاط وفُسَّاط.
(3)
الغوطة: اسم البساتين والمياه التي حول دمشق، وهي غوطتها. (النهاية 3/ 396).
(4)
رواه أبو داود رقم (3298) في الملاحم: باب في المعقل من الملاحم، ورواه أيضًا أحمد في "المسند" 5/ 197 من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
(5)
رواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 486 وصححه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
(6)
سورة آل عمران، الآية 110.
(7)
رواه أحمد في "المسند"(4/ 447) من حديث حكيم بن معاوية عن أبيه معاوية بن حيدة بن معاوية بن كعب القشيري، وهو جد بهز بن حكيم؛ ورواه أيضًا أحمد في "المسند" 5/ 5؛ و "الدارمي" 2/ 313؛ وابن ماجه رقم (4287) في الزهد، باب: صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم من حديث بهز بن حكيم عن أبيه، عن جده معاوية بن حيدة القشيري؛ وهو حديث صحيح.
(8)
بعدها في ع: "عند الله سبحانه".
وخُصُوصًا مَنْ كان يَسكُنُ خيرَ منازِل المسلمينَ في آخرِ الزَّمانِ، إلَّا أن يكونَ متَّصِفًا بصِفاتِ الخَيْرِ، مُجْتَنِبًا
(1)
لصفاتِ الشَّرِّ، وقَبيحٌ بهِ أن يَرْضَى لنفسِهِ أن يكونَ مِن شَرِّ النَّاسِ مع انتسابه إلى خيرِ الأُممِ ومتابعةِ خيرِ الرُّسُلِ.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}
(2)
. فخيرُ النَّاسِ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}
(3)
.
وقد روي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "خيرُ النَّاسِ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللهِ، ووَصَلَ رَحِمَه، وأمَرَ بالمعروفِ، ونَهَى عَنِ المنكَرِ"
(4)
. وفي روايةٍ: "خيرُ النَّاسِ أتقاهُم للكذِبِ
(5)
، وأوصلُهُم للرَّحِم، وآمَرُهُم بالمَعْرُوفِ، وأَنْهَاهُم عن المنكَرِ"
(6)
. وقال: "النَّاسُ مَعَادِنُ؛ فخِيارُهُم في الجاهِلِيَّةِ خِيارُهُم في الإسلامِ إذَا فَقِهُوا"
(7)
.
وقال: "خَيرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وسَاءَ عَمَلُه"
(8)
. وقال: "خيرُكُم مَنْ يُرْجَى خَيْرُه ويُؤْمَنُ شَرُّهُ، وشرُّكُم مَنْ لا يُرْجَى
(1)
في آ: "متجنبًا".
(2)
سورة البيّنة، الآية 7.
(3)
سورة آل عمران، الآية 110.
(4)
رواه أحمد في "المسند" 6/ 432 من حديث درَّة بنت أبي لهب رضي الله عنها بلفظ: "خير الناس أقرؤهم وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم"، ورواه أيضًا الطبراني في "المعجم الكبير" 24/ 258. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 263 وعزاه لأحمد والطبراني وقال: رجالهما ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر.
(5)
في آ، ط:"للكذب".
(6)
ذكره المنذري في "الترغيب والترهيب" 3/ 230 في الحدود: باب الترغيب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعزاه لأبي الشيخ في "كتاب الثواب" وللبيهقي في "الزهد الكبير" وغيره، من حديث درَّة بنت أبي لهب رضي الله عنها.
(7)
قطعة من حديث رواه البخاري رقم (3383) في الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7]، ومسلم رقم (2526) في فضائل الصحابة، باب: خيار الناس، و (2638) في البر والصلة، باب: الأرواح جنود مجندة، وفيه زيادة:"كمعادن الفضة والذهب، بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس معادن
…
الحديث"، وابن حبَّان في "صحيحه" رقم (92) طبع مؤسسة الرسالة، وقد ذكره المؤلف مختصرًا وبالمعنى من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(8)
رواه الترمذي رقم (2330) في الزهد، باب: رقم (22)، وأحمد في "المسند"(5/ 40 و 43 و 44 و 47 و 48 و 49 و 50) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، والشطر الأول منه عند الترمذي رقم (2329) في الزهد، باب: ما جاء في طول العمر للمؤمن، وعند أحمد في "المسند" 4/ 188 و 190 من حديث عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه وهو حديث صحيح.
خَيْرُه ولا يُؤْمَنُ شَرُّهُ"
(1)
. وقال: "ألا أخبِرُكُم بخِياركُم؟ "، قالوا: بلى، قال:"الَّذين إذا رُؤوا ذُكِرَ الله، ألا أنبئكُم بشِرارِكم؟ " قالوا: بلى، قال: "المشَّاؤون بالنَّمِيمَةِ، المفرِّقونَ بينَ الأحِبَّةِ، البَاغُونَ
(2)
لِلْبُرآء العَنَتَ
(3)
"
(4)
.
وقال: "شَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عندَ اللهِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ"
(5)
. وقال: "إنَّ مِن شَرِّ النَّاسِ [يَوْمَ القِيَامَةِ]
(6)
منزِلَةً عندَ اللهِ ذا الوَجْهَيْنِ، الّذي يأتي هؤلاء بوجهٍ، وهؤلاءِ بوجهٍ"
(7)
. وقال: "إنَّ مِن شَرِّ النَّاسِ عندَ اللهِ منزِلَةً مَنْ يَقْرأُ كتابَ الله ولا
(8)
يَرْعَوِي إلى ما فيه"
(9)
. وقال: "من شَرِّ النَّاس منزِلةً يومَ القيامةِ من أذهبَ آخرته بدنيا غيره"
(10)
.
أعمالُ الأُمَّةِ تُعْرَضُ على نبيِّها في البَرْزَخِ
(11)
، فَلْيَسْتَحِ عَبْدٌ أَنْ يُعْرَضَ على نبيِّهِ مِنْ عَمَلِهِ ما نَهَاهُ عنه.
(1)
رواه الترمذي رقم (2263) في الفتن، باب: رقم (76)، وأحمد في "المسند" 2/ 368 و 378 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه أيضًا أبو يعلى الموصلي من حديث أنس رضي الله عنه وهو حديث صحيح.
(2)
الباغون: الطالبون. وبُرآء: جمع بريء، والعَنَت: المشقة والفساد.
(3)
في آ، ش، ع، ط:"العيب". والمثبت من (ب).
(4)
رواه أحمد في "المسند" 4/ 227 من حديث عبد الرحمن بن غنم و 6/ 459 من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية. ورواه الطبراني في "الكبير" من حديث عبادة بن الصامت، وهو حديث ضعيف.
(5)
رواه البخاري رقم (6054) في الأدب، باب: ما يجوز من اغتياب أهل الفسادِ والرَّيب، و (6131) باب المداراة مع الناس؛ ومسلم رقم (2591) في البر والصلة، باب: مداراة من يُتَّقى فحشه؛ وأبو داود في الأدب، باب: في حسن العشرة؛ والترمذي رقم (1996) في البر والصلة، باب: ما جاء في المداراة؛ وأحمد في "المسند" 6/ 38 من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(6)
قوله: "يوم القيامة" لم يرد في آ، ش، ع.
(7)
رواه البخاري رقم (6058) في الأدب، باب: ما قيل في ذي الوجهين، و (7179) في الأحكام، باب: ما يكره من ثناء السلطان، وإذا خرج قال غير ذلك؛ ومسلم رقم (2526)(98) و (99)؛ وأبو داود رقم (4782) في الأدب، باب: في ذي الوجهين؛ وأحمد في "المسند" 5/ 242 و 307 و 336 و 455؛ والترمذي مختصرًا رقم (2025) في البر والصلة، باب: ما جاء في ذي الوجهين، كلهم من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(8)
في ب، ش، ع، ط:"ثم لا". ولا يرعوي: أي لا ينكفُّ ولا يَنزجرُ.
(9)
رواه أحمد في "المسند" 3/ 42 و 58، والنسائي 6/ 12 في الجهاد، باب: فضل من عمل في سَبيل الله على قدمه. وهو حديث ضعيف.
(10)
رواه ابن ماجه رقم (3966) في الفتن، باب: إذا التقى المسلمان بسيفيهما.
(11)
البَرْزَخُ: ما بين الدنيا والآخرة قبل الحشر من وقت الموت إلى البعث، فمن مات فقد دخل البَرْزَخَ، والبرزَخُ لغة: الحاجز بين الشيئين. (اللسان).
لمَّا وَقَفَ صلى الله عليه وسلم عامَ حَجَّةِ الوَدَاعِ، قال:"إنِّي فَرَطُكُم"
(1)
على الحَوْض، وإنِّي مكاثِر بِكُم الأمَمَ، فلا تُسَوِّدُوا وَجْهِي"
(2)
. يشيرُ إلى أنَّه صلى الله عليه وسلم يَسْتحِي مِن سيئاتِ أُمَّتِه إذا عُرِضَتْ عليه. وقال: "لَيُؤْخَذَنَّ برجَالٍ مِن أُمَّتِي ذاتَ الشمالِ، فأقولُ: ياربّ! أصحابي، فيقالُ: إنَّك لا تَدْرِي ما أَحْدَثُوا بَعْدَك، فَأَقُولُ: سُحقًا سُحْقًا
(3)
لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي"
(4)
.
خيرُ هذهِ الأُمَّةِ أوَّلُها قَرْنًا، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"خيرُ القُرون قَرْنِي، ثم الذين يَلُونَهُم، ثم الذين يلُونهم"
(5)
. وقال: "بُعِثْتُ مِن خَيْرِ قُرونِ بَني آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى كُنْتُ مِن القَرْنِ الَّذي كُنْتُ منه"
(6)
.
كم قدْ جاءَ مدْحُ أصحابه في كتابه [تعالى]: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}
(7)
. {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
(8)
. وخصَّ الصِّدِّيقَ مِن بينهم بالصُّحْبَةِ بقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
(9)
.
لمَّا جَلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عَرُوسَ الإِسلامِ وأبرزَها للبصائر مِن خِدْرِها، أخرَجَ
(1)
أنا فَرَطُكُم على الحوض: أي أنا متقدِّمكم إليه. (اللسان).
(2)
رواه بهذا اللفظ ابن ماجه رقم (3057) في سياق حديث طويل في المناسك، باب: الخطيئة يوم النحر، وإسناده حسن، وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ:"أنا فرط لكم على الحوض، وإني مكاثر بكم الأمم"؛ انظر "مجمع الزوائد"(10/ 365).
(3)
سُحْقًا سُحْقًا: أي بُعْدا بُعْدًا. ومكان سحيق: بعيد. ونصب "سحقًا" على المصدر، التقدير: أسحقهم الله سُحْقًا، أي باعَدَهم من رحمته مباعدة (اللسان).
(4)
رواه البخاري رقم (6584) في الرقاق، باب: في الحوض، وقول الله تعالى:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، و (7050) في الفتن، باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، وأحمد في "المسند" 5/ 333 و 339 من حديث سهل بن سعد، رضي الله عنه.
(5)
رواه البخاري رقم (2651) في الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أُشهد؛ ومسلم رقم (2535) في فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، والترمذي رقم (2302) في الشهادات، باب: رقم (4)؛ والنسائي 7/ 17 - 18 في الأَيمان والنذور، باب: الوفاء بالنذر، من حديث عِمْران بن حصين، رضي الله عنه.
(6)
رواه البخاري رقم (3557) في المناقب، باب: صفة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
(7)
سورة الفتح، الآية 29.
(8)
سورة الفتح، الآية 18.
(9)
سورة التوبة، الآية 40.
أبو بكرٍ رضي الله عنه مالَهُ كلَّه نِثارًا لِهذا العَرُوسِ
(1)
، فأخْرَجَ عُمَرُ النصفَ موافقةً له، فقامَ عثمانُ بوليمةِ العُرْسِ
(2)
، فجهز جَيْشَ العُسْرَةِ
(3)
، فعلِمَ عليُّ رضي الله عنه أن الدُّنيا ضَرَّةُ هذه
(4)
العَرُوسِ، وأنَّهما لا يجتمعان، فَبَتَّ طَلاقَها ثلاثًا. فالحمدُ للهِ الذي خَصَّنا بهذِه الرَّحمَةِ، وأَسْبَغَ علينا هذهِ
(5)
النِّعْمَةَ، وأعطانا ببركَةِ نبيِّنا هذه الفضائلَ الجمَّةَ، فقال لنا:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
(6)
.
مِن أينَ في الأُمَمِ مثلُ أبي بكرٍ الصِّدِّيق، أو عُمَرَ الذي ما سَلَكَ طريقًا إلَّا هَرَبَ الشَّيطانُ مِن ذلك الطريق، أو عثمانَ الصابر على مُرِّ الضيق
(7)
، أو عليٍّ بحرِ العلمِ العمِيق، أو حمزةَ والعبَّاس؟ أفيهم
(8)
مثلُ طلحةَ والزُّبَيْر القَرِينين
(9)
، أو مثلُ سعدٍ وسعيدٍ
(10)
، هيهاتَ!! من أينَ
(11)
؟ أو مثلُ ابن عَوْفٍ وأبي عُبيدَة، ومَن مثلُ الاثنين، إِن شَبَّهْتُم
(12)
بهم فقد أبعدتُم القِياسَ.
من أين في زُهَّادِ الأُممِ مثلُ أُوَيْسٍ
(13)
، أو في عُبَّادهم مثلُ عامر
(14)
بن عبد قيس، أو في خائفِهم مثلُ عُمَرَ بن عَبْدِ العزيز؟! هيهات!! ليسَ ضوءُ الشَّمسِ كالمِقياس. أفي علمائهم مثلُ أبي حَنِيْفَةَ ومالك، والشَّافعي السديد
(15)
المسالك، كيف تمدَحُه وهو أجلُّ مِن ذلك؟ ما أحسَن بنيانَهُ والأساسَ!! أفيهم
(16)
أعلى من
(1)
في آ، ش:"العرس".
(2)
العُرْسُ: طعام الوليمة، وهو الذي يعمل عند العُرْسِ، يُسَمَّى عُرْسًا باسم سببه. والعروس: يستوي فيه المذكر والمؤنث.
(3)
جيش العُسْرة: هو جيش غزوة تبوك، سمي بها لأنه نَدَبَ الناس إلى الغزو في شدَّةِ القيظ، وكان وقت إيناع الثمرة وطيب الظلال، فعسُر ذلك عليهم وشقَّ. (اللسان).
(4)
في آ: "هذا".
(5)
في آ: "وأسبغ علينا من هذه النعمة".
(6)
سورة آل عمران، الآية 110.
(7)
أراد محنته وقت أن قام نفر من النَّاس بمطالبته باعتزال الخلافة، وما نتج عن ذلك مفصل في كتب التاريخ والسير.
(8)
في آ، ش:"أيهم".
(9)
في ط: "القرنين" وهو تحريف، والقرين: صاحبك الذي يقارنك.
(10)
أراد سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وهما من العشرة المبشرين بالجنة، رضي الله عنهم.
(11)
قوله: "من أين" لم يرد في (ب، ط).
(12)
في آ: "شبهتهم".
(13)
هو أُوَيْسُ بن عامر بن جزء بن مالك القَرَني المُرادي اليمانيّ، أبو عمرو، سيد التابعين في زمانه، وأحد النساك العبَّاد المقدمين، أدرك حياة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يره، فوفد على عمر بن الخطَّاب، ثم سكن الكوفة، وشهد وقعة صفين مع علي بن أبي طالب. ويرجح الكثيرون أنه قتل فيها. (طبقات ابن سعد 1/ 166، سير أعلام النبلاء 4/ 19 - 33، وتهذيب ابن عسكر 3/ 157 ومختصره 5/ 79).
(14)
لفظة: "عامر" سقطت من (آ).
(15)
في آ، ب، ش:"الشديد"، وأثبت ما جاء في ع، ط.
(16)
في ب، ط:"أثمَّ"، وفي ش:"أيهم".
الحسَنِ البَصْرِي وأَنبَلُ، أو ابن سِيرِينَ الذي بالورعِ تقبَّل، أو سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ الذي بالخوفِ والعلم تَسَرْبَل
(1)
، أو مثل أحمدَ الذي بذلَ نفسَهُ لله وسَبَّل، تالله ما في الأمم مثلُ ابن حَنْبَل؛ ارْفَعْ صَوْتَكَ بهذا ولا بأسَ:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}
(2)
.
لَاحَ شَيْبُ الرَّأسِ مِنِّي فَنَصَحْ
(3)
…
بَعْدَ لَهْوٍ وَشَبَابٍ وَمَرَحْ
إخْوَتِي تُوبُوا إلى اللهِ بِنَا
…
قَدْ لَهَوْنا وجَهِلْنَا مَا صَلَحْ
نَحْنُ في دارٍ نَرَى المَوْتَ بها
…
لَمْ يَدَعْ فيها لِذِي اللُّبِّ فَرَحْ
يَا بَنِي آدَمَ صُونُوا دِينَكُمْ
…
يَنْبَغِي للدِّين ألَّا يُطَّرَحْ
واحْمَدُوا الله الَّذي أَكْرَمَكُمْ
…
بنبيٍّ قامَ فيكُم فَنَصَحْ
بِنَبيٍّ فَتَحَ الله بِهِ
…
كُلَّ خَيْرٍ نِلْتُمُوهُ وَمَنَحْ
مُرْسَلٍ لو يُوزَنُ النَّاسُ بِهِ
…
في التُّقَى والبرِّ خَفُّوا وَرَجَحْ
فَرسُولُ اللهِ أَوْلَى بالعُلَى
…
وَرَسُولُ اللهِ أَوْلَى بالمِدَحْ
* * *
المَجلسُ الثّاني في ذكر المَولد أيضًا
خرَّج مسلم من حديثِ أبي قَتَادَةَ الأنصارِيِّ رضي الله عنه أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَن صِيامِ يومِ الاثنينِ، فقال:"ذلك يَوْمٌ وُلِدْتُ فيهِ، وأُنْزِلَتْ عليَّ فيه النُّبوَّةُ"
(4)
.
أمَّا وِلادَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ الاثنينِ فكالمُجْمَعِ عليهِ بينَ العُلَمَاءِ، وقد قالَهُ ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه. وقد حُكِيَ عن بعضِهم أنَّه وُلِدَ يومَ الجمعةِ، وهو قولٌ ساقِطٌ مَرْدُودٌ.
(1)
السِّربال: القميص والدرع، وقد تسَرْبل به: لبسه، وكنى به عن العلم والخوف.
(2)
سورة آل عمران، الآية 110.
(3)
في ع: "ونصح"، وفي ط:"ففضح".
(4)
هو جزء من حديث طويل رواه مسلم رقم (1162)(197)؛ وأحمد في "المسند"(5/ 297 و 299) من حديث أبي قتادة الأنصاري.
ورُوِي عن أبي جعفرٍ البَاقِر
(1)
أنَّه توقَّفَ نفي ذلك، وقال: لا يَعْلَمُ ذلكَ إلَّا الله. وإنَّما قال هذا لأنَّه لم يبلُغْهُ في ذلك ما يُعتمَدُ عليه، فوقَفَ في ذلك
(2)
تورُّعًا.
وأمَّا الجمهورُ فبلَغَهم في ذلك ما قالوا بحسَبه. وقد روي عن أبي جعفرٍ أيضًا موافقَتهُمْ، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ يَوْمَ الاثنينِ، موافقةً لِما قالَهُ سائرُ العلماءِ. وحديثُ أبي قَتَادَةَ يَدُلُّ على أنَّه صلى الله عليه وسلم وُلِد نهارًا في يوم الاثنينِ. وقد روي أنَّهُ وُلِدَ عندَ طُلُوعِ الفَجْر منه. ورَوَى أبو جعفر بن أبي شَيْبَةَ في "تاريخِهِ"
(3)
، وخرَّجَهُ مِن طريقِهِ أبو نُعَيم في "الدلائلِ"
(4)
بإسنَادٍ فيه ضعفٌ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كان بِمَرِّ الظَّهرَانِ
(5)
رَاهِبٌ يسمى عيصًا
(6)
من أهل الشَّام، وكان يقول: يُوشِكُ أنْ يُولَدَ فيكم
(7)
- يا أهلَ مكَّةَ - مولودٌ تَدِينُ له العَرَبُ، ويملِكُ العَجَمَ؛ هذا زمانُهُ. فكان لا يُولَدُ بِمَكَّةَ مولودٌ إلَّا سألَ عنه.
فلمَّا كان صَبيحةَ اليومِ الَّذي وُلِدَ فيه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عبدُ اللهِ بن عبد المطلب حتَّى أَتَى عيصًا [فَوَقَفَ في أصْلِ صَوْمَعَتِه، ثُمَّ نادى: يا عَيْصَاه"]، فنادَاهُ:[مَنْ هَذا؟ فقال: أنا عَبْدُ اللهِ]، فأشرَفَ عليه، فقال له عيصٌ: كُنْ أباهُ، فقَدْ وُلِدَ ذلك المولودُ الذي كُنْتُ أحدِّثُكُم عنه يومَ الاثنين، ويُبْعَثُ يومَ الاثنين، ويموت يومَ الاثنين. قال: إنَّهُ وُلِدَ لِي مع الصُّبحِ مَوْلُودٌ، قال: فما سمَّيتَهُ؟ قال: محمَّدًا، قال: واللهِ، لَقَدْ كُنْتُ أشتهِي أن يكونَ هذا المولودُ فِيكم أَهْلَ البيتِ، لِثلاثِ خصالٍ بها نعرِفُهُ، فَقَدْ أَتَى
(8)
عليهن؛ منها: أنَّهُ طَلَعَ نجمُهُ البارِحَةَ، وأنَّهُ وُلِدَ اليومَ، وأنَّ اسْمَهُ محمَّدٌ.
(1)
هو محمد بن علي زين العابدين بن الحسين بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، خامس الأئمة الاثني عشر عند الإمامية، كان ناسكًا، عابدًا، له في العلم وتفسير القرآن آراء وأقوال، ولد بالمدينة سنة 57 هـ، وتوفي بالحميمة سنة 114 هـ، ودفن بالمدينة. (سير أعلام النبلاء 4/ 401 - 409).
(2)
قوله: "في ذلك" سقط من ب، ش، ط.
(3)
وهو مخطوط لم يطبع بعد فيما نعلم.
(4)
لم أجده في "دلائل النبوة" لأبي نعيم المطبوع، الذي هو مختصر لدلائله الكبير، وهو مخطوط لم يطبع بعد. أقول: وفي الخبر ضعف كما ذكر المؤلف، رحمه الله.
(5)
مَرُّ الظَّهْرَان: موضع على مرحلة من مكة. (ياقوت).
(6)
انظر أخباره في "البداية والنهاية" لابن كثير 2/ 272، وفي ب:"عِيصَى" بغير صرف.
(7)
في آ: "منكم".
(8)
أتى عليهن: "أنفدهن".
انطلِقْ إليه؛ فإنَّه الذي كُنْتُ أحدِّثُكُمْ عنه
(1)
. وقد رُوي ما يدُلُّ على أنَّه وُلِدَ ليلًا، وقد سَبَقَ في المجلِسِ الذي قبلَهُ مِنَ الآثارِ ما يُستَدَلُّ بِهِ لذلك.
وفي "صحيح الحاكم" عن عائشةَ، قالت: كان بمكَّةَ يهودِيٌّ يتَّجِرُ فيها، فلمَّا كانتِ الليلةُ التي وُلِدَ فيها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال: يا معشَرَ قريشٍ! هَلْ وُلِدَ فيكُم الليلَةَ مولودٌ؟ قالوا: لا نَعلَمُه، فقالَ: وُلِدَ الليلةَ نَبيُّ هذه الأمَّةِ الأخِيرةِ، بينَ كتفَيْهِ علامةٌ فيها شَعَراتٌ مُتَواتِراتٌ كأنَّهنَّ
(2)
عُرْفُ فَرَسٍ، فخَرَجُوا باليهودِيِّ حتَّى أدخَلُوه على أُمِّه، فقالوا: أخرجي إلينا ابنَكِ، فأخْرَجَتْهُ، وكشَفُوا عن ظهرِه، فرأى تلكَ الشَّامَةَ، فوقَعَ اليهودِيُّ مغشيًّا عليه، فلما أفاقَ قالوا: ويلَكَ! ما لك؟ قال: ذهبَتْ واللهِ النُّبوَّةُ مِن بني إسرائيل
(3)
. وهذا الحديثُ يدُلُّ على أنَّهُ وُلِدَ بخاتَمِ النُّبوَّةِ بين كتفَيهِ
(4)
. وخاتَمُ النُّبوَّةِ من علاماتِ نبوَّتِه التي كان يعرِفُه بها أهلُ الكِتابِ ويسألونَ عنها، ويطلُبُون الوُقوفَ عليها.
وقد رُوي أن هِرَقْلَ بَعَثَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بتَبُوكَ
(5)
مَنْ ينظُرُ له خَاتَمَ النبوَّةِ ثم يُخبرُه عنه
(6)
. وقد رُوِي مِن حديثِ أبي ذَرٍّ، وعُتْبَةَ بن عبدٍ
(7)
، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أن المَلَكَيْنِ اللذينِ شقَّا صَدْرَهُ وملآهُ حِكْمَةً هُما اللَّذان خَتَماهُ بخاتمِ النُّبوَّةِ
(8)
، وهذا يخالِفُ حديثَ عائشةَ هذا.
وقد روي أنَّ هذا الخاتَم رُفِعَ مِن بَعْدِ مَوْتهِ مِن بين كتفَيهِ، ولكنْ إسنادُ هذا الحديثِ
(9)
ضعيفٌ
(10)
. وقد رُوِيَ في صِفَةِ ولادتِهِ آياتٌ تُسْتَغْرَبُ؛ فمنها ما رُوِيَ عن
(1)
ذكره الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" 2/ 272 وعزاه لأبي نُعيم وقال: فيه غرابة، وما بين حاصرتين زيادة منه.
(2)
في آ: "كأنَّها".
(3)
رواه الحاكم في المستدرك 2/ 651 في التاريخ، باب إخبار اليهود بولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي فقال: قلت: لا.
(4)
وهذا الحديث ضعيف كما عرفت، ضعفه الذهبي كما في "المستدرك" 2/ 601.
(5)
لفظة: "بتبوك" لم ترد في آ، ش، ع.
(6)
انظر "فتح الباري" 1/ 33 في بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوله في حديث هرقل (حتى أتاه كتاب من صاحبه).
(7)
في آ: "عتبة بن عبيد" وهو خطأ.
(8)
حديث عتبة بن عبد السلمي، رواه الحاكم في "المستدرك" 2/ 616 وصححه ووافقه الذهبي. وحديث أبي ذر رواه البزار. انظر:"مجمع الزوائد" 8/ 255 و 256.
(9)
في ب، ط:"الخبر".
(10)
ذكره الحاكم في "تاريخ نيسابور" عن عائشة رضي الله عنها قالت: فالتمسته. (تعني الخاتم) حين توفي فوجدته قد رفع. انظر: "شرح المواهب اللدنية" 1/ 156 عند ذكر خاتم النبوة، وهو ضعيف.
آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أنَّها قالت: وَضَعْتُه فما وَقَعَ كما يقَعُ الصِّبْيَانُ، وَقَعَ واضِعًا يدَهُ على الأرضِ، رافِعًا رأسَهُ إلى السَّماءِ
(1)
. ورُوِيَ أيضًا أنَّه قَبَضَ قَبْضَةً مِنَ التُّرابِ بيدِهِ لمَّا وَقَعَ بالأرضِ
(2)
. فقالَ بعض القافَةِ
(3)
: إنْ صَدَقَ الفألُ
(4)
ليَغْلِبَنَّ أَهْلَ الأرْضِ.
وروي أنَّهُ وُضِعَ تحتَ جَفْنَةٍ
(5)
، فانْفَلَقَتْ عنه، ورجَدُوه ينظُرُ إلى السَّماءِ. واختلفتِ الروايَاتُ؛ هَلْ وُلِدَ مختونًا؟ [فرُوِي أنَّه وُلِدَ مختونًا]
(6)
مسرورًا، يعني مقطوعَ السُّرَّة، حتَّى قالَ الحاكم
(7)
: تواتَرَتِ الرواياتُ بذلك. ورُوي أن جدَّهُ خَتَنَهُ، وتوقَّفَ الإمامُ أحمدُ في ذلك.
قال المرْوَزِيُّ: سُئلَ أبو عبد الله
(8)
: هَلْ وُلِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مختونًا؟ قال: الله. أعلمُ، ثمَّ قال: لا أدري. قال أبو بكر عبدُ العزيز بنُ جعفرٍ مِن أصحابِنا: قد رُوِيَ أنَّه صلى الله عليه وسلم وُلِد مَخْتونًا مَسْرورًا. ولم يجترئ أبو عبد الله على تصحيحِ هذا الحديثِ.
وأمَّا شهرُ ولادتِهِ فقد اختُلِفَ فيه، فقيل: في شهر رمضانَ، رُوِي عن عبدِ اللهِ بن عمرو بإسنادٍ لا يَصِحُّ. وقيل: في رَجبٍ، ولا يَصِحُّ. وقيل: في رَبيع الأوَّلِ، وهو المشهورُ بين النَّاسِ، حتَّى نَقَلَ ابنُ الجوزيِّ وغيرُه عليه الاتِّفاقَ، ولكنَّهُ قولُ جُمهُورِ العلماءِ. ثم اخْتَلَفُوا في أيِّ يومٍ كانَ مِنَ الشهرِ، فمنهم مَنْ قال: هو غَيْرُ مُعيَّنٍ، وإنما وُلِدَ في يومِ الاثنينِ من رَبيع [الأول]
(9)
من غيرِ تعيينٍ لِعددِ ذلك اليومِ مِنَ الشهرِ.
والجمهور على أنَّه يومٌ مُعيَّنٌ منه، ثم اختَلفُوا، فقيل: لِليلَتَيْن خلتا منه. وقيل: لِثمانٍ خلَتْ منه. وقيل: لِعَشْرٍ. وقيل: لاثنتي عشرة. وقيل: لِسبعَ عَشرةَ. وقيل:
(1)
ذكر هذا الخبر ابن سعد في "الطبقات" 1/ 103 فقال: أخبرنا يحيى بن حمزة عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية: أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا ولد وقع على كفيه وركبتيه شاخصًا بصره إلى السماء، وهذا الخبر مرسل؛ لأن حسان بن عطية من أتباع التابعين، ولم يصرح بمن حدثه به. وذكره ابن إسحاق في "السيرة النبوية" بتهذيب ابن هشام من غير إسناد 1/ 165.
(2)
لم أجده فيما لدي من المصادر. (ع).
(3)
القافة: جمع قائف، وهو الذي يتتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه.
(4)
الفَأْلُ: ضدُّ الطِّيَرة، وهو فيما يستحبُّ، والطِّيرَة لا تكون إلَّا فيما يَسوء.
(5)
الجَفْنة: أعظمُ ما يكون من القصاع. (ولها معان أخر).
(6)
ما بين حاصرتين سقط من (آ).
(7)
في "المستدرك"(2/ 602) وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: ما أعلم صحة ذلك، فكيف يكون متواترًا. وقد صرح ابن القيم في "زاد المعاد" 1/ 81 بأنه ليس فيه حديث ثابت.
(8)
يعني الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله.
(9)
زيادة من حاشية النسخة (ب).
لثماني عشرَةَ. وقيل: لثمانٍ بقينَ منه. وقيل: إنَّ هذين القولين غيرُ صحيحين عَمَّن حُكِيا عَنْه بالكُلِّيَّةِ، والمشهورُ الذي عليه الجُمهورُ أنَّهُ وُلِدَ يومَ الاثنين ثاني عشرَ رَبيع الأوَّل، وهو قولُ ابن إسحاقَ
(1)
وغيرِه.
وأمَّا عامُ ولادتِهِ صلى الله عليه وسلم فالأكثَرُونَ على أنَّه عامُ الفِيلِ؛ ومِمَّن قال ذلك قيسُ بنُ مَخْرَمَةَ، وَقُبَاثُ بن أَشْيَم، وابنُ عبَّاسٍ، ورُوي عنه أنَّه وُلِدَ يومَ الفيلِ، وقيل: إنَّ هذه الرواية وهمٌ، إنَّما الصحيحُ عنه أنَّه قال: عام الفيل
(2)
. ومِنَ العلماءِ مَن حَكَى الاتفاقَ على ذلك وقال: كلُّ قولٍ يخالِفُه وَهْمٌ. والمشهورُ أنَّه صلى الله عليه وسلم وُلِدَ بعدَ الفيل بخمسينَ يومًا.
وقيل: بعدَه بخمسٍ وخمسينَ يومًا. وقيل: بشهر. وقيل: بأربعينَ يومًا. وقد قيل: إنَّهُ وُلِدَ بعدَ الفِيلِ بعشرِ سنينَ. وقيل: بثلاثٍ وعشرين سنة. وقيل: بأربعينَ سنة. وقيل: قبلَ الفيلِ بخمسَ عشرةَ سنةً. وهذه الأقوالُ وَهْمٌ عندَ جُمهورِ العُلماء ومنها ما لا يَصحُّ عَمَّنْ حُكِيَ عنه.
قال إبراهيمُ بن المُنْذِر الحِزَاميُّ
(3)
: الذي لا يَشُكُّ فيه أحدُ مِن علمائنا أنَّه صلى الله عليه وسلم وُلِدَ عامَ الفيلِ. وقال خليفةُ بنُ خَيَّاطٍ: هذا هو المُجمَعُ عليه
(4)
. وكانت قصَّةُ الفيلِ توطِئةً لنبوَّتهِ وتقدِمَةً لِظُهورِهِ وبِعْثَتِهِ صلى الله عليه وسلم. وقد قصَّ الله تعالى ذلك في كتابه فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ}
(5)
.
فقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} استفهامُ تقريرٍ لِمَنْ سَمِعَ
(1)
في "السيرة" بتهذيب ابن هشام 1/ 158. أقول: ولا يصح، وأصح الأقوال فيه أنه اليوم التاسع، وللعلَّامة محمود باشا الفلكي المصري رسالة في هذا، بتحقيق رياضي لا يتخلف. (ع).
(2)
وهو ما جزم به ابن إسحاق، انظر:"السيرة النبوية" 1/ 158، وقد ذكر هذه الرواية أبو نعيم في "دلائل النبوة" 1/ 179 عن قيس بن مخرمة، عن أبيه، عن جده؛ وذكرها ابن سعد في "الطبقات" 1/ 101 بإسناد آخر موقوف على قيس بن مخرمة.
(3)
في آ: "الخزامي"، وهو تصحيف. والحِزامي بكسر الحاء نسبة إلى جده الأعلى حزام بن خويلد، صدوق. مات سنة 236 هـ (التقريب).
(4)
عند خليفة في "تاريخه" ص (53) بتحقيق الدكتور أكرم ضياء العمري: "والمجتمع عليه عام الفيل".
(5)
سورة الفيل، الآيات (1 - 5).
هذا الخطابَ، وهذا يَدُلُّ على اشتهارِ ذلك بينَهم ومعرفتِهِم به، وأنَّه مِمَّا لا يَخْفى علمُه على
(1)
العرب، خصوصًا قريش
(2)
وأهل مكَّةَ. وهذا أمرٌ اشتهر بينَهُم وتعارَفُوه، وقالوا فيه الأشعارَ السَّائرة.
وقد قالت عائشةُ رضي الله عنها: رأيْتُ قائدَ الفِيلِ وسائسَهُ بمكَّةَ أعْمَيَيْنِ يستطعِمانِ. وفي هذه القصَّةِ ما
(3)
يدُلُّ على تعظيمِ مكَّةَ، واحترامِها واحترامِ بيتِ اللهِ الذي فيها. وولادَةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عقيبَ
(4)
ذلك تدُلُّ على نبوَّتِه ورسالته؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم بُعِثَ بتعظيمِ هذا البيتِ وحجِّه والصَّلاةِ إليه، وكانَ هذا البَلدُ هو موطِنه ومولده، فاضطرَّه قومُهُ عندَ دعوتِهِم إلى الله تعالى إلى الخُروجِ منه كُرهًا بما نَالوه منه
(5)
مِنَ الأذَى، ثم إنَّ الله تعالى ظَفَّرَهُ بهم، وأدخَلَهُ عليهم قهرًا، فملَكَ البلَدَ عَنْوةً، وملَك رِقابَ أهلِهِ، ثمَّ مَنَّ عليهم وأطلقَهم وعَفا عنهم، فكانَ في تسليطِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم على هذا البلدِ وتمليكِهِ إيَّاه ولأمَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ ما دَلَّ على صِحَّةِ نبوَّتِهِ، فإنَّ الله حَبَسَ عنه مَن يُريدُه بالأَذَى وأهلَكَهُ، ثم سَلَّطَ عليه رَسُولَهُ وأمَّتَهُ كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله حَبَسَ عن مَكَّةَ الفِيلَ وسَلَّطَ عليها رَسُولَهُ والمؤمنين"
(6)
.
فإنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم وأُمَّتَه إنَّما [كان]
(7)
قصدُهم تعظيمَ البيتِ وتكريمَهُ واحترامَهُ، ولهذا أنكَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ الفَتْحِ على مَنْ قال
(8)
: اليومَ تُستحلُّ الكَعْبَةُ، وقال: "اليوم تُعظَّمُ الكَعْبةُ
(9)
"
(10)
. وقد كان أهلُ الجاهلية غيَّروا دِين إبراهيمَ وإسماعيل بما ابتَدَعوه
(1)
في ب، ع، ط:"عن".
(2)
في ط: "قريشًا".
(3)
في آ: "مما".
(4)
في ب، ع، ط:"عقب".
(5)
في ب، ش، ط:"به".
(6)
قطعة من حديث طويل رواه البخاري رقم (112) في العلم، باب: كتابة العلم، و (2434) في اللقطة: باب: كيف تُعَرَّف لقطةُ أهل مكة؟، و (6880) في الديات، باب: من قتل له قتيلٌ فهو بخير النَّظَرَين، ومسلم رقم (1355) في الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها إلا لمنشد على الدوام؛ وأبو داود رقم (2017) في المناسك، باب: تحريم حرم مكة، من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(7)
زيادة من (ط).
(8)
القائل سعد بن عبادة، رضي الله عنه. ولتمام الفائدة انظر:"فتح الباري" للحافظ ابن حجر 8/ 8 - 9.
(9)
الذي في "صحيح البخاري": "هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة". قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 8/ 9: قوله صلى الله عليه وسلم: " [هذا] يوم يعظم الله فيه الكعبة"، يشير إلى ما وقع من إظهار الإسلام وأذان بلال على ظهرها وغير ذلك مما أزيل عنها مما كان فيها من الأصنام، ومحو ما فيها من الصور، وغير ذلك.
(10)
رواه البخاري رقم (4280) في المغازي، باب: أين ركز النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الرَّاية يوم الفتح؟.
مِنَ الشِّرْكِ وتغييرِ بعضِ مناسِكِ الحجِّ، فسَلَّطَ الله رَسُولَهُ وأُمَّتَه على مَكَّةَ فطهَّرُوها مِن ذلك كلِّه، وردُّوا الأمرَ إلى دِينِ إبراهيمَ الحنيفِ، وهو الذي دَعَا لهم مع ابنه إسماعيلَ عند بناءِ البيت أن يبعثَ الله
(1)
فيهم رَسُولًا منهم يتلُو عليهم آياتِهِ ويُزكِّيهم ويعلِّمُهم الكِتَابَ والحِكْمَةَ
(2)
، فبعَثَ الله فيهم محمَّدًا صلى الله عليه وسلم مِن ولَدِ إسماعيلَ بهذه الصِّفَةِ، فطهَّرَ البيتَ وما حَوْلَه مِنَ الشِّرْكِ، وَرَدَّ الأمْرَ إلى دِين إبراهيمَ الحنيفِ، والتوحيدِ الذي لأجلِهِ بُنِيَ البيتُ، كما قال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
(3)
.
وأمَّا تسليطُ القَرامِطَةِ
(4)
على البيتِ بعد ذلك، فإنَّما كانَ عُقُوبَةً بسبب ذُنُوبِ النَّاسِ، ولم يصِلُوا إلى هَدْمِهِ ونَقْضِهِ وَمَنْعِ النَّاس مِن حَجِّهِ وزيارتِهِ، كما كَان يَفعَلُ أصحابُ الفيلِ لو قَدَرُوا على هَدْمِهِ وصَرْفِ النَّاسِ عن حَجِّهِ. والقرامِطَةُ أخَذُوا الحَجَرَ والبَابَ، وقَتَلوا الحاجَّ وسَلَبُوهم أموالَهم، ولم يتمكَّنُوا مِن منعِ النَّاسِ من حجِّهِ بالكُلِّيَّةِ، ولا قَدَرُوا على هَدْمِهِ بالكُلِّيَّةِ، كما كانَ أصحابُ الفِيلِ يقصِدُونَهُ. ثم أَذَلَّهم الله بعدَ ذلكَ وخَذَلَهم وهَتَكَ أستَارَهُم، وكَشَفَ أسرَارَهُم.
والبيتُ المُعظَّمُ باقٍ على حالِهِ مِنَ التَّعظيمِ، والزِّيارةِ، والحَجِّ، والاعتِمارِ، والصَّلاة إليه، لم يَبْطُلْ شيءٌ مِن ذلك عنه بحمد الله ومَنِّهِ. وغايةُ أَمرِهِم أنَّهم أخافُوا حاجَّ
(5)
العِراقِ حتَّى انقطَعُوا بعضَ السِّنين، ثم عادُوا. ولم يَزلِ الله يمتحِنُ عبادَهُ
(1)
لفظ الجلالة لم يرد في (ع، ط).
(2)
(3)
سورة الحج، الآية 26.
(4)
القرامِطة: نسبة إلى حمدان قِرْمط، وهو أول دعاتها. ظهر منهم أبو سعيد الجنابي، ثم ابنه أبو طاهر سليمان بن حسن القِرْمطي الجنَّابي، وهو الذي استباح الحجيج كلهم في الحرم سنة (317) هـ، واقتَلَعَ الحجر الأسود، وردَم زَمْزَمَ بالقتلى، وصعد على عتبة الكعبة، يصيح:
أنا بالله وبالله أنا
…
يخلق الخلق وأفنيهم أنا
وعرَّى البيت الحرام، وأخذ بابه، ونهب أموال الحجاج، وقتل كثيرين منهم، وأرسل الحجر الأسود إلى هجر، وبقي عندهم نيفًا وعشرين سنة. انظر:"المنتظم" لابن الجوزي 6/ 336، و"الكامل" لابن الأثير 8/ 143، و "سير أعلام النبلاء" 15/ 320.
(5)
في ب، ط:"حَجَّ".
المؤمنينَ بما يشاءُ مِن المِحَن، ولكن دِينه قائمٌ محفوظٌ لا يَزالُ تقومُ بهِ أُمَّةٌ مِن أُمَّةِ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لا يضرُّهُم مَنْ خذَلهم حتَّى يَأتيَ أَمْرُ اللهِ وهُمْ على ذلك، كما قال تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
(1)
.
وقد أخبرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن هذا البيتَ يُحَجُّ ويُعْتَمَرُ بَعْدَ خُرُوجِ يأجوجَ ومأجُوجَ
(2)
، ولَا يزالُ كذلك حتَّى تُخرِّبَهُ الحَبَشَةُ
(3)
، ويُلْقُونَ حِجَارَتَهُ في البحرِ، وذلك بعدَ أنْ يَبْعَثَ الله ريحًا طيِّبةً تَقْبِضُ أرواحَ المؤمنينَ كلِّهم، فلا يَبْقى في
(4)
الأرضِ مؤمنٌ
(5)
. ويُسْرَى بالقرآنِ مِن الصُّدُورِ والمصاحِفِ، فلا يَبْقَى في الأرضِ قرآنٌ، ولا إيمانٌ، ولا شيء مِن الخير
(6)
. فبعدَ ذلك تقومُ السَّاعةُ، ولا تقومُ إلَّا علَى شِرارِ النَّاسِ
(7)
. وقولُه صلى الله عليه وسلم: "ويوم أنزلت عليَّ فيه النُّبوَّة"، يعني أنَّه صلى الله عليه وسلم نُبِّئَ يومَ الاثنين.
وفي "المسند" عن ابن عبَّاسٍ، قال: وُلِدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ الاثنينِ، واسْتُنْبِئَ يومَ الاثنينِ، وخَرَجَ مُهَاجِرًا مِن مَكةَ إلى المدينة يومَ الاثنين، وَدَخَلَ المدينةَ يومَ الاثنين، وتُوفِّي يومَ الاثنين، وَرَفَعَ الحَجَرَ الأسودَ يومَ الاثنين
(8)
. وذكر ابنُ إسحاقَ
(9)
أنَّ النُّبوَّة نَزَلَتْ يومَ الجمعةِ، وحديثُ أبي قَتَادَةَ
(10)
يَرُدُّ هذا. واختلفوا في أيِّ شهرٍ كان ابتداءُ النُّبوَّةِ؟ فقيل: في رمضان. وقيل: في رجَبٍ، ولا يصِحُّ. وقيل: في ربيع الأوَّل. وقيل: إنه نُبِّئَ يومَ الاثنين لثمانٍ مِن ربيع الأوَّل.
(1)
سورة التوبة، الآيتان 32، 33.
(2)
رواه البخاري رقم (1593) في الحج، باب:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]، وأحمد في المسند 3/ 37 و 64 من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري رقم (1591)، ومسلم رقم (2909) في الفتن وأشراط الساعة من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(4)
في ب، ط:"على".
(5)
رواه مسلم رقم (2907) في الفتن وأشراط الساعة، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6)
رواه ابن ماجه رقم (4049)، والحاكم في "المستدرك" 4/ 473 و 545 من حديث حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
(7)
رواه أحمد في "المسند" 1/ 435؛ ومسلم في صحيحه رقم (2949) في الفتن وأشراط الساعة، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(8)
رواه أحمد في "المسند" 1/ 277 مع تقديم وتأخير في لفظ.
(9)
انظر: "السيرة النبوية" بتهذيب ابن هشام 1/ 239 - 240.
(10)
تقدم تخريجه في ص 181. انظر "صحيح مسلم" رقم (1162) (197) من حديث أبي قتادة الأنصاري، رضي الله عنه.
وأمَّا الإِسْرَاءُ، فقيل: كان في رجَبَ، وضَعَّفَهُ غيرُ واحدٍ. وقيل: كانَ في ربيعٍ الأوَّل، وهو قولُ إبراهيمَ الحَربيّ
(1)
وغيرِه.
وأمَّا دخولُه المدينة ووفاتُه صلى الله عليه وسلم فكانا في رَبيع الأوَّل بغيرِ خِلافٍ، مع الاختلاف
(2)
في تعيينِ ذلك اليومِ مِن أيَّامِ الشهرِ.
وفي قولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لمَّا سُئِلَ عن صيام يوم الاثنين: "ذاكَ يومٌ وُلِدْتُ فيه، وأُنْزِلَتْ عليَّ فيه النُّبوَّةُ"، إشارة إلى استِحبابِ صَيامِ الأيَّامِ التي تتجدَّدُ فيها نِعمُ اللهِ على عبادِهِ. فإنَّ أعظمَ نِعَمِ اللهِ على هذه الأمَّةِ إظهارُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم لهم وبِعثتُهُ وإرسالُهُ إليهم، كما قالَ تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}
(3)
.
فإنَّ النِّعْمَةَ على الأُمَّةِ بإرساله أعظَمُ مِنَ النِّعْمَةِ عليهم بإيجادِ السَّماءِ، والأرضِ، والشَّمسِ، والقَمَرِ، والرِّياحِ، والليلِ، والنَّهارِ، وإنزالِ المطرِ، وإخراجِ النباتِ، وغيرِ ذلكَ؛ فإنَّ هذه النِّعمة كلَّها قد عَمَّتْ خَلْقًا مِن بني آدَمَ كَفَرُوا باللهِ وبرُسُلِهِ وبلقائِهِ، فبدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كفرًا.
وأمَّا النِّعْمَةُ بإرسالِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ بها تمَّتْ مصالِحُ الدُّنيا والآخرة، وكَمُلَ بسببها دِينُ اللهِ الذي رَضِيَهُ لِعبادِهِ، وكان قبولُه سَبَبَ سعادتِهم في دُنياهُم وآخرتهِم، فصيامُ يومٍ تجدَّدَتْ فيه هذه النِّعَمُ مِنَ اللهِ على عبادِهِ المؤمنينَ حَسَنٌ جَمِيلٌ، وهو من بَاب مقابلةِ النِّعمِ في أوقاتِ تجدُّدِها بالشكرِ. ونظيرُ هذا صيامُ يومِ عاشوراءَ حَيثُ أنجَى الله فيه نوحًا مِنَ الغَرَقِ، ونَجَّى فيه موسى وقَوْمَهُ مِن فرعونَ وجنودِهِ، وأغرقَهُمْ في اليمِّ
(4)
، فصامَهُ نوحٌ وموسى شكرًا لله، فصامَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم متابَعَةً لأنبياءِ الله،
(1)
هو إبراهيم بن إسحاق بن بشير، أبو إسحاق الحربي، أصله من مرو، واشتهر وتوفي ببغداد، كان حافظًا للحديث عارفًا بالفقه بصيرًا بالأحكام، قيمًا بالأدب، زاهدًا، تفقه على الإمام أحمد بن حنبل، وصنف كتبًا كثيرة، توفي سنة 285 هـ. (تاريخ بغداد 2/ 147، صفة الصفوة 2/ 404).
(2)
في ب، ط:"اختلاف".
(3)
سورة آل عمران، الآية 164.
(4)
اليمُّ: البحر.
وقال لليهود: "نحنُ أَحَقُّ بموسَى منكُم"، فَصَامَه
(1)
وأَمَرَ بصِيامِهِ
(2)
.
وقد رُوِي أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يتحرَّى صيامَ يومِ الاثنين ويومِ الخميس، رُوِي ذلك عنه مِن حديثِ عائشةَ، وأبي هُرَيْرَة، وأسامةَ بن زيد
(3)
. وفي حديث أُسامَةَ أَنَّه سأَلَهُ عن ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:"إنهما يومان تُعْرَضُ فيهما الأعمالُ على رَبِّ العالمين، فأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وأنا صائم"
(4)
. وفي حديثِ أبي هريرة، أنَّه سُئِلَ عن ذلك، فقال: "إنَّه يُغْفَرُ فيهما لِكُلِّ مسلمٍ، إلَّا مُهْتَجِرَيْنِ
(5)
، يقولُ: دَعْهُما حتَّى يَصْطَلِحا"
(6)
. وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرةَ مرفوعًا: "تُفتح أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنين والخميسِ، فيُغْفَرُ لِكُلِّ عبدٍ لا يُشْرِكُ باللهِ شيئًا، إلَّا رجلٌ كانَتْ بينَهُ وبينَ أخيهِ شحناءُ، فيقالُ: أَنظِرُوا
(7)
هذين حتَّى يَصْطَلِحا"
(8)
.
ويُروَى مِن حديث أبي أمَامَةَ
(9)
مرفوعًا: "تُرْفعُ الأعمالُ يومَ الاثنين والخميسِ، فَيُغْفَرُ للمستغفِرينَ، ويُتْرَكُ أهلُ الحِقْدِ
(10)
بحقدِهِم"
(11)
. وفي "المسند" عن أبي هريرة،
(1)
في ب، ع، ش، ط:"وصامه".
(2)
رواه البخاري رقم (2004) في الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء و (3397) في أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [طه: 9]، وقوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، و (3943) في مناقب الأنصار، باب رقم (52)، و (4737) في التفسير، باب رقم (2)، ومسلم رقم (1130) (127) و (128) في الصيام: باب صوم يوم عاشوراء، من حديث عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما.
(3)
رواه الترمذي رقم (745) في الصوم، باب: ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، والنسائي 4/ 202 و 203 في الصيام، باب: صوم النبيِّ صلى الله عليه وسلم، من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال الترمذي: وفي الباب عن حفصة، وأبي قتادة، وأبي هريرة، وأسامة بن زيد، رضي الله عنهم.
(4)
رواه أحمد في "المسند" 5/ 199 والنسائي 4/ 201 - 202 في الصيام، باب: صوم النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، ورواه أيضًا الترمذي رقم (747) في الصوم، باب: ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
في ابن ماجه، ومسند أحمد:"إلا متهاجرين".
(6)
رواه بهذا اللفظ ابن ماجه رقم (1740) في الصيام، باب: صيام يوم الاثنين والخميس. ورواه بنحوه أحمد في "المسند" 2/ 329 كلاهما من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه. وهو حديث صحيح بشواهده.
(7)
أنظِروا: أَمْهِلوا.
(8)
رواه مسلم رقم (2565) في البر والصلة، باب: النهي عن الشحناء والتهاجر؛ وأبو داود رقم (4916) في الأدب، باب: فيمن يهجر أخاه المسلم؛ والترمذي رقم (2023) في البر والصلة، باب: ما جاء في المتهاجرين؛ وأحمد في "المسند" 2/ 268 و 389 و 400 و 465 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9)
لعله: عن أبي ثعلبة الخُشَني، كما في "مجمع الزوائد" 8/ 65.
(10)
رواه الطبراني والبزار، وفي سنده علي بن يزيد الألهاني، وهو متروك. انظر:"مجمع الزوئد" 8/ 65.
(11)
في ب، ط:"ويترك أهل الحقد كما هم".
عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أعمالَ بنِي آدَمَ تُعْرَضُ على [الله تبارك وتعالى عشية، كلِّ خميسٍ ليلةَ الجُمعةِ، فلا يُقْبَلُ عَمَلُ قاطِعِ رَحِمٍ"
(1)
.
كان بعضُ التابعينَ يَبْكِي إلى امرأتِهِ يومَ الخميس وتبكِي إليه، ويقول: اليومَ تُعْرَضُ أعمَالُنا على اللهِ، عز وجل. يا من يُبَهْرِجُ بعملِهِ، على مَنْ تُبَهْرِجُ، والناقِدُ بَصيرٌ؟. يا مَنْ يُسوِّفُ بتطويلِ أَمَلِهِ، إلى كمْ تسوِّفُ والعُمُرُ قصير؟.
صُرُوفُ الحَتْفِ مُتْرَعَةُ الكُؤوسِ
(2)
…
تُدارُ
(3)
على الرَّعَايا والرُّؤوسِ
فلا تَتْبَعْ هَواكَ فكُلُّ شَخْصٍ
…
يَصِيرُ إلى بلىً وإلَى دُرُوسِ
(4)
وَخَفْ مِن هَوْلِ يَوْمٍ قَمْطَريرِ
(5)
…
مَخُوفٍ شَرُّهُ ضنْكٍ عَبُوسِ
فمالَكَ غَيْرُ تَقوَى اللهِ زادًا
(6)
…
وفِعْلُكَ حِينَ تُقْبرُ مِن أَنِيسِ
فَحَسِّنْهُ لِيُعْرَضَ مُستقيمًا
…
فَفِي الاثنينِ يُعرَضُ والخميسِ
* * *
المجلس الثالث في ذكر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
-
خرَّجا
(7)
في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ على المنْبرِ، فقال:"إنَّ عَبْدًا خيَّرَهُ اللهُ بينَ أنْ يؤتيَهُ مِنْ زَهْرَة الدُّنيا ما شاءَ، وبينَ ما عندَهُ، فاخْتَارَ ما عندَه". فبكَى أبو بكر [وبَكَى]
(8)
، وقال: يا رسول اللهِ،
(1)
رواه أحمد في "المسند" 2/ 484. والبخاري في "الأدب المفرد" رقم (61) و (411) وما بين حاصرتين زيادة منه، وهو حديث حسن.
(2)
الصروف: جمع صَرْفٍ، وهو حِدْثان الدهر ونوائبه.
والحتف: الموت. وكأس مترع: ممتليء.
(3)
في ب، ط:"تدور".
(4)
دَرَسَ الشيءُ والرَّسْمُ: عفا، ودرسته الريح. واستعاره هنا ليدل على موت الإنسان وفنائه.
(5)
يوم قمطرير: يوم شديد العبوس، واقمطرَّ يومنا: اشتدَّ. ومنه قوله تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 10].
(6)
في ب: "زاد".
(7)
لفظة: "خرجا" لم ترد في (ط).
(8)
لفظة: "وبكى" من "صحيح مسلم" و "جامع الأصول" 8/ 587. وقال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي في حاشية "صحيح مسلم": هكذا هو في جميع النسج: "فبكى أبو بكر وبكى" معناه بكى كثيرًا ثم بكى.
فديناكَ بآبائِنا وأمَّهاتنا، [قال: فعجِبْنا، وقال النَّاسُ: انظُروا إلى هذا الشيخِ! يُخبِرُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن عبدٍ خيَّرَهُ الله بينَ أنْ يؤتيَهُ بن زَهْرَةِ الدُّنيا ما شَاءَ، وبينَ ما عندَ اللهِ، وهو يقول: فديناكَ بآبائنا وأُمَّهَاتِنا]
(1)
.
قال: فكان رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هو المخيَّرُ، وكان أبو بكرٍ هو أعلمنا بهِ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ مِن أمنِّ النَّاسِ عليَّ في صُحبتِهِ ومالِهِ أبوبكرٍ، ولو كُنْتُ متَّخِذًا مِن أهلِ الأَرْض خليلًا لاتَّخذْتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكنْ أُخوَّةُ الإِسلام، لا تَبْقَى في المَسْجِدِ خوْخَةٌ إلَّا سُدَّتْ، إلَّا خَوْخَة أبي بكرٍ، رضي الله عنه"
(2)
.
اعلم أن
(3)
الموتَ مكتوبٌ على كل حيٍّ مِن الأنبياء والرُّسلِ وغيرِهم. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}
(4)
(5)
الآية. وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}
(6)
[الآيتين]
(7)
، [إلى قوله:{وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} ]
(8)
.
خَلَقَ الله تعالى آدَمَ مِن تُراب الأرْضِ، ونَفَخَ فيه مِن رُوحِهِ، فكانَتْ رُوحُهُ فِي جَسَدِه وأرواحُ ذريَّتِهِ في أجسادِهِمِ في هذهِ الدَّارِ عارِيَّةً
(9)
، وقضَى عليه وعَلَى ذريَّتِه أنَّه لا بُدَّ مِن
(10)
أن يَسْتَرِدَّ أرواحَهُم مِن هذه الأجْسَادِ، ويُعِيدَ أَجْسَادَهُم إلى ما خُلِقَتْ منه، وهو التُّرابُ، ووعَدَ أنْ يُعيدَ الأَجسادَ مِنَ الأرْضِ مَرَّةً ثانيةً، ثُمَّ يردَّ إليها الأرواحَ مرَّةً ثانيةً تمليكًا دائمًا لا رَجْعَةَ فيه في دارِ البَقَاءِ.
(1)
ما بين حاصرتين لم يرد في (أ).
(2)
رواه مسلم رقم (2382) في فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ والترمذي رقم (3660) في المناقب، باب رقم (15). ورواه بنحوه البخاري رقم (3654) في فضائل الصحابة، باب: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "سدُّوا" الأبواب إلا باب أبي بكر".
(3)
قوله: "اعلم أن" لم يرد في (ب، ش، ع، ط).
(4)
سورة الزمر، الآية 30.
(5)
سورة الأنبياء، الآيتان 34، 35.
(6)
سورة آل عمران. الآية 144.
(7)
زيادة من ب، ش، ع.
(8)
زيادة من نسخة (آ).
(9)
العاريَّة: العارَةُ، وهو ما تعطيه لغيرك على أن يعيده إليك. وأعاره الشيء إعارة وعارَةً: أعطاه إيَّاه عارِيَّةً.
(10)
لفظ: "من" لم يرد في (آ، ع).
قال الله تعالى: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}
(1)
. وقال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}
(2)
. وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا}
(3)
.
وأرانا دليلًا في هذه الدارِ على إعادةِ الأجسادِ مِنَ التراب بإنباتِ الزَّرْعِ مِنَ الأرضِ، وإحياءِ الأرض بعدَ مَوْتهَا بالمطرِ، ودَليلًا على إعادةِ الأرواحِ إلى أجسادِها
(4)
بعدَ المفارقةِ بقَبْضِ أرواحِ العِبادِ في مَنامِهِم، وَرَدِّهَا إليهم في يَقَظتِهم، كما قال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
(5)
.
وفي "مسند البزار"، عن أنس، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لهم لمَّا ناموا عَنِ الصَّلاةِ: " [أَيها النَّاس]
(6)
، إنَّ هَذِهِ الأَرْوَاحَ عَارِيَّةٌ في أجْسَادِ العِبادِ فيقبضُها إذا شاء ويُرْسِلُها إذا شاءَ"
(7)
.
استعِدِّي للموت
(8)
يا نفسُ واسْعَيْ
…
لِنَجَاةٍ فالحازِمُ المُسْتَعِدُّ
قَدْ تَيَقَّنْتُ أَنَّه لَيْسَ لِلْحَيِّ
…
خُلودٌ ولا مِنَ المَوْتِ بُدُّ
إنَّما أَنْتِ مُسْتَعِيرَةٌ ما سَوْ
…
فَ تَرُدِّينَ والعوارِي تُرَدّ
غيرُه:
فمَا أَهْلُ الحَياةِ لَنَا بأهْلٍ
…
ولا دَارُ الفَنَاءِ
(9)
لَنَا بِدارِ
وَمَا أَمْوَالُنا والأهْلُ فيها
…
ولا أولادُنا إلَّا عَوَارِي
وأنفُسُنا إلى أَجَلٍ قريبٍ
…
سيأخُذُها المُعِيرُ مِنَ المُعارِ
(1)
سورة الأعراف، الآية 25.
(2)
سورة طه، الآية 55.
(3)
سورة نوح، الآيتان 17، 18.
(4)
في آ: "إعادة الأرواح معًا إلى أجسادها".
(5)
سورة الزمر، الآية 42.
(6)
ما بين حاصرتين زيادة من "كشف الأستار عن زوائد البزّار" للحافظ الهيثمي (1/ 200).
(7)
هو في "كشف الأستار" رقم (396) في الصلاة، باب: فيمن نام عن صلاة أو نسِيها.
(8)
في آ: "يا نفس للموت".
(9)
في ب، ش، ع، ط:"الحياة".
مفارقَةُ الجَسَدِ للرُّوحِ لا تَقَعُ إلَّا بعدَ ألمٍ عظيم تذُوقُه الرُّوحُ والجَسَدُ جميعًا، فإنَّ الرُّوح قد تعلَّقَتْ بهذا الجَسَدِ وأَلِفَتْهُ، واشتدَّتْ أُلفتُها له وامتزاجُها به ودُخُولُها فيه
(1)
، حتَّى صارا كالشيءِ الواحِدِ، فلا يَتَفَارقانِ إلَّا بجُهدٍ شديدٍ وألمٍ عظيمٍ، ولم يذق
(2)
ابنُ آدَمَ في حياتِه ألمًا مثلَه، وإلى ذلك الإِشارَةُ بقولِ اللهِ عز وجل:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}
(3)
. قَالَ الرَّبِيْعُ بن خُثَيْم
(4)
: أكثِرُوا مِن
(5)
ذِكرِ هذا الموتِ؛ فإنَّكُم لم تَذُوقوا قبلَه مثلَه.
ويتزايدُ الألمُ بمعرفةِ المحتضرِ بأنَّ
(6)
جسَدَهُ إذا فَارقَتْه الرُّوحُ صارَ جِيفةً مستقذَرَةً يأكُلُه الهوامُّ
(7)
، ويبلِيه التُّرابُ حتَّى يعودَ
(8)
ترابًا، وأنَّ الرُّوحَ المفارِقةَ له لا تَدرِي أينَ مُسْتَقرُّها، هَلْ هو في الجنَّةِ أو النَّارِ؟ فإن كان عاصيًا مُصِرًّا على المعصيةِ إلى الموتِ، فربَّما غَلَبَ على ظَنِّه أن روحَهُ تَصِيرُ إلى النَّارِ، فتتضَاعَفُ بذلك حَسْرَتُه وألمُه، ورُبَّما كُشِفَ له مَعَ ذلك عَنْ مَقْعَدِهِ مِنَ النَّارِ فيرَاهُ
(9)
أو يُبَشَّرُ بذلك، فيجتمعُ له مَعَ كَرْب الموتِ وألمِه العظيمِ مَعْرفتُه بسوءِ مَصِيرِه، وهذا هُوَ المرادُ بقولِ اللهِ تعالى:{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}
(10)
على ما فسَّره
(11)
كثيرٌ مِن السَّلَفِ
(12)
، فيجتمعُ عليه سَكْرة الموتِ مَعَ حَسْرةِ الفَوْتِ، لا تسألْ عن سُوءِ حالِهِ.
وقد سمَّى اللهُ تعالى ذلك سَكْرَةً؛ لأنَّ ألَم المَوْتِ مَعَ ما يَنْضمُّ إليه يُسْكِرُ صاحبَهُ فيَغيبُ عقلُه غالبًا، قال الله تعالى:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ}
(13)
.
أَلا لِلْمَوْتِ كأسٌ أيُّ كَأْسِ
…
وأَنْتَ لِكأسِهِ لابُدَّ حاسِي
إلى كَمْ والمَماتُ إلى قَريبٍ
…
تُذَكَّرُ بالمَمَاتِ وأنتَ ناسِي
(1)
في آ: "واشتد ألفتها له وامتزاجها ودخولها فيه".
(2)
في آ: "لم يألم".
(3)
سورة آل عمران، الآية 185، والأنبياء 35، والعنكبوت 57.
(4)
في آ: "الربيع بن خيثم" وهو تحريف. وانظر "سير أعلام النبلاء" 4/ 258.
(5)
لفظ: "من" لم يرد في (ب، ش، ع، ط).
(6)
في آ، ش، ط:"فإن"، وأثبت ما جاء في (ب، ع).
(7)
الهَوَامُّ: مثل دابَّةٍ ودوابَّ، وقد تطلق الهوامُّ على ما لا يَقْتلُ كالحشرات.
(8)
في آ: "يَصيرَ".
(9)
في ب، ش، ط:"فرآه".
(10)
سورة القيامة، الآية 29.
(11)
في ب، ش، ط "ما فسر به".
(12)
انظر: "تفسير الطبري" 29/ 121 - 122 و "تفسير ابن كثير" 4/ 451.
(13)
سورة ق، الآية 19.
وقد أمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بكثرَةِ ذِكْرِ الموتِ، فقال: "أكثِرُوا ذِكْرَ هادِمِ اللَّذَّاتِ، [يعني] الموتَ
(1)
"
(2)
. وفي حديثٍ مرسَلٍ أنَّه صلى الله عليه وسلم مَرَّ بمجلِسٍ قد اسْتَعْلَاهُ الضَّحِكُ، فقال: "شُوبُوا
(3)
مَجْلِسَكُم بِذِكْرِ مُكَدِّر اللَّذَّات" الموت
(4)
. وفي الإِكثارِ مِنْ ذِكْرِ المَوْتِ فوائدُ؟ منها: أَنَّه يَحُثُّ علَى الاسَتِعدادِ لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ، ويُقَصِّرُ الأمَلَ، ويُرضِي بالقليلِ مِنَ الرِّزِقِ، ويُزهِّدُ في الدُّنيا، ويُرغِّبُ في الآخرة، ويُهَوِّنُ مَصَائبَ الدُّنيا، ويمنَعُ مِن الأَشَرِ والبَطَرِ والتَّوسُّعِ في لَذَّات الدُّنْيا. وفي حديث أبي ذرٍّ المرفوع الذي خرَّجه ابنُ حِبَّانَ في "صحيحه" وغيرُه: "أن صُحفَ مُوسَى عليه السلام كانَتْ عِبَرًا كلُّها
(5)
: عَجبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بالموتِ كيفَ يَفْرَحُ! عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بالنَّارِ كَيْفَ يَضْحَكُ! عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بالقَدَرِ كَيْفَ يَنْصَبُ
(6)
! عجِبْتُ لِمَنْ رَأَى الدُّنيا وسُرْعَةَ تقلُّبِها بأهلِها كيفَ يطمئِنُّ إليها! "
(7)
.
وقد رُوِي أنَّ الكَنْزَ الذي كانَ للغلامَيْنِ
(8)
كان لوحًا من ذَهَبٍ مكتوب فيه هذا أيضًا.
قال الحسن
(9)
: إنَّ هذا الموتَ قد أفسَدَ على أهلِ النَّعِيم نعيمَهُم، فالْتَمِسُوا
(1)
لفظة: "الموت" لم ترد في (آ)، ووردت في ب، ش، ع، ط، وهي ليست من الحديث بل من شرح الإمامين الترمذي وابن ماجه؛ ولفظة:"يعني" زيادة منهما.
(2)
رواه الترمذي رقم (2307) في الزهد، باب: ما جاء في ذكر الموت، وأحمد في "المسند" 2/ 293، وابن ماجه رقم (4258) في الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، وهو حديث صحيح.
(3)
شاب الشيء: خَلَطَه.
(4)
ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (4908) بلفظ "شوبوا مجالسكم" وعزاه إلى ابن أبي الدُّنيا في ذكر الموت عن عطاء الخراساني مرسلًا، وهو حديث ضعيف.
(5)
في آ: "عبرًا وأمثالًا"، وفي ب، ش، ع:"عبرًا فيها"، وأثبت ما جاء في ط وصحيح ابن حبان.
(6)
النَّصَب: الإعياء والتعب.
(7)
هو جزء من حديث طويل جدًّا، رواه ابن حبان في صحيحه 2/ 65 رقم (361) ورقم (94)، (موارد الظمآن) باب: السؤال للفائدة، وقال في آخره: وفي سنده إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني، قال أبو حاتم وغيره: كذاب. وانظر تخريجه في حاشية محقق صحيح ابن حبان 2/ 68 - 69.
(8)
أي في قوله تعالى [الكهف: 82]: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ
…
}. وفي تفسير الطبري (15/ 5 - 6) عن الحسن، قال عن الكنز: إنه لوح من ذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم! عجبت لمن يؤمن كيف يحزن؟ وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله.
(9)
يعني الحسن بن يسار البصري التابعي الكبير، رحمه الله تعالى.
عَيْشًا لا مَوْتَ فِيهِ. وقال: فَضَحَ المَوْتُ الدنيا فلَمْ يَدَعْ لِذِي لُبٍّ بها فرحًا. وقال غيرُه: ذَهَبَ ذِكْرُ المَوْتِ بِلَذَاذَةِ كُلِّ عَيْشٍ، وسُرورِ كُلِّ نعيمٍ، ثم بَكَى. وقال: واهًا لدارٍ لا مَوْتَ فيها.
اذْكُرِ المَوْتَ هاذِمَ اللَّذَّاتِ
…
وتهيَّأْ لِمَصْرَعٍ سَوْفَ ياتِي
غيره
(1)
:
يا غَافِلَ القَلْبِ عَنْ ذِكْرِ المَنيَّاتِ
…
عَمَّا قَلِيلٍ سَتُلْقَى بَينَ أَمْوَاتِ
فاذْكُرْ مَحَلَّكَ مِن قبلِ الحُلُولِ بِهِ
…
وَتُبْ إلى اللهِ مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ
إنَّ الحِمَامَ
(2)
لَهُ وَقْتٌ إلى أجَلٍ
…
فاذْكُرْ مَصَائِبَ أيَّامٍ وَسَاعاتِ
لا تَطمئِنَّ إلى الدُّنيا وَزينتِها
…
قَدْ آنَ لِلْمَوْتِ يا ذا اللُّبِّ أنْ ياتِي
قال بعضُ السَّلفِ: شيئانِ قَطَعا عَنِّي لذاذةَ الدنيا
(3)
؛ ذِكْرُ المَوْتِ، والوُقُوفُ بينَ يَدَي اللهِ عز وجل.
وكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَن كانَ مُوقنًا
…
بأنَّ المَنَايا بَغْتَةً سَتُعاجِلُهْ
وكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ كَانَ مُوقِنًا
…
بأنَّ إلهَ العَرْشِ
(4)
لابُدَّ سائِلُهْ
قال أبو الدَّرداء: كَفَى بالموتِ واعظًا، وكَفَى بالدَّهْرِ مُفرِّقًا، اليومَ في الدُّور، وغدًا في القُبُورِ.
اذْكُرِ المَوْتَ ولازِمْ
(5)
ذِكْرَهُ
…
إنَّ في الموتِ لِذِي اللُّبِّ عِبَرْ
وكَفَى بالموتِ فاعْلَمْ واعِظًا
…
لِمَنِ المَوْتُ عليه قَدْ قُدِرْ
غَفلةُ الإِنسانِ عن الموتِ مَعَ أنَّه لا بُدَّ له منه مِن العَجَب. والمُوجِبُ لها
(6)
طولُ الأَمَلَ
(7)
:
(1)
لفظ "غيره" زيادة من (ط).
(2)
الحِمامُ: الموت.
(3)
في آ: "اللَّذَّةَ".
(4)
في ب، ش، ط:"الخلق".
(5)
في ب، ط:"وداوم".
(6)
في ط: "له" وهو تحريف.
(7)
الأبيات للشاعر أبي العتاهية في ديوانه 97 من قصيدة أولها:
خانَكَ الطَّرْفُ الطَّموحُ
…
أيُّها القَلْبُ الجَمُوحُ
كُلُّنا في غَفْلَةٍ والمَوْتُ
…
يَغْدُو وَيرُوحُ
لِبَني الدُّنيا مِنَ المَوْتِ
…
غَبُوقٌ وصَبُوحُ
(1)
سَيَصِيرُ المرءُ يَوْمًا
…
جَسَدًا ما فِيهِ رُوحُ
بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ حَيٍّ
…
عَلَمُ المَوْتِ يَلُوحُ
نُحْ عَلَى نَفْسِكَ يا
…
مِسْكِينُ إنْ كُنْتَ تَنُوحُ
لَتَمُوتَنَّ وَلَو
…
عُمِّرْتَ ما عُمِّرَ نُوحُ
لمَّا كانَ الموتُ مَكْرُوهًا بالطَّبعِ، لِما فيه مِنَ الشِّدَّةِ والمشقَّةِ العظيمةِ، لم يَمُتْ نَبِيٌّ مِنَ الأنبياءِ حتَّى يُخيَّرَ، ولذلك وَقَعَ التردُّدُ فيه
(2)
في حَقِّ المؤمن، كما في حديثِ أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"يقول الله عز وجل: ومَا تَردَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُه، ترددِي في قَبْضِ نَفْسِ عَبدِي المؤمنِ، يكرَهُ المَوْتَ وأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ"
(3)
، ولابُدَّ لَهُ منه [كما رواه البخاري]
(4)
.
قال ابنُ أبي مُلَيْكَةَ: لمَّا قُبضَ إبراهيمُ عليه السلام قال الله عز وجل: كَيفَ وَجَدْتَ المَوْتَ؟ قال: يا رب، كأن نفسِي تُنْزَعُ بالسَّلى
(5)
، فقال: هذا وقَدْ هَوَّنَّا عليكَ المَوْتَ! وقال أبو إسحاق: قيلَ لموسى عليه السلام: كيفَ وجدْتَ طَعْمَ المَوْتِ؟ قال: وجَدْتُه كسُفُودٍ
(6)
أُدْخِلَ في صُوفٍ فاجتُذِبَ. قال: هذا وقد هوَّنَّا عليكَ المَوْتَ.
ويُروى أنَّ عيسى عليه السلام كان إذا ذكرَ الموت يقطُرُ جِلدُه دمًا، وكان يقولُ للحواريِّين: ادعُوا الله أنْ يخفِّفَ عَنِّي الموتَ، فلقَدْ خِفْتُ المَوْتَ خوفًا أوقعني
(7)
مخافَة الموتِ على المَوْتِ.
(1)
الغَبُوق: شُرْبُ العشيِّ. والصَّبوح: ما شرب غدوة، أي صباحًا.
(2)
في (آ): "منه".
(3)
رواه البخاري رقم (6502) في الرقاق، باب: التواضع، من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، ورواه الإِمام أحمد في "المسند" 6/ 256 من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(4)
قوله: "كما رواه البخاري" لم يرد في آ، ش، ع. وقوله:"ولا بد له منه" لم يرد عند البخاري والإِمام أحمد.
(5)
السَّلَى: الجلدُ الرقيق الذي يخرج فيه الولد من بطن أمِّه ملفوفًا فيه. وقيل: هو في الماشية السَّلَى، وفى الناس المشيمة.
(6)
السّفُّود: حديدة ذاتُ شُعب معقّفة، يُشوى به اللحم.
(7)
في المطبوع: "أوقفني".
كيفَ يطمَعُ في البقاءِ وما مِن نبيٍّ
(1)
من الأنبياءِ إلَّا ماتَ! أمْ كيفَ يؤمَنُ هُجومُ المنايا ولَم يسلَمِ الأصْفِياءُ والأحباءُ
(2)
! هيهاتَ هيهاتَ!!.
قَدْ ماتَ كُلُّ نَبِيٍّ
…
وَماتَ كُلُّ نَبِيه
(3)
وَماتَ كُلُّ شَرِيفٍ
…
وَعاقِلٍ وَسَفِيهِ
لا يُوحِشَنْكَ طَرِيقٌ
…
كُلُّ الخلاِئقِ فِيهِ
أوَّلُ ما أُعلِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن انقضاءِ عُمُرِه باقتِراب أجلِهِ بنزولِ سورةِ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}
(4)
. [وقيل لابن عباس رضي الله عنهما: هل كانَ يعلمُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم متى يموتُ؟ قال: نعم. قيل: ومِن أينَ؟ قال: إنَّ الله تعالى جَعَلَ علامَةَ مَوْتهِ في هذه السورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} يعني فتحَ مكَّةَ {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} ذلك عَلامَةُ موتِهِ، وقد كان نَعَى نفسَهُ إلى فاطِمةَ، عليها السلام]
(5)
. فإنَّ المرادَ مِن هذِه السُّورةِ أنَّكَ يا محمَّدُ، إذا فَتَحَ الله عليكَ البِلادَ، ودَخَلَ النَّاسُ في دِينِكَ الذي دعوتَهم إليه أفواجًا فقد اقتَرَب أجلُكَ، فتهيَّأْ للقائِنا بالتَّحميدِ والاستِغفارِ، فإنَّه قد حَصَلَ مِنكَ مَقصُودُ ما أُمِرْتَ بِهِ مِن أداءِ الرِّسالةِ والتَّبليغ، وما عندنا خيرٌ لكَ مِن الدُّنيا، فاستَعِدَّ للنُّقلَةِ إلينا. قال ابنُ عبَّاسٍ: لمَّا نزلَتْ هذه السورةُ نُعِيَتْ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نفسُهُ، فأخَذَ في أشدّ ما كان اجتهادًا في أَمْرِ الآخِرةِ.
ورُوِي في حديثٍ أنَّه تعبَّدَ حتَّى صارَ كالشَّنِّ
(6)
البالي، وكان يَعْرِضُ القرآنَ كلَّ عامٍ على جِبريلَ مَرَّةً، فعرَضَهُ ذلك العامَ مَرَّتينِ، وكان يعتكِفُ العشرَ الأواخِرَ مِن رَمَضانَ كلَّ عام، فاعتَكَفَ في ذلك العام
(7)
عشرين، وأكثَرَ مِنَ الذِّكْرِ والاستِغفارِ.
قالت أمُّ سَلمَةَ: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في آخِرِ أمرِهِ لا يَقُومُ ولا يقعُدُ ولا يذهَبُ ولا يَجِيءُ إلَّا قال: "سبحانَ اللهِ وبحمدِهِ". فذكرْتُ ذلك له، فقال:"إنِّي أُمِرْتُ بذلك" وتلا هذه السُّورةَ. وقالت عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يقولَ قبلَ
(1)
قوله "من نبي" زيادة في نسخة (آ).
(2)
في آ: "والأخيار".
(3)
في ب، ط:"بنيه" وهو تحريف.
(4)
سورة النصر، الآية 1.
(5)
ما بين قوسين زيادة من (ط)، ولم ترد في النسخ المعتمدة.
(6)
الشَّنُّ: القِرْبَةُ الخَلَقُ.
(7)
لفظة: "العام" سقطت من (آ).
موتهِ: "سبحانَ الله وبحمدِه، أستغفِرُ الله وأتوبُ إليه". فقلْتُ لَهُ: إنَّك تَدعُو بدعاءٍ لَمْ تَكُنْ تَدعُو بهِ قَبْلَ اليوم، قال:"إنَّ رَبِّي أخْبَرنِي أَنِّي سَأرى عَلَمًا في أمَّتِي، وأنِّي إذا رأيتُه أَنْ أسبِّحَ بِحَمْدِهِ وَأستغفِرَه، وقد رأيتُه". ثمّ تلا هذه السورةَ.
إذا كان سيِّدُ المُحسِنينَ يُؤمَرُ بأن يختِمَ أعمالَهُ بالحُسْنى، فكيفَ يكونُ حالُ المُذْنِب المسيءِ المتلوِّثِ بالذُّنوب المحتاجِ إلى التَّطهيرِ؟. من لم يُنْذِرْهُ باقترابِ أجلِهِ وحْيٌ، أنذَرَه الشَّيبُ
(1)
وَسَلْبُ أقرَانِهِ بالموتِ.
كَفَى مُؤْذِنًا باقْتِراب الأجَلْ
(2)
…
شَبَابٌ تَوَلَّى وَشَيْبٌ نَزَلْ
وَمَوْتُ اللَّذَاذَةِ هَلْ
(3)
بَعْدَهُ
…
بَقَاءَ يُؤمِّلُهُ مَنْ عَقَلْ
إذا ارْتَحَلَتْ قُرَناءُ الفَتَى
…
عَلَى حُكْمِ رَيْبِ المَنُونِ ارْتَحَلْ
قال وُهَيْب
(4)
بنُ الوَرد: إنَّ لِلَّه مَلَكًا يُنادِي في السَّماءِ كُلَّ يَومٍ وليلةٍ أبناءَ الخمسينَ: زَرْعٌ دَنَا حصادُهُ، أبناءَ الستينَ: هَلمُّوا إلى الحساب؛ أبناءَ السبعينَ: ماذا قدَّمْتُم، وماذا أخَّرْتُم؟ أبناءَ الثمانين: لا عُذْرَ لَكُمْ. وعن وهب
(5)
، قال: ينادِي منادٍ: أبناءَ الستينَ! عُدُّوا أنفسَكُم في الموتى.
وفي "صحيح البخاري"، عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أَعْذَرَ الله إلى امرئٍ أخَّر أجلَهُ حتَّى بَلَغَ ستين سنة"
(6)
. وفي حديثٍ آخَرَ: "إذا كان يومُ القيامةِ نودِيَ: أينَ أبناءُ السِّتينَ؟ وهو العُمُر الذي قال الله تعالى فيه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}
(7)
"
(8)
. وفي [حديثٍ آخَرَ عند]
(9)
الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم، قال:
(1)
في آ: "المشيب" وهما بمعنى.
(2)
في آ: "كأنك دليل اقتراب الأجل".
(3)
في ب، ط "وموت الأقران وهل"، وفي ع:"وموت الأخلَّاء وهل"، وفي ش:"وموت اللذات وهل".
(4)
في ط: "وهب" وهو تحريف.
(5)
هو وَهْب بن مُنبِّه الأبناوي الصنعاني، مؤرخ، كثير الإخبار عن الكتب القديمة، مات سنة 114 هـ.
(6)
في ب، ش، ع، ط:"أعذر الله إلى من بلَّغه ستين من عمره".
والحديث رواه البخاري رقم (6419) في الرقاق، باب: من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر.
(7)
سورة فاطر الآية 37.
(8)
ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (817) وعزاه إلى الحكيم الترمذي، والطبراني في "الكبير"، والبيهقي في "شعب الإيمان" من حديث عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، وهو حديث ضعيف.
(9)
زيادة من (آ).
"أعمارُ أُمَّتِي ما بين السِّتينَ إلى السَّبعينَ، وأقلُّهُم مَن يَجُوزُ ذلك
(1)
"
(2)
. [وفي حديثٍ آخَرَ: "مُعْترَك المَنَايا ما بَينَ السِّتينَ إلى السَّبعين"]
(3)
.
وفي حديثٍ آخَرَ: "إنَّ لِكُلِّ شَيءٍ حصادًا، وحَصَادُ أُمَّتي ما بينَ السَّتينَ إلى السَّبعينَ"
(4)
. وفي هذا المعتركِ قبِضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قال سفيان الثوريُّ: مَنْ بَلَغَ سِنَّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فليتَّخِذْ لِنَفْسِهِ كَفَنًا.
وإنَّ امْرَأً قَدْ سَارَ سِتِّينَ حجَّةً
…
إلى مَنْهلٍ مِن وُردِهِ لَقَرِيبُ
قال الفضيلُ لرجلٍ: كم أتَى عليكَ؟ قال: ستونَ سَنَةً. قال له: أنتَ منذُ ستينَ سنةً تسير إلى رَبِّكَ، يُوشِكُ أنْ تبلُغَ، فقال الرجل: إنَّا لله وإنا إليه راجعونَ، فقال فُضَيل: مَنْ عَلِمَ أنَّه للهِ عَبْدٌ وأنَّه إليه رَاجِعٌ، فَلْيَعْلَمْ أنَّه موقوفٌ، وأنَّه مَسْؤُولٌ، فليُعِدَّ للمسألةِ جَوابًا، فقال له الرَّجُلُ: فما الحيلَةُ؟ قال: يَسيرَةٌ، قال: ما هي؟ قال: تُحْسِنُ فيما بَقِي فَيُغْفَرُ
(5)
لكَ ما مَضَى، فإنَّك إنْ أَسَأْتَ فيما بقِي أُخِذْتَ بما مَضَى وما بَقِيَ.
خُذْ في جِدٍّ فَقَدْ تَولَّى العُمْر
…
كَمْ ذَا التَّفْرِيطُ قد تَدَانى الأَمْرُ
أَقْبِلْ فَعَسَى يُقْبَلُ مِنْكَ العُذْرُ
…
كَمْ تَبْنِي، كَمْ تَنْقُضُ، كَمْ ذا الغَدْرُ
وما زالَ صلى الله عليه وسلم يُعَرِّضُ باقتِراب أجَلِهِ في آخِرِ عُمُرِه، فإنَّه لمَّا خَطَبَ في حَجَّةِ الوَدَاع، قال للنَّاس:"خُذُوا عَنِّي مناسِكَكم، فَلَعَلِّي لَا أَلْقَاكم بَعْدَ عَامِي هَذا"
(6)
.
(1)
قوله: "وأقلهم من يجوز ذلك" سقط من (آ).
(2)
رواه الترمذي رقم (3550) في الدعوات، باب، في دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومختصرًا بنحوه رقم (2331) في الزهد، باب، رقم (23). ورواه أيضًا ابن ماجه رقم (4236)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 427 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
(3)
هذا الحديث سقط من (آ). وقد ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (8187) وعزاه إلى الحكيم الترمذي من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، وهو حديث حسن بما قبله.
(4)
ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (7312) وعزاه إلى ابن عساكر من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما. وهو حديث ضعيف بهذا اللفظ.
(5)
في ب، ش، ط:"يغفر".
(6)
هو جزء من حديث طويل رواه مسلم رقم (1297) في الحج، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
وطفِقَ يُودِّعُ الناسَ، فقالوا: هذه حَجَّةُ الوَدَاع. فلمَا رَجَعَ مِن حجَّتِهِ إلى المدينةِ جَمَعَ الناسَ بماءٍ يُدْعَى خُمًّا
(1)
في طريقِهِ بينَ مَكَّةَ والمدينَةِ، فخطَبَهُم وقال:"أيها الناسُ: إنما أنا بَشَرٌ، يُوشِكُ أنْ يأتِيَنِي رسولُ صلى الله عليه وسلم فأُجِيبَ"
(2)
ثُمَّ حَضَّ على التمسكِ بكتاب اللُهِ، ووَصَّى بأهلِ بيتِه. ثمَّ إنه لمّا بَدَأ بهِ مَرَضُ المَوْتِ خُيِّرَ بينَ لِقاءِ اللَّهِ عز وجل وبينَ زَهْرَةِ الدُّنيا والبقاءِ فيها ما شاءَ الله، فاخْتَارَ لِقَاءَ اللُهِ، وخَطَبَ النَّاسَ وأشَارَ إليهم بذلك إشارةً مِن غيرِ تَصْرِيحٍ.
وكان ابتداءُ مَرَضِهِ في أواخِر شَهْرِ صَفَرَ، وكانَتْ مُدَّةُ مَرَضِهِ ثلاثَةَ عَشَرَ يومًا في المشهور. وقيل: أربَعَةَ عَشَرَ يومًا. وقيلَ: اثنَا عَشَرَ يومًا. وقيلَ: عشرةُ أيام، وهو غَريبٌ.
وكانَتْ خطبتُه التي خَطَب بها الناسَ
(3)
في حديثِ أبي سعيدٍ هذا الذي نتكلمُ عليه هاهنا في ابتداءِ مَرَضِهِ.
ففي "المسند" و"صحيح ابن حبان"، عن أبي سعيد الخدري، قال: خَرَجَ إلينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في مرضِهِ الذي ماتَ فيه وهو مَعْصُوبُ الرأسِ، فقامَ على المِنْبَر، فقال:"إن عَبْدًا عُرِضَتْ عليه الدنيا وزينتُها، فاخْتَارَ الآخِرَةَ". قال: فَلَمْ يَفطَنْ لها أحَد مِنَ القَوْم إلَّا أبو بَكْرٍ، فقال: بأبي وأُمِّي، [بل]
(4)
نَفْدِيكَ بأموالنا وأنفسِنا وأولادِنا. قال: ثمَّ هَبَطَ عن المنبر فما رُئِيَ عليه حتَّى السّاعَةَ
(5)
.
وفي المسند عن أبي مُويهِبَة، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ ليلةً إلى البَقِيعِ، فاسْتغْفَر لأهل البَقيعِ، وقال:"لِيَهْنِكُم ما أصْبَحْتُم فيه مِمَّا أصبَحَ فيه النَّاسُ، أقبلَتِ الفِتَنُ كقِطَعِ اللَّيل المُظلِمِ، يتبَعُ بعضُها بعضًا، يتبَعُ آخرُها أوَّلَها، الآخِرَةُ شَرٌّ مِن الأولَى". ثمَّ
(1)
خُمٌّ: واد بين مكة والمدينة عند الجحفة به غدير، عنده خطب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. (ياقوت).
(2)
قطعة من حديث رواه مسلم رقم (2408) في فضائل الصحابة، من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه.
(3)
لفظة: "الناس" زيادة من نسخة (آ).
(4)
زيادة من (ب، ش، ع).
(5)
رواه أحمد في "المسند" 3/ 91 من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه. وهو حديث صحيح. وهو بمعناه، في الصحيحين" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
قال: "يَا أبا مُويْهِبَة! إنِّي قَد أُعطِيتُ خَزائنَ الدُّنيا والخُلدَ ثم الجَنَّةَ، فخُيِّرتُ بينَ ذلك وبينَ لِقاء رَبِّي، فاخْتَرْتُ لِقاءَ رَبِّي والجنةَ، ثم انْصَرَف. فابتدأَهُ وجعُه الذي قَبَضَهُ الله فيه
(1)
.
لما قوَيتْ مَعرِفَةُ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم بربه، ازدادَ حُبُّه وشوقُهُ إلى لِقائِه، فلمَّا خُيِّر بينَ البقاءِ في الدنيا وبينَ لِقاءِ ربهِ، اخْتَارَ لقاءَهُ على خزائنِ الدنيا والبقاءِ فيها. سُئلَ الشِّبْليُّ: هل يَقْنَعُ المُحبُّ بشيءٍ من حبيبهِ دون مشاهدتِه؟ فأنشَدَ:
واللهِ لو أنَّكَ تَوَّجْتَنِي
…
بتاجِ كِسْرَى مَلِكِ المَشْرِقِ
ولَوْ بأَموالِ الوَرَى جُدْتَ لِي
…
أَموال مَنْ بَادَ ومَنْ قَدْ بَقِي
وَقُلْتَ لِي لا نَلْتَقِي ساعَةً
…
اخْتَرْتُ يا مولايَ أنْ نَلْتَقِي
لمَّا عَرَّضَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم على المنبرِ باختيارِه اللقاءَ على البقاءِ ولم يُصَرحْ، خَفِيَ المعنَى على كثيرٍ مِمّن سَمِعَ، ولم يَفهَمِ المقصُودَ غير صاحبِه الخَصِيصِ بِه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُما في الغَارِ}
(2)
. وكانَ أعلَمَ الأمّةِ بمقاصِدِ الرسُولِ صلى الله عليه وسلم، فلما فَهمَ المقصُودَ مِن هذه الإشارةِ بَكَى، وقال: بل نفدِيكَ بأموالِنا وأنفسِنا وأولادِنا، فسكَنَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم جَزَعَهُ، وأَخَذَ في مَدْحِهِ والثَّنَاءِ عليهِ على المِنْبَرِ، لِيَعلَمَ النَّاسُ كلُّهم فضلهُ، فلا يَقَعُ عليه اختِلافٌ في خلافتِهِ، فقال:"إنَّ مِن أمَنِّ النَّاسِ على في صحبتِهِ ومالِهِ أبو بكر"
(3)
.
وفي روايةٍ أخرى أنه قال: "ما لأحَدٍ عندَنا يدٌ إلَّا وقَدْ كافينَاهُ، ما خَلَا أبا بكرٍ، فإنَّ له عندَنا يدًا يكافِئهُ اللّهُ يومَ القِيامَةِ بها، وما نَفَعنِي مالُ أحَدٍ قَطُّ ما نَفَعَنِي مالُ أبي بكرٍ"، خرَّجه الترمذيُّ
(4)
.
(1)
رواه أحمد في "المسند" 3/ 488 و 489 وأخرجه الحاكم من وجه آخر، وهو حديث حسن. وانظر:"الإصابة" لابن حجر في ترجمة أبي مويهبة 4/ 188.
(2)
سورة التوبة، الآية 40.
(3)
قطعة من حديث صحيح رواه البخاري ومسلم، وقد تقدم تخريجه.
(4)
رواه الترمذي رقم (3661) في المناقب، باب رقم (15) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وإسناده ضعيف، ولكن له شواهد، فقد رواه بنحوه مختصرا ابن ماجه رقم (94)، وابن حبان رقم (2166)"موارد"، وأحمد في "المسند 2/ 366 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولآخره شاهد من حديث أبي سعيد الخدري عن مسلم رقم (2382)، فهو حديث حسن بشواهده.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كُنْتُ متَّخِذًا من أهلِ الأرْضِ خليلًا، لاتَّخذْتُ أبا بكرٍ خَلِيلًا، ولكِنْ أُخوَّةُ الإسلام"
(1)
. لمَّا كانَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم خليلَ اللّهِ
(2)
، لَمْ يَصْلُحْ له أَنْ يُخالِلَ مخلوقًا، فإنَّ الخَليلَ مَنْ جَرَتْ محبَّةُ
(3)
خليلِهِ منه مَجْرَى الرُّوحِ، ولا يَصْلُحُ هذا لبشرٍ، كما قيل:
قَدْ تَخلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوح مِنِّي
…
وَبذا سُمِّيَ الخَلِيلُ خَلِيلا
ولهذا المعنَى قيلَ: إن إبراهيمَ الخليلَ عليه السلام أُمِرَ بذبْحِ ولدِهِ، ولم يكن المقصودُ إراقَةَ دَمِ الوَلَدِ، بل تفريغُ محلِّ الخُلَّةِ لِمَنْ لا يَصْلُحُ أَنْ يُزَاحِمَه فيها أحَدٌ.
أرُوحُ وَقَدْ خَتَمْتُ على فؤادِي
…
بحبِّكَ أنْ يحِل بهِ سِواكَا
فَلو أنِّي استَطَعْتُ غَضَضْتُ طَرْفِي
…
فَلَمْ أنظُرْ بهِ حتَّى أرَاكَا
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لا يبقيَنَّ خَوْخَة في المسجدِ إلا سُدَّتْ إلَّا خوخَةُ أبي بكرٍ"
(4)
.
وفي روايةٍ: "سُدُّوا هذه الأبوابَ الشَّارِعَةَ
(5)
في المسجدِ إلَّا بابَ أبي بكرٍ"
(6)
.
وفي هذا الإشارَةُ إلى أنَّ أبا بكرٍ هُوَ الإمامُ بعدَه؛ فإن الإِمامَ يحتاجُ إلى سُكْنَى المسجدِ والاستطراقِ
(7)
فيه، بخلافِ غيره، وذلك مِن مصالحِ المسلمينَ المصلِّينَ في المسجدِ، ثمَّ أَكَّدَ هذا المعنَى بأَمرِهِ صرِيحًا أنْ يصلِّيَ بالناسِ أبو بكرٍ، فرُوجِعَ في ذلك فغضِبَ، وقال: "مُرُوا أبا بكرٍ يصلِّي
(8)
بالنَّاسِ"، فولَّاه إمامَةَ الصَّلاةِ دونَ غيرِه، [وأبقَى استطراقَهُ مِن دارِهِ إلى مكانِ الصلاةِ، وسَدَّ استِطْرَاقَ غيرِه]
(9)
، وفي هذا إشارة واضِحةٌ إلى استخلافِهِ على الأمَّةِ دونَ غَيرِه، ولهذا قالَتِ الصَّحابةُ رضي الله عنهم عندَ
(1)
رواه الترمذي رقم (3661) في المناقب، باب مناقب أبي بكر الصِّدِّيق، وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو كما قال، فإنه حسن بشواهده، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" وسكت عليه.
(2)
قوله: "خليل الله" لم يرد في (آ).
(3)
في آ: "من جرى صحبة"، وفي ش:"من جرت صحبة".
(4)
قطعة من حديث تقدم تخريجه.
(5)
الأبواب الشارعة: المفتوحة. ودُور شارعة، إذا كانت أبوابها شارعة في الطريق.
(6)
قطعة من حديث صحيح. وانظر تخريجه ورواياته في "جامع الأصول" 8/ 586 - 587.
(7)
استَطرَق إلى الباب ونحوه: سلك الطريق إليه. واستَطرَق فلانًا: طلب من الطريق في حد من حدوده.
(8)
في ب، ط:"فليصل"، وهو قطعة من حديث حسن. انظر نصه وتخريجه في "جامع الأصول" 8/ 593 - 594.
(9)
ما بين حاصرتين سقط من (آ).
بيعةِ أبي بكرٍ: رَضِيَهُ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِدِينِنا، أفلا
(1)
نَرْضَاهُ لدُنْيانا. ولما قال أبو بكر: قد أَقَلْتُكُمْ بَيْعَتِي، قال عليٌّ: لا نُقِيلُكَ ولا نَسْتَقِيلُكَ، قَدَّمَكَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فَمَنْ ذَا يُؤخِّرُكَ؟.
لمَّا انطوَى بِساطُ النُّبوَّةِ مِنَ الأرض بوفاةِ رسول الله
(2)
صلى الله عليه وسلم، لم يَبْقَ على وجهِ الأرضِ أكملُ مِن درجةِ الصِّدِّيقيّةِ، وأبو بكرٍ رأسُ الصِّديقينَ، فلهذا استحَق خلافةَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم والقيامَ مقامَهُ.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عَزَمَ على أن يكتُبَ لأبي بكرٍ كِتابًا لِئلا يُخْتَلَفَ عليه، ثمَّ أَعْرَضَ عن ذلك، لِعِلْمِهِ أنَّه لا يقَعُ غيرُه، وقال:"يأبَى اللهُ والمؤمنون إلا أبا بكرٍ"
(3)
. ورُبَّما كانَ تَرَكَ ذلك لِئلا يَتوهَّمَ متوهِّم أن نَصَّهُ على خِلافتِهِ كانَتْ مُكافاة لِيدِه التي كانَتْ له. والولاياتُ كُلُّها لا يُقْصَدُ بها مَصْلَحةُ المُوَلَّى، بَلْ مصلحةُ المسلمينَ عامَّةً.
وكان أوَّلَ ما ابتُدِئَ به رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم من مرضِهِ وَجَعُ رأسِهِ، ولهذا خَطَبَ وقد عَصَبَ رأسَهُ بِعصابَةٍ دَسْمَاءَ
(4)
، وكان صُدَاعُ الرأسِ والشَّقِيقةُ يَعترِيه كثيرًا في حياتِه، ويتألَّم منه أيامًا. وصُداعُ الرأسِ مِن علاماتِ أهلِ الإيمانِ وأهلِ الجنةِ. وقد رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه وَصفَ أَهْلَ النَّارِ فقال:"هُم الذينَ لا يألمون رُؤوسَهم"
(5)
. ودَخَلَ عليه أعرابيٌّ، فقال له:"يا أعرابي! هَلْ أَخذَكَ هذا الصُّداعُ؟ "، فقال: وما الصداعُ؟ قال: "عُروقٌ تَضرِبُ على الإنسانِ في رأسِهِ "، فقال: ما وجدْتُ هذا. فلمَّا وَلَّى الأعرابيّ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَحَبّ أَنْ يَنْظُرَ إلى رَجُل مِن أهلِ النارِ فَلْيَنْظُرْ إلى هذا". خرَّجه الإِمامُ أحمدُ، والنسائيُّ
(6)
.
(1)
في ب، ط:"فكيف".
(2)
في ب، ش، ع، ط:"الرَّسول".
(3)
قطعة من حديث صحيح، رواه البخاري ومسلم. انظر "جامع الأصول" 4/ 107 - 108.
(4)
دَسْمَاء: سوداء.
(5)
قطعة من حديث رواه أحمد في "المسند" 2/ 508 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وإسناده ضعيف، ولكن لفقراته شواهد، سوى الأخيرة "هم الذين لا يألمون رؤوسهم" التي استشهد بها المؤلف.
(6)
رواه أحمد في "المسند" 2/ 232 و 366 - 367 وليس عند النَّسَائِي في "المجتبى" ولعله في "الكبرى". وقد ذكره الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 294 وعزاه إلى أحمد والبزار، وقال: وقال أحمد في رواية: مر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فأعجبه صحته وجلده، فدعاه، فذكر نحوه، وإسناده حسن.
وقال كعبٌ: أجِدُ في التوراة: لولا أن يحزَنَ عَبْدِي المؤمنُ لَعَصَبْتُ الكافِرَ بعصابةٍ مِن حديدٍ لا يَصَّدَّعُ أبدًا. وفي "المسند" عن عائشةَ رضي الله عنها، قالَتْ: دَخَلَ على رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بُدِئَ فيه، فقلت: وا رأساهُ! فقال: "وَدِدْتُ أن ذلكَ كان وأنا حيٌّ، فهيَّأتُكِ ودَفنْتُكِ"، فَقُلْتُ غَيْرَى
(1)
: كأني بكَ في ذلك اليومِ عَروسًا ببعضِ نِسائِكَ، فقال: "بل
(2)
أنا وا رأساه، ادعُوا إليَّ
(3)
أباكِ وأخاكِ حتَّى أكتُبَ لأبي بكرٍ كتابًا، فإنِّي أخافُ أن يقولَ قائلٌ ويتمنَّى متمنٍّ، ويأبَى اللهُ والمؤمنون إلَّا أبا بكرٍ"
(4)
.
وخرجه البخاريُّ بمعناه، ولفظه: أن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: وا رأساه! فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذاكَ لو كانَ وأنا حي، فأستغفِرَ لَكِ وأدْعُوَ لَكِ"، قالَتْ عائشةُ: وا ثُكْلاه! واللهِ إنِّي لأظنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، ولو كانَ ذلكَ لَظللتَ آخِرَ يَومِكَ مُعرسًا ببعض أزواجِكَ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"بل أنا وا رأساه! "، وذَكَرَ بقيَّة الحديث
(5)
.
وفي "المسند" أيضًا عنها، قالَتْ: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا مَرَّ ببابي ربما
(6)
يُلقِي الكلِمةَ ينفَعُ الله بها، فَمَر ذاتَ يوم فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، مرتين، أو ثلاثًا. قلْتُ: يا جاريةُ! ضعِي لِي وِسَادةً على الباب -، وَعَصبْتُ رأسِي، فَمر بي فقال:"يا عائشة! ما شأنُكِ؟، فقلْتُ: أشتكِي رأسِي، فقال: "أنا وا رأسَاه! "، فذَهَبَ فلم يَلْبَثْ إلَّا يَسيرًا حتى جِيءَ بهِ محمولًا في كِساءٍ، فَدَخَلَ عليَّ، فَبَعَثَ إلى النساءِ، وقال: "إنِّي اشْتَكيْتُ"، وقال: "إنِّي لا أسْتَطِيعُ أنْ أَدُورَ بينَكُنَّ، فأذَن لِي فلأكُنْ عندَ عائِشةَ"
(7)
.
وفيه أيضًا عنها، قالت: رَجَعَ إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم مِن جنازةٍ بالبَقيعِ،
(1)
في الأصول: "غيراء"، وأثبت ما جاء في "مسند الإمام أحمد".
(2)
لفظة: "بل" لم ترد في ب، ش، ع، ط. وفي المسند: "وأنا وا رأساه.
(3)
في ب، ع، ط:"لي "، وما جاء في آ، ش موافق لما في "مسند الإمام أحمد".
(4)
رواه أحمد في "المسند" 6/ 144 وهو حديث صحيح.
(5)
رواه البخاري رقم (5666) في المرضى، باب: ما رخص للمريض أن يقوله: إنِّي وجعٌ، أو وارأساه، أو اشتدَّ بي الوجع، وقول أيوب عليه السلام:{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)} [الأنبياء: 83].
(6)
في آ، ش:"مما"، وفي ب:"كثيرًا مما"، والمثبت من (ع).
(7)
رواه أحمد في "المسند" 6/ 219 وهو حديث حسن.
وأنا أجِدُ صُداعًا في رأسِي، وأنا أقولُ: وا رأساه! قال: "بل أنا وا رأساه! "، ثم قال:"ما ضرَّكِ لو مُتِّ قبلي فغسَّلتُكِ وكفنْتُكِ، ثم صلَّيْتُ عليكِ ودفنْتُكِ؟ "، فقلْتُ: لكأنِّي بكَ واللهِ لو فعلْتَ ذلكَ، لَقَدْ رَجَعْتَ إلى بيتي فأعْرَسْتَ فيه ببعضِ نسائِكَ، فتبسَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ بُدِئَ في وَجَعِهِ الذي ماتَ فيه
(1)
.
فقد تبيَّن أن أوَّلَ مَرَضِهِ كانَ صُداع الرأسِ، والظَّاهِرُ أنهُ كانَ مَعَ حُمَّى، فإنَّ الحُمَّى اشتدَّتْ بهِ في مرضِهِ، فكان يجلِس في مِخْضَبٍ
(2)
، ويُصَبُّ عليهِ الماءُ مِن سبعِ قِرَبٍ، لم تُحْلَلْ أَوْكِيتُهُنَّ
(3)
؛ يتبرَّد بذلك. وكانَ عليه قَطِيفة، فكانَتْ حَرارَةُ الحُمَّى تُصِيبُ مَنْ وَضَعَ يَدَهُ عليه
(4)
من فوقها، فقيلَ له في ذلكَ، فقال: "إنَّا
(5)
كذلِكَ يشَدَّدُ علينا البلاء ويضاعَفُ لنا الأجْرُ". وقال: "إنِّي أُوعَكُ كما يُوعَكُ رجلانِ منكم"
(6)
.
ومِن شِدَّةٍ وَجَعِهِ كانَ يُغْمَى عليه في مرضِه، ثم يفيقُ، وَحَصَلَ له ذلكَ غيرَ مرةٍ، فأُغمِيَ عليه مرة وظنُّوا أن وَجَعَهُ ذاتُ الجَنْب، فَلَدُّوهُ
(7)
، فلمَّا أفَاقَ أَنْكَرَ ذلِكَ، وأَمَرَ أَنْ يُلَدَّ مَنْ لَدَّهُ، وقال:"إنَّ الله لم يَكُنْ ليُسَلِّطَها عليَّ" يعني ذاتَ الجَنْب، "ولكنهُ مِنَ الأكْلَةِ الَّتِي أكلْتُها يومَ خَيْبَرَ"، يعني أنه نَقَضَ عليه سَمُّ الشاةِ التي أهدَتْها لَه
(8)
اليهوديَّةُ، فأكَلَ منها يومئذٍ، فكانَ ذلِكَ يَثُورُ عليهِ أحيانًا، فقال في مرض مَوْتهِ: "مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ. تُعَاودني
(9)
، فهذا أوانُ انقطاعِ أبْهَرِي
(10)
"
(11)
. وكان
(12)
ابن مسعودٍ وغيرُه يقولون: إنَّه ماتَ شهيدًا من السّمِّ.
(1)
رواه أحمد في "المسند" 6/ 228، ورواه أيضًا ابن ماجه رقم (1465) في الجنائز، باب: ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها، وهو حديث حسن.
(2)
المِخْضبُ: شِبه الإجَّانةِ، يُغسَلُ فيها الثياب.
(3)
الوكاء: رباط القربة الذي يُشد به رأسُها.
(4)
في النسخة (آ): "عليها".
(5)
أي: الأنبياء.
(6)
رواه البخاري رقم (5648) في المرضى، باب: أشدُّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ ومسلم رقم (2571) في البر والصلة، باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من المرض أو الحزن.
(7)
اللدود: من الأدوية، وهو ما يسقاه المريض في أحد شِقّي الفم.
(8)
في آ: "إليه"، وكلاهما جائز.
(9)
في آ، ب:"تعتادني"، والمثبت من (ع، ش، ط).
(10)
الأبهر: عرق في الظهر، يقال هو الوريد في العنق.
(11)
رواه الدارمي (1/ 33)، وذكره السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (7915) وعزاه إلى ابن السني، ولأبي نُعيم في الطب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو حديث صحيح، يشهد له حديث البخاري عن عائشة في الوفاة النبوية في المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.
(12)
في ش، ع:"فكان".
وقالت عائشة: ما رأيْتُ أحدًا كانَ أشدَّ عليهِ الوجَعُ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكان عندَهُ في مرضِهِ سبعةُ دنانِيرَ؛ فكانَ يأمرُهُم بالصَّدَقَةِ بها، ثم يُغْمَى عليه، فيشتغِلونَ بِوَجَعِه، فدَعَا بها فوضَعَها في كَفِّه، وقال:"ما ظَنُّ محمّدٍ بربِّهِ لو لَقِيَ الله وعندَهُ هذه؟ "، ثم تصَدَّقَ بها كلِّها، فكيفَ يكونُ حالُ مَنْ لَقِيَ الله تعالى وعندَهُ دماءُ المسلمينَ وأموالُهم المحرمَةُ؟! وما ظَنُّهُ بِرَبِّهِ وَلَمْ يَكُنْ عندَهُم في مرضِهِ دُهْنٌ للمِصباح يُوقَدُ فيه.
فلمَّا اشتَدَّ وَجَعُهُ ليلةَ الاثنين أرسلَتْ عائِشةُ بالمصباحِ إلى امرأةٍ مِنَ النساءِ، فقالَت: قَطِّري لنا في مِصْباحِنا مِن عُكَّةِ
(1)
السَّمنِ، فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمسى في جديدِ
(2)
الموتِ. وكان عند عائشةَ إزارٌ غَلِيظٌ مما يُصْنَعُ باليمن، وكِساءٌ مِن المُلَبَّدِ
(3)
، فكانَتْ تُقْسِمُ باللَّهِ إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قُبِضَ فيهما.
ودخلَتْ عليه فاطِمَةُ رضي الله عنها في مرضِهِ، فسارَّها بشيءٍ فَبَكَتْ، ثم سارَّها فضحِكَتْ، فسُئِلَتْ عن ذلِكَ، فقالت: لا أُفشِي سِرَّ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فلمَّا تُوفِي سُئِلَتْ، فقالت: أخبرَني أنَّه يَموتُ في مرضِهِ، فَبكيتُ، ثم أَخبرَنِي أنِّي أوَّلُ أَهلِهِ لُحُوقًا بهِ، وأَنِّي سيَّدةُ نِساءِ العَالمين
(4)
، فضحِكْتُ
(5)
. فلمَّا احتُضِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اشتدَّ بهِ الأمْرُ، فقالت عائشة: ما أَغْبِطُ أحدًا يُهَوَّنُ عليهِ الموتُ بعدَ الذي رأيْتُ مِن شدَّة
(6)
موتِ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
العُكَّةُ: أصغر من القِرْبة للسمن، وهو زُقَيْقٌ صغير، وجمعها عُكَكٌ وعِكاكٌ. والعُكَّةُ من السمن والعسل؛ قال ابن الأثير في النهاية: وهي وعاء من جلد مستدير يختص بهما، وهو بالسمن أخص. (اللسان).
(2)
جديدُ الموت: أوَّله.
(3)
في ب، ش، ع، ط:"الملبَّدة". والملبَّد: المرقَّع.
(4)
الذي في الصحيحين والترمذي: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة، أو سيدة نساء أهل الجنة".
(5)
رواه البخاري رقم (6285) و (6286) في الاستئذان، باب: من ناجى بين يدي الناس، ولم يخبر بسرِّ صاحبه، فإذا مات أخبر به، و (3715) و (3716) في فضائل الصحابة، باب: مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسلم رقم (2450)(97 - 99) في فضائل الصحابة، باب: فضائل فاطمة بنت النبيِّ، عليها الصَّلاة والسَّلام؛ وابن ماجه رقم (1621) في الجنائز، باب: ما جاء في ذكر مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحمد في "المسند" 6/ 77 و 240 و 282 من حديث عائشة، رضي الله عنها، وقد ذكره المؤلف مختصرا وبالمعنى.
(6)
في آ: "من سكرة".
قالت: وكان عندَه قَدَحٌ مِن ماءٍ، فيُدْخِلُ يدَهُ في القدَحِ، ثمَّ يَمسَحُ وَجْهَهُ بالماءِ، ويقول:"اللهمَّ، أعِنِّي على سَكراتِ الموتِ"، قالت: وجَعَلَ يقولُ: "لا إلهَ إلا الله، إن للموتِ لَسَكراتٍ"
(1)
. وفي حديثٍ مرسَلٍ أنه قال: اللهمَّ إنكَ تأخُذُ الرُّوحَ مِن بين العَصَبِ والقَصَب
(2)
والأنامِلِ، اللهم فأعِني على الموتِ وهوِّنْهُ علي"
(3)
. ولمَّا [ثقُلَ النَّبي صلى الله عليه وسلم جَعَل]
(4)
يتغشَّاهُ الكَرْبُ، قالت فاطمةُ عليها السلام: وا كَرْبَ أبتاه! فقالَ لها: "لا كَرْبَ على أبيكِ بعدَ اليوم"
(5)
. وفي حديثٍ خرَّجه ابنُ ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال لِفاطِمةَ: "إنه قَدْ حَضَرَ من أبيكِ ما ليس الله بتاركٍ منه أحدًا
(6)
، المُوافاةُ
(7)
يومَ القيامةِ"
(8)
.
ولم يُقْبَضْ صلى الله عليه وسلم حتى خُيِّرَ مرةً أُخْرَى بينَ الدنيا والآخِرةِ؛ قالَتْ عائشةُ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنَّه لم يُقْبَضْ نبي [قط] حَتى يرَى مَقْعَدَهُ مِن الجنةِ، ثم يُخيَّرُ". فلمَّا نزلَ به ورأسُهُ على فَخِذِي، غُشِيَ عليه ساعة، ثمَّ أفاقَ، فأشخصَ بصرَهُ إلى سَقفِ البيتِ، ثم قال:"اللهمَّ، الرفيقَ الأعْلَى". فقلْتُ: الآن لا يختارُنا، وعلِمْتُ أنَّه الحديثُ الذي كانَ يُحدِّثناهُ، وهو صَحِيحٌ
(9)
. وكانَتْ تِلكَ آخرَ كلمةٍ تكلَّمَ بها.
وفي روايةٍ أنَّه قال: "اللهمَّ اغفِرْ لِي وارْحَمْنِي، وأَلْحِقْنِي بالرَّفيق الأعْلَى"
(10)
.
وفي رواية أنه أصابَهُ بُحَّةٌ شَديدةٌ، فسمِعتُه يقوله: {مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ الله عليهِم مِنَ
(1)
قطعة من حديث صحيح. انظر نصَّه كاملًا ورواياته المختلفة وتخريجه في "جامع الأصول" 11/ 62 - 65.
(2)
القَصَبُ: عظام الأصابع من اليدين والرجلين. وقيل: هي ما بين كل مفصلين من الأصابع.
(3)
وهو حديث ضعيف.
(4)
ما بين قوسين لم يرد في آ، ش.
(5)
قطعة من حديث رواه البخاري رقم (4462) في المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته؛ وابن ماجه رقم (1629) في الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم، واللفظ له من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه.
(6)
في (ط): "أحد".
(7)
الموافاة: أن توافي إنسانًا في الميعاد.
(8)
قطعة من حديث رواه أحمد في "المسند" 3/ 141؛ وابن ماجه رقم (1629) في الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه صلى الله عليه وسلم، من حديث أنس رضي الله عنه، وهو حديث حسن، وأصله في صحيح البخاري.
(9)
رواه البخاري رقم (4437) في المغازي، باب: مرض النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ووفاته؛ ومسلم رقم (2444)(87) في فضائل الصحابة، باب: فضائل عائشة رضي الله عنها؛ وأحمد في "المسند" 6/ 89 و 274.
(10)
سقطت هذه الرواية بكاملها من (آ)، وهي عند مسلم رقم (2444) في فضائل الصحابة، باب: فضائل عائشة رضي الله عنها؛ وأحمد في "المسند" 6/ 231.
النَّبيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ وَحَسُنَ أولئِكَ رَفيقًا}
(1)
. قالت: فظَنَنْتُ أنه خُيِّرَ [حينئذٍ]
(2)
. وهذه الرِّواياتُ مخرَّجَةٌ في "صحيح البخاري" وغيرِه.
وقد رُوِي ما يدُلُّ على أنه قُبِضَ، ثم رأى مقعَدَه مِنَ الجَنَّةِ، ثم رُدَّتْ إليه نفسُهُ، ثمَّ خُيِّرَ. ففي "المسند" عن عائشةَ رضي الله عنها، قالَتْ: كانَ رسولُ اللُهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "ما مِن نَبِيٍّ إلَّا تُقبَضُ نفسُهُ، ثمَّ يَرَى الثوابَ، ثم تُرَدُّ إليه، فيُخيِّرُ بين أَنْ تُرَدَّ إليه إلى أن يُلْحَقَ
(3)
". فكنْتُ قد حفِظْتُ ذلكَ منه، فإنِّي لَمُسْنِدَتُه إلى صَدْرِي، فنَظَرْتُ إليهِ حتى مَالَتْ عُنُقُه
(4)
، فقلْتُ: قَدْ قَضَى. قَالَتْ: فعَرَفْتُ الَّذِي قال، فنَظَرْتُ إليه حتى ارتفَعَ ونظَرَ، فقلْتُ
(5)
: إذًا واللهِ لا يختارُنا، فقال:"مَعَ الرفِيق الأعْلَى في الجنةِ {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عليهِم مِنَ النبِيينَ والصديقينَ والشُّهدَاءِ والصالحينَ} "
(6)
إلى آخِرِ الآية
(7)
.
وفي "صحيح ابن حِبَّانَ" عنها، قالت: أُغْمِيَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ورأسُهُ في حَجْرِي، فجَعَلْتُ أمسَحُهُ وأدعو له بالشِّفَاءِ؛ فلمَّا أفاقَ، قال:"لا بلْ أسألُ الله الرفِيقَ الأعْلَى، مَعَ جِبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ"
(8)
. وفيه، وفي "المسند" عنها، أنَّها كانَتْ تَرْقِيه في مَرَضِهِ الذِي ماتَ فيه، فقال:"ارفَعِي يَدَكِ فإنها كانت تَنْفَعُنِي في المُدَّةِ"
(9)
.
قال الحسن: لَمَّا كَرِهَتِ الأنبياءُ الموتَ هَوَّنَ الله ذلك عليهم بلقاءِ الله عز وجل، وبِكُلِّ مَا أَحبُّوا مِن تُحفَةٍ أو كَرَامةٍ، حتى إن نَفْسَ أحدِهم لَتُنْزَعُ مِن بَيْنِ جَنْبَيْهِ وهو يُحِب ذلكَ، لِمَا قَدْ مُثِّلَ له. وفي "المسند" عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنه لَيُهوّنُ على الموت أنِّي رأيْتُ بَياضَ كَفِّ عائشةَ في الجَنةِ"
(10)
. وخرَّجَه
(1)
سورة النساء، الآية 69.
(2)
هي عند مسلم رقم (2444)(86) في فضائل الصحابة، باب: فضائل عائشة، رضي الله عنها.
(3)
في ب، ط:"أو يلحق".
(4)
في آ، ش:"مالت عينه".
(5)
في ط: "فقالت".
(6)
سورة النساء، الآية 69.
(7)
رواه أحمد في "المسند" 6/ 74 وهو حديث صحيح.
(8)
ذكره بنحوه الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 37 من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وقال في آخره: رواه الطبراني، وفيه محمد بن سلام الجمحي، وهو ثقة، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.
(9)
رواه ابن حبان في "صحيحه" كما في "الإحسان" 4/ 269 واللفظ له، وأحمد في "المسند" 6/ 261. وهو حديث حسن.
(10)
رواه أحمد في "المسند" 6/ 138، من حديث مصعب بن إسحاق بن طلحة، عن عائشة، ذكره ابن حبان، وقال: يروي المراسيل، وذكره في التابعين. أقول: فهو مرسل.
ابنُ سَعْدٍ وغيرُه مرسلًا أنَّه صلى الله عليه وسلم، قال: "لقد أُرِيتُها في الجنةِ، حتَّى
(1)
لَيهوَّن بذلك عليَّ مَوْتي، كأنِّي أَرَى كَفَّيها" يعني عائشة
(2)
.
كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يحب عائشةَ رضي الله عنها حبًا شَديدًا، حتى لا يَكادُ يَصبِرُ عنها، فمثِّلَتْ له بينَ يَدَيْهِ في الجَنَّةِ لِيُهوّنَ عليه موتُه؛ فإن العَيْشَ إنما يَطيبُ باجتماع الأحِبَّةِ. وقد سأله رجلٌ: أيُّ الناسِ أحبُّ إليكَ؟ فقال: "عائشةُ"، فقال له: فَمِنَ الرجال؟ قال: "أبوها"
(3)
. ولهذا قال لها في ابتداءِ مرضِهِ، لمَّا قالَتْ: وا رأساه: "ودِدْتُ أن ذلك كان وأنا حَيٌّ، فأصَلِّي عليكِ وأدفِنُكِ" فعَظُمَ ذلكَ عليها، وظنَّتْ أنَّه يُحِبُّ فِراقَها. وإنَّما كان يريدُ
(4)
تعجيلَها بين يَدَيْهِ ليقرُبَ اجتماعُهما.
وقد كانَتْ عائشةُ مَضَغَتْ لَهُ صلى الله عليه وسلم سِواكًا وطيَّبَتْهُ بِرِيقها، ثمَّ دَفَعَتْهُ إليه، فاسْتَنَّ به أَحْسَنَ اسْتِنانٍ، ثمَّ ذَهَبَ يتناولُهُ، فضعُفَتْ يدُهُ عنه، فسَقَطَ من يَدِه الكريمة
(5)
. فكانَتْ عائشةُ تقولُ: جَمَعَ الله بينَ رِيقي ورِيقِهِ في آخِرِ يَوْم مِنَ الدُّنيا، وأوَّلِ يومٍ مِن الآخِرَةِ. والحديثُ مخرَّجٌ في "الصحيحين"
(6)
. وفي حديثٍ خرَّجه العُقَيْلِي
(7)
أنه صلى الله عليه وسلم قال لها في مرضه: "ائتيني بسِواكٍ رَطْبٍ، امْضَغِيهِ [ثم ائتِينِي بهِ أمضَغُهُ]
(8)
لكي يختلِطَ رِيقِي بريقِكِ، لكي يُهوَّنَ به عليَّ عندَ الموتِ".
(1)
لفظة: "حتى" لم ترد في (ب، ش، ع، ط).
(2)
ذكره ابن سعد في "الطبقات" 8/ 65 - 66 وهو حديث ضعيف.
(3)
رواه الترمذي رقم (3890) في المناقب، باب: فضل عائشة رضي الله عنها. وقال: هذا حديث صحيح، وهو كما قال.
(4)
في آ: "قَصَدَ".
(5)
لفظة: "الكريمة" وردت في (آ، ع).
(6)
رواه البخاري رقم (4450) و (4451) في المغازي، باب: مرض النبيِّ صلى الله عليه وسلم ووفاته، و (5217) في النكاح، باب: إذا استأذن الرجل نساءه في أن يمرَّض في بيت بعضهنَّ فأذِنَّ له، وليس الحديث بهذا اللفظ عند مسلم.
(7)
هو الإِمام الحافظ الناقد أبو جعفر محمد بن موسى بن حمَّاد العُقَيليُّ الحجازي صاحب "كتاب الضعفاء". قال مسلمة بن القاسم: كان العقيليُّ جليلَ القدر، عظيم الخطر، ما رأيت مثله، وكان كثير التصانيف، فكان من أتاه من المحدِّثين، قال: اقرأ من كتابك، ولا يخرِجُ أصله. قال: فتكلمنا في ذلك. وقلنا: إما أن يكون من أحفظ الناس، وإما أن يكون من أكذب الناس. فاجتمعنا، فاتفقنا على أن نكتب له أحاديث من روايته، ونزيد فيها وننقص، فأتيناه لنمتحنه، فقال لي: اقرأ، فقرأتها عليه، فلما أتيتُ بالزيادة أو النقص، فطِن لذلك، فأخذ في الكتاب، وأخذ القلم، فأصلحها من حفظه، فانصرفنا من عنده، وقد طابت نفوسنا، وعلمنا أنه من أحفظ الناس. مات سنة (322) هـ. (سير أعلام النبلاء 15/ 236 - 239).
(8)
ما بين قوسين سقط من (آ).
قال جعفر بن محمد
(1)
، عن أبيه
(2)
: لمَّا بقِيَ مِن أجَلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثلاثٌ نَزَلَ عليه جبريلُ عليه السلام، فقال: يا أحمدُ! إنَّ الله قَدْ أَرْسَلَنِي إليكَ إكرامًا لكَ وتفضيلًا لك، وخاصة لك، يسألُكَ عمَّا هُوَ أَعْلَمُ بهِ منكَ، يقولُ لكَ
(3)
: كيفَ تجدُكَ؟ فقالَ: "أَجِدُنِي يا جبريلُ مَغْمُومًا، وأجِدُني يا جبريلُ مكْرُوبًا"؟ ثمَّ أتاهُ في اليوم الثاني، فقال له مثلَ ذلكَ؛ ثمَّ أتاهُ في اليوم الثالثِ، فقال له مثلَ ذلكَ، ثم استأذَن فيه مَلَكُ المَوْتِ، فقالَ جبريل: يا أحمدُ! وَهذا مَلَكُ الموتِ يستأذِنُ عليكَ، ولم يستأذِنْ على آدمِي كانَ
(4)
قَبْلَكَ، ولا يستأذِنُ على آدمِي بعدَك، قال:"ائذَنْ لَهُ"، فدخَلَ مَلَكُ المَوْتِ، فوقَفَ بينَ يَدَيْهِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، يا أحمدُ! إن الله أرسلنِي إليكَ وأَمَرَنِي أنْ أُطيعَكَ في كُلِّ ما تأمرُ؛ إنْ أمَرْتَنِي أنْ أَقْبِضَ نفسَكَ قبضْتُها، وإنْ أمَرْتَنِي أَنْ أتركَها تركْتُها؟ قال:"وتفعَلُ يا ملكَ الموتِ؟ "، قال: بذلك أُمِرْتُ أن أطِيعَكَ في كُل ما تأمُرني
(5)
به.
فقال جبريلُ: يا أحمدُ! إنَّ الله قد اشتَاقَ إليكَ. قال: "فأمْضِ يا ملكَ الموتِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ "، فقالَ جبريلُ عليه السلام: السلامُ عليكَ يا رسولَ اللهِ، هذا آخِرُ مَوْطئي مِنَ الأرضِ، إنَّما كُنْتَ حاجَتِي مِن الدنيا. وجاءت التَّعزِيَةُ
(6)
يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ والحسَّ ولا يَرونَ الشَّخْصَ: السلامُ عليكم يا أهْلَ البيتِ ورحمةُ اللهِ وبركاته {كل نَفْس ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ}
(7)
، إن في الله عزاءً مِن كُلِّ مُصيبةٍ، وخَلَفًا مِن كُل هالِكٍ، ودَركًا
(8)
مِن كُلِّ فائتٍ، فباللّه فثقوا، وإيَّاهُ فارجوا، إنَّما
(1)
هو الإِمام الكبير جعفر بن محمد بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي، أبو عبد الله، الملقب بجعفر الصادق، من أجلاء التابعين، وله منزلة رفيعة في العلم، أخذ عنه جماعة، منهم الإمامان أبو حنيفة ومالك، ولقب بالصادق لأنَّه لم يُعرف عنه الكذب قط، له أخبار مع الخلفاء من بني العباس، وكان جريئًا عليهم صداعًا بالحق، مات سنة (148) هـ. (سير أعلام النبلاء 6/ 255 - 270).
(2)
هو محمد الباقر، محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد تقدمت ترجمته.
(3)
لفظة "لك" سقطت من (آ، ش).
(4)
لفظة: "كان" لم ترد في (آ).
(5)
في ب، ط:"ما أمرتني".
(6)
أي جاءت التعزية بصوت جبريل عليه السلام لأهل البيت.
(7)
سورة آل عمران: الآية 185.
(8)
الدَّرك: اللَّحَاقُ.
المُصابُ مَنْ حُرِمَ الثوابَ، والسلامُ عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه
(1)
.
وكانَتْ وفاته صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين في شهر ربيع الأوَّلِ بغيرِ خِلافٍ، وكان قَدْ كُشِفَ الستْرُ في ذلك اليومِ والناسُ في صَلاةِ الصُّبْحِ خَلْفَ أبي بكرٍ، فَهَمَّ المسلمونَ أن يُفْتَتَنُوا مِن فَرَحِهم برؤيَتِه صلى الله عليه وسلم، حينَ نظروا إلى وجههِ كأنه وَرَقَةُ مُصحفٍ، وظَنوا أنَّه يخرُجُ للصَّلاةِ، فأشار إليهم:"أنْ مكانَكُم"، ثم أَرْخَى السِّتْر.
وتوفي صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم، وظَن المسلمون أنَّه صلى الله عليه وسلم قَدْ بَرِئَ مِن مَرَضِهِ لمَّا أصبحَ يومَ الاثنين مفِيقًا، فخرَجَ أبو بكرٍ إلى منزِلِه بالسُّنحِ
(2)
خارجَ المدينةِ، فلما ارتفَعَ الضحَى مِن ذلك اليوم تُوفي رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وقيل: توفي حين زاغَتِ الشَّمْسُ. والأوَّل أصَحُّ، أنه
(3)
توفي حينَ اشتَدَّ الضُّحَى مِن يومِ الاثنينِ في مثلِ الوقتِ الذي دَخَلَ فيه المدينةَ حينَ هاجَرَ إليها.
واختلَفُوا في تعيينِ ذلك اليومِ مِن الشهرِ. فقيل: كان أوَّله. وقيل: ثانيه. وقيل: ثاني عشره. وقيل: ثالثَ عشره. وقيل: خامسَ عشره. والمشهورُ بينَ الناسِ أنه كان ثانِي عَشر ربيع الأوَّل
(4)
.
وقد رَدَّ ذلك السُّهيليُّ
(5)
وغيرُه، بأنَّ وَقْفةَ حَجَّةِ الوَدَاعِ في السَّنَةِ العاشِرةِ كانَتْ الجمعةَ، وكان أوَّلَ ذي الحجةِ فيها الخميسُ، ومتَى كانَ كذلكَ لم يَصِحَّ أن يكونَ يومُ الاثنين ثانِي عشرَ ربيع الأولِ، سواء حُسِبَتِ الشُّهورُ الثَّلاثةُ - أعني ذا الحجَّةِ ومحرمًا وصفرًا - كلها كامِلَةً أو ناقِصَة، أو بَعْضُها كامِلَة وبعضُها ناقِصَةً.
ولكن أجيبَ عن هذا بجوابٍ حَسَنٍ، وهو أن ابنَ إسحاقَ
(6)
ذَكَرَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
وهذا الحديث بطوله فيه انقطاع؛ فإن محمدًا الباقر والد جعفر الصادق، وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، تابعي، لم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ولا أبوه زين العابدين.
(2)
السُّنُحُ: إحدى محال المدينة، كان بها منزل أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، حين تزوَّج مليكة، وقيل: حبيبة بنت خارجة (معجم البلدان).
(3)
في ب، ع، ط:"وأنَّه".
(4)
لفظة: "الأول" سقطت من (آ).
(5)
انظر "الروض الأنف" 4/ 270، والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
(6)
انظر "السيرة النبوية" 2/ 652 - 654.
تُوفّي لاثنتي عشرةَ ليلةً من ربيع الأوَّل، وهذا مُمكِنٌ، فإنَّ العَرَب تُؤرِّخُ بالليالي دونَ الأيَّام، ولكن لا تؤرِّخ إلا بليلةٍ مَضى يومُها، فيكونُ اليوم تبعًا لليلةِ، وكل ليلةٍ لم يَمْضِ يومها لم يُعتدَّ بها، وكذلك إذا ذَكَرُوا اللياليَ في عددٍ فإنَّهم يُرِيدُون بها اللياليَ معَ أيامها، فإذا قالوا: عشر ليالٍ، فمرادُهم بأيَّامِها. ومن هنا تتبينُ
(1)
صحَّةُ قولِ الجُمهورِ في أن عدَّةَ الوفاةِ أربعةُ أشهرٍ وعشرُ ليال بأيَّامِها، وأنَّ اليومَ العاشِرَ من جملة تمامِ العدَّةِ، خِلَافًا للأوزاعيِّ
(2)
.
وكذلك قال الجمهُورُ في أشهُر الحجِّ: إنَّها شوَّالٌ وذو القَعْدَةِ وعَشْرٌ مِن ذي الحجَّةِ، وأنَّ يومَ النَّحرِ داخل فيها لهذا المعنى، خلافًا للشافِعي.
وحينئذٍ فيوم الاثنين الذي توفِي فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم كانَ ثالثَ عشرَ الشهرِ، لكنْ لمَّا لم يكُنْ يومُه قَدْ مَضى لم يُؤرَّخ بليلتِه، إنَّما أرَّخوا بليلةِ الأحَدِ ويومِها، وهو الثاني عشَرَ، فلذلك قال ابنُ إسحاقَ: توفي لاثنتيْ عشرَةَ ليلةً مَضَتْ مِن ربيع الأوَّلِ. والله أعلم.
واختلَفوا في وقتِ دفنِه: فقيل: دُفِنَ من ساعتِه، وفيهِ بُعْدٌ. وقيلَ: من ليلةِ الثلاثاء. وقيل: يومَ الثلاثاء. وقيل: ليلة الأربعاء.
ولمَّا توفي صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون؛ فمنهم مَنْ دُهِشَ فَخُولطَ؛ ومنهم مَنْ أُقعِدَ فلم يُطِقِ القِيامَ؛ ومنهم مَن اعتُقِلَ لسانُه فلم يُطِقِ الكلامَ، ومنهم مَن أنكَرَ موتَهُ بالكُليَّةِ، وقال: إنَّما بُعثَ إليه كما بُعِثَ إلى موسى، وكان مِن هؤلاء عُمَرُ، وبلَغَ الخبرُ أبا بكرٍ، فأقبَلَ مُسْرِعًا حتَّى دَخَلَ بيتَ عائِشةَ ورسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مُسجًّى، فكَشَفَ عن وجهِهِ الثَّوْبَ وأكبَّ عليه، وقبَّلَ وجهَهُ
(3)
مرارًا وهو يبكِي، وهو يقولُ: وا نبيَّاه! وا خليلاه! وا صفياه! وقال: إنا للّه وإنا إليه راجعون، ماتَ واللّهِ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم. وقال: واللّهِ لا يجمَعُ اللّه عليكَ مَوْتَتينِ، أمَّا الموتةُ التي كتبت
(4)
عليكَ فَقَدْ مُتَّها.
(1)
في ع، ش، ط:"يتبين".
(2)
هو عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمِد الأوزاعي، أبو عمرو، إمام الديار الشامية في الفقه والزهد، وأحد الكتاب المترسلين. مات سنة 157 هـ.
(3)
في ب، ع، ط:"جبهته".
(4)
في ط: "كتب الله"، وفي ب:"كتبها الله".
ثمَّ دَخَلَ المسجِدَ وعُمَرُ يكلِّمُ الناسَ، وهم مجتمِعُونَ عليه، فتكلَّمَ أبو بكرٍ وتشهَّدَ، وحمِدَ الله، فأقبَلَ الناسُ إليه، وتَرَكُوا عُمَرَ. فقال: مَنْ كانَ يعبُدُ محمَّدًا فمن محمَّدًا قَدْ مَاتَ، ومَنْ كان يعبُدُ الله، فإن اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوت، وتلا:{وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولْ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل أفإن مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابكُمْ}
(1)
الآية. فاستيقَنَ الناسُ كلُّهم بموتهِ وكأنَّهُم لم يَسْمَعُوا هذه الآيةَ مِن قبلِ أَن يَتلُوها أبو بكرٍ، فتلقَّاها النَّاسُ منه، فما يُسْمَعُ أحدٌ إلَّا يَتْلُوها.
وقالَتْ فاطمة عليها السلام: يا أبتاه! أجابَ ربًّا دعاهْ. يا أبتاه! جَنة الفردوسِ مأْواهْ. يا أبتاه! إلى جبريلَ أنعاهْ. يا أبتاه! مِن رَبِّه ما أدناهْ. وعاشَتْ بعدَهُ ستةَ أشْهُرٍ، فما ضَحِكَتْ في
(2)
تلك المدَّةِ، وحُقَّ لها ذلك.
على مِثْلِ ليلَى يَقْتُل المرءُ نَفْسَه
…
وإنْ كانَ مِنْ لَيْلَى عَلَى الهَجْرِ طَاوِيا
كلُّ المصائب تهونُ عندَ هذه المصيبةِ.
في "سنن ابن ماجه" أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرضِهِ: "يا أيها
(3)
الناسُ! إنْ
(4)
أحَدٌ مِنَ الناسِ، أو من المؤمنينَ أُصِيبَ بمصيبةٍ، فليتَعزَّ بمصيبتِهِ بي عن المصيبة التي تصيبُه بغيرِي، فإن أحدًا مِن أمتِي لَنْ يُصَابَ بمصيبةٍ بَعْدِي أشدّ عليهِ مِن مصِيبتِي"
(5)
.
قال أبو الجوزاءِ
(6)
: كانَ الرَّجلُ مِن أهلِ المدينة إذا أصابَتْهُ مُصِيبَة جاءَ أخُوه فصافَحَهُ، ويقول: يا عبدَ الله! ثِقْ باللَّهِ
(7)
، فإن في رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أسوَةً حَسَنَةً.
اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ
…
واعْلَمْ بأن المَرْءَ غَير مُخَلَّدِ
واصْبِرْ كما صَبَرَ الكِرامُ فإنَّها
…
نُوَبٌ تَنُوبُ اليومَ تُكْشَفُ في غَدِ
(8)
(1)
سورة آل عمران، الآية:(144) وتتمتها: {ومن ينقلِبْ على عَقِبيْهِ فلن يضُر الله شيئًا، وسيجزي الله الشاكرين} .
(2)
لفظة "في" لم ترد في (آ).
(3)
في آ، ش، ع:"أيها الناس"، وما جاء في (ب، ط) موافق لسنن ابن ماجه.
(4)
في سنن ابن ماجه: "أيُّما".
(5)
رواه ابن ماجه رقم (1599) في الجنائز، باب: ما جاء في الصبر على المصيبة، وإسناده ضعيف.
(6)
هو أوس بن عبد الله الرَّبعي، أبو الجوزاء البصريُّ، ثقة. حكى البخاري أنه قتل في الجماجم سنة (83 هـ).
(7)
في ب، ش، ع، ط:"اتق الله".
(8)
النُّوَبُ: النوائب، جمع نائبة، وهي المصيبة.
وإذا أَتَتْكَ مُصِيبَةٌ تُشْجَى بِها
(1)
…
فاذْكُرْ مُصَابَكَ بالنَّبيِّ مُحَمَّدِ
ولبعضهم
(2)
:
تَذَكَّرْتُ لَمَّا فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا
…
فَعزَّيْتُ نَفْسِي بالنبِي مُحَمَّدِ
وَقُلْتُ لَها إن المنَايا سَبِيلُنا
…
فَمَنْ لَمْ يَمُتْ في يَوْمِهِ ماتَ في غَدِ
كانت الجماداتُ تتصدَّعُ مِن ألم مفارقةِ الرَّسُولِ، فكيفَ بقلوبِ المؤمنينَ؟!.
لما فقدَه الجِذْعُ الذي كان يخطُبُ إليه قَبْلَ اتِّخَاذِ المِنْبَرِ حَنَّ إليه، وصَاحَ كما يَصِيحُ الصَّبِيُّ، فَنَزلَ إليه فاعْتَنَقهُ، فجَعَلَ يُهدَّى كما يُهدَّى
(3)
الصَّبِيُّ الذي يُسَكَّنُ عندَ بكائِه، فقال:"لو لم أعتنِقْهُ لَحَنَّ إلى يومِ القيامةِ"
(4)
.
كان الحسنُ إذا حَدَّثَ بهذا الحديثِ بَكَى، وقال: هذهِ خَشَبَة تَحِنُّ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأَنْتُمْ أحقُّ أَنْ تَشْتَاقُوا إليه. ورُوِي أن بلالًا كان يُؤذنُ بعدَ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قبلَ دفنِه، فإذا قال: أشهدُ أن محمَّدًا رسولُ اللهِ، ارتجَّ المسجِدُ بالبُكاءِ والنَّحِيبِ، فلمَّا دُفِنَ تَرَكَ بلال الأذانَ.
ما أمَرَّ عَيْشَ من فَارقَ الأحباب، خصوصًا مَنْ كانَتْ رُؤيتُه حياةَ الألباب.
لو ذَاقَ طَعْم الفِراق رَضْوَى
…
تكَادَ مِنْ وَجْدِهِ يَمِيدُ
قَدْ حَمَّلُوني عَذَابَ شَوْقٍ
…
يَعْجِزُ عَنْ حَمْله الحَدِيدُ
لمَّا دُفِنَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، قالَتْ فاطمةُ: كيفَ طابَتْ أنفسُكُم أن تحثُوا على
(1)
تُشْجَى: تحزن.
(2)
في (آ): "غيره".
(3)
أي يُهدأ، فأسقط الهمزة.
(4)
رواه بهذا اللفظ أحمد في "المسند" 1/ 249 و 267 و 363 من حديث عبد الله بن عبَّاس، رضي الله عنهما. ورواه أيضًا بنحوه أحمد في "المسند" 3/ 293 و 295 و 306 و 324؛ والبخاري رقم (3584) و (3585) في المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، والنسائي 3/ 102 في الجمعة، باب: مقام الإِمام في الخطبة من حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما. ورواه أيضًا بنحوه أحمد في "المسند" 3/ 226، والترمذي رقم (3627) في المناقب، باب: رقم (6) من حديث أنس بن مالك، رضي الله عنه. ورواه أيضا بنحوه أحمد في "المسند" 5/ 139؛ والبخاري رقم (3583) في المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو حديث صحيح.
رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم التراب
(1)
؟. قال أنس: لمَّا كانَ اليومُ الذي دَخَلَ فيه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ أضاءَ منها كل شيء، فلمَّا كانَ اليومُ الذي دُفِنَ فيهِ أَظْلَمَ منها كُل شيءٍ، وما نَفَضْنَا أيدينا عَن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
، وإنَّا لفِي دَفْنِهِ حتى أَنكَرْنَا قُلُوبَنا.
لِيَبْكِ رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ باكيًا
…
فلا تَنْسَ قَبْرًا بالمدينةِ ثَاويَا
جَزَى اللهُ عنَّا كُلَّ خَيْرٍ مُحمَّدًا
…
فَقَدْ كانَ مَهدِيًّا وقَدْ كانَ هَادِيا
وكانَ رَسُولُ اللهِ رُوحًا ورَحْمَةً
…
وَنُورًا وبُرهانًا مِنَ اللَّهِ بادِيا
وكانَ رَسُولُ اللَّهِ بالخيرِ آمِرًا
…
وكانَ عَنِ الفَحْشَاءِ والسُّوءِ ناهِيا
وكانَ رَسُولُ اللهِ بالقِسْطِ قائمًا
(3)
…
وكان لِمَا اسْتَرْعَاهُ مَوْلَاهُ رَاعِيا
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَدْعُو إلى الهُدَى
…
فَلَبَّى رَسُولُ اللهِ لَبَّيْهِ داعِيا
أيُنْسَى أبَرُّ الناس بالنَّاسِ كُلِّهِم
…
وأَكْرَمُهُمْ بيتًا وشِعْبًا ووادِيا
أيُنْسَى رسولُ اللَّهِ أكرمُ مَنْ مَشَى
…
وآثارُهُ بالمَسْجِدَيْنِ كما هِيَا
تَكَدَّرَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
…
عليه سَلامُ كُلِّ ما كانَ صافِيا
(4)
رَكَنَّا إلى الدُّنيا الدَّنِيَّةِ بعدَهُ
…
وكَشَّفَتِ الأطْمَاعُ مِنَّا مَسَاوِيا
وكَمْ مِن مَنَارٍ كانَ أوْضَحَهُ لَنَا
…
ومِنْ عَلَم أَمْسَى وأصْبَحَ عافِيا
(5)
إذا المرءُ لم يلبَسْ ثِيابًا مِنَ التُّقَى
…
تقلَّبَ عُريانًا وإن كان كاسِيا
وخيرُ خِصالِ المرءِ طاعَةُ ربِّهِ
…
ولا خَيْرَ فيمَنْ كانَ للَّهِ عاصِيا
* * *
(1)
في ب، ط:"أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(2)
في ب، ط:"وما نفضنا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم التراب". وفي ع: "وما نفضنا التراب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(3)
القِسْطُ: العَدْلُ.
(4)
في آ: "عليه سلام الله ما كان صافيا".
(5)
العَلَم: العَلَامة، والجبل. وأراد به هنا ما يقتدى به. والعافي: الدارس.
وظيفة شهر رجب
خرجا في "الصحيحين"
(1)
من حديث أبي بَكْرَةَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خَطَبَ في حجَّةِ الوداعِ فقال في خُطبتِهِ: "إنَّ الزَّمانَ قد اسْتَدارَ كهيئتِهِ يومَ خَلَقَ الله السَّماواتِ والأرْضَ، السَّنةُ اثنا عشَرَ شهرًا؛ منها أربعة حرمٌ: ثلاثة متواليات: ذو القَعْدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمحرمُ، ورَجَبُ
(2)
مُضَرَ الذي بين جُمادَى وشَعبانَ" وذكَرَ الحديثَ. قال الله عز وجل: {إنَّ عِدَّةَ الشُهورِ عندَ اللَّهِ اثنَا عَشَرَ شَهْرًا في كِتاب اللّهِ يومَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ مِنها أَرْبَعَة حُرُمٌ ذلِكَ الدِّين القَيمُ فَلَا تَظْلِمُوا فيهِنَّ أنْفُسَكُمْ}
(3)
، فأَخبَرَ سبحانَه أنَّه مُنْذُ خلَقَ السَّماواتِ والأرضَ وخلَقَ اللّيلَ والنهارَ يَدُورانِ في الفلكِ، وخلَقَ ما في الماءِ من الشَّمسِ والقمرِ والنجومِ، وجعَلَ الشَّمسَ والقمَرَ يَسبحانِ في الفلكِ، فينشأ
(4)
منهما ظلمةُ اللَّيلِ وبياضُ النَّهارِ؛ فمِنْ حينئذٍ جَعَلَ السَّنةَ اثني عشر شهرًا بحسبِ الهلالِ.
فالسنةُ في الشرع مُقدَّرةٌ بسيرِ القمر وطلوعِهِ، لا بِسيرِ الشمسِ وانتقالِها، كما يَفعلُه أهلُ الكتابِ.
(1)
أخرجه البخاري رقم (1741) في الحج، باب الخطبة أيام منى، و (5520) في الأضاحي، باب من قال: الأضحى يوم النحر، و (4662) في التفسير، باب تفسير سورة براءة، و (3197) في بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين. وأخرجه مسلم رقم (1679) في القسامة، باب تحريم الدماء؛ وأبو داود رقم (1947) في الحج، باب الأشهر الحرم.
(2)
رَجَبٌ: شهر سموه بذلك لتعظيمهم إيَّاه في الجاهلية عن القتال فيه، ولا يستحلّون القتال فيه. وقوله:"بين جمادى وشعبان"، تأكيد للبيان وإيضاح له؛ لأنهم كانوا يؤخرونه من شهر إلى شهر، فبيَّن لهم أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا ما كانوا يسمون على حساب النسيء. وإنما قيل: رَجَبُ مُضرَ، إضافة إلى قبيلة مُضرَ؛ لأنهم كانوا أشدّ تعظيمًا له من غيرهم، فكأنهم اختصوا به. (اللسان: رجب) وسيأتي المؤلف على شرح ذلك.
(3)
سورة التوبة الآية 36.
(4)
في ع: "تنشأ"، وفي ط:"وينشأ".
وجَعَلَ اللهُ تعالى مِن هذه الأشهرِ أربعةَ أشهرٍ حُرُمًا، وقد فَسَّرَها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ، وذكَرَ أنَّهَا ثلاثةٌ متوالياتٌ؛ ذو القَعْدَةِ، وذو الحِجَّةِ، والمُحرمُ، وواحدٌ فردٌ، وهو شهرُ رَجَب. وهذا قد يَستدلُّ به مَن يقولُ: إنها من سنتين. وقد رُوي من حديث ابن عُمَرَ مرفوعًا: "أولُهُنَّ رَجَبٌ"، وفي إسناده موسى بن عُبيدة
(1)
، وفيه ضعفٌ شديدٌ من قِبَلِ حِفْظِهِ. وقد حُكي عن أهلِ المدينة أنهم جَعلوها من سنتينِ، وأنَّ أوَّلَها ذو القَعْدَةِ، ثم ذو الحِجَّةِ، ثم المُحرمُ، ثم رجَبٌ، فيكونُ رَجَبٌ آخرَها.
وعن بعض المدنيين أن أوَّلَها رَجَبٌ، ثم ذو القَعْدَةِ، ثم ذو الحِجَّةِ [ثم المُحَرَّمُ. وعن بعضِ أهلِ الكوفة أنها من سنةٍ واحدةٍ؛ أَوَّلُها المُحرمُ، ثم رَجَبٌ، ثم ذو القَعْدَةِ، ثم ذو الحِجَّةِ]
(2)
. واختُلِفَ في أيِّ هذه الأشهر الحُرمِ أفضلُ؛ فقيل: رجبٌ، قاله بعضُ الشافعية، وضعَّفَه النوَوي وغيرُه. وقيل: المُحَرمُ، قاله الحسنُ، ورجَّحَه النَّوَوِيُّ. وقيل: ذو الحِجَّةِ، رُوي عن سعيد بن جبير وغيرِه، وهو أظهرُ، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمانَ قد اسْتَدَارَ كهيئَتِه يومَ خَلَقَ الله السَّماواتِ والأرضَ، السنةُ اثنا عَشَرَ شهرًا" مُرادُه بذلك إبطالُ ما كانتِ الجاهليةُ تفعلُه من النَّسيء، كما قال تعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ}
(3)
. وقد اختُلِفَ في تفسيرِ النسيء، فقالت طائفة: كانوا يُبدلُون بعضَ الأشهرِ الحُرمِ بغيرِها مِنَ الأشهرِ، فيحرمُونَها بدلَها، ويُحلون ما أرادُوا تحليلَه مِن الأشهرِ الحُرم إذا احْتاجُوا إلى ذلك، ولكن لا يَزيدُون في عَددِ الأشهرِ الهلاليةِ شيئًا. ثم مِن أهلِ هَذه المقالةِ مَنْ قالَ: كانوا يُحلُّونَ المُحرمَ فيَسْتَحِلونَ القِتالَ فيه؛ لطولِ مدَّةِ التحريم عليهم بتوالي ثلاثة أشهرٍ مُحرمةٍ، ثم يُحرمونَ صَفَرَ مَكانَهُ، فكأنهُم يقترِضُونَه ثم يُوفونَه. ومنهم مَن قال: كانوا يُحلونَ
(1)
في آ، ع:"موسى بن عبدة"، وهو تحريف. وهو موسى بن عُبيدة، ابن نَشيط، الرَّبَذي، أبو عبد العزيز المدني، ضعيف، وكان عابدًا، مات سنة 153 هـ. (التقريب).
(2)
ما بين قوسين ساقط في (آ).
(3)
سورة التوبة الآية 37.
المُحرَّم مَعَ صَفَرَ مِن عامٍ ويُسمُّونَهما صَفَرينِ، ثم يحرِّمُونهما مِن عامٍ قابلٍ ويسمُّونَهما محرمين، قاله ابن زيد بن أسلم
(1)
.
وقيل: بل كانوا رُبَّما احْتَاجُوا إلى صَفَرَ أيضًا فأحَلُّوه وجَعَلوا مكانَه ربيعًا، ثمَّ يَدورُ كذلك التحريمُ والتَّحليلُ والتأخير
(2)
، إلى أن جاء الإِسلامُ ووافَقَ حجَّةَ الودَاعِ، صارَ رجوعُ التَّحريمِ إلى مُحرَّم الحقيقيّ، وهذا هو الذي رَجَّحَه أبو عبيد، وعلى هذا فالتَّغييرُ إنما وَقَعَ في عَيْنِ الأشهُرِ الحُرُمِ خاصةً. وقالت طائفة أخرى: بَلْ كانوا يَزِيدون في عددِ شهورِ السَّنَةِ، وظاهِرُ الآية يُشعِرُ بذلك، حيث قال الله تعالى:{إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عندَ اللهِ اثنا عَشَرَ شَهْرًا}
(3)
فذكَرَ هذا توطئةً لِهَدْمِ النَّسِيءِ وإبطالِهِ.
ثم مِن هؤلاءِ مَنْ قال: كانوا يَجعلُون السَّنَةَ ثلاثَةَ عَشَرَ شهرًا، قاله مجاهد وأبو مالك؛ قال أبو مالك: كانوا يَجعلون السَّنَةَ ثلاثَةَ عَشَرَ شهرًا، ويجعلون المُحَرمَ صَفَرًا. وقال مجاهد: كانوا يُسقِطون المُحرَّمَ، ثم يَقولون: صَفَرينِ، لصفَرَ وربيع الأوَّل وربيع الآخر، ثم يقولون:[شهرا ربيعٍ، ثم يقولون]
(4)
لرمضان شعبانُ، ولشوال رمضانُ، ولذِي القَعْدَةِ شوالٌ، ولذِي الحِجَّةِ ذو القَعْدَة، على وجهِ ما ابتدأوا. وللمحرمِ ذو الحِجَّة، فيَعدُّون ما ناسؤوا على مستقبله، على وجه ما ابتدأوا.
وعنه
(5)
قال: كانت الجاهلية يَحجُّون في كلِّ شهرٍ مِن شهورِ السَّنةِ عامينِ، فوافَقَ حجُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ذي الحِجَّةِ، فقال: "هذا يومٌ اسْتدَار الزَّمانُ كهيئته يومَ خَلَقَ اللّهُ السَّماواتِ والأرضَ.
ومن هؤلاء مَن قال: كانت الجاهلية يجعلونَ الشهور
(6)
اثني عشَرَ شهرًا وخمسةَ
(1)
بعدها في ط وهامش (ب) ما نصه: "وهو ضعيف، وزيد بن أسلم ثقة، وهو من رجال الصحيح". قلت: وهما: زيد بن أسلم العدوي، مولى عمر، أبو عبد اللّه، أو أبو أسامة، المدني، ثقة عالم. روى له الجماعة، مات سنة 136 هـ. (التقريب) وابنه: أسامة بن زيد بن أسلم العدوي، ضعيف من قبل حفظه، مات في خلافة أبي جعفر المنصور. (التقريب).
(2)
في آ: "بالتأخير".
(3)
سورة التوبة الآية 36.
(4)
ما بين قوسين سقط من (آ).
(5)
أي عن مجاهد.
(6)
في آ: "الأشهر".
أيام، قاله إياسُ بن مُعاوَية
(1)
. وهذا العدد
(2)
قريبٌ من عددِ السَّنَةِ الرُّوميَّةِ، ولهذا جاء في مراسِيل عِكْرِمَةَ بن خالد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال في خطبته يومَ النَّحرِ
(3)
: "والشهرُ هكذا وهكذا وهكذا، وخَنَسَ
(4)
إبهامَه في الثالثة
(5)
، وهكذا وهكذا وهكذا، يعني ثلاثين
(6)
، فأشارَ إلى أن الشَّهر هلالِيٌّ.
ثم تارةً ينقُصُ وتارةً يتِمُّ، ولعلَّ أهلَ النَّسِيء كانوا يُتِمُّون الشُّهور كلَّها، وَيزيدون عليها، واللّه أعلم.
وقد قيل: إن ربيعةَ ومُضَرَ كانوا يُحرِّمُون أربعةَ أشهرٍ مِنَ السنةِ مع اختلافِهِم في تعيينِ رجبٍ منها، كما سنذكرُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ تعالى. وكانت بَنُو عَوْف بن لُؤيّ يُحرِّمون مِن السَّنة ثَمانيةَ أشهرٍ، وهذا مُبالغةٌ في الزيادة على ما حرَّمه اللّه.
واخْتَلَفُوا في أيِّ عامٍ عاد الحجُّ إلى ذي الحِجَّةِ على وجهِهِ، واسْتَدَار الزَّمان فيه كهيئتِهِ؛ فقالت طائفة: إنما عادَ على وجهِهِ في حجَّةِ الوداع. وأمَّا حجَةُ أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، فكانت قد وقعت في ذي القَعْدَةِ، هذا قولُ مجاهد وعِكْرِمَةَ بن خالد وغيرِهما. وقيل: إنَّه اجْتَمَعَ في ذلك العامِ حجُّ الأممِ كلِّها في وقتٍ واحدٍ، فلذاك سُمِّيَ يومَ الحجِّ الأكبرِ.
وقالت طائفة: بل وَقَعَتْ حجَّةُ الصِّدِّيق في ذي الحِجّةِ؛ قاله الإمامُ أحمد، وأنكَرَ قولَ مجاهد، واستدَلَّ بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ عليًّا فنادَى يومَ النَّحْرِ:"لا يحجُّ بعدَ العامِ مُشْرِكٌ"
(7)
. وفي روايةٍ: "واليومُ يومُ الحَجِّ الأكبرِ". وقد قال الله تعالى:
(1)
إياس بن معاوية بن قُرَّة المزني، أبو واثلة، قاضي البصرة، ولجدِّه صحبة. أحد أعاجيب الدهر في الفطنة والذكاء، يضرب المثل بذكائه، مات سنة 122 هـ.
(2)
في آ: "القدر".
(3)
يوم النَّحر: عاشر ذي الحجة، يومُ الأضحى؛ لأن البُدْن تُنْحَرُ فيه.
(4)
في ع: "وحبس"، وهي رواية.
(5)
في صحيح مسلم: "وعقد الإبهام في الثالثة".
(6)
الحديث أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي عن ابن عمر، وانظر رواياته في "جامع الأصول" 6/ 279 - 281.
(7)
أخرجه البخاري ردم (369) في الصلاة: باب ما يسترُ من العورة، وفي الحج: باب لا يطوف بالبيت عريان، وفي الجهاد: باب كيف ينبذ إلى أهل العهد، وفي المغازي: باب حج أبي بكر بالناس، وفي تفسير سورة براءة: باب قوله: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} ، وباب قوله:{وأذان من الله ورسوله} ، وباب قوله: {إلا الذين عاهدتم من =
(1)
. فسمَّاهُ يومَ الحَجِّ الأكبرِ، وهذا يَدُل على أن النِّداءَ وَقَعَ في ذي الحِجَّةِ.
وخرَّج الطبرَانيُّ في "أوسطِه"
(2)
من حديث عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، قال: كان العربُ يُحِلُّونَ عامًا شهرًا، وعامًا شهرين، ولا يُصيبونَ الحجَّ إلَّا في كلِّ ستةٍ وعشرينَ سنةً مرةً واحدةً
(3)
، وهو النَّسيء الذي ذكَرَه اللّهُ في كتابه، فلما كان عام حَجّ أبو بكر الصَدِّيقُ بالنَّاسِ، وافَقَ في ذلك العامِ الحجَّ؛ فسمَّاه اللّهُ يومَ الحَجِّ الأكبرِ.
ثمَّ حَجَّ النبي صلى الله عليه وسلم في العامِ المُقْبِلِ، فاستقبَلَ النَّاسُ الأهِلَّةَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إن الزَّمانَ قد اسْتَدَارَ كهيئَتِهِ يومَ خَلَقَ اللّهُ السماواتِ والأرْضَ". وقيل: بل استدارةُ الزَّمانِ كهيئَتِهِ كان مِن عامِ الفتح.
وخرَّج البزارُ في "مسندِه"
(4)
من حديث سَمُرةَ بن جُنْدَب أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم، قال لهم يومَ الفتح: "إنَّ هذا العامَ الحجُّ الأكبر، قد اجتمعَ حَجُّ المسلمين وحَجُّ المشركين في ثلاثةِ أيامٍ متتابعاتٍ، واجتمَعَ حَجُّ اليهودِ والنَّصَارَى في ستَّةِ أيامٍ متتابعاتٍ، ولم يجتمعْ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ والأرض، ولا يجتمعُ بعدَ العامِ حتَّى تقومَ السَّاعةُ.
وفي إسنادِه يوسُفَ السَّمْتِيُّ
(5)
، وهو ضعيفٌ جدًّا. واختلفوا لِمَ سُمِّيَتْ هذه الأشهر الأربعةُ حُرُمًا.
= المشركين}. وأخرجه مسلم رقم (1347) باب لا يحج البيت مشرك؛ وأبو داود رقم (1946)، وإسناده صحيح، والنسائي 5/ 234 وإسناده صحيح. وانظر رواياته وتخريجه في "جامع الأصول" 2/ 152 - 155.
(1)
سورة التوبة الآية 3.
(2)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 29 وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات".
(3)
لفظ "واحدة" لم يرد في آ، ش، ع، ومجمع الزوائد.
(4)
أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 178 وقال في آخره: "رواه البزار، وفيه يوسف بن خالد السمتي، وهو ضعيف".
(5)
كان فقيهًا، وروى عن عاصم الأحول، وإسماعيل بن أبي خالد. وعنه نصر بن علي، وزيد بن الحريش، وجماعة. كذبه يحيى بن معين، وضعفه ابن سعد، وقال: كان بصيرًا بالرأي والفتوى وكان ضعيفًا. وقال أبو حاتم: رأيت له كتابًا وضعه في التجهّم ينكر فيه الميزان والقيامة. وقال النَّسَائِي: ليس بثقة. (الميزان 4/ 463).
فقيل: لعظمِ حُرمتِها وحُرمةِ الذَّنْبِ فيها.
قال علي بن أبي طلحةَ، عن ابن عباسٍ: اختص اللهُ أربعَةَ أشهرٍ جعلَهنَّ حُرمًا، وعظَّمَ حُرماتِهِنَّ، وجعَلَ الذَّنْبَ فيهنَّ أعظَمَ، وجعَلَ العملَ الصالحَ والأجرَ أعظَمَ. قال كعبٌ: اختارَ اللّهُ الزمانَ، فأحبُّهُ إلى اللّه الأشهر الحُرم. وقد رُوِيَ مرفوعًا، ولا يصِحُّ رفعُه. وقد قيل في قوله تعالى:{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهن أَنْفُسَكمْ}
(1)
: إن المرادَ في الأشهرِ الحُرم. وقيل: بل في جميعِ شهور السَّنةِ. وقيل: إنَّما سمِّيتْ حُرمًا لتحريم القتالِ فيها، وكان ذلك معروفًا في الجاهلية. وقيل: إنَّه كان في
(2)
عهدِ إبراهيمَ عليه السلام. وقيل: إن سبَبَ تحريمِ هذه الأشهرِ الأربعة بينَ العربِ لأجل التمكُّنِ مِنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ. فحُرِّمَ شهرُ ذي الحِجَّةِ؛ لوقوع الحجّ فيه. وحُرِّمَ معه شهرُ ذي القَعْدَةِ؛ للسَّيْرِ فيه إلى الحجِّ. وشهرُ المحرَّمِ؛ للرجوعِ فيه مِن الحجّ، حتى يأمَنَ الحاجُّ على نفسِهِ مِن حين يخرجُ من بيتِه إلى أن يرجعَ إليه. وحرِّمَ شهرُ رَجَبٍ، للاعتمارِ فيه في وسطِ السنَةِ، فيعتمِر فيه مَنْ كانَ قريبًا من مَكَّةَ.
وقد شرَعَ اللّهُ في أوَّلِ الإِسلام تحريمَ القتالِ في الشهر الحرام، قال تعالى:{لا تُحِلُّوا شَعَائرَ اللّه وَلَا الشَّهْرَ الحَرَامَ}
(3)
(4)
.
وخرَّج ابن أبي حاتم
(5)
بإسنادِه عن جُنْدُبِ بن عبد الله أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَهطًا وبَعثَ عليهم عبدَ اللّهِ بنَ جَحْشٍ، فلوا ابنَ الحَضرمي فقتلُوه، ولم يَدْرُوا أنَّ ذلك مِن رجبٍ أو من جُمادَى، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأنزَلَ الله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَال فيهِ قُلْ قِتالٌ فيهِ كَبيرٌ}
(6)
الآية.
(1)
سورة التوبة الآية 36.
(2)
في آ، ط:"من عهد".
(3)
سورة المائدة الآية 2.
(4)
سورة البقرة الآية 217.
(5)
أخرجه ابن كثير في "تفسيره" 1/ 252 عن ابن أبي حاتم، وانظر سيرة ابن هشام 1/ 601 - 606، وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص 48 - 50 وأخرجه أيضًا البيهقي في "السنن" 9/ 11 عن جندب، وفي 9/ 12 عن عروة بن الزبير، بلفظ "بعث سرية".
(6)
سورة البقرة الآية 217.
ورَوَى السُّدِّيُّ عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مُرة، عن ابن مسعودٍ في هذه الآية، فذكروا هذه القصةَ مبسوطةً، وقالوا فيها: فقال المشركون. يزعمُ محمد أنَّه يتبعُ طاعةَ اللَّهِ وهو أوَّلُ مَن استحلَّ الشهرَ الحَرَامَ، فقال المسلمون: إنما قتلناه في جُمَادَى.
وقيل: في أولِ رَجَبٍ وآخِرِ ليلةٍ مِن جُمَادَى، وغَمَدَ المسلمونَ سيوفَهم حين دَخَلَ شهرُ رَجَبٍ، وأنزَلَ اللهُ تعالى تعييرًا لأهلِ مكةَ {يَسْأَلونَكَ عَن الشهرِ الحَرَامِ قِتال فيه قُلْ قِتالٌ فيهِ كَبير} لا يحلُّ، وما صنعتم أنتم يا معشرَ المشركين أكبرُ مِن القَتْلِ في الشهرِ الحرام، حين كفرتم باللَّهِ، وصددْتُم عن محمَّدٍ وأصحابِه. وإخراجُ أهلِ المسجدِ الحرامِ حَينَ أَخْرَجُوا منه محمدًا صلى الله عليه وسلم أكبَرُ مِنَ القتلِ عندَ اللَّهِ
(1)
.
وقد رُوي عن ابن عباس هذا المعنى من رواية العوفي عنه، ومِن رواية أبي سعد البقال
(2)
، عن عكرمة، عنه
(3)
.
ومن رواية الكلبي، عن أبي صالح، عنه
(4)
.
وذكر ابنُ إسحاق
(5)
أن ذلك كان في آخر يوم من رجب، وأنهم خافوا إنْ أخَّرُوا القِتالَ أن يسبقَهم المشركونَ فيدخلوا الحرَمَ فيأْمَنُوا.
وأنَّهم لمَّا قدمُوا على النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ما أمرتُكُم بالقتال
(6)
في الشهر الحرامِ، ولم يأخذْ مِن غنيمتهم شيئًا
(7)
. وقالت قريش: قد استحل محمَّدٌ وأصحابهُ الشهرَ الحرامَ. فقال مَن بمكةَ من المسلمين: إنما قَتَلُوهم في شعبانَ
(8)
.
فلمَّا أكثَرَ النَّاسُ في ذلك نَزَل قولُه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَن الشهرِ الحَرَامِ قِتالٍ فيهِ} ، الآية.
(1)
انظر تفسير ابن كثير 1/ 252 - 253.
(2)
هو سعيد بن المرزبان البقال، مولى حذيفة بن اليمان، يروي عن أنس بن مالك. كثير الوهم، ضعفه ابن معين. مات سنة 140 هـ.
(3)
تفسير ابن كثير 1/ 253.
(4)
تفسير ابن كثير 1/ 253.
(5)
سيرة ابن هشام 1/ 603.
(6)
لفظة "بالقتال" سقطت من (ط).
(7)
انظر سيرة ابن هشام 1/ 603.
(8)
سيرة ابن هشام 1/ 604.
ورُوِي نحو هذا السياقِ عن عروةَ، والزُّهريّ وغيرهما. وقيل: إنَّها كانت أول غنيمةٍ غنِمَها المسلمون
(1)
. وقال عبد الله بن جحش في ذلك، وقيل: إنها لأبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه
(2)
:
تَعُدُّونَ قتلًا في الحَرَامِ عظيمةً
…
وأَعْظَمُ منه لو يَرى الرشْدَ رَاشِدُ
صدودُكُمُ عمَّا يقولُ محمدٌ
…
وكُفْرٌ بهِ واللهُ راءٍ وشاهدُ
وَإخْراجُكُم من مسجدِ اللهِ أهلَهُ
…
لِئلَّا يُرَى لله في البَيْتِ ساجِدُ
في أبيات أخر.
وقد اختلفَ العلماءُ في
حكم القتالِ في الأشهرِ الحُرُمِ،
هل تحريمُهُ باقٍ أَمْ نُسِخَ؛ فالجمهورُ على أنه نُسِخَ تحريمُه، ونصَّ على نسخِهِ الإمامُ أحمدُ وغيرُه مِن الأئمة. وذهب طائفةٌ مِن السَّلَف، منهم عطاءٌ، إلى بقاءِ تحريمِهِ، ورجّحَهُ بعضُ المتأخِّرينَ واستدَلُّوا بآية المائدةِ
(3)
، والمائدةُ مِن آخرِ ما نَزَلَ من القرآنِ
(4)
. وقد رُوِي: "أحِلُّوا حَلَالَها وحرِّمُوا حَرَامَها"
(5)
.
وقيل: ليس فيها منسوخٌ
(6)
. وفي "المسند" أن عائشةَ رضي الله عنها، قالت:"هي آخرُ سورةٍ نزلَتْ، فما وجدتُم فيها من حلال فاسْتحِلوه، وما وجدْتم فيها مِن حرام فحرمُوه"
(7)
. ورَوَى الإمامُ أحمد في "مسنده": حدثنا إسحاقُ بن عيسى، حدثنا ليثُ بن سعد، عن أبي الزُّبير، عن جابر، قال: "لم يكن رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغزُو في الشهرِ الحرامِ إلَّا أن يُغْزَى وَيغزو
(8)
، فإذا حضرَهُ أقامَ حتَّى ينسلخَ"
(9)
.
(1)
سيرة ابن هشام 1/ 605.
(2)
انظر سيرة ابن هشام 1/ 605 وهي ستة أبيات. وقد رجح ابن هشام نسبتها إلى عبد الله بن جحش.
(3)
سورة المائدة الآية 2 في قوله تعالى: {ولا الشهر الحرام} ، يعني لا تستحلوا القتال فيه. وانظر تفسير ابن كثير 2/ 4.
(4)
قال أبو ميسرة: المائدة من آخر ما نزل، ليس فيها منسوخ، وفيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها. (تفسير القرطبي 6/ 30).
(5)
أخرج القرطبي في "تفسيره" 6/ 31 أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع. وقال: "يا أيها الناس! إن سورة المائدة من آخر ما نزل، فحلوا حلالها وحرموا حرامها".
(6)
قال الشعبي: لم ينسخ من هذه السورة إلا قوله: {ولا الشهر الحرام ولا الهدي} . وقال بعضهم: نسخ منها: "أو آخران من غيركم". (تفسير القرطبي 6/ 31).
(7)
مسند أحمد 6/ 188.
(8)
في آ: "فيغزوا".
(9)
مسند أحمد 3/ 334، 345.
وذكَرَ بعضُهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصَرَ الطائفَ في شوَّال، فلمَّا دخَلَ ذو القعدة لم يُقاتِلْ، بل صابَرَهُم، ثم رجعَ. وكذلك في عمرة الحُديبية لم يُقاتل حتَّى بلغه أن عثمانَ قُتِلَ، فبايَعَ على القتال، ثم لمَّا بلَغَه أن ذلك لا حقيقةَ له كَفّ. واستدل الجمهور بأن الصحابةَ اشتغلُوا بعدَ النبي صلى الله عليه وسلم بفتحِ البلادِ ومواصلة القتالِ والجهادِ، ولم يُنقَل عن أحدٍ منهم أنه توقف عن القتالِ وهو طالبٌ له في شيءٍ من الأشهرِ الحُرُمِ، وهذا يدُل على اجتماعهم
(1)
على نسخِ ذلك، والله أعلم.
ومِن عجائبِ الأشهرِ الحُرُم ما رُوِي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه ذكَرَ عجائبَ الدنيا، فعَدَّ منها بأرضِ عَاد عمودَ نُحاس، عليه شجرةٌ من نحاس، فإذا كان في الأشهرِ الحُرُم قَطَرَ منها
(2)
الماء، فملؤوا منه حياضَهم، وسَقوا مواشيَهم وزروعَهم، فإذا ذهب الأشهرُ الحُرُمُ انقطَعَ الماءُ. وقوله "ورَجَبُ مُضَر سُمِّيَ رجبٌ رجبًا؛ لأنَّه كان يُرجَّبُ، أي يُعظَّمُ، كذا قال الأصمعيّ، والمفضَّل، والفرَّاء. وقيل: لأنَّ الملائكةَ تترجَّب للتسبيحِ والتحميدِ فيه، وفي ذلك حديثٌ [مرفوعٌ إلا أنه]
(3)
موضوع. وأما إضافتُه إلى "مُضَرَ"، فقيل: لأن مُضَرَ كانت تزيدُ في تعظيمِه واحترامِه، فنُسِبَ إليهم لذلك. وقيل: بل كانت ربيعةُ تُحرمُ رَمَضانَ، وتُحَرمُ مُضَرُ رَجَبًا، فلذلك مسمَّاه رَجَبَ مُضَرَ، وحقَّقَ ذلك بقوله "الذي بين جُمادَى وشعبان".
وذكر بعضُهم أن
لشهرِ رجبٍ أربعةَ عشَرَ اسما:
شهرُ اللهِ، ورجَبٌ، ورجَبُ مُضَرَ، ومُنْصِلُ
(4)
الأسِنةِ، والأصَمُّ
(5)
، والأصبُّ، ومُنَفِسٌ، ومُطَهِّرٌ، ومُعَلَّى، ومقيمٌ
(6)
، وهَرِمٌ، ومُقشقِشٌ، ومُبرّئ، وفَرْدٌ. وذكر غيرُه أن له سبعةَ عشرَ اسمًا، فزاذ "رجم" بالميم، ومُنْصِل الألَّة، وهي الحربة، ومنزِعُ الأسِنَّةِ. ويتعلَّقُ بشهر رجبَ أحكام
(1)
في ب، ع، ط:"إجماعهم".
(2)
في آ: "منه".
(3)
ما بين قوسين سقط من (آ).
(4)
مُنْصِل الأسنّة: أي مخرج الأسنة من أماكنها، كانوا إذا دخل رجب نزعوا أسنة الرماح ونصال السهام، إبطالًا للقتال فيه وقطعًا لأسباب الفتن؛ لحرمته، فلما كان سببًا لذلك سمِّي به. (اللسان: نصل).
(5)
الأصمُّ: رجب، لعدم سماع السلاح فيه، وكان أهل الجاهلية يُسمُّون رَجَبًا شهرَ الله الأصمّ؛ قال الخليل: إنما سمي بذلك لأنَّه كان لا يُسمَع فيه صوت مستغيث ولا حركة قتالٍ ولا قعقعة سلاح؛ لأنَّه من الأشهر الحرم. ووصف بالأصمّ مجازًا، والمراد به الإنسان الذي يدخل فيه. وفى الحديث:"شهر الله الأصمُّ رَجَب". (اللسان: صمم).
(6)
في آ: "ومتيِّم"، وفي حاشية ط:"وفي نسخة سقيم".
كثيرةٌ؛ فمنها ما كان في الجاهليةِ، واختلَفَ العلماءُ في استمراره في الإسلام، كالقتال، وقد سبق ذكرُه، وكالذبائح، فإنهم كانوا في الجاهليةِ يذبَحون ذَبيحةً يسمُّونها العتيرَة. واختلفَ العلماءُ في حكمها في الإسلام؛ فالأكثرون على أن الإسلامَ أبطلَهَا. وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا فَرَعَ
(1)
ولا عَتِيرَة"
(2)
.
ومنهم من قال: بل هي مُستحبَّةٌ؛ منهم ابنُ سيرين. وحكاه الإمامُ أحمد عن أهلِ البصرة. ورجَّحَه طائفةٌ من أهلِ الحديثِ المتأخرين.
ونقل حنبلٌ عن أحمد نحوَه.
وفي سنن أبي داودَ والنسائي وابن ماجه، عن مِخنف بن سُليم [الغَامِدي]
(3)
أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال بعرفة: إن على كُلِّ أهل بيتٍ في كل عام أُضْحِيَّةً
(4)
وعَتِيرةً
(5)
، وهي التي يسمُّونها الرجَبِيَّةَ
(6)
.
وفي النَّسَائِي
(7)
عن نُبَيْشَةَ أنهم قالوا: يا رسولَ الله، إنا كنا نَعْتِرُ فيه في الجاهلية، يعني في رَجَبَ. قال:"اذبحوا للهِ في أيِّ شهرٍ كان، وبرُّوا الله وأطعِمُوا".
(1)
الفَرَعُ والفرَعَةُ، بفتح الراء: أول نِتاج الإبل والغنم، وكان أهل الجاهلية يذبحونه لآلهتهم، يتبرَّعون بذلك، فنُهي عنه المسلمون. (اللسان: فرع).
(2)
أخرجه البخاري رقم (5473) و (5474) في العقيقة: باب الفرع، وباب العتيرة؛ ومسلم رقم (1976) في الأضاحي، باب الفرع والعتيرة، وانظر رواياته وتخريجه في "جامع الأصول" 7/ 511.
(3)
زيادة من (ط). وهو صحابي، نزل بالكوفة، وكانت معه راية الأزد بصفين، واستشهد بعين الوردة سنة 64 هـ. انظر الإصابة لابن حجر 3/ 392 وقد ذكر الحديث، والتقريب 2/ 236.
(4)
في الأصول: "أضحى"، والمثبت من سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه. وعند النَّسَائِي وأحمد "أضحاة". وأضحى: جمع أضحاة، وجمع الأضحية أضاحي.
(5)
في ط: "أو عتيرة".
(6)
رواه أبو داود رقم (2788) في الضحايا، باب ما جاء في إيجاب الأضاحي، والنسائي 7/ 167 في الفرع والعتيرة، في فاتحته؛ وابن ماجه رقم (3125) في الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟، ورواه الترمذي رقم (1518) في الأضاحي، باب ما جاء في الفرع والعتيرة، وأحمد في "المسند" 4/ 215 من حديث مخنف بن سليم رضي الله عنه، وفي 5/ 76 من حديث حبيب بن مخنف بن سليم.
(7)
رواه أبو داود رقم (2830) في الأضاحي، باب في العتيرة؛ والنسائي 7/ 169 - 171 في الفرع والعتيرة، باب تفسير العتيرة، وباب تفسير الفرع، وإسناده حسن. وانظر رواياته وتخريجه في "جامع الأصول" 506 - 507.
وروى الحارث بن عمرو
(1)
: أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الفَرَعِ والعَتَائرِ، فقال:"مَنْ شاءَ فَرَّعَ، ومَنْ شاء لم يُفرِّع؛ ومَنْ شاء عَتَرَ ومَنْ شَاءَ لم يَعْتِرْ"
(2)
.
وفي حديثٍ آخرَ، قال:"العَتيرةُ حقٌّ"
(3)
.
وفي النَّسَائِي
(4)
عن أبي رَزين، قال: قلتُ يا رسولَ اللهِ، كنا نذبحُ ذبائحَ في الجاهلية، يعني في رَجب، فنأكلُ ونُطْعِمُ مَن جاءنا. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لا بأسَ به". وخرَّج الطبراني
(5)
بإسنادِه، عن ابن عباس، قال: استأذنَتْ قريشٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في العَتيرةِ، فقال:"اعتر كعَتْرِ الجاهلية، ولكنْ مَن أحبَّ منكم أن يذبحَ للهِ فيأكُلَ ويتصدَّقَ فلْيَفْعَلْ". وهؤلاء جمعوا بين هذه الأحاديثِ وبين حديثِ "لا فَرَعَ ولا عَتِيرَةَ" بأنَّ المنهي عنه هو ما كان يفعلُه أهلُ الجاهلية من الذّبحِ لغيرِ اللهِ. وحملَهُ سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ على أن المرادَ به نفيُ الوجوب. ومِن العلماء من قال: حديثُ أبي هريرة أصح مِن هذه الأحاديث وأثبتُ، فيكوَنُ العملُ عليه دونَها. وهذه طريقةُ الإمام أحمد.
وروى مُبارك بن فَضَالةَ، عن الحسن، قال: ليس في الإسلام عتيرة، إنما كانت العَتيرةُ في الجاهلية، كان أحدُهم يصومُ رَجَبَ وَيعتِرُ فيه. ويُشبه الذبحَ في رجب اتخاذُه موسمًا وعيدًا، كأكلِ
(6)
الحلوى ونحوها. وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يكرَهُ أنْ يُتخذَ رجب عيدًا.
وروى عبد الرزاق، عن ابن جُريج، عن عطاء، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عن صيامِ رجبٍ كلِّه لئلَّا يُتخَذَ عيدًا
(7)
.
(1)
في آ: "الحارث عن عمر" وهو تحريف.
(2)
أخرجه النَّسَائِي 7/ 168 و 169 في الفرع
والعتيرة، في فاتحته، وإسناده ضعيف. وانظر "جامع الأصول" 7/ 510.
(3)
النَّسَائِي 7/ 168.
(4)
النَّسَائِي 7/ 171.
(5)
الطبراني 11/ 232، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 28، وقال:"رواه الطبراني في الكبير، وفيه إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة، وثقه ابن معين، وضعفه الناس". قال الطبراني: "وكان عترهم - أي في الجاهلية - أنهم يذبحون ثم يعمدون إلى دماء ذبائحهم فيمسحون بها رؤوس نصبهم".
(6)
في آ، ع:"لأكل".
(7)
المصنف 4/ 292 رقم (7854) وفيه: عن ابن عباس، ولم يرفعه. وأخرجه الطبراني في معجمه 10/ 348 وابن ماجه رقم (1743) عن ابن عباس، وهو حديث ضعيف لضعف داود بن عطاء.
وعن معمر، عن ابن
(1)
طاوس، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا شهرًا عيدًا، ولا يومًا عيدًا"
(2)
. وأصلُ هذا أنه لا يُشرعُ أن يَتخِذَ المسلمون عيدا إلا ما جاءت الشريعةُ باتخاذِه عيدًا، وهو يومُ الفطرِ، ويومُ الأضحى. وأيَّامُ التشريق، وهي أعيادُ العامِ؛ ويومُ الجمعةِ، وهو عيدُ الأسبوع، وما عدا ذلك فاتخاذُه عيدًا وموسمًا بِدْعةٌ لا أصلَ له في الشريعةِ. ومن أحكام رجبٍ ما وَرَدَ فيه مِن الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيام والاعتمار: فأما
(3)
الصَّلاةُ فلم يصحّ في شهرِ رجبٍ صلاةٌ مخصوصَةٌ تختص به، والأَحاديثُ المروَيَّةُ في فضل
صلاة الرغائبِ
في أول ليلةِ جمعةٍ من شهر رجبٍ كذبٌ
(4)
وباطلٌ لا تصح، وهذه الصَّلاةُ بدْعَةٌ عند جُمهورِ العلماءِ. وممن ذَكَر ذلك مِن أعيانِ العلماءِ المتأخرين من الحفاظِ أبوَ إسماعيلَ الأنصاري، وأبو بكر بنُ السمعاني، وأبو الفضل بن ناصر، وأبو الفرج بن الجوزيّ وغيرُهم. وإنما لم يذكُرْها المتقدِّمون؛ لأنها أُحدِثتْ بعدَهم. وأوَّلُ ما ظهرت بَعدَ الأربعمائة، فلذلك لم يعرفْها المتقدِّمُون ولم يتكلِّموا فيها.
وأما الصيامُ فلم يصحَّ في فضلِ صوم رجبٍ بخصوصِه شيءٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابِهِ، ولكن رُوي عن أبي قِلابَةَ، قال: في الجنَّة قصرٌ لِصُوَّامِ رجب.
قال البيهقي: أبو قِلَابة من كبار التابعين لا يقولُ مثلَه إلَّا عن بلاغٍ. وإنَّما ورَدَ في صيام الأشهرِ الحُرُم كلِّها حديثُ مُجِيبةَ
(5)
الباهلية عن أبيها أو عمِّها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "صُم مِن الحُرُمِ واترُكْ"، قالها ثلاثًا. [روى الكتاني قال: أنبأنا تمام الرازي، حدثنا القاضي يوسف بن القاسم، حدثنا محمد بن إسحاق السراج، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا حبيب المعلم عن عطاء، أن عروة قال لعبد الله بن عمر: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في رجب؟ قال:
(1)
لفظة "ابن" سقطت من (آ).
(2)
المصنف 1/ 294 رقم (7853).
(3)
في آ: "فأما فضل الصلاة".
(4)
لفظ "كذب" لم يرد في (آ).
(5)
في آ: "بحينة، وفي ع: "جحيفة" وهو تحريف. وقد اختلف في اسم "مجيبة" هل هو اسم لمذكر أو لمؤنث، ففي الخلاصة ص 395: "مجيبة بضم أوله وكسر الجيم، الباهلي، عن عمه، وعنه ضريب بن نفير، قاله الثوري. وقال الجريري في رواية حماد بن سلمة ويزيد بن هارون، عن مجيبة عن عمها أو أبيها".
نعم، ويُشرِّفه، قالها ثلاثًا]
(1)
. خرَّجه أبو داود
(2)
وغيرُه. وخرَّجه ابنُ ماجه، وعنده:"صُم أشْهُرَ الحُرُم". وقد كان بعضُ السَّلف يصوم الأشهرَ الحُرُمَ كلَّها، منهم ابنُ عمر، والحسنُ البصري، وأبو إسحاق السبيعيُّ. وقال الثوري: الأشهرُ الحُرُمُ أحبُّ إليَّ أن أصومَ
(3)
فيها. وجاء في حديثٍ خرَّجَه ابنُ ماجه
(4)
؛ أن أسامةَ بنَ زيدٍ كان يصومُ أشْهُرَ الحُرُمِ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "صُم شوَّالًا فترَكَ أشهُرَ الحُرُمِ وصامَ شوَّالًا حتى ماتَ. وفي إسناده انقطاعٌ.
وخرَّج ابن ماجه
(5)
أيضًا بإسنادٍ فيه ضعفٌ، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن صيام رجب. والصحيحُ وقفُهُ على ابن عبَّاسٍ. ورواه عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وقد سبَقَ لفظُه. وروَى عبْد الرزاق في كتابه
(6)
عن داودَ بن قيس، عن زيد بن أسلمَ، قال:
(7)
: ذُكِرَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قوم يصومونَ رجبًا، فقال: أينَ هم من شعبانَ؟ ورَوى أزهرُ بن سعيدٍ الجُمحي
(8)
عن أمه أنها سألت عائشةَ عن صومِ رجبٍ، فقال: إن كنتِ صائمةً فعليكِ بشعبانَ. ورُوي مرفوعًا، ووقفُه أصحُّ. ورُوِي عن عمر رضي الله عنه؛ أنَّه كان يضرِبُ أكفَّ الرجالِ في صومِ رجبٍ حتى يضعوها في الطعام، ويقول: ما
(1)
ما بين قوسين زيادة من نسخة (آ) فقط، وهو حديث مرسل كما سيشير إلى ذلك المؤلف رحمه الله بعد قليل.
(2)
أخرجه أبو داود رقم (2428) في الصوم، باب في صوم أشهر الحرم، وابن ماجه رقم (1741) في الصيام، باب صيام أشهر الحرم. قال المنذري في مختصر سنن أبي داود" 3/ 306: وأخرجه النَّسَائِي وابن ماجه، إلا أن النَّسَائِي قال فيه:"عن مجيبة الباهلي عن عمه"، وقال ابن ماجه:"عن أبي مجيبة الباهلي عن أبيه أو عن عمه"، وذكره أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة، وقال فيه:"عن مجيبة - يعني الباهلية - قالت: حدثني أبي أو عمي"، وسمى أباها عبد الله بن الحارث، وقال: سكن البصرة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا
…
وذكر هذا الحديث، إلى أن قال المنذري: أشار بعض شيوخنا إلى تضعيفه من أجل هذا الاختلاف، وهو متوجه.
(3)
في آ، ش:"أن يصومَ فيها".
(4)
رقم (1744) في الصيام، باب صيام أشهر الحرم. وفي الزوائد: إسناده صحيح، إلا أنه منقطع بين محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وبين أسامة بن زيد.
(5)
رقم (1743) في الصيام، باب صيام أشهر الحرم. وفي إسناده داود بن عطاء، وهو ضعيف متفق على ضعفه.
(6)
المصنف (4/ 292) رقم (7858).
(7)
لفظ "قال" من نسخة (آ).
(8)
في ش: "الجهمي". وقد اختلف في اسمه، فقيل: أزهر بن سعيد، وأزهر بن عبد الله، وأزهر بن يزيد. قال البخاري: الثلاثة واحد. نسبوه مرّة مراديّ، ومرة حمصي، ومرة هوزني، ومرة حرازي. (انظر تهذيب الكمال 2/ 327).
رجبٌ؟ إنَّ رجبًا كان يُعظِّمُه أهلُ الجاهلية، فلمَّا كان الإسلامُ تُرِكَ. وفي رواية: كُرِهَ أنْ يكونَ صيامُهُ سُنةً.
وعن أبي بَكرة
(1)
أنه رأى أهلَه يتهيأون لصيامِ رجبٍ، فقال لهم: أجعلتم رَجَبًا
(2)
كرمضانَ، وألقى السِّلالَ وكسر الكِيزانَ
(3)
.
وعن ابن عباس أنه كره أن يُصامَ رجبٌ كله. وعن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يَرَيان أن يفطرَ منه أيامًا. وكرهَه أنسٌ أيضًا، وسعيدُ بن جُبَير. وكره صيامَ رجبٍ كلِّه يحيى بن سعيد الأنصاري، والإمامُ أحمدُ، وقال: يُفطِرُ منه يومًا أو يومين، وحكاه عن ابن عمر وابن عباس. وقال الشافعي في "القديم": أكرهُ أن يتَّخذَ الرجلُ صومَ شهرٍ يُكمِلُه كما يكمِلُ رمضانَ، واحتجَّ بحديثِ عائشة:"ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استكملَ شهرًا قط إلا رمضانَ"
(4)
. قال: وكذلكَ يومًا من الأيام. قال: وإنما كرهتُه أن لا يتأسى رجلٌ جاهلٌ فيظن أن ذلك واجبٌ، إن فَعَلَ فحسَنٌ.
وتزولُ كراهةُ إفرادِ رجبٍ بالصَّوم بأن يصومَ معه شهرًا آخرَ تطوعًا عند بعض أصحابنا، مثلُ أن يصومَ الأشهرَ الحُرُمَ، أو يصومَ رجبَ وشعبانَ، وقد تقدّم عن ابن عمر وغيرِه صيامُ الأشهرِ الحُرُمِ. والمنصوصُ عن أحمدَ أنه لا يصومُه بتمامه إلا مَن صامَ الدهرَ.
ورُوي عن ابن عُمَرَ ما يدُلُّ عليه؛ فإنه بلغه أن قومًا أنكروا عليه أنه حرم صومَ رجب، فقال: كيفَ بمَنْ يَصومُ الدَّهرَ؟ وهذا يدل على أنه لا يُصامُ رجبٌ إلا مع صومِ الدَّهْرِ. ورَوَى يوسفُ بن عطية
(5)
، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن
(1)
هو نفَيع بن الحارث بن كلدة، أبو بكرة الثقفي، مشهور بكنيته، وكان من فضلاء الصحابة، وسكن البصرة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أولاده. مات نحو سنة 51 هـ. (الإصابة تر 8793، تهذيب التهذيب 10/ 469).
(2)
في آ، ب، ط:"رَجَبَ".
(3)
الكِيزان: جمع كوز؛ من الأواني.
(4)
رواه مسلم رقم (1156) في الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان.
(5)
يوسف بن عطية بن ثابت الصفار البصري، أبو سهل، وهو كما قال فيه المؤلف، متروك الحديث. وقال البخاري: منكر الحديث. قيل: مات سنة 187 هـ. (تهذيب التهذيب 11/ 419).
عائشة أن
النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَصُمْ بعدَ رمضانَ إلا رجبًا وشعبانَ
؛ ويوسفُ ضعيف جدًّا. وروى أبو يوسف القاضي
(1)
، عن ابن
(2)
أبي ليلَى، عن أخيه عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
(3)
، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومُ مِن كُلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيامٍ، وربَّما أخر ذلك حتى يَقْضيَه في رجب وشعبان.
ورواه عمرو بنُ أبي قيسٍ، عن ابن أبي ليلى، فلم يذكر فيه رجبًا، وهو أصح.
وأما الزكاة: فقد اعتادَ أهلُ هذه البلادِ إخراجَ الزكاةِ في شهرِ رجب، ولا أصلَ لذلك في السنةِ، ولا عُرِفَ عن أحدٍ من السَّلَفِ. ولكن رُوِي عن عثمان أنه خطَبَ الناسَ على المنبرِ، فقال: إن هذا شهرُ زكاتِكم، فمن كان عليه دَيْن فليؤدِّ دَينَهُ وليزكِّ ما بَقي. خرجه مالك في "الموطأ"
(4)
.
وقد قيل: إن ذلك الشهر الذي كانوا يُخرجون فيه زكاتَهم نُسِيَ ولم يُعرَفْ.
وقيل: بل كان شهرَ المحرم؛ لأنَّه رأسُ الحَوْلِ.
وقد ذكر الفقهاءُ من أصحابنا وغيرِهم أن الإمامَ يبْعَثُ سُعَاتَهُ لأخْذ الزكاةِ في المحرّم. وقيل: بل كان شهر رمضانَ؛ لفضلِهِ وفضلِ الصَّدَقةِ فيه.
وبكُل حالٍ فإنما تجبُ الزَّكاةُ إذا تَمَّ الحولُ على النِّصاب، فكلُّ أحدٍ له حَوْل يخُصُّه بحسبِ وقتِ ملكِه للنصابِ، فإذا تم حولُه وجَبَ عليه إخراجُ زكاتِه في أيِّ شهرٍ
(1)
هو الإمام المجتهد العلّامة المحدّث، قاضي القضاة، أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي، صاحب الإمام أبي حنيفة وتلميذه، وأول من نشر مذهبه. ولي القضاء ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد، وهو أول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، مات سنة 182 هـ. (الفهرست 203، تاريخ بغداد 4/ 242، وفيات الأعيان 6/ 378، سير أعلام النبلاء 8/ 470).
(2)
لفظة "ابن" سقطت من (آ). وهو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، الكوفي، أبو عبد الرحمن، قاضي الكوفة. روى عن أخيه عيسى وابن أخيه عبد الله بن عيسى. صدوق، سيء الحفظ جدًّا، وكان فقيهًا صاحب سنة، مات سنة 148 هـ. (تهذيب التهذيب 9/ 301).
(3)
عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني، الكوفي، ثقة، ولد لست بقين من خلافة عمر، مات بوقعة الجماجم سنة 86 هـ، وقيل: غرق. (التقريب).
(4)
رواه الموطأ 2/ 253 في الزكاة: باب الزكاة في الدين. ولفظه فيه: "هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دَيْن فليؤدِّ دَيْنه حتى تحصُل أموالكم فتؤدون منه الزكاة".
كان، فمن عجَّلَ زكاتَه قبْلَ الحَوْلِ أجزأه عندَ جُمهورِ العلماءِ. وسواء
(1)
كان تعجيلُه لاغتنام زمانٍ فاضلٍ، أو لاغتنام الصَّدقَةِ على مَن لا يجدُ مثلَه في الحاجة، أو كان لمشقةِ إخراج الزَّكاة عليه عند تمَامِ الحولِ جُملةً، فيكونُ التفريقُ في طولِ الحَوْلِ أوفقَ بهِ. وقد صرَّح مجاهد بجوازِ التعجيلِ على هذا الوجه، وهو مقتضَى إطلاقِ الأكثَرِينَ، وخالفَ في هذه الصورةِ إسحاقُ
(2)
، نقلَهُ عنه ابنُ منصور
(3)
. وأما إذا حال الحَوْلُ فليس له التأخيرُ بعدَ ذلك عند الأكثرينَ.
وعن أحمدَ يجوزُ تأخيرُها؛ لانتظارِ قومٍ لا يجدُ مثلَهم في الحاجة.
وأجازَ مالك وأحمدُ في روايةٍ نَقْلَها إلى بلدٍ فاضلٍ، فعلى قياسِ هذا لا يبعدُ جوازُ تأخيرِها إلى زمنٍ فاضلٍ لا يُوجد مثلُه، كرمضانَ ونحوِه. ورَوَى يزيدُ الرَّقاشيُّ عن أنس أنَّ المسلمين كانوا يُخرجون زكاتَهم في شعبانَ تقوية على الاستعدادِ لرمضانَ، وفي الإِسنادِ ضعفٌ.
وأما الاعتمارُ في رجب فقد رَوى ابنُ عُمَرَ، رضي الله عنهما، أن
النبي صلى الله عليه وسلم اعتمَرَ في رجب
(4)
، فأنكرَتْ ذلك عائشةُ عليه، وهو يسمَعُ، فسكَتَ. واستحبَّ الاعتمارَ في رجب عمرُ بن الخطاب وغيرُه. وكانت عائشةُ تفعَلُه وابنُ عُمَرَ أيضًا. ونقلَ ابنُ سيرين عن السَّلفِ أنَّهم كانوا يفعلونه.
فإنَّ أفضَلَ الأنساكِ
(5)
أن يُؤتى بالحجِّ في سفرةٍ، والعمرةِ في سفرةٍ أخرى في
(1)
في آ "سواء" بغير واو.
(2)
هو إسحاق بن إبراهيم بن مَخْلَد، المعروف بابن راهويه، نزيل نيسابور، عالم خراسان في عصره، وأحد أئمة المسلمين، اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصِّدق والورع والزهد. مات سنة 238 هـ. (تهذيب الكمال 2/ 373 - 388).
(3)
هو إسحاق بن منصور بن بَهْرام الكَوْسج، نزيل نيسابور. قال أبو بكر الخطيب: كان فقيهًا عالمًا، وهو الذي دوّن عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه المسائل في الفقه، مات سنة 251 هـ. (تاريخ بغداد 6/ 364، تهذيب الكمال 2/ 474).
(4)
أخرجه أحمد في "المسند" 2/ 73 وابن ماجه رقم (2998) في المناسك: باب العمرة في رجب. وروى الشيخان معناه من طريق منصور عن مجاهد. وعند ابن ماجه عن عروة، قال: سئل ابن عمر: في أي شهر اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: في رجب. فقالت عائشة: ما اعتمر رسول اللّه في رجب قطُّ، وما اعتمر إلا وهو معه (تعني ابن عمر).
(5)
الأنساك: كالمناسك، جمع منسك، بفتح السين وكسرها، وهو المتعبَّد. وفي حديث عمر رضي الله عنه:
• ويأسُها يُعَدّ من أنساكها •
هكذا جاء في رواية، أي متعبَّداتها. (النهاية 5/ 48).
غير أشهرِ الحجِّ، وذلك مِن جملة إتمامِ الحجِّ والعمرةِ المأمورِ
(1)
بهِ. كذلك قالَهُ جُمهورُ الصَّحابةِ كعُمَرَ وعثمانَ وعليّ وغيرهم، رضي الله عنهم.
وقد رُوِي أنه كان في شهرِ رجب حوادثُ عظيمةٌ، ولم يصحّ شيءٌ من ذلك؛ فرُوِي أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلِدَ في أوَّلِ ليلةٍ منه، وأنَّه بُعِثَ في السابعِ والعشرين منه، وقيل: في الخامس والعشرين، ولا يصحُّ شيء من ذلك. ورُوي بإسنادٍ لا يصحُّ عن القاسم بن محَمد
(2)
أن الإِسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان في سابع عشرين من رجبٍ، وأنكَر ذلك إبراهيمُ الحربيُّ وغيرُه. ورُوِي عن قيس بن عُبَادٍ
(3)
، قال: في اليوم العاشرِ من رجب {يَمْحُو اللهُ ما يَشَاءُ ويُثْبِت}
(4)
.
وكان أهلُ الجاهلية يتحرَّوْنَ الدُّعاءَ فيه على الظالِم، وكان يُستجابُ لهم، ولهم في ذلك أخبارٌ مشهورةٌ قد ذكَرَها ابن أبي الدنيا في كتاب "مجابي
(5)
الدعوة" وغيرُه. وقد ذُكر ذلك لِعُمَرَ بن الخطاب، فقال عُمر: إنَّ الله كان يصنعُ بهم ذلك ليحجُزَ بعضَهم عن بعضٍ، وأنَّ اللّه جعلَ الساعةَ موعدَكم
(6)
والساعةُ أَدْهَى وأمر. ورَوَى زائدةُ بنُ أبي الرقادِ
(7)
، عن زياد النُّميري
(8)
، عن أنسٍ، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا دَخَلَ رجب قال: "اللهم بارِك لنا في رجب وشعبانَ وبلِّغنا رمضانَ"
(9)
.
(1)
أي في قوله تعالى (سورة البقرة: 196): {وأتِموا الحج والعُمْرَةَ للهِ
…
}، الآية. وانظر تفسير القرطبي 5/ 362 - 370.
(2)
هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أبو محمد، أحد الفقهاء السبعة في المدينة، من سادات التابعين، كان صالحًا ثقة. مات سنة 108 هـ. (صفة الصفوة 2/ 88).
(3)
في ع: "عبادة". وهو قيس بن عُبَاد الضُّبَعي، أبو عبد الله البصري، من ثقات التابعين، ومن كبار الصالحين، قدم المدينة في خلافة عمر، وروى الحديث، وسكن البصرة، وخرج مع ابن الأشعث، فقتله الحجاج نحو سنة 85 هـ، ووهم من عدَّه من الصحابة. (الإصابة: تر 7302، والتقريب 2/ 129، والأعلام 5/ 207).
(4)
سورة الرعد الآية 39.
(5)
في آ، ب، ط:"مجاب الدعوة"، وأثبت ما جاء في ع، ش، وقد طبع بعنوان "مجابي الدعوة". ولم يرد فيه من هذه الأخبار التي جرت في الجاهلية غير خبر واحد، وهو رقم (20)، حدث في الشهر الحرام دون تحديد.
(6)
في ط: "موعدهم".
(7)
زائدة بن أبى أبي الرقاد الباهلي، أبو معاذ البصري الصيرفي، منكر الحديث. قال أبو حاتم: يحدّث عن زياد النميري، عن أنس أحاديثَ مرفوعة منكرة، ولا ندري منه أو من زياد. (تهذيب الكمال 9/ 271).
(8)
في ط: "التميمي". وهو زياد بن عبد الله النُّميري البصري، روى عن أنس بن مالك. ضعيف الحديث. (تهذيب الكمال 9/ 492).
(9)
إسناده ضعيف، كما سيبينه المؤلف بعد قليل. رواه أحمد في=
ورُوي عن أبي إسماعيل الأنصاريّ
(1)
أنه قال: لم يصحّ في فضل رجب غيرُ هذا الحديث. وفي قوله نظرٌ؛ فإنَّ هذا الإسنادَ فيه ضعفَ. وفي هذا الحديث دليلٌ على استحباب الدُّعاء بالبقاء إلى الأزمانِ الفاضِلةِ؛ لإدراكِ الأعمالِ الصَّالحةِ فيها؛ فإنَّ المؤمنَ لا يزيدُه عُمرُه إلا خيرًا، وخيرُ الناسِ مَن طالَ عمرُه وحَسُنَ عَمَلُه. وكان السَّلفُ يَستحبُّون أنْ يموتوا عَقِبَ
(2)
عمل صالح؛ مِن صَوم رمضانَ، أو رُجوع من حجٍّ، وكان يقال: مَنْ ماتَ كذلك غُفِرَ له.
كان بعضُ العلماءِ الصالحين قد مرِضَ قبلَ شهرِ رجب، فقال: إنّي دعوْتُ الله أن يؤخِّرَ وفاتي إلى شهر رجبٍ، فإنه بلغني أن لله فيه عُتقاء؛ فبلَّغَهُ الله ذلك وماتَ في شهر رجبٍ.
شهرُ رجبٍ مفتاحُ أشهرِ الخَيرِ والبركةِ؛ قال أبو بكر الورَّاقُ البَلْخِيُّ: شهرُ رجبٍ شهرُ الزرعِ، وشهرُ شعبانَ شهرُ السَّقي للزَّرْعِ، وشهرُ رَمضانَ شهرُ حصادِ الزرْعِ. وعنه قال: مَثَلُ شهرِ رجبٍ مثلُ الريحِ، ومثلُ شعبانَ مثلُ الغَيْمِ، ومثلُ رَمضانَ مثلُ المطر
(3)
. وقال بعضُهم: السَّنةُ مثلُ الشجرةِ؛ وشهرُ رجبٍ أيَّامُ تَوْرِيقِها، وشعبانُ أيَّام تفريعها، ورمضانُ أيَّامُ قطفِها، والمؤمنون قِطافُها. جَديرٌ بِمَنْ سوَّدَ صحيفتَه بالذنوبِ أنْ يُبيّضَها بالتَّوْبةِ في هذا الشهر، وبِمَنْ ضَيَّعَ عُمُرَهُ في البَطالة
(4)
أن يغتنِمَ فيه ما بقي من العمرِ.
بَيِّضْ صَحِيفَتَكَ السودَاءَ في رَجَبٍ
…
بصالحِ العَمَلِ المُنْجِي مِنَ اللَّهبِ
(5)
= "المسند" 1/ 259 وفيه زائدة بن أبي الرقاد الباهلي، وهو ضعيف. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" في موضعين 2/ 165 مطولًا، وقال:"رواه البزار، وفيه زائدة بن أبي الرقاد؛ قال البخاري: منكر الحديث وجهله جماعة" وفي 3/ 140 مختصرًا، ونسبه إلى البزار والطبراني في الأوسط.
(1)
هو عبد الله بن محمد بن علي، أبو إسماعيل الأنصاري الهروي، كان يدعى شيخ الإسلام، وكان شديدًا على المبتدعة، عالمًا بالحديث، مصنف كتاب "ذم الكلام". مات سنة 481 هـ. (تذكرة الحفاظ 3/ 1183، طبقات الحنابلة 2/ 247).
(2)
في آ، ش:"عقيب". والعقيب: كل شيء أعقبَ شيئًا.
(3)
في ط: "القطر".
(4)
بَطَلَ العامل بَطالة: أي تعطَّل. وبطَلَ في حديثه بَطالة: أي هزل.
(5)
في آ: "من الكُرَبِ".
شَهْرٌ حَرَامٌ أتَى مِنْ أَشْهُرٍ حُرُمٍ
…
إذا دَعَا الله داع فيهِ لَمْ يَخِبِ
طُوَبى لِعَبْدٍ زَكَى فيهِ لَهُ عَمَلٌ
…
فكَفَّ فيهِ عَن الفَحْشَاءِ والرِّيَبِ
انتهازُ الفرصةِ بالعمل في هذا الشهرِ غنيمةٌ، واغْتِنَامُ أوقاتِهِ بالطَّاعاتِ لَهُ فَضيلة عظيمةٌ.
يا عَبْدُ أقبِلْ مُنيبًا واغْتَنِمْ رَجَبًا
…
فإنَّ عَفْوِيَ عَمَّنْ تَابَ قَدْ وَجَبَا
في هذِهِ الأَشهُرِ الأبوابُ قَدْ فُتِحَتْ
…
للتائِبينَ فَكُلٌّ نَحْوَنا هَرَبَا
حَطُّوا الرَّكائِبَ في أبواب رَحْمَتِنا
…
بحُسْنِ ظَنٍّ فَكُلٌّ نَالَ ما طَلَبَا
وقَدْ نَثَرْنا عليهم مِنْ تَعطُّفِنا
…
نِثارَ حُسنِ قَبولٍ فَازَ مَنْ نَهَبَا
وظائف شهر شعبان
ويشتمل على مجالس:
المجلس الأول في صيامه
خرَّج الإمامُ أحمد
(1)
والنسائي مِن حديث أسامَةَ بن زيد، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصُومُ الأيَّامَ يَسرُدُ حتى نقولَ لا يُفطِرُ، ويُفطِرُ الأيَّامَ حتَّى لا يكادُ يَصُومُ، إلَّا يومين من الجمعة إن كانا في صيامِه، وإلا صامَهُمَا. ولَمْ يكُنْ يَصُومُ مِن الشهور ما يَصومُ من شعبانَ. فقلتُ: يا رسولَ الله، إنَّك تصومُ
(2)
لا تكادُ تُفطِرُ، وتُفطِرُ حتَّى لا تكادُ تَصومُ إلَّا يومين إن دخلا في صيامِكَ وإلا صمتَهُما. قال: أي يومين؟ قال: يومُ الاثنين، ويومُ الخميس. قال: ذانك يومانِ تُعرَضُ فيهما الأعمالُ على ربِّ العالمين، وأحِبُّ أن يُعرضَ عملي وأنا صائمٌ. قلْتُ: ولم أركَ تصومُ مِن الشهور ما تَصومُ مِن شعبانَ؟ قال: ذاك شهر يَغْفُلُ الناسُ عنه بينَ رجَبٍ ورمضانَ، وهو شهر تُرفَعُ فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين عز وجل، فأحبُّ
(3)
أَن يُرفَعَ عَملِي وأنا صائم.
قد تضمَّنَ هذا الحديثُ ذكرَ صيام رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من جميع السنة، وصيامَه من أيام الأسبوع، وصيامَهُ من شهورِ السنة. فأمَّا صيامُهُ من السنة فكان يَسْرُدُ الصَّومَ أحيانًا والفِطرَ أحيانًا، فيصومُ حتَّى يقالَ لا يُفطِرُ، ويُفطِرُ حتى يقالَ لا يَصُوم. وقد رَوَى ذلك أيضًا عائشةُ وابنُ عباس وأنسٌ وغيرُهم. ففي "الصحيحين"
(4)
عن عائشة
(1)
مسند الإمام أحمد 5/ 201، والنسائي 4/ 201 و 202 في الصيام: باب صوم النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
(2)
في ب، ط:"تصوم حتى لا تكاد".
(3)
في آ، ش، ع:"وأحب".
(4)
أخرجه البخاري رقم (1969) في الصوم: باب صوم شعبان، ومسلم رقم (1156) في الصيام: باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير مضان.
رضي الله عنها، قالت:"كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصومُ حتَّى نقولَ: لا يُفطِر، ويُفطِرُ حتَّى نقولَ لا يَصُومُ". وفيهما
(1)
عن ابن عباس، قال:"كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصومُ إذا صام حتى يقولَ القائلُ: لا والله لا يُفْطِرُ، ويُفطِرُ إذا أفطَرَ حتى يقولَ القائلُ: لا واللّهِ لا يَصُومُ". وفيهما
(2)
عن أنس أنَّه سئل عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما كنْتُ أحبُّ أنْ أراه مِنَ الشهر صائمًا إلَّا رأيتُهُ، ولا مُفْطِرًا إلَّا رأيته، ولا مِن اللَّيلِ قائمًا إلّا رأيتُه، ولا نائمًا إلَّا رأيتُه".
ولمسلمٍ
(3)
عنه، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصومُ حتَّى يقالَ: قَدْ صَامَ قَدْ صَامَ، ويفطِرُ حتَّى يقالَ: قَدْ أَفْطَر قَدْ أَفْطَر
(4)
. وقد كان رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يُنكِرُ على مَن يَسْرُدُ صَوْمَ الدَّهرِ ولا يُفطِرُ منه، ويخبِر عن نفسِه أنَّه لا يفعَل ذلك. ففي "الصحيحين"
(5)
عن عبد الله بن عمرو أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أتصومُ النهارَ وتقومُ اللّيلَ؛ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنِّي أَصُومُ وأفطِرُ، وأصلِّي وأنامُ، وأَمَسُّ النِساءَ، فمن رَغِبَ عن سُنَّتِي فليسَ منِّي. وفيهما
(6)
عن أنسٍ: أن نفرًا من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضُهم: لا آكُلُ اللَّحمَ، وقال بعضُهم: لا أنامُ على فراشٍ. فبلَغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فخطَبَ، وقال:"ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا؛ لكنِّي أصلِّي وأنامُ، وأصُومُ وأُفطِرُ، وأتزوَّج النِساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مِنِّي".
(1)
أخرجه البخاري رقم (1971) في الصوم: باب ما يُذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم وإفطاره؛ ومسلم رقم (1157) في الصيام: باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم؛ والنسائي 4/ 199 في الصوم، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
أخرجه البخاري رقم (1973) في الصوم: باب ما يُذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم وإفطاره؛ وفي التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل ونومه وما نسخ من قيام الليل؛ ومسلم رقم (1158) في الصيام: باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان؛ والترمذي رقم (769) في الصوم: باب ما جاء في سرد الصوم.
(3)
رقم (1158) في الصيام: باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان.
(4)
بعدها في نسخة (ع) ما نصه: "وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقال: قد صام، ويفطر حتى يقال: قد أفطر".
(5)
لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص روايات عدة طويلة، انظرها في "جامع الأصول" 1/ 297 - 303، وهو حديث معروف مشهور؛ أخرجه البخاري رقم (1976) في الصوم: باب صوم الدهر، وفي أبواب أخرى، ومسلم رقم (1159) في الصيام: باب النهي عن صوم الدهر. ورواه الإمام أحمد في "المسند" 2/ 158.
(6)
أخرجه البخاري رقم (5063) في النكاح: باب الترغيب في النكاح؛ ومسلم رقم (1401) في النكاح: باب استحباب النكاح؛ والنسائي 6/ 60 في النكاح: باب النهي عن التبتل.
وخرَّجه النَّسَائِي وزاد فيه "وقال بعضُهم: أصومُ ولا أُفْطِرُ". وفي مسند الإمام أحمد
(1)
، عن رجلٍ من الصحابة، قال: ذُكِرَ لرَسولِ الله صلى الله عليه وسلم مولاة لبني عبد المطلب أنها قامَتِ اللَّيلَ، وتصومُ النَّهار. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنِي أنا أنام وأصَلِّي، وأصومُ وأفطِرُ، فمن اقتدَى بي فهو منِّي، ومَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مِني، إن لكُل عمل شِرَّةً
(2)
وفَتْرَةً، فَمَنْ كانَتْ فَتْرَتُه إلى بِدْعَةٍ فَقَدْ ضَلَّ، وَمَنْ كانَتْ فَتْرَتُه إلى سُنَّةٍ فقد اهْتَدَى.
وفي "المسند"
(3)
و"سنن أبي داود" عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ عُثْمانَ بن مَظْعُونٍ أراد التبتُّلَ
(4)
، فقال له رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: أترغَبُ عن سنَّتي؟ قال: لا والله، ولكنَّ سُنَّتَكَ أُريدُ. قال: فإنِّي أنامُ وأصلِّي، وأصُومُ وأفطِرُ، وأَنْكِحُ النِّساء فاتَّقِ اللّه يا عثمانُ، فإنَّ لأهلِكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لضيفِكَ عليكَ حَقًا
(5)
، وإنَّ لنفسِكَ عليكَ حقا، فصُمْ وأفْطِرْ، وصَل ونَمْ".
وقد قال عِكْرمَةُ وغيرُه: إن عثمانَ بن مَظْعُونٍ وعلي بنَ أبي طالبٍ والمقدادَ وسالِمًا مولى أبي حُذيفةَ في جماعةٍ تبتَّلوا فجلَسُوا في البيوتِ، واعتزلُوا النِّساءَ، وحرَّموا طيباتِ الطعامِ واللِّباسِ، إلَّا ما يأكُلُ وَيلْبَسُ أهلُ السياحَة من بني إسرائيلَ، وهمُّوا بالاخْتصاءِ، وأجمعوا لقيام اللَّيلِ وصيام النَّهارِ، فنزلت فيهم:{يا أيها الَّذينَ آمنُوا لا تحَرمُوا طَيِّباتِ ما أَحَل اللّهُ لَكُمْ ولا تَعْتَدَوا إن اللَّهَ لا يُحِب المُعْتَدِينَ}
(6)
.
وفي صحيح البخاري
(7)
أن سلمانَ زارَ أبا الدَّرداء، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد آخى
(1)
مسند أحمد 5/ 409، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 193 وقال:"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح".
(2)
في ط: "شدَّة". والشِّرَّة: النشاط والرَّغبة، وشِرَّة الشباب: أوله. والفترة: الانكسار. والضعف.
(3)
رواه أبو داود رقم (1369) في أبواب قيام الليل، باب ما يؤمر به من القصد بالصلاة، ورجاله ثقات، إِلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق، لكن يشهد له أحاديث صحيحة. ورواه أحمد في "مسنده" 1/ 175 مختصرًا عن سعد بن أبي وقاص، وإسناده صحيح.
(4)
التَّبتُّل: الانقطاع عن النساء وترك النكاح. (النهاية 1/ 94).
(5)
قوله: "وإن لضيفك عليك حقا" لم يرد في نسخة (ش).
(6)
سورة المائدة الآية 87.
(7)
أخرجه البخاري رقم (6139) في الأدب، باب صُنع الطعام والتكلف للضيف و (1968) في الصوم، باب من أقسم على أخيه ليُفطر في التطوع. وأخرجه الترمذي رقم (2415) في الزهد، باب أعط كل ذي حقٍّ حقَّه. والمؤلف روى الحديث بالمعنى. والتبذُّل: ترك التزين والتَّهيُّيء بالهيئة الحسنة الجميلة. (النهاية 1/ 111).
بينهما، فرأى أمَّ الدَّرداءِ مُتبذِّلَةً، فقال لها: ما شأنُكِ مُتبذِّلةً؟ فقالت: إنَّ أخاكَ أبا الدَّرداءِ لا حاجَةَ له في الدُّنيا. فلمَّا جاءَ أبو الدَّرداء قرَّبَ له طعامًا، قال له: كُلْ، قال: إني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتَّى تأكُلَ، فأَكَلَ. فلمَّا كان اللَّيلُ ذَهَبَ أبو الدَّرداءِ ليقومَ، فقال له سلمان: نَمْ، ثم ذَهَبَ لِيقُومَ، فقال له: نَمْ، فلمَّا كان من آخرِ اللَّيلِ، قال سلمان: قُمِ الآن، فقاما فصلَّيا. فقال سلمان: إنَّ لنفسِكَ عليكَ حقًّا، وإن لِضيفِكَ عليكَ حقا، وإن لأهلِكَ عليك حقًّا، فأَعْطِ كُل ذي حَق حقَّه. فأتَيا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك له، فقال:"صَدَقَ سَلمان".
وفي رواية في غير الصحيح
(1)
، قال:"ثكِلَتْ سَلْمَانَ أمُّهُ! لقد أُشْبعَ مِنَ العِلْم". وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص لمَّا كان يَصومُ الدَّهرَ، فنَهَاهُ وأَمَرَهُ أنْ يَصُومَ صَوْمَ داودَ، "يصومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا". وقال له:"لا أَفْضَلَ مِن ذلك". وقد
(2)
وردَ النهيُ عن صيام الدَّهرِ والتشديدِ فيه. وهذا كلهُ يدُل على أن أفضَلَ الصِّيام إلا يُستَدَامَ، بل يُعاقَبُ بينَهُ وبينَ الفِطرِ، وهذا هو الصَّحيحُ من قولِ
(3)
العلماءِ، وهو مذهَبُ أحمدَ وغيرِهِ. وقيل لِعُمَرَ: إن فلانًا يَصُومُ الدَّهرَ، فجعَلَ يَقْرَعُ رأسَهُ بقناةٍ مَعَهُ، ويقوله:"كُلْ يا دَهْرُ، كُلْ يا دَهْرُ". خرَّجه عبدُ الرزاقِ
(4)
.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحكمةِ في ذلك من وُجوهٍ؛ منها: قولُه صلى الله عليه وسلم في صيام الدَّهْرِ: "لا صَامَ ولا أفْطَرَ"، يعني أنه لا يجِدُ مَشقَّةَ الصِّيامِ ولا فَقْدَ الطعامِ والشراب والشهوةِ؛ لأنَّه صارَ الصِّيامُ له عادةً مألوفةً، فربَّما تضررَ بتركِهِ، فإذا صَامَ تارةً وأفطَرَ أُخْرَى حَصَلَ له بالصيام مقصودُهُ بتركِ هذه الشهواتِ، وفي نفسِهِ داعية إليها، وذلك أفضَلُ مِن أنْ يتركَها ونفسُهُ لا تتُوقُ إليها. ومنها: قولُه صلى الله عليه وسلم في حَقّ داودَ عليه السلام: "كان يَصُومُ يومًا، ويُفطِرُ يومًا، ولا يَفِرُّ إذا لاقَى"، يُشيرُ إلى أنه كان لا يُضعِفُهُ صيامُه عن ملاقاةِ عدوِّه ومجاهدَتِهِ في سبيلِ اللهِ. ولهذا رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابِهِ
(1)
مصنف ابن أبي شيبة 12/ 148 وتهذيب ابن عساكر 6/ 203 برواية الأعمش عن أبي صالح.
(2)
لفظ "قد" لم يرد في آ، ش، ع.
(3)
في ب، ش، ط:"من قولي" بالياء.
(4)
المصنف 4/ 298 رقم (7871).
يومَ الفَتْحِ وكان في رمضانَ: "إنَّ هذا يومُ قِتالٍ فأفطِرُوا"
(1)
.
وكان عمرُ إذا بعثَ سريةً، قال لهم: لا تَصُومُوا، فإنَّ التَّقوِّي على الجِهاد أفضلُ من الصَّومِ. فأفضَلُ الصِّيام ألَّا يُضعِفَ البَدَنَ حتى يَعجِزَ عمَّا هو أفضَلُ منه؛ من القيام بحقوقِ اللهِ تعالى، أوَ حقوقِ عبادِه اللَّازمة، فإنْ أضعَفَ عن شيءٍ مِن ذلك ممَّا هو أفضَلُ منه كان تركُهُ أفضَلَ.
فالأوَّلُ: مثلُ أن يُضعِفَ الصِّيامُ عن الصَّلاةِ، أو عن الذكْرِ، أو عن
(2)
العِلْمِ. كما قيلَ في النهي عن صِيامِ الجمعةِ ويومِ عرفةَ بعرفةَ: إنَّه يُضْعِفُ عن الذِّكر والدُّعاءِ في هذين اليومين. وكان ابنُ مسعود يُقِل الصَّوْمَ ويقولُ: إنَّه يمنعني مِن قراءة القرآنِ، وقراءةُ القرآنِ أحبُّ إليَّ. فقراءةُ القرآنِ أفضَلُ مِنَ الصِّيام. نصَّ عليه سفيانُ الثورِيُّ وغيرهُ من الأئمة. وكذلك تعلُّمُ العِلْم النافعِ وتعليمُهُ أَفْضَلُ مِن الصِّيام.
وقد نصَّ الأئمةُ الأربَعَةُ على أن طَلَبَ العِلْمِ أفضَلُ مِن صلاة النَّافلة، والصلاة أفضلُ من الصِّيام المتطوَّع به، فيكون العلم أفضَلَ مِن الصِّيام بطريق الأوْلَى؛ فإنَّ العِلْمَ مِصْباحٌ يُستَضَاءُ به في ظُلمةِ الجَهْلِ والهَوَى، فَمَنْ سارَ في طريقٍ على غيرِ مِصباحٍ لم يأمَنْ أن يقعَ في بئر بوارٍ فيعطبَ. قال ابنُ سيرينَ: إنَّ قومًا
(3)
تركُوا العِلْمَ واتَّخذُوا محارِيبَ فصَلُّوا وصَامُوا بغيرِ علم، واللهِ ما عمِلَ أحدٌ بغيرِ عِلْم إلَّا كانَ ما يُفسِدُ أكثَرَ ممَّا يُصلِحُ.
والثاني: مثلُ
(4)
أنْ يُضعِفَ الصِّيامُ عن الكَسْبِ للعيالِ أو القيامِ بحقوقِ الزوجاتِ، فيكونُ تركُه أفضَلَ. وإليه الإشارةُ بقوله صلى الله عليه وسلم:"وإن لأهلِكَ عليكَ حقًّا".
ومنها: ما أشارَ إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن لنفسِكَ عليكَ حقًّا فأعْطِ كُل ذي حَق حَقهُ" يُشير إلى أن النفسَ وديعةٌ للّهِ عندَ ابن آدَمَ، وهو مأمورٌ أن يقومَ بحقِّها؛ ومِن حَقِّها اللطْفُ بها حتى تُوصِلَ صاحبَها إلى المنزلِ.
قال الحسنُ: نفوسُكُم مطاياكم إلى رَبِّكم، فأصلِحُوا مطاياكم توصِلكُم إلى
(1)
رواه ابن سعد في طبقاته 2/ 141 عن عبيد بن عمير مرسلًا.
(2)
في ش، ع:"أو العلم".
(3)
في ع: "أقوامًا".
(4)
لفظ "مثل" لم يرد في (آ).
رَبِّكم. فَمَنْ وَفَى نفسَهُ حظَّها مِن المُباحِ بنيَّةِ التَّقوِّي به على تَقْوِيتها على أعْمالِ الطاعات، كانَ مأجورًا في ذلك، كما قال معاذُ بن جبل: إنِّي أحتسِبُ نَوْمَتِي كما أحتسِبُ قَوْمَتِي. ومَنْ قصَّرَ في حَقِّها حتَّى ضَعُفَتْ وتَضررتْ، كانَ ظالمًا لها. وإلى هذا أشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص:"إنَّكَ إذا فعلْتَ ذلك نَفِهَتْ له النَّفْسُ، وهَجَمَتْ له العَيْنُ"
(1)
. ومعنى نَفِهَتْ: كَلَّتْ وأَعْيَتْ. ومعنى هجَمَتِ العَينُ: غَارَتْ.
وقال لأعرابيٍّ جاءَه فأسلمَ، ثمَّ أتاه من عامٍ قابلٍ وقد تغيَّرَ فلم يعرفْهُ، فلمَّا عَرَفَهُ سألَه عن حالِه، قال: ما أَكلْتُ بعدَكَ طعامًا بنهارٍ. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ومَنْ أَمَرَكَ أن تُعذِّبَ نفسَكَ
(2)
؟.
فَمَنْ عذَّبَ نَفْسَهُ بأنْ حمَّلَها ما لا تُطِيقُهُ مِن الصِّيام ونحوِه فربَّما أَثَّرَ ذلك في ضَعْفِ بَدَنِهِ وعَقْلِهِ، فيفوتُهُ من الطَّاعاتِ الفاضِلةِ أكثرُ ممَّا يحصُلُ له
(3)
بتعذِيبه نفسه بالصِّيامِ.
وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يتوسَّطُ في إعطاء نفسِه حقَّها ويَعدلُ فيها غايَةَ العَدْلِ؛ فيصومُ ويُفطِرُ، ويَقومُ ويَنامُ، وينكِحُ النِّساءَ، ويأكل ممَّا يجِدُ
(4)
منَ الطيباتِ، كالحلواءِ
(5)
والعسَلِ ولحمِ الدَّجاجِ. وتارةً يَجوعُ حتَّى يَربِطَ على بطنِهِ الحَجَرَ.
وقال: "عَرَضَ عليَّ ربِّي أنْ يَجعَلَ لي بطحاءَ مكَّةَ ذَهَبًا، فقلْتُ: لا يا ربِّ، ولكن أجوعُ يومًا وأشبَعُ يومًا؛ فإذا جُعْتُ تَضَرعْتُ إليكَ وذكَرْتُكَ، وإذا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وشَكَرْتُكَ"
(6)
.
(1)
قطعة من حديث تقدم تخريجه، وله روايات عديدة، أخرجه البخاري رقم (1979) في الصوم: باب صوم داود عليه السلام، ومسلم رقم (1159) في الصوم، والنسائي 4/ 209 في الصيام.
(2)
من حديث مجيبة الباهلية في سنن أبي داود رقم (2428) وقد مضى تخريجه.
(3)
في ب، ط:"أكثر مما حصَّله".
(4)
في ب ط: "ما يجد".
(5)
في آ، ع:"كالحلوى" مقصور؛ وهو كالحلواء بالمد.
(6)
أخرجه الترمذي رقم (2348) في الزهد، باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه، من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وإسناده حسن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، قال: وفي الباب عن فضالة بن عبيد.
فاخْتارَ صلى الله عليه وسلم لنفسِهِ أفضلَ الأحوالِ؛ ليجمَعَ بينَ مقامي الشكْرِ والصَّبْرِ والرِّضا.
ومنها: ما أشارَ إليه بقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: "لعلَّه أنْ يطولَ بكَ حياةٌ". يعني أن من تكلَّفَ الاجتهادَ في العِبادةِ فقد تحمِلُه قوَّةُ الشَّباب ما دامَتْ باقيةً، فإذا ذهَبَ الشبابُ وجاء المشيبُ والكِبَرُ عَجَزَ عن حملِ ذلك، فمن صَابَرَ
(1)
وجاهَدَ واسْتمرَّ فَرُبَّما هَلَكَ بَدَنُه، وإن قطعَ فقد فاتَهُ أحبُّ الأعمال
(2)
إلى اللهِ تعالى، وهو المُدَاوَمَةُ على العَمَلِ. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اكْلَفُوا مِنَ العَمَلِ ما تُطيقُونَ، فواللهِ لا يَمَلُّ الله حتى تَمَلُّوا".
وقال صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ العَمَلَ إلى اللهِ أَدْومُهُ، وإنْ قَلَّ"
(3)
.
فمن عمِلَ عملًا يَقْوَى عليه بَدَنُهُ في طولِ عُمرِه، في قُوَّتِه وضَعفِهِ، اسْتَقامَ سَيْرُهُ. ومَنْ حَمَلَ ما لا يُطيقُ؛ فإنَّه قد يَحدُثُ له مرَضٌ يمنعُهُ مِن العَمَل بالكليَّةِ، وقد يَسْأَمُ ويَضْجَرُ فيقطَعُ العَمَلَ، فيصيرُ كالمُنْبَتَ لا أرضًا قَطَعَ ولا ظهرًا أبقَى
(4)
. وأمَّا صيامُ
(1)
في ب، ط:"صابره".
(2)
في الأصول: "العمل"، وأثبت ما جاء في (ط).
(3)
روى ابن الأثير في "جامع الأصول" 1/ 318 عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لن يُنجي أحدَكم عملُه، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمة منه، فسدَّدوا، وقاربوا، واغدوا، وروحوا، وشيئًا من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا، وإن أحبَّ الأعمال إلى الله تعالى ما داوم عليه صاحبُه، وإن قلَّ، فاكْلَفوا من العمل ما تطيقون، فإنَّ الله لا يمل حتى تملوا". ولم ينسبه، ومعناه ثابت في كتب الصحاح. وقد أخرجه البخاري رقم (43) في الإيمان، باب أحب الدِّين إلى الله أدوَمُه و (1151) في التهجد: باب ما يكره من التشديد في العبادة. و (6465) في الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل؛ ومسلم رقم (782) في الصلاة، باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل، وأبو داود 1/ 315 في صلاة الليل، باب ما يؤمر به من القصد في الصلاة. قال ابن الأثير في "جامع الأصول" 1/ 306:"لا يَمَلُّ حتى تملّوا: المراد بهذا الحديث: أن الله لا يملُّ أبدًا، مللتم أو لم تَمَلُّوا، فجرى مجرى قولهم: لا أفعله حتى يشيب الغراب، ويبيضَّ القار. وقيل معناه: إن الله لا يطرحكم حتى تتركوا العمل له، وتزهدوا في الرغبة إليه، فسمَّى الفعلين مللًا، وكلاهما ليس بملل. وقيل معناه: إن الله لا يقطع عنكم فضله، حتى تملّوا سؤاله، فسمّى فعلَ الله مللًا، وليس بملل، على جهة الازدواج، كقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} وكقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}، وهذا شائع في العربية، وكثير في القرآن".
(4)
قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 3/ 199، وأوله: "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإنَّ المنبتَّ
…
". وهو مثل تجده في كتاب الأمثال لأبي عبيد ص 36، ومجمع الأمثال للميداني 1/ 7، والزمخشري 1/ 410، والبكري ص 13، واللسان (بتت). والمنبت: الرجل انقطع في سفره، وعطِبت راحلته.
النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الأيام، أعني
(1)
أيامَ الأسبوع، فكانَ يتحرَّى صيامَ الاثنينِ والخميسِ. وكذا رُوِي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيامَ الاثنين والخميسِ. خرَّجَه الإمامُ أحمدُ
(2)
، والنسائيُّ، وابنُ ماجه، والترمذي وحسَّنَهُ.
وخرَّجَ ابنُ ماجه
(3)
، من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومُ الاثنين والخميس، فقيل: يا رسولَ اللهِ! إنَّكَ تصومُ الاثنين والخميس؟ فقال: "إنَّ يومَ الاثنين والخميس يَغفِرُ الله فيهما لكل مُسلم، إلَّا مُهْتَجِرَيْنِ
(4)
، فيقول: دَعُوهُما حتى يَصْطَلِحا". وخرجه
(5)
الإمام أحمد، وعنده أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم "كان أكثر ما يصومُ الاثنين والخميس، فقيل له، قال: إن الأعمال تُعْرَضُ كُل اثنين وخميسٍ، فيغفر لِكلِّ مسلمٍ، أو لكُل مؤمنٍ، إلا المتهاجِرَيْن، فيقول: أخِّرْهُما".
وأخرَجَه الترمذي
(6)
، ولفظه: قال: "تُعرَضُ الأعمالُ يومَ الاثنين ويومَ الخميس، فأُحِبُّ أنْ يُعرَضَ عملي وأنا صائم". ورُوِي موقوفًا على أبي هريرةَ، ورجَّحَ بعضُهم وَقْفَهُ.
وفي صحيح مسلم
(7)
عن أبي هريرة مرفوعًا: "تُفْتَحُ أبوابُ الجَنَّةِ يومَ الاثنينِ
(1)
في آ، ع:"يعني".
(2)
رواه أحمد في "مسنده" 6/ 80، والنسائي 4/ 202، 203 في الصوم، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم؛ وابن ماجه رقم (1739) في الصيام يوم الاثنين والخميس؛ والترمذي رقم (745) في الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، وإسناده حسن.
(3)
رقم (1740) في الصيام، باب صيام يوم الاثنين والخميس. وفي الزوائد: إسناده صحيح غريب، في سنده محمد بن رفاعة ذكره ابن حبان في الثقات، تفرَّد بالرواية عنه الضحاك بن مخلد، وباقي إسناده على شرط الشيخين. وله شاهد من حديث أسامة بن زيد رواه أبو داود والنسائي. وروى الترمذي بعضه في الجامع، وقال: حسن غريب. وذكره المنذري في "الترغيب" 2/ 125 و 126، قال: رواه ابن ماجه، ورواته ثقات.
(4)
في سنن ابن ماجه: "إلَّا متهاجرين "، وكلاهما صحيح، أي متقاطعين، لأمر لا يقتضي ذلك؛ وإلا فالتقاطع للدِّين، ولتأديب الأهل، جائز.
(5)
في آ: "وخرج الإمام أحمد وغيره. رواه في "مسنده" 2/ 329.
(6)
رقم (747) في الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، وفي سنده محمد بن رفاعة بن ثعلبة القرظي، لم يوثقه غير ابن حبان. قال الحافظ: وقال الأزدي: منكر الحديث، وباقي رجاله ثقات. ولكن للحديث شواهد بمعناه، ولذلك قال الترمذي: حديث أبي هريرة في هذا الباب حديث حسن غريب.
(7)
رقم (2565) في البر والصلة، باب النهي عن الشحناء والتهاجر. وأخرجه الترمذي رقم (2024) في البر والصلة، باب ما جاء في المتهاجرين، وأبو داود رقم (4916) في الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم، والموطأ 2/ 908 - 909 في حسن الخلق، باب ما جاء في المهاجرة.
ويومَ الخميسِ، فيُغفَرُ لِكُلِّ عبدٍ لا يُشْرِكُ بالله شيئًا، إلا رجلًا
(1)
كانت بينَه وبينَ أخيهِ شَحْناءُ، يقولُ: أنْظِرُوا هذين حتَّى يصطَلِحا". ويُرْوَى بإسنادٍ فيه ضعفٌ عن أبي أمامةَ مرفوعًا: "تُرْفَعُ الأعمالُ يومَ الاثنين ويومَ الخميسِ، فيُغفرُ للمستغفرينَ ويُتركُ أَهْلُ الحِقْدِ بحِقْدِهم"
(2)
. ورَوَى علي بن أبي طلحة
(3)
، عن ابن عباس في قوله عز وجل:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
(4)
، قال: يُكتبُ كُلُّ ما تكلَّمَ به من خيرٍ وشرٍّ، حتى إنَّه لَيُكْتَبُ قولُه: أكلْتُ، وشَرِبْتُ، وذَهَبْتُ، وجئْتُ، ورأيْتُ، حتى إذا كان يومُ الخميسِ عُرِضَ قولُه وعملُه فأُقِرَّ منه ما كان فيه مِن خيرٍ أو شرٍّ، وأُلْقِي سائرُه، فذلك قولُه تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)}
(5)
. خرَّجه ابنُ أبي حاتم
(6)
وغيرُه. فهذا يدُلُّ على اختِصاصِ يومِ الخميسِ بِعَرْضِ الأعمالِ لا يوجَدُ في غيرِهِ.
وكان إبراهيمُ النخعِيُّ
(7)
يبكي إلى امرأتِهِ يومَ الخميسِ وتبكي إليه، ويقولُ: اليومَ تُعْرَضُ أعمالُنا علي اللهِ عز وجل.
فهذا عَرْضٌ خاصٌّ في هذين اليومين غيرُ العَرْضِ العامِّ كل يوم، فإن ذلك عَرْضٌ دائم [كل يوم]
(8)
بُكْرَةً وعشِيًّا. ويدُلُّ على ذلك ما في "الصحيحين"
(9)
عن أبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "يتعاقَبُونَ فيكم ملائكة بالليلِ، وملائِكَة بالنهارِ، فيجتمِعونَ في صلاةِ الصُّبحِ، وصَلاةِ العَصْرِ، فيسألُ الذين باتوا فيكم، وهو أعلمُ:
(1)
في آ، ب، ط:"إلا رجل".
(2)
أخرجه ابن عدي في "الكامل" 6/ 2441 من حديث أبي أمامة، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي سنده مطرِّح بن يزيد، وقد ضعف.
(3)
علي بن أبي طلحة، مولى بني العباس، سكن حمص، أرسل عن ابن عباس ولم يره، صدوق قد يخطئ، مات سنة 143 هـ. (التقريب).
(4)
سورة ق الآية 18.
(5)
سورة الرعد الآية 39.
(6)
أخرجه ابن كثير في "تفسيره" 4/ 224.
(7)
هو إبراهيم بن يزيد بن الأسود النخعي، أبو عِمران الكوفي، من أكابر التابعين صلاحًا وصدق رواية وحفظًا للحديث. فقيه أهل الكوفة ومفتيها هو والشعبي في زمانهما، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، مات سنة 96 هـ. (تذكرة الحفاظ 1/ 73، تهذيب التهذيب 1/ 177، صفة الصفوة 3/ 86).
(8)
زيادة من آ، ع.
(9)
أخرجه البخاري رقم (555) في مواقيت الصلاة: باب فضل صلاة العصر، وفي بدء الخلق: باب ذكر الملائكة، وفي التوحيد: باب قوله تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} ، وباب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة. ومسلم رقم (632) في المساجد: باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما.
كيفَ تركْتُم عِبادِي؟ فيقولون: أتيناهُم وهم يُصَلُّون، وتركْنَاهُم وهُم يُصَلُّون.
وفي صحيح مسلم
(1)
عن أبي موسى الأشعرِيِّ، قال: "قام فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بخمسِ كلماتٍ، فقال: إن الله لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ، يَخْفِضُ القِسْطَ وَيرفعُه
(2)
، يُرفَعُ إليه عَمَلُ اللَّيلِ قبلَ النَّهارِ، وعملُ النهارِ قبلَ اللَّيلِ، حجابُه النورُ، لو كَشَفَه لأحْرَقَتْ سُبُحَاتُ
(3)
وجهِهِ ما انتهَى إليه بَصَرُه من خَلْقِهِ". ويُروَى عن ابن مسعود، قال: إن مقدارَ كُل يوم مِن أيامكم عندَ ربِّكم ثنتا عشرةَ ساعةً، فتُعرضُ عليه أعمالُكُم بالأمسِ أوَّلَ النَّهارِ اليومَ، فيُنْظَرُ فيها ثلاثَ ساعاتٍ، وذَكَر باقيَهُ. كان الضحَّاكُ
(4)
يَبْكِي آخرَ النهارِ، ويقول: لا أدري ما رُفعَ من عَملِي. يا مَنْ عَمَلُه معروض
(5)
على مَنْ يَعْلَمُ السِّرَّ وأخْفَى، لا تُبهرِجْ فإنَّ النَّاقِدَ
(6)
بَصيرٌ.
السُّقْمُ علَى الجِسْمِ لَهُ تَرْدَادُ
…
والعُمْرُ مَضَى وزلَّتي تَزْدَادُ
(7)
ما أبعَدَ شُقَّتِي وما لي زَادُ
…
ما أكثَرَ بَهْرَجي ولي نَقَّادُ
(8)
وحديثُ أسامةَ
(9)
فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سرَدَ الفِطرَ يصومُ الاثنين والخميسَ، فدَل على مواظبةِ النبي صلى الله عليه وسلم على صيامِهما، وقد كانَ أسامةُ يَصُومُهما حَضَرًا وسَفَرًا لهذا. وفي مسند الإمام أحمدَ وسنن النّسائى عن عبد الله بن عمرو
(10)
أن
(1)
رقم (179) في الإيمان: باب في قوله عليه السلام: إنَّ الله لا ينام.
(2)
أي يخفض الله الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة، ويوزن من أرزاقهم النازلة.
(3)
سبحات وجه الله: أنواره وجلاله وعظمته. (اللسان: سبح).
(4)
هو الضحّاك بن مُزاحم الهلالي، أبو القاسم، أو أبو محمد، الخراساني. توفي سنة 102 وقيل: سنة 105 هـ. والخبر في "صفة الصفوة" 4/ 150.
(5)
في آ: "ليس يخفى".
(6)
في آ، ش، ع:"فالناقد بصير".
(7)
في ب، ش، ط:"والعمر ينقص والذنوب تزاد".
(8)
البَهْرَج من الدراهم: الرديء، وكنَّى به عن أخطائه وزلاته. والفقال: الذي يميز الرديء من الحسن، وأراد بالنقاد الله عز وجل، وقبل ذلك قال:"لا تبهرج فمن الناقد بصير".
(9)
أخرجه النَّسَائِي 4/ 201، 202 في الصوم، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم، وإسناده حسن. قال أسامة: قلت: يا رسول الله، إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد تصوم، إلا يومين أن دخلا في صيامك، وإلا صمتهما؟ قال: أيَّ يومين؟ قلت: الاثنين والخميس، قال: ذلك يومان تعرض فيهما الأعمال على ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يعرض عملي وأنا صائم.
(10)
في آ، ع:"عبد الله بن عمر"، وهو حديث آخر رواه النَّسَائِي 4/ 220 في الصوم، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وهو حديث حسن. وعنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر: يوم الاثنين من أول الشهر، والخميس الذي يليه، ثم الخميس الذي يليه". وأما حديث عبد اللّه بن عمرو الوارد هنا فقد مضى تخريجه.
النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَه أنْ يَصومَ ثلاثةَ أيَّام مِن كُل شهرٍ. فقال له
(1)
: إني أَقْوَى على أكثَرَ مِن ذلك، قال: فَصُم من الجمعةِ يومَ الاثنين والخميس، قال: إنِّي أقْوَى على أكثَرَ مِن ذلك، قال: فَصُم صيامَ داودَ. وفي مسند الإمام أحمدَ
(2)
مِن رواية عثمانَ بن رُشيد، حدثني أنسُ بن سيرين، قال: أتينا أنسَ بنَ مالك في يوم خميسٍ، فدعا بمائدته، فدعاهم إلى الغداءِ، فأكَلَ
(3)
بعضُ القوم وأمسكَ بعضٌ، ثم أتَوْهُ يومَ خميسٍ، ففعَلَ مثلَها، فقال أنس: لعلَّكم أثْنائيّونَ
(4)
، لعلَّكُم خَميسيُّون، كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَصومُ حتَّى يقالَ لا يُفطِرُ، ويُفطِرُ حتى يقالَ لا يَصُومُ.
وظاهرُ هذا الحديث يخالِفُ حديثَ أُسامَةَ وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يَصومُ الاثنين والخميسَ إذا دَخَلا في صيامِه، ولم يكُنْ يَتحرى صيامَهُما في أيام سَرْدِ فطرِه، ولكن عثمان بن رُشيد ضعيف، ضَعَّفَه ابنُ معين وغيرُه، وحديثُ أسامةَ أصح منه. وقد رُوِي من حديث أم سلمَة
(5)
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومُ مِن كُل شهرٍ ثلاثةَ أيام، أوَّل خميس والاثنين والاثنين. وفي روايةٍ
(6)
بالعكس: الاثنين والخميس والخميسُ. وأكثَرُ العُلماءِ على استحباب صِيامِ الاثنين والخميسِ. ورُوِي كراهتُهُ عن أنسِ بن مالك من غيرِ وجهٍ عنه، وكان مجاهدٌ يفعلُه، ثم تَرَكَهُ وكرهه. وكره أبو جعفر
(7)
محمد بن علي صيامَ الاثنين، وكرِهَتْ طائفة صِيامَ يوم معينٍ كُلَّما مَرَّ بالإنسان.
رُوِي عن عمرانَ بن حُصين، وابنِ عباس، والشعبى، والنخعي، ونَقلَهُ
(1)
لفظة "له"، لم ترد في آ، ع.
(2)
مسند أحمد 3/ 230، وليس فيه "ثم أتوه يوم خميس، ففعل مثلها".
(3)
في ب، ش، ط:"فتغدى".
(4)
في ب، ش، ط:"اثنائيون "، ويجمع الاثنان على أثناء.
(5)
النَّسَائِي 4/ 221 في الصوم: باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، من حديث هنيدة بن خالد الخزاعي، عن أمِّه، عن أم سلمة.
(6)
النَّسَائِي 4/ 220 - 221، وأبو داود رقم (2427) من حديث هنيدة بن خالد الخزاعي، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 271 و 6/ 288 و 423. قال الحافظ المنذري في "مختصر سنن أبي داود": واختلف على هنيدة بن خالد في إسناده، فروي عنه كما أوردناه، وروي عنه عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنه عن أمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وهو حديث حسن.
(7)
في آ: "أبو حفص". وهو محمد بن علي زين العابدين بن الحسين الطالبي الهاشمي القرشي، أبو جعفر الباقر، وقد سبقت ترجمته.
ابنُ القاسم عن مالك. وقال الشافعي في القديم: أكرَهُ ذلك، قال: وإنما أكرهه
(1)
لئلَّا يتأسَّى جاهِلٌ فيَظنُّ أن ذلك واجِبٌ، قال: فإنْ فَعَلَ فحسَنٌ، يعني على غيرِ اعتقادِ الوُجوبِ.
وأمَّا صيامُ النبي صلى الله عليه وسلم من أشهرِ السَّنةِ فكانَ يَصومُ من شعبانَ ما لا يَصومُ مِن غيرِهِ مِنَ الشهورِ. "وفي الصحيحين"
(2)
عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: ما رأيْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم استكمَلَ صيامَ شهرٍ قط إلا رمضانَ، وما رأيتُه في شهرٍ أكثَرَ صيامًا منهُ في شَعْبانَ. زاد البخاريُّ في رواية "كان يَصُومُ شعبانَ كلّه". ولمسلم في روايةٍ "كان يصومُ شعبانَ كلَّه، كانَ يَصُومُ شعبانَ إلَّا قليلًا". وفي رواية للنسائي
(3)
عن عائشة، قالت: كان أحبَّ الشهورِ إلى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَصُومَ شعبانَ، كان يَصِلُه برمضَانَ.
وعنها وعن أم سلمةَ، قالتا:"كان رسولُ الله يَصُومُ شعبانَ إلا قليلًا، بل كان يَصُومُه كلَّه"
(4)
. وعن أمِّ سَلَمَةَ قالَتْ: "ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شهرين متتابعين إلا شعبانَ ورمضانَ"
(5)
.
وقد رجَّحَ طائفةٌ مِن العلماء؛ منهم ابنُ المبارك وغيرُهُ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستكمِلْ صِيامَ شَعبانَ، وإنما كانَ يَصُومُ أكثرَهُ. ويشهَدُ له ما في صحيح مسلم
(6)
عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت:"ما علمته - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - صَامَ شهرًا كلَّه إلَّا رمضانَ". وفي روايةٍ له أيضًا عنها قالت: "ما رأيتُهُ صامَ شهرًا كاملًاِ، مُنْذُ قدِمَ المدينة، إلَّا أن يكونَ رمضانَ".
(1)
في ب، ط:"وإنما كرهته"، وفي ش:"وإنما كرهه".
(2)
أخرجه البخاري رقم (1969) في الصوم: باب صوم شعبان؛ ومسلم رقم (1156) في الصيام: باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم غير رمضان.
(3)
4/ 99، 200 في الصوم: باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الترمذي رقم (736) في الصوم: باب ما جاء في وصال شعبان برمضان، وأبو داود رقم (2431) و (2434) في الصوم: باب في صوم شعبان، وكيف كان يصوم النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
رواه الترمذي رقم (736) في الصوم: باب ما جاء في وصال شعبان برمضان، واللفظ له.
(5)
رواه الترمذي رقم (736) في الصوم، باب ما جاء في وصال شعبان برمضان؛ وأبو داود رقم (2336) في الصوم، باب فيمن يصل شعبان برمضان؛ والنسائي 4/ 200 في الصوم، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم، وحسنه الترمذي، وهو كما قال.
(6)
أخرجه مسلم رقم (1156) في الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان. وأخرج الرواية الثانية الترمذي رقم (768) في الصوم، باب ما جاء في سرد الصوم، والنسائي 4/ 199 في الصوم، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية
(1)
له أيضًا أنَّها قالَتْ: "لا أعلَمُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كلَّه في ليلةٍ، ولا صَامَ شهرًا كاملًا غيرَ رمضانَ". وفي روايةٍ
(2)
له أيضًا، قالتْ:"ما رأيتُه قامَ ليلةً حتى الصَّباحِ، ولا صَامَ شهرًا متتابعًا إِلَّا رَمضَانَ". وفي الصحيحين
(3)
عن ابن عباسٍ، قال:"ما صَامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا غيرَ رمضانَ". وكان ابنُ عباس يكرَهُ أن يَصُومَ شهرًا كاملًا غيرَ رمضانَ.
وروى عبدُ الرزَّاق في "كتابه"
(4)
عن ابن جُريج، عن عطاء، قال:"كان ابنُ عبَّاس ينهَى عن صِيامِ الشهرِ كاملًا، ويقول: لِيَصُمْهُ إِلا أيَّامًا؛ وكان ينهَى عن إفرادِ اليوم كلَّما مَرَّ بهِ، وعن صيام الأيَّام المعلومة، وكان يقول: لا تَصُمْ أيَّامًا معلومةً". فإنْ قَيلَ: فكيفَ كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصُّ شعبانَ بصيام التَّطوُّعِ فيه مع أنَّه قال: أفضَلُ الصِّيامِ بعدَ شهرِ رَمضانَ شهر الله المحرم؟.
فالجوابُ: أن جماعةً مِن الناس أجابُوا عن ذلك بأجوبةٍ غيرِ قويّةٍ؛ لاعتقادِهِم أنَّ صيامَ المُحرَّم والأشهرِ الحُرم أفضَلُ مِن صيام شعبانَ، كما صرَّحَ به الشافعية وغيرهم، والأظَهَرُ خلاف ذلك، وأن صيامَ شعبانَ أفضَل مِن صيام الأشهرِ الحُرم. ويدُلُّ على ذلك ما خرَّجَه الترمذيُّ
(5)
من حديث أنس: سُئلَ النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصِّيَام أفضَلُ بعدَ رمضانَ؟ قال: شعبان، تعظيمًا لرمضانَ. وفي إسناده مقَالٌ.
وفي سنن ابن ماجَه
(6)
أنَّ أسامَةَ كان يَصومُ الأشْهُرَ الحرُمَ، فقال له
(1)
من حديث طويل جدًّا، وبروايات مختلفة اللفظ، رواه سعد بن هشام رضي الله عنه، وهو في مسلم رقم (746) في صلاة المسافرين: باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، وعند أبي داود الأرقام من (1342) إلى (1349) ورقم (1352) في الصلاة، باب صلاة الليل، وعند النَّسَائِي 3/ 199 في قيام الليل وغيره.
(2)
رقم (746) أيضًا.
(3)
أخرجه البخاري رقم (1971) في الصوم، باب ما يذكر من صوم النبي صلى الله عليه وسلم وإفطاره؛ ومسلم رقم (1157) في الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم؛ والنسائي 4/ 199 في الصوم، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم.
(4)
المصنف 4/ 292 رقم (7855)، وفيه:"وكان يقول: لا يصم صيامًا معلومًا".
(5)
رقم (663) في الزكاة، باب ما جاء في فضل الصدقة. وفي سنده "صدقة بن موسى" وفيه مقال، كما ذكر المؤلف رحمه الله. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بالقوي.
(6)
رقم (1744) في الصيام، باب صيام أشهر الحرم. وفي الزوائد إسناده صحيح، إلا أنه منقطع بين محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وبين أسامة بن زيد.
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "صُمْ شوَّالًا"، فترَكَ الأشهُرَ الحُرُمَ، فكانَ يَصُومُ شوَّالًا حتى ماتَ. وفي إسنادِه إرسالٌ. وقد رُوِي من وجهٍ آخرَ يَعْضُدُه. فهذا نَصٌّ في تفضِيلِ صِيام شوَّال على صِيام الأشهرِ الحُرُمِ، وإنَّما كان كذلك لأنَّه يلي رمضانَ من بعدِه، كَما أن شعبانَ يليهَ من قبلِهِ، وشعبانُ أفضَلُ؛ لِصيام
(1)
النبي صلى الله عليه وسلم له دونَ شوَّال، فإذا كان صيامُ شوَّال أفضلَ من الأشهرِ الحُرُمِ فلأنْ يكَونَ صَوْمُ شعبانَ أفضلَ بطريق الأوْلَى.
فظَهَرَ بهذا أن أفْضَلَ التَّطوَّع ما كان قَريبًا من رمضانَ؛ قبلَه وبعدَه، وذلك يلتحقُ
(2)
بصيام رمضانَ؛ لِقُرْبِه منه، وتكونُ منزلتُهُ من الصيام بمنزلةِ السُّنن الرواتِب مع الفرائِض قبلَها وبعدَها، فيلتحِقُ بالفرائضِ في الفضلِ، وهي تَكمِلهٌّ لنقَصِ الفرائضِ. وكذلك صيامُ ما قبلَ رمضانَ وبعدَه. فكما
(3)
أنَّ السننَ الرواتِبَ أفضلُ مِن التَّطوُّعِ المُطْلَقِ بالصَّلاةِ، فكذلك يكون
(4)
صيامُ ما قبلَ رمضانَ وبعدَه أفضلَ من صيامِ ما بعُدَ منه، ويكونُ قولُه "أفضَلُ الصِّيامِ بَعْدَ رمضانَ المُحَرمُ" محمولًا على التطوُّعِ المُطْلَقِ بالصِّيام. فأمَّا ما قبلَ رمضانَ وبعدَه فإنَّه يَلتحِقُ
(5)
به في الفضلِ، كما أنَّ قوله في تمام الحَديثِ "وأفضلُ الصَّلاةِ بعدَ المَكْتُوبةِ قيامُ اللَّيلِ" إنما أُريدَ بهِ تفضيلُ قيام اللَّيلِ على التطوُّعِ المُطْلَقِ دُونَ السننِ الرواتب عند جُمهورِ العُلماءِ، خلافًا لبعضِ الشافعيةِ. واللهُ أعلم.
فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضَلُ الصِّيام صِيامُ داودَ؛ كانَ يَصُومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا" ولم يَصُمْ كذلك، بل كانَ يَصُومُ سَرْدًا ويُفطِرُ سَرْدًا، ويَصُومُ شعبانَ وكلَّ اثنين وخميس. قيل: صيامُ داودَ الذي فَضَلَه النبي صلى الله عليه وسلم على الصيامِ، قد فسَّرَه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثٍ آخرَ بأنَّه صَوْمُ شَطْرِ الدَّهْرِ، وكان صيامُ النبي صلى الله عليه وسلم إذا جُمعَ يَبلُغُ صِيامَ نِصْفِ الدَّهْرِ أو يَزيدُ عليه، وقد كانَ يَصُومُ مَعَ ما سَبَقَ ذِكْرُه يومَ عاشوراء، أو تسعَ
(6)
ذي الحِجَّة، وإنَّما كان يُفرِّقُ صِيامَهُ ولا يَصُومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا؛ لأنَّه كانَ يتحرَّى صِيامَ الأوقاتِ الفَاضِلةِ، ولا يَضُر تفريقُ الصِّيامِ والفطرِ أكثرَ مِن يوم ويوم، إذا كانَ القصدُ
(1)
في آ: "أفضل الصيام، لصيام".
(2)
في آ، ع:"ملتحق".
(3)
في آ، ع:"وكما".
(4)
لفظ "يكون" لم يرد في ب، ش، ط.
(5)
في آ، ع:"ملتحق".
(6)
في ش، ع:"وتسع ذي الحجة".
به التَّقوِّي على ما هو أفضلُ مِن الصِّيامِ؛ بن أَدَاءِ الرِّسالةِ وتبليغها، والجهادِ عليها، والقيام بحقوقِها، فكان
(1)
صيام يوم وفِطْر يَوْم يُضعِفُهُ عن ذلك. ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم في حديثِ أبي قَتَادة عمَّن يَصُومُ يومًا ويُفطِرُ يومين، قال: "ودِدْتُ أني طُوِّقْتُ ذلك
(2)
.
وقد كان عبدُ الله بنُ عمرو بن العاص لمَّا كَبُرَ يسرُدُ الفِطْرَ أحيانًا ليتقوَّى بهِ على الصِّيامِ، ثمَّ يَعودُ فيصومُ ما فاتَهُ محافظةً على ما فارَقَ عليه النبي صلى الله عليه وسلم مِن صيامِ شطرِ الدَّهرِ، فحصَلَ للنبي صلى الله عليه وسلم أجرُ صِيام شطرِ الدَّهْرِ، وأزيدُ منه بصيامِهِ المتفرّقِ، وحصَلَ له أجرُ تتابُعِ الصِّيام بتمنِّيهِ لذلك، وإنما عاقَهُ عنه الاشتِغالُ بما هو أهمُّ منه وأفضَلُ. والله أعلم. وقد ظهرَ بما ذكرناه وجهُ صيامِ النبي صلى الله عليه وسلم لشعبانَ دونَ غيرِهِ مِنَ الشهورِ، وفيه معانٍ أُخَر؛ وقد ذَكَرَ منها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثِ أسامةَ
(3)
مَعنيين.
أحدهما: أنَّه شهر يغفلُ الناسُ عنه بينَ رجب ورمضانَ؛ يُشير صلى الله عليه وسلم إلى
(4)
أنه لمَّا
(1)
في آ، ع:"وكان".
(2)
قوله: "وددت أني طوِّقْت ذلك": أي ليته جُعل ذلك داخلًا في طاقتي وقدرتي. (النهاية 7/ 144). وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه، قال: إن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، فلما رأى عمر غضبَه، قال: رَضِينا بالله ربًّا، وبالإسلام دِينًا، ولمحمد نبيًّا - وفي رواية: وبيعتنا بيعةً - نعوذ بالله من غضب الله وغَضب رسوله. فجعل عمرُ يردِّد هذا الكلام حتى سكن غضبُه، فقال عمر: يا رسولَ الله! كيف بمن يصوم الدهرَ كلَّه؟ قال: لا صامَ ولا أفطرَ - أو قال: لم يصم ولم يفطر - قال: كيف بمن يصوم يومين يفطر يومًا؟ قال: ويُطيق ذلك أحدٌ؟ قال: كيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: ذاك صوم داود عليه السلام، قال: كيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومين؟ قال: ودِدْت أنِّي طُوِّقت ذلك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيامُ الدهر كلّه. صيامُ يوم عرفة: أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله، والسَّنَةَ التي بعده؛ وصيام يوم عاشوراء: أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله. أخرجه مسلم رقم (1162) في الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأبو داود رقم (2425) و (2426) في الصوم، باب في صوم الدهر تطوعًا، والنسائي 4/ 207 في الصوم، باب ذكر الاختلاف على غيلان بن جرير فيه، وصوم ثلثي الدهر، وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك. وابن ماجه (بعضه) رقم (1713) في الصيام، باب ما جاء في صيام داود عليه السلام.
(3)
أخرجه النَّسَائِي 4/ 201 في الصوم، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم، وإسناده حسن. عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، قال:"قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذاك شهر يَغْفُل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يرفع عملي وأنا صائم".
(4)
لفظ "إلى" لم يرد في آ، ع.
اكتَنَفَه شهرانِ عظيمانِ؛ الشهرُ الحَرَامُ، وشهرُ الصِّيام، اشتغَلَ النَّاسُ بهما عنه، فصارَ مغفولًا عنه. وكثيرٌ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أن صِيامَ رجبٍ أفَضَلُ من صيامِهِ لأنَّه شهر حرام، وليس كذلك. ورَوَى ابنُ وَهْبٍ
(1)
، قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن أزهرَ بن سَعْدٍ
(2)
، عن أبيه، عن عائشةَ، قالت: ذُكِرَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ يَصُومونَ رجَبًا، فقال: "فأينَ
(3)
هم عن شعبانَ".
وفي قوله "يغفُلُ النَّاسُ عنه بينَ رَجَبٍ ورمضانَ": إشارة إلى أن بعضَ ما يَشتهرُ فضلُه مِن الأزمانِ أو الأماكنِ أو الأشخاصِ قد يكونُ غيرُه أفضلَ منه
(4)
؛ إمَّا مُطلقًا أو لِخصُوصيَّةٍ فيه لا يتفطَّنُ لها أكثرُ النَّاسِ. فيشتغِلُون بالمشهور عنه، ويُفوّتون تحصيلَ فَضيلةِ ما ليسَ بمشهورٍ عندَهم. وفيه دليلٌ على استحباب عمارةِ أوقاتِ غَفْلَةِ النَّاسِ بالطَّاعة، وأنَّ ذلك محبوبٌ لله عز وجل، كما كان طائفةٌ مِنَ السَّلفِ يَستحبُّونَ إحياءَ ما بينَ العِشاءَين بالصَّلاةِ، ويقولون: هي ساعةُ غَفْلَةٍ
(5)
، وكذلك فضل القيام في وسطِ اللَّيلِ؛ لِشمولِ الغَفْلَةِ لأكثرِ النَّاسِ فيه عن الذِّكْرِ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إن استطَعْتَ أنْ تكونَ مِمَّن يذكُرُ الله في تلك السَّاعةِ فكُنْ". ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يُريدُ أن يؤخِّرَ العشاءَ إلى نصفِ اللَّيلِ، وإنما علَّلَ تَرْكَ ذلك؛ لِخشيةِ المشقَّةِ على النَّاس. ولمَّا خَرَجَ صلى الله عليه وسلم على أصحابِهِ وهُم ينتظِرُونه لِصلاةِ العِشاءِ قال لهم
(6)
: "ما ينتظِرُها أحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأرضِ غيرُكُم"
(7)
. وفي هذا إشارةٌ إلى فضيلةِ التفرُّدِ بذكر اللهِ في وقتٍ من
(1)
في آ: "وروى ابن وهب عن معاوية بن صالح". وهو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم، أبو محمد المصري، روى عن معاوية بن صالح بن حُدَير الحضرمي وغيره، أخرج له الجماعة، وكان فقيهًا ثقة حافظًا عابدًا. مات سنة 197 هـ. (تهذيب التهذيب 6/ 71).
(2)
كذا هو في الأصول، ولعله أزهر بن سعيد الحَرَازي الحميري الحمصي، ويقال: أزهر بن عبد الله، وعنه معاوية بن صالح الحضرمي. وذكر البخاري ثالثًا وهو "أزهر بن عبد الله" وجعلهم واحدًا، مات سنة 128 أو 129 هـ، وقد سبقت ترجمته.
(3)
في ع: "وأين".
(4)
في آ، ع:"منها".
(5)
في آ، ع:"الغفلة".
(6)
لفظ "لهم" لم يرد في آ، ع.
(7)
من حديث أخرجه البخاري رقم (569) و (570) في مواقيت الصلاة: باب النوم قبل العشاء لمن غلب؛ ومسلم رقم (639) في المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها؛ وأبو داود رقم (420) في وقت العشاء الآخرة؛ والنسائي 1/ 267 و 268 في المواقيت: باب آخر وقت العشاء. ولفظه عند مسلم عن ابن عمر، قال: "مكثنا ذات ليلة ننتظر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة، فخرج =
الأوقاتِ لا يُوجَدُ فيه ذاكرٌ له، ولهذا وَرَدَ في فَضْلِ الذكر في الأسواقِ
(1)
ما ورَدَ من الحديث المرفوع والآثارِ المَوْقُوفةِ، حتَّى قال أبو صالح: إن الله ليضحَكُ مِمَّن يذكُرُه في السُّوقِ، وسبَبُ ذلك أنه ذُكِرَ في مَوْطِنِ الغَفْلَةِ بينَ أهلِ الغَفْلَةِ.
وفي حديثِ أبي ذَرٍّ المرفوعِ: ثلاثةٌ يُحبُّهم الله؛ قومُ سارُوا لَيْلَتَهم
(2)
، حتَّى إذا كان النَّومُ أحبَّ إليهم مِمَّا يُعدَلُ به فوضَعُوا رؤوسهم، فقامَ أحدُهم يتملَّقُنِي ويتلُو آياتِي. وقومٌ كانوا في سَريَّةٍ فانهزَمُوا، فتقدَّم أحدُهمِ فلقِيَ العدوِّ فصبَرَ حتَّى قُتِلَ. وذَكَرَ أيضًا قومًا جاءَهُم سائلٌ فسألَهم فلم يُعطُوه، فانْفرَدَ أَحدُهُم حتى أعطاهُ سرًّا
(3)
. فهؤلاء الثَّلاثةُ انفرَدُوا عن رفقتِهم بمعاملةِ اللهِ سِرًا بينَهم وبينَهُ، فأحبَّهمُ الله.
فكذلك مَن يَذكرُ الله في غَفْلَةِ النَّاسِ، أو مَنْ يَصُومُ في أيَّامِ غَفْلةِ النَّاسِ عن الصِّيامِ. وفي إحياءِ الوقتِ المَغْفُولِ عنه بالطَّاعَةِ فوائد؛
منها: أنه يكونُ أخفَى، وإخفاءُ النَّوافِل وَإسْرارُها أفضَلُ، لا سيَّما الصيامُ؛ فإنَّه سِرٌّ بينَ العَبْدِ ورَبِّه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياءُ. وقد صَامَ بعضُ السَّلفِ أربعين سنةً لا يَعلَمُ به أحدٌ، كان يخرُجُ من بيته إلى سوقِهِ ومعه رَغيفانِ، فيتصدَّقُ بهما ويصومُ، فيظنُّ أهلُه أنَّه أكلَهما، ويظُن أهلُ سوقِهِ أنَّه أكَلَ في بيتِهِ. وكانوا يَستحِبُّون لمن صَامَ أن يُظهرَ ما يخفي به صيامه. فعن ابن مسعودٍ أنه قال:"إذا أصبحتُم صيامًا فأصبِحُوا مدَّهِنين". وقال قتادة: يُستحبُّ للصائم أنْ يدَّهنَ حتَّى تذهَبَ عنه غُبْرةُ الصِّيامِ.
= إلينا حين ذهب ثلث الليل، أو بعده، فلا ندري: أشيء شغله في أهل، أو غير ذلك؟ فقال حين خرج: إنكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقُلَ على أمتي لصلَّيْتُ بهم هذه الساعة، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة. وأخرج أبو داود والنسائي رواية مسلم. وزاد البخاري: وكان ابن عمر لا يبالي: قدَّمها أو أخَّرها، إذا كان لا يخشى أن يغلبه النوم عن وقتها، وقلَّما كان يرقد قبلها.
(1)
في آ: "السوق".
(2)
في آ، ع:"بليلتهم".
(3)
ذكر المؤلف رحمه الله الحديث بالمعنى. وقد رواه الترمذي رقم (2571) في صفة الجنة، والنسائي 5/ 84 في الزكاة، باب ثواب من يعطي، من حديث شعبة عن منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، عن زيد بن ظبيان، عن أبي ذر رضي الله عنه، وهو حديث حسن. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. ورواه أيضًا الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وقال أبو التيَّاحِ: أدركتُ أبي ومشيخةَ الحيِّ، إذا صَامَ أحدُهم ادَّهَنَ ولبسَ أحسَنَ
(1)
ثيابِهِ.
ويُروَى أن عيسى بنَ مريم عليه السلام قال: إذا كان يومُ صومِ أحدِكُم فليدهنْ لِحيتَهُ، وليمسَحْ شفتيهِ مِن دُهْنِهِ حتى ينظُرَ النَّاظِرُ إليه فيَرى أنَّه ليس بصائمٍ.
اشتهرَ بعضُ الصَّالِحين بكثرةِ الصِّيامِ، فكان يجتهِدُ في إظهار فطرِهِ للنَّاسِ حتَّى كان
(2)
يقومُ يَومَ الجمعةِ والنَّاسُ مجتمِعُونَ في مسجدِ الجامعِ، فيأخُذُ إبريقًا، فيضَعُ بلبلتَه في فيهِ ويمصُّه ولا يزدرِدُ
(3)
منه شيئًا، ويبقى ساعةً كذلك لِينظرَ النَّاسُ إليه فيظنُّونَ أنَّه يشرَبُ الماءَ، وما يدخل
(4)
إلى حلقه منه شيءٌ. كم يَستر الصَّادِقُونَ أحوالَهم وريحُ الصِّدْقِ ينُمُّ عليهم.
ريحُ الصِّيام
(5)
أطيبُ من ريحِ المِسْكِ تَستنشِقُه قلوبُ المؤمنينَ وإنْ خَفِيَ
(6)
، وكلَّما طالَتْ عليه المُدَّةُ ازدَادَ قوَّة ريحه.
كَمْ أَكْتُم حُبَّكُم عَنِ الأغيارِ
…
والدَّمْعُ يُذيعُ في الهَوَى أسرارِي
كَمْ أستُرُكُمْ هتَكْتُمُ أَسْتَارِي
…
من يُخفِى في الهوَى لَهِيبَ النَّارِ
ما أَسَرَّ أحدٌ سَرِيرةً إلَّا ألبَسَهُ الله رداءَها عَلانيةً.
وَهَبنِي كَتَمْتُ السِّرَّ أوْ قُلْتُ غَيرَهُ
…
أتخفَى على أَهْلِ القُلُوب السَّرائرُ
أَبَى ذاكَ أن السِّرَّ في الوَجْهِ نَاطِقٌ
…
وأن ضَميرَ القَلْبِ في العَينِ ظاهِرُ
ومنها: أنه أَشَقُّ على النُّفوسِ؛ وأفضَلُ الأعمالِ أشقُّها على النُّفُوسِ، وسببُ ذلك أن النُّفوسَ تتأسَّى بما تُشاهِدُه
(7)
من أحوالِ أبناءِ الجنسِ، فإذا كثُرَتْ يقظةُ النَّاسِ وطاعاتُهم كَثُرَ أهلُ الطَّاعةِ؛ لِكثرةِ المقتدِينَ بهم، فسَهُلَتِ الطَّاعاتُ. وإذا كَثُرَتِ الغَفْلاتُ وأهلُها تأسَّى بهم عُمومُ النَّاسِ، فيَشُقُّ على نُفوسِ المتيقظينَ
(1)
في ب، ش، ط:"صالح ثيابه".
(2)
لفظة "كان" لم ترد في آ، ع.
(3)
في ش: "ولا ينزل منه شيئًا".
(4)
في ب، ش، ط:"وما دخل".
(5)
في آ، ع:"الصائم".
(6)
في آ، ع:"أخفِي".
(7)
في آ، ع:"يشاهد".
طاعاتُهم؛ لقلَّةِ مَن يَقْتَدُونَ بهم فيها، ولهذا المعنى قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"للعاملِ منهم أَجْرُ خمسينَ منكم، أنَّكُم تجِدُون على الخيرِ أعوانًا ولا يَجِدُون"
(1)
. وقال صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلامُ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بَدَأ، فَطُوَبى لِلغُرباءِ"
(2)
. وفي رواية: "قيل: ومَنِ الغُرباءُ؟ قال: "الذينَ يَصْلُحُونَ إذا فَسَدَ النَّاسُ"
(3)
.
وفي صحيح مسلم
(4)
من حديثِ مَعْقِلِ بن يَسارٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"العِبَادَةُ في الهَرْجِ كالهجرةِ إليَّ". وخرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ
(5)
، ولفظه "العِبَادَةُ في الفِتْنَةِ كالهِجْرَةِ إليَّ". وسَببُ ذلك أن الناسَ في زمنِ الفِتنِ يتبعونَ أهواءَهُم ولا يَرجِعُونَ إلى دينٍ، فيكون حالُهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرَدَ مِنْ بينهم مَن يتمسَّكُ بدِينِه وَيعبُدُ ربَّهُ وَيتبَعُ مراضيه
(6)
، ويجتنِبُ مَسَاخِطَهُ، كان بمنزلةِ مَن هاجَرَ من بين أهلِ الجاهليةِ إلى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم مؤمنًا بهِ، مُتبِعًا لأوامِرِه، مُجْتنبًا لِنواهِيهِ.
ومنها: أن المنفرِدَ بالطَّاعة بين أهلِ المعاصِي والغَفْلةِ قد يُدْفَعُ به البَلاءُ عَنِ الناسِ كُلِّهم
(7)
، فكأنه يحميهِم ويُدافعُ عنهم. وفي حديثِ ابن عُمَرَ الذي رَويناه في "جزء ابن عَرَفة"
(8)
مرفوعًا: "ذاكِرُ اللهِ في الغافِلينَ كالذي يُقاتِلُ عَن الفارّينَ، وذاكِرُ الله في الغافلينَ كالشَّجرةِ الخضراء في وسَطِ الشَّجرِ الذي تحاتَّ
(9)
وَرَقُهُ مِنَ
(1)
أخرج شطره الأول الترمذي رقم (3060) في التفسير، وأبو داود رقم (4341) في الملاحم.
(2)
أخرجه مسلم رقم (145) في الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه الترمذي رقم (2631) في الإيمان، باب رقم (13) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال: حديث حسن غريب صحيح. ومعنى الحديث: أن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحق أهله النقص والاختلاف، حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضًا كما بدأ. (انظر شرح مسلم للنووي). وللمؤلف رحمه الله رسالة قيمة في شرح هذا الحديث باسم "كشف الكربة بوصف حال أهل الغربة"، وهو مطبوع في القاهرة بتحقيق أحمد الشرباصي.
(3)
خرَّج هذه الرواية أبو بكر الآجري، كما قال ابن رجب في كتابه "كشف الكربة" ص 63 - 72، وذكر روايات أخرى.
(4)
رقم (2948) في الفتن، باب فضل العبادة في الهرج، والترمذى رقم (2202) في الفتن، باب ما جاء في الهرج والعبادة فيه. والهَرْج: الفتنة في آخر الزمان، وشدَّة القتل وكثرته، والاختلاط. (اللسان: هرج).
(5)
مسند أحمد 5/ 27.
(6)
في آ: "مرضاته".
(7)
لفظ "كلهم" لم يرد في آ، ح.
(8)
هو الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي البغدادي، أبو علي، توفي سنة 257 هـ. ومن الكتاب نسخة في دار الكتب الظاهرية بدمشق، رواية إسماعيل بن محمد الصفار. (مجاميع 22).
(9)
تحاتَّ ورقُه: أي تناثر.
الصَّريدِ
(1)
- والصَّرِيدُ: البرْدُ الشديدُ - وذاكرُ اللهِ في الغافلين يغفرُ [الله]
(2)
له بعددِ كُلِّ رطبٍ ويابسٍ، وذكِرُ اللهِ في الغافلين يعرِفُ مقعدَهُ في الجنَّة"
(3)
.
قال بعضُ السَّلف: ذاكِرُ اللهِ في الغافلين كمثل الذي يحمِي الفئة المنهزِمَة، ولولا مَن يذكرُ الله في غَفْلةِ النَّاسِ لهلَكَ النَّاسُ.
رأى جماعةٌ مِن المتقدِّمينَ في منامهم كان ملاِئكة نزلَتْ إلى بلادٍ شتَّى، فقال بعضُهم لبعضٍ: اِخْسِفُوا بهذه القرية، فقال بعضُهم: كيفَ نخسِفُ بها وفلانٌ فيها قائمٌ يُصلِّي؟
ورأى بعضُ المتقدِّمينَ في منامِه مَن يُنشِدُ وَيقولُ
(4)
:
لَولا الَّذينَ لَهُمْ وِرْدٌ يُصلُّونا
…
وآخرون لَهُمْ سَرْدٌ يصُومُونا
لَدُكْدِكتْ
(5)
أَرْضُكُم مِن تحتِكُم سَحَرًا
…
لِأنكُم قومُ سُوءٍ ما تُطِيعُونا
وفي مسند البزَّارِ
(6)
عن أبي هريرة مرفوعًا: "مهلًا عن الله مهلًا، فلولا عبادٌ رُكَّعٌ، وأطفالٌ رُضَّعٌ، وبهائمُ رُتَّعٌ، لَصُبَّ عليكم العَذابُ صَبًّا". ولبعضهِم في المعنَى:
لَولا عِبادٌ للإله رُكَّعُ
…
وَصبْيةٌ مِنَ اليَتَامَى رُضَّعُ
ومُهْمَلاتٌ في الفَلَاةِ رُتَّعُ
…
صُبَّ
(7)
عليكم العذابُ المُوجِعُ
وقد قيل في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ
(1)
في ط: "الصرير"، وهو تصحيف.
(2)
زيادة من نسخة (ب).
(3)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 6/ 181 مع اختلاف في اللفظ، وعنه السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (4311) ورمز له بالضعف، وكذا ذكره الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" 3/ 166 رقم (3037).
(4)
لفظ "ويقول" لم يرد في آ، ش، ع.
(5)
دُكدِكَت أرضكم: أي دُفِنَت بالتراب.
(6)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 227
وقال: رواه البزار والطبراني في الأوسط، إلا أنه قال: لولا شباب خشع، وشيوخ ركع، وأطفال رضع، وبهائم رتع، لصُبَّ عليكم العذاب صبًا، ثم لَرُضَّ رَضًا، وقال: مهلًا عن الله مهلًا؛ وأبو يعلى [11/ 287] أخصر منه. وفيه إبراهيم بن خثيم، وهو ضعيف. ورواه البيهقي في "السنن" 3/ 345 وقال: إبراهيم بن خثيم غير قوي، وله شاهد بإسناد آخر غير قوي. وإبراهيم بن خثيم بن عراك بن مالك الغفاري، قال إسحاق الجوزجاني: كان غير مقنع، اختلط بآخرة. وقال النسائي: متروك. وأورد الذهبي له هذا الحديث في "ميزان الاعتدال" 1/ 30.
(7)
في آ، ع:"لصب".
الْأَرْضُ}
(1)
: إنه يدخلُ فيها دفْعُهُ عن العُصاةِ بأهلِ الطَّاعةِ. وجاء في الآثار: إنَّ الله يَدْفَعُ بالرَّجُلِ الصالِحِ عن أهلِهِ وولدِهِ وذريَّتِه ومَنْ حَوْلَه. وفي بعض الآثار يقولُ الله عز وجل: "أَحَبُّ العِبادِ إليَّ المُتَحابُّونَ بجلالي المشَّاؤون في الأرضِ بالنَّصِيحةِ، المشَّاؤون
(2)
على أقدامهم إلى الجُمُعاتِ".
وفي رواية: "المعلَّقة
(3)
قلوبُهم بالمساجِدِ، والمستغفِرونَ بالأسحارِ، فإذا أردتُ إنزالَ عذابٍ بأهلِ الأرضِ فنَظَرْتُ إليهم صَرفْتُ العَذَابَ عن النَّاسِ". وقال مكحولٌ
(4)
: ما دامَ في النَّاسِ خمسةَ عَشَرَ يَستغفِرُ كُلٌّ منهم الكة كُلَّ يوم خمسًا وعشرين مَرَّة لم يَهلِكُوا بعذاب عامَّة
(5)
. والآثارُ في هذا المعنى كثيرة جدًّا.
وقد رُوِيَ في صيام النبيِّ صلى الله عليه وسلم شعبانَ معنىً آخَرُ، وهو أنَّه تُنْسَخُ فيه الآجالُ. فَرُوِي بإسنادٍ فيه ضعفٌ عن عائشةَ، قالت:"كان أكثرُ صِيامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في شعبانَ، فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أَرَى أكثَرَ صِيامِكَ في شعبانَ. قال: إِنَّ هذا الشهر يُكتَبُ فيه لملَكِ الموتِ مَنْ يقبضُ، فأنا لا أحِبُّ أن يُنْسَخَ اسْمِي الَّا وأنا صَائمٌ"
(6)
.
وقد رُوِي مُرْسَلًا، وقيل: إنَّه أصَحُّ.
وفي حديثٍ آخرَ مُرسلٍ: "تُقْطَعُ الآجالُ مِن شعبانَ إِلى شعبانَ، حتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْكِحُ ويُولَدُ له ولَقَدْ خَرَج اسْمُه في الموتَى"
(7)
.
(1)
سورة البقرة الآية 251.
(2)
في ش، ط:"الماشون".
(3)
في ب، ط:"المتعلقة".
(4)
هو مكحول بن أبي مسلم، أبو عبد الله، الهذلي بالولاء. عالم أهل الشام في عصره، من حفاظ الحديث. أصله من كابل، ترعرع بها وسُبي، وصار مولى لامرأة بمصر من هذيل، فنسب إليها وأعتق، وتفقه، ورحل في طلب الحديث إلى العراق فالمدينة، واستقر بدمشق، وتوفي نحو سنة 112 هـ. (الحلية 5/ 177، تذكرة الحفاظ 107).
(5)
في ش، ع:"عامٌّ". وفي الحلية 5/ 183: "لم يؤاخذ الله تلك الأمة بعذاب العامة".
(6)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 192، قال: عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كلَّه. قالت: قلتُ يا رسول الله! أحبُّ الشهور إليك أن تصومَه شعبانُ. قال: إن الله يكتب على كل نفسٍ ميّتةٍ تلك السنة، فأحبُّ أن يأتيني أجلي وأنا صائم. قلت: في الصحيح طرف منه. رواه أبو يعلى (8/ 312) وفيه مسلم بن خالد الزنجي، وفيه كلام وقد وثق.
(7)
رواه الديلمي في "الفردوس" 2/ 73 عن عثمان بن الأخنس، وذكره الزبيدي في في "إتحاف السادة" 10/ 281، وقال: رواه الديلمي من حديث أبي هريرة. وروى ابن أبي الدنيا وابن جرير مثله من طريق الزهري عن عثمان عن=
ورُوِي في ذلك معنىً آخرُ، وهو أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَصُومُ مِن كُلِّ شهرٍ ثلاثةَ أَيَّامٍ، وربَّما أخَّرَ ذلك حتَّى
(1)
يصومَ شعبانَ. رَوَاهُ ابنُ أبي ليلى، عن أخيهِ عيسى، عن أبيهما، عن عائشةَ رضي الله عنها. خرَّجَه الطبرانيُّ
(2)
. ورواه غيرُه، وزاد "قالت عائشة: فربَّما أرَدْتُ أنْ أَصُومَ فلم أُطِقْ، حتَّى إذا صامَ
(3)
صُمْتُ معه".
وقد يُشكِلُ على هذا ما في صحيح مسلم
(4)
عن عائشةَ، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَصُومُ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كُلِّ شهرٍ، لا يبالِي من أيِّهِ كان". وفيه
(5)
أيضًا عنها، قالت:"ما علمته - تعنِي النبيَّ صلى الله عليه وسلم صامَ شهرًا كاملًا الَّا رمضانَ، ولا أَفْطَرَهُ كُلَّهُ حتَّى يَصُومَ منه، حتَّى مَضَى لِسبِيلِهِ". وقد يُجمَعُ بينَهما بأنه قد يكونُ صَوْمُه في بعضِ الشُّهورِ لا يبلُغ ثلاثةَ أيَّامٍ، فيُكمِلُ ما فاتَهُ من ذلك في شعبانَ، أو أنه كان يَصُومُ مِن كُلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ مع الاثنين والخميس، فيؤخِّرُ الثلاثةَ خاصَّةً حتى يقضيَها في شعبانَ مع صَوْمِه الاثنينِ والخميسِ. وبِكُلِّ حال فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم عملُه دِيمَة
(6)
، وكان إذا فاتَهُ شيءٌ مِن نوافلِهِ قضاهُ، كما كان يقضِي ما فاتَهُ مِن سُننِ الصَّلاةِ وما فاتَهُ مِن قيامِ اللَّيلِ بالنَّهارِ. وكان إذا دَخَلَ شعبانُ وعليه بقيَّةٌ مِن صيامِ تطوع لَمْ يَصُمْه، قَضَاهُ في شعبانَ
= محمد بن المغيرة بن الأخنس، ورواه ابن أبي حاتم بنحوه عن ابن عباس موقوفًا. كما رواه ابن كثير في تفسيره 7/ 245، قال: والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري: أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان
…
" فهو حديث مرسل، ومثله لا يعارض به النصوص.
(1)
في ب، ط:"حتى يقضيه بصوم شعبان".
(2)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 192، قال: عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم كل شهر ثلاثة أيام، فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة، وربما أخره حتى يصوم شعبان. رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام.
(3)
لفظ "صام" لم يرد في آ، ع.
(4)
رقم (1160) في الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأبو داود رقم (3453) في الصوم، باب من قال: لا يبالي من أي الشهر، والترمذي رقم (763) في الصوم، باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر. وروي الحديث عن معاذة بنت عبد الله العدوية، قالت:"سألت عائشة: أكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، قلت لها: من أيِّ أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم".
(5)
رقم (1156) في الصيام، باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان.
(6)
الديمة: المطر الدائم في سكون. شبهت عائشة رضي الله عنها عمله في دوامه مع الاقتصاد، بديمة المطر الدائم. (النهاية 2/ 147).
حتَّى يستكمِلَ نوافِلَهُ بالصَّوْمِ قبلَ دُخُولِ رمضانَ، فكانَتْ عائشةُ حينئذٍ تغتنِمُ قَضاءَهُ لنوافلِهِ فتَقضي ما عليها من فرضِ رمضانَ حينئذٍ لِفطْرِها فيه بالحَيْض، وكانَتْ في غيرِه مِنَ الشُّهورِ مُشتغلةً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم فإن المرأةَ لا تَصومُ وبَعْلُها شاهِدٌ الَّا بإذْنِهِ. فَمَنْ دَخَلَ عليه شعبانُ وقد بقيَ عليه منِ نوافِلِ صيامِهِ في العام استُحِبَّ له قضاؤها فيه حتَّى يُكمِّلَ نوافلَ صيامِهِ بينَ الرَّمضَانين. ومَن كان عليه شيءٌ"
(1)
مِن قَضاءِ رَمضانَ وجَبَ عليه قضاؤه [بعدَ رمضانَ]
(2)
مع القُدْرَةِ، ولا يَجُوزُ لَهُ تأخيرُه إلى ما بعدَ رَمضان آخرَ لِغَيْرِ ضَرُورةٍ، فإنْ فَعَلَ ذلك وكان تأخيرُه لِعُذرٍ مُستمرٌ بينَ الرَّمضانَينِ، كان عليه قضاؤه بعدَ رمضانَ الثاني، ولا شيءَ عليه مع القضاءِ. وانْ كانَ ذلك لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ فقيلَ: يَقضِي ويُطعِمُ مَعَ القَضَاءِ لِكُلِّ يَوْمٍ مسكينًا، وهو قولُ مالكٍ والشَّافِعيِّ وأحمدَ إتباعًا لآثارٍ وَرَدَتْ بذلك. وقيلَ: يقضِي ولا إطعامَ عليه، وهو قولُ أبي حنيفةَ. وقيل: يُطعِمُ ولا يَقْضِي، وهو ضَعيفٌ. وقد قيلَ في صومِ شعبانَ معنىً آخَرُ، وهو أن صِيامَه كالتَّمرِينِ على صِيام رَمضانَ؛ لئلَّا يدخُلَ في صَوْمِ رَمضانَ على مَشَقَّةٍ وكُلْفَةٍ، بلْ يكونُ قد تمرَّنَ على الصِّيامِ واعْتَادَهُ، ووجَدَ بصيام شعبانَ قبلَهُ حَلاوةَ الصِّيام ولذَّتَهُ، فيدخُلُ في صيامِ رَمضانَ بقوَّةٍ ونَشَاطٍ.
ولمَّا كانَ شعبانُ كالمقدِّمَةِ لرمضانَ شُرِعَ فيه ما يُشرَعُ في رمضانَ من الصِّيام وقراءةِ القرآنِ؛ ليحصُلَ التَّأهُّبُ لتلَقِّي رمضان، وترتاضَ النُّفوسُ بذلك على طاعةِ الرَّحمنِ. وروينا بإسنادٍ ضعيفٍ عن أنسٍ، قال: كان المسلمون إذا دَخَلَ شَعْبَانُ أكبُّوا
(3)
على المصاحِفِ فقرؤوها
(4)
، وأخرَجُوا زكاةَ أموالِهم تقوِيةً للضَّعيفِ والمسكينِ على صيامِ رمضانَ.
وقالَ سَلمةُ بنُ كُهَيلٍ
(5)
: كان يقالُ: شهرُ شعبانَ شهرُ القُرَّاءِ
(6)
. وكان حبيبُ بن
(1)
لفظ "شي" لم يرد في آ، ع.
(2)
زيادة من نسخة (ب).
(3)
في ب، ط:"انكبُّوا".
(4)
في آ، ع:"يقرؤونها".
(5)
هو سَلَمة بن كهَيْل بن حصين الحَضْرمي، أبو يحيى الكوفي التَّنعي، وتِنْعة بطن من حضرموت، كوفيّ تابعي ثقة ثبت في الحديث، روى له الجماعة، مات نحو سنة 123 هـ. (سير أعلام النبلاء 5/ 295، تهذيب الكمال 11/ 313).
(6)
في آ، ع:"القرآن".
أبي ثابتٍ
(1)
إذا دَخَلَ شعبانُ قال: هذا شهرُ القُرَّاءِ. وكان عمرو بن قيس المُلائيُّ
(2)
إذا دَخَلَ شعبانُ أَغْلَقَ حانُوتَهُ وتفرَّغ لقراءةِ القرآن. قال الحسنُ بن سهل: قال شعبان: يا ربِّ، جعلتني بينَ شهرَيْنِ عظيمَيْنِ، فما لِي؟ قال: جعلْتُ فيكَ قراءَةَ القرآنِ. يا مَنْ فرَّطَ في الأوقاتِ الشريفةِ وضيَّعَها وأودَعَهَا الأعمالَ السيئةَ، وبئسَ ما اسْتَوْدَعَهَا.
مَضَى رَجَبٌ وما أَحْسَنْتَ فيهِ
…
وهَذا شَهْرُ شَعْبَانَ المُبَارَكْ
فيا مَنْ ضَيَّعَ الأوقاتَ جَهْلًا
…
بِحُرْمَتِها أفِقْ واحْذَرْ بَوَارَكْ
فسَوفَ تُفارِقُ اللَّذَّاتِ قَهْرًا
(3)
…
ويُخْلِي الموتُ كُرْهًا مِنكَ دَارَكْ
تَدَارَكْ ما اسْتَطَعْتَ مِنَ الخَطَايا
…
بتوبةِ مُخلِصٍ واجْعَلْ مَدَارَكْ
عَلَى طَلَبِ السَّلامَةِ مِنْ جَحِيمٍ
…
فخيرُ ذوي الجرائمِ مَنْ تَدَارَكْ
* * *
المجلس الثاني في ذكر نصف شعبان
خرَّجَ الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ والتّرمذيُّ والنّسائيُّ وابنُ ماجَه وابنُ حِبان في "صحيحه" والحاكمُ مِن حديثِ العَلاءِ بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا انتصَفَ شعبانُ فلا تَصُوموا حتى رمضان"، وصحَّحه الترمذيُّ وغيرُه
(4)
.
(1)
هو حبيب بن أبي ثابت، أبو يحيى القرشي الأسدي، تابعي ثقة، وقد سبقت ترجمته.
(2)
عمرو بن قيس الكوفي المُلائي، البزاز، أبو عبد الله، ثقة متقن، عابد، من أولياء الله. مات سنة بضع وأربعين ومائة. (حلية الأولياء 5/ 100، سير أعلام النبلاء 6/ 250).
(3)
في ب، ط:"قسرًا".
(4)
رواه الترمذي رقم (738) في الصوم: باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان، وقال: حسن صحيح؛ وأبو داود رقم (2337) في الصوم: باب في كراهية من يصل شعبان برمضان؛ وابن ماجه رقم (1651) في الصيام: باب ما جاء في النهي أن يتقدم رمضان بصوم، إلا من صام صومًا فوافقه. وقد جمع بعضهم بين هذا الحديث وحديث:"لا تَقَدَّموا رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا أن يكون رجلًا كان يصوم صومًا فليصمه"، بأن هذا الحديث محمول على من يضعفه الصوم، والحديث بعده مخصوص بمن يحتاط - بزعمه - لرمضان. وسيورد المؤلف رحمه الله هذا وغيره من الأقوال.
واختلف العلماءُ في صحةِ هذا الحديثِ، ثمَّ في العملِ بهِ؛ فأمَّا تصحيحُهُ فصحَّحَهُ غيرُ واحدٍ، منهم الترمذيُّ وابنُ حِبانَ والحاكمُ والطَّحاوِيُّ وابنُ عبدِ البر، وتكلَّمَ فيه مَنْ هو أكبرُ من هؤلاء وأعلَمُ
(1)
، وقالوا: هو حديثُ مُنكَرُ؛ منهم عبدُ الرحمن بنُ مَهدي، والإمامُ أحمدُ، وأَبو زرعةَ الرازيُّ، والأثرمُ. وقال الإمامُ أحمدُ: لم يَرْوِ العلاءُ حديثًا أنكرَ منه، وردَّهُ بحديثِ "لا تَقَدِّمُوا رَمضانَ بصوْمِ يوم أو يومينِ"
(2)
فإنَّ مفهُومَهُ جوازُ التَّقدُّم بأكثَرَ مِن يومين. وقال الأثرمُ: الأحاديثُ كُلها تخالِفُهُ؛ يُشيرُ إلى أحاديثِ صِيام النبيِّ صلى الله عليه وسلم شعبانَ كلَّه وَوَصْلِهِ برمضانَ، ونهيهِ عن التقدُّم على رمضانَ بيومين، فصارًا لحديثُ حينئذ شاذًا مخالفًا للأحاديثِ الصَّحيحةِ. وقال الَطَّحاوِيُّ: هو منسوخٌ، وحكَى الإجماعَ على تركِ العَمَلِ بهِ. وأكثرُ العلماءِ على أنَّه لا يُعمَلُ بهِ، وقد أخذَ به آخرون؛ منهم الشافعيُّ وأصحابُه، ونَهَوْا عن ابْتِداءِ التطوُّع بالصِّيامِ بعدَ نصفِ شعبانَ لِمَنْ ليسَ لَهُ عادةٌ، ووافَقَهُم بعضُ المتأخرين مِن أصحابِنا.
ثمَّ اختلَفُوا في عِلَّةِ النَّهي؛ فمنهم مَن قال: خشيةَ أنْ يُزادَ في صيام
(3)
رَمضانَ ما ليسَ منه، وهذا بعيدٌ جدًّا فيما بعدَ النِّصفِ، وإنَّما يُحتمَلُ هذا في التَّقدمِ
(4)
بيومٍ أو يومين.
ومنهم من قال: النهيُ للتَّقوِّي على صِيام رَمضانَ شفقةً أن يضعفَه ذلك عن صيام رَمضانَ؛ وَرُوِي ذلك عن وكيعٍ. وَيرُدُّ هذا صيامُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم شعبانَ كلَّه أو أكثرَهُ ووصْلُهُ برمضانَ.
هذا كلُّه في الصيام بعدَ نصفِ شعبانَ.
(1)
لفظ "وأعلمِ" لم يرد في نسخة (آ).
(2)
رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله قال: "لا يتقدَّمَنَّ أحدُكم رمضان بصومِ يومٍ أو يومين، إلَّا أن يكونَ رجلًا كان يصوم صومًا فليصُمْه". أخرجه البخاري رقم (1914) في الصوم، باب لا يُتقدَّم رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ ومسلم رقم (1082) في الصوم، باب لا تتقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ وأبو داود رقم (2335) في الصوم، باب فيمن يصل شعبان برمضان؛ والترمذي رقم (684) في الصوم، باب ما جاء: لا تقدموا الشهر بصوم.
(3)
في ب، ط:"شهر رمضان".
(4)
في ب، ط:"التقديم".
فأمَّا صيامُ يوم النِّصفِ منه فغيرُ منهِيٌّ عنه، فإنَّه من جُملة أيَّام البيضِ الغُرِّ المندُوب إلى صِيامِها مِن كُلِّ شهرٍ. وقد وَرَدَ الأمرُ بصيامِهِ مِن شعبانَ بخصُوصِهِ، ففي سنن ابنَ ماجه
(1)
بإسنادٍ ضعيفٍ عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كانَ ليلةُ نِصْفِ شعبانَ فقُومُوا ليلَها، وصُومُوا نهارَها، فإنَّ الله تعالى يَنزِلُ فيها لِغُروب الشَّمس إلى سَماءِ الدُّنيا، فيقول: ألا مُسْتَغْفِرٌ [لي] فاغفِر له، ألا مُسْتَرْزِقٌ فارزُقَه، ألا مُبْتَلىً فَأعافِيَه، أَلَا كَذا ألا كذا، حتَّى يَطلُعَ الفَجْرُ". وفي فضلِ ليلة نصفِ شعبانَ أحاديثُ أُخَرُ متعدِّدةٌ، وقد اختلفَ فيها، فضعَّفَها الأكثرون، وصحَّحَ ابنُ حِبَّانَ بعضها وخرَّجَه في "صحيحه"
(2)
.
ومِن أمثلِها حديثُ عائشةَ، قالت: "فَقَدْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجْتُ فإذا هو بالبَقِيعِ رافعٌ
(3)
- رأسَهُ إلى السَّماءِ، فقال: أكنْتِ تخافينَ أن يَحيفَ
(4)
اللهُ عليكِ ورسولُه؟ فقلْتُ: يا رسولَ الله، ظننْتُ أنَّك أتيْتَ بعضَ نسائِكَ. فقال:"إنَّ الله تبارك وتعالى يَنزِلُ ليلَةَ النِّصفِ مِن شعبانَ إلى سماءِ الدُّنيا فيغفِرُ لأكثَرَ مِن عَدَدِ شَعَر غَنَم كَلْبٍ". خرَّجَه الإِمامُ أحمدُ
(5)
والترمذيُّ وابنُ ماجَه، وذَكَر الترمذيُّ عن البخاريِّ أنَّه ضعَّفَه.
وخرَّج ابن ماجه
(6)
من حديثِ أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ الله ليطَّلِعُ ليلَةَ النِّصفِ مِن شعبانَ فيغفِرُ لجميعِ خَلْقِهِ، إلَّا لِمُشْرِكٍ أو مُشاحِنٍ".
(1)
رقم (1388) في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان. وما بين قوسين تكملة منه. وقال في الزوائد 1/ 247: إسناده ضعيف، لضعف ابن أبي سَبْرَة، واسمه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سَبْرة. قال فيه أحمد بن حنبل وابن معين: يضع الحديث. ميزان الاعتدال 4/ 503 وقد ذكر الحديث. وورد في كنز العمال رقم (35177) وعزاه إلى البيهقي في شعب الإِيمان. وانظر الترغيب والترهيب 2/ 119.
(2)
صحيح ابن حبان 7/ 470 وموارد الظمآن 486، عن معاذ بن جبل. وانظر الترغيب والترهيب 2/ 118.
(3)
في آ، ط:"رافعًا".
(4)
الحيف: الظلم والجور. أي ظننت أن قد ظلمتك بجعل نوبتك لغيرك.
(5)
رواه أحمد في "مسنده" 6/ 238، والترمذي رقم (739) في الصوم: باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان، وابن ماجه رقم (1389) في إقامة الصلاة: باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان. وأورده المنذري في "الترغيب والترهيب" 2/ 118.
(6)
رقم (1390) في إقامة الصلاة، باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان. وأورده الألباني في "صحيح ابن ماجه" 1/ 233.
وخرَّج الإمامُ أحمدُ
(1)
من حديثِ عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ الله ليطَّلِعُ إلى خَلْقِهِ ليلَةَ النِّصفِ مِن شعبانَ فيغفرُ لِعِبادِهِ إلَّا اثنينِ: مُشاحن، أو قاتل نَفْسٍ".
وخرَّجه ابنُ حِبَّان في "صحيحه"
(2)
من حديث معاذ مرفوعًا.
ويُروى من حديث عثمان بن أبي العاص مرفوعًا: "إذا كانَ ليلةُ النِّصْفِ مِن شعبانَ نادَى منادٍ: هَلْ مِن مُسْتغْفِرٍ فاغفِرَ له؟ هل من سائلٍ فأعطيَهُ
(3)
؟ فلا يسألُ أحدٌ شيئًا إلَّا أُعطيَه، إلَّا زانيةً بِفَرْجِها أو مُشْرِكًا"
(4)
. وفي الباب أحاديثُ أُخَرُ فيها ضعفٌ.
ويُروى عن نَوْفٍ البِكَالِي
(5)
أن عليًا رضي الله عنه خَرَجَ ليلةَ النِّصفِ مِن شَعبانَ فأكثَرَ الخُروجَ فيها، ينظرُ إلى السَّماءِ، فقال: إنَّ داودَ عليه السلام خَرَجَ ذاتَ ليلةٍ في مثل هذه السَّاعةِ فنظَرَ إلى السَّماء فقال: إنَّ هذه السَّاعة ما دعا الله أَحدٌ إلَّا أَجَابَهُ، ولا استغفَرَهُ
(6)
أحدٌ في هذه الليلةِ إلَّا غَفَرَ لَهُ، ما لم يكن عَشَّاِرًا
(7)
أو ساحرًا أو شاعرًا أو كاهنًا أو عريفًا
(8)
أو شرطيًا أو جابيًا أو صَاحبَ كُوبَةٍ أو عُرْطُبَةٍ - قال نَوْفٌ: الكُوبَةُ: الطَبْلُ، والعَرطُبَةُ: الطُّنْبُور - اللهم ربَّ داودَ، اغفِرْ لِمَنْ دَعَاكَ في هذه الليلةِ ولِمَنْ استغفَرَكَ فيها.
(1)
مسند أحمد 2/ 176 وإسناده صحيح، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 65، وقال:"رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وهو لين الحديث، وبقية رجاله وثقوا". وأورده المنذري في "الترغيب والترهيب" 2/ 119 و 3/ 460.
(2)
صحيح ابن حبان 7/ 470، وأبو نعيم في "الحلية" 5/ 191.
(3)
في هامش ش: "سؤلَه".
(4)
كنز العمال رقم (35178) وعزاه إلى البيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 383 برواية الحسن عن عثمان بن أبي العاص؛ وقد اختلف في سماعِ الحسن منه.
(5)
هو نَوْف بن فَضَالة الحميري الِبكالي، ابن امرأة كعب الأحبار. شامي مستور، وإنما كذَّب ابن عباس ما رواه عن أهل الكتاب. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان راوية للقصص، مات بعد سنة 90 هـ. (تهذيب التهذيب 10/ 490 وتقريبه 2/ 309).
(6)
في آ: "استغفر".
(7)
العشَّار: قابض العُشْر، وهو فعلُ أهل الجاهلية. وأما فرض الله فهو ربع العُشْر.
(8)
عريف القوم: سيدهم، والقيّم بأمور القبيلة، أو الجماعة من الناس يلي أمورهم، ويجمع على عرفاء. وفي الحديث: العِرافة حقُّ والعُرفاء في النار. وقوله: العرفاء في النار، تحذير من التعرّض للرياسة؛ لما في ذلك من الفتنة؛ فإنه إذا لم يقم بحقه أثمَ واستحقّ العقوبة. (اللسان: عرف).
وليلةُ النِّصفِ من شعبانَ كان التابعونَ مِن أهلِ الشامِ كخالد بن معدانَ
(1)
ومكحول
(2)
ولقمانَ بن عامرٍ
(3)
وغيرِهم يعظِّمُونها ويجتهِدُون فيها في العبادةِ، وعنهم أخَذَ الناسُ فَضْلَها وتعظيمَها، وقد قيل: إنَّه بلَغَهم في ذلك آثارٌ إسرائيلية، فلمَّا اشتهرَ ذلك عنهم في البلدان اختلفَ النَّاسُ في ذلك؛ فمنهم من قبلَه منهم ووافَقَهم على تعظِيمها؛ منهم طائفة من غبَّادِ أهلِ البَصْرَةِ وغيرِهم. وأنكَرَ ذلكَ أكثرُ العلماءِ من أهل الحجازِ؛ منهم عطاء وابنُ أبي مُليكةَ، ونقلَة عبدُ الرحمن بن زيد بن أسلم عن فُقَهاءِ أهلِ المدينةِ، وهو قولُ أصحابِ مالكٍ وغيرِهم، وقالوا: ذلك كلُّه بِدْعَةٌ. واختلفَ علماءُ أهلِ الشامِ في صِفةِ إحيائها على قولين:
أحدهما: أنَّه يُستَحَبُّ إحياؤها جماعةً في المساجد، كان خالدُ بن معدان ولقمان بن عامر وغيرُهما يلبَسُون فيها أحسَنَ ثيابهم ويتبخَّرُون ويكتحِلُون ويقومون في المسجد ليلتَهم تلك
(4)
، ووافقهم إسحاقُ بن راهويهِ على ذلك، وقال في قيامها في المساجد جماعةً: ليس ذلك ببدعةٍ، نقلَهُ عنه حَرب الكرمانيّ في مسائله.
والثاني: أنَّه يُكرَهُ الاجتماعُ فيها في المساجد للصَّلاةِ والقَصَص والدُّعاءِ، ولا يُكرَهُ أنْ يُصلِّي الرجلُ فيها بخاصة
(5)
نفسِهِ، وهذا قولُ الأزواعيِّ إمامَ أهلِ الشامِ وفقيههم وعالِمهم، وهذا هو الأقربُ إن شاءَ الله تعالى.
وقد رُوِيَ عن عمرَ بنَ عبد العزيز أنَّه كَتَبَ إلى عامِلِه بالبصرة
(6)
: عليكَ بأربعِ ليالٍ من السَّنةِ؛ فَإنَّ الله يُفرِغ فيهن الرَّحمةَ إفراغًا؛ أولِ ليلةٍ من رجبِ، وليلةِ النِّصْفِ من شعبان، وليلةِ الفطرِ، وليلةِ الأضحى؛ وفي صحته عنه نَظَرٌ.
(1)
خالد بن مَعْدان بن أبي كَرب الكلاعي، أبو عبد الله. تابعي ثقة، ممن اشتهروا بالعبادة، أصله من اليمن، وإقامته في حمص (بالشام). شيخ أهل الشام، وهو معدود في أئمة الفقه، روى له الجماعة، مات سنة 103 هـ وقيل بعد ذلك. (طبقات ابن سعد 7/ 455، الخلية 5/ 210، سير أعلام النبلاء 4/ 536، تهذيب الكمال 8/ 167).
(2)
مكحول الشامي، فقيه الشام في عصره، مضت ترجمته.
(3)
لقمان بن عامر الوصابي، أبو عامر الحمصي، روى عن أبي الدرداء وأبي هريرة وجماعة، صدوق، ذكره ابن حبان في الثقات. (تهذيب التهذيب 8/ 455).
(4)
في آ، ع:"ذلك".
(5)
في ب، ش، طـ:"لخاصة نفسه".
(6)
في ب، طـ:"إلى البصرة".
وقال الشافعي: بلَغنا أن الدُّعاءَ يُستجاب في خمسِ ليالٍ ليلةِ الجمعة، والعيدين، وأوَّلِ رجبٍ، ونصفِ شعبانَ. قال: واسْتُحِبَّ كل ما حكيت في هذه الليالي. ولا يُعرفُ للإمام أحمدَ كلامٌ في ليلةِ نِصفِ شعبانَ. ويُخرَّج
(1)
في اسْتِحباب قيامِها عنه روايتان، مِن الرِّوايتين عنه: في قيام ليلةِ
(2)
العيدِ، فإنَّه في روايةٍ لَم يستحبَّ قيامَها جماعةً؛ لأنَّه لم يُنقَلْ عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ. واستحبَّها في روايةٍ لفعلِ عبد الرحمن
(3)
بن يزيد بن الأسود لذلك، وهو من التابعين. فكذلك قيامُ ليلةِ النصفِ من شعبان
(4)
لم يثبتْ فيها شيءٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابِهِ، وثبَتَ فيها عن طائفةٍ مِن التابعين مِن أعيان فُقهاءِ أهلِ الشامِ.
ورُوِي عن كعبٍ، قال: إن الله تعالى يبعثُ ليلةَ النصفِ من شعبانَ جبريلَ عليه السلام إلى الجنَّة، فيَأمُرها أن تتزيَّنَ، ويقول: إنَّ الله تعالى قد أعتقَ في ليلتِك هذه عدَدَ نجوم السَّماءِ وعدَدَ أيَّام الدُّنيا وليالِيها، وعدَدَ ورقِ الشَّجرِ، وزِنَة الجبالِ، وعدَدَ الرمالَ.
وروى سعيدُ بن منصور، حدثنا أبو معشر، عن أبي حازم ومحمد بن قيس، عن عطاء بن يسار، قال: ما مِن ليلةٍ بعدَ ليلةِ القَدرِ أفضلُ من ليلة النصف
(5)
من شعبان، ينزِلُ الله تبارك وتعالى إلى السَّماءِ الدُّنيا فيغفِرُ لعبادِهِ كلِّهم، إلَّا لِمُشركٍ أو مُشاحنٍ أو قاطعِ رحمٍ. فيا مَنْ أُعْتِقَ فيها مِن النَّارِ، هنيئًا لك. هذه
(6)
المنحة الجسيمة، ويا أيُّها المردُودُ
(7)
فيها، جَبَرَ الله مصيبتَكَ؛ فإنَّها مصيبةٌ عظيمةٌ.
بَكَيْتُ على نَفْسِي وحُقَّ
(8)
لي البُكا
…
وما أنا مِن تَضييع عُمريَ في شَكِّ
(1)
في ب، ش، ط:"ويتخرَّج".
(2)
في ب، ط:"ليلتي".
(3)
في آ، ع:"عبد الرحمن بن يزيد الأسود"، ولعله عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس، أبو حفص النخعي الكوفي، الفقيه، الإمام ابن الإمام. حدَّث عن أبيه، وعمِّه علقمة بن قيس، وعائشة، وابن الزبير وغيرهم، روى له الجماعه. مات سنة 98 أو 99 هـ. (سير أعلام النبلاء 5/ 11).
(4)
قوله: "من شعبان" لم يرد في ب، ط.
(5)
في آ، ش، ع:"نصف شعبان".
(6)
لفظ "هذه" لم يرد في ب، ط.
(7)
في آ، ع:"المطرود عنها". وفي ش: "المردود، آجر الله
…
".
(8)
في آ: "وحُقَّ أن أبكي"، وفي ش، ع:"وحقي أن أبكي"، والمثبت من ب، ط.
لئن قلْتُ إني في صَنيعيَ مُحْسِنٌ
…
فإنِّيَ في قَوْلي لذَلكَ ذو إفْكِ
لَياليَ شَعبانٍ وليلةُ نِصْفِهِ
…
بأيَّةِ حال قَدْ تنزَّلَ لي صَكّي
وحَقِّي لعمرِي
(1)
أنْ أُدِيمَ تضرُّعِي
…
لَعَلَّ إلَهَ الخَلْقِ يَسْمَحُ بالفَكِّ
فينبغِي للمؤمنِ أن يتفرَّغَ في تلك الليلةِ لذكر الله تعالى ودعائِه بغفرانِ الذُّنوبِ وسترِ العيوبِ وتفريجِ الكُروبِ، وأن يُقدِّمَ على ذلك التَّوبةَ؛ فإنَّ الله تعالى يتوبُ فيها على من يتوبُ.
فَقُمْ ليلَةَ النِّصْفِ الشَّرِيفِ مُصلِّيًا
…
فأَشْرَفُ هذا الشَّهرِ لَيلةُ نِصْفِهِ
فَكَمْ مِن فَتىً قَدْ بَاتَ في النِّصْفِ غافلًا
(2)
…
وقَدْ نُسِخَتْ فيه صَحِيفَةُ حَتْفِهِ
فَبَادِرْ بفِعْلِ الخَيْرِ قَبْلَ انْقِضائِهِ
…
وحَاذِرْ هُجومَ المَوْتِ فيهِ بصَرْفِهِ
وَصُمْ يَوْمَها للهِ واحْسنْ
(3)
رَجَاءَهُ
…
لِتظفَرَ عندَ الكَرْبِ منهُ بِلُطْفِهِ
ويتعيَّن على المسلم أن يجتنبَ الذنوبَ التي تمنعُ من المغفرة وقبولِ الدعاء في تلك الليلة. وقد روي أنَّها
(4)
: الشركُ، وقتلُ النفس، والزِّنا؛ وهذه الثلاثةُ أعظمُ الذنوب عندَ الله عز وجل، كما في حديث ابن مسعود المتَّفق على صحته، أنَّه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذَّنب أعظمُ؟ - قال: أنْ تجعَلَ للهِ نِدًّا
(5)
وهو خَلَقَكَ. قال: ثم أيُّ؟ قال: أن تقتُلَ ولدَكَ خَشْيةَ أن يَطْعَمَ معك. قال: ثم أيُّ؟ قال: أن تُزانيَ حَلِيلةَ جارِك. فأنزَلَ الله تعالى تصديق ذلك {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}
(6)
، الآية.
ومِن الذنوب المانعةِ من المغفرة أيضًا: الشحناءُ، وهي حقدُ المسلم على أخيه
(1)
في آ، ش، ع:"وحقي عمري".
(2)
في ب، ط:"آمنًا".
(3)
في آ، ع:"واعظم".
(4)
أي الذنوب.
(5)
النِّد: المثل، والشَّبه.
(6)
سورة الفرقان الآية 68. وأخرج الحديث البخاري 8/ 378 في تفسير سورة الفرقان: باب قوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ}. وفي تفسير سورة البقرة: باب قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} ، وفي الأدب: باب قتل الولد خشية أن يأكل معه، وفي المحاربين: باب إثم الزناة، وفي التوحيد: باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} . رواه مسلم رقم (86) في الإيمان: باب كون الشرك أقبح الذنوب؛ والترمذي رقم (3181) و (3182) في التفسير.
بُغْضًا له؛ لهوى نفسِهِ، وذلك يمنعُ أيضًا مِن المغفرة في أكثر أوقاتِ المغفرةِ والرحمةِ؛ كما في "صحيح مسلم"
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "تُفتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنين والخميس، فيُغفَرُ لكُلِّ عبدٍ لا يُشْرِكُ بالله شيئًا، إلَّا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شَحْناءُ، فيقول: أَنْظِروا هذين حتَّى يَصْطلِحا".
وقد فسَّر الأوزاعيُّ هذه الشَّحناءَ المانعةَ بالذي في قلبه شحناءُ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريبَ أن هذه الشَّحناءَ أعظمُ جُرْمًا من مشاحنةِ الأقرانِ
(2)
بعضهم بعضًا. وعن الأوزاعي أنَّه قال: المُشاحِنُ كُلُّ صاحب بِدعةٍ فارَقَ عليها الأُمَّةَ. وكذا قال ابنُ ثوبانَ: المشاحِنُ هو التاركُ لسنَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، الطَّاعنُ على أمَّتِه، السَّافِكُ دماءَهم. وهذه الشَّحناءُ - أعْني شحناءَ البِدْعةِ - تُوجِبُ الطَّعنَ على جماعة المسلمين، واسْتِحلالِ دمائهم وأموالِهم وأعراضِهم، كبدَعِ الخوارجِ والرَّوافِضِ ونحوِهم.
فأفضلُ الأعمالِ: سلامةُ الصَّدْرِ من أنواع الشَّحْناءِ كلِّها، وأفضلُها السَّلامةُ من شحناءِ أهلِ الأهواءِ والبِدَعِ التي تقتضي الطَّعنَ على سَلَفِ الأمَّةِ، وبغضَهم والحِقدَ عليهم، واعتقادَ تكفيرِهم أو تبديعِهم وتَضليلِهم؛ ثم يلي ذلك سلامةُ القلبِ من الشَّحناءِ لعمومِ المسلمين، وإرادةُ الخير لهم، ونصيحتُهم، وأن يُحبَّ لهم ما يُحبُّ لنفسِهِ. وقد وصَفَ الله تعالى المؤمنين عمومًا بأنَّهم يقولون:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
(3)
.
وفي "المسند"
(4)
عن أنس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه ثلاثةَ أيامٍ "يطلُعُ عليكم الآنَ رَجُلٌ مِن أَهْلِ الجنَّةِ" فيطلُعُ رجُلٌ واحدٌ، فاستضافَهُ عبدُ الله بن عمرو
(5)
، فنامَ عندَه ثلاثًا لينظرَ عملَه، فلم يَرَ له في بيته كبيرَ
(6)
عملٍ، فأخبرَه بالحال، فقال له: هو
(1)
رقم (2565) في البر والصلة: باب النهي عن الشحناء والتهاجر. ورواه الموطأ 2/ 908 في حسن الخلق: باب ما جاء في المهاجرة؛ وأبو داود رقم (4916) في الأدب: باب فيمن يهجر أخاه المسلم؛ والترمذي رقم (2024) في البر والصلة: باب ما جاء في المتهاجرين.
(2)
في آ: "الإفراد".
(3)
سورة الحشر الآية 10.
(4)
قطعة من حديث طويل رواه أحمد في "المسند" 3/ 166، وذكره المؤلف مختصرًا.
(5)
في آ، ع:"عبد الله بن عمر"، وهو تحريف.
(6)
في آ، ش، ع:"كثير".
ما ترى، إلَّا أني أبيتُ وليس في قلبي شيءٌ على أحدٍ من المسلمين. فقال عبدُ الله: بهذا بلغَ ما بَلَغَ. وفي سُنن ابن ماجَه
(1)
عن عبد الله بن عمرو، قال: "قيل: يا رسولَ اللهِ! أيُّ الناسِ أفضلُ؟ قال: كُلُّ مَخْمُومِ
(2)
القَلْبِ، صَدوقِ اللِّسانِ. قالوا: صَدوقُ اللسانِ نعرفُه، فما مَخْمُومُ القَلْبِ؟ قال: هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ الذي لا إثْمَ فيه، ولا بَغْيَ، ولا غِلَّ، ولا حَسَدَ".
قال بعضُ السَّلَفِ: أفضلُ الأعمالِ سلامةُ الصُّدُورِ، وسخاوةُ النُّفوسِ، والنَّصيحةُ للأمَّةِ؛ وبهذه الخصال بلَغَ مَنْ بَلَغَ، لا بكثرة الاجتهادِ في الصَّوم والصَّلاةِ.
إخواني! اجتنبوا الذُّنوبَ التي تَحرِمُ العبدَ مغفرةَ مولاهُ الغفَّارِ في مواسم الرَّحمةِ والتوبةِ والاستغفار. أمَّا الشِّرْكُ: فإنَّه {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}
(3)
. وأما القتلُ: فلو اجتمَعَ أهلُ السَّماواتِ وأهلُ
(4)
الأرضِ على قتلِ رجلٍ مسلمٍ بغير حقٍّ لأكَبَّهُم اللهُ جميعًا في النارِ. وَأَمَّا الزِّنا: فحَذَارِ خذَارِ من التعرُّضِ لِسَخَطِ الجبَّارِ. الخَلْقُ كلُّهم عبيدُ الله
(5)
وإماؤه، والله تعالى يغارُ، لا أَحَدٌ أغيَرَ مِنَ اللهِ أن يزنيَ عبدُه أو تزنيَ أَمَتُه، فمن أجل ذلك حرَّم الفواحِشَ وأمَرَ بِغَضِّ الأبصارِ
(6)
. وأمَّا الشَّحناءُ: فيا مَنْ أضمَرَ لأخيهِ السُّوءَ وقَصَدَ له الإضرارَ {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}
(7)
، يَكفِيكَ حِرمانُ المغفرةِ في أوقاتِ مَغفرة الأوزارِ.
خابَ عبدٌ بارَزَ المَوْ
…
لَى بأسبابِ المَعَاصِي
وَيْحَهُ مِمَّا جَنَاهُ
…
لَمْ يَخَفْ يوْمَ القِصَاصِ
(1)
رقم (4216) في الزهد، باب الورع والتقوى، قال في الزوائد: هذا حديث صحيح، رجاله ثقات. وأورده الألباني في "صحيح ابن ماجه" 2/ 411. والمخموم: من خممت البيت، إذا كنسته.
(2)
في آ، ع بغير إعجام.
(3)
سورة المائدة الآية 72.
(4)
لفظ "أهل" لم يرد في آ، ع.
(5)
في آ، ش، ع:"عبيده وإماؤه".
(6)
وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحَدُ أحبُّ إليه المدحُ من الله تعالى، من أجل ذلك مدح نفسَه". رواه البخاري 9/ 319 في النكاح وغيره، ومسلم رقم (2760) في التوبة، باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش.
(7)
سورة إبراهيم الآية 42.
يَوْمٌ فيه تُرْعَدُ الأقدَامُ
…
مِن شَيْب النَّواصِي
لِي ذُنوبٌ في ازْدِيادٍ
…
وَحَيَاةٌ فيَ انْتِقَاصِ
فمَتَى أَعْمَلُ ما أَعْلَمُ
…
لِي فيهِ خَلَاصِي
وقد رُوي عن عِكْرمةَ وغيرِه مِن المفسِّرين في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}
(1)
أنَّها ليلةُ النِّصْفِ من شعبان. والجمهورُ على أنَّها ليلةُ القَدْرِ، وهو الصحيحُ
(2)
. وقال عطاءُ بن يَسار: إذا كان ليلةُ النِّصفِ من شعبانَ دُفعَ إلى مَلَكِ الموتِ صحيفةُ، فيقال: اقبضْ مَنْ في هذه الصحيفةِ، فإنَّ العَبْدَ لَيَغْرِسُ الغِرَاسَ، وينكِحُ الأزواجَ، ويبني البُنيانَ، وإنَّ اسْمَه قد نُسِخَ في الموتَى ما يَنتظِرُ به مَلَكُ الموتِ إلَّا أنْ يُؤمَرَ به فيقبضَه. يا مغرورًا بطولِ الأملِ، يا مسرورًا بسوءِ العَمَلِ، كُنْ مِنَ الموتِ على وَجَل
(3)
، فما تدري متى يهجُمُ الأجَل.
كُلُّ امْرئٍ مُصبّحُ في أَهْلِهِ
…
والمَوْتُ أَدْنَى مِن شِراكِ نَعْلِهِ
(4)
قال بعضُ السَّلف: كم مِن مُستقبِلٍ يومًا لا يستكمِلُه، ومن مُؤمّلٍ غدًا لا يدرِكُه، إنَّكم لو رأيتم الأجَلَ ومسيرَهُ لأبغضتُمُ الأمَلَ وغُرورَهُ.
أُؤمِّلُ أَنْ أُخَلَّدَ والمنايا
…
تَدُورُ عليَّ مِن كُلِّ النَّواحِي
وَمَا أدرِي وإنْ أَمْسَيْتُ يومًا
…
لَعلِّي لا أعيشُ إلى الصَّبَاحِ
كَمْ مِمَّن رَاحَ في طلبِ الدنيا أو غَدَا، أصبَحَ مِن سكانِ القُبورِ غَدَا.
كأنَّكَ بالمضيِّ إلى سَبيلِكْ
…
وَقَدْ جَدَّ المُجهِّزُ في رَحِيلِكْ
وجيءَ بِغاسِلٍ فاسْتَعْجَلُوهُ
…
بقولِهم لَهُ افْرَغْ مِن غَسِيلِكْ
ولم تحمِلْ سِوَى كَفَنٍ وَقُطْنٍ
…
إليهِمْ
(5)
مِن كَثيرِكَ أو قليلِكْ
وقد مَدَّ الرِّجالُ إليكَ نَعْشًا
…
فأنْتَ عليه مَمْدُودٌ بطولِكْ
(1)
سورة الدخان الآية 4.
(2)
راجع تفسير القرطبي 16/ 126 - 128، وتفسير ابن كثير 4/ 137.
(3)
الوجل: الخوف.
(4)
الشِّراك. سير النعل على ظهر القدم.
(5)
في ع: "إليه".
وصلُّوا ثمَّ إنَّهُمُ تَدَاعَوا
…
لحملِكَ
(1)
مِن بُكورِكَ أو أَصِيلِكْ
فلمَّا أَسْلَمُوكَ نَزَلْتَ قَبْرًا
…
ومَنْ لَكَ بالسَّلامَةِ في نُزُولِكْ
أعانَكَ يومَ تدخُلُهُ رَحِيمٌ
…
رَؤوفٌ بالعبادِ على دُخُولِكْ
فَسَوفَ تُجاوِر المَوْتَى طويلًا
…
فَذَرْني مِن قَصِيركَ أو طوِيلِكْ
أُخَيَّ لَقَدْ نَصحتُكَ فاسْتَمِعْ لِي
…
وباللهِ اسْتَعَنْتُ على قبولِكْ
أَلسْتَ تَرَى المنايا كُلَّ حينٍ
…
تُصيبُكَ في أخِيكَ وفي خَلِيلِكْ
* * *
المجلس الثالث في صيام آخر
(2)
شعبان
ثبت
(3)
في الصحيحين
(4)
عن عمران بن حُصين: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "هل صُمْتَ من سَرَرِ
(5)
هذا الشهرِ شيئًا؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرْتَ فَصُمْ يومين". وفي رواية للبخاري: أظنه يعني رمضانَ. وفي رواية لمسلم، وعلَّقَها البخاري: "هَلْ صُمْتَ مِن سَرَرِ شعبانَ شيئًا؟ ". وفي رواية: "فإذا أفطرْتَ مِن رمضانَ فصُمْ يومين مكانَه". وفي روايةٍ: يومًا أو يومين، شَكَّ شعبةُ.
ورُوي "من سِرَار هذا
(6)
الشهرِ".
وقد اختُلِفَ في تفسير السّرار، والمشهور أنَّه آخِرُ الشَّهرِ؛ يقال: سِرارُ الشهرِ وسرارُه، بكسر السين وفتحها، ذكره ابنُ السكيت
(7)
وغيرُه. وقيل: إن الفتح أفصَحُ، قالَه الفراء. وسُمي آخرُ الشهرِ سِرارًا لاسْتِسْرارِ
(8)
القمر فيه. وممن فسَّرَ السِّرارَ بآخرِ
(1)
في آ، ش، ع "في بكورك".
(2)
لفظ "آخر"سقط من (آ).
(3)
لفظ "ثبت" لم يرد في آ، ش، ع.
(4)
أخرجه البخاري 4/ 200 و 201 في الصوم، باب الصوم من آخر الشهر؛ ومسلم رقم (1161) في الصيام، باب صوم سرر شعبان؛ وأبو داود رقم (2328) في الصوم، باب في التقدم.
(5)
سَرَر الشهر: آخر ليلة منه، وسيأتي المؤلف على شرحه.
(6)
لفظة "هذا" مستدركة في هامش نسخة (آ). وانظر هذه الروايات في "جامع الأصول" 6/ 355.
(7)
انظر "المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم" للعكبري 1/ 392، وفيه:"والفتح أجود".
(8)
أي لاختفائه. وفي آ، ش، ط:"لاستمرار".
الشهرِ أبو عبيد
(1)
وغيرُه من الأئمة. وكذلك بَوَّبَ عليه البخاريُّ صيامَ آخر الشهر، وأشكلَ هذا على كثيرٍ من العلماء؛ فإنَّ في "الصحيحين"
(2)
أيضًا، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تَقدَّموا رمضانَ بيومٍ
(3)
أو يومين، إلَّا مَنْ كان يَصُومُ صومًا فليصُمْهُ".
فقال كثيرٌ من العلماء، كأبي عبيد، ومَن تابعَهُ، كالخطَّابي
(4)
، وأكثرُ شُرَّاحِ الحديثِ: إن هذا الرجلَ الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلَمُ أن له عادةً بصيامِهِ، أو كان قد نذَرَهُ، فلذلك أمرَهُ
(5)
بقضائِهِ. وقالت طائفة: حديثُ عِمرانَ يَدُلُّ على أنه يجوزُ صيامُ يومِ الشكِّ وآخِرِ شعبانَ مطلقًا، سواء وافقَ عادةً أو لم يوافق. وإنما يُنهَى عنه إذا صامَهُ بنيَّةِ الرَّمضَانيةِ احْتياطًا، وهذا مذهبُ مالك، وذَكَرَ أنَّه القولُ الذي أدرَكَ عليه أهلَ العلم، حتى قال محمد بن مَسْلَمَةَ من أصحابه: يُكرَهُ الأمرُ بفطرِهِ؛ لئلًا يُعتقدَ وجوبُ الفطرِ قبلَ الشهر كما وجَبَ بعدَه.
وحَكَى ابنُ عبد البِرّ هذا القولَ عن أكثرِ علماءِ الأمصارِ، وذكر محمد بن ناصرٍ الحافظُ أن هذا هو مذهبُ أحمدَ أيضًا، وغُلِّطَ في نقلهِ هذا عن أحمدَ، ولكن يُشكِلُ على هذا حديثُ أبي هريرةَ رضي الله عنه، وقوله
(6)
: "إلَّا مَنْ كان يصومُ صومًا فليصُمْه". وقد ذَكَرَ الشافعِيُّ في كتاب "مختلف الحديث"
(7)
احتمالًا في معنى قوله "إلا مَنْ كان يَصُومُ صومًا فليصُمْه". وفي رواية "إلَّا أن يوافِقَ ذلك صومًا كان يَصُومُه
(1)
في آ: "أبو عبيدة"، وكذا في اللسان والتاج.
(2)
أخرجه البخاري رقم (1983) في الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين؛ ومسلم رقم (1082) في الصوم، باب لا تتقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين؛ وأبو داود رقم (2335) في الصوم، باب فيمن يصل شعبان برمضان؛ والترمذي رقم (684) في الصوم، باب ما جاء: لا تقدموا الشهر بصوم.
(3)
في مصادر الحديث: "بصوم يوم أو يومين".
(4)
قال الخطابي معلقًا على قوله صلى الله عليه وسلم: "هل صُمت من سِرار هذا الشهر شيئًا": كان بعض أهل العلم يقول في هذا: إنَّ سؤاله سؤالُ زجر وإنكار؛ لأنه قد نهى أن يستقبل الشهر بصوم يوم أو يومين. قال: ويشبه أن يكون هذا الرجل قد أوجَبَه على نفسه بنَذْر، فلذلك قال له في سياق الحديث: إذا أفطرت - يعني في رمضان - فصُم يومين؛ فاستحب له الوفاء بهما. (النهاية 2/ 359).
(5)
في آ، ش:"أمر بقضائه".
(6)
في هامش آ: "في الصحيحين".
(7)
كتاب اختلاف الحديث ص 250 - 252 (ط. بيروت 1985).
أحدُكم": أن المرادَ بموافقة العادةِ صيامُهُ على عادةِ النَّاسِ في التطوع بالصِّيام دونَ صيامِه بنيَّةِ الرمضانيةِ للاحتياط. وقالت طائفة: سِرُّ
(1)
الشهرِ: أوله.
وخرَّج أبو داود في باب تقدُّم
(2)
رمضان من حديث معاويةَ أنَّه قال: إنِّي متقدِّمٌ الشهر، فمن شاءَ فليتقدَّمْ، فسُئلَ عن ذلك، فقال: سمعْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: "صُوموا الشهرَ وسِرَّه". ثم حكى أبو داودَ عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أن سِرَّ الشهر أوَّلُه. قال أبو داود: وقال بعضُهم: سِرُّه: وَسَطُه. وفرَّقَ الأزهرِيُّ
(3)
بين سِرارِ الشهرِ وسِرّه، فقال: سِرارُه وسَرَرُه
(4)
: آخره، وسِرُّه: وَسَطُه، وهي أيَّامُ البيضِ، وسِرُّ كُلِّ شيءٍ: جَوفُهُ.
وفي رواية لمسلم في حديث عِمرانَ بن حُصين المذكور "هَلْ صُمْتَ من سُرَّةِ هذا الشهر"، وفُسِّرَ ذلك بأيَّام البيض
(5)
. قلت: لا يصِحُّ أنْ يُفَسَّرَ سَرَرُ الشهرِ وسَرَارُه بأوَّلِه، لأنَّ أوَّلَ الشهر يَشتهِرُ فيه الهلالُ وُيرَى من أوَّلِ الليل، ولذلك سُمِّي الشهرُ شهرًا؛ لاشتهارِه وظهورِه. فتسميةُ ليالي الاشتهارِ لياليَ السِّرارِ قَلْبٌ لِلُّغةِ والعُرْفِ.
وقد أنكر العلماءُ ما حكاه أبو داودَ عن الأوزاعيِّ، منهم الخطَّابيُّ، ورَوَى بإسناده عن الوليد، عن الأوزاعيِّ، قال: سِرُّ الشهرِ: آخِرُه. وقال الهروِيُّ: المعروفُ أن سِرّ الشهر آخرُه. وفسَّرَ الخطَّابيُّ حديثَ معاويةَ "صُوموا الشهر وسِرَّة" بأنَّ المرادَ بالشهر الهلالُ، فيكونُ المعنى: صُوموا أوَّلَ الشهرِ وآخرَهُ، فلذلك أمَرَ معاويةَ بصيام آخِر الشهر.
قلت: لمَّا رَوَى معاوية "صُوموا الشهرَ وسِرَّه" وصَام
(6)
آخِرَ الشهر، عُلِمَ أنَّه فسِّرَ السِّرَّ بالآخِر.
(1)
في آ: "سِرر الشهر".
(2)
في آ، ع:"تقديم". أخرجه أبو داود رقم (2329) و (2330) و (2331) في الصوم، باب في التقدم، برواية المغيرة بن فروة، وهو الثقفي أبو الأزهر الدمشقي، لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات.
(3)
هو أبو منصور الأزهري، صاحب تهذيب اللغة.
(4)
في ب: "سَراره". وفي التهذيب 12/ 285: "يقال: سِرار الشهر وسَراره وسَرَره".
(5)
قال الخطابي: في "السر" ثلاث لغات: سِرُّه، وسَررُه، وسرَارُه. قال: ويجوز أن يكون سِرُّه: وسطه، وسِرُّ كُلِّ شيءٍ: جوفُه ووسطه، ومنه سِرُّه الإنسان، فيكون حثا على صيام الأيام البيض.
(6)
في ش، ع، ط:"وصيام"، وهو تحريف.
والأظهرُ أنَّ المرادَ بالشهر شهرُ رمضانَ كلِّه، والمراد بسرِّه آخرُ شعبانَ، كما في رواية البخاري في حديث عِمران "أظنه يعني رمضان". وأضافَ السّررَ إلى رمضانَ، وإن لم يكن منه، كما سُمِّي رمضانُ شهرَ عيدٍ وإن كان العيدُ ليس منه، لكنَّه يعقبُه، فدَلَّ حديثُ عِمرانَ وحديثُ معاويةَ على استحباب صيامِ آخِرِ شعبانَ. وإنَّما أمَرَ بقضائه في أوَّلِ شوَّال؛ لأنَّ كلًّا مِن الوقتين صيامٌ يلي شهرَ رمضانَ، فهو ملتحِقٌ برمضانَ في الفضل، فَمَنْ فاتَهُ ما قبلَهُ صامَهُ فيما بعدَه، كما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصومُ شعبانَ، وندبَ إلى صيام شوال.
وإنما يُشكل على هذا
(1)
حديثُ أبي هريرةَ رضي الله عنه في نهي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عن تقدُّم رمضانَ بيوم أو يومين، إلَّا مَن له عادة أو مَنْ كانَ يَصُومُ صومًا. وأكثرُ العلماءِ علىَ أنَّه نَهَى عن التقدُّمِ إلَّا مَنْ كانت له عادةٌ بالتطوُّعِ فيه، وهو ظاهرُ الحديثِ. ولم يذكر أكثرُ العلماءِ في تفسيره بذلك اختلافًا، وهو الذي اختارَهُ الشافعيُّ في تفسيرِه ولم يرجِّحْ ذلك الاحتمالَ المتقدِّمَ. وعلى
(2)
هذا فيرجَّحُ حديثُ أبي هريرةَ على حديثِ عِمرانَ؛ فإن حديثَ أبي هريرةَ فيه نهيٌ عامٌّ للأمَّةِ عُمومًا، فهو تَشريعٌ عامُّ للأمَّةِ، فيُعمَلُ به.
وأمَّا حديثُ عِمرانَ فهي قضيَّةُ عينٍ في حقِّ رَجُلٍ مُعيَّنٍ، فيتعيَّنُ حَمْلُه على صورة صيامٍ لا يُنهى عن التقدُّم به جمعًا بينَ الحديثين. وأحسنُ ما حُمِلَ عليه أن هذا الرَّجُلَ الذي سأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم كان قد علِمَ منه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يَصُومُ شعبانَ أو أكثرَهُ موافقةً لِصيام النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أفطَرَ فيه بعضَه، فسأله عن صيام آخِره، فلمَّا أخبَرَهُ أنَّه لم يَصُمْ آخِرَه أَمَرَه بأن يَصُومَ بدَلَه بعدَ يومِ الفطرِ؛ لأن صيامَ أوَّلِ شوالٍ كصيامِ آخِرِ شعبانَ، وكلاهما حَريمٌ
(3)
، لرمضانَ. وفيه دليل على استحباب قضاءِ ما فاتَ من التطوُّعِ بالصيامِ، وأن يكونَ في أيام مُشابهةٍ للأيَّامِ التي فات فيها الصِّيامُ في
(1)
في هامش (آ) بخط مغاير ما نصه: "وهو استحباب صيام آخر شعبان".
(2)
في آ، ش، ع:"فعلى هذا".
(3)
قوله: "حريم لرمضان": أي ملازم له ومحيط.
الفَضْلِ، وفيه دليلٌ على أنه يجوزُ لِمن صامَ شعبانَ أو أكثرَه أن يصلَهُ برمضانَ من غير فَصْلٍ بينهما. فصيامُ آخِر شعبانَ له ثلاثةُ أحوال:
أحدها: أنْ يَصومَه بِنيَّة الرمضانيَّةِ احتياطًا لرمضانَ، فهذا منهيٌّ عنه، وقد فعَلَه بعضُ الصحابة، وكأنَّهم لم يبلغهم النهيُ عنه؛ وفرَّق ابنُ عمرَ بينَ يوم الغيمِ والصَّحْوِ في يوم الثلاثين من شعبانَ، وتبعه الإمامُ أحمد.
والثاني: أن يُصامَ بنيَّةِ النذر
(1)
أو قضاءٍ عن رمضانَ أو عن كفَّارةٍ ونحو ذلك، فجوزَه الجمهورُ. ونهى عنه مَن أمَرَ بالفصل بين شعبانَ ورمضانَ بفطر يومٍ مُطلقًا
(2)
، وهم طائفةٌ من السَّلفِ. وحُكي كراهتُهُ أيضًا عن أبي حنيفة والشافعي، وفيه نظرٌ.
والثالث: أن يُصامَ بنيَّةِ التطوُّعِ المطلَقِ، فكرِهَهُ مَن أمَرَ بالفَصْلِ بين شعبانَ ورمضانَ بالفِطر؛ منهم
(3)
الحسنُ، وإن وافقَ صومًا كان يصومُه، ورخَّص فيه مالكٌ ومَن وافَقَه، وفَرَّق الشافعيُّ والأوزاعيُّ وأحمدُ وغيرُهم بينَ أن يُوافِقَ عادةً أولا، وكذلك يُفرَقُ بينَ مَن تقدَّم صيامُه بأكثَرَ مِن يومين ووَصَلَه برمضانَ، فلا يُكرَه أيضًا إلَّا عندَ من كَرهَ الابتداءَ بالتطوُّع بالصِّيامٍ بعدَ نصف شعبانَ؛ فإنَّه ينهَى عنه إلَّا أن يبتدئَ الصيامَ قبلَ النصفِ ثم يَصِلَه برمضان
(4)
.
وفي الجملة فحديثُ أبي هريرةَ هو المعمولُ به في هذا الباب عندَ كثيرٍ من العلماء وأنه يُكره التقدُّمُ قبلَ رمضانَ بالتطوُّعِ بالصيامِ بيوم أو يومين لمن ليس له به عادةٌ، ولا سَبَقَ منه صيامٌ قبلَ ذلك في شعبانَ متصلًا بآخِرِه. ولكراهة التقدُّم ثلاثةُ معانٍ:
أحدها: أنَّه على وجهِ الاحتياطِ لرمضانَ، فيُنهَى عن التقدُّم قبلَه؛ لئلَّا يزادَ في صيام رمضانَ ما ليس منه، كما نُهِي عن صيام يوم العيدِ لهذا المعَنى، حَذَرًا مِمَّا وقَعَ فيه أهَلُ الكتابِ في صيامهم، فزادوا فيه بآرائهم وأَهوائهم. وخرَّجَ الطبرانيُّ وغيرُه عن
(1)
في ط: "الندب"، وهو تحريف.
(2)
في آ: "مطلق".
(3)
في آ، ع:"ومنهم".
(4)
في حاشية آ: "ولا يفصله بفطر".
عائشةَ رضي الله عنها، قالت: إنَّ ناسًا
(1)
كانوا يتقدَّمون الشهرَ فيصُومونَ قبلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأنزلَ الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}
(2)
. قالت عائشة: إنَّما الصومُ صَومُ النَّاسِ، والفِطْرُ فِطْرُ النَّاسِ
(3)
.
ومع هذا فكان من السَّلفِ مَنْ يتقدَّمُ للاحتياطِ، والحديثُ حجَّةٌ عليه، ولهذا نُهي عن صيامِ يومِ الشكِّ. قال عمَّار: مَنْ صامَهُ فقد عَصَى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
ويومُ الشكِّ: هو اليومُ الذي يُشَكُّ فيه؛ هل هو مِن رمضانَ أو غيرِه؟ فكان من المتقدِّمينَ مَنْ يَصُومُه احْتِياطًا، ورخَّصَ فيه بعضُ الحنفيَّةِ للعلماءِ في أنفسِهِم خاصَّةً دون العامَّةِ، لئلَّا يعتقدوا وُجوبَه بناءً على أصلِهم في أن صومَ رمضانَ يُجزئ بنيَّةِ الصيامِ المطلقِ والنَّفلِ، ويومُ الشكِّ هو الذي تحدَّثَ برؤيته مَن لم يُقبَلْ قولُه.
فأمَّا يومُ الغيمِ: فمِنَ العُلماءِ مَنْ جعَلَه يومَ شكِّ ونهى عن صيامِه، وهو قولُ الأكثرينَ؛ ومنهم من صامه احْتياطًا، وهو قولُ ابن عمرَ، وكان الإِمامُ أحمدُ يتابعُه على ذلك؛ وعنه في صيامِهِ ثلاثُ رواياتٍ مشهوراتٍ؛ ثالثُها: لا يُصامُ الَّا مع الإمامِ وجماعةِ المسلمين؛ لئلَّا يقعَ الافتياتُ عليهم والانفرادُ عنهم. وقال اسحاقُ: لا يُصامُ يومُ الغيم، ولكن يتلوَّمُ
(4)
بالأكل فيه
(5)
إلى ضَحْوةِ النَّهارِ خَشيةَ أن يُشهدَ برؤيته بخلافِ حال الصَّحْو؛ فإنه يأكُلُ فيه من غدوةٍ.
والمعنى الثاني: الفَصْلُ بين صيام الفرض والنَّفْل؛ فإنَّ جنسَ الفصلِ بينَ الفرائض والنَّوافِل مشروعٌ، ولهذا حَرُمَ صِيامُ يوم العيدِ. ونَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ توصَلَ صلاةٌ مفروضةٌ بصلاةٍ حتى يُفصَلَ بينهما بسلام أوَ كلامٍ، وخصوصًا سُنَّةُ الفجر قبلَها، فإنَّه يُشرَعُ الفصْلُ بينها وبين الفريضةِ، ولهذا يُشْرَعُ صلاتُها في البيت والاضطجاعُ بعدَها.
(1)
في آ: "أناسًا". والأصل في الناس: الأناس مخفَّف، فجعلوا الألف واللام عوضًا عن الهمزة، وقد قالوا: الأناس. (التاج: أنس).
(2)
سورة الحجرات الآية 1.
(3)
رواه الطبراني في الأوسط وابن مردويه، كما في "الدر المنثور" للسيوطي 7/ 547.
(4)
في ع: "يتصبر". والتلَوُّم: الانتظار والتلبُّث.
(5)
في آ، ش:"منه".
ولمَّا رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا يُصلِّي وقد أقيمت صلاةُ الفجر، قال له:"الصُّبْحَ أَرْبعًا"
(1)
.
وفي "المسند"
(2)
أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "افصِلُوا بينها وبين المكتوبة ولا تجعلوها كصلاة الظهر".
وفي سنن أبي داودَ
(3)
أن رجلًا صلى مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا سلَّم قامَ يَشفَعُ، فوثَبَ عليه عمرُ فأخَذَ بمنكِبيه، فهزَّه، ثم قال: اجلسْ، فإنَّه لم يَهلِكْ أهلُ الكتابِ، إلَّا أنَّه لم يكن لصلاتهم فصْلٌ، فرفَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بصَرَهُ، فقال:"أصابَ الله بكَ يا ابنَ الخطَّابِ". ومَنْ عَلَّلَ بهذا؛ فمنهم مَن كَرِهَ وَصْلَ صَوم شعبانَ برمضانَ مطلقًا. ورُوي عن ابن عُمَرَ، قال: لو صُمْتُ الدَّهْرَ كلَّه لأفْطَرْتُ الذَي بينهما. ورُوي فيه حديث مرفوعٌ لا يصِحُّ. والجمهورُ على جواز صيامِ ما وافَقَ عادةً؛ لأنَّ الزِّيادة إنَّما تُخشَى إذا لم يُعرفْ سَببُ الصِّيام.
والمعنى الثالث: أنَّه أمرَ بذلك؛ للتقوَّي على صِيامِ رمضانَ؛ فإنَّ مُواصلَةَ الصِّيامِ قد تُضعِفُ عن صيام الفَرْضِ، فإذا حصل الفِطرُ قبلَه بيوم أو يومين كان أقربَ إلى التقوِّي على صِيام رَمضانَ. وفي هذا التعليل نظرٌ، فإنه لا يُكرَهُ التقدُّمُ بأكثرَ من ذلك، ولا لمن صام الشهر كلَّه، وهو أبلَغُ في معنَى الضُّعف، لكنَ الفطر بنيَّةِ التقوِّي لصيامِ رمضانَ حَسَنٌ لمن أضعَفُه مُواصلَةُ الصيامِ، كما كان عبدُ الله بن عمرو بن
(1)
رواه البخاري رقم (663) في صلاة الجماعة: باب إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة؛ ومسلم رقم (711) في صلاة المسافرين: باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع الأذان؛ والنسائي 2/ 117 في الإمامة: باب ما يكره من الصلاة عند الإقامة، ومسند أحمد 5/ 345؛ من حديث عبد الله بن مالك بن بُحَيْنة رضي الله عنه، قال:"مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلٍ - وفي رواية أنه رأى رجلًا - وقد أقيمت الصلاة يصلِّي ركعتين، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثَ به الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: آلصبحَ أربعًا؟ آلصبحَ أربعًا؟ ".
(2)
مسند أحمد 5/ 345 عن عبد الله بن مالك بن بُحَيْنة، أن النبي صلى الله عليه وسلم مَر به وهو يصلِّي يطوِّل صلاته، أو نحو هذا، بين يدي صلاة الفجر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تجعلوا هذه مثل صلاة الظهر قبله أو بعدها، اجعلوا بينهما فصلًا".
(3)
رقم (1007) في الصلاة: باب في الرجل يتطوع في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة.
العاص يسرُدُ الفِطرَ أحيانًا، ثم يسرُدُ الصَّوْمَ ليتقوَّى بفطرِهِ على صَوْمِه. ومنه قولُ بعضِ الصَّحابة: إنِّي أحتسِبُ نَوْمَتِي كما أحتسِبُ قَوْمتِي.
وفي الحديثِ المرفوعِ: "الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كالصَّائمِ الصَّابِرِ". خَّرجه الترمذِيُّ
(1)
وغيرُه.
ولَربَّما ظنَّ بعضُ الجهَّالِ أَنَّ الفِطْر قبلَ رمضانَ يُراد به اغتنامُ الأكلِ؛ لتأخُذَ النُّفوسُ حظَّها مِن الشهواتِ قبلَ أن تُمنَعَ مِن ذلك بالصِّيامِ، ولهذا يقولون: هي أيَّام توديعٍ للأكلِ، وتسمَّى تَنْحِيسًا
(2)
، واشتقاقه من الأيام النَّحِسَاتِ. ومَنْ قال: هو تَنهيسٌ، بالهاء، فهو خطأٌ منه، ذكره ابنُ دُرُسْتَوَيْه النَّحوِيُّ، وذكَر أن أَصْلَ ذلك مُتَلقًّى
(3)
مِنَ النَّصارى؛ فإنَّهم يفعلونه عند قرب صيامهم، وهذا كلُّه خطأٌ وجَهْلٌ ممن ظنَّه. وربَّما لم يقتصِرْ كثيرٌ منهم على اغتنام الشهواتِ المباحةِ، بل يتعدَّى إلى المحرَّماتِ، وهذا هو الخُسرانُ المُبِينُ. وأنشَدَ بعضُهم في
(4)
هذا:
إذا العشرونَ مِن شعبانَ وَلَّتْ
…
فواصِلْ شُرْبَ لَيْلِكَ بالنَّهارِ
ولا تشرَبْ بأقْدَاح صِغارٍ
…
فإن الوَقْتَ ضَاقَ على الصغارِ
وقال آخر:
جَاءَ شَعْبانُ مُنْذِرًا بالصِّيامِ
…
فاسْقِيانِي راحًا
(5)
بماءِ الغَمَامِ
ومن كانَتْ هذه حالُه فالبهائمُ أعقَلُ منه وله نصيبٌ من قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا}
(6)
. الآية. وربَّما تَكَرَّه كثيرٌ منهم بصيام رمضانَ، حتَّى إنَّ بعضَ السُّفهاءِ مِنَ الشُّعراءِ كان يَسبُّهُ، وكان للرشيد ابنٌ سَفِيهٌ، فقالَ مَرَّةً:
دَعَانِيَ شَهْرُ الصَّوْمِ لَا كَانَ مِنْ شَهْرِ
…
وَلَا صُمْتُ شَهْرًا بَعْدَهُ آخِرَ الدَّهْرِ
(1)
رقم (2488) في صفة القيامة، باب الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر، وحسَّنه. وأخرجه ابن ماجه رقم (1769) في الصيام، باب فيمن قال: الطاعم الشاكر كالصائم الصابر.
(2)
جاء في اللسان (نحس): "تنحَّس النصارى: تركوا أكل الحيوان".
(3)
في آ: "يتلقى".
(4)
قوله: "في هذا" لم يرد في ب، ط.
(5)
في ع: "خمرًا".
(6)
سورة الأعراف الآية 179.
فَلَو كان يُعْدِيني الأنامُ
(1)
بقُدْرَةٍ
…
على الشَّهْير لاسْتَعْدَيْتُ جَهْدِي عَلَى الشَّهْر
(2)
فأخَذَه داءُ الصَّرْعِ، فكانَ يُصْرَعُ في كُلِّ يوم مَرَّاتٍ متعددة، وماتَ قبلَ أن يدركَهُ رمضان آخرُ. وهؤلاء السُّفهاءُ يستثقلُون رمضانَ؛ لاستثقالِهم العباداتِ فيه؛ مِنَ الصَّلاةِ والصِّيام، فكثيرٌ من هؤلاءِ الجُهَّالِ لا يُصلِّي إلَّا في رَمَضَانَ إذا صامَ، وكثيرٌ منهم لا يَجْتَنِبُ كبائِرَ الذُّنوب إلَّا في رمضانَ؛ فيطولُ عليه، ويشُقُّ على نفسِهِ مفارقتها لمألُوفِها، فهو يَعُد الأيَّامَ واللَّياليَ؛ ليعودَ إلى المعصِيَةِ؛ وهؤلاء مُصِرُّونَ على ما فَعَلُوا وهم يَعلمون، فهم هَلْكَى؛ ومنهم مَن لا يصبِرُ على المعاصِي، فهو يواقِعُها في رَمضانَ.
وحكايةُ محمد بن هارون البَلْخي مشهورةٌ قَدْ رُوِيَتْ مِن وُجوهٍ، وهو أنَّه كان مُصِرًّا على شرب الخمر، فجاءَ في آخر يومٍ من شعبانَ وهو سكران، فعاتبَتْهُ أمُّه وهي تَسْجُر تنوُّرًا، فحَمَلَها فألقاها في التَّنُّورِ فاحترقت، وكان بعد ذلك قد تاب وتعبَّدَ، فرؤي له في النَّوم أنَّ الله قد غَفَرَ للحاجِّ كلِّهم سِواهُ. فمن أرادَ اللهُ به خيرًا حَبَّبَ إليه الإيمانَ وزيَّنَه في قَلْبِه، وكَرَّهَ إليه الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ، فصارَ من الراشدين
(3)
. ومَن أرادَ به شرًّا خَلَّى بينَه وبينَ نفسِهِ، فاتبعَهُ الشيطانُ، فحبَّبَ إليه الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصيانَ، فكان من الغاوين.
الحذَرَ الحذَرَ مِنَ المعاصِي! فكَمْ سَلَبَتْ مِن نِعَمٍ، وكم جَلَبَتْ مِن نِقَمٍ، وكَمْ خَرَّبَتْ مِن ديارٍ، وكم أخلَتْ ديارًا مِن أهلِها، فما بقي منهم دَيَّارٌ
(4)
، كم أخذَتْ مِن العُصَاةِ بالثارِ، كم مَحَتْ لهم مِن آثارِ.
يا صَاحِبَ الذَّنْبِ لا تأمَنْ عَوَاقِبَهُ
…
عَوَاقِبُ الذَّنْب تُخْشَى وَهْيَ تنْتَظَرُ
فَكل نَفْسٍ سَتُجْزَى بالَّذي كَسَبَتْ
(5)
…
ولَيْسَ لِلْخَلْقِ مِن دَيَّانِهم وَزَرُ
(6)
(1)
في آ: "الإمام"، وأراد به الخليفة.
(2)
يعديني: يعينني. واستعدى: طلب العون.
(3)
من قوله تعالى في سورة الحجرات الآية 7: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} .
(4)
أي ما بقي منهم أحد.
(5)
في آ: "فكل نفس امرئٍ تجزى بما كسبت".
(6)
الدَّيَّان: من أسماء الله تعالى، ومعناه الحكَم القاضي. والوَزَر: الملجَأ.
أين حَالُ هؤلاء الحمقَى مِن قومٍ كان دهرُهم كلُّه رمضانَ، ليلُهُم قيامٌ ونهارُهُم صِيامٌ.
باعَ قومٌ مِن السَّلفِ جاريةً، فلمَّا قَرُبَ شهر رمضانَ رأتهم يتأهَّبُون
(1)
له ويستعِدُّون بالأطعمة وغيرِها، فسألتهم فقالوا: نتهيَّأُ لصيام رمضانَ، فقالَتْ: وأنتم لا تصومون إلَّا رمضانَ؟ لقد كنتُ عندَ قوم كلُّ زمانِهم رمضَانُ، رُدُّوني عليهم. وباع الحسنُ بن صالح
(2)
جاريةً له، فلمَّا انتصَفَ الليلُ قامَتْ فنادتهم: يا أَهْلَ الدَّارِ، الصَّلاةَ الصَّلاةَ، قالوا: طلَعَ الفجْرُ؟ قالت: وأنتم لا تُصَلُّون إلَّا المكتوبةَ، ثم جاءَتْ إلى
(3)
الحسن، فقالت: بعتني على قومِ سُوءٍ لا يُصلُّون إلا المكتوبةَ
(4)
، رُدَّني رُدَّني.
قال بعضُ السَّلفِ: صُمِ الدُّنيا واجْعَلْ فِطرَكَ الموتَ. الدُّنيا كلُّها شهرُ صيام المتقينَ، يَصُومون فيه عن الشَّهواتِ المُحرَّماتِ، فإذا جاءَهُم الموتُ فقد انقضَى شهرُ صيامِهم واستهلُّوا عيدَ فطرِهم.
وَقَدْ صُمْتُ عَن لذَّاتِ دَهرِيَ كُلِّها
…
وَيوْمُ لِقاكُمْ ذاكَ فِطْرُ صِيامِي
مَنْ صَامَ اليومَ عن شهواتِهِ أفطرَ عليها بعدَ مماتِه، ومن تعجَّل ما حُرِّمَ عليه قبلَ وفاتِهِ عُوقِبَ بِحرْمانِهِ في الآخِرةِ وفواتِهِ، وشاهِدُ ذلك قوله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}
(5)
. الآية. وقولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شرِبَ الخمرَ في الدُّنيا لم يشربْها في الآخرة"
(6)
، و"مَنْ لَبِسَ الحريرَ في الدُّنيا لم يَلْبَسْهُ في الآخِرة"
(7)
.
(1)
في ب: "يتهيؤون".
(2)
الحسن بن صالح بن صالح بن حَي، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة فقيه عابد، أخو الإمام علي بن صالح. أخذ عليه أنه كان يترك الجمعة ولا يراها خلف أئمة الجور. مات سنة 169 هـ. (سير أعلام النبلاء 7/ 361).
(3)
لفظة "إلى" سقطت من (ط).
(4)
في آ، ع:"الفرائض"، وفي ش:"المفروض".
(5)
سورة الأحقاف الآية 20.
(6)
من حديث أخرجه البخاري 10/ 25، 26 في الأشربة، في فاتحته؛ ومسلم رقم (2003) في الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(7)
أخرجه البخاري 10/ 284 في اللباس، باب في لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز منه؛ ومسلم رقم (2073) في اللباس، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة للرجال والنساء، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وللحديث روايات أخر أوردها ابن الأثير في "جامع الأصول" 10/ 677 - 680.
أَنْتَ في دَارِ شَتَاتِ
…
فتأهَّبْ لِشَتاتِكْ
واجْعَلِ الدُّنيا كَيومٍ
…
صُمْتَهُ عَنْ شَهَواتِكْ
وَلْيَكُنْ فِطرُكَ عِنْدَ
…
الله في يَوْمِ وَفَاتِكْ
في حديثٍ مرفوعٍ خرَّجه ابنُ أبي الدنيا: "لو يَعْلمُ العِبادُ ما في رَمَضانَ لتمنَّتْ أُمَّتي أَنْ يَكُونَ رَمَضانُ السَّنَةَ كلِّها"
(1)
. وكانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبشِّرُ أصحابَهُ بقدُومِ رَمَضَانَ، كما خرَّجه الإمامُ أحمد
(2)
والنسائي عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبشِّرُ أصحابَهُ، يقول: "قد جَاءَكُم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مباركٌ، كَتَبَ الله عليكم صيامَهُ، تُفتَحَ فيه
(3)
أبوابُ الجِنانِ
(4)
، وتُغلَقُ فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه الشياطينُ، فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَها فقد حُرِمَ". قال بعضُ العلماء: هذا الحديثُ أصل في تهنئةِ النَّاسِ بعضهم بعضًا بشهر رمضان.
كيف لا يبشَّرُ المؤمنُ بفتح أبواب الجنان، كيف لا يبشَّرُ المذنبُ بغَلْقِ أبوابِ النيرانِ، كيفَ لا يبشَّرُ العاقلُ بوقتٍ يُغَلُّ فيه الشيطانُ، من أين يُشبه هذا الزمانَ زمانٌ. وفي حديثٍ آخر:"أتاكم رمضانُ سيِّدُ الشُّهورِ، فمرحبًا به وأهلًا"
(5)
.
جاء شهرُ الصِّيامِ بالبَرَكاتِ
…
فأكْرِمْ بِه مِنْ زائرٍ هُوَ آتِ
ورُوي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَدعُو ببلوغِ رمضانَ، فكان إذا دخل شهر
(6)
رجب
(1)
رواه أبو يعلى في "مسنده" 9/ 180، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 141 باب في شهور البركة وفضل شهر رمضان، وقال:"رواه أبو يعلى، وفي سنده جرير بن أيوب وهو ضعيف". وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" 3/ 190 رقم (1886) وقال: "إن صح الخبر". ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 313 عن أبي مسعود الغفاري، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، واستدركه عليه السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" 1/ 99. وانظر "الترغيب" 2/ 102 وكنز العمال رقم (23715).
(2)
رواه النسائي 4/ 126 - 128 في الصوم، باب فضل شهر رمضان، وباب ذكر الاختلاف على الزهري فيه، وأحمد في "مسنده" 2/ 230، 385، 425 بإسناد صحيح.
(3)
في ب، ط:"فيه تفتح".
(4)
في آ، ع والنسائي:"السماء"، وفي ش ومسند أحمد "الجنة".
(5)
ورد بعضه في حديثين في كنز العمال 8/ 482 رقم (23734) و (23735)، وانظر "مجمع الزوائد" 3/ 140، باب في شهور البركة وفضل شهر رمضان.
(6)
لفظ "شهر" لم يرد في ب، ط.
يقولُ: "اللهم باركْ لنا في رجب وشعبانَ وبلِّغْنا رمضانَ". خرَّجه الطبراني
(1)
وغيرُه من حديث أنس. وقال مُعلَّى بن الفضل: كانوا يدعون الله تعالى ستةَ أشهرٍ أنْ يُبلِّغَهم رمضانَ، ثم يدعُونَه ستةَ أشهرٍ أن يَتَقَبَّل منهم. وقال يحيى بن أبي كثيرٍ: كان مِن دعائهم: اللهم سلِّمْني إلى رمضانَ، وسلِّمْ لي رمضانَ، وتَسلَّمْه منِّي متقبَّلًا.
بُلوغُ شهرِ رمضانَ وصيامُه نِعمةٌ عظيمةٌ على مَن أَقدَرَهُ الله عليه، ويدُلُّ عليه حديثُ الثلاثةِ الذين اسْتُشْهِدَ اثنان منهم، ثم ماتَ الثالثُ على فراشِهِ بعدَهما، فرؤي في المنام
(2)
سابقًا لهما، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ليسَ صلَّى بعدَهما كذا وكذا صلاةً، وأدرَكَ رمضانَ فصامَه، فوالذي نفسي بيدِه، إنَّ بينَهما لأبعدَ مِمَّا بينَ السَّماءِ والأرضِ". خرجه الإمامُ أحمدُ
(3)
وغيرُه.
مَن رُحِمَ في شهر رمضانَ فهو المرحومُ، ومَنْ حُرِمَ خيرَه فهو المحرومُ، ومَنْ لم يتزوَّدْ فيه لِمَعَادِهِ فهو ملوم.
أَتَى رَمَضَانُ مَزْرَعَةُ العِبادِ
…
لِتطهيرِ القُلُوبِ مِنَ الفَسَادِ
فَأَدِّ حُقُوقَهُ قَوْلًا وفِعْلًا
…
وَزَادَكَ فاتَّخِذْهُ لِلْمَعَادِ
(4)
فَمَنْ زَرَعَ الحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا
…
تأوَّه نادِمًا يَوْمَ الحَصَادِ
(1)
رواه الإمام أحمد في "المسند" 1/ 259 بإسناد ضعيف، لضعف زائدة بن أبي الرُّقاد الباهلي، وفيه "وبارك لنا في رمضان"، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 165 مطولًا، وقال:"رواه البزار، وفيه زائدة بن أبي الرقاد، قال البخاري: منكر الحديث، وجهله جماعة"، و 3/ 140 مختصرًا، ونسبه للبزار والطبراني في الأوسط. وانظر "مشكاة المصابيح" 1/ 432 رقم (1369) في الصلاة، و "ميزان الاعتدال" 2/ 65 رقم (2824).
(2)
في ب، ش، ط:"في النوم".
(3)
مسند أحمد 2/ 333 من حديث أبي هريرة عن طلحة بن عبيد الله، وذكر الخبر عن رجلين من بليّ من قضاعة، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس قد صام بعده رمضان وصلى ستة آلاف ركعة، أو كذا وكذا ركعةً صلاةَ السنة؟ ". وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 204، وقال:"قلت هذا من حديث أبي هريرة كما تراه، إنما لطلحة فيه رؤية المنام؛ ولطلحة حديث رواه ابن ماجه، رواه أحمد وإسناده حسن". وأورده المنذري في "الترغيب والترهيب" 4/ 255 باب خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وفيه:"رواه أحمد بإسناد حسن، ورواه ابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي، كلهم عن طلحة بنحوه أطول منه".
(4)
في آ، ش:"فاتخذه إلى المعاد".
يا مَنْ طالَتْ غيبتُه عنَّا، قد قَرُبَتْ أيَّامُ المُصَالَحةِ. يا مَنْ دامَتْ خَسَارَتَهُ قَدْ أَقبلَتْ أيَّامُ التِّجارةِ الرَّابحةِ. مَنْ لم يَرْبَحْ في هذا الشَّهرِ ففي أيِّ وقتٍ يربَحُ؟! مَنْ لم يَقْرُبْ فيهِ مِن مولاهُ فهو على بُعْدِه لا يَبْرَح.
أناسٌ أعْرَضُوا عَنَّا
…
بلَا جُرْمٍ وَلَا مَعْنَى
أَسَاؤوا ظَنَّهُمْ فِينا
…
فَهَلَّا أَحْسَنُوا الظَّنَّا
فإنْ عادُوا لَنا عُدْنا
…
وإنْ خَانُوا فَمَا خُنَّا
فإنْ كانُوا قَد اسْتَغْنَوا
…
فإنَّا عَنْهُمُ أَغْنَا
كم يُنَادَى: حَيَّ على الفلاحِ وأَنْتَ خاسِر؟! كَمْ تُدْعَى إلى الصَّلاحِ وأَنْتَ عَلَى الفَسَادِ مُثَابِر؟!
إذا رَمَضَانُ أَتَى مُقْبِلًا
…
فَأقْبِلْ فبالْخَيْرِ يُسْتَقْبَلُ
لَعَلَّكَ تُخْطِئْهُ قابِلًا
…
وتأتِي بِعُذْرٍ فَلَا يُقْبَلُ
(1)
كم مِمَّن أَمَّلَ أَنْ يَصُومَ هذا الشهرَ فخَانَهُ أَمَلُه، فصارَ قبلَهُ إلى ظُلْمَةِ القَبْرِ. كم من مُسْتقبِلٍ يومًا لا يستكمِلُه، ومؤمِّلٍ غدًا
(2)
لا يدرِكُه. إنَّكم لو أَبْصَرْتُم
(3)
الأجلَ ومسيرَهْ، لأبْغضْتُم الأمَلَ وغُرُورَه.
خَطبَ عمرُ بن عبد العزيز آخرَ خطبةٍ خطبَها، فقال فيها: إنَّكم لم تُخْلَقُوا عبَثًا، ولن تُتْرَكُوا سُدًى، وإنَّ لكم معادًا يَنْزِلُ الله فيه للفصل بينَ عبادِه، فقد خابَ وخسِرَ من خرج
(4)
مِن رحمة الله التي وَسِعَتْ كُلِّ شيءٍ، وحُرِمَ جَنَّةً عَرْضُها السَّماواتُ والأرضُ. أَلَا تَرَوْنَ أنكم في أسلاب
(5)
الهالكين، وسَيرِثها بعدَكم الباقون؟ كذلك حتَّى تُرَدَّ إلى خَيرِ الوارِثين. وفي كُلِّ يوم تُشيِّعونَ غاديًا ورائحًا إلى الله قد قَضَى نَحْبَه، وانْقَضَى أجلُه، فتودِّعُونَه وتَدَعُونَه في صَدْعٍ
(6)
من الأرضِ غير موسَّدٍ ولا مُمهَّدٍ، قد خَلَعَ
(1)
في آ: "فلا تقبل".
(2)
في آ: "ومؤمّل غد".
(3)
في آ: "لو رأيتم".
(4)
في آ: حُرم مِن رحمة الله.
(5)
في آ، ب:"أسلاف". والأسلاب: جمع سَلَب، وهو ما يُسْلب به، والسَّلَب: المسلوب.
(6)
الصَّدْع: الشَّقّ.
الأسبابَ، وفارَقَ الأحبابَ، وسَكَنَ التُّرابَ، وواجَهَ الحِسابَ، غنيًّا عمَّا خَلَّفَ، فقيرًا إلى ما أَسْلَفَ؛ فاتَّقُوا الله عبادَ الله قبلَ نُزولِ الموتِ وانقضاءِ مَوَاقِيتِه، وإنِّي لأقولُ لكم هذه المقالةَ وما أَعْلَمُ عندَ أحدٍ مِنَ الذُّنوبِ أكثَرَ مِمَّا أعلمُ عندِي، ولكني
(1)
أستغفرُ الله وأتُوبُ إليه. ثمَّ رَفَعَ طَرَفَ رِدائِهِ وبَكَى حتَّى شَهَقَ، ثمَّ نزَلَ فما عادَ إلى المنبر بعدَها حتَّى ماتَ رحمةُ الله عليه
(2)
.
يا ذَا الذي ما كَفَاهُ الذَّنبُ في رَجَبٍ
…
حتَّى عَصَى رَبَّهُ في شَهْرِ شَعْبَانِ
لَقَدْ أَظَلَّكَ شَهْرُ الصَّوْمِ بَعْدَهما
…
فلا تصيِّرْهُ أيضًا شَهْرَ عِصْيانِ
واتْلُ القُرانَ
(3)
وسَبِّحْ فيهِ مُجتهدًا
…
فإنَّه شَهْرُ تَسْبيحٍ وقُرْآنِ
واحْمِلْ
(4)
على جَسَدٍ ترجو النَّجاةَ لَهُ
…
فَسَوفَ تُضْرَمُ أجَسادٌ بِنيرانِ
كَمْ كُنْتَ تعرِفُ مِمَّن صامَ في سَلَفٍ
…
مِن بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْوانِ
أَفْنَاهُمُ الموتُ واسْتَبْقاكَ بَعْدَهُمُ
…
حَيًّا فما أقرَبَ القاصِي مِنَ الدَّانِي
وَمُعْجَب بثيابِ العيدِ يَقطعُها
…
فأصْبَحَتْ في غدٍ أثوابَ أَكْفَانِ
حتَّى مَتَى يَعْمُرُ الإنسانُ مَسْكَنَهُ
…
مَصِيرُ
(5)
مَسْكَنِهِ قَبرٌ لإنْسانِ
* * *
(1)
في ب، ع، ط:"ولكن".
(2)
انظر "صفة الصفوة" 2/ 123 - 124، ومختصر تاريخ دمشق لابن عساكر 19/ 110، والبداية والنهاية 9/ 199.
(3)
القُران: اسم، ليس بمهموز، لم يؤخذ من قرأت، ولكنه اسمٌ لكتاب الله، مثل التوراة والإنجيل. (اللسان: قرأ).
(4)
في ب، ط:"فاحمل".
(5)
في ش: "يصير مسكنُه قبرًا".
وظائف شهر رمضان المعظم
وفيه مجالس:
المجلس الأول في فضل الصيام
ثبتَ
(1)
في "الصحيحين"
(2)
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"كلُّ عَمَلِ ابن آدمَ له؛ الحسنَةُ بِعشْرِ أمثالِها إلى سبعمائةِ ضِعْفٍ، قال الله عز وجل: إلَّا الصِّيامَ فإنَّه لي وأنا أجزِي به، إنَّه تَرَكَ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجلي. للصَّائمِ فرحتان: فَرْحَةٌ عند فطرِه، وفَرْحَةٌ عندَ لِقاءِ ربِّهِ، ولَخَلُوفُ فَمِ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ مِن ريحِ المِسْكِ". وفي رواية "كلُّ عَمَلِ ابن آدمَ له إلَّا الصِّيامَ فإنَّه لي". وفي رواية للبخاري "لكلِّ عملٍ كَفَّارةٌ، والصَّوم لي وأنا أجزي به". وخرَّجه الإمامُ أحمدُ
(3)
مِن هذا الوجه، ولفظهُ: "كلُّ عملِ ابن آدمَ له
(4)
كفارةٌ إلَّا الصَّومَ، والصَّومُ لي، وأنا أَجْزِي به".
فعلى الرواية الأولى: يكون استثناءُ الصومِ من الأعمالِ المُضَاعَفَةِ، فتكونُ الأعمالُ كلُّها تُضاعَفُ بعَشر أمثالها إلى سبعمائة ضَعفٍ، إلَّا الصيامَ فإنَّه لا ينحصِرُ تضعيفُه في هذا العدد، بل يُضاعِفُه اللهُ عز وجل أضعافًا كثيرةً بغير حَصْرِ عددٍ؛ فإنَّ الصيامَ مِن الصَّبرِ، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
(1)
لفظ "ثبت" لم يرد في آ، ش، ع.
(2)
أخرجه البخاري 4/ 103 - 110 رقم (1894) في الصوم: باب فضل الصوم، ورقم (1904) باب هل يقول: إني صائم إذا شتم، وفي اللباس، رقم (5927): باب ما يذكر في المسك، وفي التوحيد رقم (7942): باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} ، ورقم (7538): باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربِّه؛ ومسلم رقم (1151) في الصيام: باب حفظ اللسان، وباب فضل الصيام. وللحديث روايات متعددة انظرها في "جامع الأصول" 9/ 450 - 453.
(3)
مسند أحمد 2/ 257 و 273، ولم ترد فيه لفظة "كفارة".
(4)
لفظ "له" لم يرد في آ، ش، ع.
حِسَابٍ}
(1)
. ولهذا وَرَدَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه سمَّى شهرَ رمضانَ شهرَ الصَّبر
(2)
.
وفي حديث آخرَ عنه صلى الله عليه وسلم، قال:"الصَّومُ نِصْفُ الصَّبْرِ". خرَّجه الترمذيُّ
(3)
.
والصَّبْرُ ثلاثةُ أنواعٍ: صبرٌ على طاعةِ اللهِ، وصَبْرُ عن محارِم اللهِ، وصَبْرٌ على أقدَارِ اللهِ المؤلمةِ. وتجتمعُ الثلاثة كلُّها
(4)
في الصوم؛ فإنَّ فيه صبرًا على طاعةِ اللهِ، وصَبرًا عمَّا حَرمَ الله على الصَّائمِ منَ الشَّهواتِ، وصَبرًا على ما يحصُلُ للصَّائمِ فيه من ألمِ الجوعِ والعطَشِ، وضعْفِ النفسِ وَالبدَنِ.
وهذا الألمُ الناشئُ مِن أعمالِ الطَّاعَاتِ يُثابُ عليه صاحبُه، كما قال الله تعالى في المجاهدين:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
(5)
. وفي حديثِ سلمانَ المرفوعِ الذي أخرَجَهُ ابن خُزيمةَ في "صحيحِهِ"
(6)
في فضلِ شهر رمضانَ "وهو شهرُ الصَّبرِ، والصَّبْر ثوابُه الجَنَّةُ". وفي الطبراني
(7)
عن ابن عُمَرَ مرفوعًا: "الصِّيامُ للهِ لَا يَعْلَمُ ثَوابَ عملِه
(8)
إلَّا اللهُ عز وجل". ورُوي مرسلًا وهو أصحُّ.
واعلَمْ أَنَّ مضاعفَةَ الأجرِ للأعمال تكونُ بأسبابٍ؛ منها: شَرَفُ المكانِ المعمولِ فيه ذلك العملُ، كالحَرَمِ. ولذلك
(9)
تُضاعَفُ الصَّلاةُ في مسجدَيْ مكَّةَ والمدينةِ. كما
(1)
سورة الزمر الآية 10.
(2)
من حديث طويل أخرجه أبو داود رقم (2428) في الصوم، باب في صوم أشهر الحرم، وابن ماجه رقم (1741) في الصيام، باب صيام أشهر الحرم؛ وفي الحديث مقال، وقد مضى تخريجه.
(3)
رقم (3514) في الدعوات، باب رقم (92) عن رجل من بني سليم؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التسبيح نصف الميزان، والحمدُ لله تملؤه، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض، والصوم نصف الصبر، والطهور نصف الإيمان". قال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو كما قال.
(4)
لفظ "كلها" زيادة من ش، ع، وفي آ:"وتجتمع كلها".
(5)
سورة التوبة الآية 120.
(6)
رقم (1887) في الصيام، باب فضائل شهر رمضان، إن صح الخبر. وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، كما في التقريب. وفي حاشية التحقيق: قال البنا في "الفتح الرباني" 9/ 233: رواه ابن خزيمة في صحيحه، ثم قال: إن صح الخبر.
(7)
أورده المنذري في "الترغيب والترهيب" مطولًا 2/ 82 في الصوم عن ابن عمر، وفيه:"رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي. وهو في صحيح ابن حبان من حديث حريم بن فاتك بنحوه، لم يذكر فيه الصوم".
(8)
في الترغيب "عامله".
(9)
في آ، ش:"وكذلك".
ثبَتَ ذلك في الحديثِ الصحيحِ
(1)
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"صلاةٌ في مَسْجِدي هذا خيرٌ مِن ألفِ صَلاةٍ فيما سِواهُ مِنَ المساجدِ إلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ".
وفي رواية "فإنه أفضَلُ". وكذلك روي أنَّ الصِّيامَ يُضَاعَفُ بالحرَم. وفي سُنن
ابن ماجه
(2)
بإسنادٍ ضعيفٍ، عن ابن عباسٍ مرفوعًا: "مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بمكَةَ فَصامَهُ
وقَامَ منه ما تيسَّرَ كَتَبَ الله له مائَةَ ألفِ شَهْرِ رَمَضانَ فيما سِواهُ"، وذَكَرَ له ثوابًا كثيرًا.
ومنها: شرفُ الزمان، كشهر رمضانَ وعشر ذي الحجةِ. وفي حديثِ سلمانَ الفارسي
المرفوعِ الذي أشرْنا إليه في فضل شهر رمضانَ "مَنْ تطوَّعَ
(3)
فيهِ بخَصْلَةٍ مِن خِصالِ
الخَيْرِ كان كَمَنْ أدَّى فَريضَةً فيما سِواهُ، ومَنْ أدَّى فيه فريضَةً كان كمَنْ أدَّى سَبعينَ
فريضةً فيما سِواهُ". وفي الترمذيّ
(4)
عن أنس: "سئل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصَّدَقةِ أفضَلُ؟
قال: صَدَقَةٌ في رَمَضَانَ". وفي الصحيحين
(5)
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "عُمْرَةٌ في رمضانَ
تَعْدِلُ حجَّةً" أو قال "حَجَّةً معي".
وَوَرَدَ في حديثٍ آخر: "إنَّ عَمَلَ الصَّائمِ مُضَاعَفٌ". وذكَرَ أبو بكر بن أبي مريمَ
عن أشياخِه أنَّهم كانوا يقولون: إذا حَضرَ شهرُ رَمَضَانَ فانبسِطُوا فيه بالنَّفَقَةِ؛ فإنَّ النَّفَقَةَ
فيه مُضَاعَفَة كالنَّفقةِ في سبيلِ الله، وتسبيحةٌ فيه أفضَلُ من ألفِ تسبيحةٍ في غيرِهِ.
(1)
أخرجه البخاري رقم (1190) في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة؛ ومسلم رقم (1394) في الحج، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة. وللحديث روايات متعددة انظرها في
"جامع الأصول" 9/ 284 - 286.
(2)
رقم (3117) في المناسك، باب صيام شهر رمضان بمكة، وإسناده ضعيف لضعف عبد الرحيم بن زيد العَمِّيّ،
وضعف أبيه زيد بن الحواري العَمِّي. وتمام الحديث: "وكتب له بكل يوم عتقَ رَقبة، وكل ليلة عتق رقبة، وكل يوم حُملان فرسٍ في سبيل الله، وفي كل يوم حسنةٌ، وفي كل ليلةٍ حسنةٌ".
(3)
في صحيح ابن خزيمة "من تقرَّب".
(4)
رقم (663) في الزكاة: باب ما جاء في فضل الصدقة، من حديث صدقة بن موسى، عن أنس. قال الترمذي: هذا
حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوي. ونصه فيه، عن أنس: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي
الصوم أفضل بعد رمضان؟ فقال: شعبان لتعظيم رمضان. قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة في
رمضان". وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" 3/ 377.
(5)
في آ، ش، ع:"وفي الصحيح". وهو قطعة من حديث طويل رواه البخاري 3/ 603 - 605 في الحج، باب عمرة
في رمضان، و 4/ 72 (1863) باب حج النساء؛ ومسلم رقم (1256) في الحج، باب فضل العمرة في رمضان.
وقال النَّخعيُّ: صومُ يومٍ من رَمَضَانَ أفضَلُ مِن ألفِ يومٍ، وتسبيحةٌ فيهِ أفضَلُ مِن ألفِ تسبيحةٍ، ورَكْعَةٌ فيه أفضَلُ مِن ألفِ رَكْعَةٍ.
فلمَّا كانَ الصِّيامُ في نفسِهِ مضاعفًا أجرُهُ بالنسبة إلى سائرِ الأعمالِ، كانَ صِيَامُ شهرِ رَمَضَانَ مُضاعَفًا على سائرِ الصِّيام؛ لِشرَفِ زَمَانِهِ، وكونِهِ هو الصَّومُ الذي فَرَضَهُ اللهُ على عبادِهِ، وجَعَلَ صيامَهُ أحَدَ أَركانِ الإسلام التي بُني الإسلامُ عليها. وقد يُضاعَفُ الثَّوابُ بأَسبابٍ أُخَرَ؛ منها: شرفُ العامِلِ عَندَ اللهِ وقُرْبُهُ منه، وكثرةُ تَقواهُ، كما ضُوعِفَ أجرُ هذه الأمَّةِ على أجورِ مَنْ قبلَهم مِن الأممِ، وأُعْطُوا كِفْلَيْن
(1)
مِنَ الأجْرِ.
وأمَّا على الروايةِ الثانية: فاستثناءُ الصِّيام من بين الأعمالِ يَرجعُ إلى أن سائرَ الأعمالِ للعبادِ، والصِّيامُ اختصَّه اللهُ تعالَى لنفسِهِ من بين أعمالِ عبادِه، وأضافَه إليه. وسيأتي ذكرُ توجيه هذا الاختصاص إن شاء الله تعالى.
وأمَّا على الرواية الثالثة
(2)
: فالاستثناءُ يعودُ إلى التكفير بالأعمالِ، ومن أحسَنِ ما قيلَ في معنى ذلك: ما قاله سفيانُ بنُ عُيينةَ رحمه الله، قال: هذا
(3)
من أجودِ الأحاديثِ وأحكمِهَا
(4)
، إذا كان يومُ القيامة يُحاسِبُ اللهُ عبدَهُ، ويُؤدَّى ما عليه من المظالم من سائر عملِه، حتى لا يبقى إلَّا الصَّومُ، فيتحمَّلُ اللهُ عز وجل ما بقِيَ عليه مِن المظالم، ويُدْخِلُه بالصَّومِ الجنَّةَ. خرَّجَه البيهقي في "شُعَب الإيمان"
(5)
وغيره. وعلى هذا فيكون المعنى أن الصّيامَ للهِ عز وجل، فلا سبيلَ لأحَدٍ إلى أخذِ أجره من الصِّيام
(6)
، بل أجرُه مدَّخرٌ لصاحبِهِ عندَ اللهِ عز وجل، وحينئذٍ فقد يُقالُ: إنَّ سائر الأعمالِ قدْ يُكفَّرُ بها ذنوبُ صاحبِها فلا يَبقى لها أجرٌ، فإنَّه رُوي أنَّه يُوازَنُ يومَ القيامةِ بين الحسناتِ والسيئاتِ، ويُقَصّ
(7)
بعضُهَا من بعضٍ، فإنْ بقيَ من الحسناتِ حسنةٌ
(1)
الكِفْل: الضِّعف.
(2)
في هامش ش: "وهي رواية البخاري: لكل عمل كفارة والصوم لي وأنا أجزي به".
(3)
أي حديث "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به".
(4)
في ش، ع:"وأجلها" وما أثبته يوافق ما جاء في شعب الإيمان.
(5)
شعب الإيمان للبيهقي 3/ 295.
(6)
في آ، ش:"من الصائم".
(7)
في آ، ش، ع:"يقتص".
دَخَلَ بها صاحبُها الجنَّةَ. قاله سعيدُ بن جبيرٍ وغيرُه. وفيه حديثَ مرفوعٌ خرَّجَه الحاكِمُ
(1)
من حديثِ ابن عباسٍ مرفوعًا، فيحتمل أن يقالَ في الصوم: أنَّه لا يَسقُطُ ثوابُهُ بمقاصَّةٍ ولا غيرِها، بل يوفَّرُ أجرُه لصاحبِهِ حتَّى يدخُلَ الجنَّةَ، فيوفَّى أجرُه فيها.
وأمَّا قولُه: "فإنَّه لي"، فإنَّ الله خَصَّ الصِّيامَ بإضافتِه إلى نفسِهِ دونَ سائرِ الأعمالِ، وقد كَثُر القولُ في معنى ذلك مِن الفقهاءِ والصُّوفية وغيرِهم، وذكَروا فيه وُجوهًا كثيرةً. ومِن أحسنِ ما ذُكِرَ فيه وجهان:
أحدُهما: أن الصِّيامَ هو مُجَرَّدُ تَرْكِ حُظُوظِ النَّفْس وَشَهَواتِها الأصليةِ التي جُبِلتْ على الميل إليها للهِ عز وجل، ولا يوجدُ ذلك في عَبادةٍ أخرى غير الصِّيام؛ لأنَّ الإحرامَ إنَّما يُترَكُ فيه الجماعُ ودواعيهِ مِن الطِّيب دونَ سائرِ الشَّهواتِ؛ من الأكل والشربِ، وكذلك الاعْتِكافُ مع أنه تابعٌ للصِّيامِ.
وَأَمَّا الصَّلاةُ فإنَّه وانْ تَرَكَ المصلِّي فيها جميعَ الشهواتِ إلَّا أن مدَّتها لا تَطولُ، فلا يَجِدُ المصلِّي فَقْدَ الطَّعامِ والشَّرابِ في صلاتِه، بل قد نُهِيَ أنْ يُصلِّي ونفسُه تتوقُ
(2)
إلى طعامٍ
(3)
بحضرتِهِ حتى يتناولَ منه ما يُسكِنُ نَفْسَه، ولهذا أُمِرَ بتقديمِ العَشاءِ على الصَّلاةِ.
وذهبت طائفةٌ مِن العلماء إلى إباحة شرب الماءِ في صلاة التطوُّع، وكان ابنُ الزبير يفعلُه في صلاتِهِ، وهو روايةٌ عن الإمامَ أحمدَ، وهذا بخلافِ الصِّيامِ؛ فإنَّه يَسْتَوعِبُ النَّهارَ كُلَّه، فيجِدُ الصَّائمُ فَقْدَ هذه الشهوَاتِ، وتتوقُ (2) نفسُه إليها، خصوصًا في نهارِ الصَّيفِ؛ لشدَّةِ حرِّهِ وطُولهِ، ولهذا رُوِي أن مِن خِصالِ الإيمانِ الصَّومَ في الصَّيْفِ، وقَدْ كانَ رسولُ اللهِ يكوَنِ يَصُومُ رَمَضانَ في السَّفَرِ في شِدَّةِ الحرِّ دونَ أصحابِهِ، كما قال أبو الدَّرداء:"كُنَّا معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في رَمَضَانَ في سَفَرٍ وأحدُنا يَضَعُ يَدَهُ على رأسِهِ مِن شِدَّةِ الحَرِّ، وما فينا صائمٌ إلَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعبدُ الله بنُ رَواحة"
(4)
.
(1)
المستدرك 4/ 252.
(2)
في ب، ط:"تشوق".
(3)
في آ، ع:"إلى الطعام".
(4)
أخرجه البخاري رقم (1945) في الصوم: باب (35). ومسلم رقم (1122)(108) و (109) في الصيام: باب التخيير في الصوم والفطر في السفر.
وفي "الموطأ"
(1)
أنَّه صلى الله عليه وسلم كان بالعَرْج يصُبُّ الماءَ على رأسِهِ وهو صائمٌ مِنَ العَطَش، أو من الحَرِّ. فإذا اشتدَّ توقانُ النَّفس إلى ما تشتهيه مع قدرتِها عليه، ثم تركَتْهُ للهِ عز وجل في موضع لا يَطَّلِعُ عليه إلَّا الله، كانَ ذلك دليلًا على صِحَّةِ الإيمانِ؛ فإن الصَّائمَ يعلَمُ أن له ربًّا يَطَّلِعُ عليه في خلوتِه، وقد حرَّمَ عليه أن يتناولَ شهواتِهِ المجبولِ على الميلِ إليها في الخلوةِ، فأطاعَ ربَّه، وامْتَثَلَ أمرَهُ، واجْتَنَبَ نهيَهُ خوفًا من عقابه، ورَغبةً في ثوابِهِ، فشكَرَ الله تعالَى له ذلك، واخْتَصَّ لنفسِهِ عملَهُ هذا مِن بين سائرِ أعمالِهِ؛ ولهذا قال بعد ذلك: إنَّه إنَّما
(2)
ترَكَ شهوتَهُ وطعامَهُ وشَرَابَهُ مِن أَجْلِي. قال بعض السَّلَف: طُوبَى لمن تَرَكَ شهوةً حاضِرَةً لموعدِ غيبٍ لم يَرَهُ.
لمَّا عَلِمَ المؤمنُ الصَّائمُ أن رِضَا مَولاهُ في ترك شهواتِهِ، قدَّمَ رِضَا مولاهُ على هواهُ؛ فصارَتْ لَذَّتُه في تَرْكِ شهوتِهِ للهِ؛ لإيمانِهِ باطلاعِ الله عليه
(3)
. وثوابُهُ وعقابُهُ أعظَمُ مِن لذَّتِهِ في تناولها في الخَلْوَةِ؛ إيثارًا لِرضا رَبِّه على هَوَى نفسِه، بل المؤمنُ يكرَهُ ذلك في خلوِتِهِ أشدَّ مِن كراهتِهِ لألمِ الضَّرْبِ.
ولهذا أكثر المؤمنين لو ضُرِبَ على أن يُفطِرَ في شهرِ رَمَضَانَ لغيرِ عُذْرٍ لم يفعَلْ؛ لعلمه بكراهةِ
(4)
اللهِ لفطرهِ في هذا الشهر، وهذا من علاماتِ الإيمانِ أن يكرَهَ المؤمنُ ما يلائمُهُ مِنْ شهواتِهِ إذا عَلِمَ أن الله يكرههُ، فتصيرُ لَذَّتُه فيما يُرضي مَولاهُ وإنْ كان مخالفًا لِهواهُ، ويكونُ ألمُهُ فيما يَكرهُهُ مولاهُ، وإن كان موافقًا لِهواهُ، وإذا كانَ هذا فيما حُرِّمَ لِعَارِضِ الصَّوم مِنَ الطَّعامِ والشراب ومباشرةِ النساءِ، فينبغي أنْ يتأكَّدَ ذلك فيما حُرِّمَ على الإطلاقِ، كالزِّنا، وشُرْب الخمَر، وأخذِ الأموالِ أو الأعراضِ
(5)
بغيرِ حَقٍّ، وسَفْكِ الدِّماء المحرَّمَةِ؛ فإنَّ هذَا يُسْخِطُ الله على كلِّ حال وفي كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فإذا كَمُلَ إيمان المؤمنِ كَرِهَ ذلكَ كُلَّه أعظَمَ مِن كراهتِهِ للقتلِ والضَّرْبِ.
(1)
1/ 294 في الصيام: باب ما جاء في الصيام في السفر؛ وأبو داود رقم (2365) في الصوم: باب الصائم يصب عليه الماء من العطش، وإسناده صحيح. والعَرْج: موضع بين مكة والمدينة.
(2)
لفظ "إنما" لم يرد في آ، ش، ع.
(3)
لفظ "عليه" زيادة من نسخة (آ).
(4)
في ب، ط:"الكراهة".
(5)
في آ: "والأعراض".
ولهذا جَعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من علاماتِ وُجودِ حَلَاوةِ الإيمانِ: أَنْ يَكْرَهَ أن يَرجِعَ إلى الكُفْرِ بعدَ أنْ
(1)
أنقذَهُ الله، كما يَكرَهُ أَنْ يُلْقَى في النَّارِ
(2)
.
وقال يوسفُ عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}
(3)
.
سئل ذو النون المصري
(4)
: مَتَى أُحِبُّ رَبِّي؟ قال: إذا كانَ ما يكرَهُهُ أمَرَّ عندَكَ مِنَ الصَّبْرِ. وقال غيرُه: ليسَ مِن أعلام المحبَّةِ أن تحبَّ ما يكرهُهُ حبيبُكَ. وكثيرٌ مِنَ النَّاس يَمشي على العَوَائدِ دونَ ما يوجبُهُ الإيمانُ ويقتضيه، فلهذا كثيرٌ منهم لو ضُرِبَ ما أفَطرَ في رَمَضَانَ لغيرِ عُذْرٍ. ومِن جُهَّالِهم مَنْ لا يُفطِرُ لِعُذْرٍ ولو تَضَرَّرَ بالصَّوْمِ، مع أن الله يُحِبُّ منه أن يَقبَلَ رُخصَتَهُ، جَرْيًا منه على العادةِ، وقد اعْتَادَ مع ذلك ما حرَّم
(5)
اللهُ مِن الزِّنا وشرب الخمرِ وأخذِ الأموالِ والأعراضِ أو الدِّماءِ بغيرِ حقٍّ، فهذا يَجْرِي على عوائِدِه في ذلَك كُلِّه لا على مُقْتَضَى الإيمانِ، ومَنْ عَمِلَ بمقتَضَى الإيمانِ صَارَتْ لَذَّتُه في مُصَابَرَةِ نفسِهِ عمَّا تَميلُ نفسُه إليه إذا كان فيه سَخَطُ اللهِ، ورُبَّما يَرْتَقِي إلى أن يَكْرَهَ جميعَ ما يكرهُهُ الله منهُ، وينفُرُ منه وإنْ كان ملائمًا للنفوسِ، كما قيل:
إن كان رِضاكُمُ في سَهَرِي
…
فَسَلامُ اللهِ على وَسَنِي
(6)
[وقال آخر
(7)
:
* فما لِجُرْحٍ إذا أرضاكُمُ ألَمُ *]
(8)
(1)
في آ: "بعد إذ".
(2)
من حديث رواه المصنف بالمعنى؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كُنَّ فيه وَجَد بهنَّ طعم الإيمان: من كان الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سُواهما، ومن أحبَّ عبدًا لا يُحبُّه إلَّا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر، بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلْقَى في النار". أخرجه البخاري 1/ 60 - 62 في الإيمان: باب حلاوة الإيمان، وباب من كره أن يعود في الكفر، وفي الأدب: باب الحب في الله، وفي الإكراه: باب من اختار القتل والضرب والهوان على الكفر. وأخرجه مسلم رقم (43) في الإيمان: باب بيان خصال الإيمان. والترمذي رقم (2926) في الإيمان، باب رقم (10). والنسائي 8/ 96 في الإيمان: باب حلاوة الإيمان. وابن ماجه رقم (4033) في الفتن: باب الصبر على البلاء.
(3)
سورة يوسف الآية 33.
(4)
لفظ "المصري" لم يرد في آ، ش، ع. وهو ثوبان بن إبراهيم الإخميمي المصري، أصله من النوبة، أحد الزهاد العبَّاد المشهورين، كان له فصاحة وحكمة وشعر، توفي سنة 245 هـ.
(5)
في آ، ش:"ما حرَّمه".
(6)
الوَسَن: النعاس.
(7)
عجز بيت للمتنبي في ديوانه 2/ 263، وتمامه:
إن كان سرَّكُمُ ما قال حاسدُنا
…
فما لِجُرْحٍ إذا أرضاكمُ ألَمُ
(8)
ما بين قوسين زيادة لم ترد في ب، ط.
وقال آخر:
عَذابُهُ فيكَ عَذْبُ
…
وبُعْدُهُ فيك قُرْبُ
وَأَنْتَ عندِي كَرُوحِي
…
بَلْ أَنْتَ مِنها أَحَبُّ
حَسْبي مِنَ الحُبِّ أَنِّي
…
لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ
الوجه الثاني: أن الصِّيامَ سِرٌّ بينَ العبدِ وربِّه لا يَطَّلِعُ عليه غيرُه؛ لأنَّه مُركَّبٌ من نِيَّةٍ باطنةٍ لا يطبعُ عليها إلَّا الله، وتركٍ لتناولِ الشهواتِ التي يُستخفَى بتناولِها في العادة، ولذلك قيل: لا تكتبه الحَفَظَةُ. وقيل: إنَّه ليس فيه رياءٌ، كذا قاله الإمامُ أحمدُ وغيرُه؛ وفيه حديث مرفوعٌ مرسَلٌ. وهذا الوجهُ اختيارُ أبي عبيدٍ
(1)
وغيرِه. وقد يَرجعُ إلى الأول؛ فإنَّ مَنْ تَرَكَ ما تَدعُوه نفسُه إليه للهِ عز وجل حيثُ لا يطلِعُ عليه غيرُ مَنْ أَمَرَهُ وَنَهَاهُ، دلَّ على صحَّةِ إيمانِه. والله تعالَى يُحِبُّ مِن عبادِهِ أنْ يعَامِلُوه سرًّا بينَهم وبينَه، وأهلُ محبَّتِه يُحبُّون أنْ يُعامِلُوه سرًّا بينَهم وبينَه، بحيثُ لا يطَّلِعُ على معاملتِهم إيَّاه سواهُ، حتى كان بعضُهم يَوَدُّ لو تمكَّنَ مِن عبادةٍ لا تشعُرُ بها الملائكةُ الحَفَظَةُ. وقال بعضهم لمَّا اُطُّلِعَ على بعضِ سرائرِهِ: إنما كانت تَطيبُ الحياةُ لمَّا كانَتِ المعامَلَةُ بيني وبينَه سِرًّا، ثم دَعَا لنفسِهِ بالموت فماتَ. المحبُّون يَغارُون مِن اطلاعِ الأغيارِ
(2)
على الأسرارِ التي بينَهم وبينَ مَنْ يحبُّهم ويحبُّونه.
نَسِيمَ صَبَا نَجْدٍ متَى جِئْتَ حامِلًا
…
تحيَّتَهُم فاطْوِ الحَدِيثَ عَنِ الرَّكْب
وَلا تُذِعِ السِّرَّ المَصُونَ فإنَّني
…
أَغَارُ عَلَى ذِكْرِ الأحبَّةِ مِنْ صَحْبِي
(3)
وقوله "تَرَكَ شهوتَه وطعامَهُ وشَرَابَه مِن أجلي" فيه إشارةٌ إلى المعنَى الذي ذكرناه، وأنَّ الصائمَ تقرَّبَ إلى الله بتركِ ما تشتهيه نفسُهُ مِن الطعام والشراب والنِّكاحِ، وهذه أعظمُ شهواتِ النفسِ. وفي التقرُّب بتركِ هذه الشهواتِ بالصيامِ فوائد:
منها: وكسرُ النفْس؛ فإنَّ الشِّبَعَ والرِّيَّ ومباشَرَةَ النِّساءِ تحمِلُ النفسَ على الأشَرِ
(4)
وَالبَطَرِ والغَفْلَةِ.
(1)
في آ، ع:"أبي عبيدة".
(2)
الأغيار: جمع غَيْر.
(3)
في ب، ط:"من صحب".
(4)
الأشر: البطر.
ومنها: تَخلِّي القلب للفكرِ والذِّكْرِ؛ فإنَّ تناولَ هذه الشهوات قد تُقسِّي القَلْبَ وتُعمِيهِ، وتَحُولُ بينَ العبدَ وبينَ الذِّكْرِ والفِكْرِ، وتستدعِي الغَفْلَةَ. وخُلوُّ الباطِنِ مِن الطعامِ والشرابِ يُنوَّرُ القلبَ ويُوجبُ رِقَّتَه ويُزيلُ قَسْوَتَه ويُخليه للذكرِ والفكرِ.
ومنها: أنَّ الغنِيَّ يَعرفُ قَدْرَ نعمةِ اللهِ عليه بإقْدارِهِ له على ما منعه كثيرًا من الفقراءِ من فُضُولِ الطَّعام والشراب والنِّكاحِ؛ فإنَّه بامتناعِهِ من ذلك في وقتٍ مخصوص وحصُولِ المشقَّةِ له بذلَك، يتذكَّرُ بهِ مَنْ مُنِعَ ذلك
(1)
على الإطلاق، فيوجبُ له ذلك شُكرَ نِعمةِ اللهِ عليه بالغِنَى، وَيدعُوه إلى رحمةِ أخيه المحتاج ومُواساتِه بما يُمكن مِن ذلك.
ومنها: أنَّ الصِّيامَ يُضيِّقُ مَجارِيَ الدَّم التي هي مَجاري الشيطانِ مِن ابن آدمَ؛ فإنَّ الشيطانَ يَجري من ابن آدمَ مجرَى الدَّم، فتسكنُ بالصِّيامِ وَسَاوسُ الشَّيطانِ، وتنكسِرُ سَوْرَةُ
(2)
الشهوةِ والغَضَبِ، ولهذا جَعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّوْمَ وِجَاءً
(3)
؛ لقطْعِهِ عن شهوةِ النِّكاحِ.
واعْلَمْ أنَّه لا يَتِمُّ التقرُّبُ إلى الله تعالى بترْكِ هذه الشهواتِ المباحةِ في غيرِ حالةِ الصِّيام إلا بعدَ التقرُّب إليه بتركِ ما حرَّمه
(4)
الله في كُلِّ حالٍ؛ مِن الكذب والظلمِ والعدوانِ على الناس في دمائهم وأموالِهم وأعراضِهم، ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم. "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ للهِ حاجةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرَابَهُ". خرَّجَه البخاريُّ
(5)
. وفي حديث آخرَ: "ليسَ الصِّيامُ مِنَ الطَّعامِ والشرابِ، إنَّما الصِّيام من
(1)
في ب، ع، ط:"منِ منع من ذلك".
(2)
في آ: "ثورة". وثورة الغضب: وُثُوبه.
(3)
وَجَأ الفحلَ وجاءً: دقَّ عروق خُصيتيْه بين حجرين ولم يُخْرجهما، أو رضَّهما حتى تنفضخا، فيكون شبيهًا بالخِصاء. وأراد بالحديث: أن الصوم يقطع النِّكاح كما يقطعه الوِجاء، أو أنه يقطع شهوِة الجماع. وقد أخرجه البخاري 4/ 119 (1905) في الصوم: باب الصوم لمن خَاف على نفسه العُزَبَة، وفي النكاح: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع منكم الباءة فليتزوج، وباب من لم يستطع الباءة فليصم. ورواه مسلم رقم (1400) في النكاح: باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤونة، واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم.
(4)
في ب، ع، ط:"ما حرم الله".
(5)
أخرجه البخاري 4/ 116، 117 (1903) في الصوم: باب من لم يدع قول الزُّور والعمل به في الصوم، وفي الأدب: باب قول الله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} . وأخرجه أبو داود رقم (2362) في الصوم: باب الغيبة للصائم؛ والترمذي رقم (707) في الصوم: باب ما جاء في التشديد في الغيبة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
اللغو والرَّفث". قال الحافظ أبو موسى المديني: هو على شرط مسلم.
قال بعضُ السَّلف: أهون الصِّيام تركُ الشراب والطعام. وقال جابر: إذا صُمْتَ فلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ ولسانُك عن الكذب والمحارم، وَدَعْ أَذَى الجار، وليكُنْ عليك وقارٌ وسكينةٌ يومَ صومِكَ، ولا تجعَلْ يومَ صومِك ويومَ فِطْرِك سواءً.
إذا لم يكن في السَّمع منِّي تصاونٌ
…
وفي بَصَري غضٌّ وفي منطِقي صَمْتُ
فحظِّي إذًا مِنْ صَوْمِيَ الجُوعُ والظَّما
…
فإنْ قلْتُ إنِّي صُمْتُ يومي فما صُمْتُ
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ربَّ صائمٍ حظُّه مِن صيامِهِ الجوع والعطشُ، ورُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامِهِ السَّهَرُ"
(1)
. وسِرُّ هذا أنَّ التقرُّب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلَّا بعد التقرب إليه بترك المحرَّمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرَّب بترك المباحات، كان بمثابة من يتركُ الفرائض ويتقرَّبُ بالنوافل، وإن كان صومُه مجزئًا عندَ الجمهور بحيث لا يؤمَرُ بإعادته؛ لأن العملَ إنَّما يبطُلُ بارتكاب ما نُهِي عنه فيه لخصوصه، دون ارتكاب ما نُهي عنه لغير معنىً يختَصُّ به. هذا هو أصلُ جمهور العلماءِ.
وفي مسند الإمام أحمد
(2)
: إنَّ امْرَأتين صامتا في عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فكادتا أَنْ تموتا من العَطَش، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض، ثم ذُكِرتا له فَدَعَاهُما فأمَرَهُما أن يتقيَّآ، فقاءَتا مِلْءَ قَدَحٍ قَيْحًا ودمًا وصَديدًا ولحمًا عَبيطًا
(3)
. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هاتين صامتا عمَّا أحَلَّ الله لهما، وأفطرتا على ما حرَّم الله عليهما؛ جلسَتْ إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا يأكُلانِ لُحومَ النَّاسِ".
ولهذا المعنى - والله أعلم - ورد في القرآن بعدَ ذِكْر تحريم الطعام والشَّراب على الصَّائم بالنَّهار ذِكْرُ تحريم أكل أموالِ الناس بالباطل
(4)
؛ فإنَّ تحريم هذا عامٌّ في كُلِّ
(1)
رواه الإمام أحمد في "مسنده" 2/ 373، وابن ماجه رقم (1690) في الصيام: باب ما جاء في الغيبة والرفث للصائم، عن أبي هريرة، وإسناده ضعيف، لضعف أسامة بن زيد العدوي.
(2)
مسند أحمد 5/ 431.
(3)
اللحم العبيط: الطَّري غير النَّضيج. وفي هامش نسخة (ب) ما نصه: قال الطبري: الدم العبيط: الذي لا يخالطه شيء.
(4)
راجع الآيات 183 - 188 من سورة البقرة.
زمانٍ ومكانٍ، بخلاف الطعام والشراب، فكان إشارةً إلى أن مَنِ امتثَلَ أمْرَ الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه، فليمتثل أمره في اجتناب أكلِ الأموال بالباطل؛ فإنَّه محرَّم بكلِّ حالٍ لا يباح في وقتٍ مِن الأوقات.
وقوله صلى الله عليه وسلم "وللصَّائم فَرْحَتان: فرحة عند فِطْره، وفَرْحة عند لقاء رَبِّه": أما فَرْحَةُ الصَّائم عند فطرِهِ فإن النفوس مجبُولةٌ على الميل إلى ما يلائمها من مطعَم ومشربٍ ومنكحٍ، فإذا مُنِعَت من ذلك في وقتٍ من الأوقات، ثم أُبِيحَ لها في وقتٍ آخر، فرِحَتْ بإباحة ما مُنِعت منه، خصوصًا عند اشتداد الحاجة إليه؛ فإنَّ النفوسَ تفرحُ بذلك طبْعًا، فإن كان ذلك محبوبًا لله كان محبوبًا شَرْعًا. والصَّائمُ عند فطره كذلك، فكما أن الله تعالى حرَّمَ على الصَّائم في نهارِ الصِّيام تناوُلَ هذه الشهواتِ، فقد أذِنَ له فيها في ليل الصِّيام، بل أحَبَّ منه المبادَرَةَ إِلى تناولها في أوَّلِ الليل وآخِرِه، فأحَبُّ عِبادِهِ إليه أعجلُهم فِطرًا، والله وملائكتُه يُصلُّون على المتسحِّرين.
فالصَّائم تَرَكَ شهواتِهِ لله بالنَّهار تقرُّبًا إليه وطاعةً له؛ وبادرَ إليها في اللَّيل تقرُّبًا إلى الله وطاعةً له، فما تَرَكَها إلَّا بأمرِ رَبِّهِ، ولا عادَ إليها إلَّا بأمر رَبِّه؛ فهو مُطيعٌ له في الحالين. ولهذا نُهِيَ عن الوِصَال في الصِّيام، فإذا بادر الصَّائم إلى الفطر تقرُّبًا إِلى مولاه، وأكَلَ وشرِبَ وحمِدَ الله؛ فإنَّه يُرجى له المغفرةُ أو بلوغُ الرِّضوان بذلك.
وفي الحديث: لا إنَّ الله لَيَرْضَى عَنْ عَبْدِه أن
(1)
يأكُلَ الأَكْلَةَ فيحمَده عليها، ويشرَبَ الشَّرْبَةَ فيحمَدَه عليها"
(2)
. وربَّما استجيبَ دُعاؤه عند ذلك، كما جاء
(3)
في الحديث المرفوع الذي خرَّجه ابنُ ماجه
(4)
: "إنَّ للصَّائم عند فِطْره دعوةً ما تُردُّ". وإن نوى بأكلِه وشربِه تقويةَ بدنه على القيام والصِّيام، كان مُثابًا على ذلك. كما أنه إِذا نَوَى بنومه في الليل والنَّهار التقوِّي على العمَل، كان نومُه عِبادةً.
(1)
لفظ "أن" سقط من آ، ش، ع.
(2)
أخرجه مسلم رقم (2734) في الذكر والدعاء: باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب؛ والترمذي رقم (1817) في الأطعمة: باب ما جاء في الحمد إذا فرغ من الطعام.
(3)
لفظ "جاء" زيادة من ب، ط.
(4)
رقم (1753) في الصيام: باب الصائم لا ترد دعوته؛ وإسناده صحيح.
وفي حديثٍ مرفوعٍ: "نومُ الصَّائم عبادةٌ"
(1)
. قالت حفصةُ بنتُ سِيرينَ: قال أبو العالية: "الصَّائم في عبادَةٍ ما لم يغتَبْ أحدًا وإن كان نائمًا على فراشه"
(2)
. قال: وكانت حفصة تقول: "يا حبَّذا عبادةٌ وأنا نائمة على فراشي". خرَّجه عبدُ الرزاق.
فالصَّائم في ليله ونهاره في عبادَةٍ، ويُستجابُ دعاؤه في صيامه وعند فطره. فهو في نهاره صائمٌ صابرٌ؛ وفي ليله طاعمٌ شاكرٌ.
وفي الحديث الذي خرَّجه الترمذي
(3)
وغيرُهُ: "الطَّاعِمُ الشَّاكرُ بمنزلة الصَّائم الصَّابر".
ومَن فهِمَ هذا الذي أشرنا إليه لم يتوقَّفْ في معنَى فَرَحِ الصَّائم عندَ فِطْره؛ فإنَّ فِطْرَهُ على الوجه المشار إليه مِن فضلِ الله ورحمتِه، فيدخُل في قول الله تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
(4)
. ولكنْ شرطُ ذلك أن يكونَ فِطرُه على حلالٍ، فإن كان فطرُهُ على حرام كان ممَّن صام عمَّا أحلَّ الله، وأفطَرَ على ما حرَّمَ اللهُ، ولم يُستجَبْ له دعاءٌ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يُطيلُ
(1)
أورده السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (9293) وعزاه إلى البيهقي في "شعب الإيمان" عن عبد الله بن أبي أوفى، ورمز له بالضعف. وذكره القاري في "الأسرار المرفوعة" ص 374: وقال: "رواه البيهقي بسند ضعيف عن عبد الله بن أبي أوفى "، وكذا الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" 6/ 17 رقم (5984). وفي الحلية 5/ 83 عن عبد الله بن مسعود. وتمامه:"نوم الصائم عبادة، وصمته تسبح، وعمله مضاعف، ودعاؤه مستجاب، وذنبه مغفور".
(2)
أورد السيوطي في "الجامع الصغير" حديثين رقم (5125) و (5126) وعزاهما إلى الديلمي في "مسند الفردوس"، وهما برقم (3824) و (3825)، ورمز لهما بالضعف. الحديث الأول عن أنس بن مالك:"الصائم في عبادة وإن كان نائمًا على فراشه"، رمز له المناوي في "فيض القدير" رقم (5125) بالضعف، وقال:"فيه محمد بن أحمد بن سهيل، قال الذهبي في الضعفاء، قال ابن عدي: ممن يضع الحديث". والحديث الثاني عن أبي هريرة: "الصائم في عبادة ما لم يغتب مسلمًا أو يؤذه". ورمز له المناوي (5126) أيضًا بالضعف، قال:"وفيه عبد الرحيم بن هارون، قال الذهبي في الضعفاء: قال الدارقطني: يكذب. وفيه الحسن بن منصور، قال ابن الجوزي في العلل: غير معروف الحال، وقال ابن عدي: حديث منكر. وأوردهما الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" 3/ 278 و 279.
(3)
أخرجه الترمذي رقم (2488) في صفة القيامة: باب الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر، وحسنه. وأخرجه ابن ماجه رقم (1769) في الصيام: باب فيمن قال: الطاعم الشاكر كالصائم الصابر. ورواه أحمد في "المسند" 2/ 283 و 289 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
سورة يونس الآية 58.
السَّفَرَ "يَمُدُّ يدَيْه إلى السَّماء: يا ربِّ! يا ربِّ! ومَطعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلك"
(1)
.
وأمَّا فرحُهُ عند لقاءِ رَبِّه، فيما يجده عند الله من ثواب الصِّيام مُدَّخرًا، فيجدُه أحوجَ ما كان إليه، كما قال الله تعالى:{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}
(2)
. وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا}
(3)
. وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}
(4)
.
وقد تقدَّم قولُ ابن عيينة أن ثوابَ الصائم
(5)
لا يأخذه الغُرماء في المظالم بل يَدَّخِرُهُ الله عندَه للصَّائم حتى يُدخِلَهُ به الجنَّةَ. وفي "المسند"
(6)
عن عقبةَ بن عامرٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ليس من عملِ يومٍ إلَّا يُختم عليه".
وعن عيسى عليه السلام، قال: إنَّ هذا الليلَ والنَّهار خزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما. فالأيام خزائنُ للناس ممتلئةٌ بما خزنُوه فيها من خيرٍ وشَرٍّ. وفي يوم القيامة تفتح هذه الخزائن لأهلها؛ فالمتقون يجدون في خزائنهم العِزَّ والكرامة، والمذنبون يجدون في خزائنهم الحسرةَ والنَّدامة. الصائمون على طبقتين:
إحداهما: مَن تركَ طعامَهُ وشرابَهُ وشهوتَه لله تعالى، يرجو عندَه عوضَ ذلك في الجنة، فهذا قد تاجَرَ مَعَ اللّه وعامَلَهُ، واللهُ تعالى لا يُضيع أَجْرَ من أحسَنَ عملًا
(7)
، ولا يخيبُ معه مَن عامله، بل يربح عليه أعظمَ الرِّبْح. وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لرجُلٍ:
(1)
أخرجه مسلم رقم (1015) في الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، والترمذي رقم (2992) في التفسير: باب ومن سورة البقرة. وقوله: "يطيل السفر"، قال النووي في شرح مسلم:"معناه - والله أعلم - أنه يطيل السفر في وجوه الطاعات، كحج وزيارة مستحبة وصلة رحم وغير ذلك".
(2)
سورة المزمل الآية. 20.
(3)
سورة آل عمران الآية 30.
(4)
سورة الزلزلة الآية 7.
(5)
في ب، ط:"الصيام".
(6)
4/ 146. ورواه أيضًا الطبراني في الكبير 17/ 284 والحاكم في "المستدرك" 4/ 309 على شرط الشيخين. وذكره الهيثمي في ""مجمع الزوائد" 5/ 303 وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه ابن لهيعة وفيه كلام". وتمامه:"فإذا مرض المؤمن، قالت الملائكة: يا ربنا! عبدك فلان قد حبسته، فيقول الرب: اختموا له على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت". والمراد بالحبس: المنع من عمل الطاعة بالمرض.
(7)
في قوله تعالى من سورة الكهف الآية 30 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} .
"إنك لن تدعَ شيئًا اتِّقاءَ الله إلَّا آتاك الله خيرًا منه". خرَّجَه الإمام أحمد
(1)
. فهذا الصَّائمُ يُعطَى في الجنة ما شاء الله من طعامٍ وشرابٍ ونساءٍ قال الله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}
(2)
. قال مجاهد وغيرُه: نزلَتْ في الصائمين.
قال يعقوب بن يوسُفَ الحنفي: بلغنا أن الله تعالى يقول لأوليائه يومَ القيامة: يا أوليائي، طالما نظرْتُ إليكم في الدُّنيا وقد قلَصَتْ شفاهُكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وخفقت
(3)
بطونُكم؛ كونوا اليومَ في نعيمكم، وتعاطَوا الكأسَ فيما بينكم، و {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}. وقال الحسن: تقولُ الحوراءُ لولي الله وهو متكئ معها على نهر العَسَلِ تُعاطيه الكأسَ: إنَّ الله نظر إليكَ في يومٍ صائفٍ بعيدِ ما بين الطرفين، وأنت في ظمأ هاجرةٍ من جهد العطشِ، فباهَى بك الملائكةَ، وقال: انظروا إلى عبدي تَرك زوجته وشهوتَه ولذَّتَهُ وطعامَهُ وشرابَهُ من أجلي، رغبةً فيما عندي، اشْهَدُوا أنِّي قد غفرتُ لَهُ؛ فغفر لك يومئذٍ وزوجنِيكَ.
وفي "الصحيحين"
(4)
عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ في الجنَّة بابًا يقال له: الرَّيَّانُ، يدخُلُ منه الصَّائمون، لا يدخُلُ منه غيْرُهُم". وفي رواية: "فإذا دَخَلُوا أُغْلِقَ". وفي رواية: "مَنْ دَخلَ منه شَربَ، ومن شرِب لم يَظْمَأ أبدًا". وفي حديث عبد الرحمن بن سَمُرَة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في منامه الطويل، قال: "ورأيتُ رجلًا من أمَّتي يَلْهَثُ عَطَشًا، كلَّما ورد حَوْضًا مُنِعَ منه
(5)
، فجاءهُ صِيامُ رَمَضَانَ، فسقاه وأرواه". خرَّجه الطبراني
(6)
وغيرُه. وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ فيه ضعف، عن أنس مرفوعًا: "الصَّائمون يُنفَخُ
(1)
مسند أحمد 5/ 79.
(2)
سورة الحاقة الآية 24.
(3)
في ط: "وجفت".
(4)
أخرجه البخاري رقم (1896) في الصوم: باب الرَّيان للصائمين، وفي بدء الخلق رقم (3257): باب صفة أبواب الجنة. ومسلم رقم (1152) في الصيام: باب فضل الصيام. والترمذي رقم (765) في الصوم: باب ما جاء في فضل الصوم. والنسائي 4/ 168 في الصوم: باب فضل الصيام.
(5)
لفظ "منه" لم يرد في آ، ش، ع.
(6)
قطعة من حديث طويل ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 179، وقال:"رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي، وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن المخزومي، وكلاهما ضعيف". وانظر "إتحاف السادة المتقين" 8/ 119.
من أفواههم ريحُ المِسْكِ، ويوضَعُ لهم مائدةٌ تحت العرش؛ يأكلون منها والناسُ في الحساب".
(1)
.
وعن أنس موقوفًا
(2)
: "إن لله مائدةً لم تَرَ مثلَها عينٌ، ولم تسمَعْ أذُنٌ، ولا خَطَرَ على قلب بشرٍ، لا يقعدُ عليها إلَّا الصَّائمون".
وعن بعض السلف، قال: بلغنا أنه يوضَعُ للصُّوَّام مائدةٌ يأكلون عليها والناسُ في الحساب، فيقولون: يارَبٌ! نحنُ نُحَاسَبُ وهم يأكلون؟! فيقال: إنَّهم طالما صامُوا وأفطرْتُم، وقاموا ونمتم. رأى بعضُهم بشرَ بنَ الحارث
(3)
في المنام وبين يديه مائدةٌ وهو يأكل، ويقال له: كُلْ يا مَن لم يأكُلْ، واشْرَبْ يا من لم يشرَبْ. كان بعضُ الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطع صوتُه فمات، فرئي
(4)
بعضُ أصحابه الصالحين في المنام فسئل عن حالِهِ، فضحك وأنشد:
قد كُسِي حُلَّةَ البهاءِ وطافَتْ
…
بأباريقَ حولَهُ الخُدَّامُ
ثم حُلِّي وقِيلَ يا قارئ ارْقا
…
فلَعَمْري لقد براك الصِّيامُ
اجتاز بعضُ العارِفين
(5)
بمنادٍ ينادي على السَّحور في رمضانَ: ياما خبأنا للصُّوَّام
(6)
! فتنبَّه بهذه الكلمة، وأكثَرَ من الصِّيام. رأى بعضُ العارفين في منامه كأنه أُدخِل الجنَّة، فسمع قائلًا يقول له: هل تذكر أنَّكَ صُمْتَ لله يومًا قطٌ؟ فقال: نعم! قال: فأخذتني صواني النِّثار
(7)
من الجنة. من ترك لله في الدنيا طعامًا وشرابًا وشهوةً مُدَّةً يسيرةً عوَّضَهُ اللهُ عندَهُ طعامًا وشرابًا لا ينفَدُ، وأزواجًا لا يَمُتْنَ أبدًا. شهرُ رمضان فيه يُزوَّجُ الصائمون. في الحديث
(8)
: "إنَّ الجنَّة لَتُزَخْرَفُ وتُنَجَّدُ من الحَوْلِ إلى
(1)
الدر المنثور 1/ 182 نقلًا عن كتاب الجوع، لابن أبي الدنيا.
(2)
في ع: "مرفوعًا".
(3)
ويقال له بشر الحافي، ويكنى أبا نصر. من كبار الصالحين، له في الزهد والورع أخبار، وهو من ثقات رجال الحديث، من مرو، سكن بغداد، وتوفي فيها سنة 227 هـ. والخبر بنحوه في "صفة الصفوة" 2/ 235.
(4)
في ب، ط: "فرآه
…
فسأله".
(5)
في ب، ط:"الصالحين".
(6)
في آ، ش، ع:"للصائمين".
(7)
النِّثار: ما نثر في حفلات السرور من حلوى وغيرها، ويقال: ما أصبت من النِّثار شيئًا.
(8)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 142 عن ابن عمر، مختصرًا، وقال:"رواه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار، وفيه الوليد بن الوليد القلانسي، وثقه أبو حاتم وضعفه جماعة".
الحَوْلِ لدخُولِ رمَضَان، فتقولُ الحورُ: يا ربّ، اجْعَلْ لنا في هذا الشهر من عبادك أزواجًا تَقَرُّ أعيُننا بهم، وتَقَرُّ أعينُهم بنا". وفي حديثٍ آخَرَ: "إنَّ الحُورَ تُنَادِي
(1)
في شهر رَمَضَانَ: هل من خَاطبٍ إلى اللهِ فيزوِّجَهُ
(2)
؟.
مهورُ الحورِ العين
(3)
طولُ التهجُّد، وهو حاصلٌ في شهر رمضانَ أكثَرَ من غيره.
كان بعضُ الصالحين كثيرَ التهجُّد والصِّيام، فصَلَّى ليلةً في المسجد ودعا، فغلبته عيناهُ، فرأَى في منامه جماعةً عَلِمَ أنَّهم لَيْسُوَا من الآدميين، بأيديهم أطباقُ عليها أرغفةٌ ببياض
(4)
الثلج، فوق كُلِّ رغيفٍ درٌّ كأمثال
(5)
الرُّمَّان، فقالوا: كُلْ، فقال: إنِّي أريدُ الصَّومَ. قالوا له: يأمُرُكَ صاحِبُ هذا البيت أن تأكلَ، قال: فأكلْتُ، وجعلْتُ آخذ ذلك الدُّرَّ لاحتملَهُ. فقالوا له: دعْهُ نَغرسه لك شجرًا يُنبتُ لك خيرًا من هذا. قال: أين؟ قالوا: في: دارٍ لا تخرَبُ، وثمرٍ لا يتغيَّر، ومُلكٍ لا ينقطِع، وثياب لا تبلَى. فيها رضوى، وعينا، وقرَّةُ أعينٍ، أزواجٌ رضياتٌ مَرضياتٌ راضياتٌ، لا يَغِرْنَ ولا يُغَرْن؛ فعليك بالانكماش فيما أنت، فإنما هي غَفْوَةً حتى ترتحلَ فتنزلَ
(6)
الدارَ. فما مكث بعدَ هذه الرؤيا إلَّا جمعتين حتَّى توفي، فرآه ليلة وفاتِه في المنام بعضُ أصحابه الذين حدَّثَهُم برؤياه وهو يقول: ألا تعجب من شجرٍ غُرسَ لي في يوم حدثتك وقد حَمَلَ!؟ فقال له: ما حَمَل؟ قال: لا تسأل، لا يقدر أحدٌ على صفته. لَم يُرَ مثلُ الكريم إذا حَلَّ به مطيع.
يا قوم! ألا خاطبٌ في هذا الشهر إلى الرحمان؟ ألا راغبٌ فيما أعَدَّهُ الله للطائعين في الجنان؟ ألا طالبٌ لما أخبر به من النَّعيم المقيم، مع أنَّه ليس الخبرُ كالعِيان؟
مَنْ يُردْ مُلْكَ الجِنانِ
…
فلْيَدَعْ عنه التَّواني
ولْيَقمْ في ظلمةِ الليلِ
…
إلى نورِ القُرَانِ
ولْيَصِلْ صَومًا بصومٍ
…
إن هذا العيشَ فاني
(1)
في ب، ط:"ينادي".
(2)
في ب، ط:"فتزوَّجَه".
(3)
لفظ "العين" لم يرد في آ، ش، ع.
(4)
في ع: "كبياض".
(5)
في آ، ش، ع:"أمثال".
(6)
في آ: "فتتركَ الدار".
إنما العيشُ جوارُ الله
…
في دارِ الأمانِ
الطبقة الثانية من الصائمين: مَن يصومُ في الدنيا عمَّا سِوى الله، فيحفظ الرأس وما حَوَى، ويحفظ البطنَ وما وَعَى، ويذكر الموتَ والبِلَى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا. فهذا عيدُ فطره يومَ لقاء رَبِّه وفرحه برؤيته.
أهلُ الخُصوصِ من الصُّوَّامِ صَومُهُمُ
…
صونُ اللسانِ عن البُهتان والكَذِب
والعارفون وأهلُ الأنسِ صومُهُمُ
…
صَوْنُ القلوبِ عن الأغيارِ والحُجُبَ
العارفون لا يسلِّيهم عن رؤية مولاهم قَصْرٌ، ولا يُروِّيهم دونَ مشاهدته نَهْرٌ؛ هِمَمُهُم أجلٌ من ذلك.
كبُرَتْ همَّةُ عبدٍ
…
طَمِعَتْ في أن تراكَ
مَنْ يَصُمْ عن مُفطراتٍ
…
فصيامي عن
(1)
سِواك
مَنْ صام عن شهواته في الدنيا، أدركَها غدًا في الجنَّة. ومَن صام عمَّا سِوى الله، فعيدُه يوم لقائه، {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ}
(2)
.
وقد صُمْتُ عن لذَّاتِ دَهْرِي كلِّها
…
ويومَ لقاكم ذاكَ فِطْرُ صِيامي
رُؤي بِشرٌ
(3)
في المنام، فسئل عن حاله، فقال: عَلِمَ قلَّة رَغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه. وقيل لبعضهم: أين نطلبُكَ في الآخرة؟ قال: في زمرة النَّاظرين إلى الله، قيل له: كيف علِمْتَ ذلك؟ قال: بِغضِّي
(4)
طرفي له عن كُلِّ محرَّمٍ، وباجْتنابي فيه كُلَّ منكرٍ ومأثمٍ؛ وقد سألته أن يجعلَ جنَّتي النَّظر إليه.
يا حبيبَ القُلوب مَنْ لي سِواكا
(5)
…
أرْحَمِ اليومَ مُذْنبًا قد أتاكا
ليس لي في الجَنان مولايَ رأسٌ
(6)
…
غيرَ أنِّي أريدُها لأراكا
(1)
في ب، ط:"عمَّن سواك".
(2)
سورة العنكبوت الآية 5.
(3)
هو بشر الحافي، وقد سبقت ترجمته.
(4)
في ب، ط:"بغض طرفي".
(5)
في ط: "ما لي سواكا".
(6)
في آ: "ليس لي في الجنان كل مرام"، وفي ش:"ليس لي في الجنان رأي ولكن"، وفي ع:"ليس لي في الجنان أحسن رأي"، وأثبت ما جاء في ب، ط.
يا معشر التائبين! صُوموا اليومَ عن شهواتِ الهوى؛ لتُدْرِكوا عِيْدَ الفطر يوم اللِّقاءِ، لا يَطُولَن عليكم الأمد
(1)
باستبطاء الأجل؛ فإن معظم نهارِ الصِّيامِ قد ذهب، وعيدُ اللقاء قد اقترب.
إنَّ يومًا جامعًا شَمْلِي بهم
…
ذاك عيدي ليس لي عيد سِوَاه
قوله: "ولَخُلُوفُ فمِ الصَّائم أطيبُ عند الله من ريح المِسْكِ"، خُلُوفُ الفم: رائحةُ ما يتصاعَدُ منه من الأبخرة؛ لخلوِّ المعِدَة من الطعامِ بالصِّيام. وهي رائحة مستكرهةٌ في مشام النَّاس في الدُّنيا، لكنَّها طيِّبَةٌ عِندَ الله حيثُ كانت ناشئةً عن طاعته، وابتغاءِ مرضاته. كما أن دَمَ الشهيد يجيء يومَ القيامة يَثْعَبُ
(2)
دمًا، لونُه لونُ الدَّم، وريحُه ريحُ المِسْكِ. وبهذا استدلَّ من كرِه السِّواكَ للصَّائم، أو لم يستحبه من العلماء. وأوَّلُ مَن عَلِمناه استَدَلَّ بذلك عطاءُ بنُ أبي رَباح. ورُوي عن أبي هريرة أنَّه استدَلَّ به، لكن من وَجْهٍ لا يثبت. وفي المسألة خلاف
(3)
مشهور بين العلماء. وإنَّما كَرِهَهُ مَن كرِهَهُ في آخرِ نهارِ الصَّوْم؛ لأنَّه وقتُ خُلُوِّ المعدةِ وتصاعُدِ الأبخرة. وهَلْ يدخُلُ وقتُ الكراهةِ بصلاة العصر، أو بزوال الشمس، أو بفعلِ صلاة الظهر في أوَّل وقتِها، على أقوال ثلاثةٍ، والثالثُ هو المنصوص عن أحمدَ. وفي طيب ريح خُلُوفِ الصَّائم عندَ الله عز وجل معنيان:
أحدُهما: أن الصِّيام لمَّا كان سِرًّا بين العبد وَرَبِّه في الدنيا، أظهرَهُ الله في الآخرة علانيةً للخَلْقِ؛ ليشتهر بذلك أهلُ الصِّيام، ويُعرفون بصيامهم بين الناس جزاءً لإخفائهم صِيَامَهُم في الدُّنيا. وروى أبو الشيخ الأصبهانيُّ بإسنادٍ فيه ضعفٌ، عن أنس مرفوعًا:"يخرُجُ الصَّائمونَ مِن قُبُورهم يُعْرَفون بريحِ أَفْوَاهِهِمْ، أفواهُهُم أَطْيَبُ من ريح المِسْكِ"
(4)
.
(1)
"في ب، ط: "الأمل".
(2)
في ط: "يثغب" بالغين، وهو تحريف. ومعنى يثعب: يجري.
(3)
في آ، ش، ع:"اختلاف".
(4)
بعض حديث في كنز العمال 8/ 23644؛ وعزاه إلى أبي الشيخ في الثواب والديلمي عن أنس. وتمامه: "إذا كان يوم القيامة يخرج الصوَّام من قبورهم يُعْرَفون بريح صيامهم، أفواههم أطيب من ريح المسك، يُلقَّون بالموائد والأباريق مختمة بالمسك، فيقال لهم: كلوا =
قال مكحولٌ: يروحُ أهلُ الجنَّة برائحةٍ، فيقولون: رَبَّنا، ما وجدْنا ريحًا منذُ دخلنا الجنَّة أطيبَ من هذه الريح. فيقال: هذه رائحةُ أفواه الصُّوَّام. وقد تفوح رائحة الصيام في الدنيا وتستنشق
(1)
قبل الآخرة، وهو نوعان:
أحدهما: ما يدركُ بالحواس الظاهِرَةِ. كان عبدُ الله بن غالب من العُبَّاد المجتهدين في الصَّلاة والصِّيام، فلمَّا دُفِنَ كان يفوح من تراب قبره رائحةُ المِسْكِ، فرؤي في المنام، فسُئل عن تلك الرائحة التي توجَدُ من قبره، فقال: تلك رائحةُ التِّلاوةِ والظمإِ
(2)
.
والنوع الثاني: ما تَستنشِقه الأرواحُ والقلوبُ، فيوجِبُ ذلك للصَّائمين المخلصين المودَّةَ والمحبَّةَ في قلوب المؤمنين. وفي حديثِ الحارث الأشْعَريِّ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: "أن زكريَّا عليه السلام قال لبني اسرائيلَ: آمُرُكُم بالصِّيام، فإنَّ مَثَلَ ذلك كَمَثَلِ رَجُلٍ في عصابةٍ، معه صُرَّةٌ فيها مِسْكٌ، فكلُّهم يُعجبه ريحُه، وإنَّ رِيحَ الصائم
(3)
أطيبُ عندَ الله من ريح المسك". خرَّجه الترمذي
(4)
وغيرُه.
= فقد جعتم، واشربوا فقد عطشتم، ذروا الناس يستريحوا فقد عييتم إذا استراح الناس، فيأكلون ويشربون والناس معلقون في الحساب في عناءٍ وظمأ". وجاء بعده الحكاية التالية، وهي ناقصة من الآخر، زيدت في المطبوع نقلًا عن إحدى النسخ ولم ترد في غيرها، كما لم ترد في نسخنا المعتمدة، ولعلها من إضافات الناسخ، وهي: "حكي عن سهل بن عبد الله التُّسْتَري الزاهد رحمه الله: أنه كان يواظب على الصيام، فمرَّ يومًا بتمَّار وبين يديه رطب حسن، فاشتهت نفسه، فردَّ شهوتها، فقالت نفسه: فعلْتَ بي كلَّ بليَّةٍ؟ من سهر الليالي، وظمإِ الهواجر، فأعطني هذه الشهوة، واستعملني في الطاعة كيف شئت. فاشترى سهل من الرطب وخبز الحواري وقليل شوي، ودخل موضعًا ليأكل، فإذا رجلان يختصمان، فقال أحدهما: إني محقٌّ وأنت مبطل، أتريد أن أحلف لك أنِّي محقٌّ وأنَّ الأمر على ما زعمْتُ؟ قال: بلى. فحلف، قال: وحقِّ الصائمين إنِّي محقٌّ في دعواي. فقال: هذا مبعوث الحقِّ تعالى إلى هذا السوط بي، ثم أخذ بلحيته وقال: يا سهل! بلغ من شرفك وشرت صومك حتى يحلفَ العبادُ بصومك، فيقول: وحق الصائمين، ثم تفطرُ أنت على قليل رطب
…
".
(1)
في ش، ع:"فتستنشق".
(2)
انظر الخبر في "صفة الصفوة" 3/ 334.
(3)
في آ، ب، ط:"الصيام".
(4)
قطعة من حديث طويل أخرجه الترمذي رقم (2867) في الأمثال: باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وأخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 130 والحاكم في "المستدرك" وصححه.
لمَّا كان معاملة المخلصين بصيامهم لمولاهم سِرًّا بينه وبينَهُم، أظهَرَ اللهُ سِرَّهم لعباده فصار علانيةً، فصار هذا التجلِّي والإظهار جزاءً لذلك الصَّوْنِ والإِسْرارِ.
في الحديث: "ما أسَرَّ أحَدٌ سَرِيرةً إلَّا أَلْبَسَهُ الله رِداءَها عَلَانيةً"
(1)
.
قال يوسُف بن أَسْبَاطٍ
(2)
: أوحَى الله تعالى إلى نبيٍّ من الأنبياء: قُلْ لقومِك يُخفون لي أعمالهم، وعليّ إظهارُها
(3)
لهم.
تذلُّلُ أربابِ الهوَى في الهوى عِزُّ
…
وفَقْرُهُمُ نَحْوَ الحبيبِ هُوَ الكَنْزُ
وسَتْرُهُمُ فَيه السَّرائرَ شُهرةٌ
…
وغيرُ تلافِ النَّفسِ فيه هُو العَجْزُ
والمعنى الثاني: أن مَن عَبَدَ الله وأطاعَهُ، وطلَبَ رضَاهُ في الدنيا بعَمَل، فنشَأَ مِن عمله آثارٌ مكروهةٌ للنفوس في الدنيا، فإنَّ تلك الآثار غيرُ مكروهةٍ عندَ اللهِ، بل هي محبوبةٌ له وَطَيِّبَةٌ عندَه؛ لكونِها نشأتْ عن طاعته واتباعِ
(4)
مَرضاته. فإخبارُهُ بذلك للعاملين في الدُّنيا فيه تطييبٌ لقلوبهم؛ لئلَّا يكرَه منهم ما وُجِدَ في الدنيا. قال بعضُ السَّلَف: وَعَدَ الله موسى ثلاثين ليلة
(5)
أن يكلِّمه على رأسِها؛ فصام ثلاثين يومًا، ثم وَجَدَ مِن فِيه خُلُوفًا، فَكَرِهَ أن يناجِيَ رَبَّه على تلك الحالِ، فأَخَذَ سِواكًا فاسْتاكَ به، فلمَّا أتَى لموعِدِ اللهِ إيَّاهُ، قال له: يا موسى، أَمَا علمتَ أن خُلُوفَ فمِ الصَّائمِ أطيبُ عندنا مِن ريح المِسْكِ، ارْجِع فصُمْ عَشَرَةً أخرى.
ولهذا المعنى كان دَمُ الشَّهيد ريحُهُ يومَ القيامة كريحِ المِسْكِ، وغُبَارُ المجاهدين في سبيلِ الله
(6)
ذَرِيرةُ أهل الجنَّة.
ورد في ذلك حديثٌ مرسَلٌ. كُلُّ شيءٍ ناقِصٌ في عُرْفِ الناسِ في الدُّنيا؛
(1)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 225 عن جندب بن سفيان، وقال:"رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه حامد بن آدم وهو كذاب". وأورده الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" 5/ 81 وقال: "ضعيف جدًّا". ونص الحديث: "ما أسرَّ عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها: إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر".
(2)
هو من قرية يقال لها شيح، وكان من الزهاد، له مواعظ وحكم، نزل الثغور مرابطًا، مات قبل المائتين بسنة. (صفة الصفوة 4/ 261، سير أعلام النبلاء 9/ 169).
(3)
في آ، ش:"أظهرها لهم".
(4)
في آ: "وابتغاء".
(5)
في آ، ش:"ثلاثين يومًا".
(6)
في آ، ش، ع:"في سبيله". والذَّريرة: نوع من الطيب مجموع من أخلاط.
حتَّى
(1)
إذا انتسَبَ إلى طاعته ورِضَاهُ فهو الكامِلُ في الحقيقة.
خُلُوفُ أفواهِ الصائمين له أطيبُ مِن ريحِ المِسْك. عُرْيُ المحرِمِينَ لزيارة بيتِهِ أجمَلُ مِن لباسِ الحُلَل. نَوْحُ المُذنبينَ على أنفسهم من خشيتِه أفضَلُ من التسبيح. انكسارُ المخبتين
(2)
لعظمتِهِ هو الجبْر. ذُلُّ الخائفين من سطوته هو العِزُّ. تهتُّكُ المحبِّينَ في محبَّته أحسنُ من السَّتْرِ. بَذْلُ النُّفوسِ للقتل في سبيله هو الحياة. جُوعُ الصَّائمين لأجله هو الشِّبْع، عَطَشُهم في طلب مرضاتِهِ هو الرِّيُّ. نَصَبُ المجتهدين
(3)
في خدمته هو الرَّاحة.
ذُلُّ الفَتَى في الحُبِّ مَكْرُمَةٌ
…
وخُضُوعُهُ لحبِيبِهِ شرَفُ
هَبَّت اليومَ على القلوب نفحةٌ بن نَفَحَات نسيم القُرْب. سَعَى سِمْسَارُ المواعظِ للمهجورين في الصلح. وَصَلَت البِشارةُ للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعَفْو، وللمستوجبين النارَ بالعتق.
لمَّا سُلْسِلَ الشَّيْطانُ في شهر رمضانَ، وخمَدَتْ نيرانُ الشَّهواتِ بالصِّيام، انعزَلَ سلطانُ الهَوَى، وصارت الدولةُ لحاكِم العَقْل بالعَدْل؛ فلم يبقَ للعاصي عُذْرٌ. يا غُيومَ الغفلةِ عن القلوب تقشَّعِي. يا شُموسَ التقوَى والإِيمانِ اطلعي. يا صحائفَ أعمال الصَّالحين
(4)
ارتفعي. يا قلوبَ الصَّائمين اخشَعي. يا أقدامَ المجتهدين اسجدي لربِّك واركعِي. يا عيونَ المتهجدين لا تهجعي. يا ذنوبَ التائبين لا ترجِعي. يا أرضَ الهَوَى ابلعِي ماءك. ويا سَماءَ النُّفوسِ أَقْلِعي. يا بروقَ الأَشواق للعشاق المعِي. يا خواطرَ العارفين ارتعي. يا هِمَمَ المحبِّين بغير الله لا تقنعي. يا جُنَيْدُ
(5)
اطْرَبْ. يا شِبْلِيُّ
(6)
(1)
لفظ "حتى" زيادة من (ط).
(2)
الإخباب: الخشوع والتواضع.
(3)
في ش: "المتهجدين".
(4)
في ب، ش:"القائمين"، وفي ط:"الصائمين".
(5)
هو الجُنَيد بن محمد بن الجُنيد البغدادي الخزاز، أبو القاسم، صوفي، من العلماء بالدَّين. عدَّه العلماء شيخ مذهب التصوف؛ لضبط مذهبه بقواعد الكتاب والسنة، مات سنة 297 هـ. (صفة الصفوة 2/ 416، تاريخ بغداد 7/ 241).
(6)
هو أبو بكر الشِّبلي، دلف بن جحدر، ناسك، ولي الحجابة للموفق العباسي، وكان أبوه حاجب الحجاب، ثم ترك الولاية وعكف على العبادة، له شعر جيد، سلك به مسلك المتصوفة، توفي سنة 334 هـ. (صفة الصفوة 2/ 456، تاريخ بغداد 14/ 389).
احْضُرْ. يا رابعَةُ
(1)
اسْمَعِي، قد مُدَّتْ في هذه الأيام موائدُ الإِنعام للصُّوَّام، فما مِنكم إلَّا مَنْ دُعِي. {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ}
(2)
. ويا هِمَمَ المؤمنَين أسرِعي، فطوَبَى لمن أجابَ فأصاب، وويلٌ لمن طُرِدَ عن الباب وما دُعِي.
[سألتكِ يا بانَةَ الأجرعي
…
متى رفع
(3)
الحيُّ من لَعْلَعي
(4)
وهل مَرَّ قلبي مع الظَّاعنين
…
أم خار ضُعفًا فلم يتبعي
رَحَلْنا ووافَقَنا الصَّادقون
…
ولم يتخلَّفْ سِوى مُدَّعِي]
(5)
ليتَ شِعْري إن جئتُهم يقبلُوني
…
أم تُراهُمْ عن بابهم يصرفوني
أم تُراني إِذا وقفْتُ لديهِم
…
يأذنوا بالدُّخول أم يَطرُدُوني
* * *
المجلس الثاني في فضل الجود في رمضان وتلاوة القرآن
في "الصحيحين"
(6)
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: "كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أجوَدَ النَّاسِ، وكان أجوَدَ ما يكونُ في رَمَضَان حين يلقاهُ جِبريلُ فيدارِسُهُ القرآنَ، وكان جِبريلُ يلقاهُ في كُلِّ ليلةٍ من رَمَضَانَ
(7)
فيدارِسُهُ القرآن؛ فلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاهُ جبريلُ أجوَدُ بالخَيْرِ من الرِّيح المُرْسَلَة".
وخرَّجه الإِمام أحمدُ بزيادةٍ في آخره، وهي:"لا يُسألُ عن شيء إلا أعطاه".
الجُودُ هو سَعَةُ العَطَاءِ وكثرتُهُ، والله تعالى يُوصَفُ بالجود.
(1)
هي رابعة العَدَويَّة، أم الخير البصرية، الصالحة الزاهدة، الخاشعة، لها أخبار في العبادة والنسك، وقد سبقت ترجمتها.
(2)
سورة الأحقاف الآية 31.
(3)
في آ: "دفع"، وفي ب:"رجع".
(4)
في ش، ع: "لعلعِ
…
يُتبعِ".
(5)
ما بين قوسين ساقط في (ط).
(6)
أخرجه البخاري 1/ 30 رقم (6) في بدء الوحي، وفي الصوم رقم (1902): باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان، وفي بدء الخلق رقم (3220): باب ذكر الملائكة، وفي المناقب رقم (3554): باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فضائل القرآن رقم (4997): باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومسلم رقم (2308) في الفضائل: باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسل. وأخرجه النسائي 4/ 125 في الصيام: باب الفضل والجود في شهر رمضان. وقد تكررت هنا عبارة "فيدارسه القرآن".
(7)
قوله: "من رمضان" لم يرد في آ، ش، ع.
وفي الترمذي
(1)
من حديث سَعْد بن أبي وَقاص، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله جَوَادٌ يُحِبُّ الجُودَ، كريمٌ يُحبُّ الكَرَمَ".
وفيه أيضًا: من حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن رَبِّه، قال: " [يقول اللهُ تعالى:] يا عبادي! لو أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُم، وحيِّكم وميِّتكم، ورَطْبَكم ويابسَكُم اجتَمَعُوا في صعيدٍ واحدٍ، فسأل كُلُّ إنسان منكم، ما بَلَغَتْ أمنيَّتَهُ، فأَعْطيْتُ كُلَّ سائل
(2)
منكم، ما نَقصَ ذلك مِن مُلْكِي إلَّا كما لو أن أَحَدَكُم مَرَّ بالبحر، فغَمَسَ فيه إبرَةً ثم رفَعَها إِليه؛ ذلك بأنِّي جَوادٌ واجدٌ ماجِدٌ، أفعَلُ ما أريدُ، عَطَائي كلامٌ، وعذابي كلام، إنَّما أمري لشيءٍ إذا أردْتُ أن أقولَ له: كُنْ فيكون"
(3)
.
وفي الأثر المشهور عن فُضَيل بن عياض: إن الله تعالى يقولُ كُلَّ ليلةٍ: أنا الجوادُ ومنِّي الجُودُ، أنا الكريم ومنِّي الكَرَمُ. فالله سبحانه وتعالى أجودُ الأجودين، وجُودُهُ يتضاعَفُ في أوقاتٍ خاصَّةٍ، كشهرِ رمضانَ، وفيه أُنزِل قولُه تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}
(4)
.
وفي الحديث الذي خرّجه الترمذيُّ
(5)
وغيرُه "أنَّه يُنادِي فيه منادٍ: يا باغِيَ الخَيْرِ هَلُمَّ، ويا باغِي الشَّرِّ أَقْصِرْ، ولله عُتَقاءُ من النَّار، وذلك كُلَّ ليلةٍ".
ولمَّا كان الله عز وجل قد جَبَلَ نبيَّه صلى الله عليه وسلم على أكمل الأخلاق وأشرفها، كما في حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّما بُعِثْتُ لأتمِّم مكارِمَ الأخلاق"
(6)
. وذكره
(1)
قطعة من حديث أخرجه الترمذي رقم (2800) في الأدب: باب ما جاء في النظافة. قال الترمذي: هذا حديث غريب، وخالد بن إلياس يضعَّف ولفظه فيه:"سُمع يقول: "إنَّ الله طيِّبٌ يحبُّ الطيِّب، نظيفٌ يحبُّ النظافة، كريم يحبُّ الكَرَم، جوادٌ يحبُّ الجود، فنظِّفوا - أَراه قال: أفنِيتَكُم - ولا تَشَبَّهوا باليهود".
(2)
في آ: "كل إنسان منكم ما بلغت أمنيَّته".
(3)
رواه أحمد في "مسنده" 5/ 154، 177 مع اختلاف يسير، ومسلم رقم (2577) في البر والصلة: باب تحريم الظلم، والترمذي رقم (2497) في صفة القيامة: باب فضل الرفق بالضعيف والوالدين والمملوك، وقال: هذا حديث حسن. وأخرجه ابن ماجه رقم (4257) في الزهد: باب ذكر التوبة. وهو حديث مشهور وأصل من أصول الإسلام. كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه. وقال أحمد بن حنبل: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث.
(4)
سورة البقرة الآية 186.
(5)
أخرجه الترمذي رقم (682) في الصوم: باب ما جاء في فضل شهر رمضان، عن أبي هريرة. وليس في المطبوع لفظة "هلم". وبنحوه من حديث عُتْبَة بن فَرْقَد عند النسائي 4/ 129 و 130 في الصيام: باب فضل شهر رمضان، وهو حديث حسن.
(6)
في آ، ب، وإحدى نسخ المطبوع:"صالح الأخلاق".
مالك في الموطأ
(1)
بلاغًا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناسِ كُلِّهم.
وخرَّجَ ابنُ عدي
(2)
بإسنادٍ فيه ضَعفٌ من حديث أنسٍ مرفوعًا: "ألا أخبِرُكُم بالأَجْوَدِ الأجْوَدِ؟ اللهُ الأجْوَدُ الأجْوَدُ، وأنا أَجْوَدُ بني آدَمَ، وأجودُهم من بعدي رجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فنشَرَ عِلْمَه، يُبْعَثُ يومَ القيامةِ أمَّةً وحدَهُ، ورجلٌ جَادَ بنفسِهِ في سبيل الله". فدَلَّ هذا على أنَّه صلى الله عليه وسلم أجْوَدُ بني آدمَ على الإِطلاق، كما أنه أفضلُهم وأعلَمُهم وأشجعُهم وأكملُهم في جميع الأوصافِ الحميدة.
وكان جودُهُ بجميع أنواعِ الجُودِ، مِن بذْلِ العِلْم والمالِ، وبذْلِ نفسِه لله تعالى في إظهار دينه وهِداية عِبَاده، وإيصال النفع إليهم بكُلِّ طريقٍ؛ من إطعام جائعهم، ووعظ جاهِلِهم، وقضاءِ حوائجهم، وتحمُّلِ أثقالهم.
ولم يزَلْ صلى الله عليه وسلم على هذه الخِصال الحميدة منذ نَشَأ، ولهذا قالت له خديجةُ في أوَّل مبعثِه: واللهِ، لا يُخزيك اللهُ أبدًا، إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتحمِلُ الكَلَّ
(3)
، وتَكِسِبُ المعدومَ، وتُعينُ على نوائبِ الحَقِّ
(4)
.
ثم تزايدَتْ هذه الخصال فيه بَعْدَ البعثةِ وتضاعَفَتْ أضعافًا كثيرةً.
(1)
في ش: "في موطئه مرسلًا بلاغًا". والحديث في الموطأ 2/ 904 في حسن الخلق: باب ما جاء في حسن الخلق، وإسناده منقطع، ولكن للحديث شواهد بمعناه يرتقي بها إلى درجة الحسن، قال الزرقاني: رواه أحمد وقاسم بن أصبغ والحاكم والخرائطي برجال الصحيح، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. وقال ابن عبد البر: هو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره، وللطبراني عن جابر مرفوعًا "إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال". انظر جامع الأصول 4/ 4. ولفظه في "الموطأ": عن مالك بن أنس رحمه الله، بَلَغَه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بُعثت لأتمم حسن الخُلُق".
(2)
الكامل لابن عدي 1/ 350 عن أيوب بن ذكوان، قال: وعامة ما يرويه لا يتابع عليه. وأخرجه أبو يعلى بهذا السند في "مسنده" 5/ 176. وذكره السيوطي في "اللآليء المصنوعة" 1/ 206 - 207 وقال: "قال ابن حبان: منكر باطل، وأيوب منكر الحديث، وكذا نوح [بن ذكوان] ". ثم قال: "رواه أبو يعلى في مسنده، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات". وقد ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/ 13 وقال: "رواه أبو يعلى، وفيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك".
(3)
الكَلُّ: الثِّقل من كل ما يُتَكلَّف، والعِيال. (النهاية 4/ 198).
(4)
من حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه البخاري 1/ 22 - 27 في بدء الوحي، وفي الأنبياء، باب:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} ، وفي تفسير سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ، وفي =
وفي "الصحيحين"
(1)
عن أنس، قال:"كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحسَنَ النَّاسِ، وأَشْجَعَ النَّاسِ، وأجْوَدَ الناس". وفي "صحيح مسلم"
(2)
عنه، قال:"ما سُئِلَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، فجاءَهُ رَجُلٌ فأعطاه غَنَمًا بين جَبَلين، فرجَعَ إلى قَوْمِهِ، فقال: يا قومِ، أسْلِموا؛ فإنَّ محمَّدًا يُعطِي عَطَاءَ مَنْ لا يَخْشَى الفَاقَةَ". وفي رواية له: إن رجلًا سأَلَ النبي صلى الله عليه وسلم غَنَمًا بين جَبَلين، فأعطاه إياهُ، فأتى قومَه، فقال: ياقوم، أسْلِمُوا؛ فإنَّ محمدًا يُعطِي عطاءً ما يخافُ الفَقْرَ.
قال أنس: إن كان الرجل لَيُسْلِمُ ما يريد إلَّا الدنيا، فما يُمسِي
(3)
حتى يكونَ الإِسلامُ أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها. وفيه
(4)
أيضًا: عن صَفْوانَ بن أميَّة، قال: لقد أعطاني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنَّه لمِنْ أبغَضِ النَّاسِ إليَّ، فما بَرِحَ يُعطيني حتَّى إنَّه لأحَبُّ النَّاسِ إليَّ. قال ابنُ شهاب
(5)
: أعطاه يومَ حنينٍ مائةً مِن النعم، ثم مائةً، ثم مائةً. وفي مغازي الواقِدي
(6)
أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطَى صفوانَ بن أميَّة يومئذ واديًا مملوءًا إبلًا ونَعَمًا، فقال صفوان: أشهدُ ما طابَتْ بهذا إلَّا نفسُ نَبيٍّ. وفي "الصحيحين"
(7)
عن جُبَيْر بن مُطْعِمٍ: أن الأعراب عَلِقُوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم مَرْجِعَهُ من حُنينٍ
= التعبير: باب أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة. وأخرجه مسلم رقم (160) في الإيمان: باب بدء الوحي برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والترمذي رقم (3636) في المناقب، باب رقم (13). ومعنى كلام خديجة رضي الله عنها: أنك لا يصيبك مكروه؛ لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل. انظر شرح مسلم للنووي 1/ 202.
(1)
أخرجه البخاري مطولًا رقم (2857) في الجهاد: باب اسم الفرس والحمار، ورقم (2908): باب الحمائل وتعليق السيف بالعتق. ومسلم رقم (2307) في الفضائل: باب شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتقدمه للحرب. ونصه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس وَجْهًا، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس؛ ولقد فَزعَ أهل المدينة ذات ليلةٍ، فانطلق ناس من قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا، وقد سبقهم إلى الصوت
…
" إلى آخر الحديث.
(2)
رقم (2312). في الفضائل: باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا.
(3)
ويروى: "فما يلبَث إِلا يسيرًا حتى يكون".
(4)
أخرجه مسلم رقم (2313) في الفضائل: باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا. ورواه الترمذي رقم (663) في الزكاة: باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم.
(5)
هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أول من دوَّن الحديث، وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء، توفي سنة 124 هـ.
(6)
مغازي الواقدي ج 2 ص 854 - 855.
(7)
أخرجه البخاري رقم (2821) في الجهاد: باب الشجاعة في الحرب، وباب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه رقم (3148). ولم يرد في صحيح مسلم.
يَسألونَه أن يَقْسِم بَينهم، فقال:"لو كان لي عَدَدُ هذه العِضَاهِ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ بينَكم، ثم لا تجِدُوني بَخيلًا، ولا كَذُوبًا، ولا جَبَانًا".
وفيهما
(1)
عن جابرٍ، قال:"ما سُئلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فقال: لا"، وأنه قال لجابرٍ: لو جاءنا مالُ البَحْرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا، وقال بيديه: جميعًا. وخرَّج البخاري
(2)
من حديث سَهْل بن سَعْدٍ: أن شَمْلةً أُهْدِيَتْ للنبيّ صلى الله عليه وسلم فلَبِسَها وهو محتاجٌ إليها، فسأله إيَّاها رَجُلٌ فأعطاهُ، فلامه النَّاسُ، وقالوا: كان مُحتاجًا إليها، وقد عَلِمْتَ أنه لا يَرُدُّ سائلًا، فقال: إنما سألتُها لتكونَ كَفَني، فكانَتْ كفَنَه. وكان جودُه صلى الله عليه وسلم كُلُّهُ لله عز وجل، وفي ابتغاء مرضاته، فإنَّه كان يبذُلُ المالَ: إمَّا لفقير، أو محتاجٍ، أو ينفقه في سبيل الله، أو يتألَّف به على الإسلام من يَقْوَى الإِسلامُ بإسلامه.
وكان يؤثر على نفسه وأهلِه وأولادِهِ، فيعطي عطاءً يعجِزُ عنه الملوكُ مثل كسرى وقيصر، ويعيشُ في نفسه عيشَ الفقراءِ، فيأتي عليه الشهرُ والشهران لا يوقَدُ في بيته نارٌ، وربما رَبَطَ على بطنه الحجَرَ من الجُوع. وكان قد أتاه صلى الله عليه وسلم سبيٌ مرَّةً، فشكت إليه فاطمَةُ ما تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خَادمًا يكفيها مؤونَةَ بيتِها، فأمَرَها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها، وقال:"لا أعطيك وأدَع أهلَ الصُّفَّةِ تُطْوَى بطونُهم من الجوع"
(3)
. وكان جودُه صلى الله عليه وسلم يتضاعَفُ في شهر رمضان على غيره من
(1)
أخرجه البخاري رقم (6034) في الأدب: باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل؛ ومسلم رقم (2311) في الفضائل: باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا.
(2)
أخرجه البخاري 3/ 143 رقم (1277) في الجنائز: باب من استعدَّ الكفن في زمن النبي فلم ينكر عليه و 4/ 318 رقم (2093) في البيوع: باب النسَّاج و 10/ 275 (رقم 5810) في اللباس: باب البرود والحبر والشملة و 10/ 456 (رقم 6036) في الأدب: باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل. ورواه النسائي 8/ 204 وابن ماجه رقم (3555) في اللباس: باب لباس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحمد في "مسنده" 5/ 334.
(3)
أخرجه البخاري 6/ 215 في فرض الخمس: باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمساكين وإيثار النبي صلى الله عليه وسلم أهل الصفة والأرامل و 7/ 71 في فضائل الصحابة: باب مناقب علي بن أبي طالب و 9/ 506 في النفقات: باب عمل المرأة في بيت زوجها، وباب خادم المرأة، و 11/ 119 في الدعوات: باب التكبير والتسبيح عند المنام. ورواه أحمد في "المسند" 1/ 79، 96، 106، 153 مختصرًا ومطولًا.
الشهور، كما أنَّ جُودَ رَبِّه يتضاعَفُ فيه أيضًا، فإِنَّ الله جَبَلَه على ما يُحبُّه مِن الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك من قبل البعثة.
ذكر
(1)
ابنُ إسحاقَ عن وَهْب بن كَيْسان
(2)
، عن عُبَيد بن عُمَير، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجاوِرُ في حِرَاءَ من كُلِّ سنةٍ شهرًا، يُطْعِم مَنْ جاءهُ مِن المساكين، حتى إذا كان الشهرُ الذي أراد اللهُ به ما أراد مِن كرامته، من السَّنةِ التي بعثه الله فيها، وذلك الشهر شهرُ رمضانَ، خَرَجَ إلى حِرَاءَ كما كان يخرج لجوارِه مَعَهُ أهلُهُ، حتَّى إذا كانت اللَّيلةُ التي أكرمَهُ الله تعالى برسالته، ورَحِمَ العِبَادَ بها، جاءَهُ جبريلُ من
(3)
الله عز وجل. ثم كان بعدَ الرسالة جودُه في رمضانَ أضعافَ ما كان قبلَ ذلك؛ فإنه كان يلتقي هو وجبريلُ عليه السلام، وهو أفضَلُ الملائكة وأكرمُهم، ويدارسُه الكتابَ الذي جاء به إليه، وهو أشرفُ الكتُبِ وأفضلُها، وهو يَحُثُّ على الإحسان ومكارم الأخلاق.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكتابُ له خُلُقًا بحيثُ يرضَى لرضاه، ويسخَطُ لسخطِهِ، ويسارع إلى ما حثَّ عليه، ويمتنع ممَّا زجر عنه؛ فلهذا كان يتضاعَفُ جودُه وإفضالُه في هذا الشهر؛ لِقُرْب عهدِه بمخالطةِ جبريلَ عليه السلام، وكثرةِ مدارسته له هذا الكتابَ الكريمَ، الذي يحُثُّ على المكارم والجُود. ولا شكَّ أن المخالطة تؤثِّر وتورِثُ أخلاقًا من المخالط
(4)
. كان بعضُ الشعراء قد امتدح ملِكًا جَوادًا، فأعطاه جائزةً سنيةً، فخرج بها من عنده وفرَّقها كلَّها على الناس، وأنشد
(5)
:
لَمَسْتُ بِكَفِّي كَفَّه أبتَغِي الغنى
…
ولم أَدْرِ أن الجُودَ مِن كَفِّه يُعْدِي
فبلغ ذلك الملكَ فأضعفَ له الجائزة. وقد قال بعضُ الشعراء يمتدح بعضَ
(1)
في ب، ط:"وذكر". وانظر السيرة النبوية لابن هشام 1/ 235 - 236.
(2)
هو وهب بن كيسان القرشي مولاهم، أبو نعيم المدني، المعلّم، ثقة، روى له الجماعة، توفي سنة 127 هـ (التقريب).
(3)
في سيرة ابن هشام: "بأمر الله تعالى".
(4)
في ش، ط:"المخالطة".
(5)
أحد بيتين مشهورين لابن الخياط، مدح بهما المهدي، وهما في الأغاني 18/ 14، وأمالي المرتضى 1/ 522، وبعده:
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى
…
أفَدْتُ وأعداني فأَتْلَفْتُ ما عندي
الأجواد ولا يصلح أن يكون ذلك إلَّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
:
تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حتَّى لَوَ أنَّه
…
ثَنَاها لِقَبْضٍ لم تُجِبْهُ أنامِلُه
ترَاهُ إذا ما جِئْتَهُ متهلِّلًا
…
كأنَّك تعطِيه الذي أنتَ سائِلُه
هُوَ البَحْرُ مِن أيِّ النَّواحِي أتيْتَهُ
…
فَلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ ساحِلُه
ولو لم يكُن في كَفِّه غيرُ رُوحِه
…
لجادَ بها فَلْيَتَّقِ الله سائِلُه
سمعَ الشِّبْلِيُّ قائلًا يقولُ: يا الله! يا جوادُ! فتأوَّه وصَاحَ، وقال: كيفَ يمكنني أن أصفَ الحقِّ بالجودِ ومخلوق يقولُ في شكله، فذكر هذه الأبيات، ثم بكى، وقال: بلى يا جوادُ؛ فإنَّك أوجدْتَ تلك الجوارِحَ، وبسَطْتَ تلك الهمم، فأنتَ الجوادُ كُلَّ الجوادِ؛ فإنهم يُعطونَ عن محدودٍ وعطاؤكَ لا حدَّ له ولا صِفة، فيا جوادًا يعلو كُلَّ جوادٍ، وبه جادَ كُلُّ مَن جاد.
وفي تضاعُفِ جُودِهِ صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصِه فوائدُ كثيرة؛
منها: شرفُ الزمان، ومضاعفَةُ أجرِ العمَلِ فيه. وفي الترمذي
(2)
عن أنس مرفوعًا: "أفضَلُ الصَّدَقَةِ صَدَقَةٌ في رمضان".
ومنها: إعانة الصَّائمين والقائمين والذَّاكرين على طاعاتهم، فيستوجب المعين لهم مثلَ أجرِهم، كما أن مَنْ جهَّزَ غازيًا فقد غَزَا، ومَن خَلَفَهُ في أهله فقد غزا.
وفي حديث زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "مَنْ فَطَّرَ صائمًا فلهُ مِثْلُ أجْرِه،
(1)
الأبيات عدا البيت الثاني في ديوان أبي تمام 3/ 29 من قصيدة في مدح المعتصم بالله. والثاني لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 57. ونسب بعضها لعدد من الشعراء.
(2)
كنز العمال رقم (16249) وعزاه إلى سُليم في "جزئه" عن أنس. قال المناوي في "فيض القدير" 2/ 38: أخرجه البيهقي في الشعب، بل أخرجه الترمذي. وذكره السيوطي في "الجامع الصغير"، وأورده الألباني في كتابه "ضعيف الجامع الصغير" رقم (1117). وفي "الإتحاف" 4/ 111: أخرجه الترمذي والديلمي من حديث أنس، والبيهقي في شعب الإيمان، والخطيب في التاريخ. وسُليم الرازي في "جزئه" من حديثه أيضًا بلفظ:"أفضل الصدقة في رمضان"، وقد تكلم ابن الجوزي في هذا الحديث وعلَّه بأحد رواته: صدقة بن موسى، قال ابن معين: ليس بشيء. وإنَّما خص رمضان بذلك لما فيه من إفاضة الرحمة على عباده أضعاف ما يفيضها في غيره، فكانت الصدقة فيه أعظم قربًا منها في غيرها.
من غيرِ أن يَنْقُصَ مِن أجرِ الصَّائم شيءٌ". خرَّجه الإِمام أحمد
(1)
، والنسائيُّ، والترمذيّ، وابن ماجه. وخرَّجه الطبراني
(2)
من حديث عائشةَ، وزاد:"وما عَمِلَ الصائمُ مِن أعمال البِرِّ إلَّا كان [أجره] لصاحِبِ الطعام ما دام قُوة الطعام فيه".
وخرَّج ابنُ خزيمة في "صحيحه"
(3)
من حديث سَلْمانَ مرفوعًا حديثًا في فضل شهر رمضان، وفيه:"وهو شهرُ المواساةِ، وشَهرٌ يُزَادُ فيه في رِزْقِ المؤمنِ؛ مَنْ فَطَّرَ فيه صائمًا كان مَغْفِرةً لذنوبه، وعَتَقَ رقبتَه من النَّار، وكان له مِثْل أَجْره من غير أن يَنْقُصَ من أجره شيء". قالوا: يا رسولَ الله! ليس كلُّنا يَجِدُ ما يُفَطِّر الصَّائمَ. قال: "يُعطِي الله هذا الثَّوابَ لمن فطَّر صائمًا على مَذْقَةِ لبنٍ، أَو تمرةٍ، أو شربةِ ماءٍ. ومَن أشبَعَ فيه صائمًا سقاهُ اللهُ من حَوْضِي شَرْبَةً لا يَظْمَأُ بَعْدَها
(4)
حتى يدخُلَ الجنَّةَ".
ومنها: أنَّ شهرَ رمضانَ شهرٌ يجودُ الله فيه على عبادِه بالرَّحمة والمغفرة والعتْقِ من النار، لا سيما في ليلة القَدْرِ. والله تعالى يرحَمُ من عبادِه الرُّحَماءَ، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّما يرحَمُ اللهُ مِن عبادِه الرُّحَماء"
(5)
.
فَمَن جاد على عبادِ الله جادَ اللهُ عليه بالعطاءِ والفضلِ؛ والجزاءُ مِن جنسِ العمَلَ.
ومنها: أنَّ الجمع بين الصِّيام والصَّدقةِ من موجباتِ الجنَّةِ، كما في حديثِ عليٍّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إنَّ في الجنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظُهُورُها من بُطونِها،
(1)
رواه أحمد في "المسند" 4/ 114، 116؛ والترمذي رقم (807) في الصوم: باب ما جاء في فضل من فطَّر صائمًا؛ وابن ماجه رقم (1746) في الصيام: باب صيام أشهر الحرم. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال. والطبراني 5/ 255 - 257.
(2)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 157 وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه الحكم بن عبد الله الأبلي، وهو متروك".
(3)
3/ 191 رقم (1887) في فضائل شهر رمضان، وروي هنا مختصرًا. وإسناده ضعيف. قال البنا في "الفتح الرباني" 9/ 223: رواه ابن خزيمة في صحيحه، ثم قال: إن صحَّ الخبر. وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
(4)
لفظ "بعدها" لم يرد في آ، ش وصحيح ابن خزيمة.
(5)
أخرجه البخاري رقم (1284) في الجنائز باب (32) وغيره، ومسلم رقم (923) في الجنائز: باب البكاء على الميت. وأخرجه الطبراني 2/ 324 عن جرير بسند صحيح.
وبطونُها من ظهورها". قالوا: لمن هي يا رسولَ الله؟ قال: "لمن طيَّب الكلامَ، وأطعَمَ الطَّعامَ، وأدامَ الصِّيام، وصلَّى بالليل والنَّاس نيام"
(1)
.
وهذه الخصال كلُّها تكون في رمضانَ، فيجتمع فيه للمؤمن الصِّيامُ، والقيامُ؛ والصَّدَقةُ، وطيبُ الكلام؛ فإنَّه يُنهى فيه الصَّائمُ عن اللَّغْو والرَّفَثِ.
والصِّيامُ والصَّلاةُ والصَّدقةُ تُوصل صاحبَها إلى الله عز وجل؛ قال بعضُ السَّلف: الصَّلاةُ توصِلُ صاحبَها إلى نصْفِ الطريق، والصِّيامُ يوصِلُه إلى باب الملِكِ، والصَّدقَةُ تأخذُ بيدِه فتدخِلُه على الملِكِ. وفي صحيح مسلم
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "من أصبَحَ منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: مَن تَبِعَ منكُمُ اليومَ جَنازَةً؟ قال أبو بكر: أنا، [قال: فمن أطعم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكر: أنا،]
(3)
، قال: مَن تصدَّق بصدقةٍ؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم مَريضًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: ما اجْتَمَعْنَ في امرئ إلَّا دخَلَ الجنَّة".
ومنها: أنَّ الجمعَ بين الصِّيام والصَّدقة أبلغُ في تكفير الخطايا واتقاءِ جهنَّم والمباعدة عنها، وخُصُوصًا إن ضمَّ إلى ذلك قيام الليل. فقد ثَبَتَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"الصِّيامُ جُنَّةٌ"
(4)
. وفي رواية: "جُنَّةُ أحدِكم مِن النَّار كَجُنَّتِهِ مِنَ القِتال"
(5)
.
(1)
أخرجه الترمذي رقم (1985) في البر والصلة: باب ما جاء في قول المعروف، وهو حديث حسن. ورواه الإِمام أحمد في "المسند" 5/ 343 من حديث أبي مالك الأشعري، والحاكم في "المستدرك" 1/ 80، 321 من حديث ابن عمر، وصححه ووافقه الذهبي.
(2)
رقم (1028) في الزكاة: باب من جمع الصدقة وأعمال البر، وفي فضائل الصحابة: باب من فضائل أبي بكر رضي الله عنه.
(3)
ما بين قوسين لم يرد في آ، ب، ش، ط، وقد استدرك من نسخة (ع) وصحيح مسلم. وقوله:"قال: من تصدَّق بصدقة؟ قال أبو بكر: أنا" زيادة لم ترد في صحيح مسلم.
(4)
أخرجه النسائي عن معاذ بن جبل 4/ 166 في الصوم: باب فضل الصيام، وهو حديث صحيح. وهو قطعة من حديث أخرجه البخاري رقم (1894)(2) في الصوم وغيره، ومسلم رقم (1151) في الصيام، والموطأ 1/ 310 وأبو داود رقم (2363)، والنسائي 4/ 163. والجُنَّة: الوقاية.
(5)
أخرجه النسائي 4/ 167 في الصوم: باب فضل الصيام، وهو حديث حسن. ورواه أيضًا ابن ماجه رقم (1639) في الصيام: باب ما جاء في فضل الصيام؛ وأحمد في "المسند" 4/ 22، 217 عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه. وانظر "الترغيب" 2/ 83 وصحيح ابن ماجه للألباني رقم (1328). ولفظه:"الصيام جُنَّة من النار، كجُنَّة أحدكم من القتال".
وفي حديث معاذ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الصَّدَقَةُ تُطفِئُ الخطِيئةَ كما يُطفِئُ الماءُ النَّارَ. وقيامُ الرَّجُلِ من جَوْف الليل"
(1)
، يعني أنه يطفئ الخطيئة أيضًا. وقد صرَّح بذلك في رواية الإِمام أحمد. وفي الحديث الصحيح
(2)
عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "اتَّقوا النَّارَ ولو بِشِقِّ تَمْرَةٍ". كان أبو الدَّرداءِ يقولُ: صَلُّوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور. صُوموا يومًا شديدًا حرُّه لحرِّ يومِ النشور، تصدَّقُوا بصَدَقةٍ لشرِّ يوم عسير.
ومنها: أنَّ الصِّيام لا بدَّ أن يقَعَ فيه خلَلٌ ونَقْصٌ؛ وتكفير الصِّيام للذنوب مشروطٌ بالتحفُّظ ممَّا ينبغي التحفُّظُ منه؛ كما ورد ذلك في حديثٍ خرجه ابنُ حِبَّان في صحيحه. وعامَّة صيام النَّاسِ لا يجتمعُ في صومه التحفُّظ كما ينبغي، ولهذا نُهي أن يقولَ الرجلُ: صُمْتُ رمضانَ كُلَّه، أو قمتُه كلَّه. فالصَّدَقَةُ تجبرُ ما فيه من النَّقص والخلل، ولهذا وجَبَ في آخر شهر رمضانَ زكاة الفِطْرِ طهرةً للصَّائم من اللغو والرَّفَثِ. والصِّيامُ والصَّدقةُ لهما مدخلٌ
(3)
في كفَّارات الأيمان، ومحظوراتِ الإِحرام، وكفَّارَةِ الوطءِ في رمضان. ولهذا كان الله تعالى قد خيرُ المسلمين في ابتداء الأمر بين الصِّيامِ وإطعامِ المسكين، ثم نُسِخَ ذلك، وبقي الإِطعامُ لمن يعجز عن الصِّيام؛ لكبره. ومَن أخَّرَ قضاءَ رمضانَ حتى أدركَهُ رمضانٌ آخَرُ، فإنَّه يقضيه ويضمّ إليه إطعامَ مسكينٍ لكل يومٍ، تقويةً له عند أكثر العلماءِ، كما أفتى به الصَّحابة. وكذلك مَن أفطر لأجل غيره، كالحاملِ والمرضعِ؛ على قول طائفة من العلماء.
ومنها: أنَّ الصَّائم يَدَعُ طعامَه وشرابَه لله، فإذا أعان الصَّائمين على التقوِّى على
(1)
من حديث طويل أخرجه الترمذي رقم (2619) في الإيمان: باب ما جاء في حرمة الصلاة ورواه أحمد أيضًا في "المسند" 5/ 231، 237، 248، وابن ماجه رقم (3973) في الفتن: باب كف اللسان في الفتنة، وهو حديث صحيح بطرقه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(2)
أخرجه البخاري رقم (1417) في الزكاة: باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، وباب الصدقة قبل الرد، وفي الأنبياء: باب علامات النبوة في الإِسلام، وفي الأدب: باب طيب الكلام، وفي الرقاق: باب من نوقش الحساب عذب، وباب صفة الجنة، وفي التوحيد: باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، وباب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. وأخرجه مسلم رقم (1016) في الزكاة: باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة.
(3)
في آ: "مدخلان".
طعامهم وشرابهم كان بمنزلة مَن ترَكَ شهوة
(1)
لله، وآثر بها، أو واسَى منها
(2)
. ولهذا يُشْرَع له تفطيرُ الصُّوَّام معَهُ إذا أفطَرَ؛ لأنَّ الطَّعام يكون محبوبًا له حينئذ، فيواسى منه، حتى يكونَ ممن أطعَمَ الطَّعام على حبِّه، ويكون في ذلك شكر لله على نعمةِ إباحة الطَّعامِ والشَّرَاب له، وَرَدِّه عليه بَعْدَ منعه إيَّاهُ؛ فإنَّ هذه النِّعمةَ إنما عُرفَ قدرُها عند المَنْعِ منها. وسئل بعضُ السَّلف: لم شُرِعَ الصِّيام؟ قال: ليذوقَ الغنيُّ طعمَ الجُوع فلا ينسى الجائعَ. وهذا من بعض حِكَم الصوم وفوائده. وقد ذكرنا فيما تقدَّم حديثَ سلمان [المرفوع]
(3)
، وفيه:"وهو شهرُ المواسَاةِ" فمن لم يقدر فيه على درجة الإِيثار على نفسِه فلا يعجِز عن درجة أهل المواساة. كان كثير من السَّلفِ يواسون من إفطارهم أو يؤثرون به وَيَطوون
(4)
، وكان ابنُ عُمَرَ يصومُ، ولا يُفطِرُ إلَّا مع المساكين، فإذا منعهم
(5)
أهله عنه، لم يتعشَّ تلك الليلة. وكان إذا جاءه سائلٌ وهو على طعامِه، أخَذَ نصيبَه من الطعام وقام، فأعطاهُ السائلَ، فيرجع وقد أكل أهلُه ما بقي في الجَفْنَة، فيصبح صائمًا ولم يأكُلْ شيئًا.
واشتهى بعضُ الصالحين من السَّلف طعامًا، وكان صائمًا، فوُضِعَ بين يديه عند فُطُوره
(6)
، فسَمعَ سائلًا يقولُ: من يُقرِض الملِيَّ الوفِيَّ الغنِي
(7)
؟ فقال: عبدُهُ المُعْدَمُ من الحسنات. فقام فأخذ الصَّحْفَةَ فخرج بها إليه، وبات طاويًا. وجاء سائل إلى الإمام أحمدَ، فدفع إليه رغيفين كان يُعِدُّهما لفطرِه، ثم طوَى وأصبَحَ صائمًا. وكان الحسَنُ
(8)
يُطعِمُ إخوانَه وهو صائمٌ تطوُّعًا، ويجلس يُروِّحُهُم وهم يأكلون. وكان ابنُ المبارك يُطعمُ إخوانه في السَّفَر الألوان من الحَلواء وغيرها وهو صائم. سلامُ الله على تلك الأرواح. رحمةُ اللهِ على تلك الأشباح؛ لم يَبْقَ منهم إلَّا أخبارٌ وآثار. كم بين من يمنَعُ الحقَّ الواجبَ عليه وبينَ أهلِ الإِيثار.
لا تعرضَنَّ لذكرنا في ذكرِهم
…
ليسَ الصَّحيحُ إذا مشَى كالمُقْعَدِ
(1)
في آ: "شهوته".
(2)
في ش، ع:"فيها".
(3)
تكملة مستدركة في هامش (آ).
(4)
الطَّوَى: الجوع.
(5)
في ب، ط:"منعة أهله عنهم".
(6)
في ع: "فطره".
(7)
لفظ "الغني" لم يرد في آ، ش.
(8)
إذا أطلق لفظ "الحسن" فهو الحسن بن يسار البصري، الإِمام الزاهد.
وله فوائد أخر: قال الشافعي رضي الله عنه: أُحِبُّ للرجُل الزِّيادَةَ بالجُودِ في شهر رمضانَ اقتداءً برسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجةِ الناسِ فيه إلى مصالِحِهم، ولتشاغُلِ كثيرٍ منهم بالصَّوْم والصَّلاة عن مكاسِبهم. وكذا قال القاضي أبو يَعلى وغيرُه من أصحابنا أيضًا. ودَلَّ الحديثُ أيضًا على استحباب دراسةِ القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وعَرْضِ القرآن على مَن هُوَ أحفظُ له
(1)
. وفيه دليل على اسْتِحْباب الإِكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان.
وفي حديث فاطمة عليها السلام عن أبيها صلى الله عليه وسلم "أنَّه أخبرَها: أن جبريلَ [عليه السلام]
(2)
كان يعارِضُه القرآن كُلَّ عامٍ مَرَّةً، وأنه عارضَه في عام وفاتِه مَرَّتين"
(3)
. وفي حديث ابن عباس
(4)
: "أن المدارسة بينَهُ وبينَ جبريلَ كانت ليلًا"، فدَلَّ على استحباب الإِكثار من التِّلاوة في رمضانَ ليلًا؛ فإنَّ الليل تنقطِعُ فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم
(5)
، ويتواطأ فيه القلبُ واللِّسانُ على التدبُّر، كما قال تعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}
(6)
. وشهر رمضان له خصوصية بالقرآن، كما قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}
(7)
. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنَّه أُنزل جملةً واحدَةً من اللوح المحفوظ إلى بيت العِزَّة في ليلة القدر. ويشهدُ لذلك قولُه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}
(8)
، وقوله:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}
(9)
.
(1)
في آ: "أحفظ منه" وفي ع: "أحفظ له منه".
(2)
زيادة من ب، ط.
(3)
قطعة من حديث أخرجه البخاري رقم (3624) في المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام؛ ومسلم رقم (2450)(98) في فضائل الصحابة: باب فضائل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم؛ وابن ماجه رقم (1621) في الجنائز: باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى يعارضه: يدارسه.
(4)
رواه البخاري 1/ 30 في بدء الوحي، وفي الصوم: باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان، وفي بدء الخلق: باب ذكر الملائكة، وفي الأنبياء: باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي فضائل القرآن: باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه مسلم رقم (2308) في الفضائل: باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة. والنسائي 4/ 125 في الصيام: باب الفضل والجود في شهر رمضان. ورواه الإِمام أحمد في "مسنده" 1/ 288، 367، 373.
(5)
في ب، ط:"ويجتمع فيه الهم".
(6)
سورة المزمل الآية 6.
(7)
سورة البقرة الآية 185.
(8)
سورة القدر الآية 1.
(9)
سورة الدخان الآية 3.
وقد سبق عن عبيد بن عمير أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بُدئ بالوحي ونزولِ القرآن عليه في شهر رمضان.
وفي "المسند"
(1)
عن واثلةَ بن الأسقعِ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "نَزَلَتْ صُحُفُ إبراهِيمَ في أوَّل ليلةٍ مِن شَهْرِ رَمَضَانَ، وأُنزِلَتْ التَّوراةُ لستٍّ مَضَيْنَ مِن رَمَضَان، وأُنزِلَ الإِنجيلُ لثلاثَ عشرةَ من رَمَضَانَ، وأُنزِلَ القرآن
(2)
لأربعٍ وعشرين خلَتْ مِن رمضانَ". وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضانَ بالليل أكثرَ من غيره، وقد صلًى معه حُذَيْفَةُ ليلةً في رَمَضانَ، قال: فقرأ بالبقرة، ثم النِّساء، ثم آلِ عمران، لا يَمُرُّ بآيةِ تخويفٍ إلَّا وقف وسأل. قال: فما صلَّى الرَّكْعَتَيْن
(3)
حتى جاءه بلالٌ قآذنه بالصَّلاة. خرَّجه الإِمام أحمد
(4)
، وخرَّجه النسائي، وعنده: أنه ما صلَّى إلا أربعَ رَكعَاتٍ.
وكان عُمَرُ قد أمر أُبيَّ بن كعبٍ وتميمًا الدارِيَّ أن يَقوما بالنَّاس في شهر رمضانَ، فكان القارئُ يقرأُ بالمائتين في ركعةٍ، حتى كانوا يعتمدون على العِصِيِّ من طُول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر. وفي روايةٍ: أنَّهم كانوا يربطون الحبال بين السَّواري، ثم يتعلَّقون بها. ورُوي أن عُمَرَ جَمَعَ ثلاثةَ قُرَّاء، فأمر أسْرَعَهُم قِراءةً أن يقرأَ بالنَّاس ثلاثين، وأوسطَهُم بخمسٍ وعشرين، وأبطأهم بعشرين. ثم كان في زمن التابعين يقرؤون بالبقَرة في قيامِ رمضان في ثمان ركعاتٍ، فإنْ قرأ بها في اثنتي عشرةَ ركعةً رأوْا أنَّه قد خَفَّفَ. قال ابنُ منصور: سُئلَ إسحاق
(5)
بن رَاهَوَيْه: كم يُقرأ في قيام شهر رمضانَ؟ فلم يرخِّصْ في دون عشر آياتٍ. فقيل له: إنهم لا يرضون. فقال لا رَضُوا، فلا تؤمَّهم
(6)
إذا لم يَرْضوا بعشر آيات من البقرة، ثم إذا صرْتَ إلى الآيات الخِفاف فبقدر عشر آياتٍ من البقرة، يعني في كُلِّ ركعةٍ. وكذلك كرِه مالكٌ أن يُقْرأَ دون عشر آياتٍ.
(1)
مسند أحمد 4/ 107.
(2)
في المسند: "الفرقان".
(3)
في آ: "ركعتين".
(4)
مسند أحمد 5/ 400، والنسائي 2/ 224 في التطبيق، باب رقم (74).
(5)
في آ، ش، ع:"إسحاق، يعني ابن راهويه".
(6)
في ش، ع:"فلا تلزمهم"، وفي ط:"فلا تؤمنهم".
وسئل الإمام أحمد عمَّا روي عن عُمَرَ كما تقدَّمَ ذِكرُه في السَّريعِ القراءةِ والبطيء؟ فقال: في هذا مشقة على الناس ولا سيّما في هذه الليالي القصار. وإنَّما الأمر على ما يحتمله الناس. وقال أحمد لبعض أصحابه، وكان يصلِّي بهم في رمضان: هؤلاءِ قومٌ ضَعْفى
(1)
، اِقْرَأْ خَمْسًا، ستًا، سبعًا. قال: فقرأت فختمْتُ ليلةَ سبعٍ وعشرين. وقد رُوي عن الحسن: أن الذي أمرَهُ عُمَرُ أن يُصلِّيَ بالناس كان يقرأ خمْسَ آيات، ستَّ آياتٍ. وكلامُ الإِمام أحمدَ يدلّ على أنه يُراعَى في القراءة حالُ المأمومين، فلا يشقُّ عليهم. وقاله أيضًا غيرُه من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفَةَ وغيرِهم. وقد رُوِي عن أبي ذَرٍّ "أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قام بهم لَيْلَةَ ثلاثٍ وعشرين إلى ثُلُثِ الليل، وليلةَ خمسٍ وعشرين إلى نِصْفِ الليل. فقالوا له: لو نَفَّلْتَنا بقيَّة ليلتنا؟ فقال: "إنَّ الرجُلَ إذا صلَّى مَعَ الإِمام حتَّى ينصرِفَ كُتِبَ له بقيَّةُ ليلته". خرَّجَهُ أهلُ السُّنن
(2)
، وحسَّنَهُ الترمذِيّ.
وهذا يدلُّ على أن قيامَ ثُلُثِ الليلِ ونِصْفِه يُكتبُ به قيامُ ليلةٍ، لكن مع الإِمام.
وكان الإمام أحمدُ يأخذ بهذا الحديث ويُصلِّي مع الإِمام حتى ينصرِفَ، ولا ينصرِفُ حتى ينصرِفَ الإِمام. وقال بعضُ السَّلفِ: من قام نصفَ الليل فقد قام اللَّيلَ.
وفي سُنن أبي داود
(3)
، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
(1)
في آ، ع:"ضعفاء". وكلاهما صحيح. ويجمع ضعيف على ضعَفاء وضَعْفَى، وضِعاف، وضَعَفَة، وضَعَافَى.
(2)
من حديث طويل في "جامع الأصول" 6/ 120، وقد أخرجه أبو داود رقم (1375) في الصلاة: باب في قيام شهر رمضان؛ والترمذي رقم (806) في الصوم: باب ما جاء في قيام شهر رمضان؛ والنسائي 3/ 83، 84 في السهو: باب ثواب من صلَّى مع الإِمام حتى ينصرف، وفي قيام الليل: باب قيام شهر رمضان. إسناده صحيح، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ونص الحديث عند أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه، قال: صُمْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضانَ، فلم يَقُمْ بنا حتى بقي سبعٌ من الشهر، فقام بنا حتى ذهَبَ ثلث. الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل. فقلنا له: يا رسولَ الله! نفَّلْتنا بقيَّة ليلتنا هذه. قال: "إنَّه مَنْ قامَ مَعَ الإِمام حتى ينصرفَ كُتِبَ له قيامُ ليلةٍ". ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلاث ليال من الشهر، فصلَّى بنا في الثالثة، ودعا أهلَه ونساءَه، فقام بنا حتى تخوَّفْنا الفلاح. قلت: وما الفلاحُ؟ قال: السَّحور. ومعنى نَفَّلْتنا: زِدْتَنا، والنافلة: الصلاة الزائدة على الفريضة.
(3)
رقم (1398) في الصلاة: باب تحزيب القرآن، وإسناده حسن. وانظر "صحيح الجامع الصغير وزياداته" ص 1099.
"مَنْ قام بعَشْرِ آياتٍ لم يُكْتَبْ مِن الغافِلين، ومَنْ قام بمائةِ آيةٍ كُتِبَ من القانِتين، ومَن قام بألفِ آيةٍ كُتِبَ من المُقَنْطِرينَ". يعني أنه يُكتَبُ له قنطارٌ من الأجْر. ويُروى من حديث تميم وأنسٍ مرفوعًا: "مَن قرأ بمائةِ آيةٍ في ليلةٍ كُتِبَ له قيامُ ليلةٍ"
(1)
. وفي إسنادهما ضعفٌ. ورُوي حديث تميمٍ موقوفًا عليه، وهو أصحُّ.
وعن ابن مسعود، قال: "مَن قرأ في ليلةٍ خمسين آيةً لم يُكْتَبْ مِن الغافلين، ومن قرأ مائة
(2)
آيةٍ كُتِبَ من القانتين، ومَن قرأ ثلاثمائة آيةٍ كُتِبَ له قنْطَارٌ"
(3)
.
ومَن أراد أن يزيدَ في القراءة ويُطيلَ، وكان يُصَلِّي لنفسه فليطوِّلْ ما شاء، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك من صلَّى بجماعةٍ يرضَونَ بصلاتِهِ. وكان بعضُ السَّلف يختِمُ في قيام رمضان في كُلِّ ثلاث ليال، وبعضُهم في كُلِّ سبْعٍ؛ منهم قتادَةُ. وبعضُهم في كُلِّ عشر؛ منهم أبو رَجاءٍ العُطَارِدِيُّ
(4)
. وكان السَّلَفُ يتلون القرآنَ في شهر رمضان في الصلاة وغيرِها؛ كان الأسْوَدُ يقرأ القرآنَ في كُلِّ ليلتين في رمضان، وكان النَّخعِيُّ يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصَّةً، وفي بقيَّةِ الشَّهْر في ثلاثٍ. وكان قتادة يختِمُ في كُلِّ سبْعٍ دائمًا، وفي رمضانَ في كُلِّ ثلاثٍ، وفي العشرِ الأواخِرِ كلَّ ليلةٍ. وكان للشافعي في رمضان ستون ختمةً يقرؤها في غير الصَّلاة. وعن أبي حنيفة نحوُه. وكان قتادَةُ يدرُسُ القرآنَ في شهر رمضان. وكان الزُّهْرِيُّ إذا دخل رمضانُ قال: فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام.
قال ابنُ عبد الحَكم: كان مالِكٌ إذا دَخَلَ رمضانُ نفرَ
(5)
من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبَلَ على تلاوة القرآن من المصحف. وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دَخَلَ رمضانُ ترَكَ جميعَ العبادةِ وأقبَلَ على تلاوة
(6)
القرآن. وكانت
(1)
رواه أحمد في "مسنده" 4/ 103 بلفظ "له قنوت ليلة". وانظر الأحاديث الصحيحة رقم 644، و "صحيح الجامع الصغير" ص 1103.
(2)
في ب، ط:"بمائة آية ".
(3)
أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 268 وزاد في آخره: "ومن قرأ بسبعمائة أفلح". وقال: "رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات".
(4)
هو عمران بن مِلْحان، ويقال: ابن تميم، أبو رجاء العُطَاردي، مشهور بكنيته، وقيل غير ذلك في اسم أبيه. مخضرم، ثقة، مات سنة 105 هـ وله مائة وعشرون سنة. (التقريب 2/ 85).
(5)
في آ، ب، ط:"يفِرُّ"، وأثبت ما جاء في (ش، ع).
(6)
في ط: "قراءة".
عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أوَّلَ النهار في شهرِ رمضانَ، فإذا طلعت الشمس نامَتْ
(1)
. وقال سفيان: كان زُبيدٌ الياميُّ
(2)
إذا حضر رمضانُ أحضرَ المصاحِفَ، وجمَعَ إليه أصحابَه. وإنما وَرَدَ النَّهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاثٍ على المداومة على ذلك. فأمَّا في الأوقات المفضَّلة، كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يطلب فيها ليلةَ القَدْر، أو في الأماكن المفضلة، كمكَّة [شرَّفها الله]
(3)
، لمن دخلَها مِن غير أهلِها، فيُستحبُّ الإِكثار فيها من تلاوة القرآن، اغتنامًا للزمان والمكان. وهذا قولُ أحمدَ وإسحاقَ وغيرِهما من الأئمة، وعليه يدلّ عملُ غيرهم، كما سبق ذكره.
واعلم أنَّ المؤمن يجتمع له في شهر رمضانَ جهادان لنفسِهِ؛ جهادٌ بالنهار على الصِّيام، وجهادٌ بالليل على القيام. فمن جمَعَ بين هذين الجهادين، ووفَّى بحقوقهىا، وصبرَ عليهما، وُفِّي أجرُه بغير حساب. قال كعبٌ: ينادي يومَ القيامةِ منادٍ: إنَّ كُلَّ حارثٍ يُعطى بحرثه ويُزاد غَيْرَ أهل القرآنِ والصّيام
(4)
، يُعْطَون أجورَهم بغير حساب، ويشفعان له أيضًا عند الله عز وجل، كما في "المسند"
(5)
عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الصِّيامُ والقرآن
(6)
يَشْفَعَانِ للعَبْد يَوْمَ القيامة؛ يقولُ الصِّيامُ: أيْ ربِّ! مَنَعْتُه الطَّعامَ والشهوات
(7)
بالنَّهار. ويقول القرآنُ: مَنَعْتُهُ النَّومَ باللَّيل فَشَفِّعْني فيه، فَيُشَفَّعانِ". فالصيام يشفَعُ لمن منعه الطعام والشهواتِ المحرَّمَة كُلّها، سواءٌ كان تحريمها يختصُّ بالصِّيام، كشهوةِ الطعام، والشَّراب، والنِّكاح، ومقدماتها، أَوْ لا يختص به، كشهوة فضول الكلام المحرَّم، والنظر المحرَّم، والسَّماع المحرَّم،
(1)
في ع: "قامت".
(2)
لفظة "اليامي" سقطت في آ، ش. وهو زُبَيد بن الحارث بن عبد الكريم اليامي، أبو عبد الرحمن الكوفي. ثقة ثبت، عابد، مات سنة 122 هـ، أو بعدها. (التقريب 1/ 257).
(3)
زيادة من نسخة (آ).
(4)
في ع: "والصُّوَّام".
(5)
رواه أحمد في "المسند" 2/ 174 وإسناده صحيح. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 181 وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال الطبراني رجال الصحيح".
(6)
في الأصول والمطبوع: "والقيام"، وقد صحح من المسند، وهو ما يقتضيه السياق.
(7)
في ش: "والشهوات بالنار"، وفي ع:"والشهوات المحرمة بالنار"، وفي آ:"منعته النوم بالليل والشهوات بالنهار"، وفي ب، ط:"والشراب بالنهار"، وصحح من المسند.
والكَسْب المحرَّم؛ فإذا منعه الصِّيامُ من هذه المحرَّمات كلِّها، فإنه يشفَعُ له عند الله يوم القيامة، ويقول: يا ربّ! منعتُه شهواتِه، فشفِّعْني فيه. فهذا لمن حفظ صِيامَه، ومنَعَه من شهواتِهِ.
فأمَّا مَن ضيَّع صِيامَهُ ولم يمنعْه ممَّا حرَّمه الله عليه، فإنَّه جديرٌ أن يُضربَ به وجهُ صاحبِه؛ ويقولُ له: ضيَّعكَ الله كما ضيعتني. كما ورد مثلُ ذلك في الصَّلاة. قال بعضُ السَّلف: إذا احتضر المؤمن، يقال للملَكِ: شُمَّ رأسَهُ. قال: أجِدُ في رأسه القرآن. فيقال: شُمَّ قلبَه. فيقول: أجِدُ في قلبه الصِّيام، فيقال: شُمَّ قدَمَيْهِ، فيقول: أجِدُ في قدمَيْه القيامَ. فيقال: حَفِظَ نفْسَه حفِظَه اللهُ عز وجل.
وكذلك القرآن إنما يشفَعُ لمن منعه من النوم بالليل، فإن مَن قرأ القرآنَ وقام به، فقد قام بحقِّه فيشفَعُ له.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا، فقال:"ذاك لا يتوسَّدُ القرآن"
(1)
. يعني لا ينام عليه فيصيرُ له كالوسادة.
وخرَّج الإِمام أحمد
(2)
من حديث بُرَيْدَةَ مرفوعًا: "إنَّ القرآن يَلْقَى صاحبَهُ يومَ القيامةِ حين ينشَقُّ عنه قبرُه، كالرَّجُل الشاحِبِ
(3)
، فيقول: هل تعرِفني؟ أنا صاحِبُكَ الذي أظمأْتُكَ في الهَواجِرِ، وأسهَرْتُ ليلَكَ، وكُلُّ تاجرٍ من وَرَاءِ تجارته؛ فيُعْطَى المُلْكَ بيمينه، والخُلْدَ بشِمالِهِ، ويوضَعُ على رأسه تاجُ الوَقَارِ، ثم يقال له: اقرأْ واصْعَدْ في دَرَجِ الجنَّة وغُرَفِها، فهو في صُعُودٍ ما دام يقرأُ؛ هذًّا
(4)
كان أو ترتيلًا". وفي حديث عُبَادَةَ بن الصَّامت الطويل: "إن القرآن يأتي صاحِبَه في القبر، فيقول له: أنا الذي كُنْتُ أُسْهِرُ ليلَكَ، وأُظْمِئ نهارَكَ، وأمنَعُكَ شهواتك
(5)
، وسَمْعَكَ وبَصَرَكَ؛ فستجدُني من الأخلَّاءِ خليلَ صِدْقٍ. ثم يَصْعَدُ فيَسألُ له فراشًا ودثارًا، فيؤمَرُ له بفراشٍ
(1)
مسند أحمد 3/ 449.
(2)
رواه الإمام أحمد في "المسند" 5/ 348 مطولًا، وانظر "كنز العمال" 1/ 2578.
(3)
الشاحب: المتغير اللون.
(4)
الهَذُّ: سَرْعَةُ القَطْع، وسُرْعَةُ القراءة.
(5)
في ب، ش، ط:"شهوتك".
من الجنَّةِ، وقِنديل من الجنَّة، وياسمينٍ من الجنَّة. ثم يُدفَعُ القرآن في قِبْلَةِ القَبْرِ، فيوسع عليه ما شاء الله من ذلك".
قال ابن مسعودٍ: ينبغي لقارئ القرآن أن يُعرَفَ بليله إذا الناس ينامون
(1)
، وبنهاره إذا الناس يُفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعِهِ إذا الناسُ يخلطون، وبصمْتِه إذا الناس يَخوضون، وبخُشوعِه إذا الناس يختالون، وبحُزْنه إذا الناسُ يَفرحُون.
قال محمد بن كعب
(2)
: كنَّا نعرِفُ قارئ القرآن بضُفْرة
(3)
لونه. يشير إلى سهرِه وطولَ تهجُّدِه.
قال وُهَيْب بن الوَرْد
(4)
: قِيل لرجلٍ: ألا تنامُ؟ قال: إنَّ عجائبَ القرآن أَطَرْنَ نومي. وصحِبَ رجلٌ رجلًا شهرين، فلم يَرَهُ نائمًا، فقال: ما لي لا أراك نائمًا؟ قال: إنَّ عجائبَ القرآنِ أطرْنَ نومِي؛ ما أخرُجُ مِن أعجُوبةٍ إلَّا وقعْتُ في أُخرى.
قال أحمدُ بنُ أبي الحَوَارى: إنِّي لأقرأ القرآنَ وأنظُرُ في آيةٍ آيةٍ، فيحير
(5)
عقلي بها، وأَعجَبُ مِن حُفَّاظِ القرآن كيفَ يُهنيهم النومُ، ويسَعُهُم أن يشتغِلوا بشيءٍ من الدنيا، وهم يتلون كلامَ الله؟ أَمَا إنَّهم لو فهِموا ما يتلون وعرفوا حقَّه، وتلذَّذوا به، واستَحْلُوا المناجاة به، لذَهَبَ عنهم النومُ فرحًا بما قد رُزقوا. وأنشد ذو النون [المصري]
(6)
:
منع القرانُ بوعدِهِ ووعيدِهِ
…
مُقَلَ العُيُونِ بليلِها لا تهجعُ
فَهِمُوا عن الملِكِ العظيم كلامَه
…
فهمًا تذِلُّ له الرقابُ وتَخْضَعُ
(1)
في ب، ط:"نائمون".
(2)
هو محمد بن كعب القُرَظي، أبو حمزة، المدني، نزل الكوفة مدة، ثقة، عالم. مات نحو سنة 120 هـ. ومن أقواله:"من قرأ القرآن مُتِّع بعقله وإن بلغ مائتي سنة". (صفة الصفوة 2/ 132، سير أعلام النبلاء 5/ 65).
(3)
في آ، ش، ع:"بصفرة اللون".
(4)
وُهَيْب بن الورد، أبو أميَّة، وقيل: أبو عثمان المكي، العابد الرَّبَّاني، زاهد، ثقة. قيل لوهيب: أيَجدُ طعمَ العبادة من يعصي الله؟ قال: لا، ولا من يهمّ بالمعصية. مات وهيب سنة 153 هـ. (صفة الصفوة 2/ 218 - 227).
(5)
في آ: "فيحار".
(6)
تكملة من ب، ط.
فأمَّا من كان معَهُ القرآن فنام عنه بالليل ولم يَعْمَلْ به بالنهار، فإنَّه ينتصبُ القرآنُ خَصْمًا له، يطالبُه بحُقوقِه التي ضيَّعها. وخرَّج الإِمام أحمد
(1)
من حديث سَمُرَةَ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى في مَنَامِه رجلًا مستلقيًا على قَفَاهُ، ورجلٌ قائِمٌ بيدِه فِهْرٌ
(2)
أو صَخْرةٌ، فيشْدَخُ بهِ رأسَه، فيتَدَهْدَهُ
(3)
الحَجَرُ، فإذا ذَهَبَ ليأخُذَهُ عادَ رأسُهُ كما كان، فيَصْنَعُ به مثلَ ذلك، فسألَ عنه، فقيل له: هذا رَجُلٌ آتاهُ الله القرآن فنامَ عنه باللَّيل، ولم يَعْمَلْ به بالنهارِ، فهو يَفْعَلُ به ذلك إلى يوم القيامة".
وقد خرَّجَهُ البخاري
(4)
بغير هذا اللفظ.
وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "يُمثِّلُ القرآنُ يومَ القيامة رجُلًا، فيُؤتَى بالرجُلِ قد حَمَلَهُ فخالَفَ أمرَهُ، فيتمثَّلُ له خَصْمًا، فيقول: يا ربّ! حَمَّلْتَهُ إيايَ؛ فبئسَ حاملٌ تعدَّى حُدودي، وضيَّع فرائضي، وركِبَ مَعْصِيَتي، وتَرَكَ طاعتي. فما يَزالُ يقذِفُ عليه بالحُجَجِ حتى يُقالَ: شأنُكَ به، فيأخُذُ بيدِهِ، فما يُرْسِلُهُ حتَّى يَكُبَّهُ على مَنْخِرِه في النار.
ويُؤتى بالرَّجل الصَّالح كان قد حملَهُ وحفِظَ أمرَهُ، فيتمثَّلُ
(5)
خَصْمًا دونهُ، فيقول: يا ربّ! حَملْتَهُ إيَّايَ، فخيرُ حاملٍ؛ حفِظَ حُدودِي، وعَمِلَ بفرائضي، واجْتنَبَ معصيتي، واتَّبَعَ طاعتِي، فلا يَزالُ يَقذِفُ له بالحُجَج حتَّى يقالَ: شأنَكَ به، فيأخُذُ بيدِه، فما يُرسِلُهُ حتَّى يُلبِسَهُ حُلَّة الاسْتبرقِ، وَيَعْقِدَ عليه تاجَ المُلْكِ، ويسقِيَهُ كأسَ الخَمْرِ"
(6)
.
يا مَنْ ضيَّع عُمُرَهُ في غير الطاعة! يا مَن فَرَّط في شَهْرِه، بَلْ في دهرِه وأضَاعَه! يا مَن بضاعتُه التسويفُ والتفريط، وبئست البضاعَة! يا مَن جَعَلَ خَصْمَهُ القرآنَ وشَهْرَ رمضانَ، كيفَ ترجو مِمَّن جَعَلْتَه خَصْمَكَ الشَّفَاعَة؟!
(1)
من حديث طويل أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 14.
(2)
الفِهْرُ: الحجر ملءُ الكفِّ. وقيل: الحجر مطلقًا. (النهاية 3/ 481).
(3)
يتدهدَهُ الحجر، ويتدهْدَى: يتدحرج. (النهاية 2/ 143).
(4)
البخاري 3/ 251 في الجنائز: باب (93) رقم (1386).
(5)
في آ، ش، ع:"فيمثل".
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 10/ 491، وأبو نعيم في "الحلية" 2/ 220 من طريق ابن أبي شيبة، والهندي في "الكنز" 1/ 546.
ويلٌ لمن شفعاؤه خُصماؤهُ
…
والصُّورُ في يومِ القيامةِ يُنْفَخُ
رُبَّ صائمٍ حظُّه مِن صيامه الجوعُ والعطَشُ، وقائمٍ حظُّه مِن قيامِهِ السَّهَرُ. كُلُّ قيامٍ لا ينهَى عن الفحشاءِ والمنكر لا يزيدُ صاحبَه إلا بُعْدًا، وكُلُّ صِيامٍ لا يُصانُ عن قَوْلِ الزُّورِ والعَمَلِ به لا يورِثُ صاحبَه إلَّا مَقْتًا وَرَدًّا.
يا قوم! أين آثارُ الصيام؟ أينَ أنوارُ القِيام؟
إنْ كنْتَ تَنُوحُ يا حَمامَ البانِ
…
للبِين فأينَ شاهِدُ الأحزانِ
أجفانُكَ للدُّموعِ أمْ أجفاني
…
لا يُقبَلُ مُدَّعٍ بلا بُرهانِ
هذا - عبادَ الله - شهْرُ رمضانَ الذي أنزِلَ فيه القرآنُ وفي بقيته للعابدين مستمتع. وهذا كتابُ الله يُتلَى فيه بين أظهركم ويُسْمَع. وهو القرآن الذي لو أُنزل على جبلٍ لرأيتَه خاشعًا يتصدَّعْ. ومع هذا فلا قلبٌ يخشَعْ، ولا عَيْنٌ تدمَعْ، ولا صِيامٌ يُصانُ عن الحرام فينفَعْ
(1)
! ولا قيامٌ استقام فيُرجى في صاحبه أن يشفَعْ! قلوبٌ خلَتْ من التَّقْوَى فهيَ خرابٌ بلقَعْ، وتراكَمَتْ عليها ظلمةُ الذُّنوب فهي لا تُبصِرُ ولا تسْمَعْ. كم تُتلَى علينا آياتُ القرآن وقلوبُنا كالحجارة أو أشدُّ قَسْوةً. وكم يتوالى علينا شَهْرُ رمضانَ وحالُنا فيه كحالِ أهلِ الشِّقوة: لا الشَّابُ منَّا ينتهي عن الصَّبْوةِ، ولا الشَّيخُ ينزجِرُ عن القبيح فيلتحق
(2)
بالصفوة. أين نحن من قومٍ إذا سمِعُوا داعيَ اللهِ أجابُوا الدَّعْوَه، وإذا تُلِيَتْ عليهم آياتُ اللهِ جَلَتْ قلوبَهم جلْوَه، وإذا صامُوا صامَتْ منهم الألسنَةُ والأسماعُ والأبصار؟ أفما لنا فيهم أسوَه؟! كم بيننا وبين حال أهل الصَّفا أبعد مما بيننا وبين الصَّفا والمَرْوَه. كما حسُنَتْ منَّا الأقوال ساءت الأعمالُ. فلا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العلي العظيم [وحسبنا الله]
(3)
.
يا نفسُ فازَ الصالحُون بالتُّقَى
…
وأبصَرُوا الحقَّ وقلبي قد عمِي
يا حُسْنَهم واللَّيلُ قد جنَّهُم
…
ونورُهم يفوقُ نورَ الأنجُمِ
(1)
في آ: "فيشفع".
(2)
في آ: "ليلحق"، وفي ع:"فيلحق".
(3)
زيادة من ب، ط.
ترنَّموا بالذِّكْر في ليلِهم
…
فعيشُهم قد طابَ بالتَّرنُّم
قلوبُهم للذِّكْر قد تفرَّغَتْ
…
دموعُهُمْ كلؤلؤٍ منتظمِ
(1)
أسحارهُم بهم لهم قد أشرقَتْ
…
وخِلَعُ الغُفْرانِ خَيرُ القِسَمِ
وَيْحَكِ يا نَفْسُ ألا تَيَقُّظ
…
ينفعُ قبل أن تزِلَّ قدمِي
مضى الزَّمانُ في توانٍ وهَوًى
…
فاسْتَدْرِكي ما قَدْ بَقِي واغْتَنِمِي
* * *
المجلس الثالث في ذكر العشر الأوسط من شهر رمضان وذكر
(2)
نصف الشهر الأخير
في الصحيحين
(3)
عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيّ رضي الله عنه، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعتكِفُ في العَشْرِ الأَوْسَطِ من رمضانَ، فاعْتَكَفَ عامًا، حتَّى إذا كانت ليلةُ إحدى وعشرينَ، وهي الليلة التي يخرُجُ في صَبِيحتِها من اعْتِكافِهِ، قال:"مَن كان اعْتَكَفَ معي فَلْيَعْتَكِفِ العَشْرَ الأواخِر. وقد أُرِيتُ هذه الليلة ثم أُنسيتُها، وقد رأَيْتُني أَسْجُدُ في ماءٍ وَطِينٍ من صَبِيحتِها، فالتمسوها في العَشْرِ الأواخر، والتمسوها في كُلِّ وِتْرٍ".
فمطرت السَّماءُ تلكَ الليلةَ، وكان المسجدُ على عَريشٍ
(4)
، فَوَكَفَ المَسْجِدُ، فبصُرَتْ عينايَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على جَبْهَتِهِ أثَرُ الماءِ والطِّينِ من صُبْحِ إحْدَى وعشرين. هذا الحديث يدلُّ على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكِفُ العَشْرَ الأوسَطَ من شهر رمضان؛
(1)
في ب: "مُنْظم".
(2)
في آ: "وذكر النصف الأخير".
(3)
أخرجه البخاري رقم (813) في صفة الصلاة: باب السجود على الأنف في الطين، و (2016) في فضل ليلة القدر: باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، و (2018) باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، و (2027) في الاعتكاف: باب الاعتكاف في العشر الأواخر، و (2036) باب الاعتكاف وخروج النبي صبيحة عشرين، و (2040) باب من خرج من اعتكافه عند الصبح. وخرجه مسلم رقم (1167) في الصوم: باب فضل ليلة القدر.
(4)
العريش: سقف من خشب وحشيش ونحو ذلك. ووكف المسجدُ: قطر ماء المطر من سقفه.
لابتغاء ليلة القدرِ فيه. وهذا السِّياق يقتضي أن ذلك تكرَّر منه صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية في الصحيحين
(1)
في هذا الحديث: "أنه اعتكَفَ العَشْرَ الأوَّلَ، ثم اعتكَفَ العَشْرَ الأوْسَطَ، ثم قال: إني أُتِيتُ، فقيل لي: إنها في العشر الأواخر. فمن أحَبَّ منكم أن يعتكِفَ فليعْتَكِفْ. فاعتكفَ الناسُ معه".
وهذا يدلُّ على أن ذلك كان منه قبلَ أن يتبيَّن لَهُ أنَّها في العَشْر الأواخر، ثم لمَّا تبيَّن له ذلك اعتكفَ العشر الأواخرَ حتَّى قبضَه اللهُ عز وجل. كما رواه
(2)
عنه عائشة وأبو هريرة وغيرُهما.
ورُوي أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جمع جماعةً من الصحابة، فسألَهم عن ليلةِ القَدْر، فقال بعضُهم: كنَّا نراها في العشر الأوسط، ثم بلغنا أنَّها في العشرِ الأواخر. وسيأتي الحديثُ بتمامه في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
وخرَّج ابنُ أبي عاصم
(3)
في "كتاب الصيام" وغيره من حديث خالد بن مَحْدُوج
(4)
، عن أنس: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "التمِسُوها في أَوَّل لَيْلَةٍ، أو في تِسْعٍ، أو في أربعَ عشْرَةَ". وخالدٌ هذا فيه ضعفٌ. وهذا يدلُّ على أنَّها تُطلبُ في ليلتين من العشر الأوَّل، وفي ليلةٍ من العشر الأوسطِ، وهي أربعَ عشْرَةَ. وقد سبقَ
(5)
من حديث واثِلَةَ بن الأسقع مرفوعًا: "إن الإِنجيلَ أُنزِل لثلاثَ عشرَةَ من رمضانَ". وقد ورد الأمر بطلب ليلةِ القَدْر في النصف الأواخر من رمضانَ، وفي أفرادِ ما بقي من العشر الأوسط
(1)
أخرجه البخاري 2/ 298 في صفة الصلاة: باب السجود على الأنف والطين، و 4/ 256 في فضل ليلة القدر، ومسلم رقم (1167) (215) في الصيام: باب فضل ليلة القدر.
(2)
في آ، ش:"رَوته".
(3)
هو أحمد بن عمرو بن أبي عاصم الضحاك، ابن مخلد الشيباني، أبو بكر بن أبي عاصم النَّبيل. عالم بالحديث، زاهد، رحالة، من أهل البصرة، ولي قضاء أصبهان من سنة 269 - 282 هـ. له نحو 300 مصنف، ذهبت كتبه في فتنة الزنج فأعاد من حفظه خمسين ألف حديث. مات سنة 287 هـ. (سير أعلام النبلاء 13/ 430، تذكرة الحفاظ 1/ 640).
(4)
في ب، ش، ع:"خالد بن مخدوج". وهو خالد بن مَحْدوج، ويقال: خالد بن مقدوح، واسطي. قال الذهبي في "ميزان الاعتدال": رماه يزيد بن هارون بالكذب. وقال أبو حاتم: ليس بشيء، ضعيف جدًّا. وقال النسائي: متروك. وقال ابن عدي: يكنى أبا روح ..
(5)
الأسماء والصفات للبيهقي ص 234.
من هذا النصف، وهما ليلتان: ليلةُ سبعَ عشرَةَ، وليلةُ تسعَ عشرَةَ.
أمَّا الأوَّلُ: فخرَّجه الطبراني
(1)
من حديث عبد الله بن أُنَيسٍ، أنه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ليلةِ القدر، فقال: "رأيتُها ونسِيتُها
(2)
، فتحَرَّها في النِّصْف الأواخر. ثم عاد فسأله، فقال: التمسْها في ليلةِ ثلاثٍ وعشرين تَمضِي مِن الشهر".
ولهذا المعنى - والله أعلم - كان أبيّ بن كَعب يَقنُتُ في الوِتر في ليالي النصف الأواخر؛ لأنَّه يُرجَى فيه ليلة القدر.
وأيضًا فكُلُّ زمانٍ فاضلٍ من ليلٍ أو نهارٍ، فإنّ آخِرَه أفضَلُ من أوَّلِه، كيومِ عَرَفَةَ، ويوم الجُمُعة. وكذلك اللَّيلُ والنَّهار عمومًا؛ آخِرُهُ أفضَلُ من أوَّلهِ. ولذلكَ كانت الصلاةُ الوسطى صلاةَ العَصْر، كما دلَّت الأحاديثُ الصَّحيحةُ عليه، وآثارُ السَّلفِ الكثيرة تدُلُّ عليه. وكذلك عشْرُ ذي الحجة والمحرم؛ آخِرُهُما أفضَلُ من أوَّلهما.
وأمَّا الثاني: ففي "سنن أبي داود"
(3)
عن ابن مسعود مرفوعًا: "اطْلُبُوها ليلةَ سبْعَ عشْرَةَ مِن رَمَضانَ، وليلةَ إحدَى وعشرين، وليلَةَ ثلاثٍ وعشرين"، ثم سَكَتَ. وفي روايةٍ:"ليلةَ تسعَ عشْرَةَ". وقيل: إنَّ الصحيح وقْفُه على ابن مسعودٍ، فقد صَحَّ عنه أنَّه قال: تحرُّوا ليلةَ القَدْرِ ليلةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، صباحِيَّةَ
(4)
بدْرٍ، أو إحدى وعشرين. وفي روايةٍ عنه، قال:"ليلةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فإنْ لم يكن ففي تسْعَ عَشْرَةَ".
(1)
في كنز العمال (24045) و (24082) و (24083) وعزاه إلى الطبراني في الكبير. وقال السيوطي في "الدر" 6/ 373: أخرجه مالك، وابن سعد، وابن أبي شيبة، وأحمد، ومسلم، وابن زنجويه، والطحاوي، والبيهقي، عن عبد الله بن أُنَيس أنه سئل عن ليلة القدر، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التمسوها الليلة" وتلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين. وروى مسلم في أفراده رقم (1168) من حديث عبد الله بن أنيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني صُبْحَها أسجد في ماء وطين" قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين.
(2)
في ب: "وأنسِيتها".
(3)
رقم (1384) في الصلاة، باب من روى أنها ليلة سبع عشرة. وإسناده حسن، كما في حاشية "جامع الأصول" 9/ 255. قال المُنذري: في سنده حكيم بن سيف، وفيه مقال.
(4)
في آ: "صبيحة"، وفي ش، ع:"صباحة".
وخرَّج الطبراني
(1)
من رواية أبي المُهَزِّم
(2)
، وهو ضعيفٌ، عن أبي هريرة مرفوعًا، قال:"التمِسُوا ليلَةَ القَدْرِ في سَبْعَ عَشْرَةَ أو تِسْعَ عَشْرَةَ، أو إحدى وعشىرين، أو ثلاثٍ وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبعٍ وعشرين، أو تسع وعشرين". ففي هذا الحديث: التماسُها في أفرادِ النصف الثاني كلِّها
(3)
. ويُروى من حديثِ عائشة رضي الله عنها، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا كان ليلة تسعَ عَشْرَةَ مِن رَمَضَانَ شَدَّ المئزرَ وهَجَرَ الفِراشَ حتى يُفطِرَ.
قال البخاري
(4)
: تفرَّد به عُمَرُ بن مسكينٍ، ولا يتابَع عليه. وقد روي عن طائفةٍ من الصحابة أنَّها تُطْلَبُ ليلةَ سبعَ عَشْرَةَ، وقالوا: إن صبيحتها كان يوم بدرٍ. روي عن علي، وابن مسعود، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعمرو بن حريث. ومنهم من رُوي عنه، أنَّها ليلةُ تسعَ عشرةَ؛ رُوي عن علي، وابن مسعودٍ، وزيد بن أرقم.
والمشهور عند أهل السِّير والمغازي
(5)
: أن ليلة بدْرٍ كانت ليلةَ سبعَ عَشْرَةَ، وكانت ليلةَ جُمَعَةٍ. وروي ذلك عن علي، وابن عباسٍ وغيرِهما. وعن
(6)
ابن عباس، رواية ضعِيفة أنَّها كانت ليلةَ الاثنين. وكان زيد بن ثابتٍ لا يُحيي ليلةً من رمضان، كما يُحيي ليلةَ سبعَ عَشْرَةَ، ويقول: إنَّ الله فرَّق في صبيحتها بين الحقِّ والباطل، وأذلَّ في صبيحتها أئمةَ الكفرِ. وحكى الإِمامُ أحمدُ هذا القولَ عن أهل المدينة: أنَّ ليلةَ القَدْرِ تُطْلَبُ ليلةَ سبعَ عَشْرَةَ. قالَ في رواية أبي داود فيمن قال لامرأته: أنت طالقٌ ليلةَ القَدْر، قال: يعتزِلُها إذا دَخَلَ العَشرُ، وقبل
(7)
العشر، أهلُ المدينة يرونها في السبعَ عشرةَ، إلَّا أنَّ المثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في العشْرِ الأواخر. وحكي عن عامر بن عبد الله بن الزُّبير: أنَّه كان يُواصِل ليلةَ سبعَ عَشْرَةَ.
(1)
أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 176 وقال: "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه أبو المهزّم وهو ضعيف".
(2)
أبو المُهَزَّم التميمي، البصري، إسمه يزيد، وقيل: عبد الرحمن بن سفيان، من الطبقة الثالثة، متروك، ضعفه ابن معين، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال زكريا الساجي: عنده أحاديث مناكير، ليس هو بحجة في السنن. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه ينكر عليه. "تهذيب التهذيب" 12/ 249).
(3)
في آ: "كلّه".
(4)
التاريخ الكبير 3/ 198/2.
(5)
تاريخ الإِسلام (المغازي) ص 57.
(6)
قوله: "وعن ابن عباس" لم يرد في آ.
(7)
في آ، ط:"وقيل".
وعن أهل مكَّةَ أنهم كانوا لا ينامون فيها، ويعتمِرون. وحكي عن أبي يوسُفَ ومحمد، صاحِبي. أبي حنيفة: أن ليلةَ القَدْر في النصف الأواخر من رمضان من غير تعيين لها بليلةٍ، وإن كانت في نفس الأمر عند اللهِ مُعينةً. وروي عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: ليلةُ القَدْرِ ليلةُ سبْعَ عَشْرَةَ، ليلةُ جُمُعة. خرَّجه ابنُ أبي شيبة
(1)
. وظاهره أنَّها إنما تكون ليلة القدر إذا كانت ليلةَ جمعةٍ؛ لتُوافق ليلةَ بَدْرٍ. ورَوَى أبو الشيخ الأصبهاني بإسنادٍ جيِّد، عن الحسن، قال: إنَّ غلامًا لعثمان بن أبي العاص، قال له: يا سيدي، إن البحر يعذُبُ في هذا الشهْر في ليلةٍ. قال: فإذا كانت تلك الليلةُ فأعلِمني. قال: فلما كانت تلك الليلة أذنَه، فنظروا فوجدوه عَذبًا، فإذا هي ليلةُ سبعَ عَشْرَةَ. وزوي من حديث جابرٍ، قال:"كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يأتي قُباءً صَبِيحةَ سَبْعَ عَشْرَةَ مِن رَمَضَانَ، أيَّ يوم كان". خرَّجه أبو موسى المديني.
وقد قيل: إنَّ المعراج كان فيها أيضًا. ذكر ابن سَعْدٍ، عن الواقديّ، عن أَشْياخه: أنَّ المعراج كان ليلةَ السبت لسبعَ عشْرَةَ خلت من رمضانَ قبل الهِجْرَة إلى السماء، وأنَّ الإِسْرَاء كان ليلةَ سبْعَ عَشْرَةَ من ربيع الأوَّل قبل الهجرة بسنةٍ إلى بيتِ المقدس. وهذا على قول مَن فرَّق بين المِعراج والإِسْرَاء؛ فجعَل المِعراجَ إلى السَّماء، كما ذُكر في سورة النجم؛ والإِسراء إلى بيت المقدس خاصَّةُ، كما ذُكر في سورة سبحان.
وقد قيل: إنَّ ابتداء نبوَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم كان في سابعَ عشَرَ رمضانَ. قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: نَزَلَ جبريلُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ السبتِ وليلةَ الأحد، ثم ظهر له بحراء برسالة الله عز وجل يومَ الاثنين لسبعَ عَشْرَةَ خلَتْ مِن رمضانَ. وأصحُّ ما روي في الحوادث في هذه الليلة أنَّها ليلة بَدْرٍ، كما سبق أنَّها كانت ليلةَ سبعَ عَشرَة.
وقيل: تسعَ عشرةَ. والمشهورُ أنَّها كانت ليلةَ سبعَ عَشْرَةَ، كما تقدَّم. وصبيحتُها هو يومُ الفرقان، يوم التقى الجمعان. وسُمي يوم الفرقان؛ لأنَّ الله تعالى فرَّق فيه بين
(1)
لم أجده في مصنفه.
الحقِّ والباطل، وأظهَرَ الحقَّ وأهلَهُ على الباطل وحِزْبِهِ، وعلَتْ كلمةُ الله وتوحيدُه، وَذُلَّ أعداؤه مِن المشركين وأهلِ الكِتاب، وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَدِم المدينةَ في ربيع الأول في أوَّل سنةٍ من سني الهجرة، ولم يُفرَضْ رمضان في ذلك العام. ثم صام عاشوراء، وفُرِضَ عليه رمضانُ في ثاني سنةٍ. فهو أوَّل رمضانٍ صامَهُ وصامَه المسلمون معه.
ثم خرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لطلب عِيرٍ
(1)
من قريش قدِمَتْ مِن الشام إلى المدينة في يوم السبت لاثنتي عشرَةَ ليلةً خلَت من رمضانَ، وأفطَرَ صلى الله عليه وسلم في خروجه إليها.
قال ابن المُسَيِّب
(2)
: قال عُمر: غزونا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم غزوتين في رمضانَ يومَ بدْرٍ، ويومَ الفتح، وأفطرنا فيهما. وكان سببُ خروجه حاجةَ أصحابه، خصوصًا المهاجرين
(3)
(4)
. وكانت هذه العِيرُ فيها أموالٌ كثيرة لأعدائهم الكفار الذين
(5)
أخرجوهم من ديارهم وأموالهم ظُلمًا وعُدوانًا، كما قال الله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}
(6)
. فقصَدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذ أموالَ هؤلاء الكفّار
(7)
الظالمين المعتدين على أولياء الله وحزبه وجنده، فيردَّها على أولياء الله وحزبه المظلومين المخرَجين من ديارهم وأموالهم ليتقوّوا بها على عبادَةِ اللهِ وطاعَته وجهادِ أعدائه. وهذا ممَّا أحلَّه الله لهذه الأمَّة؛ فإنَّه أَحَلَّ لهم الغنائم، ولم تحلَّ لأحدٍ قبلَهم. وكان عِدَّةُ مَن مَعَهُ ثلثمائة وبضعةَ عشَرَ، وكانوا على عدَّةِ أصحابِ طالُوتَ الذين جازوا معه النهر، وما جازَه معه إلَّا مؤمنٌ.
(1)
في ب، ع:"عير قريش"، وفي ش:"عير لقريش".
(2)
هو سعيد بن المسيّب بن حَزْن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبو محمد، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع. وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته، حتى سمِّي راوية عمر، توفي بالمدينة سنة 94 هـ.
(3)
في ب، ش، ع:"المهاجرون" بالرفع، وكلاهما جائز.
(4)
سورة الحشر الآية 8.
(5)
في آ: "الذين أخرجوا من ديارهم ظلمًا وعدوانًا".
(6)
سورة الحج الآية 39 و 40.
(7)
لفظ "الكفار" لم يرد في ب، ط.
وفي سنن أبي داود
(1)
من حديث عبد الله بن عمرٍو، قال: خرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ في ثلاثمائة وخمسةَ عشَرَ مِن المقاتلة، كما خرَجَ طالُوت، فدَعَا لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين خرجوا، فقال:"اللهمَّ، إنَّهم حُفَاةٌ فاحْمِلْهُم، وإنَّهم عُرَاةٌ فاكْسُهُم، وإنَّهم جياعٌ فاشْبعْهُم". ففتح الله يومَ بدْرٍ، فانقلبوا حين انقلبوا وما فيهم رجلٌ إلَّا وقد رجع بجَمَلٍ أوَ جَمَلَيْن، واكتسوا وشبِعُوا. وكان أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم حين خرجوا على غايةٍ مِن قلَّة الظهرِ والزَّاد؛ فإنَّهم لم يخرجوا مستعدِّين لحربٍ، ولا لقتالٍ، وإنَّما خرجوا لطلب العير، فكان معهم نحو سبعين بعيرًا يعتقبونها بينهم، كُلُّ ثلاثةٍ على بعير. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم زميلان، فكانوا يعتقبون على بعيرٍ واحدٍ، فكان زميلاه يقولان لَهُ: يا رسولَ الله، اركب حتى نمشيَ عنك، فيقول: ما أنتما بأقْوَى على المشي منِّي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما. ولم يكن معهما إلا فرسان، وقيل ثلاثة، وقيل فرسٌ واحد للمقداد.
وبلغ المشركين خروجُ النبي صلى الله عليه وسلم لطلب العير، فأخذ أبو سُفيان بالعِير نحو الساحل، وبعث إلى أهل مكَّة يخبرهم الخبر، ويطلبُ منهم أن ينفروا لحمايةِ عِيرهم، فخرجوا مستصرخين، وخرج أشرافُهم ورؤساؤهم، وساروا نحو بدْرٍ. واستشار النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمين في القتال، فتكلَّم المهاجرون فسكت عنهم، وإنما كان قَصْدُه الأنصار؛ لأنَّه ظنَّ أنَّهم لم يبايعوه إلا على نُصْرته على من قَصَدَهُ
(2)
في ديارهم، فقام سَعْد بنُ عُبَادَةَ
(3)
، فقال: إيَّانا تريدُ، يعني الأنصار، والذي نفسي بيده، لو أَمَرْتَنا أن نُخِيضَها البَحْرَ لأَخَضْناها، ولو أمَرْتَنا أن نضرِبَ أكبادَها إلى بَرْكِ الغِمَادِ لَفَعَلْنا
(4)
. وقال له المقدادُ: لا نَقُول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا
(1)
رقم (2747) في الجهاد: باب في نقل السرية تخرج من العسكر، وإسناده حسن.
(2)
في ش: "يقصدُه".
(3)
هو سعد بن عُبادة بن دليم بن حارثة، صحابي من أهل المدينة، سيد الخزرج، وأحد الأمراء الأشراف في الجاهلية والإِسلام، وأحد النقباء الاثني عشر. مات بحوران مهاجرًا سنة 14 هـ.
(4)
أخرجه مسلم رقم (1779) في الجهاد: باب غزوة بدر، وأبو دإود رقم (2681) في الجهاد: باب في الأسير ينال منه ويضرب، وأحمد في "مسنده" 3/ 219، 220، 257.
هَاهُنَا قَاعِدُونَ}
(1)
، ولكن نقاتل عن يمينك وشمالِك، وبين يديك، ومِن خلفِكَ. فَسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأجمَعَ على القتال
(2)
.
وبات تلك الليلة ليلة الجمعة سابعَ عشَرَ رمضانَ قائمًا يُصلّي ويبكي ويدعو الله ويستنصره على أعدائه.
وفي "المسند" عن علي بن أبي طالب، قال:"لَقَدْ رأيتُنا وما فينا إلا نائم، إلَّا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تحت شجرةٍ يُصلِّي ويبكي حتَّى أَصْبَحَ".
وفيه
(3)
عنه أيضًا، قال: أصَابَنَا طَشٌّ مِن مطرٍ، يعني ليلَةَ بدْرٍ، فانطلقنا تحت الشَّجَرِ والحَجَفِ
(4)
نستظلُّ بها من المطرِ، وبات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدعو رَبَّهُ، ويقول:"إن تُهْلِكْ هذه الفئةَ لا تُعْبَدْ"، فلمَّا أن طَلَعَ الفجرُ نادى: الصَّلاةَ عبادَ اللهِ، فجاء الناس من تحت الشَّجر والحَجَفِ، فصلَّى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وحثَّ على القتال.
وأَمَدَّ اللهُ تعالى نبيَّهُ والمؤمنين بنَصْرٍ مِن عندِه وبجندٍ من جندِه، كما قال تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}
(5)
.
وفي "صحيح البخاري"
(6)
أن جبريلَ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: "ما تَعُدُّون أهْلَ بدْرٍ فيكم؟ قال: مِن أفْضَل المسلمين، أو كلمةً نَحْوَهَا. قال: وكذلك مَن شهِدَ بدْرًا من الملائكة". وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ}
(7)
(8)
. ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم قال: "اللهمَّ، إنَّ هؤلاءِ قُريشٌ قد جاءت بخُيلائها يُكَذِّبون
(1)
سورة المائدة الآية 24.
(2)
تاريخ الإِسلام (المنازي) ص 81. وأخرجه البخاري 7/ 223، 224 في المغازي، مع اختلاف في اللفظ.
(3)
مسند أحمد 1/ 117.
(4)
الحَجَف: ضرب من التَّرسَة، واحدها حَجَفة، وقيل: هي من الجلود خاصة، وقيل: هي من جلود الإِبل مُقَوَّرة. (اللسان).
(5)
سورة الأنفال الآية 9 و 10.
(6)
7/ 251 في المغازي: باب شهود الملائكة بدرًا.
(7)
سورة آل عمران الآية 123.
(8)
سورة الأنفال الآية 17.
رسولَك، فأنجِزْ لي ما وَعَدْتَنِي"
(1)
. فأتاه جبريلُ، فقال:"خُذْ قَبْضَة مِن تُرابٍ فارْمِهم بها، فأخَذَ قَبْضَةً من حَصْباءِ الوادي فرمَى بها نحوَهم، وقال: "شَاهَت الوُجُوه" فلم يبقَ مُشْرِكٌ إلَّا دَخَلَ في عَيْنَيْهِ ومَنْخِرِه وفمه شيءٌ، ثم كانت الهزيمة. وقال حكيم بن حزام: سمِعْنا يومَ بدْرٍ صوتًا وقَعَ من السَّماء كأنَّه صوتُ حَصَاةٍ على طَسْتٍ، فرمَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تِلكَ الرَّميَةَ، فانهزمنا. ولما قدِمَ الخبَرُ على أهل مكة قالوا لمن أتاهم بالخبر: كيف حالُ الناسِ؟ قال: لا شيءَ، والله إن كان إلَّا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا، يقتلونا ويأسرونا كيف شاؤوا، وأيْمُ الله، مع ذلك ما لمتُ النَّاسَ؛ لقينا رجالًا
(2)
على خيلٍ بُلقٍ بين السَّماء والأرضِ ما يقومُ لها شيءٌ
(3)
.
وقتل الله صنادِيدَ كفَّارِ قريش يومئذ؛ منهم عُتبة بن ربيعة، وشيبةُ
(4)
، والوليدُ بن عتبة، وأبو جهلٍ، وغيرُهم. وأسَرُوا منهم سبعين. وقصَّة بدْرٍ يطولُ استقصاؤها، وهي مشهورة في التفسير وكتب الصحاح والسنن والمسانيد والمغازي والتواريخ وغيرِها. وإنما المقصودُ هاهنا التنبيهُ على بعض مقاصدِها. وكان عدوُّ اللهِ إبليسُ قد جاء إلى المشركين في سورة سُرَاقَةَ بن مالكٍ، وكانت يدُهُ في يدِ الحارث بن هشام، وجعل يُشجعهم ويعِدُهم ويمنِّيهم، فلمَّا رأى الملائكةَ هَرَبَ وألقى نفسَه في البحر. وقد أخبَرَ اللهُ عن ذلك بقوله تعالى:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
(5)
.
وفي الموطأ
(6)
حديثٌ مرسَلٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "ما رُؤِي الشَّيطانُ أحقَرَ ولا أَدْحَر
(7)
ولا أَصْغَرَ من يوم عرفَةَ، إلَّا ما رأى يَوْمَ بدر. قيل: وما رَأَى يَوْمَ بَدْرٍ؟ قال:
(1)
رواه بنحوه الإمام أحمد في "مسنده" 1/ 30، 32. وفي تاريخ الإِسلام (المغازي) للذهبي ص 109:"اللهم، هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها تُحَادُّك وتكذِّب رسولك".
(2)
زاد في البداية والنهاية: "بيضًا".
(3)
البداية والنهاية 3/ 309.
(4)
أي: شيبة بن ربيعة.
(5)
سورة الأنفال الآية 48، وانظر تفسير ابن كثير 2/ 317 - 318.
(6)
أخرجه الموطأ مرسلًا من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز 1/ 422 في الحج، باب جامع الحج، قال الزرقاني في "شرح الموطأ": وصله الحاكم في "المستدرك" عن أبي الدرداء. ولفظه في الموطأ: "ما رؤي الشيطان يومًا هو أصغر ولا أدحر
…
".
(7)
الدَّحْر: الطرد والإِبعاد.
رأى جبريلَ يَزَعُ الملائكة". فإبليس عدوُّ اللهِ يَسعَى جهدَه في إطفاءِ نورِ الله وتوحيدِه، ويُغرِي بذلك أولياءَه من الكفَّار والمنافقين. فلمَّا عجز عن ذلك بنصر الله نبيَّه وإظهار دينِه على الدِّين كُلِّه، رضِي بإلقاء الفتن بين المسلمين، واجْتَزَى منهم بمحقَّرَات الذنوب حيثُ عَجَزَ عن ردِّهم عن دينهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنَّ الشيطان قد أيس
(1)
أن يَعبُدَة المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم". خرَّجه مسلم
(2)
من حديث جابر. وخرَّج الإمام أحمد
(3)
والنسائي والترمذي وابنُ ماجه من حديث عمرو بن الأحوص، قال: سمعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوَدَاع: "ألا إنَّ الشَّيطانَ قد أَيسَ
(4)
أن يُعْبَدَ في بلدكم هذا أبدًا، ولكن سيكونُ له طَاعَةٌ في بَعْضِ ما تحتَقِرُون مِن أعمالِكُم، فيرضَى بها".
وفي صحيح الحاكم
(5)
عن ابن عبَّاسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم خَطَبَ في حَجَّةِ الوَدَاع، فقال: "إنَّ الشَّيطان قد يئس
(6)
أن يُعْبَدَ بأرضكم، ولكنَّه يرضَى أن يُطَاعَ فيما سِوى ذلك؛ فيما تَحَاقَرون من أعمالكم؛ [فيرضَى بها]
(7)
فاحْذَروا، يا أيُّها الناس، إنِّي قد تركْتُ فيكم ما إنْ اعْتَصَمْتم به فَلَن تَضِلُّوا أبدًا: كِتَابَ الله، وسُنَّةَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم ". ولم يعظم على إبليسَ شيء أكبَرُ
(8)
مِن بعثةِ محمّد صلى الله عليه وسلم، وانتشارِ دعوته في مشارق الأرض ومغاربها؛ فإنه أيسَ أن تعودَ أمَّتُه كلُّهم إلى الشرك الأكبر.
قال سعيدُ بن جُبَير: لمَّا رأى إبليسُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قائمًا بمكَّةَ يصلِّي رَنَّ. ولمَّا افتتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ رَنَّ رَنَّةً أخرى؛ اجتمعَتْ إليه ذريته، فقال: ايئسوا
(9)
أن تردُّوا أمَّة
(1)
في ب، ط:"يئس".
(2)
رقم (2812) في صفات المنافقين: باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس. والترمذي رقم (1938) في البر والصلة. والتحريش: الإِغراء وإيقاع الفتن بين الناس، وحمل بعضهم على بعض بإيقاع الفساد بينهم.
(3)
مسند أحمد - مختصرًا - 3/ 426، والترمذي رقم (2160) في الفتن: باب ما جاء دماؤكم وأموالكم عليكم حرام، قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه رقم (3055) في المناسك: باب الخطبة يوم النحر، وأورده الألباني في "صحيح ابن ماجه" 2/ 181. كما أخرجه الطبراني في الكبير 17/ 31 - 32.
(4)
لغة في يئس.
(5)
1/ 93 على شرط الشيخين.
(6)
في ب، ط:"أيس".
(7)
زيادة في (ط)، وليست في المستدرك.
(8)
في آ، ش، ع:"أكثر".
(9)
في آ، ط:"أَيِسُوا".
محمدٍ [صلى الله عليه وسلم]
(1)
إلى الشرك بعدَ يومِكم هذا، ولكن أفتِنُوهم في دينهم، وأفشُوا فيهم النوحَ والشِّعْرَ. خرَّجه ابنُ أبي الدنيا.
وخرَّج الطبرانيُّ بإسناده، عن مجاهدٍ، عن أبي هريرة، قال: "إنَّ إبليسَ رَنَّ لمَّا أُنْزِلَتْ فاتحةُ الكتاب، وأُنزِلَتْ بالمدينة. والمعروف هذا عن مجاهدٍ مِن قوله، قال: رَنَّ إبليسُ أربعَ رَنَّاتٍ: حينَ لُعِنَ، وحينَ أُهبِطَ مِن الجنَّة، وحينَ بُعِثَ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وحين أُنْزِلَت فاتحةُ الكتاب؛ وأُنْزِلَتْ بالمدينة. خرَّجه
(2)
وكيعٌ وغيرُه. وقال بعضُ التابعين: لمَّا أُنْزِلَتْ هذه الآيةُ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}
(3)
، الآية، بَكَى إبليس
(4)
. يشير إلى شدَّة حزنه بنزولِها؛ لِما فيها من الفرح لأهل الذنوب، فهو لا يزال في همٍّ وغمِّ وحُزنٍ منذُ بُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، بما رأى منه ومن أمَّتِه ما يُهِمُّه ويُغِيظُه.
قال ثابت: لمَّا بُعثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، قال إبليس لشياطينه: لقد حدث أمرٌ فانظروا ما هُو. فانطلقُوا، ثم جاؤوه، فقالوا: ما ندري. قال إبليس: أنا آتيكم
(5)
بالخبر. فذهب وجاء، قال: قد بُعِثَ محمد صلى الله عليه وسلم. فجعل يُرسِلُ شياطينَه إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيجيؤون
(6)
بصُحفهم ليس فيها شيء. فقال: ما لكم لا تُصيبون منهم شيئًا؟ قالوا: ما صحِبْنا قومًا قَطُّ مثلَ هؤلاءِ؛ نصيبُ منهم ثم يقومون إلى الصلاة، فيُمْحَى ذلك. قال: رُويدًا! إنَّهم عسى أن يفتحَ اللهُ لهم الدنيا، هنالك تُصِيبُون حاجَتَكم منهم.
وعن الحسن، قال: قال إبليسُ: سَوَّلْتُ لأمَّة محمدٍ المعاصي، فقطَعُوا ظهري بالاستغفار، فسَوَّلْتُ لهم ذنوبًا لا يستغفرون منها، يعني الأهواء.
ولا يزالُ إبليسُ يَرَى في مواسم المغفِرَة والعِتقِ مِن النار ما يَسُوؤُه؛ فيومُ عرفَةَ لا
(1)
زيادة من ب، ط.
(2)
الدر المنثور 1/ 16 - 17 وفيه: أخرجه وكيع في تفسيره، وابن الأنباري في المصاحف، وأبو الشيخ في العظمة، وأبو نعيم في الحلية، عن مجاهد.
(3)
سورة آل عمران الآية 135.
(4)
أخرجه ابن كثير في تفسيره 1/ 407 من حديث ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(5)
في ب، ط:"أنبِّئكم".
(6)
في ب، ش، ع، ط:"فيجيئوا".
يُرَى أصغرَ ولا أحقرَ ولا أدحَر فيه منه؛ لِمَا يَرَى مِن تنزُّلِ الرَّحمةِ وتجاوُزِ اللهِ عن الذُّنوبِ العِظامِ، إلا ما رؤي يومَ بدْرٍ.
وَرُوِيَ أنَّه لمَّا رأى نزولَ المغفِرة للأمَّةِ في حجَّةِ الوداع يومَ النَّحْرِ بالمزدلفَةِ، أهوَى يحثِي على رأسِهِ الترابَ، ويدعو بالويل والثبور. فتبسَّم النبي صلى الله عليه وسلم مِمَّا رأى من جزع الخبيثِ. وفي شهر رمضانَ يلطفُ الله بأمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم فيغلُّ فيه الشياطينَ وَمَرَدَةَ الجِنِّ حتَّى لا يقدِروا على ما كانوا يقدِرون عليه في غيره من تسويل الذنوب. ولهذا تقِلُّ المعاصي في شهر رمضان في الأمَّة لذلك. ففي "الصحيحين"
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا دَخَلَ رَمَضانُ فُتِّحَتْ أبوابُ السَّماءِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ جَهَنَّم، وسُلْسِلَت الشَّياطينُ". ولمسلمٍ: "فُتحَتْ أبوابُ الرحمةِ". وله أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا جاء رمضان فُتحَتْ أبوابُ الجنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أبوابُ النَّار، وصُفِّدَتِ الشياطينُ".
وخرَّج منه البخاري ذِكْرَ فتحِ أبوابِ الجنَّةِ.
وللترمذي
(2)
وابن ماجه عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"إذا كان أوَّلُ ليلةٍ من شهر رَمَضانَ صُفِّدَتِ الشَّياطينُ ومَرَدَةُ الجِنِّ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النَّارِ، فلم يُفْتَحْ منها بابٌ؛ وفُتِحَتْ أبوابُ الجنَّة، فلم يُغْلَقْ منها بابٌ؛ ويُنادِي منادٍ: يا باغيَ الخير أَقْبِلْ، ويا باغيَ الشرِّ أَقْصِرْ، وللهِ عُتقاءُ مِن النَّارِ، وذلك [في] كُلِّ ليلةٍ". وفي رواية للنسائي
(3)
: "وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ".
وللإِمام أحمدَ
(4)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أُعْطِيَتْ
(1)
أخرجه البخاري 4/ 112 في الصوم: باب هل يقال: رمضان أو شهر رمضان، ومن رأى كلَّه واسعًا، وفي بدء الخلق: باب صفة إبليس وجنوده. ومسلم رقم (1079) في الصوم: باب فضل شهر رمضان.
(2)
رقم (682) في الصوم: باب ما جاء في فضل شهر رمضان، وابن ماجه رقم (1642) في الصيام: باب ما جاء في فضل شهر رمضان.
(3)
4/ 126 - 128 في الصوم: باب فضل شهر رمضان، وباب ذكر الاختلاف على الزهري فيه.
(4)
مسند أحمد 2/ 292، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 140 وقال:"رواه أحمد والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام، وهو ضعيف".
أمَّتي في رَمَضانَ خمسَ خِصَالٍ، لم تُعْطَه أُمَّةٌ قبلَهم: خُلُوفُ فَمِ الصَّائم أطيبُ، عندَ اللهِ مِن ريحِ المِسْكِ، وتستغفِرُ لهم الملائِكةُ حتَّى يُفطِروا، ويُزَيِّنُ الله عز وجل كُلَّ يومٍ جَنَّتَه، ثم يقولُ: يُوشِكُ عِبادِي الصَّالحون أن يُلْقُوا عنهم المَؤونَةَ والأذَى وَيَصيرُوا إليك، وتُصَفَّدُ فيه مَرَدَةُ الشَّياطينِ، فلا يَخْلُصُون فيه إلى ما كانوا يَخْلُصُون إليه في غيره، ويُغْفَرُ لهم في آخرِ ليلةٍ. قيل: يا رسولَ الله، أهِي ليلةُ القَدْرِ؟ قال: لا، ولكنَّ العاملَ إنَّما يُوَفَّى أَجْرَه إذا قضَى عَمَلَه".
وفي ليلة القدر تنتشِرُ الملائكةُ في الأرض، فيبطُلُ سُلطانُ الشَّياطِين، كما قال الله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر}
(1)
. وفي المسند
(2)
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:"الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثَرُ مِن عَدَدِ الحَصَى". وفي صحيح ابن حبَّان
(3)
، عن جابرٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في ليلَةِ القَدْرِ:"لا يَخْرُجُ شَيْطَانها حتى يَخْرُجَ فَجْرُها". وفي المسند
(4)
من حديث عُبَادَةَ بن الصَّامت، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال في ليلة القدر:"لا يَحِل لكَوْكَبٍ أن يُرْمَى به [فيها] حتى يُصْبِحَ، وأن أَمَارَتَها أن الشَّمسَ تخرُجُ صَبِيحَتَها مُسْتَوِيةً ليسَ لها شُعَاعٌ مثلَ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ، لا يحِلُّ للشَّيْطانِ أن يخرُجَ معها يومئذٍ".
ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: إنَّ الشيطان يطلُعُ مع الشَّمسِ كُلَّ يوم إلَّا ليلةَ القدْرِ؛ وذلك أنَّها تطلُعُ لا شعاعَ لها.
وقال مجاهِدٌ في قوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر} ، قال: سلام أن يحدُثَ فيها داءٌ أو يستطيعَ شيطانٌ العمَلَ فيها. وعنه قال: ليلةُ القدْرِ ليلة سالمةٌ لا يحدثُ فيها داءٌ، ولا يُرْسَلُ فيها شيطان. وعنه قال: هي سالمةٌ لا يستطيعُ الشيطانُ أن يعملَ فيها سُوءًا، ولا يُحدِثُ فيها أذىً. وعن الضحَّاك، عن ابن عباس، قال: في تلك
(1)
سورة القدر الآية 4 و 5.
(2)
مسند أحمد 2/ 519.
(3)
صحيح ابن حبان 5/ 277 في الاعتكاف وليلة القدر، وصحيح ابن خزيمة 3/ 331 بلفظ "حتى يضيء فجرها".
(4)
مسند أحمد 5/ 324 والزيادة منه.
الليلة تصفَّدُ مَرَدَةُ الجِنِّ، وتُغلُّ عفارِيتُ الجِنِّ، وتُفْتَحُ فيها أبوابُ السَّماء كلُّها، ويقْبَلُ اللهُ فيها التوبَةَ لكُلِّ تائبٍ؛ فلذلك قال:{سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر} . ويُروى عن أبيّ بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: لا يستطيعُ الشَّيطانُ أن يُصِيب فيها أحدًا بِخَبَلٍ أو داءٍ أو ضَرْبٍ من ضُرُوبِ الفسادِ، ولا ينفُذُ فيها سِحْرُ ساحِرٍ.
ويُروى بإسنادٍ ضعيفٍ عن أنس مرفوعًا: "أنَّه لا تَسْرِي نجومُها، ولا تنبَحُ كلابُها". وكلُّ هذا يَدُلُّ على كفِّ الشَّياطين فيها عن انتشارِهم في الأرض، ومنعِهم من استِراقِ السَّمع فيها من السَّماء. ابنَ آدمَ! لو عرفْتَ قدْرَ نفسِكَ ما أهنْتَها بالمعاصِي، أنتَ المختارُ من المخلوقات، ولك أُعِدَّتِ الجنَّة؛ إن اتقيتَ فهي أقطاعُ المتقين، والدنيا أقطاعُ إبليسَ؛ فهو فيها من المنظَرينَ. فكيفَ رضِيتَ لنفسِكَ بالإِعراض عن أقطاعِكَ ومزاحمةِ إبليسَ على أقطاعِهِ، وأن تكونَ غدًا مَعَهُ في النَّار من جملة أتباعِهِ؟ إنَّما طَردنَاهُ عن السَّماء لأجلك حيثُ تكبَّر عن السُّجودِ لأبيكَ، وطلبْنا قربَكَ؛ لتكونَ من
(1)
خاصتنا وحزبنا، فعادَيْتَنا ووالَيْتَ عَدُوَّنا، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}
(2)
.
رَعَى الله مَن نَهْوَى وإنْ كان ما رَعى
…
حَفِظْنا له العهدَ
(3)
القديمَ فضَيَّعا
وصاحبْتَ قومًا كُنْتُ أنهاكَ عنهُمُ
…
وحقِّكَ ما أبقيْتَ للصلْحِ مَوْضِعا
أبشِروا يا معاشرَ
(4)
المسلمين، فهذه أبوابُ الجنَّة الثمانيةُ في هذا الشهر لأجلكم قد فُتِحَتْ، ونسماتُها على قلوب المؤمنين قد نَفَحَتْ، وأبوابُ الجحيم كلُّها لأجلكم مُغلَقَةٌ، وأَقدامُ إبليسَ وذرئتِهِ من أجلِكُم موثَقَة. ففي هذا الشهر يؤخَذُ من إبليس بالثأر، وتُستخلصُ العُصاةُ من أسْرِهِ فما يبقَى لهم عندَه آثار. كانوا أفراخَهُ، قد غذَّاهم بالشهوات في أوكارِه، فهجروا اليومَ تلك الأوكار. نقضوا معاقِلَ حصُونِه بمعاوِل التوبة والاستغفار. خرَجُوا من سجنه إلى حصنِ التَّقْوَى والإِيمان، فأمِنُوا مِن عذاب النار. قصَمُوا ظهرَهُ بكلمة التوحيدِ؛ فهو يشكُو ألَمَ الانكِسارِ. في كُلِّ مَوْسِمٍ من مواسِمِ
(1)
في آ: "من خواصِّنا وجيرتنا".
(2)
سورة الكهف الآية 50.
(3)
في آ: "الوِدّ".
(4)
في آ: "يا معشر".
الفَضْلِ يحزَنُ؛ ففي هذا الشَّهْر يدعو بالويل؛ لما يَرَى من تنزُّلِ الرَّحمة ومغفرةِ الأوزار. غلَبَ حزْبُ الرَّحمنِ، وهرب حِزْبُ الشَّيطان؛ فما بقي له سُلطان، إلَّا على الكفَّار. عُزلَ سلطانُ الهَوَى، وصارت الدولةُ لسلطان التَّقوَى؛ {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ}
(1)
.
يا ندامايَ صَحَا القلبُ صَحَا
…
فاطرُدوا عنِّي الصِّبا والمَرَحا
هَزَمَ العَقْلُ جُنُودًا لِلْهَوَى
…
فاسِدِي
(2)
لا تعجبُوا إن صَلُحا
زَجَرَ الحقُّ فؤادي فارْعَوَى
…
وأفاقَ القَلْبُ منِّي وصَحَا
بادِرُوا التَّوْبَةَ مِن قَبْلِ الرَّدَى
…
فَمُنَادِيه يُنَادِينا الوَحَا
(3)
هذا - عبادَ اللهِ - شهرُ رمضانَ قد انتصف، فمن منكم حاسب فيه نفسَه للهِ وانتصف
(4)
؟ مَنْ منكم قام في هذا الشهر بحقِّه الذي عَرَفْ؟ من منكم عَزَمَ قبلَ غَلْقِ أبواب الجنَّة أن يبنِيَ له فيها غُرَفًا من فوقها غُرَف؟ ألا إنَّ شهركم قد أخذ في النَّقص، فزيدوا أنتم في العمَل، فكأنكم به وقد انصَرَفَ. فكُلُّ شهرٍ فعسى أن يكونَ منه خلفٌ. وأمَّا شهرُ رمضانَ فمِن أينَ لكم منه خلف؟!
تَنَصَّفَ الشَّهْرُ والهفاهُ وانْهَدَما
…
واخْتَصَّ بالفَوْزِ بالجنَّاتِ مَن خَدَما
وأصبَحَ الغافِلُ المِسْكينُ منكسِرًا
…
مثلي فيا ويحَهُ يا عُظْمَ ما حُرِما
مَن فاته الزَّرْعُ في وقتِ البِذار فما
…
تراه يحصُدُ إلَّا الهَمَّ والنَّدما
طُوبَى لمن كانت التَّقوَى بضاعتَهُ
…
في شهرِهِ وبحبلِ اللهِ مُعتصِما
(1)
سورة الحشر الآية 2.
(2)
في ش، ع:"سادتي"، وصححت في هامش ع:"فاسدي".
(3)
الوَحَا: السُّرعة، يُمَدُّ ويقصر. ويقال: الوَحَا الوَحَا، البدارَ البدارَ.
(4)
في آ، ع:"وأنصَف".
المجلس الرابع في ذكر العشر الأواخر من رمضان
في الصحيحين
(1)
عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت:"كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدَّ مئزرَهُ، وأحيا ليلَة، وأيقَظَ أهلَه". هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلمٍ: "أحيا الليل، وأيقظ أهلَهُ، وجَدَّ، وشَدَّ المِئْزَرَ". وفي رواية لمسلم عنها، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهدُ في العشر الأواخر ما لا يجتهدُ في غيره". كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصُّ العشرَ الأواخِرَ من رمضَانَ بأعمالٍ لا يعملُها
(2)
في بقيَّة الشهر؛ فمنها: إحياءُ الليل؛ فيحتمل أنَّ المرادَ إحياء الليل كلِّه.
وقد روي من حديث عائشة من وجهٍ فيه ضعفٌ بلفظ: "وأحيا الليل كلَّه". وفي "المسند"
(3)
من وجهٍ آخرَ عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلِط العشرين بصلاةٍ ونومٍ، فإذا كان العشر - يعني
(4)
الأخير - شمَّر وشدَّ المئزَرَ.
وخرَّج الحافظ أبو نُعَيم
(5)
بإسنادٍ فيه ضعفٌ، عن أنسٍ، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهِدَ رمضانَ قام ونام، فإذا كان أربعًا وعشرين لم يَذقْ غُمْضًا". ويحتمل أن يريدَ بإحياء الليل إحياءَ غالبه. وقد روي عن بعض المتقدِّمين من بني هاشمٍ - ظنَّه الراوي أبا جعفرٍ
(6)
محمد بن علي - أنَّه فسَّر ذلك بإحياء نصفِ الليل، وقال: من أحيا نصفَ الليل فقد أحيا الليل. وقد سبق مثل هذا في قول عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصومُ شعبانَ كلَّه، كان يصومُ شعبان إلَّا قليلًا"
(7)
. ويؤيِّدُه ما في "صحيح مسلم"
(8)
عن عائشة، قالت:"ما أعلمُه صلى الله عليه وسلم قام ليلةً حتَّى الصباح".
(1)
أخرجه البخاري رقم (2024) في فضل ليلة القدر: باب العمل في العشر الأواخر من رمضان. ومسلم رقم (1174) في الاعتكاف: باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان.
(2)
في ب: "لا يعلمها"، وفي الهامش:"لا يعملها"، وفوقها "معًا".
(3)
مسند أحمد 6/ 146.
(4)
قوله: "يعني الأخير" لم يرد في آ، ش، ع، ومسند أحمد.
(5)
الحلية 6/ 306.
(6)
هو أبو جعفر الباقر، محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ثقة، فاضل، وقد سبقت ترجمته.
(7)
أخرجه مسلم رقم (1156) في الصيام: باب صيام النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان. وفي آ، ش، ع:"كان يصومه إلا قليلًا".
(8)
بعض حديث طويل أخرجه مسلم رقم (746) في صلاة المسافرين: باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض.
وذكر بعضُ الشافعية في إحياء ليلتي العيدين أنَّه تحصُلُ فضيلة الإِحياء بمعظم الليل. قال: وقيل: تحصلُ بساعةٍ. وقد نقل الشافعيُّ في "الأم" عن جماعةٍ من خيار أهلِ المدينة ما يؤيدُه. ونقَلَ بعضُ أصحابهم عن ابن عباسٍ أن إحياءَها يحصُلُ بأن يُصلِّيَ العشاءَ في جماعةٍ، ويعزِمَ على أن يصلِّيَ الصبحَ في جماعةٍ. وقال مالك في "الموطأ"
(1)
: بلغني أنَّ ابنَ المسيبِ قال: "مَن شَهِدَ العِشاءَ ليلةَ القدْرِ، يعني في جماعةٍ، فقد أخذَ بحظِّه منها". وكذا قال الشافعي في القديم: من شهِدَ العشاءَ والصبحَ ليلةَ القَدْرِ فقد أخَذَ بحظِّه منها.
وقد روي هذا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من صلَّى العشاءَ الآخِرَة في جماعةٍ في رمضانَ، فقد أدرَكَ ليلةَ القَدْرِ". خرَّجه أبو الشيخ الأصبهاني. ومن طريقه أبو مُوسى المديني. وذكر أنه رُوي من وجهٍ آخر عن أبي هريرة نحوه.
ويروى من حديثِ عليِّ بن أبي طالبٍ مرفوعًا. لكن إسناده ضعيفٌ جدًّا. ويُروى من حديث أبي جعفر محمد بن علي مرسلًا: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَن أتى عليه رمضانُ صحيحًا مسلمًا؛ صام نهارَه، وصلَّى وِردًا مِن ليله، وغَضَّ بَصَرَه، وحفِظَ فَرْجَه، ولسانَه، ويدَه، وحافظ على صلاته في الجماعة؛ وبكَّر إلى جمعةٍ
(2)
؛ فقد صامَ الشهرَ، واستكملَ الأجْرَ، أدرك ليلَةَ القَدْر، وفاز بحائزة الرَّبِّ عز وجل. قال أبو جعفرٍ: جائزةٌ لا تُشبِهُ جوائزَ الأمراءِ. خرَّجَه ابنُ أبي الدنيا. ولو نذرَ قيامَ ليلة القَدْرِ لزمَه أن يقومَ من ليالي شهر رمضانَ ما يُتيقَّنُ به قيامُها. فمن قال من العلماءِ: إنَّها في جميع الشهر، يقول: يلزُمُه قيامُ جميع ليالي الشهر. ومن قال: هي في النصفِ الآخر من الشهر، قال: يلزمُهُ قيامُ ليالي النصف الأخير منه. ومن قال: هي في العشر الأواخر مِن الشهر، قال: يلزَمُهُ قيامُ ليالي العشر كلِّها، وهو قولُ أصحابنا. وإن كان نذرَهُ كذلك، وقد مَضَى بعضُ ليالي العشر؛ فإنْ قلْنا: إنَّها لا تنتقل في العشر، أجزأهُ
(1)
الموطأ بلاغًا 1/ 321 في الاعتكاف: باب ما جاء في ليلة القدر، قال الزرقاني في "شرح الموطأ": قال ابن عبد البر: قول ابن المسيب لا يكون رأيًا ولا يؤخذ إلا توقيفًا، ومراسيله أصح المراسيل، وذكر الزرقاني لقول ابن المسيب شواهد بمعناه فانظرها هناك.
(2)
في آ: "جُمَعه".
في
(1)
نذره أن يقوم ما بَقي من ليالي العشر، ويقومَ من عامٍ قابلٍ من أوَّلِ العشر إلى وقتِ نَذْرِهِ. وإن قلْنا: إنَّها تنتقِل في العشر لم يخرُجْ مِن نَذْرِه بدون قيام ليالي العشر كلِّها بعد عام نذرِه. ولو نذَرَ قيامَ ليلةٍ غيرِ معيّنةٍ، لزمَهُ قيامُ ليلةٍ تامَّةٍ؛ فإنْ قام نصفَ ليلةٍ ثم نام أجزأَهُ أن يقومَ من ليلةٍ أخرى نصفَها؛ قاله الأوزاعيُّ، نقلَهُ عنه الوليدُ بن مسلمٍ في كتاب "النذور"، وهو شبيهٌ بقول مَن قال من أصحابنا وغيرِهم: إنَّ الكفَّارة يُجزئ فيها أن يَعتق نصفي رقبتين.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظُ أهلَه للصَّلاة في ليالي العشْرِ دونَ غيره من الليالي. وفي حديث أبي ذرٍّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قامَ بهم ليلةَ ثلاثٍ وعشرين، وخمسٍ وعشرين، وسبْعٍ وعشرين، ذكر أنَّه دعا أهلَه ونساءَه ليلة سبعٍ وعشرين خاصَّةً. وهذا يدلُّ على أنَّه يتأكد إيقاظُهم في آكد الأوتار التي تُرجى فيها ليلةُ القَدْر. وخرَّج الطبراني
(2)
من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظُ أهلَهُ في العشر الأواخر من رمضانَ وكُلَّ صغيرٍ وكبيرٍ يطيق الصلاةَ.
قال سفيان الثوري: أحَبُّ إليَّ إذا دَخَلَ العشرُ الأواخرُ أن يتهجَّد بالليل، ويجتهدَ فيه، ويُنهِضَ أهلَه وولدَه إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك. وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرق فاطمَةَ وعليًّا ليلًا فيقولُ لهما:"ألا تقومان فَتُصَلِّيان"
(3)
.
وكان يوقظُ عائشةَ بالليل إذا قضى تهجُّدَه وأراد أن يُوترَ. وورد الترغيبُ في إيقاظ أحد الزوجين صاحِبَه للصَّلاة، ونضحِ الماء في وجهه. وفي الموطأ
(4)
أن عمر بن
(1)
في آ، ش، ع:"من".
(2)
رواه الترمذي حتى قوله: "من رمضان" رقم (795) في الصيام، باب 73، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وبنحوه في مسند أبي يعلى 1/ 282. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 174 مطولًا، وقال: "رواه الترمذي باختصار، ورواه الطبراني في الأوسط، وأبو يعلى باختصار عنه، وفي إسناد الطبراني عبد الغفار بن القاسم وهو ضعيف، وإسناد أبي يعلى حسن.
(3)
أخرجه البخاري 3/ 10 في التهجد: باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل والنوافل من غير إيجاب، وفي تفسير سورة الكهف، وفي التوحيد، ومسلم رقم (775) في صلاة المسافرين: باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، والنسائي 3/ 205 و 206 في قيام الليل.
ورواه أحمد في المسند 1/ 77، 91، 112. وانظر تفسير ابن كثير 3/ 90.
(4)
أخرجه الموطأ 1/ 119 في صلاة الليل: باب ما جاء في صلاة الليل، وإسناده صحيح. وانظر تفسير ابن كثير 3/ 171.
الخطاب كان يُصلِّي من الليل ما شاء اللهُ أن يُصلِّي، حتى إذا كان نِصْفُ الليل أيقَظَ أهلَه للصَّلاة، يقولُ لهم: الصَّلاةَ الصَّلاةَ، ويتلو هذه الآيةَ {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}
(1)
الآية.
كانت امرأة حبيب أبي محمدٍ
(2)
تقولُ له بالليل: قد ذهَبَ الليلُ وبين أيدينا طريقٌ بعيدٌ وزادنا قليلٌ، وقوافلُ الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا:
يا نائمًا باللَّيل
(3)
كم ترقُدُ
…
قُمْ يا حبيبي قَد دَنَا المَوْعِدُ
وخُذْ مِن اللَّيل وأوقاتِهِ
…
وِرْدًا إذا ما هجَعَ الرُّقَّدُ
مَنْ نام حتَّى ينقضِي ليلُه
…
لم يبلغِ المنزِلَ أو يجهَدُ
[قُلْ لِذَوي الألبابِ أهلِ التُّقى
…
قَنْطَرَةُ العَرْضِ لكُم موعِدُ]
(4)
ومنها: أن
(5)
النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَشُدُّ المئزَرَ. واختلفوا في تفسيره؛ فمنهم من قال: هو كنايةٌ عن شِدَّة جدِّهِ واجتهادِه في العبادة، كما يقال: فلان يَشُدُّ وسَطَه ويسعَى في كذا. وهذا فيه نظرٌ؛ فإنَّها قالت: "جَدَّ وشَدَّ المئزَرَ"، فعطفَتْ "شَدَّ المئزرَ" على جدِّه. والصحيح أنَّ المراد اعتزالُه للنساء، وبذلك فسَّره السَّلَف والأئمةُ المتقدِّمون؛ منهم سفيان
(6)
الثوري. وقد ورد ذلك صريحًا من حديث عائشَةَ وأنسٍ، وورد تفسيرُه بأنَّه لم يأوِ إلى فراشِهِ حتَّى ينسلخَ رمضانُ. وفي حديث أَنس:"وطوى فراشه، واعتزَلَ النساء". وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غالبًا يعتكِفُ العشرَ الأواخِرَ، والمعتكِفُ ممنوعٌ من قربانِ النِّساء بالنَّصِّ والإِجماع، وقد قال طائفة من السَّلف في تفسير قوله تعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}
(7)
: إنه طلبُ ليلة القدر. والمعنى في ذلك أنَّ الله تعالى لما أباح مباشَرَةَ النِّساء في ليالِي الصيام، إلى أن يتبيَّن الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود، أمَرَ مَعَ ذلك بطلب ليلةِ القَدْرِ؛ لئلَّا يشتغلَ المسلمون في طول ليالي
(1)
سورة طه الآية 132.
(2)
هو حبيب أبو محمد الفارسي، كان مجاب الدعوة، حضر مجلس الحسن البصري فتأثر بموعظته، فخرج عما كان يملك. (صفة الصفوة 3/ 315 - 321).
(3)
في ب، ط:"يا نائم الليل".
(4)
هذا البيت لم يرد في آ، ش، ع.
(5)
في آ، ش، ع:"أنَّه صلى الله عليه وسلم ".
(6)
لفظ "سفيان" لم يرد في آ، ش، ع.
(7)
سورة البقرة الآية 187.
الشهر بالاستمتاع المباح، فيفوتهم طلبُ ليلة القَدْرِ، فأمر مَعَ ذلك بطلب ليلة القَدْرِ بالتهجُّد من الليل، خصوصًا في الليالي المرجُوِّ فيها ليلةُ القَدْر، فمن هاهنا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصيبُ مِن أهله في العشرين من رمضان، ثم يعتزل نساءَه ويتفرَّغ لطلب ليلة القَدْرِ في العشر الأواخر.
ومنها: تأخيرُه للفطور إلى السَّحَر
(1)
. رُوي عنه من حديث عائشَةَ وأنسٍ أنَّه صلى الله عليه وسلم كان في ليالي العشْرِ يجعَلُ عَشَاءَهُ سَحُورًا. ولفظُ حديث عائشَةَ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان رمضانُ قام ونام، فإذا دَخَلَ العشْرُ شَدَّ المئزَرَ، واجتنَبَ النساءَ، واغتسَلَ بينَ الأذانين، وجعَلَ العَشَاءَ سَحورًا". أخرَجَه ابنُ أبي عاصم، وإسنادُه مقاربٌ. وحديثُ أنسٍ خرَّجه الطبراني، ولفظه:"كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشرُ الأواخر من رمضانَ طَوَى فراشَهُ واعتزَلَ النساء، وجَعَلَ عَشَاءه سَحُورًا". وفي إسناده حفصُ بنُ واقدٍ، قال ابن عدِيّ: هذا الحديث مِن أنكر ما رأيتُ له. وروي أيضًا نحوه من حديث جابر، خرَّجه أبو بكر الخطيب، وفي إسناده مَن لا يُعرَفُ حالُهُ.
وفي "الصحيحين"
(2)
ما يشهَدُ لهذه الروايات، ففيهما عن أبي هريرة، قال:"نَهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الوِصالِ في الصَّوم، فقال له رَجُلٌ من المسلمين: إنَّك تواصِلُ يا رسولَ الله؟ قال: وأيُّكم مثلي؟ إني أبيتُ يُطعِمُني ربِّي ويَسقيني. فلمَّا أَبَوْا أن يَنْتَهُوا عن الوِصال واصَلَ بهم يومًا، ثم يومًا، ثم رأوُا الهِلال. فقال: لو تأخَّرَ لَزِدْتُكم، كالتَّنكيل لهم حين أَبَوْا أن يَنْتهوا". فهذا يدلُّ على أنَّه واصَلَ بالناس في آخر الشهر. وروى عاصم بن كليب، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ما واصل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وصالكم قطُّ، غيرَ أنَّه قَدْ أخَّر الفِطْرَ إلى السَّحُور. وإسنادُه لا بأس به.
(1)
في ب، ط:"السَّحور"، وهو ما يُتَسَحَّرُ به، وأراد وقت السَّحُور. والسَّحَرُ: قبيل الصبح.
(2)
أخرجه البخاري رقم (1965) في الصوم: باب التنكيل لمن أكثر الوصال، وفي المحاربين: باب كم التعزير والأدب، وفي الاعتصام: باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين. ومسلم رقم (1103) في الصيام: باب النهي عن الوصال. والموطأ 1/ 301 في الصيام: باب النهي عن الوصال في الصيام.
وخرَّج الإِمام أحمدُ
(1)
من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصلُ إلى السَّحَر.
وخرَّجه الطبراني
(2)
من حديث جابرٍ أيضًا. وخرَّج ابن جرير الطبري
(3)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل إلى السَّحَر، ففعل ذلك بعضُ أصحابه، فنهاه، فقال: أنت تفعل ذلك. فقال: إنكم لستم مثلي، إنِّي أظلُّ عند ربِّي يُطعمني ويسقيني. وزعم ابنُ جرير أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يواصِلُ في صيامه إلَّا إلى السَّحَر خاصَّةً، وأنَّ ذلك يجوز لمن قوي عليه، ويُكْرَه لغيرِه. وأنكَر أن يكونَ استدامةُ الصِّيام في الليل كلِّه طاعةً عند أحدٍ من العلماءِ؛ قال: وإنما كان يُمسِكُ بعضُهم لمعنىً آخَرَ غيرِ الصِّيام؛ إمَّا ليكونَ أنشَطَ له على العبادة، أَو إيثارًا بطعامه على نفسِهِ، أو لخوفٍ مقلقٍ منَعَه طَعامَه، أو نحو ذلك. فمقتضَى كلامِه أن مَن واصَلَ ولم يُفطِر؛ ليكون أنشَطَ له على العبادةِ من غير أن يعتقدَ أن إمساك الليل قُربةٌ، أنه جائز وإن أمسَكَ تعبُّدًا
(4)
بالمواصلة. فإن كان إلى السَّحَر وقوي عليه، لم يُكْرَه، وإلَّا كُرِهَ.
ولذلك قال أحمد وإسحاق: لا يُكْرَه الوِصالُ إلى السَّحَر.
وفي صحيح البخاري
(5)
عن أبي سعيدٍ الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تواصِلوا، فأيُّكم أرادَ أن يواصِلَ فلْيُواصِلْ إلى السَّحَرِ. قالوا: فإنَّك تُواصِلُ يا رسولَ الله؟ قال: إنِّي لسْتُ كهيئتكم، إني أبيتُ لي مُطعِمٌ يُطعمُني وساقٍ يَسقيني". وظاهرُ هذا يدلُّ على أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يواصل الليلَ كلَّه، وقد يكون صلى الله عليه وسلم إنَّما فَعَلَ ذلك لأنَّه رآه أنشطَ له على الاجتهاد في ليالي العشر، ولم يكُنْ ذلك مضعِفًا له عن العَمل؛ فإنَّ الله كان يُطعمُهُ ويَسقيه. واختلف في معنى إطعامه؛ فقيل: إنه كان يؤتَى بطعامٍ من الجَنَّة يأكُلُه؛ وفي هذا نظر؛ فإنَّه لو كان كذلك لم يكن مواصِلًا، وقد
(1)
مسند أحمد 1/ 91، 141 وإسناده ضعيف لضعف عبد الأعلى بن عامر الثعلبي. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 158 وقال:"رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح".
(2)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 158 وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وهو حديث حسن". وانظر المطالب العالية 1/ 279.
(3)
انظر تفسير القرطبي 2/ 329؛ وتفسير ابن كثير 1/ 222.
(4)
في آ: "قصدًا".
(5)
أخرجه البخاري رقم (1963) و (1967) في الصوم: باب الوصال، وباب الوصال إلى السحر. وأبو داود رقم (2361) في الصوم: باب في الوصال.
أقرَّهُم على قولهم له: إنَّك تواصِلُ. لكن روى عبدُ الرَّزَّاق
(1)
في كتابه عن ابن جريجٍ، أخبرني عمرو بن دينار: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عن الوِصال، قالوا: فإنَّك تواصِلُ؟ قال: وما يدريكم! لَعَلَّ رَبِّي يُطعمني ويَسقيني. وهذا مرسل.
وفي رواية لمسلم
(2)
، من حديث أنس:"إني أظلُّ يُطعمني ربِّي ويسقيني". وإنما يقال: ظَلَّ يفعَلُ كذا، إذا كان نهارًا، ولو كان أَكْلًا حقيقيًا لكان منافيًا للصِّيام. والصحيح أنَّه إشارةٌ إلى ما كان الله تعالى يفتحَهُ عليه في صِيامه وخلوته بربِّهِ، لمناجاته وذِكْرِه من موادّ أنسِهِ ونفَحَاتِ قُدْسِهِ، فكان يَرِدُ بذلك على قلبه من المعارف الإِلهية والمنح الربَّانية ما يغذِّيه ويُغنِيه عن الطَّعام والشراب. كما قيل:
لها أحاديثُ من ذكراك يشغِلُها
…
عن الطعام ويُلهيها عن الزَّادِ
لها بوجهك نورٌ تستضِيءُ به
…
وَقْتَ المسِير وفي أعقابِها حادِي
إذا شَكَتْ مِن كَلَالِ السَّيْر أوعَدَها
…
روحُ القُدُومِ فتحيا عند ميعادِ
الذِّكْرُ قُوتُ قلوبِ العارفين، يغنيهم عن الطعام والشراب، كما قيل:
أنتَ رِيِّي إذا ظمئْتُ إلى الما
…
ءِ وقُوتي إذا أردْتُ الطَّعاما
لمَّا جَاعَ المجتهدون شبِعوا مِن طعام المناجاة. فأفٍّ لمن بَاعَ لذَّةَ المناجاة بفضْل لُقمَةٍ.
يا مَن لِحَشا المحِبِّ بالشَّوق حَشَا
…
ذا سِرُّ سُراك في الدُّجا كيفَ فَشَا
هذا المولى إلى المماليك مَشَا
…
لا كان عيشًا أوْرَثَ القلبَ غِشّا
ويتأكَّدُ تأخيرُ الفطر في الليالي التي تُرْجَى فيها ليلةُ القَدْرِ. قال زِرّ بن
(3)
حُبَيْش في ليلة سبعٍ وعشرين: مَن استطاع منكم أن يؤخِّر فِطْرَه فلْيَفْعَلْ وليفطِرْ على ضَيَاحِ
(4)
لبنٍ.
ورواه بعضُهم عن زِرٍّ، عن أبيّ بن كعبٍ مرفوعًا، ولا يصح. وضِياحُ اللبن،
(1)
مصنف عبد الرزاق 4/ 268 رقم (7756) في الصيام: باب الوصال.
(2)
رقم (1104)(60) في الصوم: باب النهي عن الوصال في الصوم.
(3)
في ط: "ذر"، وهو تصحيف.
(4)
وفي الحديث: "آخِرُ شَرْبَةٍ يشربها عمَّار ضَيَاحُ لبنٍ". غريب الحديث لابن الجوزي 2/ 22.
وروي "ضَيْح" بالضاد المعجمة والياءِ آخر الحروف، هو اللبن الخاثِر الممزوج بالماء.
ورَوَى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن علي، قال: إن وافق ليلةَ القدْرِ وهو يأكُلُ، أورثه داءً لا يفارِقُهُ حتَّى يموتَ. وخزجه من طريقه أبو موسى المديني. وكأنَّهُ يريد: إذا وافق دخولُها أكلَه، والله أعلم.
ومنها: اغتسالُهُ صلى الله عليه وسلم بين العشاءَين، وقد تقدَّم من حديث عائشةَ:"واغتسَلَ بين الأذانين". والمراد: أذانُ المغرب والعشاء.
وروي من حديثِ علي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يغتسِلُ بين العشاءَيْن كُلَّ ليلةٍ، يعني من العشْرِ الأواخر. وفي إسناده ضعفٌ. ورُوي عن حذيفَةَ أنَّه قام مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً مِن رمضانَ، فاغتسَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وسَتَرَهُ حُذَيْفَةُ، وبقيَتْ فضلةٌ فاغتسَلَ بها حُذَيْفَةُ وسَتَرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم. خرَّجه ابنُ أبي عاصمٍ.
وفي روايةٍ أخرى عن حذيفَةَ، قال: قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ مِن رمضانَ في حُجْرَةٍ مِن جَريد النَّخل، فصَبَّ عليه دَلْوًا من ماءٍ. وقال ابنُ جريرة كانوا يستحبون أن يغتسِلوا كُلَّ ليلةٍ من ليالي العشْرِ الأواخر. وكان النَّخعيُّ يغتسِلُ في العَشْرِ كُلَّ ليلةٍ. ومنهم من كان يغتسِلُ ويتطيَّبُ في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، فأمر زِرّ بن حُبَيْش بالاغتسال ليلةَ سبعٍ وعشرين من رمضانَ. وروي عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه أنه إذا كان ليلةُ أربعٍ وعشرين
(1)
اغتسَلَ وتطيَّب ولبس حُلَّةً إزارًا ورداء، فإذا أصبَحَ طواهما فلم يلبَسْهُما إلى مثلها من قابل.
وكان أيوب السَّختياني يغتسِلُ ليلةَ ثلاثٍ وعشرين وأربعٍ وعشرين، ويلبَسُ ثوبين جديدين، ويستجمرُ ويقولُ: ليلة ثلاثٍ وعشرين هي ليلةُ أهلِ المدينة، والتي تليها ليلتُنا، يعني البصريين. وقال حمَّاد بنُ سَلَمة: كان ثابت البُناني
(2)
، وحميدٌ الطويل
(3)
(1)
في ع: "أربع وعشرين من رمضان".
(2)
ثابت بن أسلم البناني، أبو محمد البصري، الإِمام القدوة، من أئمة العلم والعمل، ثقة، عابد، ولد في خلافة معاوية، ومات نحو سنة 127 هـ، وله ست وثمانون سنة.
(3)
حُمَيد بن أبي حُمَيد الطويل، أبو عبيدة البصري، اختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، أشهرها تيْرويه، ثقة، مدلس، مات نحو سنة 143 هـ.
يلبَسَان أحسَنَ ثيابهما ويتطيَّبان، ويطيِّبون المسجِدَ بالنَّضوح
(1)
والدُّخْنَة في الليلة التي يُرْجَى فيها ليلةُ القَدْرِ. وقال ثابتٌ: كان لتميمٍ الداريّ
(2)
حُلَّةٌ اشتراها بألف درهمٍ، كان يلبَسُها في الليلة التي يُرْجَى فيها ليلةُ القدر.
فتبيَّنَ بهذا أنَّه يُسْتَحَبُّ في الليالي التي تُرجَى فيها ليلةُ القدر التنظُّفُ والتزيُّن، والتطيّب بالغُسْلِ والطِّيب واللباس الحَسَن، كما يُشْرَع ذلك في الجُمَعِ والأعياد. وكذلك يُشْرَعُ أَخْذُ الزِّينة بالثياب في سائر الصَّلواتِ، كما قال تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
(3)
. وقال ابنُ عُمَرَ: "اللهُ أحقُّ أن يُتَزَيَّنَ لَهُ". ورُوِي عنه مرفوعًا.
ولا يكملُ التزيُّن الظاهر إلا بتزين الباطِن؛ بالتَّوْبة والإِنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناسِ الذنوب وأوضارها
(4)
؛ فإنَّ زينة الظاهر مع خَرَاب الباطنِ لا تغني شيئًا. قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}
(5)
:
إذا المَرْءُ لم يلبَسْ ثيابًا من التُّقَى
…
تقلَّبَ عُريانًا وإن كان كاسِيا
لا يصلح لمناجاة الملوك في الخلوات إلَّا من زَيَّنَ ظاهِرَهُ وباطِنَه، وطهَّرَهما خصوصًا ملك الملوك الذي يعلم السِّرَّ وأخْفَى، وهو لا ينظُر إلى صوركم وإنما ينظُرُ إلى قلوبكم وأعمالكم، فمن وقف بين يديه فليزيِّنْ له ظاهره باللباس، وباطنه بلباس التَّقْوَى. أنشد الشِّبْلِيُّ:
قالوا غدا العيدُ ماذا أَنْتَ لابسُه
…
فقلْتُ خلعة ساقٍ حُبّه جُرَعا
فَقْرٌ وصبْرٌ هما ثوبان تحتَهُما
…
قَلْبٌ يَرَى إلْفَهُ الأعيادَ والجُمُعا
أَحْرَى الملابِس أن تَلْقَى الحبيبَ بِهِ
…
يومَ التَّزاورِ في الثَّوْب الذي خَلَعا
الدَّهْرُ لي مأثَمٌ
(6)
إنْ غِبْتَ يا أملي
…
والعيدُ ما كنْتَ لي مَرْأًى ومُسْتَمَعا
(1)
النَّضوج: نوع من الطيب تفوح رائحته. والدُّخْنَة: ما ئتَبَخَّر به من الطِّيب.
(2)
هو تميم بن أوس بن خارجة الدَّاريّ، صحابي مشهور، وقد سبقت ترجمته.
(3)
سورة الأعراف الآية 31.
(4)
الوَضَر: الدَّرن، والوسخ من الدسم أو غيره.
(5)
سورة الأعراف الآية 26.
(6)
في ع: "مأتم".
ومنها: الاعتكاف: ففي "الصحيحين"
(1)
عن عائشة رضي الله عنها، "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكِفُ العَشْرَ الأواخِرَ من رمضَانَ حتَّى توفَّاه الله تعالى". وفي "صحيح البخاري"
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:"كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعتكِفُ في كُلِّ رمضان عشرَةَ أيامٍ. فلمَّا كان العامُ الذي قُبِضَ فيه اعتكَفَ عشرين". وإنما كان يعتكِفُ النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر التي يُطلَبُ فيها ليلةُ القَدْرِ، قطعًا لأشغاله
(3)
، وتفريغًا لباله، وتخلِّيًا لمناجاة
(4)
رَبِّه وذِكْره ودعائه. وكان يحتجر حصيرًا
(5)
يتخلَّى فيها عن الناس، فلا يخالِطُهم، ولا يشتغِلُ بهم؛ ولهذا ذَهَبَ الإِمامُ أحمد إلى أن المعتكِفَ لا يُسْتَحَبُّ له مخالطةُ النَّاسِ، حتَّى ولا لتعليم علمٍ، وإقراء قرآنٍ، بل الأفضَلُ له الانفرادُ بنفسه والتخلِّي بمناجاة رَبِّه وذِكْرِه ودعائه. وهذا الاعتِكافُ هو الخَلْوَةُ الشَّرعية، وإنما يكون في المساجد؛ لئلَّا يتركَ به الجُمَعَ والجماعاتِ؛ فإنَّ الخلوةَ القاطِعَةَ عن الجُمَع والجماعاتِ منهيٌّ عنها.
سُئل ابنُ عبَّاس عن رجلٍ يَصومُ النَّهارَ ويقومُ الليلَ، ولا يَشْهَدَ الجُمُعَة والجَمَاعَةَ؟ قال: هو في النار.
فالخلوة المَشْرُوعة لهذه الأمة هي الاعتِكافُ في المساجد، خصوصًا في شهر رمضانَ، خصوصًا في العشر الأواخر منه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. فالمعتكِفُ قد حَبَسَ نَفْسَه على طاعةِ اللهِ وذِكْرِه، وقَطَعَ عن نفسِه كُلَّ شاغلٍ يَشْغَلُه عنه، وعَكَفَ بقلبه وقالبِهِ على رَبِّه وما يُقَرِّبُه منه، فما بقي له هَمٌّ سِوى الله، وما يُرضيهِ عنه. كما كان داود الطَّائيُّ
(6)
يقول في ليله: هَمُّكَ عَطَّلَ عليَّ الهُمُومَ، وحالف بيني وبينَ
(1)
أخرجه البخاري 4/ 271 في الاعتكاف: باب الاعتكاف في العشر الأواخر، و 4/ 283 باب الاعتكاف في شوال. ومسلم رقم (1153) في الاعتكاف: باب متى يدخل من أراد الاعتكاف.
(2)
4/ 284 في الاعتكاف: باب الاعتكاف في العشر الأوسط من رمضان و 9/ 43 في فضائل القرآن: باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أبو داود رقم (2466)، وابن ماجه رقم (1769).
(3)
في ب، ش:"لاشتغاله".
(4)
في آ، ش:"بمناجاة".
(5)
في آ، ش، ع:"حصيرة"، وهما بمعنى. ويحتجر حصيرًا: أي يجعله لنفسه دون غيره.
(6)
هو داود بن نُصَيْر، أبو سليمان الطائي، الكوفي، ثقة، زاهد، من كبار أئمة الفقه والرأي، برع في العلم بأبي حنيفة، ثم أقبل على شأنه، ولزم الصمت. قال له رجل: أوصني، قال: اتَّق الله، وبرَّ والديك، ويحك! وصم الدنيا، واجعل فطرك الموت، واجتنب الناس غير تارك لجماعتهم. مات سنة 160 وقيل: 165 هـ. وقد سبقت ترجمته باختصار.
السُّهادِ، وشوقي إلى النَّظر إليك أوبق
(1)
مِنِّي اللَّذاتِ، وحَالَ بيني وبينَ الشَّهواتِ.
ما لي شُغُلٌ سِواهُ ما لي شُغُلُ
…
ما يَصْرِفُ عن قلبي هواه عَذْلُ
(2)
ما أصنَعُ إنْ جَفَا وخَابَ الأمَلُ
…
منِّي بدَلٌ ومنه ما لي بَدَلُ
فمعنى الاعتكاف وحقيقتُهُ: قطعُ العلائِقِ عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالِق، وكلَّما قويتِ المعرفةُ بالله والمحبَّةُ له، والأنسُ به، أورثَتْ صاحبَها الانقطاعَ إلى الله تعالى بالكليّة على كُلِّ حالٍ. كان بعضُهم لا يزالُ منفردًا في بيته، خاليًا بربِّه، فقيل له: أمَا تستوحِشُ؟ قال: كيفَ أستوحِشُ وهو يقولُ: "أنا جليسُ مَن ذكرني".
أوحَشَتْنِي خَلَواتي
…
بكَ مِن كُلِّ أنيسي
وتفرَّدْتُ فَعَايَنْتُكَ
…
بالغَيْبِ جَليسِي
يا ليلةَ القَدْرِ للعابدين اشْهَدِي، يا أقدَامَ القانِتين ارْكَعِي لربِّكِ واسْجُدِي، يا ألسِنَةَ السَّائلين جُدِّي في المسألة واجْتَهِدِي.
يا رجالَ اللَّيلَ جُدُّوا
…
رُبَّ دَاعٍ لا يُرَدُّ
ما يقومُ اللَّيلَ إلَّا
…
مَنْ لَهُ عَزْمٌ وجِدُّ
ليلةُ القَدْر عندَ المحبِّين ليلةُ الحُظْوةِ بأُنْسِ مولاهم وقُرْبِه، وإنما يفرُّون من ليالي البُعْد والهجر. كان ببغداد موضعان يقال لأحدهما دارُ المُلْك، والأخرى
(3)
القطيعة، فجاز بعضُ العارفين بملَّاحٍ في سفينةٍ، فقال له: احمِلْني معكَ إلى دار المُلْك، فقال له الملاح: ما أقصِدُ إلَّا القطيص،، فصاح العارِفُ: لا بالله، لا بالله، منها أفِرُّ.
وليلةٍ بتُّ بأكنافِها
…
تعدِلُ عنديِ ليلةَ القَدْرِ
كانَتْ سلامًا لسروري بها
…
بالوَصْل
(4)
حتَّى مطلَعِ الفَجْرِ
(1)
في آ: "أحرق"، وفي ط:"أوثق". وأوبق: ذلَّل وأهلك.
(2)
في آ: "ما يصرف عن هواه قلبي عذل".
(3)
في ش، ع:"وللأخرى". وبعدها في هامش آ: "دار".
(4)
في ش: "بالقرب".
يا مَنْ ضَاعَ عُمُرُه في لا شيء، اسْتَدرِكْ ما فاتَكَ في ليلة القَدْرِ؛ فإنَّها تحسَبُ بالعُمرِ.
وليلة وَصْلٍ باتَ مُنْجِزُ وَعْدِهِ
…
سَمِيري فيها بعدَ طولِ مطالِ
شفيتُ بها قلبًا أُطِيلَ عليلُه
(1)
…
زمانًا فكانت ليلةً بليالي
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}
(2)
. [واختُلِفَ في ليلة القدر والحكمة في نزول الملائكة في هذه الليلة، أن الملوك والسادات لا يحبون أن يدخل دارهم أحد حتى يزينون دارهم بالفرش والبسط ويزينوا عبيدهم بالثياب والأسلحة، فإذا كان ليلة القدر أمر الربّ تبارك وتعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض؛ لأنَّ العِبادَ زيَّنوا أنفسَهم بالطاعات؛ بالصَّوم والصَّلاةُ في ليالي رمضان، ومساجدَهم بالقنادِيلِ والمصَّابيحِ، فيقول الربُّ تعالى: أنتم طعنتم في بني آدم وقلتم {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}
(3)
، الآية، فقلْتُ لكم:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، اذهبوا إليهم في هذه الليلة حتى تروهم قائمين ساجدين راكعين لتعلموا أنِّي اخترتهم على علم على العالمين]
(4)
.
قال مالك: بلغني أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُرِي أَعْمَارَ النَّاس قبلَه، أو ما شاء اللهُ من ذلك، فكأنَّه تقاصَرَ أعْمَارَ أُمَّتِه ألَّا يبلُغُوا مِن العَمَل الذي بلَغَ غيرُهُم في طُول العُمُر، فأعطاهُ اللهُ ليلَةَ القَدْرِ خيرًا
(5)
مِن ألفِ شَهْرٍ
(6)
. ورُوي عن مجاهدٍ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رجلًا مِن بني إسرائيلَ لبِسَ السَّلاحِ ألفَ شهرٍ، فعجِبَ المسلمون من ذلك؛ فأنزَلَ اللهُ تعالى هذه السورة "ليلةُ القَدْرِ خيْرٌ مِن أَلْف شَهْرٍ" الذي لبس فيها ذلك الرجل
(7)
السِّلاحَ في سبيل الله ألفَ شهرٍ. وقال النَّخعِيُّ: العملُ فيها خيرٌ مِن العَمَلِ في ألف شهر.
(1)
في ب، ط:"غليلُه".
(2)
سورة القدر الآيات 1 - 3.
(3)
سورة البقرة الآية 30.
(4)
ما بين قوسين زيادة في المطبوع لم ترد في باقي. النسخ، ولعلها من زيادات ناسخ المصرية.
(5)
في آ، ش:"خيرٌ".
(6)
الموطأ 1/ 321 في الاعتكاف: باب ما جاء في ليلة القدر. قال ابن عبد البر: هذا أحد الأحاديث الأربعة التي لا توجد في غير الموطأ، لا مسندًا ولا مرسلًا، وليس مها حديث منكر، ولا ما يدفعه أصل.
(7)
في هامش المطبوع: "قيل: إنه يوشع بن نون، ذكره صاحب روضة العلماء".
وفي "الصحيحين"
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ قامَ ليلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ مِن ذَنْبِه". وفي "المسند"
(2)
عن عُبَادَةَ بن الصَّامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من قامَها ابتغاءَها، ثم وقعَتْ له، غُفِرَ له ما تقدَّم مِن ذَنْبِه وما تأخر". وفي "المسند"
(3)
و"النسائي" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في شهر رمضانَ:"فيه ليلَة خَيْرٌ مِن أَلْفِ شهرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَها فقد حُرِمَ". قال جُوَيْبر
(4)
: قلْتُ للضحَّاك: أرأيتَ النفسَاءَ والحائضَ والمسافرَ والنَّائمَ لهم في ليلةِ القَدْرِ نصيبٌ؟ قال: نعم، كُلُّ مَن تقبَّلَ الله عَمَلَه سيعطيه نصيبَه مِن ليلة القَدْر.
إخواني! المعوَّلُ على القَبُولِ لا على الاجتهاد، والاعتبارُ ببرِّ القلوبِ لا بعمَلِ الأبدانِ. رُبٌّ قائمٍ حظُّه مِن قيامه السَّهَرُ؛ كم من قائمٍ محرومٍ، ومن نائمٍ مرحوم؛ هذا نام وقلبُه ذاكِرٌ، وهذا قامَ وقلبُه فاجر.
إنَّ المقاديرَ إذا ساعَدَتْ
…
أَلْحَقَتِ، النَّائمَ بالقَائمِ
لكنَّ العَبْدَ مأمورٌ بالسَّعي في اكتِساب الخيرات والاجتهاد في الأعمال الصالحات؛ وكُلٌّ مَيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له. أمَّا أهلُ الَسعادة فييسَّرُون لعمَلِ أهلِ السعادة، وأمَّا أهلُ الشَّقاوةِ فييسَّرون لعمَل أهلِ الشقاوة. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
(5)
. فالمبادرةَ المبادرةَ إلى اغتنام العَمَلِ فيما بقي من الشهر، فعسَى أن يُستدركَ به ما فات من ضياع العُمُر.
تولَّى العُمْرُ في سَهْوٍ
…
وفي لَهْوٍ وفي خُسْرِ
(1)
أخرجه البخاري 4/ 250 في صلاة التراويح: باب فضل من قام رمضان، وباب فضل ليلة القدر وغيره. ومسلم رقم (759) في صلاة المسافرين: باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح.
(2)
مسند أحمد 5/ 318.
(3)
مسند أحمد 2/ 230، والنسائي 4/ 129 في فضل شهر رمضان: باب ذكر الاختلاف على معمر فيه، بإسناد صحيح. وذكره الألباني في "صحيح سنن النسائي" 2/ 455 - 456.
(4)
هو جُوَيبر بن سعيد الأزدي، أبو القاسم البلخي، نزيل الكوفة، ضعيف جدًّا، روى عن أنس بن مالك، وجوَّاب التيمي، والضحاك بن مزاحم، وجل روايته عنه.
(5)
سورة الليل الآيات 5 - 10.
فيا ضيعَةَ ما أنفقْتُ في الأيَّامِ
(1)
من عُمْرِي
وما لي في الَّذي ضَيَّعْتُ من عُمْرِي مِن عُذْرِ
فما أَغفَلَنا عن وا
…
جباتِ الحَمْدِ والشكرِ
أَمَا قَدْ خصَّنا الله
…
بِشَهْرٍ أيَّما شَهْرِ
بشهرٍ أَنْزَلَ الرَّحما
…
نُ فيهِ أَشْرَفَ الذِّكْرِ
وهل يشبهُهُ شَهْرٌ وفيهِ لَيْلَةُ القَدْرِ
فكم من خبرٍ صَحَّ
…
بما فيها مِن الخير
(2)
رَوَيْنا عَنْ ثِقاتٍ أنَّها تُطْلَبُ في الوِتْرِ
فطُوَبى لامرئٍ يطلبُها في هذه العَشْرِ
ففيها تَنزِلُ الأملَا
…
كُ بالأنوارِ والبِرِّ
وقد قال: سَلامٌ هِيَ حتَّى مطلعَ الفَجْرِ
أَلَا فادَّخِرُوها
…
إنَّها مِن أَنْفَسِ الذُّخْرِ
فكَم مِن مُعْتَقٍ فيها
…
مِنَ النَّارِ ولا يَدْرِي
* * *
المجلس الخامس في ذكر السَّبع الأواخر من رمضان
في "الصحيحين"
(3)
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجالًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُرُوا ليلةَ القَدْرِ في المنام في السَّبْعِ الأواخر، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أرى رؤياكم قد تَوَاطأَتْ في السَّبع الأواخر، فمن كان مُتَحَرِّيها فَلْيَتَحَرِّيها في السَّبع الأواخر". وفي صحيح مسلم
(4)
عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمِسُوها في العشر
(1)
في آ: "الآثام".
(2)
في آ، ش:"الجبر"، وفي ع:"الأجر".
(3)
أخرجه البخاري رقم (2015) في صلاة التراويح: باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، وفي التعبير: باب التواطؤ على الرؤيا. ومسلم رقم (1165) في الصيام: باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها.
(4)
رقم (1165) في الصيام.
الأواخر، فإنْ ضَعُفَ أحدُكم أو عَجَزَ فلا يُغْلَبَنَّ على السَّبْع البَواقِي". قد ذكرنا فيما تقدَّم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في شهر رمضانَ على طلب ليلة القَدْر، وأنَّه اعتكفَ مرَّةً العشْرَ الأوَّل
(1)
منه، ثم طلبها فاعتكفَ بعدَ ذلك العشْرَ الأوسَط في طلبها، وأنَّ ذلك تكرَّر منه غير مَرَّة، ثم استقَرَّ أمرُهُ على اعتِكاف العَشْر الأواخر في طلبها، وأَمَرَ بطلبها فيه. ففي "الصحيحين"
(2)
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تحرَّوا ليلَةَ القَدْر في العَشْر الأواخِر مِن رَمضانَ".
وفي رواية للبخاري: "في الوِتْر مِن العَشْر الأواخِرِ مِن رمضان".
وله
(3)
من حديثِ ابن عباسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "التمِسُوها في العشر الأواخرِ
(4)
مِن رمضان". ولمسلم
(5)
من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"التمسوها في العَشْر الغَوابِر". والأحاديثُ في المعنى كثيرة. وكان يأمُر بالتماسها في أوتار العَشْر الأواخر. ففي "صحيح البخاري"
(6)
عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "التمِسوها
(7)
في العَشْر الأواخر من رمضان؛ في تاسعةٍ تَبْقَى، في سابعةٍ تَبْقَى، في خامسةٍ تَبْقَى".
وفي رواية له: "هي في العَشْر؛ في سبْع يَمضينَ، أو سبْع يَبْقَيْنَ".
وخرَّج الإِمامُ أحمدُ
(8)
والنّسائي والترمذيّ من حديث أبي بَكْرَةَ، قال: ما أنا بملتمِسِها لشيءٍ سمِعْتُه مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا في العَشْرِ الأواخر؛ فإنِّي سمِعْتُه يقولُ: "التمِسُوها في تِسْعٍ يَبْقَيْن، أو سَبْع يَبقَيْن، أو خَمْسٍ يَبْقَيْن، أو ثلاثٍ يبقَيْن، أو آخرِ ليلةٍ". وكان أبو بَكْرَة يصلِّي في العشرين مِن رمضانَ كصلاتِه في سائر السَّنَة، فإذا
(1)
في ط: "الأوائل".
(2)
البخاري رقم (2017) في صلاة التراويح: باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر. ومسلم رقم (1169) في الصيام: باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها.
(3)
البخاري رقم (2021) في صلاة التراويح: باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر.
(4)
في ب، ط:"الأواخر الغوابر".
(5)
قطعة من حديث أخرجه مسلم رقم (1166) في الصيام: باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها. والغوابر: البواقي.
(6)
البخاري رقم (2021).
(7)
في ب، ط: "التمسوا ليلة القدر
…
".
(8)
رواه الإِمام أحمد في "المسند" 5/ 36، 39 والترمذي رقم (794) في الصوم: باب ما جاء في ليلة القدر، وإسناده حسن، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
دَخَلَ العشْرُ اجتهدَ، ثم بعدَ ذلك أَمَرَ بطلبها في السَّبْع الأواخر.
وفي المسند
(1)
وكتاب النسائي عن أبي ذرٍّ، قال: كنتُ أسألُ الناس عنها، يعني ليلَةَ القَدْر، فقلت: يا رسولَ الله، أخبِرني عن ليلة القَدْرِ، أفي رمضان هي، أو في غيره؟ قال: بَل
(2)
هي في رمضانَ. قلت: تكونُ مع الأنبياء ما كانوا، فإذا قبِضُوا رُفِعَتْ، أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة. قلتُ: في أيٍّ رمضان هي؟ قال: التَمِسُوها في العشْرِ الأوَّل والعَشْرِ الأواخر. قلْت: في أي العشرين هي؟ قال: في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيءٍ بعدها. ثم حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اهْتَبَلْتُ
(3)
غَفْلَتَه، فقلْتُ: يا رسولَ الله، أقسمْتُ عليك بحقِّي لَمَا أخبرتني، في أيِّ العَشْرِ هي؟ فغضِبَ عليَّ غضَبًا لم يغضَبْ مثلَه منذُ صَحِبْتُه، وقال: التمِسُوها في السَّبْع الأواخر؛ لا تسألني عن شيءٍ بعدَها. وخرَّجه ابن حِبَّان
(4)
في "صحيحه" والحاكم. وفي رواية لهما: أنَّه قال: "ألم أنْهَكَ أن تسألني عنها؟ إن الله لو أذِنَ لي أن أخبِرَكم بها لأخبرتكم، لا آمَن أن تكونَ في السَّبْع الأواخر". ففي هذه الرواية أن بيان النبي صلى الله عليه وسلم لليلة القدر انتهى إلى أنَّها في السَّبْع الأواخر، ولم يزِدْ على ذلك شيئًا. وهذا ممَّا يَسْتَدِلُّ به من رَجَّح ليلةَ ثلاثٍ وعشرين وخمسٍ وعشرين على ليلةِ إحدى وعشرين، فإنَّ ليلة إحدى وعشرين ليسَتْ من السَّبْع الأواخر بلا تردُّدٍ. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ أُخَرَ أنَّه بيَّن أنَّها ليلَةُ سَبْع وعشرين، كما سيأتي ان شاء الله تعالى.
واختُلِفَ في أوَّل السَّبْع الأواخِر؛ فمنهم مَن قال: أوَّلُ السَّبْعِ ليلة ثلاثٍ وعشرين، على حساب نُقصانِ الشَّهرِ دون تمامِهِ؛ لأنه المتيقَّنُ. ورُوي هذا عن ابن عباسٍ، وسيأتي كلامه فيما بعدُ إن شاء الله تعالى. وفي "صحيح البخاري"
(5)
عن بلال رضي الله عنه، قال: إنها أَوَّل السَّبْع من العشر الأواخر.
(1)
مسند أحمد 5/ 171.
(2)
في ب، ط:"بلى".
(3)
أي تحينتها واغتنمتها.
(4)
أخرجه ابن حبان في "صحيحه" 5/ 274 والحاكم في "المستدرك" 1/ 437 على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(5)
أخرجه البخاري 8/ 153 رقم (4470) في المغازي: باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد في مرضه الذي توفي فيه.
وخرَّجه ابنُ أبي شيبة
(1)
، وعنده قال: ليلة ثلاثٍ وعشرين، وهذا قولُ مالكٍ،
(2)
قال: أَرَى - والله أعلم - أن التاسِعةَ ليلةُ إحدى وعشرين، والسابعةَ ليلةُ ثلاثٍ وعشرين، والخامسةَ ليلَةُ خمسٍ وعشرين. وتأوَّله عبدُ الملك بنُ حَبيبٍ على أنَّه إنما يُحسَبُ كذلك إذا كان الشهر ناقصًا، وليس هذا بشيء؛ فإنَّه إنَّما أمر بالاجتهاد في هذه الليالي على هذا الحساب، وهذا لا يمكن أن يكونَ مراعىً بنقصان الشهرِ في آخره.
وكان أيُّوب السَّختياني يغتسِلُ [كُلَّ]
(3)
ليلَةِ ثلاثٍ وعشرين، وَيمَسُّ طِيبًا، وليلَةَ أربعٍ وعشرين، ويقولُ: ليلَةُ ثلاثٍ وعشرين ليلَةُ أهلِ المدينة، وليلَةُ أربعٍ وعشرين ليلتنا. يعني أهلَ البصرة.
وكذلك كان ثابتٌ وحُمَيْدٌ يفعلان. وكانت طائفة تجتهدُ ليلَةَ أربعٍ وعشرين، رُوي عن أنسٍ والحسن، وروي عنه، قال: رَقَبْتُ الشَّمسَ عشرين سنة، ليلَة أربع وعشرين، فكانت تطلعُ لا شُعاعَ لها. ورُوي عن ابن عباس ذكره
(4)
البخاري عنه. وقيل: إن المحفوظ عنه أنَّها ليلةُ ثلاثٍ وعشرين، كما سبق. وقد تقدَّم حديثُ "إنزال القرآن في ليلةِ أربعٍ وعشرين". وكذلك أبو سعيد الخدريُّ، وأبو ذَرٍّ، حسبا الشهرَ تامًّا، فيكون عندهما أوَّلُ السَّبْع الأواخر ليلَةَ أربع وعشرين. وممَّن اختار هذا القولَ ابنُ عبد البرّ، واستدَلَّ بأنَّ الأصل تمامُ الشهر، ولهذا أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بإكماله إذا غُمَّ، مع احتمال نُقصانِه
(5)
. وكذلك رجَّحَه بعضُ أصحابنا. وقد تقدَّم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان ليلة أربع وعشرين لم يذُقْ غَمْضًا، وإسنادُهُ ضعيفٌ. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدُلُّ على أن أوَّلَ السَّبْع البواقي ليلَةُ ثلاثٍ وعشرين. ففي مسند الإِمام أحمد
(6)
، عن جابر: أن عبد الله بن أُنَيْسٍ سألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القَدْر، وقد خَلَتْ اثنتان وعشرون ليلةً، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: التمِسُوها في هذه السَّبْع الأواخر التي بقين من الشهر.
(1)
مصنف ابن أبي شيبة 3/ 75 في الصيام: باب ما قالوا في ليلة القدر واختلافهم فيها.
(2)
من هنا وحتى قوله: "ومسلم من حديث أبي سعيد ص 356 س 16" تأخر في ش.
(3)
زيادة من ب، ع.
(4)
قوله: "ذكره البخارى عنه، وقيل: إنَّ" لم يرد في (آ).
(5)
في آ، ع:"نقصه".
(6)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 175 وقال: "رواه أحمد وهو في الأصل كما ترى، وإسناده حسن".
وفيه
(1)
أيضًا عن عبد الله بن أُنَيْس أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة القَدْرِ، وذلك مساء ليلَةِ ثلاثٍ وعشرين، فقال: التمِسُوها هذه الليلة. فقال رجلُ مِن القوم: فهي إذن يا رسولَ الله أُولى ثمانٍ؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّها ليسَتْ بأُولَى ثمانٍ، ولكنها أُولَى سبعٍ؛ إنَّ الشَّهْرَ لا يتِمُّ. وفيه
(2)
أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"كم مَضَى من الشهر؟ قلْنا: مَضَتْ ثنتان وعشرون، وبقي ثمانٍ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: لا، بل مضَتْ ثنتان وعشرون، وبقي سَبْعٌ، اطلبُوها الليلَةَ. وقد يُحمَلُ هذا على شهرٍ خاصٍّ اطَّلَعَ النبُّي صلى الله عليه وسلم على نقصانِهِ، وهو بعيدٌ. ويدُلُّ على خلافِهِ أنَّه رُوي في تمام حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الشهرُ هكذا وهكذا وهكذا، ثم خنَسَ إبهامَه في الثالثة". فهذا يدُلُّ على أنَّه تشريعٌ عام، وأنَّه حسبَ الشَّهْرَ على تقدير نُقصانِه أبدًا؛ لأنَّه المتيقَّنُ. كما ذهَبَ إليه أيُّوب ومالك وغيرُهما، وعلى قولهما تكون ليلة سابعةٍ تبقى ليلةَ ثلاثٍ وعشرين، وليلةُ خامسةٍ تبقى ليلةً خمسٍ وعشرين، وليلةُ تاسعةٍ تبقى ليلةً إحدى وعشرين.
وقد رُوي عن النُّعمان بن بشير رضي الله عنه أنَّه أنكر أن تُحسَبَ ليلةُ القدر بما مَضَى من الشهر، وأخبَرَ أن الصَّحابة يحسِبُونها بما بقي منه، وهذا الاحتمالُ إنَّما يكون في مثل قولِ النبي صلى الله عليه وسلم:"التمِسُوها في التاسعةِ، والسابعةِ، والخامسة". وقد خرَّجه "البخاري"
(3)
من حديث عُبَادَةَ رضي الله عنه، ومسلم
(4)
من حديث أبي سعيدٍ؛ فإنَّه يحتمل أن يُرادَ به التاسعة والسابعة والخامسة، مما
(5)
يبقى ومما يَمضِي. فأمَّا حديثُ ابن عبَّاس وأبي بَكْرَةَ وما في معناهما؛ فإنَّها مقيدَةٌ بالباقي من الشهر، فلا يحتمل أن
(1)
مسند أحمد 3/ 495.
(2)
مسند أحمد 2/ 251 وإسناده صحيح. وأخرجه ابن ماجه رقم (1656) في الصيام: باب ما جاء في "الشهر تسع وعشرون". وفي زوائد البوصيري: إسناده صحيح على شرط مسلم. وذكره الألباني في "صحيح ابن ماجه" 1/ 277.
(3)
4/ 267 و 268 رقم (2023) في صلاة التراويح: باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس، وفي الإيمان: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، وفي الأدب: باب ما ينهى من السباب واللعن.
(4)
رقم (1167) في الصيام: باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها.
(5)
في ب، ط:"بما يبقى وبما يمضي"، وفي ش: "فيما
…
".
يُراد به الماضي، وحينئذٍ يتوجَّه الاختلافُ السَّابقُ في أنَّه: هل يُحسب على تقدير تمام الشهر أو نقصانه؟ وحديثُ ابن عبَّاس قد رُوِي بالشكِّ فيما مَضَى أو يبقَى. وقد خرَّجه البخاري بالوجهين.
وحديث أبي ذرٍّ في قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهم أَفرادَ العشر الأواخر قد خرَّجه أبو داود الطيالسي بلفظٍ صريح أنَّه قام بهم أشْفَاعَ العشر الأواخِرِ، وحسَبَها أوتارًا بالنسبة إلى ما يبقى من الشهر، وقدَّره تامًّا، وجعَلَ الليلةَ التي قامها حتى خشوا أن يفوتَهُم الفلاحُ ليلَةَ ثمانٍ وعشرين، وهي الثالثة مما يبقَى. وقد قيل: إن ذلك من تصرُّف بعضِ الرُّواةِ بما فهمه من المعنى، والله أعلم. وعلى قياس من حَسَبَ الليالي الباقية من الشهر، على تقدير نقصان الشهر ينبغي أن يكون عندَه أوَّلُ العشر الأواخِرِ ليلَةَ العشرين؛ لاحتمال أن يكون الشهرُ ناقصًا، فلا يتحقَّقُ كونُها عَشْرَ ليالٍ، بدون إدخال ليلةِ العشرين فيها.
وقد يُقال: بل العَشْرُ الأواخر عبارةٌ عمَّا بعدَ انقضاءِ العشرين الماضية من الشَّهر، وسواءٌ كانت تامَّةً أو ناقِصَةً، فهي المعبَّر عنها بالعشر الأواخر، وقيامها هو قيام العشر الأواخر. وهذا كما يقال: صامَ
(1)
عشر ذي الحجة، وإنما يصام منه تسعة أيامٍ؛ ولهذا كان ابنُ سيرين يكرَه أن يقالَ: صام عشر ذي الحجة، وقال: إنَّما يقال: صام التسع. ومن لم يكرهْهُ، وهم الجمهور، فقد يقولون: الصِّيامُ المضافُ إلى العشر هو صيامُ ما يمكن منه، وهو ما عدا يوم النحر. ويطلق على ذلك: العشر، لأنَّه أكثَرُ العَشْرِ، والله أعلم.
وقد اختلف الناس في ليلة القَدْر اختلافًا كثيرًا، فحُكِي عن بعضهم أنَّها رُفِعَتْ؛ وحديثُ أبي ذَرٍّ يَرُدُّ ذلك. ورُوي عن محمد بن الحنفيَّة أنَّها في كُلِّ سبْع سنين مرَّةً، وفي إسناده ضعفٌ. وعن بعضهم أنَّها في كُلِّ السَّنة، حُكِي عن ابن مسعودٍ وطائفةٍ من الكوفيين، ورُوي بهن أبي حنيفة. وقال الجمهور: هي في رمضان كُلَّ سنة، ثم منهم من قال: هي في الشَّهْر كلَّه. وحُكِي عن بعض المتقدِّمين أنَّها أوَّلُ ليلةٍ منه. وقالت
(1)
في آ: "صيام".
طائفة: هي في النصف الثاني منه. وقد حكي عن أبي يوسُف ومحمَّد - وقد تقدَّم - قولُ مَن قال: إنَّها ليلةُ بدْرٍ، على اختلافهم؛ هل هي ليلةُ سبعَ عشرَةَ، أو تسْعَ عشرَةَ. وقال الجمهور: هي منحصرة في العشر الأواخر، واختلفوا في أي ليالي العشر أرجَى
(1)
؛ فحُكِي عن الحسن ومالك أنَّها تُطلَبُ في جميع ليالي العشر؛ أشفاعِهِ وأوتارِهِ، ورجَّحَه بعضُ أصحابنا، وقال: لأنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "التمِسُوها في تاسعةٍ تبقى، أو سابعةٍ تبقَى، أو خامِسَةٍ تبقَى" إنْ حملْنَاهُ على تقدير كمالِ الشهر، كانت أشفاعًا، وإنْ حملْنَاهُ على ما يبقى منه حقيقةً كان الأمر موقوفًا على كمالِ الشهر، فلا يُعلم قبلَه. فإنْ كان تامًّا كانت الليالي المأمور بطلبها أشفاعًا، وإن كان ناقصًا كانت أوتارًا. فيوجِبُ ذلك الاجتهاد في القيام في كلا الليلتين؛ الشَّفْعِ منها والوِتْر.
وقال الأكثرون: بل بعضُ لياليه أَرْجَى من بعض، وقالوا: الأوتار أرجَى في الجملةِ. ثم اختلفوا: في أيِّ أوتارِه أَرْجَى؛ فمنهم من قال: ليلة إحدَى وعشرين، وهو المشهور عن الشافعي؛ لحديث أبي سعيدٍ الخدريّ، وقد ذكرناه فيما سبق. وحُكِي عنه أنَّها تُطْلَبُ ليلةَ إحدى وعشرين، وثلاثٍ وعشرين، قال في "القديم": كأني رأيت - والله أعلم - أقوَى الأحاديث فيه ليلةَ إحدى وعشرين، وليلة ثلاثٍ وعشرين. [وهي التي مات فيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه]
(2)
. وقد جاء في ليلةِ سبعَ عشرَةَ، وليلةِ أربعٍ وعشرين، وليلةِ سبعٍ وعشرين. انتهى
(3)
. وقد روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنَّها تُطلب ليلة إحدى وعشرين وثلاثٍ وعشرين.
وحُكي للشافعي
(4)
قولٌ آخَرُ أن أرجاها ليلةُ ثلاثٍ وعشرين. وهذا قولُ أهلِ المدينة. وحكاه سفيان الثورِيُّ عن أهل مكَّة والمدينة. وممن رُوي عنه "أنَّه كان يوقِظُ أهله فيها" ابنُ عباسٍ وعائشة، وهو قولُ مكحولٍ. وروى رِشْدِيْن بن سَعْدٍ، عن زُهْرَةَ بن مَعْبَدٍ، قال: أصابني احتلامٌ في أرض العدوٍّ وأنا في البحر ليلةَ ثلاثٍ وعشرين
(1)
في آ، ب، ش:"أرجا".
(2)
زيادة من المطبوع.
(3)
حتى قوله: "وثلاث وعشرين" ساقط في آ، وفي ش: "وفي المسند أيضًا من وجه آخر عن ابن مسعود عن علي
…
".
(4)
في آ: "وحكي للشافعي وأحمد".
في رمضانَ، فذهبْتُ لأغتسِلَ فسقطْتُ في الماء، فإذا الماءُ عَذْبٌ، فناديت أصحابي أعلمُهم أنِّي في ماءٍ عَذْبٍ. قال ابنُ عبد البر: هذه الليلة تُعْرَفُ بليلة الجُهَنيِّ بالمدينة، يعني عبد الله بنَ أُنَيْسٍ؛ وقد رُوي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَه بقيامها.
وفي صحيح مسلم
(1)
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدرِ: "أُرِيتُ أني أسجدُ صبيحتَها في ماءٍ وطينٍ. فانصرَفَ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاةِ الصبح يومَ ثلاثٍ وعشرين وعلى جبهته أثرُ الماءِ والطِّين". وقال سعيد بن المسيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم في نفرٍ من أصحابه، فقال: ألا أُخبِرُكم بليلةِ القَدْر؟ قالوا: بلى، يا رسولَ الله، فسكَتَ ساعةً، فقال: لقد قلْتُ لكم ما قلْتُ آنفًا، وأنا أعلمها، ثم أُنسِيتُها، أرأيتُم يومًا كنَّا بموضع كذا وكذا، أيّ ليلةٍ هي؟ في غزوة غزاها، فقالوا: سِرنا فقفلنا
(2)
حتى استقام ملأ القومِ على أنَّها ليلةُ ثلاثٍ وعشرين. خرَّجه عبدُ الرزاق
(3)
في كتابه.
ورجَّحَتْ طائفةٌ "ليلةَ أربعٍ وعشرين"، وهم الحسَنُ وأهلُ البصرة؛ وقد رُوي عن أنس. وكان حُمَيدٌ وأيّوبُ وثابتٌ يحتاطون فيجمَعون بين الليلتين، أعني ليلةَ ثلاثٍ وأربعٍ.
ورجَّحَتْ طائفةٌ ليلَةَ سبْعٍ وعشرين، وحكاه الثوريُّ عن أهل الكوفة، وقال: نحن نقول: هي ليلةُ سبْعٍ وعشرين، لما جاءَنا عن أبيّ بن كعب. ومِمَّن قال بهذا أبيُّ بنُ كَعْبٍ - وكان يحلِفُ عليه ولا يستثني - وزِزّ بنُ حُبَيش، وعَبدة بن أبي لُبابة.
ورُوي عن قَنان
(4)
بن عبد الله النَّهْمِي، قال: سألت زِرًّا عن ليلةِ القَدْر، فقالَ: كان عُمَرُ وحذيفَةُ وأناسٌ مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يشُكُّون أنَّها ليلةُ سبْعٍ وعشرين.
(1)
رقم (1168) في الصيام: باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها.
(2)
في آ: "ففعلنا".
(3)
مصنف عبد الرزاق 4/ 249 في ليلة القدر. وانظر "الفتح الباري" 4/ 268 في فضل ليلة القدر.
(4)
تحرف في النسخ، ففي المطبوع:"النهسي"، وفي آ:"حبان بن عبد الله السهمي"، وفي ع:"عباد بن عبد الله السهمي،، وفي ش: "قتادة بن عبد الله السهمي"؛ والمثبت من نسخة (ب). وهو قنان بن عبد الله النهمي، مقبول، من السادسة، ذكره ابن حبان في الثقات. (تهذيب التهذيب 1/ 384).
خرجه ابنُ أبي شيبة
(1)
، وهو قولُ أحمدَ واسحاقَ. وذهب أبو قلابَةَ وطائفةٌ إلى أنَّها تنتقِلُ في ليالي العشر. ورُوِي عنه أنَّها تنتقِلُ في أوتاره خاصَّةً. وممن قال بانتقالِها في ليالي العشر: المُزَنيُّ، وابنُ خُزَيمة. وحكاه ابنُ عبد البرِّ عن مالكٍ والثوريِّ والشافعي وأحمدَ واسحاقَ وأبي ثَوْرٍ؛ وفي صِحَّة ذلك عنهم بُعْدٌ؛ وإنَّما قولُ هؤلاء أنَّها في العشر، وتُطلَبُ في لياليه كُلِّه.
واختلفوا في أرجَى
(2)
لياليه كما سَبَقَ، واستدَلَّ مَن رجَّح ليلةَ سبْع وعشرين بأنَّ أبيَّ بنَ كعبٍ كان يحلف على ذلك، ويقول: بالآية أو بالعلامة التي أخبرنا بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن الشمسَ تطلعُ في صبيحتها لا شُعَاعَ لها. خرَّجَه مسلم
(3)
. وخرَّجه أيضًا بلفظ آخر عن ابن بن كعبٍ رضي الله عنه، قال: والله، إنِّي لأعلم أيَ ليلةٍ هي، هي الليلةُ التي أمرَنا بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلةُ سبْعٍ وعشرين.
وفي مسند الإِمام أحمد
(4)
عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أن رجلًا قال: يا رسولَ الله، إنِّي شيخٌ كبيرٌ عليل يَشُقُّ عليَّ القيامُ، فمُرْني بليلةٍ [لعل الله] يوفِّقني فيها لليلة القَدْرِ. قال:"عليك بالسابِعة". وإسنادُه على شرط البخاري.
ورَوى الإمام أحمدُ
(5)
أيضًا، قال: حدَّثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شعبة، عن
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 3/ 74 في الصيام.
(2)
في ب، ش:"أرجا".
(3)
أخرج مسلم رقم (762) في صلاة المسافرين: باب الترغيب في قيام رمضان وهوه التراويح، وفي الصيام: باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها، عن زِرّ بن حبيش، قال: سمعت أبيَّ بن كعب رضي الله عنه يقول: - وقيل له: إن عبد الله بن مسعود يقول: من قام السَّنة أصاب ليلة القَدْر - فقال أبيّ: والله الذي لا إله إلا هو، إنَّها لفي رمضان - يحلِفُ لا يستثني - وواللهِ إنِّي لأعلم أيُّ ليلة هي، هي الليلةُ التي أمرَنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلةُ صبيحةِ سبعٍ وعشرين، وأمارتها أن تطلُع الشمس في صبيحة يومِها بيضاءَ، لا شُعاعَ لها. وفي رواية، قال: سألتً أبيَّ بن كعب، فقلت: إن أخاك ابن مسعودٍ يقول: من يقم الحولَ يُصبْ ليلة القدر، فقال: رحمه الله، أراد ألا يَتَّكِلَ الناسُ، أَمَا إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، ثم حلف - لا يستثني - إنها ليلة سبعٍ وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ فقال: بالعلامة - أو بالآية - التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنها تطلع الشمس يومئذٍ. لا شعاع لها.
(4)
مسند أحمد 1/ 240، وإسناده صحيح. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 176 وقال:"رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".
(5)
مسند أحمد 2/ 27 وإسناده صحيح. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 176 وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".
عبد الله بن دينارٍ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَن كان منكم متحرِّيها فليتحرَّها ليلةَ سبعٍ وعشرين"، أو قال:"تحرَّوْها ليلةَ سبعٍ وعشرين"، يعني ليلَةَ القَدْرِ. ورواه شبابة ووهبُ بن جَرير، عن شعبة مثلَه. ورواه أسودُ بن عامرٍ عن شعبَةَ مثلَه، وزاد "في السبع البواقي".
قال شعبة: وأخبرني رجلٌ ثقةٌ عن سفيان أنَّه إنَّما قال: "في السَّبْع البواقي"، يعني لم يقُلْ ليلَةَ سبعٍ وعشرين. قال أحمد في رواية ابنه صالح: الثقةُ هو يحيى بن سعيد. قال شعبة: فلا أدري أيّهما. قال: ورواه عمرٌو، عن شعبةَ، وقال في حديثه:"ليلة سبْعٍ وعشرين"، أو قال:"في السَّبْع الأواخر" بالشَّكِّ، فرجَعَ الأمر إلى أن شعبة شكَّ في لفظه. ورواه حمَّاد بن زيد، عن أَيُّوبَ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: كانوا لا يزالون يقصّون على النبي صلى الله عليه وسلم أنَّها الليلةُ السابعةُ من العشرِ الأواخر. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أرَى رُؤياكم قد تواطاتْ أنَّها ليلَةُ السابعةِ في العشر الأواخر، فمن كان متحرّيها فَلْيَتَحَرَّها ليلَةَ السابعةِ من العَشْر الأواخر". كذا رواه حنبلُ بنُ إسحاق، عن عارِم، عن حمَّاد. وكذا خرَّجه الطحاويُّ
(1)
، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارِمٍ.
ورواه البخاري في "صحيحه"
(2)
عن عارمٍ، إلَّا أنَّه لم يذكر لفظةَ "ليلة السابعة"، بل قال: من كان مُتَحَرِّيها فَلْيَتَحَرَّها في العشر الأواخِرِ.
ورواه عبد الرزَّاق
(3)
في كتابه عن مَعْمَرٍ، عن أيُّوبَ، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي رأيتُ في النوم ليلَةَ القَدْرِ كأنَّها ليلَةُ سابعة، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إني أرَى رؤياكم قد تواطأت أنَّها ليلةُ سابعةٍ، فمن كان متحرِّيها منكم فليتحرَّها في ليلة سابعةٍ. قال معمر: فكان أيُّوبُ يغتسِلُ في ليلةِ ثلاثٍ وعشرين، يُشير إلى أنَّه حمَلَها على سابعةٍ تبقى.
(1)
شرح معاني الآثار 3/ 91.
(2)
أخرجه البخاري 4/ 256 في فضل ليلة القدر، و 12/ 379 في التعبير، ومسلم رقم (1165) في الصيام. وانظر اختلاف الروايات في "جامع الأصول" 9/ 243 - 244.
(3)
مصنف عبد الرزاق 4/ 249 الحديث رقم (7688).
وخرَّجه الثعلبيُّ
(1)
في "تفسيره" من طريق الحسن بن عبد الأعلى، عن عبد الرزَّاق بهذا الإِسناد، وقال: في حديثه "ليلة سابعةٍ تبقى"، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"إنِّي أَرَى رؤياكم قَدْ تواطأَتْ على ثلاثٍ وعشرين، فمن كان منكم يريدُ أن يقومَ مِن الشهر شيئًا فليقُمْ ليلَةَ ثلاثٍ وعشرين". وهذه الألفاظ غيرُ محفوظةٍ في الحديث، والله أعلم.
وفي سنن أبي داود
(2)
بإسنادٍ رجالُه كلُّهم رجالُ الصحيح، عن معاويةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر ليلة سبْعٍ وعشرين. وخرَّجه ابنُ حِبَّان
(3)
في صحيحه، وصحَّحه ابنُ عبد البرِّ؛ وله عِلَّةٌ، وهي وَقْفُه على معاويةَ. وهو أصحُّ عند الإِمام أحمد
(4)
والدَّارقطني. وقد اختُلِف أيضًا عليه في لفظه. وفي المسند
(5)
عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: متى ليلَةُ القَدْر؟ فقال: من يذكُرُ منكم ليلَةَ الصَّهباوات؟ قال عبد الله: أنا، بأبي أنتَ وأُمِّي! وإنَّ في يدي لتَمَرات أتسحَّرُ بِهِنَّ مستترًا بمؤخّرةِ رحلي
(6)
من الفجر، وذلك حين طلع القمرُ.
وخرَّجه يعقوب بن شيبَةَ
(7)
في مسنده، وزاد "وذلكَ ليلَةَ سبْعٍ وعشرين". وقال: صالحُ الإسناد.
والصَّهباوات: موضِعٌ بقُرْب خيبرَ. وفي المسند
(8)
أيضًا من وجهٍ آخر عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ ليلَةَ القَدْر في النصف مِن السَّبْعِ الأواخر من رمضانَ". وإذا حسبنا أوَّلَ السَّبع الأواخر ليلةَ أربعٍ وعشرين، كانت ليلةُ
(1)
هو أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو إسحاق؛ مفسر، من أهل نيسابور، وله "الكشف والبيان في تفسير القرآن"، ويعرف بتفسير الثعالبي، وهو مخطوط كما ذكر الزركلي رحمه الله في الأعلام 1/ 212 - .
(2)
رواه أبو داود رقم (1386) في الصلاة: باب من قال سبعٍ وعشرون.
(3)
صحيح ابن حبان 5/ 273 في الصوم: باب الاعتكاف وليلة القدر.
(4)
مسند أحمد 5/ 132 من حديث أبي بن كعب.
(5)
مسند أحمد 1/ 376 و 396 و 453.
(6)
في ب، ط:"رحل".
(7)
يعقوب بن شَيْبَة بن الصلت بن عصفور، أبو يوسف، السدوسي، البصري، البغدادي، عالم ثقة، صاحب "المسند" الكبير، العديم النظير المعلل، الذي تم من مسانيده نحو من ثلاثين مجلدًا، ولو كمل لجاء في مائة مجلد. توفي سنة 262 هـ. (سير أعلام النبلاء 12/ 476).
(8)
رواه الإمام أحمد في مسنده 1/ 406 و 457 بأطول من هذا.
سبْعٍ وعشرين نصفَ السبْعِ؛ لأنَّ قبلَها ثلاثُ ليالٍ، وبعدَها ثلاث ليالٍ. ومِمَّا يرجِّحُ أن ليلَةَ القَدْر ليلَةُ سبْعٍ وعشرين أنَّها من السَّبْع الأواخر التي أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بالتماسِها فيها، بالاتفاق. وفي دخول الثالثة والعشرين في السَّبعِ اختلافٌ سَبَقَ ذِكْرُه. ولا خلافَ أنَّها آكَدُ مِن الخامِسَةِ والعشرين. ومما يَدُلُّ على ذلك أيضًا حديثُ أبي ذَرٍّ في قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهم في أفراد السَّبْعِ الأواخر، وأنه قام بهم في الثالثة والعشرين إلى ثلث الليل، وفي الخامسة إلى نصف الليل، وفي السابعة إلى آخر الليل؛ حتى خَشُوا أن يفوتَهم الفلاحُ. وجَمَع أهلَه ليلتئذ، وجمَعَ النَّاسَ.
وهذا كُلُّه يَدُلُّ على تأكُّدها على سائر أفراد السبع والعشر. ومما يَدُلُّ على ذلك ما استشهَدَ به ابنُ عبَّاس بحضرة
(1)
عمر رضي الله عنه والصحابة معه، واستحسَنَه عُمَرُ رضي الله عنه. وقد روي من وجوهٍ متعددةٍ، فروَى عبدُ الرزَّاق
(2)
في كتابه عن مَعْمَر، عن قتادَةَ وعاصمٍ، أنهما سمِعا عِكْرِمَةَ يقول: قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما: دعا عُمَرُ بنُ الخطاب أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم، فسألَهم عن ليلة القَدْر، فأجْمَعُوا أنَّها في العشر الأواخِر. قال ابنُ عبَّاس: فقلْتُ لعُمَرَ رضي الله عنه: إنِّي لأعلم - أو إنِّي لأظنُّ - أيّ ليلةٍ هي. قال عمر: وأيّ ليلةٍ هي؟ قلْت: سابعة تمضي، أو سابِعَة تبقَى من العشر الأواخر. فقال عُمَرُ رضي الله عنه: ومن أين علِمْتَ ذلك؟ قال: فقلْتُ: إنَّ الله خَلَقَ سَبْعَ سموات، وسبع أرضين، وسبعةَ أيام، وأنَّ الدَّهر يدورُ على سبْعٍ، وخلَقَ الله الإنسان من سَبْع، ويأكل من سَبْعٍ، ويسجد على سبْعٍ، والطَّواف بالبيت سَبْع، ورَمْي الجمار سبْعٌ، لأشياء ذكرَهَا. فقال عمر رضي الله عنه: لقد فَطِنْتَ لأمرٍ ما فطِنَّا له.
وكان قتادة يزيدُ على
(3)
ابن عباس في قوله "يأكل من سبْعٍ"، قال: هو قولُ الله عز وجل: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}
(4)
. ولكن في هذه الرواية أنها في سبْعٍ تمضي أو تبقَى، بالترديد في ذلك.
(1)
في ش، ع:"بمحضر".
(2)
مصنف عبد الرزاق 4/ 246 الحديث رقم (7679).
(3)
في آ، ش، ع:"عن".
(4)
سورة عبس الآيات 27 - 31.
وخرَّجه ابنُ شاهين من رواية عبد الواحد بن زياد، عن عاصم الأحول، حدثني لاحق بنُ حُمَيد وعكرمة، قالا: قال عُمَرُ رضي الله عنه: مَن يَعلم ليلَةَ القَدْرِ؟ فذكرَ الحديثَ بنحوه. وزاد أنَّ ابنَ عباس، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: هي في العشر؛ في سبْعٍ تمضي أو سَبْعٍ تبقَى، فخالَفَ في إسناده وجعلَه مرسلًا، ورفع آخرهُ. روى ابنُ عبد البر بإسنادٍ صحيح من طريق سعيد بن جُبير، قال: كان ناسٌ من المهاجرين وَجَدوا على عُمَرَ في إدنائه ابنَ عباسٍ، فجمَعَهم ثم سألهم عن ليلةِ القَدْرِ، فأكثروا فيها، فقال بعضُهم: كُنَّا نراها في العشر الأوسط، ثم بلغنا أنَّها في العشر الأواخر، فأكثروا فيها؛ فقال بعضُهم: ليلَةَ إحدى وعشرين. وقال بعضُهم: ليلةَ ثلاثٍ وعشرين. وقال بعضُهم: ليلة سبعٍ وعشرين.
فقال عُمَرُ رضي الله عنه: يا بنَ عبَّاس، تكلَّم، فقال: الله أعلم. قال عُمَرُ: قد نعلَم أن الله يعلَمُ، وإنَّما نسالك عن علمك. فقال ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما: إنَّ الله وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ، خلَقَ مِن خَلْقِه سَبْعَ سماواتٍ فاسْتَوَى عليهن، وخَلَقَ الأرضَ سبْعًا، وجَعَلَ عِدَّةَ الأيَّام سبْعًا، ورَمْيَ الجمار سبْعًا، وخَلَقَ الإنسانَ مِن سَبْعٍ، وجَعَلَ رِزْقَه مِن سَبْعٍ. فقال عُمَرُ: خُلِق الإِنسان مِن سَبْعٍ، وجعل رزقه من سبْعٍ، هذا أمرٌ ما فهِمتُه، فقال: إنَّ الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}
(1)
(2)
، ثم قال: والأبُّ
(3)
للدوابِّ. وخرَّجه ابنُ سعدٍ في "طبقاتِهِ" عن إسحاقَ الأزرقِ، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، فذكره بمعناه، وزاد في آخره:"قال: وأمَّا ليلَةُ القَدْر فما نراها إن شاء الله، إلا ليلة ثلاثٍ وعشرين يمضين، أو سبْعٍ يبقين". والظاهر أن هذا سمِعَه سعيدُ بن جبير من ابن عبَّاس، فيكون متصلًا.
(1)
سورة المؤمنون الآية 12.
(2)
سورة عبس الآيات 25 - 32.
(3)
الأبُّ: المرعى وكل ما أنبتت الأرض مما تأكله البهائم، كالكلأ والعشب.
ورَوَى عاصم بن كليبٍ، عن أبيه، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، قال: دعا عُمَرُ الأشياخَ من أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ، فقال لهم: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه - قال في ليلة القَدْر ما قَدْ علِمْتُم: "التمِسُوها في العشْرِ الأواخر وِتْرًا"
(1)
، ففي أي الوتر ترونها؟ فقال رجل برأيهِ: إنها تاسعةٌ، سابعةٌ، خامِسَةٌ، ثالثة. ثم قال: يا ابن عبَّاس، تكلَّم، فقلْتُ: أقولُ برأيي؟ قال: عن رأَيك أسألك، فقلْتُ: إنِّي سمِعْتُ الله أكثَرَ مِن ذكر السَّبْعِ، وذَكَرَ باقيه بمعنى ما تقدَّم. وفي آخره: قال عُمَرُ رضي الله عنه: أعجزتم أن تقولوا مثلَ ما قال هذا الغلامُ الذي لم تستوِ شؤون رأسِه؟! خرَّجه الإسماعيلي في مسند عُمَرَ، والحاكم
(2)
، وقال: صحيحُ الإِسناد. وخرَّجه الثعلبي في "تفسيره" وزاد "قال ابنُ عباسٍ: فما أُراها إلا ليلةَ ثلاثٍ وعشرين لسبْعٍ يَبقين". وخرَّج علي بن المديني في "كتاب العلل" المرفوع منه، وقال: هو صالح، وليس مما يحتج به.
وروى مُسلم
(3)
الملائي - وهو ضعيفٌ - عن مجاهد، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، أنَّ عُمَرَ قال له: أخبرني برأيك عن ليلة القَدْرِ، فذَكَر معنَى ما تقدَّم. وفيه أن ابنَ عباس قال: لا أراها إلا في سبْعٍ يَبقين من رمضانَ، فقال عُمَرُ: وافَقَ رأيى رأيكَ. ورُوي بإسنادٍ فيه ضعفٌ، عن محمد بن كعبٍ، عن ابن عبَّاس: أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جَلَسَ في رَهْطٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا ليلَةَ القَدْرِ، فذكر معنَى ما تقدَّم، وزاد فيه: عن ابن عباس أنه قالَ: وأعطي من المثاني سبعًا، ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سَبْع، وقسم الميراث في كتابه على سبْعٍ، ونقعُ في السُّجود من أجسادنا على سبْعٍ؛ وقال: فأُراها في السبع الأواخر من رمضانَ. وليس في شيءٍ من هذه الروايات أنَّها ليلَةُ سبْعٍ وعشرين جَزْمًا، بل في بعضها الترديدُ بين ثلاثٍ وسبعٍ، وفي بعضها أنَّها ليلَةُ ثلاثٍ وعشرين؛ لأنها أوَّلُ السَّبْع الأواخر على رأيه.
وقد صحَّ عن ابن عبَّاسٍ أنَّه كان ينضحُ على أهله الماءَ ليلَةَ ثلاثٍ وعشرين.
(1)
من حديث طويل أخرجه البخاري ومسلم، وقد مضى تخريجه.
(2)
رواه الحاكم في "المستدرك" 1/ 437 - 438 على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
(3)
هو مسلم بن كيسان الضَّبِّيُّ، المُلَائي البرّاد الأعور، أبو عبد الله الكوفي، ضعيف، من الطبقة الخامسة. (التقريب 2/ 246).
خرَّجه عبد الرزَّاق
(1)
، وخرَّجه ابنُ أبي عاصمٍ مرفوعًا، والموقوف أصحُّ. وقد استنبط طائفةٌ من المتأخرين من القرآن أنَّها ليلَةُ سبْعٍ وعشرين من موضعين:
أحدهما: أنَّ الله تعالى كَرَّرَ ذِكْر ليلَةِ القَدْر في سورة القَدْر في ثلاثة
(2)
مواضع منها، وليلة القَدْرِ حروفُها تسْعُ حُروفٍ، والتسعُ إذا ضُرِبَت في ثلاثةٍ فهي سبْعٌ وعشرون.
والثاني: أنَّه قال: "سلام هي" فكلمة "هي" هي الكلمة السابعةُ والعشرون مِن السورة؛ فإنَّ كلماتها كلَّها ثلاثون كلمة.
قال ابنُ عطية
(3)
: هذا من مُلَح التفسير لا مِن مَتين العلم، وهو كما قال.
ومما استدَلَّ به من رجَّح ليلَةَ سَبْعٍ وعشرين بالآيات والعلامات التي رويت فيها قديمًا وحديثًا؛ وبما وقع فيها من إجابةِ الدعوات، فقد تقدَّم عن أبيّ بن كعب أنَّه استدَلَّ على ذلك بطلوعِ الشَّمسِ في صبيحتها لا شُعَاعَ لها. وكان عَبْدَةُ بنُ أبي لُبابة يقولُ: هي ليلةُ سبْعٍ وعشرين، ويستدلُّ على ذلك بأنَّه قد جَرَّبَ ذلك بأشياءَ وبالنجوم. خرَّجه عبد الرزَّاق
(4)
. وروي عن عَبْدَةَ أنه ذاق ماء البحر ليلَةَ سبْعٍ وعشرين، فإذا هو عَذْبٌ؛ ذَكَره الإمامُ أحمدُ
(5)
بإسناده.
وطاف بعضُ السَّلَف ليلَةَ سبْعٍ وعشرين بالبيت الحرام، فرأى الملائكةَ في الهواء طائفين فوقَ رؤوس الناس. وروَى أبو موسى المديني من طريق أبي الشيخ الأصبهاني بإسنادٍ له عن حمَّاد بن شعيب، عن رجلٍ منهم، قال: كنت بالسَّواد، فلمَّا كان في العشر الأواخر جعلْتُ أنظرُ بالليل، فقال لي رجلٌ منهم: إلى أيِّ شيءٍ تنظُرُ؟ قلت: إلى ليلة القدر. قال: فَنَمْ، فإنِّي سأخبرك. فلما كان ليلة سبْعٍ وعشرين جاء وأخذ
(6)
(1)
مصنف عبد الرزاق 4/ 249 رقم (7686) في الصيام: باب في ليلة القدر.
(2)
في آ، ش، ع:"ثلاث".
(3)
هو عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي الغرناطي، أبو محمد. كان إمامًا في الفقه والتفسير والعربية، من أوعية العلم. له "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" نشر بعضه في المغرب، وبعضه في مصر. توفي سنة 542 هـ.
(4)
مصنف عبد الرزاق 4/ 251 في الصيام: باب في ليلة القدر.
(5)
وأخرجه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 5/ 229.
(6)
في آ، ع:"فأخذ".
بيدي، فذَهَبَ بي إلى النخل، فإذا النَّخْلُ واضِعٌ سَعَفَه في الأرض، فقال: لسنا نَرَى هذا في السَّنة كُلِّها إلَّا في هذه الليلة. وذكر أبو موسى بأسانِيدَ لهُ أنَّ رجُلًا مُقْعَدًا
(1)
دَعَا الله ليلَةَ سبْعٍ وعشرين فأطلَقَهُ. وعن امرأة مقعَدَةٍ كذلك. وعن رجُلٍ بالبصرة كان أخرَسَ ثلاثين سنةٍ، فدَعَا الله ليلَةَ سَبْعٍ وعشرين، فأُطلِقَ لسانُه فتكلَّمَ.
وذكر الوزير أبو المظفَّرِ بنُ هبيرة
(2)
أنَّه رأَى ليلةَ سبْعٍ وعشرين - وكانت ليلَةَ جُمُعَةٍ - بابًا في السَّماء مفتوحًا، شامِيَّ الكعبة، قال: فظننْتُه حيال الحجرة النَّبَوِيَّة المقدَّسة، قال: ولم يزل كذلك إلى أن التفتُّ إلى المشرقِ لأنظُرَ طُلُوعَ الفَجْر، ثم التفَتُّ إليه فوجدْتُه قد غَابَ. قال: وإن وَقَعَ في ليلةٍ من أوتارِ العَشْرِ ليلَةُ جُمُعَةٍ، فهي أرجَى مِن غيرها. واعْلم أن جميعَ هذه العلامات لا توجِبُ القطْعَ بليلَةِ القَدْر.
وقد رَوَى سَلَمةُ بن شَبيب
(3)
في كتاب "فضائل رمضان": حدثنا إبراهيم بن الحكم، حدثني أبي، قال: حدثني فَرْقدٌ: أن ناسًا من الصحابة كانوا في المسجد فسمعوا كلامًا من السَّماء، ورأوا نورًا من السَّماء، وبابًا من السَّماء، وذلك في شهر رمضانَ، فأخبروا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما رأوا، فزُعِمَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمَّا النُّورُ فنُورُ رَبِّ العِزَّة تعالى، وأمَّا البابُ فبابُ السَّماء، والكلامُ كلامُ الأنبياء، فكُلُّ شَهْرِ رمضانَ على هذه الحال، ولكنْ هذه ليلة كُشِفَ غِطاؤها. وهذا مرسَلٌ ضعيف.
وأما العملُ في ليلة القَدْر فقد ثبَتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن قام ليلةَ القَدْر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّم من ذنبه"
(4)
. وقيامُها إنَّما هو إحياؤها بالتهجُّد فيها والصَّلاةِ، وقد أمَرَ عائشة بالدُّعاء فيها أيضًا.
قال سفيان الثوريُّ: الدُّعاء في تلك الليلة أحبُّ إليَّ من الصَّلاة. قال: وإذا كان
(1)
المُقْعَد: الأعرج.
(2)
هو يحيى بن هبيرة بن محمد بن هبيرة الذهلي الشيباني، أبو المظفر، من كبار الوزراء في الدولة العباسية، عالم بالفقه والأدب، ونعت بالوزير العالم العادل، وله عدة مؤلفات. مات سنة 560 هـ. (الأعلام للزركلي 8/ 175).
(3)
سلمة بن شبيب النيسابوري، أبو عبد الرحمن، من كبار رجال الحديث، حدث عنه مسلم وأرباب السُّنن، رحل إلى مصر، وتوفي بمكة سنة 247 هـ.
(4)
أخرجه الشيخان، وقد سبق تخريجه.
يقرأ وهو يدعو ويرغبُ إلى الله في الدُّعاء والمسألة لعله يوافِقُ. انتهى. ومرادُه أن كثرَةَ الدُّعاءِ أفضَلُ من الصَّلاة التي لا يكثُر فيها الدُّعاء، وإن قرأ ودَعَا كان حسنًا. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجَّدُ في ليالي رمضانَ، ويقرأ قراءةً مرتَّلةً، لا يمرُّ بآيةٍ فيها رحمةٌ إلا سألَ، ولا بآيةٍ فيها عذابٌ إلَّا تعوَّذَ، فيجمَعُ بينَ الصَّلاةِ والقراءةِ والدُّعاء والتفكُّر. وهذا أفضَلُ الأعمال وأكمَلُها في ليالي العَشْرِ وغيرِها، والله أعلم. وقد قال الشعبيُّ في ليلة القدر: ليلُها كنهارِها.
وقال الشافعي في "القديم": أَستَحِبُّ أن يكونَ اجتهادُهُ في نهارها كاجتهادِهِ في ليلها. وهذا يقتضي استحباب الاجتهادِ في جميع زمان العَشْر الأواخر، ليلِه ونهارِه، والله أعلم.
المحبُّون تطولُ عليهم الليالي فيعدُّونها عَدًّا لانتِظار ليالي العَشْرِ في كُلِّ عامٍ، فإذا ظفِرُوا بها نالوا مطلوَبهُم وخدمُوا محبوبَهم.
قد مَزَّقَ الحبُّ قميصَ الصَّبْرِ
…
وقد غَدَوْتُ حائرًا في أَمْرِي
آهٍ على تلك الليالي الغُرِّ
…
ما كُنَّ إلَّا كليالي القَدْرِ
إن عُدْنَ لي مِن بَعْدِ هذا الهَجْرِ
…
وفيْتُ للهِ بِكل نَذْرِ
*وقام بالحمدِ خطيبُ شُكْري *
رياحُ هذه الأسحار تحمِلُ أنينَ المُذْنِبين، وأنفاسَ المحبِّين، وقصَصَ التائبين، ثم تعودُ بِرَدِّ الجواب بلا كتاب.
أعلمتُمُ أن النَّسِيمَ إذا سَرَى
…
حَمَلَ الحديثَ إلى الحبيب كما جَرَى
جَهِلَ العذول
(1)
بأنَّني في حُبِّهم
…
سَهَرُ الدُّجَى عندي ألَذُّ مِن الكَرَى
فإذا وَرَدَ بريدُ بَرْدِ السَّحَر يحمِلُ ملطَّفاتِ الألطافِ، لم يفهمْها غيرُ مَن كتِبَتْ إليه
(2)
.
(1)
في ب، ط:"الحبيب".
(2)
في هامش ع: "ولا يعقلها إلا كل مشتاق".
نسيمَ صَبَا نَجْدٍ مَتَى جئْتَ حامِلًا
…
تحيَّتَهم فاطْوِ الحديثَ عَنِ الرَّكْبِ
(1)
ولا تُذِعِ السِّرَّ المَصُونَ فإنَّني
…
أغارِّ على ذِكْرِ الأحِبَّة مِن صَحْبِي
يا يعقوبَ الهَجْرِ، قد هبَّتْ ريحُ يوسُفَ الوَصْلِ، فلو استنشقْتَ لعدْتَ بَعْدَ العَمَى بصيرًا، ولَوَجَدْتَ ما كنْتَ لفقده فقيرا.
كان لي قلبٌ أعيشُ به
…
ضَاعَ منِّي في تقلُّبهِ
رَبِّ! فارْدُدْهُ عليَّ فَقَدْ
…
عِيلَ صبْرِي في تطَلُّبِهِ
وأَغِثْنِي ما دام بي رَمَقٌ
…
يا غِياثَ المُسْتغِيثِ بِهِ
لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الانكسار، ورفَعُوا قصصَ الاعتذار مضمونها:{يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا}
(2)
لبرز لهم التوقيع عليها {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
(3)
.
أشكُو إلى اللهِ كما قَدْ شَكَى
…
أولادُ يعقوبَ إلى يوسُفِ
قَدْ مَسَّنِي الضُّرُّ وأَنْتَ الَّذي
…
تَعْلَمُ حالي وتَرَى مَوْقِفي
بضَاعَتِيَ المُزْجَاةُ مُحْتَاجَةٌ
…
إلى سَمَاح مِن كريمٍ وَفِيْ
فَقَدْ أَتَى المِسْكِينُ مُسْتَمْطِرًا
…
جُودَكَ فارْحَمْ ذُلَّهُ واعْطِفِ
فأوْفِ كَيْلِي وتَصَدَّقْ عَلَى
…
هذا المُقِلِّ البَائسِ الأضْعَفِ
قالت عائشة رضي الله عنها للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أرأيتَ إنْ وافقْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ، ما أقولُ فيها؟ قال: قولي: "اللهم، إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فاعْفُ عَنِّي"
(4)
. العَفُوُّ مِن أسماءِ الله تعالى، وهو المتجاوز عن سيِّئاتِ عبادِهِ، الماحِي لآثارِها عنهم
(5)
. وهو يُحِبُّ العَفْوَ؛
(1)
هذا البيت لم يرد في نسخة (آ).
(2)
سورة يوسف الآية 88.
(3)
سورة يوسف الآية 92.
(4)
أخرجه الترمذي رقم (3508) في الدعوات، باب رقم 89، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قال. وأخرجه أيضًا ابن ماجه رقم (3850) في الدعاء: باب الدعاء بالعفو والعافية، وأحمد في "المسند" 6/ 171 و 182 و 183.
(5)
وفي اللسان العَفوُّ: من أسماء الله تعالى، وهو فَعُول من العَفْو، وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المَحْوُ والطمْسُ، وهو من أبنية المبالغة.
فيُحِبُّ أن يَعْفُوَ عن عبادِهِ، ويُحِبُّ مِن عِبَادِهِ أن يَعْفُوَ بعضُهُم عن بعضٍ؛ فإذا عَفَا بعضُهم عن بَعْضٍ عاملَهم بِعَفْوِهِ، وعَفْوُه أحَبُّ إليه من عُقُوَبَتِه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أعوذُ بِرضاكَ من سَخَطِكَ، وعفوِك
(1)
من عُقُوبَتك"
(2)
.
قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العَفْوُ أَحَبَّ الأشياء إليه لم يبتَلِ بالذَّنْبِ أَكْرَمَ النَّاسِ عليه. يشير إلى أنَّه ابْتلَى كثيرًا من أوليائه وأحبابه
(3)
بشيءٍ من الذنوب؛ ليعامِلَهم بالعفو؛ فإنه سبحانه يُحِبُّ العَفْوَ. قال بعضُ السَّلف الصالح: لو علمتُ أحَبَّ الأعمال إلى الله تعالى لأجْهَدْتُ نفسي فيه. فرأى قائلًا يقولُ له في منامه: إنَّك تريدُ ما لا يكون، إنَّ الله يُحِبُّ أن يَعْفُوَ ويَغْفِرَ؛ وإنما أَحَبَّ أن يَعْفُوَ؛ ليكونَ العِباد كلُّهم تحتَ عَفْوِه، ولا يُدِلُّ عليه أحَدٌ منهم بعمَلٍ. وقد جاء في حديثِ ابن عبَّاس مرفوعًا "إن الله ينظُر ليلَةَ القَدْر إلى المؤمنين من أمةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَيَعْفُو عنهم ويرحَمُهُم، إلا أربعةً: مُدْمِنَ خَمْرٍ، وعاقًا، ومشاحِنًا، وقاطِعَ رحمٍ".
لمَّا عَرَفَ العارِفون جلاله
(4)
خَضَعُوا، ولمَّا سمِعَ المذنبون بِعَفْوِه طمِعُوا، ما ثم إلَّا عفو الله أو النار. لولا طَمَعُ المذنبين في العَفْوِ لاحتَرَقَتْ قلوُبهم باليأس من الرَّحمة، ولكن إذا ذكرَتْ عَفْوَ اللهِ استرْوَحَتْ إلى بَرْدِ عَفْوِه. كان بعضُ المتقدِّمين يقولُ في دعائه: اللهم، إنَّ ذنوبي قد عظُمت فجلَّتْ عن الصِّفة، وإنها صغيرة
(5)
في جَنْبِ عَفْوِك؛ فاعْفُ عَنِّي. وقال آخر منهم: جُرْمي عظيمٌ، وعَفْوُكَ كبيرٌ
(6)
؛ فاجْمَعْ بين جُرْمي وعَفْوِك يا كريم.
يا كبيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ اللهِ مِن ذَنْبِكَ أكبَرُ
أكبَرُ الأوزارِ في جَنْبِ عَفْوِ اللَّهِ يصغُرُ
وإنما أمر بسؤال العَفْوِ في لَيْلَةِ القَدْر بعدَ الاجتهاد في الأعمال فيها وفي
(1)
في آ: "وبعفوك"، والمشهور: بمعافاتك.
(2)
قطعة من حديث أخرجه مسلم رقم (486) في الصلاة: باب ما يقال في الركوع والسجود، والموطأ 1/ 214 في القرآن: باب ما جاء في الدعاء، وأبو داود رقم (879) في الصلاة، والترمذي رقم (3491) في الدعوات باب رقم (78)، والنسائي 2/ 225، وابن ماجه رقم (3841).
(3)
في آ: "وأصفيائه"، وفي ش:"وأحبَّائه".
(4)
في ش: "جلالته"، وفي ط:"بجلاله".
(5)
في آ، ع:"صغرت".
(6)
في ب، ط:"كثير".
ليالي العشر؛ لأنَّ العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملًا صالحًا
(1)
، ولا حالًا، ولا مقالًا، فيرجعون إلى سؤالِ العَفْوِ، كحالِ المُذْنِب المقصِّرِ. قال يحيى بنُ معاذٍ: ليس بعارفٍ مَن لم يكنْ غايةُ أملِهِ من الله العَفْوَ.
إنْ كُنْتُ لا أَصْلُحُ لِلْقُرْبِ
…
فشأنُكُم عَفْوٌ عَنِ الذَّنْبِ
كان مُطَرِّفٌ يقولُ في دعائه: اللهم، ارضَ عنَّا، فإن لم تَرْضَ عنَّا فاعْفُ عنَّا. مَن عظُمَتْ ذُنُوبُه في نَفْسِه لم يَطْمَعْ في الرِّضا، وكان غايةُ أملِه أن يطمَعَ في العَفْوِ. ومَن كَمُلَتْ معرِفَتُهُ لم يَرَ نفسَهُ إلَّا في هذه المنزلة.
يا رَبّ عبدُكَ قد أتا
…
كَ وقَدْ أَسَاءَ وقَدْ هَفَا
يَكْفِيهِ
(2)
مِنْكَ حَيَاؤهُ
…
مِنْ سُوءِ ما قَدْ أَسْلَفَا
حَمَلَ الذُّنُوبَ على الذُّنُو
…
بِ المُوبِقاتِ وأَسْرَفا
وقد اسْتَجَارَ بِذَيْلِ
…
عَفْوِكَ مِن عِقابكَ مُلْحِفا
يا ربّ فاعف وعافِهِ
(3)
…
فلأنْتَ أَوْلَى مَنْ عَفَا
* * *
المجلس السادس في وداع رمضان
في "الصحيحين"
(4)
مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"مَن صَامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّم مِن ذَنْبِه. ومَن قام ليلَةَ القَدْر إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه". وفيهما أيضًا من حديثِ أبي هريرة أيضًا
(1)
لفظ "صالحًا" لم يرد في آ، ش.
(2)
في ش: "يكفيك منه".
(3)
في ط: "رب اعف عنه وعافه"، وفي ب، ش، ع:"يا رب فاعف عنه وعافه"، وأثبت ما جاء في نسخة (آ).
(4)
أخرجه البخاري رقم (1901) في الصوم: باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، وفي الإيمان: باب قيام ليلة القدر من الإِيمان، وباب تطوع قيام رمضان من الإِيمان، وياب صوم رمضان احتسابًا من الإيمان، وفي صلاة التراويح: باب فضل من قام رمضان، وباب فضل ليلة القدر. ومسلم رقم (759) في صلاة المسافرين: باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح.
رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"مَن قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّم مِن ذَنْبه".
وللنسائي في روايةٍ
(1)
: "مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم مِن ذَنْبِه وما تأخَّر".
وقَد سَبَقَ في قيام ليلةِ القَدْر مثلُ ذلك مِن رواية عُبَادَةَ بن الصَّامت. والتكفيرُ بصيامه قد وَرَدَ مشروطًا بالتحفُّظِ مِمَّا ينبغي أن يُتحفَّظَ منه. ففي "المسند"
(2)
و"صحيح ابن حِبَّان" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"مَن صام رمضانَ فعرَفَ حُدُودَه وتحفَّظ مِمَّا ينبغي له أن يتحفَّظَ منه، كفَّر ذلك ما قبلَه". والجمهور على أن ذلك إنَّما يكفَّر الصغائرَ، ويدُلُّ عليه ما خرَّجه مسلم
(3)
من حديثِ أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الصَّلوات الخمسُ، والجُمُعَةُ إلى الجُمُعةِ، ورَمَضانُ إلى رَمَضَانَ، مكفِّرات لِما بينهنَّ، ما اجتُنِبَتِ الكبائر". وفي تأويله قولان:
أحدُهما: أن تكفِيرَ هذه الأعمال مشروطٌ باجتناب الكبائر، فمن لم يجتنِبِ الكبائرَ لم تكفّر له هذه الأعمالُ كبيرةً ولا صغيرةً.
والثاني: أن المراد أن هذه الفرائض تكفِّرُ الصغائرَ خاصَّةً بكُلِّ حالٍ، وسواء اجتُنِبت الكبائرُ أو لم تُجتَنَبْ، وأنَّها لا تكفِّر الكبائرَ بحالٍ.
وقد قال ابنُ المنذر في قيام ليلَةِ القَدْر: إنَّه يُرْجَى به مغفرةُ الذنوبِ؛ كبائرِها وصغائرِها. وقال غيرُه مثلَ ذلك في الصَّوم أيضًا. والجمهور على أن الكبائرَ لا بُدَّ لها من توبةٍ نَصُوحٍ. وهذه المسائل قد ذكرناها مستوفاةً في مواضِعَ أُخَرَ.
فدَلَّ حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه على أن هذه الأسبابَ الثلاثَة كُلُّ واحدٍ منها
(1)
النسائي 4/ 155 - 157 في الصوم: باب ثواب من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا.
(2)
مسند أحمد 3/ 55، وصحيح ابن حبان (879) موارد، والترغيب والترهيب 2/ 91.
(3)
رقم (233) في الطهارة: باب الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن. وروى الأول منه الترمذي رقم (214) في الصلاة: باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس.
مكفِّرٌ لِما سَلَفَ من الذُّنوبِ، وهي صيامُ رمضانَ، وقيامُهُ، وقيامُ ليلَةِ القَدْر. فقيامُ ليلَةِ القَدْر بمجردِهِ يكفِّر الذنوبَ لمن وَقَعَتْ له، كما في حديث عُبَادَةَ بن الصَّامت، وقد سَبَقَ ذكره. وسواءٌ كانت في أوَّل العَشْر أو أوْسَطه أو آخره، وسواءٌ شَعَرَ بها أو لم يَشْعُر. ولا يتأخَّرُ تكفيرُ الذنوب بها إلى انقضاءِ الشَّهْرِ.
وإمَّا صيامُ رمضانَ وقيامُه، فيتوقَّفُ التكفيرُ بهما على تمام الشهر، فإذا تمَّ الشَّهْرُ فقد كَمُلَ للمؤمِنِ
(1)
صيامُ رَمَضَانَ وقيامُه، فيترتَّبُ له على ذلك مغفِرةُ ما تقدَّم من ذَنْبِه بتمام السَّببين، وهما صيامُ رمضان وقيامُه. وقد يقال: إنه يُغفر لهم عند استكمال القيام في آخر ليلةٍ من رمضان، بقيام رمضان قبلَ تمامِ نهارِها، وتتأخَّر المغفرة بالصيام إلى إكمال النهار بالصَّوم، فيغفَرُ لهَم بالصوم في ليلة الفِطْر. ويدلُّ على ذلك ما خرَّجه الإِمام أحمد
(2)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أُعْطِيَتْ أمتي خَمسَ خِصالٍ في رمضانَ لم يُعْطَها أمَّةٌ غيرُهم: خُلُوفُ فمِ الصَّائمِ أطيَبُ عندَ اللهِ مِن ريح المِسْكِ، وتَستغفِرُ لهم الملائكة حتى يُفْطِروا، ويُزَيِّنُ الله كُلَّ يومٍ جنَّته، ويقولُ: يوشِكُ عبادِي أن يُلقوا
(3)
عنهم المؤونة والأذَى ويَصيروا إليك، ويصفَّدُ فيه مَرَدَةُ الشياطين؛ فلا يخلُصُون فيه إلى ما كانوا يخلُصُون إليه في غيره، ويُغفر لهم في آخر ليلةٍ فيه، فقيلَ له: يا رسولَ اللهِ، أهِيَ ليلَةُ القَدْرِ؟ قال: لا، ولكن العامِل إنما يوفَّى أجْرَه إذا قَضَى عَمَلَه".
وقد رُوِي أن الصَّائمين يَرجعون يومَ الفِطْرِ مغفورًا لهم، وأنَّ يومَ الفِطر يُسمَّى يومَ الجوائز؛ وفيه أحاديث ضعيفة. وقال الزُّهريّ: إذا كان يومُ الفِطْر خَرَجَ النَّاسُ إلى الجَبَّان
(4)
اطَّلَع الله عليهم، فقال: عبادِي! لي صمْتُمْ، ولي قمتُمْ، ارْجِعُوا مغفورًا لكم. قال مورِّق العِجْليُّ لبعض إخوانه في المصَلَّى يومَ الفِطْر: يَرجعُ هذا اليوم قومٌ كما
(1)
في ع: "للمؤمنين".
(2)
مسند أحمد 2/ 292، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 140 وقال: رواه أحمد والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام، وهو ضعيف. وانظر المطالب العالية (932) ومشكل الآثار 4/ 142.
(3)
في ط: "يكفوا".
(4)
في ب، ط:"الجبار". والجَبَار: فناء الجَبَّان. والجَبَّان بمعنى الجَبَّانة، ثبوت الهاء أكثر من حذفها، وهي المصلَّى في الصحراء، وربَّما أطلقت على المقبرة؛ لأن المصلَّى غالبًا تكون في المقبرة. (اللسان، والمصباح المنير: جبر، جبن).
ولدتهُم أمَّهاتُهم. وفي حديث أبي جعفر الباقر المرسل: "مَن أتى عليه رمضانُ فصَامَ نهارَهُ، وصلَّى وِرْدًا مِن ليله، وغَضَّ بَصَرَه، وحفِظَ فَرْجَهُ ولسانَه ويَدَه، وحافَظَ على صلاتِهِ في الجماعة، وبكَّر إلى جمعةٍ
(1)
، فقد صام الشَّهْرَ واستكملَ الأجْرَ، وأدرَكَ ليلَة القَدْرِ، وفاز بجائزة الرَّبِّ". قال أبو جعفر: جائزةٌ لا تشبِه جوائزَ الأمراءِ. إذا كمَّل
(2)
الصائمون صيامَ رمضانَ وقيامَه، فقد وفَّوْا ما عليهم من العَمَلِ، وبقي ما لهم من الأجر وهو المغفرة؛ فإذا خَرَجُوا يومَ عيدِ الفِطْر إلى الصَّلاة قُسِّمَتْ عليهم أجورُهم، فرجعوا إلى منازِلهم وقد استَوْفَوا الأجْرَ واستكملوه، كما في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما المرفوع: "إذا كان يومُ الفِطْرِ هَبَطَتِ الملائكةُ إلى الأرض، فيقومون
(3)
على أفواه السِّكَكِ يُنادُونَ بِصَوْتٍ يسمَعُهُ جميعُ مَن خَلَقَ الله، إلَّا الجِنَّ والإِنسَ، يقولون: يا أمَّةَ محمدٍ! اخرُجوا إلى رَبٍّ كريم يُعطِي الجَزِيلَ، ويغفِرُ الذَّنْبَ العظيم، فإذا برزوا إلى مُصلَّاهم، يقولُ الله عز وجل لملائكته: يا ملائكتي! ما جزاءُ الأجير إذا عمِلَ عملَهُ؟ فيقولون: إلهنا وسيِّدنا! أنْ توفِّيَه أَجْرَهُ، فيقول: إنِّي أُشهِدُكُم أنِّي قد جَعَلْتُ ثوابَهم مِن صيامِهم وقيامِهم رضائي
(4)
ومغفرتي، انصرِفوا مغفورًا لكم. خرَّجه سلمة بنُ شبيبٍ في كتاب "فضائل رمضان" وغيره. وفي إسناده مقالٌ.
وقد رُوي من وجهٍ آخر عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما موقوفًا بعضُه.
وقد رُوِي معناه مرفوعًا من وجوهٍ أخَرَ فيها ضعفٌ؛ مَنْ وفَّى ما عليه من العمل كاملًا وُفِّي له الأجْرُ كاملًا، ومَن سَلَّم ما عليه موفَّرًا تسَلَّم ماله نقدًا لا مؤخَّرًا.
ما بِعتُكم مهجَتي إلا بوَصْلِكُمُ
…
ولا أُسَلِّمُها إلَّا يدًا بيدِ
فإنْ وَفَيْتُمْ بما قلْتُمْ وَفَيْتُ أنا
(5)
…
وإن أبيْتم يكونُ الرَّهْنُ تحتَ يَدِي
(6)
(1)
في آ: "جُمَعِه"، وفي ع:"الجمعة".
(2)
في ب، ط:"أكمل".
(3)
في آ، ع:"فيقفون".
(4)
في آ، ع:"مرضاتي".
(5)
في ب: "وفيت لكم".
(6)
هذا البيت لم يرد في آ، ش، ع.
ومَن نقص من العمل الذي عليه نُقِّصَ من الأجر بحسب نَقْصِه، فلا يَلُم إلَّا نفسَه. قال سلمان: الصَّلاةُ مِكْيالٌ، فمن وفَّى وُفِّي له، ومن طَفَّفَ فَقَد علمتُم ما قيل في المطفِّفين
(1)
. فالصِّيامُ وسائرُ الأعمال على هذا المنوالِ؛ مَن وفَّاها فهو من خِيارِ عِبادِ الله الموفِّين
(2)
، ومَنْ طفَّفَ فيها فويلٌ للمطفِّفين. أَمَا يستحيي مَن يستَوْفي مِكْيالَ شَهَواتِهِ، ويطفِّفُ في مِكْيالِ صيامِهِ وصلاتِه، أَلا بُعْدًا لِمْديَن
(3)
. في الحديث: "أسوأُ الناسِ سرقة الذي يَسْرِقُ صلاتَه"
(4)
. إذا كان الوَيْلُ لمن طَفَّفَ مِكيالَ الدُّنيا، فكيف حالُ مَن طفَّف مِكيالَ الدِّين! {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}
(5)
.
غدًا تُوفَّى النفوسُ ما كسَبَتْ
…
ويحصُدُ الزَّارِعونَ ما زَرَعوا
انْ أحسَنُوا أحسَنُوا لأنفُسِهم
…
وإن أساؤوا فبئسَ ما صَنَعُوا
كان السَّلفُ الصَّالح يجتهدون في إتمام العمَلِ وإكماله وإتقانه، ثم يهتمُّون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من رَدِّه، وهؤلاء الذين {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}
(6)
. رُوي عن علي رضي الله عنه، قال: كونوا لقَبُولِ العَمَلِ أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمَعُوا الله عز وجل يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}
(7)
. وعن فَضَالَةَ بن عُبيد
(8)
، قال: لأنْ أكونَ أعلَمُ أنَّ الله قد تقبَّلَ منِّي مِثْقالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَل أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها؛ لأنَّ الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .
(1)
أي: في قوله تعالى من سورة المطففين: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} .
(2)
في ش: "المؤمنين"، ولم ترد لفظة "الموفين" في نسخة (آ).
(3)
في ش: "للمذنبين". والبعد: الهلاك، والتباعد من الخير. أي لا زالوا مبعدين عن رحمة الله كما بعدت مدين التي أهلكها الله.
(4)
رواه أحمد في "المسند" 5/ 310 عن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق في صلاته. قالوا: يا رسول الله! وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها". صححه الحاكم 1/ 229 ووافقه الذهبي، ورواه الطبراني عن أبي هريرة. وفي الموطأ 1/ 167 عن النعمان بن مُرَّة، بنحوه. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 120 وقال:"رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح".
(5)
سورة الماعون الآية 4 و 5.
(6)
سورة المؤمنون الآية 60.
(7)
سورة المائدة الآية 27.
(8)
هو فَضَالة بن عُبَيد بن نافذ بن قيس، أبو محمد الأنصاري الأوسي، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل بيعة الرضوان. ولي الغزو لمعاوية، ثم ولي له قضاء دمشق. مات سنة 58 هـ، وقيل قبلها. (ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء 3/ 113 - 117 وأورد الخبر).
وقال ابنُ دينار
(1)
: الخوفُ على العمل أن لا يُتَقَبَّلَ أشَدُّ مِن العَمَل. وقال عطاء السَّليمي
(2)
: الحذرُ: الاتقاءُ على العمل أن لا يكونَ لله. وقال عبد العزيز بن أبي دَوَّاد
(3)
: أدركتُهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فَعَلُوه وَقَعَ عليهم الهمُّ، أيقبَلُ
(4)
منهم أم لا.
قال بعضُ السَّلف: كانوا يدعُون الله ستَّةَ أشهرٍ أن يُبلِّغَهم شَهْرَ رمضان، ثم يدعون الله ستَّةَ أشْهُرٍ أن يتقبَّلَهُ منهم.
خرَجَ عمرُ بنُ عبد العزيز رحمه الله في يوم عيدِ فِطْرٍ، فقال في خُطبته: أيُّها الناس! إنَّكم صُمتم لله ثلاثين يومًا، وقُمْتُم ثلاثين لَيلَةً، وخَرَجْتُم اليومَ تطلبون من الله أن يتقبَّل
(5)
منكم. كان بعضُ السَّلف يَظْهَرُ عليه الحزنُ يومَ عيدِ الفِطْر، فيقال له: إنَّه يومُ فَرَحٍ وسرورٍ، فيقول: صدقتم، ولكنِّي عبدٌ أمرني مولاي أن أعمَلَ له عملًا، فلا أدري أيقبلُه منِّي أم لا؟
رأى وُهَيْبُ
(6)
بنُ الورد قومًا يضحكون في يوم عيدٍ، فقال: إن كان هؤلاء تُقُبِّلَ منهم صيامُهم فما هذا فعلُ الشاكرين، وإن كانوا لمَ يُتَقَبَّلْ منهم صيامهم فما هذا فعلُ الخائفين. وعن الحسن، قال: إنَّ الله جَعَلَ شَهْرَ رمضانَ مضمارًا
(7)
لخلقه يستبِقُون فيه بطاعتِه إلى مَرْضَاتِه، فَسَبَقَ قَوْمٌ ففازوا، وتخلَّف آخرون فخابُوا. فالعجَب من اللاعِب الضَّاحِك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطِلُون.
(1)
في ع: "مالك بن دينار". وكنيته أبو يحيى، زاهد، عابد، صدوق، معدود في ثقات التابعين، ومن أعيان كتبة المصاحف. مات نحو سنة 130 هـ. (سير أعلام النبلاء 5/ 362).
(2)
في ط، ش، ع:"السلمي". وهو أبو عبد الله بن أبي عبيدة البصري، من صغار التابعين، أدرك أنس بن مالك وسمع من الحسن البصري. كان زاهدا عابدًا، وله حكايات في الخوف وإزرائه على نفسه. قيل: مات بعد سنة 140 هـ. (صفة الصفوة 3/ 325، سير أعلام النبلاء 6/ 86).
(3)
شيخ الحرم، وأحد الأئمة العبّاد، صدوق، رمي بالإرجاء، توفي سنة 159 هـ. (سير أعلام النبلاء 7/ 184).
(4)
في آ: "تُقُبِّلَ أم لا"، وفي ع:"أتقبل أَم لا".
(5)
في آ، ش:"يتقبَّله منكم".
(6)
في ط: "وهب". وهو وُهيْب بن الورد القرشي، أبو عثمان المكي الزاهد، وثقه ابن معين والنسائي، روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. قال ابن حبان: مات سنة 153 هـ.
(7)
لفظ "مضمارًا" لم يرد في آ، ش، ع.
لعلك غَضْبان وقلبيَ غافِلُ
…
سلامٌ على الدَّارين إن كنْتَ راضِيا
رُوِي عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّه كان ينادِي في آخر ليلةٍ من شهر رمضانَ: يا ليتَ شِعْرِي! مَن هذا المقبول فنهنِّيه؟ ومَن هذا المحرومُ فنُعَزِّيه؟ وعن ابن مسعودٍ أنَّه كان يقول: مَن هذا المقبُولُ منا فنُهنِّيه؟ ومَن هذا المحرومُ منَّا فنعزِّيه؟. أيُّها المقبولُ هنيئًا لكَ، أيُّها المردود جَبَرَ الله مُصيبتك!
ليتَ شِعْرِي مَنْ فيه يُقْبَلُ مِنَّا
…
فيُهَنَّا يا خيبة
(1)
المَرْدُودِ
مَنْ تولَّى عنهُ بغيْرِ قَبُولٍ
…
أَرْغَمَ اللهُ أنفَهُ بِخِزيٍ شَديدِ
ماذا فات مَنْ فاته خيرُ رمضانَ؟ وأيّ شيءٍ أدرَكَ مَن أدرَكَه فيه الحرمانُ؟ كم بينَ مَن حَظُّهُ فيه القَبولُ والغفرانُ، ومَن كان حظُّه فيه الخَيبةُ والخُسْرَانُ. رُبَّ قائمٍ حظُّه مِن قيامِه السَّهَرُ، وصائمٍ حظُّه من صيامِهِ الجُوعُ والعَطَشُ.
ما أصنعُ؟ هكذا جَرَى المقدورُ
…
الجَبْرُ لغيري وأنا المكسُورُ
أَسيرُ ذنبٍ
(2)
مقيَّدٌ مهجُورُ
…
هل يُمكنُ أن يُغيَّر المقدورُ
[غيره]
(3)
:
سار القوم والشَّقا يُقعِدُني
…
حَازُوا القربَ والجَفَا يُبعِدُني
(4)
حسبي حسبي إلى متى تطرُدني .... أعداي دائي وكلُّهم يقصِدُني
غيره:
أسبابُ هواكَ أَوْهَنَتْ أَسْبَابي
…
مِن بَعْدِ جَفَاكَ فالضَّنَى أَوْلَى بي
ضاقَتْ حِيَلي وأَنْتَ تدرِي ما بى
…
ارْحم
(5)
، فالعَبْدُ واقفٌ بالبابِ
شهرُ رمضانَ تكثُر فيه أسبابُ الغفران؛ فمن أسباب المغفرة فيه: صيامُه،
(1)
في آ، ش:"ويا خيبة".
(2)
في آ: "ذنبي".
(3)
زيادة من ع، ط.
(4)
روايته في ش: من سار إليك فالشقا يقدني
…
أو حاز رضاك فالجَفَا يبعدني
(5)
في ب، ط:"فارحم".
وقيامُه، وقيامُ ليلَةِ القَدْر فيه، كما سبق. ومنها: تفطيرُ الصُّوَّام، والتخفيفُ عن المملوك، وهما مذكوران في حديث سلمان المرفوع. ومنها: الذكر. وفي حديثٍ مرفوع: "ذاكِرُ الله في رمضانَ مغفورٌ له"
(1)
. ومنها: الاستغفارُ، والاستغفارُ طلَبُ المغفرةِ. ودعاءُ الصَّائم يستجابُ في صيامِه وعند فِطْره؛ ولهذا كان ابنُ عمر إذا أفطَرَ يقولُ: اللهم، يا واسِعَ المغفرة اغفر لي. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع في فضل شهر رمضان: ويغفَرُ فيه إلَّا لمن أَبَى، قالوا: يا أبا هريرة! ومَن يأبى؟ قال: يأبَى أن يستغفرَ الله. ومنها: استغفارُ الملائكة للصَّائمين حتى يُفطِروا، وقد تقدَّم ذكرُه.
فلما كثُرَتْ أسبابُ المغفرة في رمضان كان الذي تفوتُه المغفرةُ فيه محرومًا غايةَ الحرمان.
في "صحيح ابن حبَّان"
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم صَعِدَ المِنْبَرَ فقال: آمين، آمين، آمين! قيل: يا رسولَ الله، إنَّك صَعِدْتَ المِنْبَرَ فقلت: آمين آمين آمين؟ قال: إنَّ جبريل أتاني، فقال: مَنْ أدْرَكَ شهرَ رمضانَ فلم يُغْفَرْ له فدَخَلَ النار، فأبعَدَهُ الله، قل: آمين، فقلت: آمين. ومَن أدرَكَ أبوَيْه أو أحدَهما فلم يبرَّهما، فمات، فدَخَلَ النار، فأبعَدَهُ الله، قل: آمين، فقلت: آمين. ومَن ذُكِرْتَ عندَه فلم يُصَلِّ عليك، فمات، فدخَلَ النار فأبعَدَه الله، قل: آمين، فقلت: آمين. وخرَّجه الإمام أحمد
(3)
، والترمذي، وابنُ حِبَّان أيضًا من وجهٍ آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ "رِغمَ أنفه". وحسَّنه الترمذيّ. وقال سعيدٌ عن قتادة: كان يقال: من لم يُغْفَرْ لَهُ في رمضانَ فلن يغفَرَ له فيما سواه.
(1)
أورده السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (4312) وعزاه إلى الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 143 وقال:"رواه الطبراني في الأوسط وفيه هلال بن عبد الرحمن وهو ضعيف". وهو في "ضعيف الجامع الصغير" للألباني رقم (3038)، وانظر الترغيب والترهيب 2/ 104.
(2)
صحيح ابن حبان 2/ 121 باب حق الوالدين، وإسناده ضعيف، وانظر تخريجه فيه. وانظر الترغيب والترهيب 2/ 93، 507.
(3)
مسند أحمد 2/ 254، والترمذي رقم (2539) في الدعوات: باب رقم (110)، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه. والحديث صحيح، له شواهد كثيرة عن جماعة من الصحابة خرجها الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" 2/ 506 - 508.
وفي حديثٍ آخَرَ: "إذا لم يُغفَرْ له في رمضان فمتى يُغفَرُ لمن لا يغفَر
(1)
له في هذا الشهر؟ متى يقبَلُ مَن رُدَّ في ليلة القدر؟ متى يصلُح من لا يصلُح في رمضان؟ متى يصح من كان به فيه من داءِ الجهالة والغفلةِ مَرضان؟ كُل ما لا يثمِرُ من الأشجار في أوان الثمار؛ فإنَّه يُقطَعُ ثمَّ يوقَدُ في النار. من فرَّط في الزَّرْع في وقت البِذار، لم يحصُدْ يومَ الحصاد غيرَ النَّدم والخَسَار.
ترحَّلَ الشَّهرُ وا لهفاهُ وانْصَرَما
(2)
…
واخْتَصَّ بالفوز في الجنَّاتِ مَن خَدَما
وأصبَحَ الغافِلُ المِسْكِينُ منكسِرًا
…
مثْلِي فيا ويحَهُ يا عُظْمَ ما حُرِمَا
من فاتَهُ الزَّرْعُ في وَقْتِ البذارِ فَمَا
…
تراهُ يحصُدُ إلَّا الهَمَّ والنَّدَما
شهر رمضان شهرٌ أوَّلُه رحمةٌ، وأوسَطُه مغفرةٌ، وآخرُه عِتْقٌ مِن النَّار. رُوِي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث سلمان الفارسي. خرَّجه ابنُ خُزَيمة في "صحيحه"
(3)
.
ورُوي عنه أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، خرَّجه ابنُ أبي الدنيا وغيره.
والشهرُ كلُّه شَهْرُ رَحْمَةٍ ومغفرةٍ وعِتْقٍ، ولهذا في الحديث الصحيح: أنَّه تُفتَحُ فيه أبوابُ الرَّحمة.
وفي الترمذي
(4)
وغيرِه: "إنَّ لله عتقاءَ مِن النَّارِ، وذلك في كُل ليلةٍ". ولكنَّ الأغلبَ على أوَّله الرحمةُ، وهي للمحسنين المتقين. قال الله تعالى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
(5)
. وقال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا
(1)
في آ: "لم يغفر له".
(2)
في ب، ط: "ترحَّل شهر الصبر وا لهفاه
…
".
(3)
قطعة من حديث رواه ابن خزيمة في "صحيحه" 3/ 191 رقم (1887) في الصيام: باب فضائل شهر رمضان إن صح الخبر. وإسناده ضعيف؛ لضعف علي بن زيد بن جدعان. قال البنا في "الفتح الرباني" 9/ 233: رواه ابن خزيمة في صحيحه، ثم قال: إن صحَّ الخبر، ورواه أبو الشيخ ابن حبان في الثواب.
(4)
جزء من حديث رواه الترمذي رقم (682) في الصوم: باب ما جاء في فضل شهر رمضان. وفي حديث صحيح أخرجه ابن ماجه رقم (1643) في الصيام: باب ما جاء في فضل شهر رمضان، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لله عند كل فطر عتقاء، وذلك في كل ليلة". وفي مسند أحمد 2/ 254 عن أبي هريرة أو أبي سعيد، بإسناد صحيح:"إن لله عتقاء في كل يوم وليلة، لكل عبد منهم دعوة مستجابة".
(5)
سورة الأعراف الآية 56.
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}
(1)
. فيفاضُ على المتَّقين في أوَّلِ الشهْرِ خِلَعُ الرَّحمةِ والرُّضوانِ، ويُعامَلُ أهلُ الإحسان بالفضل والإِحسان. وأمَّا أوسطُ الشهر، فالأغلبُ عليه المغفِرَةُ، فيُغفَرُ فيه للصَّائمين وإن ارتكَبُوا بعضَ الذنوب الصغائر فلا يمنعهم ذلك من المغفرة، كما قال الله تعالى:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}
(2)
.
وأمَّا آخِرُ الشهر فيُعتقُ فيه من النار مَن أوبقَتْه
(3)
الأوزار، واستوجَب النار بالذنوب الكبار.
وفي حديث ابن عباس المرفوع: "لله في كُل ليلةٍ في شهر رمضان عند الإفطار ألفُ ألفُ عتيقٍ من النار، فإذا
(4)
كان ليلةُ الجمعة أو يوم الجمعة، أعتق في كل ساعةٍ فيها ألف ألف عتيق من النار، كلُّهم قد استوجَبُوا العذاب
(5)
، فإذا كان آخر ليلةٍ من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بعدد ما أعتَقَ مِن أول الشهر إلى آخِرِه. خرجه سلمة بن شبيب وغيرُه. وإنما كان يوم الفطر من رمضان عيدًا لجميع الأمة، لأنَّه يعتَقُ فيه أهلُ الكبائر من الصَّائمين مِن النار، فَيَلْتَحق فيه المذنبون بالأبرار. كما أن يوم النَّحر هو العيدُ الأكبر؛ لأنَّ قبلَه يومَ عَرَفَةَ، وهو اليوم الذي لا يُرَى في يوم من الدنيا أكثَرُ عتقًا من النار منه، فمن أُعتِقَ من النَّار في اليومين فله يومُ عيدٍ، ومَن فاته العِتْق في اليومين فله يومُ وعيدٍ. [أنشد الشبلي]
(6)
:
ليس عيدُ المحبِّ قَصْدَ المصلَّى
…
وانتظارَ الأميرِ والسُّلطانِ
إنَّما العيدُ أن تكون لَدَى اللهِ
…
كَريمًا مُقَرَّبًا في أمانِ
ورؤي بعضُ العارفين ليلةَ عيدٍ في فلاةٍ يبكي على نفسِه وينشِدُ:
بِحُرْمَةِ غُرْبَتي كم ذا الصُّدُودُ
…
أَلَا تعطِف عليَّ أَلا تَجُودُ
سُرورُ العيدِ قد عَمَّ النَّواحِي
…
وَحُزْنِي في ازْدِيادٍ لا يَبيدُ
فإنْ كنْتُ اقْتَرَفْتُ خلالَ سُوءٍ
…
فَعُذْرِي في الهَوَى أن لا أعودُ
(1)
سورة الأعراف الآية 156.
(2)
سورة الرعد الآية 6.
(3)
أوبقته: أهلكته.
(4)
حتى قوله: "من النار" ساقط في ط.
(5)
في ب، ط:"النار".
(6)
زيادة من آ، ش، ع.
لمَّا كانت المغفرةُ والعِتْقُ من النار كل منهما مرتّبًا على صيام رمضانَ وقيامِه، أمر الله سبحانه وتعالى عندَ إكمال العِدَّةِ بتكبيره وشكرِه، فقال:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
(1)
، فشُكْرُ مَن أَنعَمَ على عباده بتوفِيقِهم للصِّيام، وإعانتهم عليه، ومغفرته لهم به، وعتقِهم من النَّار، أن يذكُروه ويشكروه ويتَّقوه حقَّ تُقَاتِهِ. وقد فسَّر ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه تقواه حقَّ تُقاتِه بأنْ يطاعَ فلا يُعْصَى، ويذكَرَ فلا يُنْسَى، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَر. فيا أربابَ الذُّنوب العظيمة! الغنيمةَ الغنيمةَ في هذه الأيام الكريمة؛ فما منها عوض ولا لها قيمة، فكم
(2)
يعتق فيها من النَّار من ذي جريرة وجريمة، فمن أعتق فيها من النَّار فقد فاز بالجائزة العميمة
(3)
والمنحة الجسيمة.
يا من أعتقَهُ مولاهُ مِن النَّار! إيَّاك أن تعودَ بعد أن صِرْتَ حُرًّا إلى رِقِّ الأوزار. أيبعدُكَ مولاك عن النار وأنت تتقرَّبُ منها؟ وينقذُكَ منها وأنتَ توقِعُ نفسَكَ فيها ولا تحيد عنها؟!
وإنَّ امْرَءًا ينجُو مِن النَّار بعدَما
…
تزوَّدَ مِن أعمالِها لَسَعيدُ
إن كانت الرَّحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأسُ منها، وإن تكن المغفرة مكتوبة للمتقين فالظَّالم لنفسه غيرُ محجوب عنها.
إن كان عَفْوُك لا يرجُوُه ذو خطأٍ
…
فمن يَجُودُ على العاصِين بالكَرَمِ
غيره:
إن كان لا يرجُوكَ إلَّا مُحْسِنٌ
…
فمن الذي يَرْجُو وَيدْعُو المُذْنِبُ
[غيره:
لم لا يُرْجَى العَفْوُ من رَبِّنا
…
وكيفَ لا يطمَعُ في حلْمِهِ
(1)
سورة البقرة الآية 185.
(2)
حتى قوله: "وجريمة" ساقط في ط.
(3)
في ش، ط:"لعظيمة".
وفي الصحيحين
(1)
أتى إنه
…
بعبدِهِ أَرْحَمُ من أُمِّه]
(2)
(3)
. فيا أيُّها العاصي - وكلُّنا ذلك - لا تقنَطْ مِن رحمةِ الله لسوء أعمالِك، فكم يُعتَقُ مِن النار في هذه الأيام مِن أمثالك. فأحْسِن الظَّنَّ بمولاك وتُبْ إليه؛ فإنَّه لا يهلك على الله إلَّا
(4)
هالك.
إذا أوجَعَتْكَ الذُّنوبُ فداوِها
…
بِرَفْعِ يَدٍ في اللَّيلِ واللَّيلُ مُظْلِمُ
ولا تقنَطَنْ مِن رَحْمَةِ اللهِ إنَّما
…
قنوطُكَ منها مِن ذنُوِبك أعظَمُ
فرحْمَتُه للمُحْسِنين كَرامةٌ
…
ورَحْمَتُهُ للمذنبين تَكَرُّم
ينبغي لمن يرجُو العِتقَ في شهر رمضانَ مِن النار أن يأتيَ بأسبابٍ توجِبُ العِتْقَ مِن النَّارِ، وهي متيسِّرة في هذا الشهر. وكان أبو قلابَةَ يُعتِقُ في آخر الشهر جاريةً حسناءَ مزينة
(5)
يرجو بعتقِها العِتْقَ مِن النار. وفي حديث سلمان [الفارسي]
(6)
المرفوع الذي في صحيح ابن خُزَيمة
(7)
: "مَن فَطَّر فيه صائمًا كان عتقًا لَهُ مِن النار. ومَن خَفَّفَ فيه عن مملوكه كان له عِتْقًا من النار".
وفيه
(7)
أيضًا: "فاستكثروا فيه من أربع خصال: خَصلتين تُرْضُونَ بهما ربَّكم، وخَصلتين لا غناء بكم عنهما. فأمَّا الخَصلتان اللتان تُرضون بهما ربَّكم فشهادةُ أن لا إله إلَّا الله، والاستغفار
(8)
. وأمَّا اللتان
(9)
لا غناء لكم عنهما، فتسألون الله الجنَّة، وتعوَّذون به من النار". فهذه الخصالُ الأربع المذكورة في هذا الحديث كُلٌّ منها سببٌ للعتق والمغفرة. فأمَّا كلمةُ التوحيد، فإنَّها تهدِمُ الذُّنوبَ وتمحُوها محوًا، ولا تبقي ذنبًا، ولا يسبقها عملٌ. وهي تعدِلُ عِتْقَ الرِّقاب الذي يوجِبُ العِتْقَ مِن النَّار.
(1)
في ط: "وفي الصحيح أنَّه".
(2)
هذان البيتان زيادة من ب، ط، ولم يردا في آ، ش، ع. وقد نثرا في المطبوع.
(3)
سورة الزمر الآية 53.
(4)
لفظ "إلا" لم يرد في ع، ط.
(5)
في آ: "مُرَبّية".
(6)
زيادة في المطبوع.
(7)
3/ 192 رقم (1887) في الصيام، وقد سبق تخريجه.
(8)
في صحيح ابن خزيمة: "وتستغفرونه".
(9)
في آ، ش:"التي".
ومَن أتى بها أربعَ مرارٍ: حين يُصبح وحين يُمسي، أعتَقَه الله مِن النار، ومَن قالها خالصًا
(1)
من قلبه حرَّمه الله على النار.
وأمَّا كلمةُ الاستغفار، فمِن أعظَمِ أسبابِ المغفرة، فإن الاستغفار دعاءٌ بالمغفرة، ودُعاءُ الصَّائم مستجابٌ في حالِ صيامِه، وعند فِطْره. وقد سَبَقَ حديثُ أبي هريرة المرفوع: وَيُغْفَرُ فيه - يعني شهرَ رمضان - إلَّا لمن أبى. قالوا: يا أبا هريرة! ومن أبى؟ قال: مَن أبى أن يستغفِرَ الله عز وجل. قال الحسن: أكثِروا من الاستغفار، فإنكم لا تدرون متى تنزِلُ الرَّحمة. وقال لقمان لابنه: يا بُني! عَوِّدْ لسانَكَ الاستِغفار؛ فإنَّ لله ساعاتٍ لا يَرُدُّ فيهنَّ سائلًا. وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}
(2)
. وفي بعض الآثار: أن إبليس قال: أهلكْتُ الناس بالذُّنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفارِ. والاستغفارُ خِتامُ الأعمال الصَّالحة كلِّها؛ فتختم به الصَّلاةُ والحجُّ وقيامُ الليل، ويختم به المجالسُ؛ فإنْ كانت ذكرًا كان كالطابع عليها، وإن كانت لغوًا كان كفَّارَةً لها، فكذلك ينبغي أن يُختم صيامُ رمضانَ بالاستغفار.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضانَ بالاستغفارِ والصَّدقةِ، صدقة الفطر؛ فإنَّ صَدَقَةَ الفِطْر طُهْرَةٌ للصَّائم من اللغو والرَّفَثِ. والاستغفارُ يُرقع ما تخرَّقَ من الصِّيام باللغو والرَّفَثِ؛ ولهذا قال بعضُ العلماء المتقدمين: إنَّ صدَقَة الفِطْر للصائم كسجدتي السَّهْو للصَّلاة. وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه: قولوا كما قال أبوكم آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
(3)
، وقولوا كما قال نوح عليه السلام:{وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
(4)
وقولوا
(5)
كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}
(6)
، وقولوا كما قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
(1)
في ط: "مخلصًا".
(2)
سورة محمد الآية 19.
(3)
سورة الأعراف الآية 23. وبداية الآية: "قالا ربنا" أي قال آدم وزوجه. راجع الآيات 19 - 22.
(4)
سورة هود الآية 47.
(5)
حتى قوله: "يوم الدين" ساقط في ط.
(6)
سورة الشعراء الآية 82.
نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}
(1)
، وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين}
(2)
.
ويُروى عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: الغِيبةُ تخرِّقُ الصِّيام، والاستغفارُ يُرَقِّعُهُ؛ فمن استطاعَ منكم أن يجيء بصومٍ مُرقّعٍ فليفعل. وعن ابن المنكدر: معنى ذلك: الصيامُ جُنَّةٌ مِن النَّار ما لم يَخْرِقْها
(3)
، والكلامُ السيء يخرقُ هذه الجُنَّة، والاستغفارُ يرقِّعُ ما تخرَّقَ منها. فصيامُنا هذا يحتاج إلى استغفارٍ نافعٍ، وعملٍ صالحٍ، له شافعٌ. كم نخرِقُ صيامَنا بسهام الكلام، ثم نرقِّعُه وقد اتَّسَع الخَرْقُ على الرَّاقع. كم نرفو خُرُوقَه بمخيط الحسنات، ثم نقطعه بحسامِ السيئات القاطع. كان بعضُ السَّلف إذا صلَّى صلاةً استغفَرَ مِن تقصيره فيها، كما يسَتغفر المذنبُ من ذنبه. إذا كان هذا حالُ المحسنين في عباداتهم، فكيف حالُ المسيئين مثلِنا في عباداتهم. ارحموا مَن حسناتُه سيئات، وطاعاته كلُّها غفلات.
أستغفِرُ الله من صِيامي
…
طولَ زماني ومِن صَلاتي
صِيامنا
(4)
كلُّه خُرُوقُ
…
وصلاته
(5)
أيَّما صلاتي
مستيقظٌ في الدُّجَى ولكنْ
…
أحسَنُ مِن يقظتِي سُبَاتي
وقريبٌ مِن هذا أمْرُ النبي عليه السلام لعائشة في ليلة القَدْرِ بسؤال العَفْوِ؛ فإنَّ المؤمن يجتهدُ في شهر رمضانَ في صيامِه وقيامِه، فإذا قرُبَ فراغُه وصادَفَ ليلَةَ القَدْرِ، لم يسألِ الله تعالى إلَّا العَفْوَ، كالمسيء المقصِّر. كان صِلَةُ بن أشيم يحيي الليلَ، ثم يقول في دعائه في السَّحَر: اللهم، إنِّي أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي يجترئ أن يسألك الجنَّةَ. كان مطرِّف يقولُ في دعائه: اللهم، ارْضَ عنَّا، فإن لم
(1)
سورة القصص الآية 16.
(2)
سورة الأنبياء الآية 87.
(3)
من حديث أخرجه النسائي 4/ 167، 168 في الصيام: باب فضل الصيام عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الصوم جُنَّة، ما لم يَخْرِقْها". ورواه الدارمي 2/ 15، وقال: ما لم يخرقها، يعني بالغيبة، وهو حديث حسن.
(4)
في آ: "صيامي"، وفي ب:"صوم ترى"، وفي ط:"يوم يرى"، وأثبت ما جاء في ش، ع.
(5)
في ب، ط:"صلاته"، وفي آ:"وصلاة".
ترضَ عنَّا فاعْفُ عنَّا. قال يحيى بن معاذ: ليس بعارفٍ مَن لم يكُن غايةُ أملِه من الله العَفْوَ.
إنْ كُنْتُ لا أصلُحُ لِلْقُرْبِ
…
فشأنُكُم عَفْوٌ عن الذَّنْبِ
أنفَعُ الاستغفار ما قارنَتْهُ التَّوْبَةُ، وهي حَلُّ عُقدةِ الإِصرار
(1)
، فمن استغفر بلسانِه وقلبُه على المعصية معقودٌ، وعزمُه أن يرجعَ إلى المعاصي بعدَ الشهر ويعُود، فَصَوْمُه عليه مردود، وبابُ القَبول عنه مسدود. قال كعبٌ: من صَامَ رمضانَ وهو يحدِّثُ نفسَه أنَّه إذا أفطر بعد رمضان أن لا يعصي الله، دَخَلَ الجنَّة بغير مسألةٍ ولا حسابٍ. ومَن صام رَمضانَ وهو يحدِّثُ نفسَه أنَّه إذا أفطر بعدَ رمضان عصَى ربَّه، فصيامُه عليه مردود. وخرَّجَه سلمة
(2)
بن شبيب.
ولولا التُّقَى ثمَّ النُّهَى خَشْيَةَ الرَّدَى
…
لعاصيت في وقت الصّبا كُلَّ زاجر
(3)
قَضَى ما قَضَى فيما مَضى ثم لا تُرى
…
لَهُ عَوْدَة أُخْرَى اللَّيالي الغَوَابر
(4)
في سنن أبي داود
(5)
وغيرِه عن أبي بَكْرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يقولَنَ أحدُكمِ: صُمْتُ رَمضانَ كُلَّه، ولا قُمْتُ رَمَضَانَ كُلَّه". قال أبو بكرة: فلا أدري، أَكَرِهَ التَّزكيةَ أم لا بُدَّ من غَفْلَةٍ.
أين من كان إذا صام صانَ الصِّيامَ، وإذا قام استقام في القيام؟ أحسَنوا
(6)
الإِسلام ثم رحلوا بسلام، ما بقي إلَّا مَن إذا صام افتخر بصيامه وصال، وإذا قام أعجب بقيامه، وقال: كم بين خَليٍّ وشَجِيٍّ، وواجِدٍ وفاقِدٍ، وكاتمٍ ومبدي. وأمَّا سؤالُ الجنَّة والاستعاذة مِن النار فمن أهم الدعاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"حولَهما ندَنْدِنُ"
(7)
،
(1)
أي الإصرار على الذنب.
(2)
في ش، ط:"مسلمة". وهو سَلَمة بن شبيب النيسابوري، وقد سبقت ترجمته.
(3)
في ط: "في وقت الصبا كل راجب".
(4)
في ط: "الغوايب".
(5)
أخرجه أبو داود رقم (2415) في الصوم: باب من يقول صمت رمضان كله، والنسائي 4/ 130 في الصيام: باب الرخصة في أن يقال لشهر رمضان: رمضان، وفيه عنعنة الحسن البصري.
(6)
في ط: "أحسِنوا الإِسلام ثم ارحلوا".
(7)
جزء من حديث أخرجه أبو داود رقم (792) و (793) في الصلاة: باب في تخفيف الصلاة؛ عن أبي صالح رحمه الله، عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل:=
فالصَّائم يُرجَى استجابةُ دعائه، فينبغي إلَّا يدعُوَ إلَّا بأهم الأمور. قال أبو مسلم
(1)
: ما عرضت لي دعوةٌ إلَّا صرفتها إلى الاستعاذة من النار، وقال {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}
(2)
.
في الحديث: [اطلبوا الخيرَ دهركُم كُلَّه و]
(3)
تعرَّضوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ رَبِّكُم؛ فإنَّ لله نَفَحاتٍ مِن رَحْمَتِه يُصِيبُ بها من يَشاء من عِباده، [وسلوا الله أن يسْتُرَ عوراتكم وأن يؤمِّن روعاتكم]
(3)
، فمن أصابته سعِدَ سعادَةً لا يشقَى بعدَها أبدًا، فمن أعظم نفحاته مصادفةُ ساعةِ إجابةٍ يسأل فيها العبدُ الجنَّةَ والنَّجاةَ من النَّار، فيُجاب سؤالُه، فيفوزُ بسعادَة الأبَدِ. قال الله تعالى {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}
(4)
، وقال:{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}
(5)
إلى قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ}
(6)
.
ليس السَّعيدُ الذي دُنياهُ تُسْعِدُهُ
…
إنَّ السَّعيدَ الَّذي يَنْجُو من النَّارِ
عبادَ الله! إنَّ شهرَ رمضانَ قد عَزَمَ على الرَّحيل، ولم يَبْقَ منه إلَّا القليل. فمن منكم أحسَنَ فيه فعليه التمام، ومن كان فَرَّطَ فليختمْهُ بالحُسْنَى؛ فالعملُ بالختام. فاستمتعوا
(7)
منه فيما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعُوه عملًا صالحًا يشهَدُ لكم به عند الملك العلَّام، وودِّعُوه عند فراقه بأزْكَى تحيَّةٍ وسَلام.
= كيف تقولُ في الصلاة؟ قال: أتشهَّدُ، ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنَّة، وأعوذ بك من النار، أَمَا إني لا أحسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَدَنْدَنَةَ معاذ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حول ذلك ندَندِنُ أنا ومعاذ. ورواه أيضًا الإمام أحمد في "مسنده" 3/ 474، وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رقم (910) في إقامة الصلاة: باب ما يقال في التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات.
(1)
هو أبو مسلم الخولاني، عبد الله بن ثوَب، تابعي فقيه عابد، زاهد، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، توفي بدمشق، وقبره بداريا سنة 62 هـ. له ترجمة مفصلة في تاريخ دمشق ص 483 - 525، طبع مجمع اللغة العربية بدمشق.
(2)
سورة الحشر الآية 20، وقد تأخرت قليلًا عن آ، ش، ع.
(3)
تكملة من نسخة آ. والحديث رواه ابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" رقم (27)، عن أبي هريرة.
ورواه البيهقي في "شعب الإيمان" عن أبي هريرة أيضًا. ورواه الحكيم الترمذي، وأبو نعيم في "الحلية" عن أنس، وهو حديث ضعيف.
(4)
سورة آل عمران الآية 185.
(5)
سورة هود الآية 106.
(6)
الآية 108 من سورة هود.
(7)
في ط: "فاستغنموا".
سَلامٌ مِنَ الرَّحمنِ كُلَّ أَوَانِ
…
على خيرِ شَهْرٍ قَدْ مَضَى وزَمَانِ
سَلامٌ علَى شَهْرِ الصِّيام فإنَّه
…
أمانٌ مِن الرحمن أيُّ
(1)
أمانِ
لئِنْ فَنِيَتْ أيَّامُكَ الغُرُّ بَغْتَةً
…
فما الحزنُ من قلبي عليك بفانِ
لقد ذهبَتْ أيَّامُهُ وما أطعتُم، وكتبت عليكم فيه آثامُه وما أضعتم، وكأنَّكم بالمشمّرين فيه وقد وصلوا وانقطَعْتُم، أترى ما هذا التوبيخُ لكم أو ما سَمِعْتُم؟!
ما ضَاعَ من أيَّامِنا هَلْ يُغْرَمُ
(2)
…
هَيْهاتَ والأزمانُ كيفَ تُقوَّمُ
يومٌ بأرواحٍ يُباعُ ويُشْتَرَى
…
وأخُوهُ
(3)
ليسَ يُسَامُ فيه دِرْهَمُ
قلوبُ المتَّقين إلى هذا الشهر تحِنُّ، ومن ألم فراقه تئنّ.
دهاكَ الفِرَاقُ فما تَصْنَع
…
أَتَصْبِرُ للبِينِ أمْ تَجْزَعُ
إذا كُنْتَ تبكِي وهُمْ جِيرَةٌ
…
فَكَيْفَ تكونُ إذا ودَّعُوا
كيف لا يجري للمؤمن على فراقِه دموعٌ، وهو لا يدرِي هل بقي لَهُ في عمره إليه رجوع.
تذكَّرْتُ أيَّامًا مَضَتْ وَلَيَالِيا
…
خَلَتْ فَجَرَتْ مِن ذكرِهِنَّ دُمُوعُ
أَلَا هَل لَها يومًا مِن الدَّهْرِ عَوْدَةٌ
…
وهَلْ لي إلى وقتِ
(4)
الوِصَال رُجُوعُ
وهَلْ بَعْدَ إعْراضِ الحبيبِ تَوَاصلٌ
…
وهَلْ لبدورٍ قد أَفَلْنَ طُلُوعُ
أين حَرَقُ المجتهدين في نهاره؟ أين قَلَقُ المتهجِّدين في أسحاره؟
اسْمَع
(5)
أنينَ العاشقينَ
…
إن اسْتطعتَ له سَمَاعا
راحَ الحبيبُ فشيَّعَتْهُ
…
مدامعي تهمي سِراعا
لو كلّف الجبل الأصمّ
…
فِراق إلفٍ ما استطاعا
إذا كان هذا جَزَعُ مَن ربح فيه، فكيفَ حالُ مَن خسِر في أيَّامهِ ولياليه؟ ماذا ينفَعُ
(1)
في ط: "كُلْ أمانِ".
(2)
في ش: "هل يقوم".
(3)
في ش: "وآخر"، وفي ع:"وأخوه بخس لا يساوي درهم".
(4)
في ط: "يوم".
(5)
من هنا وحتى قوله: "من ربح فيه" ساقط في ب، ط.
المفرطَ فيه بكاؤه، وقد عظُمَتْ فيه مصيبَتُهُ وجَلَّ عزاؤه؟ كم نُصِحَ المِسْكينُ فما قبِلَ النُّصْحَ! كم دُعِي إلى المصالحة فما أجابَ إلى الصُّلْحِ! كم شاهد الواصلين فيه وهو متباعد! كم مَرَّتْ به زمر السَّائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاقَ به الوقتُ وحَاق به المقْتُ
(1)
، نَدِمَ على التفريط حين لا ينفَعُ النَّدم، وطلَبَ الاستدراكَ في وقتِ العَدَم.
أتتركُ مَن تُحبُّ وأنْتَ جارُ
…
وتطلبُهُم إذا
(2)
بَعُدَ المَزَارُ
وتبكي بَعْدَ نأْيِهمُ اشتياقًا
…
وتسألُ في المنازِلِ أينَ سَاروا
تركتَ سؤالَهم وَهُمُ حُضُورٌ
…
وتَرْجُو أن تُخَبِّرَكَ الدِّيارُ
فنفسَكَ لُمْ ولا تَلُمِ المَطَايا
…
وَمُتْ كَمَدًا فليسَ لَكَ اعْتِذارُ
يا شهرَ رمضانَ ترفَّقْ، دموعُ المحبِّين تُدْفَقْ، قلوبُهم من ألم الفراق تَشَقَّقْ، عَسَى وقفةٌ للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عَسَى ساعةُ تَوْبةٍ وإقلاعٍ ترفو من الصِّيام كُلَّ ما تخرَّقْ، عَسَى منقطِعٌ عن رَكْبِ المقبولين يَلحقْ، عَسَى [أسيرُ الأوزار يُطلَقْ، عسى]
(3)
من استوجب النار يُعتقْ، [عسى رحمة المولى لها العاصي يُوفَّقْ]
(4)
.
عَسَى وعَسَى مِن قَبْلِ وَقْتِ التَّفَرُّقِ
…
إلى كُلِّ ما ترجُو مِن الخَيْر تَرْتَقي
(5)
فيجبر مكسور ويقبَلُ تائبٌ
…
ويعتق خَطَّاء ويَسْعَدُ مَن شقِي
(6)
* * *
(1)
في ط: "وخاف المقت"، وهو تحريف.
(2)
في ب، ط:"وقد".
(3)
ما بين قوسين لم يرد في آ، وورد في ع مؤخرًا.
(4)
زيادة مستدركة في هامش ع.
(5)
في ط: "تلتقي".
(6)
روايته في آ، ش:
فيقبل مردود ويقبل تائب
…
ويُجْبَر مكسور ويسعد من شقي
وظائف شهر شوَّال
(1)
وفيه مجالس:
المجلس الأول في صيام شوَّال كله واتباع رمضان بصيام ستة أيامٍ
(2)
من شوَّال
خرَّج مسلم
(3)
من حديث أبي أيُّوب الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ صَامَ رمضانَ، ثم أَتْبعَهُ ستًا مِن شوَّالٍ، كان كصِيام الدَّهْر". وقد اختلِفَ في هذا الحديث، ثم في العمل به؛ فمنهم مَن صحَّحَه، ومنهم مَن قال هو موقوفٌ؛ قاله ابنُ عُيَيْنَةَ وغيرُه، وإليه يميلُ الإِمام أحمد، ومنهم من تكلَّم في إسناده. وأمَّا العمَلُ به، فاستحبَّ صيامَ ستةِ أيام من شوالٍ أكثرُ العلماء. رُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وطاووس، والشعبيّ، وميمون بن مهران، وهو قولُ ابن المبارك والشافعي وأحمدَ وإسحاقَ؛ وأنكَرَ ذلك آخرون.
روي عن الحسن أنَّه كان إذا ذُكِرَ عندَه صيامُ هذه الستة، قال: لقد رضي الله بهذا الشهر للسنة كُلِّها. ولعلَّه إنما أنكر على من اعتقدَ وجوبَ صيامِها وأنَّه لا يكتفى
(1)
شوَّال: من أسماء الشهور معروف، اسم الشهر الذي يلي شهر رمضان، وهو أول أشهر الحج، قيل: سُمِّي بتشويل لبن الإِبل، وهو تولِّيه وإدباره، وكذلك حال الإِبل، في اشتداد الحر وانقطاع الرُّطْب، وقال الفرَّاء: سمِّي بذلك لِشَوَلان الناقة فيه بذنبها. والجمع شَوَاويل على القياس، وشَواوِل على طرح الزائد، وشوَّالات. وكانت العرب تَطَيَّرُ من عَقْد المناكح فيه، وتقول: إن المنكوحة تمتنع من ناكحها كما تمتنع طَروقة الجَمَل إذا لَقحَت وشالت بذنبها، فأبطل النبيُّ صلى الله عليه وسلم طِيرَتَهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: تزوَّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوَّال، وبَنَى بي في شوَّال، فأيُّ نسائه كان أحظى عنده مني؟ (اللسان: شول).
(2)
في آ، ش، ع:"أيام منه".
(3)
رقم (1164) في الصيام: باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا لرمضان. ورواه أيضًا الترمذي رقم (759) في الصوم: باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال، وأبو داود رقم (2433) في الصوم: باب في صوم ستة أيام من شوال.
بصيام رمضان عنها في الوجوب. وظاهر كلامِه يدُلُّ على هذا. وكَرِهَها الثوريُّ، وأبو حنيفة، وأبو يوسُفَ، وعلَّلَ أصحابُهما ذلك بمشابهة أهلِ الكتاب، يعنون في الزِّيادة في صيامهم المفروض عليهم ما ليس منه. وأكثَرُ المتأخِّرين من مشايخهم قالوا: لا بأسَ به، وعلَّلوا بأنَّ الفضل
(1)
قد حَصَلَ بفِطْر يومِ العِيدِ، حكى ذلك صاحبُ "الكافي"
(2)
منهم. وكان ابن مَهْدي
(3)
يكرهُها ولا ينهَى عنها. وكرِهَها أيضًا مالِكٌ، وذكَرَ في "الموطأ" أنَّه لم يَرَ أحدًا من أهل العلم والفقه
(4)
يصومها، قال: ولم يبلغني ذلك عن أحدٍ من السَّلف، وأنَّ أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعتَه وأن يُلحِق برمضانَ ما ليس منه أهلُ الجهالة لو رأوا أحدًا من أهل العلم يفعَلُ ذلك. وقد قيل: إنَّه كان يصومُها في نفسه، وإنما كرِهَها على وجهٍ يُخشَى منه أن يُعتَقَدَ فريضتها؛ لئلا يُزاد في رمضان ما ليس منه. وأمَّا الذين استحبُّوا صيامَها، فاختلَفُوا في صفة صيامها، على ثلاثة أقوالٍ:
أحدُها: أنَّه يُستحبُّ صيامُها من أوَّل الشهر مُتتابِعَةً، وهو قولُ الشافعي وابن المبارك. وقد رُوي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"مَن صَامَ ستة أيَّامٍ بعدَ الفِطْر متتابِعَةً، فكأنما صام السَّنَةَ". خرَّجه الطبراني
(5)
وغيرُه من طرقٍ ضعيفةٍ. ورُوِي موقوفًا
(6)
، وَرُوِي عن ابن عبَّاسٍ من قوله بمعناه، بإسناد ضعيفٍ أيضًا.
(1)
في ط: "أن الفطر".
(2)
أي الكافي في شرح الوافي، في الفقه الحنفي، من تأليف أبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي المتوفى سنة 710 هـ.
(3)
في ط: "مهدي" بغير لفظ "ابن". وهو عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مَهدي، الفارسي الكازروني، البغدادي، البزّاز. قال الخطيب البغدادي: كان ثقة أمينًا، مات سنة 410 هـ، ومولده سنة 318 هـ. (سير أعلام النبلاء 17/ 221).
(4)
حتى قوله: "من أهل العلم" ساقط في ط.
(5)
ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد" 3/ 183 وقال: "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه من لم أعرفه"، والترغيب 2/ 111 والزيادة منهما. قال المنذري: "رواه الطبراني في الأوسط بإسناد فيه نظر".
(6)
في ط: "مرفوعًا". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 184: "عن ابن عباس وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال صام السنة كلها. رواه الطبراني في الأوسط، وفيه يحيى بن سعيد المازني وهو متروك". وانظر الترغيب 2/ 111.
والثاني: أنَّه لا فرقَ بين أن يتابِعَها أو يُفرِّقَها من الشهر كُلِّه، وهما سواءٌ، وهو قولُ وكيعٍ وأحمدَ.
والثالث: أنه لا يصامُ عقيب يوم الفطر؛ فإنَّها أيام أكلٍ وشُربٍ، ولكن يُصام ثلاثة
(1)
أيام قبلَ أيام البيض أو بعدها. وهذا قولُ مَعْمَر وعبد الرَّزَّاق. ويروى عن عطاءٍ، حتى رُوِي عنهَ أنَّه كرِهَ لمن عليه صيامٌ من قضاءِ رمضانَ أن يصومَهُ، ثم يَصِلَهُ بصيامِ تطوُّع. وأمر بالفصل
(2)
بينهما، وهو قولٌ شاذ. وأكثَرُ العلماء على أنَّه لا يُكْرَهُ صيامُ ثاني يوم الفطر، وقد دَلَّ عليه حديث عِمران بن حصين رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّه قَال لرجل:"إذا أفطرْتَ فَصُمْ". وقد ذكرناه في صيام آخِر شعبان.
وقد سَرَدَ طائفةٌ من الصَّحابة والتابعين الصَّوْمَ إلا يوم
(3)
الفطر والأضحى. وقد رُوِي عن أم سلمَةَ أنَّها كانت تقول لأهلها: مَن كان عليه رمضانُ فلْيَصُمْه الغَدَ مِن يَوْمِ الفِطْر، فمَنْ صَامَ الغَدَ مِن يوم الفطر فكأنَّما صام رمضان. وفي إسناده ضعف. وعن الشعبي، قال: لأنْ أصُومَ يومًا بعد رمضان أحبُّ إليَّ من أن أصومَ الدَّهْرَ كُلَّه. ويُروى بإسنادٍ ضَعيفٍ عن ابن عُمَر مرفوعًا: "مَن صَامَ بعد الفِطْر يومًا فكأنَّما صام السَّنَةَ". وبإسنادٍ
(4)
ضعيف عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما مرفوعًا: "الصَّائم بَعْدَ رمضانَ كالكارِّ بَعْدَ الفَارِّ"
(5)
.
وأمَّا صِيامُ شوَّالٍ كُلِّه، ففي حديثِ رجلٍ من قريش سَمعَ النبي صلى الله عليه وسلم يقولُ:"مَن صامَ رمضانَ وشوَّالًا والأربعاءَ والخميسَ، دَخَلَ الجنَّة". خرجه الإِمام أحمدُ
(6)
(1)
في ب، ع، ط:"ثلاثة أيام قبل أيام البيض، وأيام البيض أو بعدها"، وفي آ:"ثلاثة أيام البيض وبعدها". والمثبت من نسخة ش.
(2)
في ط: "بالفطر".
(3)
في آ، ش، ع:"إلا يوم فطرٍ أو أضحى".
(4)
في ط: "وبإسناده ضعف".
(5)
أورده الهندي في "كنز العمال" رقم (24142) وعزاه إلى البيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عباس. وذكره الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" رقم (3529) وقال: ضعيف جدًّا.
(6)
رواه أحمد في "المسند" 3/ 416 و 4/ 78 وزاد في الأولى "والجمعة"، من حديث عكرمة المحزومي عن عريف من عرفاء قريش. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 190 "قال:"رواه أحمد وفيه من لم يسم، وبقية رجاله ثقات". وأورده الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" رقم (5662) برواية: "من صام رمضان وستًا من شوال والأربعاء والخميس، دخل الجنة".
والنسائي. وخرَّج الإِمامُ أحمدُ
(1)
وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث مسلم القرشي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّه سئل عن صِيام الدَّهْرِ، فقال:"إنَّ لأهلك عليك حقًّا، فَصُمْ رَمَضَانَ والذي يليه، وكُلَّ أربعاءٍ وخَمِيسٍ، فإذا أنْتَ قد صُمْتَ الدَّهْرَ وأفطَرْتَ". وخرَّج ابن ماجه
(2)
بإسنادٍ منقطِعٍ أن أسَامَةَ بنَ زيدٍ كان يَصُومُ أشهُر الحُرُم، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"صُمْ شوَّالًا". فترك أشْهُرَ الحُرُمِ، ثم لم يَزَلْ يَصُومُ شوَّالًا حتَّى مات.
وخرَّجه أبو يعلى الموصلي
(3)
بإسنادٍ متَّصلٍ، عن أسَامة، قال: كنتُ أصومُ شهرًا من السَّنة، فقال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أينَ أنتَ مِن شوَّالٍ؟ فكان أسَامَة إذا أفطَرَ
(4)
أصبَحَ الغَدَ صائمًا مِن شوَّالٍ حتى يأتيَ على آخره وصِيامُ شوَّالٍ كصِيامِ شَعْبَانَ، لأنَّ كلا الشَّهْرَيْن حَرِيمٌ لِشَهر رَمضانَ، وهما يَلِيانِهِ. وقد ذكرنا في فَضْلِ صِيام شعبان أن الأظْهَرَ أن صيامَهما أفضلُ مِن صيامِ الأشهُر الحُرُم، ولا خلاف
(5)
في ذلك. وإنَّما كان صيامُ رمضانَ واتباعُه بستٍّ مِن شوَّال يعدِلُ صِيامَ الدَّهْر؛ لأنَّ الحَسَنَةَ بعَشْرِ أمثالها، وقد جاء ذلك مفسَّرًا من حديث ثوبانَ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"صِيامُ رمضانَ بعشْرَةِ أشْهُرٍ، وصِيامُ ستَّةِ أيام بشهرين، فذلك صيام سنةٍ". يعني رمضانَ وستَّةَ أيَّامٍ بعدَه. خرَّجَه الإِمامُ أحمدُ
(6)
والنسائي وهذا لفظه، وابنُ حبَّان في صحيحه، وصحَّحه أبو حاتم الرازي.
وقال الإمام أحمد: ليس في أحاديث الباب
(7)
أصَحّ منه. وتوقَّف فيه في روايةٍ
(1)
أخرجه أبو داود رقم (2432) في الصيام: باب في صوم شوال، والترمذي رقم (748) في الصوم: باب ما جاء في صوم يوم الأربعاء والخميس، وفي سنده عبيد الله بن مسلم القرشي، لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات، وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي الباب عن عائشة رضي الله عنها. وأخرجه المنذري في "الترغيب" 2/ 127 وقال:"رواته ثقات".
(2)
رقم (1744) في الصيام: باب صيام أشهر الحرم. وقال في "الزوائد": إسناده صحيح، إلا أنه منقطع بين محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وبين أسامة بن زيد. وأورده الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجة" رقم (381).
(3)
كنز العمال ج 8 رقم (24588) عن مسند أسامة بن زيد رضي الله عنه، وأخرجه البخاري في "تاريخه" 1/ 1/ 20.
(4)
في ع: "أفطر رمضان".
(5)
في ش، ع، ط:"والاختلاف في ذلك".
(6)
رواه أحمد في "المسند" 5/ 280، وابن حبان في "صحيحه" 5/ 258 في الصوم، رقم (3627)، والترغيب 2/ 110 - 111. وأورده الألباني في "صحيح الجامع الصغير" رقم (3851).
(7)
في ط: "حديث الرازي"، وهو تحريف.
أخرى. ولا فرق في ذلك بين أن يكون شهرُ رمضان ثلاثين أو تسعًا وعشرين. وعلى هذا حَمَلَ بعضُهم قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: "شهرا عِيدٍ لا يَنْقُصان؛ رمَضانُ، وذو الحجَّة"
(1)
. وقال: المرادُ كمالُ آخره
(2)
، سواء كان ثلاثين أو تسعًا وعشرين. وأنَّه إذا أُتْبِعَ بستَّةِ أيَّامٍ من شَوَّالٍ، فإنَّه يعدِلُ صيامَ الدَّهْر على كُلِّ حالٍ.
وكرِهَ إسحاق بنُ راهَويه أن يقال لشهر رمضان: إنه ناقصٌ، وإن كان تسعًا وعشرين؛ لهذا المعنى. فإن قال قائلٌ: فلو صام هذه الستة أيامٍ من غيرِ شوَّالٍ يحصل له هذا الفضل، فكيف خُصَّ صيامُها من شوَّالٍ؟ قيل: صيامُها مِن شوَّالٍ يلتحقُ بصيام رمضانَ في الفضل، فيكونُ له أجْرُ صيامِ الدَّهْر فرضًا. ذكر ذلك ابنُ المبارك، وذكر أنَّه في بعض الحديث حكاه عنه الترمذي في جامعه. ولعَّله أشار إلى ما رُوي عن أم سلمة رضي الله عنها: أن من صَام الغَدَ مِن يَوْمِ الفِطْر، فكَأنَّما صام رَمضان. وفي معاودة الصِّيام بعد رمضان فوائدُ عديدةٌ:
منها: أن صيامَ ستةِ أيَّام مِن شوَّالٍ بعدَ رمضان يستكمِلُ بها أجْرَ صيامِ الدَّهْرِ كُلِّه، كما سبق.
ومنها: أنَّ صيامَ شوَّالٍ وشعبانَ كصلاةِ السُّنَنِ الرواتبِ قبل الصَّلاة المفروضة وبعدَها، فيكمُلُ بذلك ما حَصَل في الفَرْضِ مِن خَلَلٍ ونَقْصٍ. فإن الفرائضَ
(3)
تكمُلُ بالنوافل يومَ القيامةِ، كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوهٍ متعدِّدةٍ. وأكثَرُ
(1)
أخرجه البخاري 4/ 124 في الصوم: باب شهرا عيد لا ينقصان؛ ومسلم رقم (1089) في الصيام: باب بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم: شهرا عيد لا ينقصان. ورواه أبو داود رقم (2323) في الصوم: باب الشهر يكون تسعًا وعشرين؛ والترمذي رقم (692) في الصوم: باب ما جاء شهرا عيد لا ينقصان.
(2)
في آ، ش، ع:"أَجْرِه". قال الخطابي: اختلف الناس في معنى قوله: شهرا عيد لا ينقصان، فقال بعضهم: معناه: أنهما لا يكونان ناقصين في الحكم، وإن وجدا ناقصين في عدد الحساب. وقال بعضهم: معناه: أنهما لا يكادان يوجدان في سنة واحدة مجتمعين في النقصان، إن كان أحدهما تسعة كان الآخر ثلاثين. قال الخطابي: قلت وهذا القول لا يعتمد عليه؛ لأنَّ الواقع يخالفه، إلا أن يحمل الأمر على الغالب والأكثر. وقال بعضهم: إنما أراد بهذا تفضيل العمل في العشر من ذي الحجة، فإنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان. (جامع الأصول 6/ 283).
(3)
في ط: "فإن الفرائض تجبر أو تكمل".
النَّاسِ في صيامه للفرض نقصٌ وخلَلٌ، فيحتاجُ إلى ما يُجبِرُه ويُكْمِلُهُ مِن الأعمال؛ ولهذا نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولَ الرَّجُلُ: صُمْتُ رَمضانَ كُلَّه، أو قمته كُلَّه. قال الصَّحابي
(1)
: فلا أدرِي، أكرِهَ التَّزكِيَةَ أم لا بُدَّ من غَفْلَة
(2)
. وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقولُ: مَن لم يجِدْ ما يتصدَّقُ به فليصُمْ. يعني من لم يجد ما يُخرجُهُ صَدَقَة للفطر في آخر رمضان فليصُمْ بعدَ الفِطْر؛ فإنَّ الصِّيامَ يقومُ مقام الإِطعام في التكفير للسيئات، كما يقومُ مقامَه في كفَّارات الأيْمان وغيرها من الكفَّارات، مثل كَفَّارة
(3)
القتل، والوطء في رمضان، والظِّهار.
ومنها: أن معاوَدَةَ الصِّيام بعدَ صِام رمضانَ علامةٌ على قَبُولِ صَوْمِ رمضانَ؛ فإنَّ الله تعالى إذا تقبَّل عَمَلَ عَبْدٍ وفَّقَه لعمل صالحٍ بعدَه، كما قال بعضُهم: ثوابُ الحسنةِ الحسنةُ بَعْدَها، فمن عَمِلَ حسَنَةً ثم أتبَعَها بحسنةٍ بعدها، كان ذلك علامةً على قَبولِ الحسَنَةِ الأولى. كما أن مَن عَمِلَ حسنةً، ثم أتبَعَها بسيئةٍ، كان ذلك علامَةَ رَدِّ الحسَنَةِ وعَدَمَ قبولها.
ومنها: أن صيامِ رمضانَ يوجِبُ مغفِرَةَ ما تقدَّمَ مِن الذُّنوب، كما سَبَقَ ذكْرُه؛ وأنَّ الصَّائمين لرمضانَ يوفَّونَ
(4)
أجورَهُم في يوم الفِطر، وهو يومُ الجوائز. فيكون معاوَدَةُ الصِّيامِ بعدَ الفِطْر شُكرًا لهذه النِّعمةِ، فلا نِعْمَةَ أعظمُ مِن مغفرة الذنوبِ. كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوِمُ حتَّى تتورَّمَ قَدَمَاهُ، فيقالُ له: أتفعَلُ هذا وقد غَفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فيقول: أفلا أكونُ عبدًا شكورًا
(5)
؟.
وقد أَمَرَ اللهُ سبحانه وتعالى عِبادَهُ بشُكْر نِعمَةِ صِيام رمضانَ بإظهارِ ذِكْرِه، وغير
(1)
هو أبو بكرة رضي الله عنه. والحديث أخرجه أبو داود رقم (2415) في الصوم: باب من يقول: صمت رمضان كله؛ والنسائي 4/ 130 في الصيام: باب الرخصة في أن يقال لشهر رمضان: رمضان، وفيه عنعنة الحسن البصري.
(2)
في ط: "الغفلة". وفي "جامع الأصول" 11/ 735: "لا بُدَّ من نَوْمَةٍ أو رَقْدَةٍ".
(3)
في ط: "في مثل كفَّارات القتل".
(4)
في آ: "يؤتون".
(5)
أخرجه البخاري رقم (1130) في التهجد: باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل، وفي غيره. ومسلم رقم (2819) في صفات المنافقين: باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، والترمذي رقم (412) في الصلاة، والنسائي 3/ 219 في قيام الليل، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
ذلك من أنواع شكره، فقال:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
(1)
. فمن جملةِ شكر العَبْدِ لربِّه على توفيقه لصيام رمضانَ وإعانتِه عليه، ومغفرةِ ذنوبِهِ أنْ يصومَ له شكرًا عقيب
(2)
ذلك. كان بعضُ السَّلَف إذا وُفِّقَ لقيام ليلةٍ من الليالي أصبَحَ في نهارها صائمًا، ويجعلُ صيامَه شكرًا للتوفيق
(3)
للقيام. وكان وهيب
(4)
بن الورد يُسأل عن ثواب شيءٍ من الأعمال، كالطوافِ ونحوه، فيقول: لا تسألوا عن ثوابه، ولكن سَلُوا ما الذي على مَن وُفِّقَ لهذا العمل من الشكر؛ للتوفيق والإِعانة عليه.
إذا أنْتَ لم تَزْدَدْ على كُل نِعْمَةٍ .. لموليكَها شُكْرًا فلسْتَ بشاكِرِ
كُلُّ
(5)
نعمةٍ على العبد مِن الله في دِينٍ أو دنيا يحتاجُ إلى شكرٍ عليها، ثم التوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبدًا فلا يقدِرُ العباد على القيام بشُكر النعم. وحقيقة الشُّكْر الاعترافُ بالعجز عن الشكر، كما قيل
(6)
:
إذا كان شُكْري نِعْمَةَ الله نِعْمَةً
…
عليَّ لَهُ في مِثْلِها يجِبُ الشُّكْرُ
فكيفَ بُلُوغ الشُّكْرِ إلَّا بِفَضْلِهِ
…
وإن طالَتِ الأَيَّامُ واتَّصَلَ العُمْرُ
قال أبو عمرو الشيباني: قال موسى عليه السلام يوم الطُّور: ياربّ! إنْ أنا صليتُ فمِن قِبَلِكَ، وإن أنا تصدَّقْتُ فمن قبلِكَ، وإن بلَّغْتُ رسالاتك فمن قبلِك، فكيفَ أشكرك؟ قال: يا موسى، الآن شكرتني. فأمَّا مقابلةُ نعمةِ التوفيق لصيام شهر رمضان بارتكاب المعاصِي بعدَه، فهو مِن فِعْل مَن بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كفرًا. فإن كان قد عَزَمَ في صيامه على معاودة المعاصي بعدَ انقضاءِ الصيام، فصيامُه عليه مردود، وبابُ الرَّحمة في وجهه مسدود. قال كعبٌ: مَن صامَ رمضانَ وهو يُحدِّثُ نفسَه أنَّه إذا
(1)
سورة البقرة الآية 185.
(2)
في ط: "عقب"، وهما بمعنى.
(3)
في آ: "لما وُفِّق للقيام".
(4)
في ط: "وهب"، وهو تحريف.
(5)
في ب، ط:"على كُلِّ نعمة".
(6)
هما لمحمود الوراق، من شعراء الرقائق في القرن الثالث، ذكرهما مع بيتين آخرين ابن أبي الدنيا في كتاب "الشكر" ص 104، وهي في زهر الأداب 1/ 89، و "فضيلة الشكر" للخرائطي ص 47.
أفطر
(1)
رمضان أن لا يعصي الله، دخل الجنة بغير مسألةٍ ولا حسابٍ. ومَن صَامَ رمضانَ وهو يحدِّثُ نفسَه أنه إذا أفطر عصَى ربَّه، فصيامُه عليه مردود.
ومنها: أن الأعمال التي كان العبْدُ يتقرب بها إلى رَبِّه في شهر رمضانَ لا تنقطِعُ بانقضاء رمضانَ، بل هي باقية بعدَ انقضائه ما دام العبدُ حَبًّا. وهذا معنى الحديث المتقدِّم أنَّ الصائم بعد رمضان كالكارِّ بعد الفارِّ، يعني كالذي يفِرُّ مِن القتال في سبيل الله ثم يعودُ إليه. وذلك لأن كثيرًا مِن الناس يفرَحُ بانقضاء شهر رمضانَ؛ لاستثقال الصَّيام ومَلَلِهِ وطوله عليه. ومَن كان كذلك فلا يكادُ يعودُ إلى الصِّيام سريعًا، فالعائدُ إلى الصِّيام بعد فطره يومَ الفِطْر يدُلُّ عودُه على رغْبَته في الصيام وأنَّه لم يملَّهُ ولم يستثقِلْه ولا تكَرَّه به.
وفي حديثٍ خرَّجه الترمذي
(2)
مرفوعًا: "أحبُّ الأعمال إلى الله الحالُّ المرتَحِلُ". وفُسِّرَ بصاحب القرآن يضربُ من أوَّله إلى آخره، ومن آخِره إلى أوَّله، كلَّما حَلَّ ارتحَلَ
(3)
. والعائد إلى الصِّيام سريعًا بعد فراغ صيامِه، شبيةٌ بقارئ القرآن إذا فرغ من قراءته ثم عادَ إليه، في المعنى، والله أعلم.
قيل لِبِشْرٍ: إنَّ قومًا يتعبَّدون ويجتهِدون في رمضان. فقال: بئسَ القوم قومٌ لا يعرِفون لله حقًّا إلَّا في شهر رمضانَ، إن الصَّالح الذي يتعبَّد ويجتهِدُ السَّنةَ كلَّها. وسئل الشِّبْلِي: أيّما أفضَلُ، رَجَبٌ أو شعبانُ؟ فقال: كن رَبَّانيًا ولا تكن شعبانيًا. ثم أنشَدَ
(4)
:
(1)
في ط: "إذا أفطر من رمضان لم يعص".
(2)
رقم (2927) في ثواب القرآن، والدارمي 2/ 441، وإسناده ضعيف. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ولعله حسنه ببعض الشواهد. ونصه عند الترمذي: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رجل: "يا رسول الله! أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله؟ قال: الحالُ المرتحِلُ. قال: وما الحل المرتحِلُ؟ قال: الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلَّما حَلَّ ارتحَلَ".
(3)
في هامش ع ما نصه: "وقال الشيخ محيي الدين النووي في كتابه "آداب حملة القرآن": يستحب إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى عقيب الختمة، فقد استحبه السلف، واحتجوا فيه بحديث أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: خير الأعمال الحل والرحلة، قيل: وما هما؟ قال: افتتاح القرآن وختمه".
(4)
لم يرد هذا الإِنشاد في ط.
إذا كنتَ في حرب الهَوَى متجردًا
(1)
…
فكلُّ أرضٍ ثغرٌ
(2)
لي وطرسوس
كان النبي صلى الله عليه وسلم عَمَلُه دِيمَة. وسئلَتْ عائشةُ رضي الله عنها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يختصُّ يومًا مِن الأيام؟ فقالت: لا، كان عملُه دِيمةً
(3)
. وقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيدُ في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعةً
(4)
. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضِي ما فاته من أورادِه في رمضان في شوال، فترك في عام اعتكافَ العَشْر الأواخر مِن رمضان، ثم قضاهُ. في شوال، فاعتكَفَ العَشْرَ الأولَ منه
(5)
.
وسأل
(6)
رجلًا: هل صام من سَرَرِ شعبان شيئًا؟ فقال: لا، فأمره أن يصوم إذا أفطر. يعني يقضي ما فاته من صيام شعبان في شوال.
وقد تقدَّم عن أُمِّ سَلَمَةَ أنها كانت تأمر أهلَها: مَن كان عليه قضاءٌ مِن رمضان أن يقضيه الغد من يوم الفِطر، فمن كان عليه قضاءٌ من شهر رمضان فليبدأ بقضائه في شوَّال؛ فإنه أسرَعُ لبراءة ذمته، وهو أَوْلَى من التطوع بصيام ستٍ من شوّال. فإنَّ العلماء اختلفوا فيمن عليه صيامٌ مفروض؛ هل يجوز أن يتطوَّع قبلَه أم لا؟ وعلى قول من جوَّز التطوَّعَ قبلَ القضاءِ فلا يحصُلُ مقصودُ صيامِ ستةِ أيَّام مِن شوَّالٍ إلَّا لمن أكمَلَ صِيامَ رمضان، ثم أتبعه بستٍ من شوَّالٍ. فمن كان عليه قضاءٌ مِن رمضانَ، ثم بدأ بصيام سِتٍّ من شوَّالٍ تطوُّعًا
(7)
، لم يحصُلْ له ثوابُ مَن صامَ رمضانَ، ثم أتبَعَهُ بست من شوال، حيث لم يكمل عدة رمضان، كما لا يحصُلُ لمن أفطر رمضان لعذرٍ
(1)
لفظة (متجردًا) سقطت من آ، وفي ب:"سايرًا"، وفي ش:"متجددًا"، وأثبت ما جاء في ع.
(2)
في ب: "في ثغر وطرسوس"، وفي ع:"لي ثغر"، وفي ش:"بعزلي". وفي البيت اضطراب واضح.
(3)
رواه الشيخان. وانظر "جامع الأصول" 1/ 305 و 6/ 343. والذيمة: المطر الدائم في سكون، فتُشبَّه به الأعمال الدائمة مع القصد والرِّفق.
(4)
قطعة من حديث طويل أخرجه الشيخان. انظر "جامع الأصول" 6/ 93.
(5)
أخرجه الشيخان، وله روايات متعددة، انظرها في "جامع الأصول" 1/ 334 - 337.
(6)
في ط: أ وسأل رجل أهل صام من شهر شعبان"، وصححت من النسخ المعتمدة.
وقد أخرجه البخاري 4/ 230 و 231 في الصوم: باب الصوم من آخر الشهر، ومسلم رقم (1161) في الصيام: باب صوم سرر شعبان، وأبو داود رقم (2328) في الصوم: باب في التقدم، واللفظ له. وسِرُّ الشهر: آخره، وكذلك سَرَره وسِرارُه.
(7)
في ط: "حيث لم يكمل عدة رمضان" بدل لفظة "تطوعًا".
وسترد العبارة بعد لفظة "شوال" الثانية في النسخ كلها.
بصيام ستَّةِ أيام من شوال أجرُ
(1)
صيام السّنةِ
(2)
بغير إشكال. ومن بدأ بالقضاء في شوَّالٍ، ثم أراد أن يُتبعَ ذلك بصيام ست من شوَّالٍ بعدَ تكملة قضاء رمضان كان حسنًا؛ لأنَّه يصيرُ حينئذٍ قد صام رمضانَ وأتبَعَهُ بستٍّ من شوال. ولا يحصُل له فَضْلُ صيام ستٍّ من شوَّالٍ بصومِ قضاءِ رمضانَ؛ لأنَّ صيام الست مِن شوَّالٍ إنما يكون بعدَ إكمال عدَّة رمضان.
عَمَلُ المؤمنِ لا ينقضي حتى يأتيَه أجلُه. قال الحسن: إنَّ الله لم يجعلْ لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، ثم قرأ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}
(3)
.
هذه الشهور والأعوام والليالي والأيام كلُّها مقاديرُ للآجال، ومواقيتُ للأعمال، ثم تنقضي سريعًا، وتمضي جميعًا. والذي أوجدَها وابتدَعها وخصَّها بالفضائل وأودَعَها باقٍ لا يزول، ودائمٌ لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحدٌ، ولأعمالِ عبادِه رقيبٌ مشاهد. فسبحان مَن قلَّبَ عبادَهُ في اختلاف الأوقات بين وظائف الخدم؛ ليسبغَ عليهم فيها فواضِلَ النِّعم، ويعاملهم بنهاية الجود والكرم. لمَّا انقضت الأشهر
(4)
الثلاثة الكرام التي أولها الشهر الحرام، وآخرها شهرُ الصِّيام، أقبلت بعدها الأشهر الثلاثة، أشهر الحج إلى البيت الحرام، فكما أنَّ مَن صام رمضانَ وقامَهُ غُفِرَ لَهُ ما تقدَّم من ذنبه؛ فمن حَجَّ البيت ولم يرفُثْ ولم يفسُقْ رَجَعَ من ذنوبه كيوم ولدتْهُ أمُّه، فما يمضي من عمر المؤمن ساعةٌ من الساعات إلَّا ولله فيها عليه وظيفةٌ مِن وظائفِ الطاعات؛ فالمؤمنُ يتقلَّبُ بينَ هذه الوظائف، ويتقرَّب بها إلى مولاه وهو راجٍ خائف.
المحبُّ لا يملُّ من التقرب بالنوافل إلى مولاه، ولا يأمل إلا قربه ورضاه.
ما للمحِبِّ سِوَى إرادَةِ حُبِّهِ
…
إنَّ المُحِبَّ بكُلِّ برٍّ
(5)
يضرَعُ
كلُّ وقتٍ يخليه العبد من طاعةِ مولاه فقد خسره، وكُل ساعةٍ يغفلُ فيها عن
(1)
في ط: "آخر".
(2)
في آ، ب:"الستة"، وكلاهما صحيح.
(3)
سورة الحجر الآية 99.
(4)
في ط: "الأشهر الحرم".
(5)
في ط: "أمرٍ".
ذكر الله تكون عليه يوم القيامة ترَةً. فوا أسفاه على زمان ضاع في غير طاعته! وواحسرتاه على وقتٍ فات
(1)
في غير خدمته!.
مَنْ فاتَهُ أن يَرَاكَ يومًا
…
فَكُلُّ أوقاتِهِ فوَاتُ
وحيثما كنْتُ من بلادٍ
…
فلي إلى وَجْهِكَ التفاتُ
[إليكُمُ هِجْرَتي وقَصْدِي
…
وأنتُمُ المَوْتُ والحياةُ
أمِنْتُ أن توحِشُوا فؤادِي
…
فآنِسُوا مقلتي ولاتُ]
(2)
مَن عمِل طاعةً من الطاعات وفرغَ منها، فعلامةُ قَبولها أن يصلَها بطاعةٍ أخرى، وعلامةُ رَدِّها أن يعقِبَ تلك الطاعة بمعصيةٍ. ما أحسَنَ الحسَنَةَ بَعْدَ السيئة تمحوها
(3)
! وأحسَنُ منها الحَسَنَةُ بَعْدَ الحسنة تتلوها. وما أقبَحَ السيئةَ بعدَ الحسنةِ تمحقُها وتعفُوها! ذنبٌ واحِدٌ بعدَ التوبة أقبَحُ مِن سبعين ذنبًا قبلَها. النكسة أصعب
(4)
من المرض، وربما أهلَكَتْ. سلوا الله الثبات على الطَّاعاتِ إلى الممات، وتعوَّذُوا به من تقلُّب القلوب، ومِنَ الحَوْر بعد الكَوْرِ
(5)
. ما أوحشَ ذلّ المعصيةِ بَعْدَ عزِّ الطاعة، وأفحشَ
(6)
فقر الطمع بعد غنى القناعة.
ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذَلَّ، وغنِيَّ قومٍ بالذُّنوب افتقر.
تَرَى الحيَّ الأولى بانُوا
…
على العَهْدِ كما كانُوا
أَمِ الدَّهْرُ بهم خانُوا
…
وَدَهْرُ المَرْءِ خَوَّانُ
إذا عَزَّ بغَيْرِ الله
…
يومًا مَعْشَرٌ هَانُوا
يا شُبَّانَ التوبةِ، لا تَرجِعُوا إلى ارتضاعِ ثَدْي الهَوَى من
(7)
بعد الفطام، فالرَّضاع إنما يصلُح للأطفال لا للرجال. ولكن لا بُدّ مِن الصّبْرِ على مَرَارة الفِطام؛ فإنْ صَبَرْتُم
(1)
في ط: "قلب بات"، وفي ب:"قلب فات".
(2)
ما بين قوسين لم يرد في آ، ش، ع.
(3)
في آ، ب:"تمحها"، بالجزم.
(4)
في ط: "أصعب من الضعفة".
(5)
وفي الحديث: "نعوذ بالله من الحَوْرِ بَعْدَ الكَوْر"، أي من النقصان بعد الزيادة. وقيل: من فساد أمورنا بعد صلاحها. وقيل: من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنَّا منهم، وأصله: من نَقْض العِمامة بعد لفِّها. (النهاية 1/ 458).
(6)
في ط: "وأوحش منه".
(7)
لفظ "من" لم يرد في آ، ش، ع.
تعوَّضْتُم عن لَذَّةِ الهَوَى بحلاوة الإيمان في القلوب. مَن تَرَكَ لله شيئًا لم يجِدْ فقدَه عوَّضه
(1)
الله خيرًا منه. {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}
(2)
. وفي الحديث: "النظر سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِن سِهام إبليسَ؛ مَنْ تَرَكَهُ من خوفِ الله أعطَاهُ الله إيمانًا يجِدُ حلاوَتَه في قلبه". خرجه الإمام أحمد
(3)
. وهذا الخطاب للشباب. فأمّا الشيخُ إذا عاوَدَ المعاصِي بعدَ انقضاءِ رمضَانَ فهو أقبَحُ وأقبَحُ؛ لأنّ الشباب يُؤمِّلُ معاوَدَةَ التوبةِ في آخِرِ عُمُره، وهو مخاطِرٌ؛ فإن الموت قد يعاجله، وقد يطرُقُهُ بَغْتَةً. فأمّا الشيخ فقد شارَفَ مركبُهُ ساحِلَ بَحْرِ المَنُون فماذا يؤمِّل؟
نَعَى لَكَ ظِلّ الشَّباب المَشِيبُ
…
ونادَتْكَ باسْم سِواكَ الخُطُوبُ
فكُنْ مستعِدًّا لِدَّاعِي الفَنَاءِ
…
فكُلُّ الَّذي هُوَ آتٍ قَريبُ
أَلَسْنَا نَرَى شَهَواتِ النفُو
…
سِ تَفْنَى وتَبْقَى علينا الذنوبُ
يخافُ على نَفْسِه مَن يَتُوبُ
…
فكيفَ يكن حال من لا يتُوبُ
(4)
* * *
المجلس الثاني في ذكر الحج وفضله والحث عليه
في "الصحيحين"
(5)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أفضَلُ الأعمال إيمان بالله ورسوله، ثم جِهَادٌ في سبيل الله، ثم حَجٌّ مَبْرورٌ".
(1)
في آ، ش، ع:"وعوَّضه".
(2)
سورة الأنفال الآية 70.
(3)
الترغيب 3/ 34 عن عبد الله بن مسعود. قال المنذري: رواه الطبراني والحاكم من حديث حذيفة، وقال: صحيح الإسناد. ثم قال: خرجاه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، وهو واه. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 63 وقال:"رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن إسحاق الواسطي، وهو ضعيف".
(4)
في ط: "فكيف يكون الذي لا يتوب"، وفي ع:"فكيف بحالة من لا يتوب"، وفي ب، ش:"يكون".
(5)
أخرجه البخاري رقم (26) في الإيمان: باب من قال: إن الإيمان هو العمل، وفي الحج: باب فضل الحج المبرور؛ ومسلم رقم (83) في الإيمان: باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال؛ والترمذي رقم (1658) في فضائل الجهاد: باب ما جاء في أي الأعمال أفضل؛ والنسائي 5/ 113 في الحج: باب فضل الحج.
هذه الأعمال الثلاثة ترجِعُ في الحقيقة إلى عملين:
أحدهما: الإيمانُ بالله ورسوله، وهو التَّصديقُ الجازم بالله وملائكته وكتبِه ورسلِه واليومِ الآخر، كما فسَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الإيمانَ بذلك في حديث
(1)
سؤالِ جبريلَ له، وفي غيره من الأحاديث. وقد ذكر الله تعالى الإِيمانَ بهذه الأصول في مواضِعَ كثيرةٍ من كتابه؛ كأوَّلِ البقرة، ووسطِها، وآخِرِها.
والعَمَلُ الثاني: الجهادُ في سبيل الله تعالى. وقد جمع الله بين هذين الأصلين في مواضِعَ من كتابه، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}
(2)
(3)
.
وقد صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجهٍ أنَّ أفضَلَ الأعمال الِإيمانُ بالله والجهادُ في سبيل الله؛ فالإِيمانُ المجرَّدُ تدخُلُ فيه أعمال الجوارح عند السَّلف وأهلِ الحديث، والإيمانُ المقرون بالعمل يُرادُ به التصديقُ مع القول، وخُصوصًا إن قُرِنَ الإِيمانُ بالله بالإِيمان برسُوله، كما في هذا الحديث. فالإيمانُ القائمُ بالقلوب أصلُ كُلِّ خَيْرٍ، وهو خيرُ ما أوتيهُ العَبْدُ في الدنيا والآخرة
(4)
؛ وبه يحصل له سعادةُ الدُّنيا والآخرة، والنَّجاةُ من شقاوةِ الدُّنيا والآخرة. ومَتَى رسخَ الإِيمانُ في القَلْب انبعثَتِ الجوارِحُ كُلُّها بالأعمال الصالحة، واللسانُ بالكلم
(5)
الطيب. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلُحَتْ صَلُحَ الجسَدُ كُلُّه، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسَدُ كُلُّه، أَلَا وهِيَ القلْبُ"
(6)
. ولا صلاحَ للقلب بدون الإيمان بالله، وما يدخُلُ في مسمَّاهُ مِن معرفةِ
(1)
أخرجه الشيخان، وانظر رواياته وتخريجه في "جامع الأصول" 1/ 213 - 216.
(2)
سورة الصف الآية 10 و 11.
(3)
سورة الحجرات الآية 15.
(4)
لفظ "والآخرة" لم يرد في ب، ش.
(5)
في ط: "بالكلام".
(6)
أخرجه البخاري رقم (52) في الإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه، وفي البيوع: باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات؛ ومسلم رقم (1599) في المساقاة: باب أخذ الحلال وترك الشبهات؛ وابن ماجه رقم (3984) في الفتن: باب الوقوف عند الشبهات. كما رواه الإِمام أحمد في "مسنده" 4/ 270 و 274 عن النعمان بن بشير.
اللهِ وتوحيدِه، وخشيتِه، ومحبَّتِه، ورجائه، [وإِجابته]
(1)
والإِنابةِ إِليه، والتوكُّلِ عليه. قال الحسن: ليس الإِيمانُ بالتمنِّي، ولا بالتحلَّي، ولكنَّه بما وقر في الصدور
(2)
، وصدقته الأعمالُ. ويشهَدُ لذلك قولُه تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
(3)
. وفي هذا يقولُ بعضُهم:
ما كُلُّ مَن زَوَّقَ لي قَوْلَه
…
يَغُرُّني يا صَاحِ تزويقُهُ
مَنْ حَقَّقَ الإِيمانَ في قلبِهِ
…
لا بُدَّ أن يظهَرَ تحقيقُهُ
فإِذا ذاق العَبْدُ حلاوَةَ الإِيمان، ووجَدَ طعمَهُ وحلاوَتَه، ظهَرَ ثمرَةُ ذلك على لسانِهِ وجوارِحِه، فاسْتَحْلَى اللسانُ ذِكْرَ الله وما والاه، وأسرَعَتِ الجَوَارِحُ إِلى طاعةِ الله، فحينئذ يدخُلُ حُبُّ الإِيمانِ في القلب، كما يدخُلُ حُبُّ الماءِ البارد الشَّديدِ بَرْدُهُ في اليوم الشَّديدِ حَرُّه للظمآنِ الشديدِ عطشُه، ويصيرُ الخروجُ من الإِيمان أكرَهُ إِلى القلوب من الإِلقاءِ في النار، وأَمَرَّ عليها من الصَّبْر. ذكر ابنُ المبارك عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنَّه دخَلَ المدينَةَ، فقال لهم: ما لي لا أرى عليكم يا أهلَ المدينة حلاوَةَ الإِيمان؟ والذي نفسِي بيدِهِ، لو أنَّ دُبَّ الغَابةِ وجَدَ طعمَ الإِيمان لَرؤي عليه حلاوةُ الإِيمان.
لو ذَاقَ طَعْمَ الإِيمانِ رَضْوَى
(4)
…
لكادَ مِن وَجْدِهِ يَميدُ
قَدْ حَمَّلُوني
(5)
تكلِيفَ عَهْدٍ
…
يعجِزُ عن حَمْلِهِ الحَديدُ
فالإِيمان بالله ورسوله وظيفةُ القلب واللسان، ثم يتبعهما
(6)
عملُ الجوارح، وأفضلُها الجهادُ في سبيل الله، وهو نوعان: أفضلُهما جهادُ المؤمن لعدوِّه الكافر، وقتالُه في سبيل الله؛ فإِنَّ فيه دعوةً له إِلى الإِيمان بالله ورسوله، ليدخُلَ في الإِيمان.
(1)
زيادة في (ط).
(2)
في آ، ش:"الصدر".
(3)
سورة الأنفال الآية 3 و 4.
(4)
رَضْوى: جبل بالمدينة.
(5)
في ب: "قد كلفوني".
(6)
في آ، ش:"يتبعها".
قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}
(1)
. قال أبو هريرة رضي الله عنه في هذه الآية: يجيئون بهم في السَّلاسل حتَّى يدخلونهم
(2)
الجنَّة. وفي الحديث المرفوع: "عَجِبَ رَبُّكَ من قومٍ يُقَادُون إِلى الجنَّة بالسَّلاسل"
(3)
.
فالجهادُ في سبيل الله دعاءُ الخَلْق إِلى الإِيمان بالله ورسُولهِ بالسَّيف واللسان، بعدَ دُعائهم إِليه بالحجَّةِ والبرهان. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في أوَّل الأمر لا يقاتل قومًا حتى يدعوهم. فالجهادُ به تعلو كلمةُ الإِيمان، وتتسعُ رُقْعَةُ الإِسلام، ويكثُرُ الداخلون فيه. وهو وظيفةُ الرُّسُلِ وأتباعِهم، وبه تصير كلمةُ اللهِ هي العليا. والمقصودُ منه أن يكون الدِّين كُلُّه لله، والطاعةُ له، كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه}
(4)
. والمجاهد في سبيل الله هو المقاتِلُ لتكونَ كلمةُ الله هي العليا خاصَّةً.
والنوع الثاني من الجهاد: جهادُ النفس في طاعة الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"المجاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَه في الله"
(5)
. وقال بعضُ الصحابة لمن سألَهُ عن الغزو: ابْدَأْ بنفسِكَ فاغْزُها، وابْدأ بنفسِكَ فجاهِدها. وأعظَمُ مجاهدَةِ النفسِ على طاعة الله عِمَارةُ بيوتِه بالذِّكر والطاعةِ، قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ}
(6)
. وفي حديث أبي سعيدٍ
(1)
سورة آل عمران الآية 110.
(2)
في ب: "يدخلوهم". وفي تفسير ابن كثير 1/ 391 عن أبي هريرة: "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإِسلام". وهي رواية للبخاري رقم (4557) في التفسير: باب {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . وفي رواية للبخاري رقم (3010) في الجهاد: "عجِبَ اللهُ من قوم يدخلون الجنة في السلاسل".
(3)
أخرجه البخاري رقم (3010) في الجهاد: باب الأَسارى في السلاسل، ولفظه كما سبق، ورقم (4557) في التفسير، وأبو داود رقم (2677) في الجهاد: باب الأسير يوثق. ورواه أحمد في "مسنده" 2/ 302، 448.
(4)
سورة الأنفال الآية 39.
(5)
من حديث فضالة بن عبيد رضي الله عنه، رواه الترمذي رقم (1621) في فضائل الجهاد: باب ما جاء في فضل من مات مرابطًا. وقال الترمذي: وحديث فضالة حديث حسن صحيح. ورواه الإِمام أحمد في "مسنده" 6/ 21، 22 وإِسناده حسن.
(6)
سورة التوبة الآية 18.
المرفوع: "إِذا رأَيْتُم الرَّجُلَ يَعْتَادُ المسجِدَ فاشْهَدُوا له بالإِيمان" ثم تلا هذه الآية. خرجه الإِمامُ أحمدُ
(1)
والترمذي وابنُ ماجه.
(2)
، الآية.
والنوع الأوَّلُ من الجهاد أفضَلُ من هذا الثاني، قال الله تعالى:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}
(3)
.
وفي صحيح مسلم
(4)
، عن النُّعمان بن بشير، قال: كنْتُ عند مِنْبَرِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعملَ عملًا بعد الإِسلام إِلَّا أنْ أسقِيَ الحاجَّ. وقال آخر: ما أبالي أنْ لا أعمَلَ عملًا بعدَ الإِسلام، إِلَّا أنَّ أَعْمُرَ المسجدَ الحرام. وقال آخر: الجهادُ في سبيل الله أفضَلُ ممَّا قُلتم: فزَجَرَهُم عُمَرُ، وقال: لا ترفعوا أصواتَكم عندَ مِنْبَرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومُ الجمعة، ولكن إِذا صليتُ الجمعةَ دخلْتُ فاسْتَفْتَيْتُهُ فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، إِلى آخر الآية. فهذا الحديث الذي فيه ذِكْرُ سببِ نُزولِ هذه الآية يبيِّنَ أنَّ المراد أفضَلُ ما يُتقرَّبُ به إِلى الله تعالى من أعمالِ النَّوافِلِ والتطوعِ
(5)
، وأنَّ الآية تدُلُّ على أنَّ أفضَلَ ذلك الجِهادُ مع الإِيمان. فدَلَّ على أنَّ التطوُّعَ بالجهاد أفضَلُ من التطوُّع بعِمَارة المسجد الحرامِ وسِقاية الحاجِّ. وعلى مِثل
(1)
رواه أحمد في "المسند" 3/ 68 و 76، والترمذي رقم (3092) في التفسير من سورة التوية، وابن ماجه رقم (802) في المساجد والجماعات: باب لزوم المساجد وانتظار الصلاة. من حديث درَّاج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري. ذكر الحافظ في "التقريب" في ترجمة درَّاج: أنه صدوق، لكن في حديثه عن أبي الهيثم ضعف. وقد ضعفه الذهبي في "تلخيص المستدرك" ومغلطاي في شرح ابن ماجه. ومع ذلك فقد حسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، كما قاله المنذري في "الترغيب".
(2)
سورة النور الآية 36 و 37.
(3)
سورة التوبة الآية 19 و 20.
(4)
أخرجه مسلم رقم (1879) في الإِمارة: باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى. ورواه الإِمام أحمد في"المسند" 4/ 269.
(5)
بعدها في ط: "الجهاد".
هذا يُحمَلُ حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه. هذا وأنَّ الجهادَ أفضَلُ مِن الحجِّ المتطوَّعِ به، فإِنَّ فَرْضَ الحَجِّ تأخَّرَ عندَ كثيرٍ من العلماءِ إِلى السَّنَة التاسِعةِ، ولعَلَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام قبلَ أن يُفرَضَ الحجُّ بالكليَّة، فكان حينئذٍ تطوُّعًا.
وقد قيل: إِن الجهاد كان في أوَّلِ الإِسلام فرضُ عَيْنٍ، فلا إِشكالَ في هذا على تقديمه على الحَجِّ قبلَ افتراضِهِ. فأما بعد أن صارَ الجهادُ فَرْضَ كِفايةٍ والحجُّ فَرْضَ عَيْنٍ؛ فإِنَّ الحَجَّ المفترضَ حينئذٍ يكونُ أفضَلَ مِن الجهادِ. قال عبدُ الله بن عمرو بن العاص: حَجَّةٌ قَبْلَ الغَزْوِ أفضَلُ مِن عشر غَزَواتٍ، وغزوةٌ بعدَ حجَّةٍ أفضَلُ مِن عشر حجاتٍ. ورُوِي ذلك مرفوعًا من وجوهٍ متعدِّدَةٍ، في أسانيدِها مقالٌ. وقال الصُّبَيّ
(1)
بن مَعْبَدٍ: كنت نصرانيًّا فأسلمْتُ، فسألْتُ أصحابَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم: الجِهادُ أفضَلُ أم الحجُّ؟ فقالوا: الحَجُّ. والمرادُ - والله أعلم - أنَّ الحَجَّ أفضَلُ لمن لم يحجَّ حَجَّةَ الإِسلام، مثل هذا الذي أسلم. وقد يكون المرادُ بحديثِ أبي هريرة
(2)
رضي الله عنه أنَّ جِنْسَ الجِهادِ أشرَفُ مِن جنسِ الحَجِّ، فإِن عرض للحج وصفٌ يمتاز به على الجِهاد، وهو كونه فَرْضَ عينٍ، صار ذلك الحجُّ المخصوصُ أفضَلَ مِن الجهاد، وإِلَّا فالجهادُ أفضَلُ، والله أعلم.
وقد دَلَّ حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه على أنَّ أفضَلَ الأعمال بعدَ الجهاد في سبيل الله جنسُ عِمارة المساجِد؛ بذكرِ اللهِ وطاعتِه، فيدخُلُ في ذلك الصلاةُ والذِّكْرُ والتِّلاوةُ والاعتِكافُ وتعليمُ العِلْم النافع واستماعُهُ. وأفضَلُ ذلك
(3)
عِمارَةُ أفضَلِ المساجِدِ وأشرفِها، وهو المسجِدُ الحرامُ، بالزِّيارة والطَّوافِ؛ فلهذا خَصَّه بالذكر وجَعَلَ قصْدَهً للحجِّ أفضَلَ الأعمال بعدَ الجهاد. وقد خرَّجه ابنُ المنذر
(4)
ولفظُه: "ثم حَجٌّ مبرورٌ أو عمرَةٌ".
(1)
في آ، ع:"الضَّبَيّ"، وفي ب:"الصَّبَيّ". وهو تصغير صُبَيّ بن مَعْبَد التغلبي الكوفي. قال مسلمة بن قاسم: تابعي ثقة، رأى عمر بن الخطاب وعامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. روى له أبو داود والنسائي وابن ماجه. (تهذيب التهذيب 4/ 409).
(2)
ذكر في بداية المجلس.
(3)
في ط: "من ذلك".
(4)
هو الحسن بن الحسن بن علي بن المنذر البغدادي. قال الخطيب البغدادي: كتبنا عنه، وكان صدوقًا ضابطًا، كثير الكتاب، حسن الفهم، حسن العلم بالفرائض. ولي القضاء، مات ببغداد سنة 411 هـ. (تاريخ بغداد 7/ 304، سير أعلام النبلاء 17/ 338).
وقد ذكر الله تعالى هذا البيتَ في كتابه بأعظَمِ ذِكْرٍ وأفخَمِ تعظيمٍ وثناءٍ، قال الله تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}
(1)
، الآيات. وقال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}
(2)
(3)
.
فعِمارَةُ سائر المساجِدِ سِوَى المسجدِ الحَرَام وقصدُها للصَّلاة فيها، وأنواعُ العِبادات من الرِّباط في سبيل الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في إِسباغ الوضوء على المكارِهِ، وكثرة الخُطَا إِلى المساجِدِ، وانتظارِ الصَّلاة بعدَ الصَّلاة؛ فذلكم الرِّباط، فذلكم الرِّباط، فذلكم الرِّباط
(4)
. فأمَّا المسجدُ الحرامُ بخُصُوصِه فقصدُه لزيارتِهِ وعمارتِهِ بالطَّوافِ الذي خَصَّه الله به من نوع الجهاد في سبيل الله عز وجل.
وفي "صحيح البخاري"
(5)
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: يا رسولَ الله، نَرَى الجهادَ أفضلَ العَمَلِ، أفلا نجاهِدُ؟ قال:"لَكُنْ أَفْضلُ الجِهادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ"، يعني أفضَلَ جهادِ النساء. ورواه بعضُهم: لكُنْ أفضَلُ الجهادِ حَجٌّ مبرورٌ؛ فيكون صريحًا في هذا المعنى. وقد خرَّجه البخاري بلفظٍ آخَرَ، وهو:"جِهادُكُنَّ الحَجُّ"؛ وهو كذلك. وفي المسند
(6)
وسنن ابن ماجه عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الحجُّ
(1)
سورة البقرة الآية 125.
(2)
سورة آل عمران الآية 96 و 97.
(3)
سورة الحج الآية 26 و 27.
(4)
رواه مسلم رقم (251) في الطهارة: باب فضل إِسباغ الوضوء على المكاره، والموطأ 1/ 161، والترمذي رقم (51)، والنسائي 1/ 89 و 90. كما رواه الإِمام أحمد في "المسند" 2/ 277، 303. وقد مضى تخريجه.
(5)
رقم (1520) في الحج: باب فضل الحج المبرور، وباب حج النساء، وفي الجهاد: باب فضل الجهاد، وباب جهاد النساء. وحج مبرور: متقبَّل، مثاب عليه بالجنَّة.
(6)
رواه أحمد في "المسند" 6/ 294 و 303 و 314، وابن ماجه رقم (2902) في المناسك: باب الحج جهاد النساء، والترغيب 2/ 164، وأورده الألباني في "صحيح ابن ماجه" 2/ 151 رقم (2346) و"صحيح الجامع الصغير" 1/ 606 رقم (3171).
جهادُ كُلِّ ضعيفٍ". وخرَّج البيهقيُّ
(1)
وغيرُه مِن حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "جهادُ الكبيرِ، والضعيفِ، والمرأةِ، الحجُّ والعُمْرَةُ".
وفي حديثٍ مرسلٍ: "الحجُّ جهادٌ، والعمرَةُ تطوُّعٌ"
(2)
. وفي حديث آخر مرسَلٍ خرَّجه عبدُ الرزَّاق
(3)
: أنَّ رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إِنِّي جبَانٌ لا أُطيقُ لقاءَ الغدُوِّ. قال: أفلا أدُلُّكَ على جهادٍ لا قِتَالَ فيه؟ قال: بلى. قال: عليكَ بالحَجِّ والعُمْرَةِ.
وخرَّج أيضًا
(4)
من مراسِيلِ علي بن الحسين أنَّ رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد؟ فقال: أَلا أدلُّكَ على جهادٍ لَا شَوْكَةَ فيه؟ الحجّ.
وفيه
(5)
عن عُمَرَ أنَّه قال: إِذا وضَعْتُمُ السُّروجَ، يعني مِن سَفَر الجهاد، فشُدُّوا الرِّحال إِلى الحجّ والعُمْرَة؛ فإِنَّه أحدُ الجِهادين. وذكره البخاري تَعْليقًا. وقال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: إِنَّما هو سَرْجٌ ورحْلٌ؛ فالسَّرْجُ في سبيلِ الله، والرَّحْل
(6)
في الحج. خرَّجه الإِمام أحمدُ في مناسِكِه. وإِنَّما كان الحجُّ والعمرَةُ جهادًا؛ لأنَّه
(1)
أخرجه البيهقي في "السنن" 4/ 350 و 9/ 23 والنسائي 5/ 114 في المناسك: باب فضل الحج، والمنذري في "الترغيب" 2/ 164، قال: رواه النسائي بإِسناد حسن. ورواه أحمد في "مسنده" 2/ 421، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 206:"رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح".
(2)
رواه ابن ماجه رقم (2989) في المناسك: باب العمرة، وقال في الزوائد: في إِسناده ابن قيس المعروف بمندل، ضعفه أحمد وابن معين وغيرهم، وفيه الحسن بن يحيى الخُشَني، وهو ضعيف أيضًا. وذكره السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (3797) وعزاه إِلى ابن ماجه، عن طلحة بن عبيد الله، والطبراني، عن ابن عباس. وأورده الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" رقم (2760). ورواه الطبراني في الكبير 11/ 442 عن ابن عباس، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 205 وقال:"رواه الطبراني في الكبير وفيه محمد بن الفضل بن عطية وهو كذاب".
(3)
مصنف عبد الرزاق (ج 5) في الحج برقم (8810) وفي الجهاد برقم (9273) عن عبد الكريم الجزري.
(4)
مصنف عبد الرزاق (ج 5) في الحج برقم (8809) وفي الجهاد برقم (9283)، وأخرجه ابن منصور برقم (2342) باب: ما جاء في فضل الجهاد، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 206 وقال:"رواه الطبراني في الكبير"، وفيه: عن الحسين بن علي، وهو بالصواب أشبه. كما أورده الألباني في "صحيح الجامع الصغير" رقم (2611) عن الحسين بن علي. وفي الترغيب 2/ 164:"رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورواته ثقات، وأخرجه عبد الرزاق أيضًا". وشوكة القتال: شدته وحدته.
(5)
مصنف عبد الرزاق (ج 5) في الحج برقم (8808) والكنز 3، رقم (568).
(6)
في ب، ط:"والرَّحل الحج".
يُجهِدُ المالَ والنفسَ والبَدَنَ، كما قال أبو الشَّعثاء
(1)
: نظرْتُ في أعمال البِرِّ، فإِذا الصَّلاةُ تجهِدُ البَدَنَ دونَ المالِ، والصِّيامُ كذلك، والحجُّ يجهِدُهما، فرأيتُه أفضَلَ.
ورَوَى عبد الرزَّاق
(2)
بإِسنادِهِ، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّ رجلًا سأله عن الحجِّ، قال: إِنَّ الحاجَّ يشفَعُ في أربعمائة بَيْتٍ من قومه، ويبارك في أربعين من أُمهاتِ البَعيرِ الذي حَمَلَه، ويخرُجُ مِن ذنوِبه كيومِ وَلَدَتْه أمُّه
(3)
. فقال له رجل: يا أبا موسى! إِنِّي كنْتُ أعالِجُ
(4)
الحجَّ، وقد كَبِرْتُ وضَعُفْتُ، فهل مِن شيءٍ يَعدِلُ الحَجَّ؟ فقال له: هل تستطيع أن تعتِقَ سبعين رقبةً مؤمنةً من ولدِ إِسماعيلَ؟ فأمَّا الحلُّ والرَّحيل فلا أجِدُ له عِدلًا، أو قال: مِثلًا. وبإِسناده
(5)
عن طاوس أنَّه سُئل: هل الحجُّ بعد الفريضة أفضَلُ أم الصَّدَقَةُ؟ قال: فأين الحلُّ والرَّحيلُ، والسَّهَرُ والنَّصَبُ، والطَّوافُ بالبيتِ، والصَّلاةُ عندَه، والوقوفُ بعَرَفَةَ، وجَمْعُ ورميُ الجمار؟ كأنه يقولُ: الحجُّ أفضَلُ. وقد اختلَفَ العلماءُ في تفضيل الحَجِّ تطوُّعًا على الصدقة.
فمنهم: من رَجَّحَ الحجَّ، كما قاله طاوس وأبو الشعثاءِ، وقاله الحَسَنُ أيضًا. ومنهم: مَن رجَّحَ الصَّدَقة، وهو قولُ النَّخعي. ومنهم: من قال: إِنَّ كان ثَمَّ رَحِمٌ محتاجَةٌ أو زمنُ مجاعةٍ، فالصَّدَقَةُ أفضَلُ، وإِلَّا فالحَجُّ؛ وهو نصُّ أحمدَ. ورُوي عن الحسن معناه، وأنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ والتنفيس عن المكروب أفضَلُ من التطوُّع بالحَجِّ.
وفي كتاب عبد الرزَّاق
(6)
بإِسنادٍ ضعيفٍ: عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئلَ عن رجلٍ حَجَّ فأكثَر، أيجعَلُ نفقَتَه في صلةٍ أو عِتْقٍ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"طوافُ سبع لا لَغْوَ فيه يعدِلُ رقَبةً". وهذا يدُلُّ على تفضيل الحَجِّ. واستدَلَّ مَن رأى ذلك أيضًا بأنَّ النَّفَقة في الحجِّ أفضَلُ من النفقة في سبيل الله.
(1)
هو جابر بن زَيْد الأزدي، عالم أهل البصرة في زمانه، يعد مع الحسن البصري وابن سيرين، وهو من كبار تلامذة ابن عباس. توفي سنة 93 هـ. والخبر في "صفة الصفوة" 3/ 237.
(2)
المصنف (ج 5) في الحج، برقم (8807).
(3)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 211 عن أبي موسى رفعه إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"رواه البزار، وفيه من لم يسم".
(4)
أي أزاول وأمارس الحج.
(5)
المصنف (ج 5)، في الحج، برقم (8822).
(6)
المصنف 8/ 15 برقم (8833)، وعنه في كنز العمال رقم (11997).
وفي مسند الإِمام أحمد
(1)
، عن بُرَيْدَة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"النفقةُ في الحَجِّ كالنَّفقَةِ في سبيل الله بسبعمائة ضعفٍ".
وخرَّجه الطبراني
(2)
من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"النفقةُ في سبيل الله؛ الدِّرْهَمُ فيه بسبعمائة". ويدُلُّ عليه قولهُ تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
(3)
، ففيه دليلٌ على أنَّ النَّفقة في الحجِّ والعمرة تدخُلُ في جملة النَّفقةِ في سبيل الله. وقد كان بعضُ الصحابة جَعَلَ بعيرَه في سبيل الله، فأرادت امرأتُه أن تحجَّ عليه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"حجِّي عليه؛ فإِنَّ الحَجَّ في سبيل الله". وقد خرَّجه أهلُ المسانيد والسنن
(4)
من وجوهٍ متعدِّدَةٍ، وذَكَرَه البخاري تعليقًا. وهذا يُستدَلُّ به على أنَّ الحَجَّ يصرَفُ فيه مِن سهمِ سبيلِ اللهِ المذكور في آية الزكاة، كما هو أحدُ قولي العلماءِ، فيعطَى مِن الزَّكاة من لم يحجَّ ما يحجُّ به. وفي إِعطائه لحجِّ التطوُّعِ اختلافٌ بينَهم أيضًا.
(1)
رواه أحمد في "المسند" 5/ 355 وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 208 وقال: "رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه أبو زهير [الضبعي] ولم أجد من ذكره". وأخرجه المنذري في "الترغيب" 2/ 180 وقال: "رواه أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي، وإِسناد أحمد حسن". وأخرجه البيهقي في "السنن" 4/ 332 في الحج: باب من اختار الركوب. كما أورده الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" رقم (6005) وعزاه إِلى أحمد والضياء عن بُريدة.
(2)
الكامل ج 7 ص 2553 وفي سنده ورقاء عن عطاء، قال ابن عدي: روى جملة ما رواه أحاديث غلط في أسانيدها، وباقي حديثه لا بأس به". وأخرجه المنذري في "الترغيب" 2/ 180 وعزاه إِلى الطبراني في الأوسط، عن أنس بن مالك، ولفظه: "النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله: الدرهم بسبعمائة". وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 208 عن أنس بلفظ "الحج في سبيل الله النفقة فيه الدرهم بسبعمائة"، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفه" وذكره في 5/ 282 عن أنس أيضًا بلفظ "النفقة في سبيل الله تضعف بسبعمائة ضعف" وقال: "رواه البزار وفيه محمد بن إِسماعيل ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات".
(3)
سورة البقرة الآية 195 و 196.
(4)
أخرج أبو داود رقم (1989) في المناسك: باب في العمرة، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن جدته أمِّ معقِل أنها قالت: لمَّا حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حَجَّة الوداع، وكان لنا جمل، فجعله أبو معقل في سبيل الله، وأصابنا مرض وهلك أبو معقِل، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من حَجِّه جئته، فقال: يا أمِّ معقل، ما منعك أن تخرجي معنا؟ قالت: لقد تهيأنا فهلك أبو معقل، وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله، قال: فهلَّا خرجت عليه؛ فإِنَّ الحج في سبيل الله، فأما إِذ فاتتك هذه الحجَّة معنا، فاعتمري في رمضان فإِنها كحجة
…
".
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "الحَجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إِلَّا الجنَّة"
(1)
.
وفي المسند
(2)
أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سئلَ: أيُّ الأعمال أفضَلُ؟ قال: إِيمانٌ بالله وحدَه، ثم الجِهادُ، ثم حَجَّةٌ بَرَّةٌ تفضُلُ سائرَ الأعمال كما بين
(3)
مطلع الشمس إِلى مَغْربها.
وثبَتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَنْ حَجَّ هذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ ولَم يفسُقْ خَرَجَ مِن ذنوبِهِ كيومِ وَلَدتْهُ أمُّه"
(4)
. فمغفرة الذنوب بالحجِّ، ودخول الجنَّة به مرتبٌ على كون الحجِّ مبرورًا. وإِنَّما يكون مبرورًا باجتماع أمرين فيه:
أحدهما: الإِتيان فيه بأعمال البِرِّ؛ والبِرُّ يطلق بمعنيين:
أحدهما: بمعنى الإِحسان إِلى الناس، كما يقال: البِرّ والصِّلة، وضِدُّه العُقُوق. وفي صحيح مسلم
(5)
أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن البِرّ، فقال: البر: حُسْنُ الخُلُقِ
(6)
.
وكانَ ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يقولُ: إِنَّ البِرَّ شَيْءٌ هَيِّنٌ
(7)
؛ وجْهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّن
(8)
. وهذا يُحتاجُ إِليه في الحجِّ كثيرًا، أعني معاملة الناس بالإِحسان بالقول والفعل. قال بعضُهم: إِنَّما سُمِّي السفر سَفَرًا؛ لأنَّه يُسْفِرُ عن أخلاقِ الرجال
(9)
. وفي المسند
(10)
.
(1)
رواه الشيخان وغيرهما.
(2)
مسند أحمد 4/ 342، قال الهيثمي في "الزوائد" 3/ 207:"رواه أحمد والطبراني في الكبير، ورجال أحمد رجال الصحيح". وقال المنذري في "الترغيب" 2/ 165: "ورواة أحمد إِلى ماعز رواة الصحيح، وماعز هذا: صحابي مشهور غير منسوب".
(3)
في الأصول: "ما بين" وصحح من مسند أحمد وغيره.
(4)
رواه الإِمام أحمد في "مسنده" 2/ 229، 410، 484، 494، والمنذري في "الترغيب" 2/ 163، وقال: رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه والترمذي إِلا أنه قال:" غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه". وانظر "فتح الباري" 4/ 20.
(5)
رقم (2553) في البر والصلة: باب تفسير البر والإِثم، ورواه الترمذي رقم (2390) في الزهد: باب ما جاء في البر والإِثم.
(6)
قال النووي: قال العلماء: البرّ يكون بمعنى الصلة وبمعنى اللطف، والمبرة، وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق.
(7)
في ب: "هَيْن .. لَيْن" بالتخفيف، وكلاهما جائز.
(8)
نظمه بعضهم، فقال: بُنيَّ إِنَّ البِرَّ شيء هيِّن
…
وَجْهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّن.
(9)
في آ: "الرجل".
(10)
3/ 325 و 334 وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 203 حتى قوله: "إِلا الجنة" وقال: "رواه أحمد وفيه محمد بن ثابت وهو ضعيف"، ثم أورده تامًا عن جابر أيضًا، وقال:"رواه الطبراني في الأوسط وإِسناده حسن". وقال المنذري في "الترغيب" 2/ 165: "رواه أحمد والطبراني في الأوسط بإِسناد حسن، وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي والحاكم مختصرًا،: قال: صحيح الإِسناد".
عن جابرِ [بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما]
(1)
، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: الحَجُّ المبرور ليس له جزاء إِلَّا الجنَّة. قالوا: وما بِرُّ الحجِّ يا رسولَ الله؟ قال: إِطعامُ الطعام، وإِفشاء السَّلام. وفي حديثٍ آخَرَ:"وطيب الكلام".
وسُئل سعيدُ بن جبير: أيّ الحاج أفضَلُ؟ قال: مَن أطعَمَ الطعام وكفَّ لسانه. قال الثوريُّ: سمعت
(2)
أنَّه مِن بِرّ الحج. وفي مراسيل خالد بن مَعْدان
(3)
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما يصنَعُ
(4)
من يؤمّ هذا البيتَ إِذا لم يكن فيه خِصالٌ ثلاثة
(5)
: وَرَعٌ يحجُزُه عمَّا حرَّم الله، وحلمٌ يضبِطُ به جهلَه، وحُسْنُ صحابةٍ لمن يصحَبُ؛ وإِلَّا فلا حاجة لله بحجِّه"
(6)
. وقال أبو جعفر الباقر: ما يعبَأُ من
(7)
يؤمُّ هذا البيتَ إِذا
(8)
لم يأتِ بثلاث: ورع يحجُزُه عن معاصِي الله، وحلم يكُفُّ به غَضَبَه، وحُسْن الصحابة لِمن يصحَبُه من المسلمين. فهذه الثلاثة يُحتاجُ إِليها في الأسفار، خصوصًا في سَفَر الحَجِّ، فمن كمَّلها فقد كَمُلَ حجُّه وَبَرَّ.
ومِن أَجْمَعِ خِصالِ البِرِّ التي يحتاج إِليها الحاجّ ما وصَّى به النبي صلى الله عليه وسلم أبا جُرَيّ الهُجَيْمي
(9)
، فقال:"لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تُفْرِغِ مِن دَلْوِك في إِناء المُسْتَسْقِي، ولو أن تعطيَ صلة الحبل، ولو أن تعطيَ شِسْعَ النَّعْل، ولو أن تُنحِّيَ الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقَى أخاكَ ووجْهُكَ إِليه منطلقٌ، ولو أن تلقَى أخاكَ المسلم فتسلِّم عليه، ولو أن تؤنسَ الوَحْشَانَ في الأرض"
(10)
. وفي الجملة، فخيرُ الناسِ أنفَعُهم للنَّاس، وأصبرُهم على أذَى الناس، كما وَصَفَ الله المتَّقين بذلك
(1)
زيادة من ب، ط.
(2)
في آ: " سمعته".
(3)
خالد بن مَعْدان الكَلاعِي، الحمصي، أبو عبد الله، شامي تابعي، ثقة، يرسل كثيرًا، وقد سبقت ترجمته.
(4)
في ش: "ما يُضَيَّع".
(5)
كذا في الأصول، وحقه:"ثلاث".
(6)
أخرج الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 57 عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه استوجب الثواب، واستكمل الإِيمان: خلق يعيش به في الناس، وورع يحجزه عن محارم الله، وحلم يرده عن جهل الجاهل"، وقال:"رواه البزار وفيه عبد الله بن سليمان، قال البزار: حدث بأحاديث لا يتابع عليها".
(7)
في ط: "بمن".
(8)
في ب: "إِذا لم يكن فيه خصال ثلاثة يأتِ بثلاثةٍ".
(9)
هو جابر بن سُليم بن جابر، صحابي معروف.
(10)
جزء من حديث أخرجه أبو داود رقم (4084) في اللباس: باب ما جاء في إِسبال الإِزار، وإِسناده صحيح. وصححه ابن حبان رقم (866) و (1450) موارد. ورواه أحمد في "المسند" 5/ 63 و 64. والوَحْشَانُ: المُغْتَمُّ.
(1)
. والحاجّ يحتاجُ إِلى مخالطة الناس، والمؤمنُ الذي يخالِط الناسَ ويصبِرُ على أذاهم أفضَلُ ممن لا يخالِطُهم ولا يصبِرُ على أذاهم.
قال ربيعة: المروءة في السَّفَر بَذْلُ الزَّادِ، وقلَّةُ الخِلاف على الأصحاب، وكثرةُ المزاح في غير مساخط اللهِ عز وجل.
وجاء رجلان إِلى ابن عونٍ يودِّعانه، ويسألانه أن يوصِيهما، فقال لهما: عليكما بكظْم الغَيْظ، وبَذْلِ الزَّاد. فرأى أحدُهما في المنام أنَّ ابنَ عون أهدَى إِليهما حُلَّتين.
والإِحسانُ إِلى الرفقة في السفر أفضَلُ من العِبادة القاصِرة، لا سيَّما إِن احتاجَ العابِدُ إِلى خدمة إِخوانه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -في سفرٍ في حَرٍّ شديدٍ، ومعَهُ مَن هو صائمٌ ومفطِرٌ، فسقَطَ الصُّوَّامُ وقامَ المفطِرون فضرَبوا الأبنيةَ، وسَقَوا الرِّكَابَ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ذهَبَ المفطِرون اليومَ بالأجر"
(2)
.
ورُوِي أنَّه صلى الله عليه وسلم -كان في سَفَرٍ، فرأَى رجلًا صائمًا، فقال له: ما حملَكَ على الصَّوْم في السفر؟ فقال: معي ابنايَ يرحلان بي ويخدُماني، فقال له: ما زال لهما الفَضْلُ عليك.
وفي مراسيل أبي داودَ
(3)
عن أبي قلابة رضي الله عنه، قال: قدِمَ ناسٌ مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سَفَرٍ يُثْنُونَ على صاحِبٍ لهم، قالوا: ما رأَينا مِثْلَ فلانٍ قَطُّ؛ ما كانَ في مَسيرٍ إِلَّا كان في قراءةٍ، ولا نزلنا منزلًا إِلَّا كان في صلاةٍ. قال: "فمن كان يكفيه ضَيْعَتَه
(4)
"؟ حتى ذَكَر "ومَن كانَ يعلِفُ دَابَّته"، قالوا: نحنُ. قال: "فكُلُّكُمْ
(1)
سورة آل عمران الآية 134.
(2)
أخرجه البخاري رقم (2890) في الجهاد: باب فضل الخدمة في الغزو، ومسلم رقم (1119) في الصيام: باب أجر المفطر في السفر إِذا تولى العمل، والنسائي 4/ 182 في الصوم: باب فضل الإِفطار في السفر على الصيام، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
المراسيل لأبي داود ص 234 ورجاله ثقات، ورواه سعيد بن منصور في "سننه" رقم (2919) من طريق سفيان، عن أيوب، به. وانظر "تحفة الأشراف" رقم (18904).
(4)
في مصادر الحديث "صنعته". وضَيْعَة الرجل: حِرفتُه وصناعته ومعاشه وكسبه.
خَيْرٌ منه". وقال مجاهد: صحِبْتُ ابنَ عُمَرَ في السَّفَر لأخدِمَه، فكان يخدُمُني. وكان كثيرٌ مِن السَّلَف يشترطُ على أصحابه في السَّفَر أن يخدمَهم اغتنامًا لأجر ذلك؛ منهم عامرُ بن عبدِ قَيْس
(1)
، وعمرو بن عتبة بن فَرْقدٍ
(2)
مع اجتهادهما في العِبادة في أنفسِهما. وكذلك كان إِبراهيم بن أدهم يشترطُ على أصحابه في السَّفَر الخدمةَ والأذانَ. وكان رجلٌ من الصالحين يصحَبُ إِخوانه في سفر الجهادِ وغيره، فيشترط عليهم أن يخدُمَهم، فكان إِذا رأى رجلًا يريدُ أن يغسِلَ ثوبَه قال له: هذا من شرطي، فيغسِلُه، وإِذا رأى مَن يُريدُ أن يغسِلَ رأسَهُ قال له: هذا من شرطي فيغسله. فلمَّا مات نظروا في يده فإِذا فيها مكتوبٌ مِن أهل الجنَّة، فنظروا إِليها فإِذا هي كتابةٌ بين الجِلْد واللحم.
وترافق بُهَيمٌ
(3)
العِجليُّ - وكان من العابدين البكَّائين - ورجلٌ تاجِرٌ مُوسِرٌ في الحج، فلمَّا كان يومُ خروجهم للسَّفَر بكى بُهَيمٌ حتى قطرت دموعُه على صدره، ثم قطرَتْ على الأرض. وقال: ذكرتُ بهذه الرِّحلةِ الرحلةَ إِلى الله، ثم علا صوتُه بالنَّحيب، فكرِهَ رفيقُه التاجر منه ذلك، وخشِيَ أن يتنغَّصَ
(4)
عليه سَفَرُه معه بكثرة بكائه. فلمَّا قدِمَا من الحجِّ جاء الرجلُ الذي رافق بينَهما إِليهما ليسَلِّمَ عليهما، فبدأ بالتاجر فَسلَّمَ عليه، وسألَه عن حاله مع بُهَيم، فقال له: والله ما ظننت أنَّ في هذا الخلْق مثله، كان والله يتفضَّلُ عليَّ في النفقة وهو معسِرٌ وأنا موسِر، ويتفضَّلُ عليَّ في الخِدْمة وهو شيخٌ ضعيفٌ وأنا شابٌّ، ويطبخُ لي وهو صائم وأنا مفطِرٌ.
فسأله عمَّا كان يكرهه منه من كثرة بكائه؟ فقال: أَلِفْتُ والله ذلك البكاء وأُشْرِبَ حبُّه قلبي حتَّى كنت أساعدُه عليه، حتى تأذَّى بنا الرّفقة، ثم ألِفُوا ذلك، فجعلوا إِذا
(1)
هو أبو عبد الله، ويقال: أبو عمرو التميمي العنبري البصري. ثقة، زاهد، من عبَّاد التابعين، رآه كعب الأحبار، فقال: هذا راهب هذه الأمة. والخبر بنحوه في سير أعلام النبلاء 4/ 17.
(2)
عمرو بن عتبة بن فَرْقد السّلمي الكوفي. كان أحد المذكورين بالزهد والعبادة. ذكره ابن حبان في الثقات.
(3)
بهيم العجلي، ويكنى أبا بكر، روى عن أبي إِسحاق الفزاري. ترجم له ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 3/ 179 وأورد الخبر بطوله مع خلاف في اللفظ.
(4)
في ع، ش:"ينغص".
سمعونا نبكي بكوا، ويقولُ بعضُهم لبعضٍ: ما الذي جَعَلَهما أَوْلى بالبكاء مِنَّا والمصيرُ واحدٌ؟ فجَعَلوا واللهِ يبكون ونبكي.
ثم خَرَج من عندِه فدَخَلَ على بُهَيمٍ، فسَلَّم عليه، وقال له: كيف رأيتَ صاحبَكَ؟ تال: خير صاحبٍ، كثير الذِّكْرِ لله، طويل التِّلَاوة للقرآن، سريع الدَّمعة، متحمِّل
(1)
لهفواتِ الرَّفيق، فجزاك اله عنِّي خيرًا.
وكان ابنُ المبارك يُطعِمُ أصحابَه في الأسفار أطيَبَ الطعام وهو صائمٌ، وكان إِذا أراد الحجَّ من بلدِهِ مَرْو جَمَعَ أَصحابَه، وقال: من يريدُ منكَم الحجَّ؟ فيأخُذُ منهم نفقاتهم فيضعُها عِندَه في صندوقٍ ويُقفِلُ عليه، ثم يحمِلُهم ويُنفِقُ عليهم أوسَعَ النَّفقة، ويطعمهم أَطيبَ الطَّعام، ثم يشتري لهم مِن مكَّة ما يُريدون من الهدايا والتُّحَف، ثم يرجِع بهم إِلى بلده، فإِذا وصَلُوا صنَعَ لهم طعامًا، ثم جَمَعَهم عليه، ودَعَا بالصندوق الذي فيه نفقاتهُم فَرَدَّ إِلى كُلِّ واحدٍ نفقته.
المعنى الثاني: مما يُراد بالبِرِّ فِعْلُ الطَّاعات كُلِّها، وضِدُّه الإِثمُ. وقد فسَّر الله تعالى البِرَّ بذلك في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي
(2)
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}
(3)
. الآية. فتضمَّنت الآية أنَّ أنواعَ البِرِّ سِتَّةُ أنواعٍ، مَن استكمَلَها فقد استكمَلَ البِرَّ.
أوَّلها: الإِيمانُ بأصول الإِيمان الخمسةِ. وثانيها: إِيتاء المال المحبوب لذوي القُرْبَى واليتامَى والمساكين وابنِ السَّبيل والسَّائلين وفي الرقاب. وثالثها: إِقامُ الصلاة. ورابعها: إِيتاء الزَّكاة. وخامسها: الوفاءُ بالعَهْد. وسادسها: الصَّبْر على البأساء والضَّرَّاء وحينِ البأس. وكلُّها يحتاج الحاجّ إِليها، فإِنَّه لا يصحُّ حجُّه بدون الإِيمان، ولا يكمل حجُّه ويكون مبرورًا بدون إِقام الصَّلاة وإِيتاء الزَّكاة؛ فإِنَّ أركان الإِسلام بعضُها مرتبط
(1)
في صفة الصفوة: "محتمل الهفوات للرفيق".
(2)
في آ، ش، ع:"إِلى آخر الآية".
(3)
سورة البقرة الآية 177.
ببعضٍ، فلا يكمل الإِيمانُ والإِسلام حتَّى يؤتى بها كلِّها، ولا يكمل بِرُّ الحَجِّ بدون الوفاء بِالعهود في المعاقَدَات والمشاركاتِ المحتاج إِليها في سَفَرِ الحَجِّ، وإِيتاءِ المال المحبوب لمن يُحِبُّ الله إِيتاءَه، ويحتاجُ مع ذلك إِلى الصبر على ما يُصيبه من المشاقّ في السَّفَر. فهذه خصالُ البرِّ، ومِن أهمِّها للحاجّ إِقامُ الصَّلاةِ. فمَن حَجَّ من غير إِقامِ الصَّلاة، لا سيَّما إِن كان حَجُّه تطوُّعًا، كان بمنزلة مَن سَعَى في رِبْحِ دِرْهم، وضَيَّعَ رأسَ مالِه وهُو أُلوفٌ كثيرة. وقد كان السَّلَفُ يواظِبون في الحجِّ على نوافِلِ الصَّلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يواظِبُ على قيام الليل على راحِلتِهِ في أسفاره كُلِّها ويوتِرُ عليها
(1)
.
وحَجَّ مسروق
(2)
، فما نام إِلَّا ساجدًا.
وكان محمد بن واسِعٍ
(3)
يُصلِّي في طريق مكَّة ليلَهُ أجمَعَ في مَحْملِه، يومئ إِيماءً، ويأمر حاديَهُ أن يرفعَ صوته خلفه حتى يُشْغَلَ
(4)
عنه بسماعِ صوت الحادي، فلا يُتفطَّن لَهُ.
وكان المغيرةُ بن حكيم الصَّنعاني
(5)
يحجُّ من اليمن ماشيًا، وكان له وِرْدٌ بالليل يقرأ فيه كُلَّ ليلةٍ ثُلُثَ القرآنِ، فيقف فيصلِّي حتى يفرُغَ من وِرْدِهِ، ثم يلحق بالركب متى لحِقَ، فربَّما لم يلحَقْهم إِلَّا في آخر النهار. سلامُ الله على تلك الأرواح، رحمَةُ اللهِ على تلك الأشباح، ما مثَلُنا ومثَلُهم إِلَّا كما قال القائل
(6)
:
نزلوا بمكَّة في قبائِلِ هاشمٍ
(7)
…
وَنَزَلْتُ بالبَيْداءِ أبْعَدَ مَنْزِلِ
(1)
رواه مسلم رقم (700)(36)(37)(38) في صلاة المسافرين: باب جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت. ورواه ابن ماجه رقم (1200) في إِقامة الصلاة: باب ما جاء في الوتر على الراحلة، وهو حديث صحيح.
(2)
هو مسروق بن الأجدع بن مالك، أبو عائشة الهمداني. لقي عمر بن الخطاب فقال له: ما اسمك؟ فقال: مسروق بن الأجدع، فقال: الأجدع شيطان، أنت مسروق بن عبد الرحمن، فثبت ذلك عليه. وهو ثقة، فقيه، عابد، مخضرم، مات سنة 63 هـ. والخبر أورده ابن الجوزي أثناء ترجمته في "صفة الصفوة" 3/ 25.
(3)
محمد بن واسع بن جابر، أبو عبد الله الأزدي، البصري. الإِمام الرباني القدوة، ثقة، عابد، كثير المناقب، مات سنة 123 هـ. وأخرج الخبر في "صفة الصفوة" 3/ 266، وأورده الذهبي باختصار في "سير أعلام النبلاء" 6/ 121.
(4)
في ش، ع:"يشتغل".
(5)
ثقة، من الرابعة، من أبناء فارس، روى عن أبيه وابن عمر وأبي هريرة ووهب، بن منبه وغيرهم. والخبر في "صفة الصفوة" 2/ 296.
(6)
في ب: "الشاعر".
(7)
في هامش ع: "نوفل".
فنحن ما نأمر إِلا بالمحافظة على الصَّلاة في أوقاتِها ولو بالجَمْع بين الصَّلاتين المجموعتين في وقتٍ إِحداهُما بالأرضِ؛ فإِنَّه لا يُرَخَّصُ لأحدٍ أن يصَلِّي صَلاةَ الليل في النَّهار، ولا صَلاةَ النَّهارِ في الليل، ولا أن يصلِّيَ على ظهر راحلته المكتُوَبةَ، إِلَّا مَن خافَ الانقطاعَ عن رفقتِه أو نحو ذلك ممن
(1)
يخافُ على نفسِه. فأمَّا المريضُ ومَن كان في ماءٍ وطينٍ، ففي صلاتِه على الرَّاحلة اختلافٌ مشهورٌ للعلماء، وفيه روايتان عن الإِمام أحمدَ، وأنَّ يكونَ بالطهارة الشرعِيَّة بالوُضوء بالماءِ مَعَ القُدرةِ عليه والتيمُّم عند العجز حِسًّا أو شرعًا. ومتى علِمَ الله من عبدٍ حِرْصَه على إِقام الصَّلاة على وجهها أعانَهُ.
قال بعضُ العلماء: كنْتُ في طريق الحجِّ، وكان الأميرُ يقفُ للنَّاسِ كُلَّ يومٍ لصلاةِ الفَجْرِ، فينزِلُ فيصلِّي
(2)
، ثم نركب، فلمَّا كان ذاتَ يومٍ قُرْبَ طُلوعِ الشَّمْسِ، ولم يقفوا للنَّاسِ فناديتهُم؛ فلم يلتفِتُوا إِلى ذلك، فتوضَّأتُ على المحمل، ثم نزلْتُ للصَّلاة على الأرض، ووطَّنْتُ نفسِي على المشي إِلى وقتِ نزولِهم للضّحى
(3)
، وكانوا لا ينزِلُون إِلَّا
(4)
قريبَ وقتِ الظهر، مَعَ علمي بمشقَّة ذلك عليَّ وأنِّي لا قُدْرَةَ لي عليه، فلمَّا صلَّيْتُ وقضَيْتُ صَلاتي، نظرْتُ إِلى رِفقتي فإِذا هم وقوفٌ، وقد كانوا لو سئلوا ذلك لم يفعلوه، فسألتهم عن سبب وقوفهم، فقالوا: لمَّا نزلْتَ تعرقَلَتْ مقاوِدُ الجمالِ بعضُها في بَعْضٍ، فنحن في تخليصها إِلى الآن. قال: فجئتُ وَرَكِبْتُ وحَمِدْتُ الله عز وجل، وعلِمْتُ أنَّه ما قدَّمَ أحدٌ حَقَّ اللهِ تعالى على هَوَى نفسِه وراحتها، إِلَّا وَرَأى سعادَةَ الدُّنيا والآخرة، ولا عَكَسَ أحدٌ ذلك فقدَّمَ حظَّ نفسِه على حَقِّ رَبِّه إِلَّا ورأى الشَّقاوَةَ في الدُّنيا والآخرة. واستشهد بقول القائل:
واللهِ ما جئْتُكُمُ زائرًا
…
إِلَّا وجَدْتُ الأرْضَ تُطْوَى لي
ولا ثَنَيْتُ العَزْمَ عن بابِكم
…
إِلَّا تَعَثَّرْتُ بأذيالي
(1)
في ع وهامش ب عن نسخة "مما".
(2)
في ب، ط:"فنصلي ثم نركب".
(3)
في آ، ش، ع:"للمضحى".
(4)
في ب، ع، ط:"إِلى".
ومِن أعظم أنواع بِرِّ الحَجِّ كثرةُ ذِكْرِ اللهِ تعالى فيه، وقد أَمَرَ الله تعالى بكثرة ذِكْره في إِقامة مناسِكِ الحَجِّ مرَّةً بعدَ أخرى. وقد رُوي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل. "أيُّ الحاج أفضَلُ؟ قال: أكثَرُهم لله ذكرًا". خرَّجه الإِمام أحمد
(1)
. ورُوىِ مرسلًا من وجوهٍ متعددةٍ، وخصوصًا كثرةُ الذِّكْر في حال الإِحرام بالتلبية والتكبير. وفي الترمذي
(2)
وغيرِه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أفضَلُ الحَجِّ العَجُّ والثَّجُّ". وفي حديث جُبَيْر بن مُطْعِمٍ المرفوع: "عجوا التكبير عجًّا وثجوا الإِبل ثجًّا". فالعَجُّ: رفْعُ الصَّوْت بالتكبير والتلبية، والثَّجُّ: إِراقَةُ دِماء الهَدَايا والنُّسُك. والهَدْي مِن أفضَلِ الأعمال، قال الله تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}
(3)
، الآية. وقال تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}
(4)
. وأهْدَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حجّةِ الوَدَاع مائةَ بُدْنَةٍ. وكان يبعَثُ بالهَدْي إِلى منىً، فتُنْحَرُ عنه وهو مقيمٌ بالمدينة.
الأمر الثاني
(5)
: مما يكمُلُ به بِرُّ الحجِّ اجتنابُ أفعالِ الإِثم فيه؛ من الرَّفَثِ والفُسُوق والمعاصي، قال الله تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
(6)
.
وفي الحديث الصحيح
(7)
: "مَنْ حَجَّ هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رَجَعَ كيومِ وَلَدَتْهُ أُمُّه". وقد سبق حديثُ "مَن لم يكُنْ لَهُ وَرَعٌ يحجُزُه عن معاصي الله فليس لله حَاجَةٌ في حَجِّه". فما تزوَّدَ حاجٌّ ولا غيرُه أفضَلَ من زادِ التَّقْوَى، ولا دُعِي للحاجّ عند تودِيعه بأفضَلَ مِن التقوى
(8)
.
(1)
جزء من حديث في مسند أحمد 3/ 438 عن معاذ، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 74 وقال:"رواه أحمد والطبراني، وفيه زبان بن فائد، وهو ضعيف، وقد وثق، وكذلك ابن لهيعة، وبقية رجال أحمد ثقات". وأخرجه المنذري في "الترغيب" 2/ 267 مختصرًا و 2/ 400 بتمامه.
(2)
رقم (827) في الحج: باب ما جاء في فضل التلبية والنحر، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو حديث حسن. ورواه في التفسير رقم (3001) باب: ومن سورة آل عمران، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وانظر تخريجه في "جامع الأصول" 3/ 439 و 9/ 467.
(3)
سورة الحج الآية 36.
(4)
سورة الحج الآية 32.
(5)
أي الأمر الثاني ليكون الحج مبرورًا، وذكر الأول قبل بضع صفحات، وهو: الإِتيان فيه، أي في الحج، بأعمال البر.
(6)
سورة البقرة الآية 197.
(7)
مضى ذكره وتخريجه.
(8)
أخرج الترمذي حديثين صحيحين في هذا المعنى، الأول رقم (3440) في الدعوات، باب رقم =
وقد رُوي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وَدَّعَ غلامًا للحج، فقال له:"زوَّدَكَ اللهُ التَّقْوَى". قال بعضُ السَّلف لمن ودَّعَه: اتقِ الله، فمن اتَّقَى اللهَ فلا وَحْشَةَ عليه. وقال آخر لمن وَدَّعَه للحَجِّ: أوصِيكَ بما وَصَّى به النبي صلى الله عليه وسلم مُعاذًا حين ودَّعَه: "اتَّقِ اللهَ حيثما كنْتَ، وأَتْبِع السَّيئةَ الحَسَنَةَ تمْحُها، وخَالِق النَّاسِ بخُلُقٍ حَسَنٍ"
(1)
. وهذه وصيَّةٌ جامعةٌ لخِصال البِرِّ كُلِّها
(2)
. ولأبي الدَّرداء رضي الله عنه
(3)
:
يُريدُ المرءُ أن يُوتَى مُنَاهُ
…
ويأْبَى اللهُ إِلَّا ما أرادَا
يقولُ المرءُ فائدتي ومالِي
…
وتَقْوَى الله أفضَلُ ما اسْتَفادَا
ومن أعظم ما يجبُ على الحاجّ اتقاؤه مِن الحرام: أن يُطيِّبَ نفقَتَه في الحَجِّ، وأن لا يجعَلَها مِن كَسبٍ حرامٍ. وقد خرَّج الطبراني
(4)
وغيرُه مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إِذا خرَج الرجُلُ حاجًّا بنَفَقةٍ طيِّبةٍ، ووضَعَ رِجْلَه في الغَرْز، فنادى: لَبَّيْكَ اللهم لبَّيك! ناداهُ منادٍ من السَّماء: لبَّيكَ وَسَعْدَيْك، زادُكَ حَلالٌ، وراحِلتُك حلالٌ، وحَجُّكَ مَبْرورٌ غَيْرُ مأْزُورٍ. وإِذا خَرَجَ الرَّجُل بالنَّفقَة الخبيثةِ فوضَعَ
= (46)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:"جاء رجل إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِني أريد السفر، فزوِّدني، قال: زوَّدك الله التقوى، قال: زدني. قال: وغفر ذنبك. قال: زدني، بأبي أنت وأمي. قال: ويسَّر لك الخيرِ حيثما كنت". والثاني رقم (3441) في الدعوات: باب رقم (47) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " إِني أريد السفر فأوصني. قال: عليك بتقوى الله والتكبير على كل شَرَفٍ. فلمَّا أن وَلَّى الرجل، قال: اللهم اطْوِ له البْعْدَ، وهَوِّن عليه السَّفَر".
(1)
أخرجه الترمذي رقم (1988) في البر: باب ما جاء في معاشرة الناس، وهو حديث حسن كما قال الترمذي، وقال: وفي الباب عن أبي هريرة. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم": وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوصى بهذه الوصية معاذًا وأبا ذر من وجوه. وانظر "جامع الأصول" 11/ 694.
(2)
في "جامع العلوم والحكم" للمؤلف: وهي وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده.
(3)
قيل لأبي الدرداء: ما لك لا تشعر، فإِنه ليس رجل له بيت في الأنصار إِلا وقد قال شعرًا؟ قال: وأنا قد قلت فاسمعوا، وذكر البيتين. وقد وردا في الحلية 1/ 225، وصفة الصفوة 1/ 637، والاستيعاب ص 1648، ومختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور 20/ 39.
(4)
أخرجه المنذري في "الترغيب" 2/ 180 وقال: رواه الطبراني في الأوسط. ورواه الأصبهاني من حديث أسلم. مولى عمر بن الخطاب، مرسلًا مختصرًا. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 292، وقال:"رواه الطبراني في الأوسط، وفيه سليمان بن داود اليمامي وهو ضعيف". والغَرْز: ركاب من جلد.
رِجْلَه في الغَرْزِ، فنادَى: لبَّيك اللهم لبَّيك! ناداه منادٍ مِن السَّماء: لا لبَّيكَ ولا سَعْدَيْك؛ زادُكَ حرامٌ، ونفقتُكَ حَرَامٌ، وحَجُّك غيرُ مبرورٍ".
مات رجلٌ في طريقِ مكَّةَ، فحفروا له فدفنوه، ونسُوا الفأسَ في لحدِه، فكشَفُوا عنه الترابَ ليأخذوا الفأسَ، فإِذا رأسُه وعنقه قد جُمِعا في حلقة الفأس، فزدُّوا عليه التُّراب ورجعوا إِلى أهله فسألوهم عنه، فقالوا: صحِبَ رجلًا فأخَذَ مالَه، فكان منه يحُجُّ ويغزو.
إِذا حججتَ بمالٍ أصلُهُ سُحْتُ
…
فما حَجَجْتَ ولكن حَجَّت العِيرُ
لا يقبَلُ الله إِلَّا كُلُّ طيِّبَةٍ
…
ما كُلُّ مَنْ حَجَّ بيتَ اللهِ مَبْرورُ
ومما يجبُ اجتنابُهُ على الحاج
(1)
وبه يتمُّ بِرُّ حَجِّهِ أن لا يقصِدَ بحجِّه رِياءً ولا سُمْعَةً ولا مباهاةً ولا فخرًا ولا خُيلاءَ، ولا يقصِدُ به إِلَّا وَجْهَ اللهِ ورضوانَهُ، ويتواضَعُ في حَجِّه ويستكينُ ويخشَعُ لِربِّه. رُوِي عن أنسٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حَجَّ على رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفةٍ ما تساوي أربعةَ دَرَاهِمَ، وقال: "اللهم! اجعلها
(2)
حِجَّةً لا رِيَاءَ فيها ولا سُمْعَةَ"
(3)
.
وقال عطاء: صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ بمنىً غدَاةَ عَرَفَةَ، ثم غَدَا إِلى عَرَفاتٍ وتحتَه قطيفة اشتُريَتْ له بأربعة دَرَاهِمَ، وهو يقولُ:"اللهم اجْعَلْها حِجَّةً مبرورةً متقبَّلةً لارِياءَ فيها ولا سُمْعَةَ". وقال عبد الله بن الحارث: ركِبَ رسولى الله صلى الله عليه وسلم رَحْلًا فاهتزَّ به، فتواضَعَ لله عز وجل، وقال:"لبَّيك، لا عيشَ إِلَّا عيشَ الآخرة"
(4)
. قال رجل لابن عمر: ما أكثَرَ الحاجَّ! فقال ابن عمر: ما أقلَّهم! ثم رأى رجلًا على بعيرٍ على رَحْلٍ رَثٍّ، خِطامُه حَبْلٌ، فقال: لعلَّ هذا. وقال شُريح: الحاجّ قليلٌ والركبانُ
(1)
في ع: "المحرِم".
(2)
لفظ "اجعلها" لم يرد في آ، ش وسنن ابن ماجه.
(3)
أخرجه ابن ماجه رقم (2890) في المناسك: باب الحج على الرحل. وأورده الألباني في "صحيح ابن ماجه" رقم (2337). وأخرجه المنذري في "التركيب" 2/ 183.
(4)
روى الإِمام أحمد في "مسنده" 3/ 216 عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في رحل له:"لبيك! لا عيش إِلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة" تواضعًا في رحله.
كثير، ما أكثَرَ مَن يعملُ الخيرَ، ولكن ما أقلَّ الذين يريدون وجهه!
خليلي قطَّاعُ الفيافي إِلى الحِمَى
…
كثيرٌ وأمَّا الواصِلُون قليلُ
[وُجُوهٌ عليها للقَبُول علامةٌ
…
وليس على كُلِّ الوُجُوهِ قَبُولُ]
(1)
كان بعضُ المتقدِّمين يحجُّ ماشيًا على قدمَيْه كُلَّ عامٍ، فكان ليلةً نائمًا في
(2)
فراشِه، فطلبَتْ منه أمُّه شَرْبَةَ ماءٍ، فصَعُبَ على نفسِهِ القيام من فراشِهِ ليسقيَ أُمَّه الماء، فتذكَّر حجَّهُ ماشيًا كُلَّ عامٍ، وأنَّه لا يَشقُّ عليه، فحاسَبَ نفسَه، فرأى أنَّه لا يُهوِّنُه عليه إِلَّا رؤيةُ الناس له ومدحهم إِياه، فعلِمَ أنَّه كان مَدْخُولًا
(3)
. قال بعضُ التابعين: رُبَّ مُحْرِمٍ يقولُ: لبيكَ اللهم لبيك! فيقولُ الله له: لا لبيك ولا سعديك، هذا مردودٌ عليك. قيل له: لم؟ قال: لعلَّه اشترى ناقةً بخمسمائة درهم، ورَحْلًا بمائتي درهم، ومفرشًا بكذا وكذا. ثمَّ ركِبَ ناقته، ورجَّلَ رأسَه، ونظر في عِطْفَيْه، فذلك الذي يُرَدُّ عليه. ومن هنا استُحِبَّ للحاجّ أن يكونَ شَعِثًا أغبَرَ.
وفي حديث المباهاة يومَ عَرَفَةَ أنَّ الله تعالى يقولُ لملائكته: "انظُروا إِلى عبادِي، أتوني شُعْثًا غُبْرًا ضاحِين، اشْهَدُوا أنِّي قد غفَرْتُ لهم"
(4)
.
قال عُمَرُ يومًا وهو بطريق مكَّة: تشعَثُون
(5)
وتغبُرُون وتتفُلُون
(6)
وتَضْحُون، لا تريدون بذلك شيئًا من عَرَضِ الدُّنيا، ما نعلَمُ سَفَرًا خَيْرًا من هذا؛ يعني الحجَّ. وعنه قال:"إِنَّما الحاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ"
(7)
. وقال ابنُ عمر لرجلٍ رآه قد استظَلَّ في إِحْرامِه: اِضْحَ لمن أحرمْتَ له. أي ابْرُزْ للضُّحَى، وهو حَرُّ الشمس.
(1)
زيادة من هامش نسخة (ع).
(2)
في ب، ط:"على فراشه".
(3)
الدَّخل: العيب والغش والفساد، يعني أن حجه كان فيه نفاق.
(4)
من حديث مشهور رواه أحمد في "مسنده" 2/ 224 عن عبد الله بن عمرو بن العاص و 2/ 305 عن أبي هريرة مع اختلاف في اللفظ يسير. وأخرجه المنذري من وجوه في "الترغيب" 2/ 200 - 205، وانظر "مجمع الزوائد" 3/ 253 وسنن البيهقي 5/ 58، وإِتحاف السادة المتقين 4/ 438.
(5)
في آ، ش، ع:"يشعثون".
(6)
يتفلون: من التفل، وهو الذي ترك استعمال الطيب، من التَّفَل، وهي الرائحة الكريهة.
(7)
أخرج البيهقى في "سننه" 5/ 58 عن محمد بن عباد بن جعفر، قال: قعدنا إِلى عمر، فتذاكرنا الحج، فقال ابن عمر: قام رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الحاج؟ قال: "الشعث التفل
…
إِلخ"، وقال الزبيدي في "الإِتحاف" 4/ 438: "وفي الخبر: إِنَّما الحاج الشعث التفل. رواه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر. وقال الترمذي: غريب".
أتاك الوافدون إِليك شُعْثًا
…
يَسُوقُون المقلَّدة
(1)
الصَّوَافِ
فكم مِن قاصِدٍ للرَّبِّ رَغْبًا
…
وَرَهْبًا بينَ مُنتعِلٍ وَحَافِ
سبحان من جَعَلَ بيتَه الحَرَامَ مثابَةً للنَّاس وأَمْنًا، يتردَّدون إِليه، ويرجعون عنه، ولا يرون أنَّهم قضوا منه وَطَرًا. لمَّا أضاف الله تعالى ذلك البيت إِلى نفسه ونسَبَه إِليه، بقوله عز وجل لخليله:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ}
(2)
، تعلَّقَت قلوبُ المحبِّين ببيتِ محبوبهم، فكلَّما ذُكِر لهم ذلك البيتُ الحرامُ حَنُّوا، وكلَّما تذكَّروا بُعْدَهم عنه أَنُّوا:
لا يُذْكَرُ الرَّمْلُ إِلَّا حَنَّ مغتَرِبٌ
…
لَهُ بذِي الرَّمْلِ أوطارٌ وأوطانُ
تهفو إِلى البانِ مِن قلبي نوازِعُه
…
وما بي البانُ بلْ مَنْ دارُهُ البَانُ
رأى بعضُ الصالحين الحاجَّ في وقتِ خروجهم، فوقف يبكي ويقول: واضعفاه! وينشد على إِثر ذلك:
فقلْتُ دَعُوني واتِّباعِي رِكَابَكُم
…
أَكُنْ طَوْعَ أيدِيكُم كما يَفْعَلُ العَبْدُ
ثم تنفَّسَ وقال: هذه حَسْرَةُ مَن انقطَعَ عن الوُصُولِ إِلى البيت، فكيف تكون حَسْرَةُ من انقطع عن الوُصُول إِلى رَبِّ البيت؟! يحقُّ لمن رأى الواصلين وهو منقطِعٌ أن يقلَقَ، ولمن شاهَدَ السائرين إِلى ديار الأحبَّة وهو قاعِدٌ أن يحزَنَ.
يا سائقَ العِيسِ تَرَفَّقْ واسْتَمِعْ
…
منِّي وبلِّغِ السَّلامَ عَنِّي
(3)
عَرِّضْ بذِكْري عندَهُم لعلَّهم
…
إِن سمعوك سائلوك عَنِّي
(4)
قل: ذلك المحبُوسُ عن قصدِكُم
…
معذَّبُ القَلْبِ بِكُلِّ فنِّ
يقولُ أمَّلْتُ بأن أزورَكُمْ
…
في جُملَة الوفد فخابَ ظنِّي
أقعَدَني الحِرْمانُ عَن قَصْدِكُم
…
ورُمْتُ أن أسْعَى فلم يَدَعْنِي
ينبغي للمنقطعين طلبُ الدُّعاء من الواصلين؛ لتحصلَ المشاركةُ، كما رُوِي عن
(1)
أي الهدي المقلَّدة، وهو أن يعلَّق بعنق البعير قطعة من جلدٍ ليعلم أنَّه هدي فيكفّ الناس عنه. (المصباح المنير).
(2)
سورة الحج الآية 26.
(3)
في آ: "ويلغن إِن وصلت عني"، وفي ب، ش، ع:"ويلُغ إِن وصلت عني"، والمثبت من (ط).
(4)
في آ: "إِن يسمعوك يسائلوك".
النبي صلى الله عليه وسلم، قال لِعُمَرَ لما أراد العُمْرة:"يا أخي، أَشْرِكْنا في دُعَائك"
(1)
. وفي مسند البزار
(2)
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "اللهم، اغفر للحاجّ، ولمن استغفَرَ له الحاجُّ". وفي الطبراني
(3)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رجلًا يقول في الطَّواف: اللهم! اغفر لفلان بن فلان، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ هذا"؟.
قال: رجُلٌ حَمَّلَني أن أدعُوَ لَهُ بينَ الرُّكْن والمقام. فقال: "قد غُفِرَ لصاحبك".
أَلَا قُلْ لزوَّار دارِ الحبيبِ
…
هنيئًا لكُم في الجِنانِ الخُلودُ
أَفِيضُوا علينا مِنَ الماءِ فيضًا
…
فنحنُ عِطاشٌ وأنتُم وُرودُ
لئن سار القومُ وقَعَدنا، وقرُبوا وبَعُدنا، فما يُؤمننا أن نكونَ مِمَّن {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}
(4)
.
للهِ دَرُّ ركَائبٍ سارَتْ بهم
…
تَطْوِي القِفَارَ الشَّاسِعَاتِ عَلَى الدُّجا
رَحَلُوا إِلى البيتِ الحَرَامِ وقَدْ شَجَا
…
قَلْبُ المتيِّمِ منهُمُ ما قَدْ شَجَا
نَزَلُوا ببابٍ لا يَخيبُ نزِيلُهُ
…
وقلوُبهُمْ بينَ المخافةِ والرَّجَا
على أنَّ المتخلِّف لعذرٍ شريكٌ للسَّائر، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا رجَعَ مِن غَزْوَةِ تَبُوكَ: "إِنَّ بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم مَسِيرًا، ولا قَطَعْتُم وادِيًا، إِلَّا كانوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُم
(5)
العُذْرُ"
(6)
.
(1)
رواه أحمد في "المسند" 1/ 29 و 2/ 59، وابن ماجه رقم (2894) في المناسك: باب فضل دعاء الحاج، وأبو داود رقم (1498) في الصلاة: باب الدعاء، والترمذي رقم (3557) في الدعوات، باب رقم (121)، وقال: حسن صحيح.
(2)
أخرجه المنذري في "الترغيب" 2/ 167 بلفظ "يغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاجُّ"، وقال: رواه البزار والطبراني في الصغير. وابن خزيمة في صحيحه والحاكم، ولفظهما، قال:"اللهم اغفر للحاجِّ، ولمن استغفر له الحاج". وقال الحاكم (1/ 441): صحيح على شرط مسلم. وقال الحافظ المنذري: في إِسناده شريك القاضي، ولم يخرِّج له مسلم إِلا في المتابعات. وأخرجه البيهقي كلذلك 5/ 261.
(3)
أخرجه الطبراني في الكبير 12/ 5، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 152، وقال:"رواه الطبراني، وفيه الحارث بن عمران الجعفري، وهو ضعيف". وانظر "ميزان الاعتدال" 1/ 439.
(4)
سورة التوبة الآية 46.
(5)
في ب، ش، ع، ط:"خَلَّفهم"، وأثبت ما جاء في (آ)، وهو يوافق ما جاء في الصحيحين وسنن أبي داود.
(6)
أخرجه مسلم رقم (1911) في الإِمارة: باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر، عن جابر بن عبد الله. وبنحوه رواية البخاري رقم (2839) في الجهاد: باب من حبسه العذر عن الغزو، وفي المغازي: باب نزول النبي صلى الله عليه وسلم، ورواية أبي داود رقم (2508) في الجهاد: باب في الرخصة في القعود من العذر، وكلام عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
يا سائرين إِلى البَيْتِ العَتيقِ لَقَدْ
…
سِرْتُم جُسُومًا وسِرْنا نحنُ أَرْواحَا
إِنَّا أَقَمْنا على عُذْرٍ وقَدْ رَحَلُوا
…
وَمَنْ أَقَامَ على عُذْرٍ كَمَنْ راحَا
وربَّما سَبَقَ بعضُ من سار بقلبه وهِمَّته وعَزْمه بعضَ السائرين ببدنه.
رأى بعضُ الصالحين في منامه عشيَّةَ عَرَفَةَ بعرَفَةَ قائلًا يقول له: ترى هذا الزِّحام بالموقف؟ قال: نعم. قال: ما حَجَّ منهم إِلَّا رجلٌ واحد
(1)
تخلَّف عن الموقف، فحَجَّ بهمَّتِه، فوهَبَ الله لَهُ أَهْلَ الموقفِ. ما الشأنُ فيمَن سارَ ببدنه، إِنَّما الشأنُ فيمَنْ قَعَدَ بدنُهُ وسار بقلبه، حتى سَبَقَ الرَّكْبَ.
مَنْ لي بمثل سيرك المُذَلَّلِ
…
تمشي رُوَيدًا وتجي في الأوَّلِ
يا سائرين الى دار الأحباب قِفُوا للمنقطِعين، تحمَّلوا معكم رسائلَ المحصَرين، خُذُوا نَظْرَةً مِنِّي فَلَاقُوا بها الحِمَى.
شعر:
يا سائرين الى الحبيبِ ترفَّقُوا
…
فالقلبُ بينَ رحالكُم خلَّفْتُهُ
ما لي سِوَى قلبي وفيكَ أَذَبْتُهُ
…
ما لي سِوى دَمْعِي وفيكَ سَكَبْتُهُ
كان عُمَرُ بن عبد العزيز إِذا رأى مَن يسافرُ الى المدينة النبوية يقول له: أقرِئ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مِنِّي السَّلامَ. ورُوي أنه كان يُبردُ
(2)
عليه البريدَ من الشام.
هذه الخيفُ وهاتيك مِنىً
…
فَتَرَفَّقْ أيُّها الحادي بنا
واحْبِسِ الرَّكْبَ علينا سَاعَةً
…
نَنْدُبُ الرَّبْعَ ونَبْكِي الدِّمَنا
فلِذا الموقِفِ أعْدَدْنا البُكَا
…
ولِذا اليوم الدُّموعُ
(3)
تُقْتَنى
أتراكُمْ في النَّقَا والمُنْحَنَى
…
أهْلَ سلْعٍ تذكُرونا ذِكْرَنا
انقَطَعْنا ووصَلْتُم فاعْلَمُوا
…
واشْكُروا المنعِمَ يا أهْلَ مِنَى
(1)
لفظ "واحد" لم يرد في آ، ش، ع.
(2)
في آ، ش:"لا يرد". ومعنى يبرد: يرسل البريد.
(3)
في ش: "دموعي".
قد خَسِرنا وَرَبِحتُم فصِلُوا
…
بفضُولِ الرِّبْح مَن قد غُبِنا
سار قلبي خَلْفَ أحمالكُمُ
(1)
…
غيْرَ أنَّ العُذْرَ عَاقَ البدَنا
ما قَطعْتُمْ وادِياً إِلَّا وَقَدْ
…
جئتُه أَسْعَى بأقْدَامِ المُنَى
آه! واشوقي إِلى ذاك الحِمَى
…
شوقَ مَحْرُومٍ وقد ذَاقَ العَنَا
سلِّموا عنِّي على أربابهِ
…
أخبرُوهُمْ أنَّني حِلْفُ الضَّنَا
أنا مُذ غِبْتُم على تذكارِكُم
…
أَتُرَى عندَكُمُ ما عندَنا
بيننا يومَ أَثيلاتِ النَّقا
…
كان عن غير تراضٍ بيننا
زمنًا كان وكُنَّا جِيرةً
…
فأعادَ الله ذاكَ الزَّمنا
مَنْ شَاهَدَ تلك الدِّيار، وعايَنَ تلك الآثار، ثم انقطَعَ عنها، لم يمُتْ إِلَّا بالأسَفِ عليها، والحنين إِليها.
ما أذكُرُ عَيْشَنا الَّذي قدْ سَلَفا
…
إِلَّا وَجَفَ القَلْبُ وَكَمْ قَدْ وَجَفا
واهًا لزمانِنا الَّذي كان صَفَا
(2)
…
واأَسَفا لِرَدِّهِ واأَسَفا
(3)
[مَن يرجِعُ دَهْرَنا بأَرْضِ الجزعِ
…
بين الأثلاثِ والرُّبا في سَلْعِ
قالوا اصْبر وليس ذا في وُسْعِي
…
يا حُزْنُ أَقِم وأنتَ سِرْ يا دَمْعِي
* * *
يا ليتنا بزَمْزَم والحجْرِ
…
يا جيرتنا قُبيل يوم النَّفْرِ
هل يرجع صافي ما مضى من عمري
(4)
…
أدري ما كان، ليتني لا أدري]
(5)
* * *
(1)
في آ، ب:"أجمالكم".
(2)
سقط هذا الشطر من نسخة (آ).
(3)
في ب، ط:"واأسفا، وهل يردّ فائتًا واأسفا".
(4)
في ش: "هل يرجع ما صفي بماضي عمري".
(5)
زيادة لم ترد في ب، ط.
المجلس الثالث
فيما يقوم مقام الحجّ والعمرة عند العجز عنهما
يُذْكَر بعد خروج الحاج
في "صحيح البخاري"
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء الفقراء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: "ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ من الأموال بالدَّرَجَاتِ العُلَى والنَّعيم المُقيم، يُصَلُّون كما نُصَلِّي، ويصُومُون كما نصوم، ولهم
(2)
فَضْلٌ من أموالٍ يَحُجُّون بها وَيَعتمِرون، ويجاهِدُون، ويَتَصَدَّقون. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ألا أحدِّثُكم بما
(3)
إِنْ أخذتم به لَحِقْتُمْ مَن سَبَقَكُم ولم "يُدْرِكْكُم أحَدٌ بعدَكُم، وكنْتُم خَيْرَ مَن أنتُم بينَ ظَهْرانَيْهِ؛ إِلَّا مَن عَمِلَ مِثْلَه: تُسبِّحون وتَحْمَدُون وتُكَبِّرون خَلْفَ كُلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين". وفي المسند
(4)
وسنن النسائي عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه، قال: قلنا: يا رسولَ اللهِ، ذهَبَ الأغنياء: بالأجْر، يحجُّون ولا نحجُّ، ويجاهِدُون ولا نُجاهِد، وبكذا وبكذا. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ألَا أَدلُّكُم على شيءٍ إِن أخذْتُم به جئتُم من أفْضَلِ ما يجيء به أحد منهم: أن تكبِّروا الله أربعًا وثلاثين، وتسبِّحوه ثلاثًا وثلاثين، وتَحْمَدُوه ثلاثًا وثلاثين في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ".
المالُ لمن استعانَ به على طاعة الله وأنفقه في سُبُلِ
(5)
الخيرات المقرِّبة إِلى الله، سببٌ موصِلٌ له إِلى الله، وهو لمن أنفَقَه في معاصي الله، واستعانَ به على نيل أغراضه المحرَّمة، أو اشتغل به عن طاعة الله، سببٌ قاطع له عن الله، كما قال أبو سليمان الدَّاراني: الدنيا حجابٌ عن الله لأعدائه، ومطيةٌ موصِلةٌ إِليه لأوليائه، فسبحان مَن جعل شيئًا واحدًا سببًا
(6)
للاتصال به والانقطاع عنه. وقد مَدَحَ الله في
(1)
أخرجه البخاري 2/ 325 رقم (843) في الأذان: باب الذِّكر بعد الصلاة، وبنحوه فى مسلم رقم (595) في المساجد: باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته. وللحديث روايات متعددة فى البخاري ومسلم والموطأ وأبي داود، انظرها في "جامع الأصول" 4/ 218 - 221.
(2)
فى ط، ش، ع:"فضلُ أموالٍ"، وفي آ:"ولهم فضول من أموالهم".
(3)
فى الفتح: "بأمر إِن
…
".
(4)
مسند أحمد 6/ 446.
(5)
فى آ، ش، ع:"سبيل".
(6)
لفظ "سبباً" لم يرد فى ب، ط.
كتابه القِسْمَ الأول، وذَمَّ القسم الثاني، فقال في مدح الأولين:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
(1)
(2)
، والآيات في المعنى كثيرة جدًا. وقال في ذمِّ الآخرين:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}
(3)
.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس أحدٌ لا يؤتي زكاة مالِه إِلَّا سألَ الرَّجْعَةَ عندَ الموت، ثم تلا هذه الآية. وأخبر الله عن أهل النَّار الذين يؤتى أحدهم كتابه بشماله أنَّه يقول:{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}
(4)
. والأحاديث في مَدْحِ من أنفَقَ مالَه في سبيل الطاعات
(5)
، وفي ذَمِّ قن لم يؤدِّ حقَّ الله منه كثيرةٌ جدًّا. وقد قال صلى الله عليه وسلم:"نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجُل الصَّالح"
(6)
. وقال: "الأكثرون هُمُ الأقلُّونَ يَوْمَ القِيامة، إِلَّا مَن قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شِماله ومِن خلفه، وقليلٌ ما هم"
(7)
. وقال: "إِنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلْوةٌ؟ فمن أَخَذَه بحقِّه وَوَضَعَه في حَقِّه، فنِعْمَ المَعُونَةُ هو. وإِن أخذَه بغير حقِّه، كان كالذي يأكُلُ ولا يشبَعُ"
(8)
. فالمؤمِنُ الذي يأخُذُ المالَ من حقِّه ويضَعُه في حقِّه، فلَهُ أَجْرُ ذلك كلِّه،
(1)
سورة البقرة الآية 274.
(2)
سورة فاطر الآية 29 و 30.
(3)
سورة المنافقون الآية 9 و 10.
(4)
سورة الحاقة الآية 28 و 29.
(5)
في ب، ط:"الخيرات".
(6)
رواه أحمد في "المسند" 4/ 197 بلفظ "للمرء الصالح". وفي "الإِتحاف" للزبيدي 8/ 149: "قال العراقي: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عمرو بن العاص بسند صحيح". وانظر "فتح الباري" 8/ 75.
(7)
رواه أحمد في "المسند" 2/ 358، 391، 399، 525 عن أبي هريرة رضي الله عنه. وهو جزء من حديث عن أبي ذرٍّ أخرجه البخاري 11/ 260 في الرقاق: باب المكثرون هم المقلون، وفي غيره. ومسلم رقم (94) في الإِيمان، وفي الزكاة. ورواه كذلك أحمد في "مسنده" 5/ 152.
(8)
جزء من حديث طويل أخرجه البخاري 3/ 327 رقم (1465) في الزكاة: باب الصدقة على اليتامى، وفي الجمعة: باب يستقبل الإِمام القوم واستقبال الناس الإِمام اذا خطب، وفي الجهاد: باب فضل النفقة في سبيل الله، =
وكلما أنفق منه يبتغي به وَجْهَ الله فهو له صدقَةٌ يؤجَرُ عليها، حتى ما يُطعم نفسَه فهو له صَدَقَةٌ، وما يطعِمُ وَلَدَه فهو له صدقة، وما يُطْعِمُ أهلَه فهو له صدقة، وما يطعِمُ خادِمَه فهو له صَدَقَةٌ. وكان عامة أهلِ الأموال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا القِسم.
قال أبو سليمان: كان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف خازنين من خزان الله تعالى في أرضه، ينفقان في طاعته، وكانت معاملتهما لله بقلوبهما. ورأس المنفقين أموالَهم في سبيل الله من هذه الأمة أبو بكر الصَّدِّيق رضي الله عنه، وفيه نزلت هذه الآية {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى}
(1)
.
وفي صحيح الحاكم
(2)
عن ابن الزُّبير، قال: قال أبو قُحَافة لأبي بكر: أراك تُعتِقُ رِقابًا ضِعَافًا، فلو أنَّك إِذا فعلْتَ ما فعلْتَ أعتقْتَ رجالًا جُلدًا، يمنعونك وَيقُومُون دُونَك. فقال أبو بكر: يا أبت! إِنِّي إِنَّما أريدُ ما أريدُ. قال: وإِنَّما نزلت هذه الآيات فيه {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
(3)
إِلى آخر السورة.
ورُوِي من وجهٍ آخر عن ابن الزبير، وخرَّجه الإِسماعيلي، ولفظُه أن أبا بكرٍ كان يبتاع الضَّعَفَةَ فيعتِقُهم، فقال له أبو قحافة: يا بني، لو ابتعت من يمنع ظهرك. فقال: يا أبتِ، مَنْعَ ظَهْرِي أريدُ. ونزلت فيه {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} ، إِلى آخر السورة.
وخرَّج أبو داود
(4)
والترمذي من حديث عمر، قال: أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدَّق، ووافَقَ ذلك عندِي مالًا، فقلْتُ: اليومَ أسبِقُ أبا بكر إِن سبقته يومًا. قال:
= وفي الرقاق: باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها. ومسلم رقم (1052) في الزكاة: باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا. وأخرجه النسائي 5/ 90 في الزكاة: باب الصدقة على اليتيم. والخضرة: الناعمة الغَضَّة.
(1)
سورة الليل الآيات 17 - 21.
(2)
أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 525 على شرط مسلم ولم يخرجاه، وانظر الدر المنثور 8/ 535.
(3)
سورة الليل الآية 5 وما بعدها.
(4)
رواه أبو داود رقم (1678) في الزكاة: باب في الرخصة في الرجل يخرج من ماله. والترمذي رقم (3676) في المناقب: باب الصدّيق ينفق كل ماله، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 1/ 414 على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. والبيهقي في "سننه" 4/ 181.
فجئت بنصف مالي، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيتَ لأهلك؟ قلْتُ: مثلَه. وإِنَّ أبا بكر أتى بكل ما عِندَه، فقال: يا أبا بكر: ما أبقيْتَ لأهلك؟ قال: أبقيْتُ لهم اللهَ ورسولَه. فقلت: لا أسابِقُه إِلى شيءٍ أبدًا. وخرَّج الإِمام أحمد
(1)
والنسائي وابنُ ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ما نَفَعَني مالٌ قَطُّ ما نَفَعَنِي مالُ أبي بكرٍ". فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالِي إِلَّا لك يا رسولَ الله. وخرَّجه الترمذي
(2)
بدون هذه الزيادة في آخره.
وكان من المنفقين أموالَهُم في سبيل الله، عثمانُ بن عفان، ففي الترمذي
(3)
، عن عبد الرحمن بن خباب، قال: "شَهِدْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يَحُثُّ على جيش العُسْرَةِ، فقام عثمان، فقال: يا رسولَ الله! عليَّ مائِةُ بعيرٍ بأَحْلاسها
(4)
وأقتابِها في سبيل الله. ثم حَضَّ على الجيش، فقام عثمان، فقال: يا رسولَ الله! عليّ مائتا بعيرٍ بأَحْلاسِها وأَقْتابِها في سبيل الله
(5)
. ثم حَضَّ على الجيش، فقام عثمان، فقال: يا رسولَ الله! عليَّ ثلاثمائة بعيرٍ بأحلاسِها وأقتابِها في سبيل الله. قال: فرأيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ينزل على المِنْبر، وهو يقول: ما على عثمان ما فَعَلَ بعدَ هذه، ما على عثمان ما فعل بعد هذه".
وخرج الإِمام أحمد
(6)
والترمذي من حديث عبد الرحمن بن سَمُرَة رضي الله عنه
(1)
رواه أحمد في "مسنده" 2/ 253 بإِسناد صحيح، وابن ماجه رقم (94) في المقدمة: باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأورده الألباني في "صحيح ابن ماجه" رقم (77) 1/ 23. ورواه ابن حبان في "صحيحه" 9/ 4، و (2166) موارد.
(2)
رقم (3662) في المناقب: باب إِن لأبي بكر عندنا يدًا.
(3)
رقم (3701) في المناقب: باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفي سنده مجهول؛ قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وفي الباب عن عبد الرحمن بن سَمُرة عند الترمذي رقم (3702) في المناقب أيضًا. وروي بإِسناد حسن في مسند أحمد 3/ 63، فهو شاهد له بالمعنى، وهو به حسن.
(4)
الأحلاس: الأكسية التي تكون على ظهور الإِبل تحت الرِّحال والأقتاب، واحدها: حِلْس. والأقتاب: جمع قَتَب، بفتحتين، وهو رحل صغير على قدر سنام البعير.
(5)
زاد الترمذي بعده: "ثم حضَّ على الجيش، فقام عثمان، فقال: يا رسول الله، عليَّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله".
(6)
مسند أحمد 3/ 63 بإِسناد حسن، والترمذي رقم (3702) في المناقب. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
أنَّ عثمان جاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينارٍ حينَ جَهَّزَ جيشَ العُسْرَة، فنثرها في حجْرِه. قال: فرأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقلِّبُها في حِجْره ويقول: ما ضَرَّ عثمان ما عمل
(1)
بَعْدَ هذا اليوم، مرتين.
وكان منهم أيضًا عبد الرحمن بن عوف: وفي مسند الإِمام أحمد
(2)
أنَّه قدِمَ له عِيرٌ إِلى المدينة، فارتجت لها المدينة، فسألَتْ عائشةُ عنها، وحدثت حديثًا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فبلغ عبد الرحمن فجَعَلَها كُلَّها في سبيل الله بأقتابها وأحلاسِها، وكانت سبعمائة راحلةٍ.
وخرَّجه ابنُ سعدٍ
(3)
من وجهٍ آخر فيه انقطاع، وعنده أنَّها كانت خمسمائة راحلةٍ. وخرَّج الترمذي
(4)
من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوفٍ، عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول، تعني لأزواجه:"إِنَّ أمرَكُنَّ لما يُهِمُّني بعدي، ولن يصبرَ عليكنَّ إِلَّا الصَّابرون". قال: ثم تقول عائشة لأبي سلمة: سقَى اللهُ أباكَ من سَلْسَبِيل الجنَّة. وكان قد وَصَلَ أزواجَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بحديقةٍ
(5)
بيعَت بأربعين ألفًا. وقال: حَسَنٌ غريب.
وخرَّجه الحاكم
(6)
وصححه. وخرَّج الإِمام أحمدُ أوَّلَه. وخرَّج الإِمام أحمد أيضًا والحاكم
(7)
من حديث أُمِّ بكر بنت المِسْوَر بن مَخْرَمَةَ: أنَّ عبد الرحمن بن عوف باع أرضًا له من عثمان بأربعين ألف دينارٍ، فقسمها في فقراء بني زُهْرَةَ وفي المهاجرين وأمَّهات المؤمنين. قال المِسْوَر: فأتيت عائشةَ رضي الله عنها بنصيبها من ذلك، فقالت لنا: إِني سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحنُو عليكُنَّ بَعْدِي إِلَّا الصَّابرون، سَقَى الله ابنَ عَوْفٍ من سَلْسَبيل الجنَّة".
(1)
في ب، ع، ط:"ما فعل".
(2)
مسند أحمد 6/ 115 والكنز رقم (33501). وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" 2/ 13. وانظر "الإِتحاف" للزبيدي 8/ 216 - 217.
(3)
الطبقات 3/ 132.
(4)
رقم (3750) في المناقب: باب مناقب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، وهو كما قال.
(5)
في ب، ع، ط:"بمال" وأثبت ما جاه في (آ) وهو يوافق ما جاء في الترمذي. والحديقة: البستان، عليه حائط أحدق به.
(6)
أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 312 وصححه.
(7)
رواه الإِمام أحمد في "مسنده" 6/ 104 و 135، والحاكم في "المستدرك" 3/ 310 وصححه، ووافقه الذهبي.
وخرَّج الإِمام أحمد
(1)
والحاكم
(2)
من حديث أمِّ سَلَمة رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: "إِنَّ الذي يحنُو عليكن بعدِي هو الصَّادِقُ البارّ، اللهمَّ اسْقِ عبدَ الرحمن بن عوف من سَلْسَبيل الجنَّة". وخرَّجه ابنُ سعدٍ
(3)
، وزاد: إِنَّ إِبراهيم بن سعدٍ، قال: حدثني بعضُ أهلي من ولد عبد الرحمن بن عَوْفٍ: أنَّ عبدَ الرحمن بن عَوْف باع أموالَهُ مِن كيْدَمَةَ
(4)
، وهو سَهْمُه
(5)
من بني النَّضير، بأربعين ألف دينار، فَقَسَمها على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وخرَّج الترمذي
(6)
من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن رضي الله عنه: أنَّ أباه عبد الرحمن بن عوف أوْصَى بحديقةٍ لأمّهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألفٍ. وخرَّجه الحاكم
(7)
، ولفظه: "بيعت بأربعين
(8)
ألف دينارٍ".
وأخبار الأجواد المنفقين أموالَهُم في سبيل الله مِن أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يطولُ ذِكْرُها جدًّا، وكان الفقراء من الصَّحابة كلَّما رأوا أصحابَ الأموال منهم ينفقون أموالَهم فيما يُحبُّه الله؛ مِن الحَجِّ والاعتمار والجهاد في سبيل الله والعِتْق والصَّدقة والبِرِّ والصِّلة وغير ذلك من أنواع البِرِّ والطاعات والقربات، حَزِنُوا لما فاتَهُم مِن مُشَاركتهم في هذه الفضائل، وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه بذلك، فقال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}
(9)
.
نزلت هذه الآية بسبب قومٍ من فقراء المسلمين أتوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم -وهو يتجهَّزُ إِلى
(1)
رواه الإِمام أحمد في "مسنده" 6/ 299 و 302، والحاكم في "المستدرك" 3/ 311 وصححه، ووافقه الذهبي.
(2)
في ط: "والترمذي"، وهو تحريف.
(3)
الطبقات 3/ 132.
(4)
كَيْدَمَة: موضع بالمدينة، وهو سهم عبد الرحمن بن عوف من بني النضير. (ياقوت).
(5)
في ب، ط:"وسهمه".
(6)
رقم (3751) في المناقب، باب رقم (77).
(7)
أخرجه الحاكم في "المستدرك" 2/ 313 بلفظ: "قد وصلهن بمال فبيع بأربعين ألف دينار"، وكذا في الترمذي رقم (3750).
(8)
في هامش ع: "بأربعة آلاف".
(9)
سورة التوبة الآية 90 و 91.
غزوة تبوكَ، فطلبوا منه أن يحملَهم، فقال لهم: لا أجِدُ ما أحملُكُم عليه، فرَجعُوا وهم يبكون حزنًا على ما فاتهم من الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال بعضُ العلماء: هذا واللهِ بكاءُ الرجال، بَكوا على فقدهم رواحِلَ يتحمَّلُون عليها إِلى الموت في مواطِنَ تُرَاقُ فيها الدِّماء في سبيل الله، وتنزعُ فيها رؤوس الرِّجال عن كواهلها بالسّيوف. فأمَّا مَن بَكَى على فَقْد حَظِّه من الدُّنيا وشهواتِهِ العاجلة، فذلك شبيهٌ ببكاء الأطفال والنساء على فَقْدِ حظوظهم العاجلة:
سَهَرُ العُيونِ لِغَيْرِ وَجْهِكَ باطِلٌ
…
وبكاؤهُنَّ لِغَيْرِ فَقْدِكَ ضَائعُ
إنما يحسُنُ البكاءُ والأسفُ على فَوَاتِ الدَّرجاتِ العُلَى والنَّعيم المقيم. قال بعضُهم: يُرَى رجلٌ في الجنَّة يبكي، فيُسْأَلُ عن حالِه، فيقول: كانت لي نفس واحِدةٌ قُتِلَتْ
(1)
في سبيل الله، وودِدْتُ أنَّه كانت لي نفوسٌ كثيرة تُقْتَلُ كلُّها في سبيله. غزا قومٌ في سبيل الله، فلمَّا صافُّوا عدوِّهم واقتتلوا، رأى كُلُّ واحدٍ منهم زوجتَهُ من الحُورِ قد فتحَتْ بابًا من السَّماء، وهي تستدعي صاحبَها إِليها وتحثُّه على القتال، فقُتلوا كلُّهم إِلَّا واحدًا. وكان كلَّما قُتِلَ منهم واحدٌ غُلِّق
(2)
بابٌ وغابَتْ منه المرأة، فأُفْلِتَ آخِرُهم، فأغلَقَتْ تلك المرأةُ البابَ الباقي، وقالت: ما فاتَكَ يا شقي! فكان يبكي على حالِه إِلى أن مات، ولكنَّه أورثه ذلك طول الاجتهاد والحزن والأسف.
على مِثْل لَيْلَى يَقْتُلُ المَرْءُ نفْسَهُ
…
وإِنْ كانَ مِن لَيْلَى علَى الهَجْر طَاوِيا
لما سمِعَ الصَّحابة رضي الله عنهم قول الله عز وجل {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}
(3)
{سَابِقُوا
(4)
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}
(5)
فهِمُوا من ذلك أنَّ المراد أن يجتهدَ كُلُّ واحدٍ منهم أن يكونَ هو السابقَ لغيرِه إِلى هذه الكرامة، والمسارِعَ إِلى بلوغ هذه الدرجة العالية، فكان أحدُهم اذا رأى مَن يعمَلُ
(1)
في ع: "فقتلت".
(2)
في ب، ع:"أغلق".
(3)
سورة البقرة الآية 148، وسورة المائدة الآية 48.
(4)
في ع: "وقوله: سارعوا"، وهي في سورة آل عمران الآية 134.
(5)
سورة الحديد الآية 21.
عملًا يعجِزُ عنه، خَشِي أن يكونَ صاحِبُ ذلك العمل هو السابقَ له، فيحزنَ لفوات سَبْقِهِ. فكان تنافُسُهم في دَرَجَاتِ الآخرةِ واستباقُهم إِليها، كما قال تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}
(1)
. ثم جاء مَنْ بعدَهُم، فَعَكَسَ الأمْرَ، فصار تنافُسُهم في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.
قال الحسن: إِذا رأيتَ الرجل ينافسك في الدُّنيا فنافِسْه في الآخرة. وقال وُهَيْب بن الوَرْد: إِن استطعْتَ ألا يسبقكَ إِلى اللهِ أحدٌ فافْعَلْ. وقال بعضُ السَّلَف: لو أنَّ رجلًا سَمِعَ بأحَدٍ أطوَعَ لله منه، كان ينبغي له أن يُحزِنَه ذلك. وقال غيرُه: لو أنَّ رجلًا سمِعَ برجُلٍ أطوَعَ لله منه فاَنْصَدَعَ قلبُه فمات، لم يكن ذلك بعجبٍ. قال رجلٌ لمالك بن دينار: رأيتُ في المنام مناديًا ينادي: أيُّها الناس! الرَّحيلَ الرحيلَ، فما رأيْتُ أحدًا يرتحِلُ إِلَّا محمد بن واسِعٍ؛ فصاح مالك وغُشي عليه {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}
(2)
. قال عمر بن عبد العزيز في حجةٍ حجَّها عند دَفْعِ الناس مِن عَرَفَةَ: ليس السَّابقُ اليومَ مَن سَبَقَ به بعيرهُ، إِنَّما السَّابقُ مَن غُفِرَ له.
كان رأسُ السَّابقين إِلى الخيرات من هذه الأمَّة أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، قال عمر: ما استبقنا إِلى شيءٍ من الخير إِلَّا سَبَقَنَا أبو بكرٍ، وكان سبَّاقًا بالخيرات.
ثم كان السَّابق بعدَه إِلى الخيرات عُمر، وفي آخر حجَّةٍ حجَّها عُمَرُ جاء رجُلٌ لا يُعْرَفُ، كانوا يرونه مِن الجن، فرثاه بأبيات منها:
فمن يَسْعَ أو يَرْكَبْ جناحَيْ نَعَامَةٍ .. لِيدْرِكَ ما قدَّمْتَ بالأمْسِ يُسْبَقِ
صاحب الهمَّةِ العالية والنفس الشريفة التوَّاقَةِ لا يرضَى بالأشياء الدنية الفانية، وإِنَّما هِمَّتُه المسابقةُ إِلى الدَّرَجَاتِ الباقية الزاكية، التي لا تَفْنَى ولا يرجِعُ عن مطلوبِه، ولو تَلِفَتْ نفسُه في طلبه. ومن كان في الله تلفُهُ كان على الله خلَفُه. قيل لبعض المجتهدين في الطاعات: لِمَ تعذِّب هذا الجسد؟ قال: كرامتَهُ أريدُ.
(1)
سورة المطففين الآية 26.
(2)
سورة الواقعة الآيات 10 - 12، وانظر الخبر في "صفة الصفوة" 3/ 267.
وإِذا كانت النُّفُوسُ كِبَارًا
…
تَعِبَتْ في مُرَادِها الأَجْسَامُ
(1)
قال عمر بن عبد العزيز: إِنَّ لي نفسًا تَوَّاقةً، ما نالَتْ شيئًا إِلَّا تاقَتْ إِلى ما هو أفضلُ منه، وإِنَّها لمَّا نالَتْ هذه المنزِلَة - يعني الخلافة - وليس في الدنيا منزلةٌ أعلَى منها، تاقَتْ إِلى ما هو أعلى من الدنيا، يعني الآخِرَةَ.
على قدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تأتي العَزَائمُ
…
وتأتي علَى قدْرِ الكِرامِ المكارِمُ
(2)
قِيمةُ كُلِّ إِنسان ما يطلُبُ؛ فمن كان يطلبُ الدنيا فلا أدنى منه؛ فإِنَّ الدنيا دنيَّة، وأدنَى منها مَن يطلبها، وهي خسِيسَةٌ؛ وأخسُّ منها من يخطُبُها
(3)
. قال بعضُهم: القلوبُ جوَّالةٌ، فقلْبٌ يجولُ حولَ العَرْشِ، وقلْبٌ يجولُ حول الحشِّ
(4)
. الدُّنيا كلُّها حشٌّ، وكُلُّ ما فيها من مَطْعَمٍ ومَشْربٍ يؤول إِلى الحشّ، وما فيها من أجسامٍ ولباسٍ يصير ترابًا، كما قيل
(5)
:
* وَكُلُّ الَّذي فَوْقَ التُّرابِ تُرَابُ *
وقال بعضُهم في يوم عيدٍ لإِخوانه: هل تنظرون إِلَّا خِرَقًا تبلَى، أو لحمًا يأكلُه الدُّود غدًا. وأمَّا مَن كان يطلبُ الآخرة فقدْرُهُ خطيرٌ؛ لأنَّ الآخِرَةَ خطيرةٌ شريفةٌ؛ ومن يطلبها أشْرفُ منها، كما قيل:
أُثامِنُ
(6)
بالنَّفْسِ النَّفيسة ربَّها
…
وليس لها في الخَلْقِ كُلِّهم ثَمَنْ
(1)
في آ، ب، ش، ط:"الأجساد"، والتصحيح من نسخة (ع) وديوان المتنبي 2/ 245، من قصيدة في مدح سيف الدولة الحمداني، مطلعها:
أينَ أَزْمَعْتَ أيُّهذا الهُمَامُ
…
نحنُ نَبْتُ الرُّبَى وأنتَ الغَمامُ
(2)
مطلع قصيدة مشهورة للمتنبي، يمدح فيها سيف الدولة ويذكر بناءه ثغر الحدث. (ديوانه 2/ 269).
(3)
في آ، ش:"عظَّمها".
(4)
الحش، بضم الحاء وفتحها: المخرج؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، والجمع حشوش. وفي الحديث:"إِنَّ هذه الحُشوش محتضرة" يعني الكُنُف ومواضِعَ قضاء الحاجة. ومن معاني الحش: البستان، والنخل المجتمع، والمتوضأ.
(5)
عجز بيت للمتنبي (ديوانه 1/ 140)، وتمامه:
إِذا نِلْتُ مِنْكَ الوُدَّ فالمالُ هَيِّنٌ
…
وكُلُّ الذي فَوْقَ التُّراب تُرَابُ
(6)
أي: أساوم. يقال: ثامَنتُ الرجل في المبيع أُثامِنُه، إِذا قاوَلته في ثمنه وساومته على بيعه واشترائه. (اللسان: ثمن).
بها تدركُ الأخرى فإِنْ أنا بِعتُها
…
بشيءٍ مِن الدُّنيا فذاكَ هو الغَبَنْ
لئن ذهَبَتْ نفسِي بِدُنيا أصبْتُها
…
لقد ذَهَبَتْ نَفْسِي وقد ذَهَبَ الثَّمَنْ
وأمَّا مَن كان يطلبُ اللهَ فهو أكبَرُ النَّاسِ عندَه، كما أنَّ مطلوَبهُ أكبَرُ مِن كُلِّ شيءٍ كما قيل:
لَهُ هِمَمٌ لا مُنْتَهَى لكبارِها
…
وهِمَّتُه الصُّغْرَى أَجَلُّ مِنَ الدَّهْرِ
قال الشِّبْلِيُّ: مَن رَكَنَ إِلى الدنيا أحرقَتْه بنارِها، فصار رَمَادًا تذرُوه الرِّياحُ؛ ومن رَكَنَ إِلى الآخِرة أَحرَقَتْه بنورِها، فصار سَبيكةَ ذَهَب يُنْتَفَعُ به؛ ومَن رَكَنَ إِلى الله أحرَقَهُ بنور
(1)
التوحيد، فصار جوهرًا لا قِيمَةَ له. العاليَ الهِمَّة يجتَهِدُ في نَيْل مطلوبِهِ، ويبذُلُ وُسْعَهُ في الوصول إِلى رِضَا محبوبه. فأمَّا خسِيسُ الهِمَّةِ فاجتهادُه في متابعة هواهُ، ويتَّكِلُ على مجرَّد العفو، فيفوته إِن حصَلَ له العفو منازلُ السَّابقين المقرَّبين. قال بعضُ السَّلف: هَبْ أنَّ المسيءَ عُفِي عنه، أليس قد فاتَهُ ثوابُ المحسنين؟
فيا مُذنبًا يرجُو مِنَ الله عَفْوَهُ
…
أَتَرْضَى بسبقِ المتقين إِلى اللهِ
لمَّا تنافَسَ المتنافسون في نيل الدَّرجاتِ، غَبَطَ بعضُهم بعضًا بالأعمال الصَّالحات. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا حَسَدَ إِلَّا في اثْنتين؛ رَجُلٌ آتاهُ اللهُ مالًا فهو يُنْفِقُهُ في سبيل الله آناءَ اللَّيل وآناءَ النَّهارِ، ورجلٌ آتاهُ الله القرآنَ فهو يَقُومُ به آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهار".
وفي رواية: "لا تحاسُدَ إِلَّا في اثْنتين؛ رجلٌ آتاه الله القرآنَ فهو يتلُوه آناءَ اللَّيل والنَّهار، يقول: لو أوتِيتُ مثلَ ما أُوتِي هذا لفعلْتُ كما يفعَلُ؛ ورجُلٌ آتاهُ اللهُ مالًا فهو يُنْفِقُه في حَقِّه، يقول: لو أُوتيتُ مِثْلَ ما أوتِي هذا لَفَعَلْتُ كما يَفْعَلُ". وهذا الحديث في الصحيحين
(2)
.
(1)
في آ، ش:"أحرقه نور التوحيد".
(2)
ساق المؤلف الحديثين بالمعنى، وهما عند البخاري 9/ 73 في فضائل القرآن: باب اغتباط صاحب القرآن، وفي التمني، وفي التوحيد. وعند مسلم رقم (815) في صلاة المسافرين: باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه. ورواه الترمذي رقم (1937) في البر والصلة: باب ما جاه في الحسد.
وفي الترمذي
(1)
وغيرِه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إِنَّما مَثَلُ هذه الأمَّة كأربَعَةِ نَفَرٍ؛ رجلٍ آتاهُ الله مالًا وعِلْمًا، فهو يَعْمَلُ بِعِلْمِه في مالِه يُنْفِقُه في حقِّه؛ ورجُلٍ آتاهُ. الله عِلْمًا ولم يؤتِه مالًا، وهو يقول: لو كان لي مثلُ هذا لَعَمِلْتُ فيه مثلَ الَّذي يعمَلُ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الأَجْرِ سَوَاءٌ. ورجلٍ آتاهُ الله مالًا ولم يؤتِه عِلْمًا، فهو يَخْبِطُ في مالِهِ يُنْفِقُه في غَيْرِ حَقِّه. ورجلٍ لم يؤتهِ اللهُ عِلْمًا ولا مالًا، فهو يقول: لو كان لي مالُ
(2)
هذا عَمِلْتُ فيه مِثْلَ الَّذي يَعْمَلُ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الوِزْرِ سَواءٌ".
وروى حُمَيْد بن زَنْجَوَيه
(3)
بإِسناده، عن زيد بن أسلم، قال: يؤتَى يومَ القيامة بفقيرٍ وغنيٍّ اصطحبا في الله، فيوجَدُ للغني فَضْلُ عَمَلٍ فيما كان يصنَعُ في ماله، فيُرفَعُ على صاحبه، فيقولُ الفقير: ياربّ! لِمَ رَفعتَهُ؟ وإِنَّما اصطحبنا فيك، وعَمِلْنا لك. فيقول الله تعالى: له فَضْلُ عَمَلٍ بما صَنَعَ في ماله، فيقول: ياربّ! لقد علمْتَ لو أعطيْتَني مالًا لصنَعْتُ مثلَ ما صنع، فيقول: صدَقَ، فارفعوه إِلى منزلة صاحبه.
ويؤتى بمريضٍ وصحيحٍ اصطحبا في الله، فيرفَعُ الصَّحيحُ بفضلِ عمله، فيقول المريض: يا ربِّ! لِمَ رَفعْتَه عليَّ؟ فيقول: بما كان يعمَلُ في صحته. فيقول: يا ربّ! لقد عَلِمْتَ لو أَصْحَحْتني لعمِلْتُ كما عَمِلَ، فيقول الله: صَدَقَ فارفعُوه إِلى درجة صاحبه. ويؤتى بِحُرٍّ ومملوكٍ اصطحبا [في الله]
(4)
فيقولُ مثل ذلك. ويؤتى بحَسَنِ الخُلُقِ وسيئ الخُلُقِ، فيقول: يا ربِّ! لمَ رفعْتَه عليَّ، وإِنَّما اصطحبنا فيك وعملنا؟ فيقول: بحُسْنِ خُلُقِه، فَلا يجِدُ له جوابًا.
العاقِلُ يغبِطُ من أنفَقَ ماله
(5)
في سبيل الخيرات ونيل علوِّ الدَّرجات، والجاهلُ يغبِطُ مَن أَنْفَقَ مالَه في الشَّهوات وتوصَّل به إِلى اللَّذَّاتِ المحرَّمات. قال الله تعالى
(1)
أخرجه الترمذي رقم (2326) في الزهد: باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه ابن ماجه رقم (4228) في الزهد: باب النيَّة، وأحمد في"المسند" 4/ 230 و 231، واللفظ لهما.
(2)
في مسند أحمد وابن ماجه: "مثل هذا".
(3)
هو حُمَيْد بن مَخلَد بن قتيبة بن عبد الله الأزدي النَّسائي، صاحب كتاب "الترغيب والترهيب" وكتاب "الأموال" وغير ذلك، كان أحد الأئمة المجوِّدين، وثقه النسائي، مات سنة 251 هـ. (سير أعلام النبلاء 12/ 19، تهذيب الكمال 7/ 392).
(4)
زيادة من ب، ط.
(5)
في آ، ش، ع:"أمواله".
(1)
إِلى قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
(2)
. فلمَّا رأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم تأَسُّفَ أصحابه الفقراءِ وحُزنَهم على ما فاتَهم من إِنفاق إِخوانهم الأغنياءِ أموالَهم في سبيل الله تقرُّبًا إِليه وابتغاءً لمرضاتِهِ، طَيَّبَ قلوبَهم ودلَّهم على عملٍ يسيرٍ يُدرِكُون به عن سَبَقَهم ولا يلحَقُهم معه أحَدٌ بعدَهم، ويكونون به خيرًا مِمَّن هم معه إِلَّا مَن عمِلَ مثلَ عملِهم، وهو الذِّكر عَقيبَ
(3)
الصَّلوات المفروضات، وقد اختلفَتِ الرواياتُ في أنواعِه وعددِه. والأخذُ بكُلِّ ما ورد مِن ذلك حَسَنٌ ولَهُ فضلٌ عظيمٌ.
وفي حديث أبي هريرة هذا أنَّهم يسبِّحون ويحمَدُون ويكبِّرون خَلْفَ كُلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين. وقد فسَّره أبو صالحٍ راويه عنهُ بالجمع، وهو أن يقولَ: سبحان الله، والحمدُ لله، والله أكبر، ثلاثًا وثلاثين مرَّةً، فيكون جُمْلَةُ ذلك تسعًا وتسعين. وقد يستشكل على هذا حديثُ أنَّ رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمَّا يعدِلُ الجِهادَ، فقال:"هل تَسْتَطِيعُ إِذا خَرَجَ المجاهِدُ أنْ تصومَ فلا تُفْطِر، وتَقُومَ ولا تَفْتُرَ"
(4)
. وهو حديثٌ ثابت صحيح أيضًا. فلم يجعل للجهاد عَدْلًا سوى الصِّيام الدَّائم والقيام الدَّائم. وفي هذا الحديث قد جَعَلَ الذِّكْر عقِيبَ الصَّلوات عِدْلًا له. والجمع بين ذلك كُلِّه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل للجِّهاد في زمانه عملًا يعدِلُه، بحيث إِذا انقضى الجهاد انقضَى ذلك العمل، واستوى العاملُ مع المجاهد في الأجر، وإِنَّما جعل الذي يعدِلُ الجهادَ الذكرَ الكثيرَ المستدامَ في بقية عمر المؤمن من غير قطعٍ له حتى يأتي صاحبَه أجلُه، فإِذا استمَرَّ على هذا الذِّكر في أوقاته إِلى أن مات عليه عَدَلَ ذكرُه هذا الجهادَ.
(1)
سورة القصص الآية 79 و 80.
(2)
الآية 83 من سورة القصص.
(3)
في ب، ط:"عقب".
(4)
أخرجه البخاري 6/ 4 رقم (2785) في الجهاد: باب فضل الجهاد والسير، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ورواه النسائي 6/ 19 في الجهاد، والبيهقي في "سننه" 9/ 158، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 5/ 333. ورواه الإِمام أحمد في "المسند" 2/ 344.
وقد دَلَّ على ذلك أيضًا ما خرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ
(1)
والترمذيّ من حديث أبي الدَّرْدَاء، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبِّئُكُم بخيرِ أعمالِكُم، وأزكاها عندَ مليكِكُمْ، وأرفعِها في دَرَجَاتِكم، وخَيْرٍ لكُم من إِنفاق الذَّهب والوَرِق، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم فتضربُوا أعناقَهُم ويَضْرِبوا أعناقَكم؟ قالوا: بلى، يا رسولَ الله.
قال: ذِكْرُ اللهِ عز وجل". وخرَّجه مالك في "الموطأ"
(2)
موقوفًا.
وخرَّج الإِمام أحمد
(3)
والترمذي أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيُّ العِبادِ
(4)
أفضَلُ دَرَجَةً عند اللهِ يَوْمَ القِيامة؟ قال: الذَّاكِرُون اللهَ كَثيرًا. قلت: يا رسولَ الله! ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضَرَبَ بسَيْفِه الكُفَّار والمشركينَ حتَّى يَنْكَسِرَ ويَخْتَضِبَ دَمًا، لكان الذَّاكرون الله عز وجل أفضَلَ منه دَرَجَةً". وقد رُوِي هذا المعنى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وطائفةٍ من الصَّحابة موقوفًا. وإِن الذِّكْرَ لله أفضلُ من الصَّدقة بعدَّتِه دراهمَ ودنانيرَ، ومن النفقة في سبيل الله. وقيل لأبي الدَّرداء رضي الله عنه: رجلٌ أعتَقَ مائة نَسَمَةٍ. قال: إِنَّ مائة نَسَمةٍ من مال رجلٍ كثيرٌ، وأفضَلُ من ذلك إِيمانٌ ملزُومٌ بالليل والنهار، وأن لا يزالَ لسانُ أحدكم رَطْبًا من ذكر الله عز وجل. وعنه قال: لأنْ أقولَ "لا إِله إِلَّا الله والله أكبر" مائة مرة أحَبُّ إِليَّ من أن أتصدَّقَ بمائة دينارٍ.
ويُروى مرفوعًا وموقوفًا من غير وجهٍ. مَن فاتَهُ اللَّيلُ أن يكابدَه، وبخِلَ بماله
(5)
(1)
رواه أحمد في "المسند" 5/ 195 و 6/ 446، والترمذي رقم (2377) في الدعاء: باب قم (6)، وابن ماجه رقم (3790) في الأدب: باب فضل الذكر، والحاكم في "المستدرك" 1/ 496 وصححه ووافقه الذهبي. وفي "الترغيب" 2/ 395 قال المنذري:"رواه أحمد بإِسناد حسن، وابن أبي الدنيا، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح الإِسناد، ورواه أحمد أيضًا من حديث معاذ بإِسناد جيد، إِلا أن فيه انقطاعاً".
(2)
الموطأ 1/ 211 في القرآن: باب ما جاء في ذكر الله تبارك وتعالى.
(3)
أخرجه الترمذي رقم (3373) في الدعوات: باب رقم (5)، ورواه أحمد في "المسند" 3/ 75 من حديث دراج بن سمعان أبي السمح، عن أبي الهيثم سليمان بن عمرو العتواري، عن أبي سعيد الخدري. وحديث دراج عن أبي الهيثم ضعيف، ولذلك قال الترمذي: هذا حديث غريب، إِنَّما نعرفه من حديث دراج.
(4)
في ط: "العبادة"، وهي رواية ثانية، وفي هامش المطبوع عن نسخة "العمل".
(5)
في ب، ط:"بالمال".
أن ينفِقَه، وجَبُنَ عن عَدُوِّه أن يقاتلَه، فليكثر من "سبحانَ الله وبحمده"؛ فإِنَّها أحَبُّ إِلى الله من جَبَلِ ذهبٍ أو فضّةٍ يُنفقه في سبيل الله عز وجل. وذِكْرُ اللهِ من أفضل أنواع الصَّدَقة. وخرَّج الطبراني
(1)
عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: "ما صدَقَةٌ أفضَلُ من ذِكْرِ الله عز وجل".
وقد قال طائفة من السَّلف في قول الله عز وجل: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}
(2)
: إِنَّ القرضَ الحسَنَ قولُ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إِله إِلا الله، والله أكبر. وفي مراسِيلِ الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ما أنفَقَ عبدٌ نفقَةً أفضَلَ عندَ الله عز وجل من قولٍ ليس من القرآن وهو من القرآن: "سبحان الله، والحمد لله، ولا اله إِلَّا الله، والله أكبر"
(3)
.
وروى عبد الرزَّاق في كتابه
(4)
، عن مَعْمَر، عن قَتَادَةَ، قال: قال ناسٌ مِن فقراء المؤمنين: يا رسولَ الله! ذهَبَ أصحابُ الدُّثور بالأُجور؛ يتصدَّقون ولا نتصدَّق، ويُنْفِقون ولا نُنْفِق. فقال: أرأيتم لو أنَّ مالَ الدنيا وُضِعَ بعضُه على بعض أكان بالغًا السَّماءَ؟ قالوا: لا يا رسولَ الله! قال: أفلا أخبركم بشيءٍ أصْلُهُ في الأرض وفَرعُهُ في السَّماء؛ أن تقولوا في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ: لا إِله إِلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمدُ لله، عشرَ مرات؛ فإِنَّ أصْلَهُنَّ في الأرض وفرْعُهن في السَّماء.
وقد كان بعضُ الصَّحابة يظنُّ أن لا صدقَةَ إِلَّا بالمال، فأَخْبرَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الصَّدَقة لا تختصُّ بالمال، وأن الذِّكر وسائرَ أعمال المعروف صَدَقَةٌ، كما في صحيح مسلمٍ
(5)
عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه: "أنَّ ناسًا مِن أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: يا رسولَ اللهِ! ذَهَبَ أهلُ الدُّثور بالأُجُور، يُصَلُّون كما نصلِّي، ويَصُومُون كما نَصُوم،
(1)
أورده السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (3925) عن ابن عباس، وعزاه إِلى الطبراني في الأوسط، وذكره الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" رقم (5088). وانظر "كنز العمال" رقم (1804) و"الترغيب" 2/ 400 وقد وثق رواته.
(2)
سورة الحديد الآية 18.
(3)
وله شواهد في معناه، انظر الترغيب 4/ 422 - 430.
(4)
المصنف 2/ 233 برقم (3188)، وفي الكنز عنه، وعنوانه "مرسل قتادة" رقم (4994). والدُّثور: جمع دَثْر، وهو المال الكثير.
(5)
رقم (1006) في الزكاة: باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف.
ويتَصَدَّقُون بفُضُولِ أموالهم. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أَوَلَيْسَ قد جَعَلَ الله لكم
(1)
ما تتصدَّقُون به؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحةٍ صَدَقَةً، وكُلِّ تكبيرةٍ صَدَقَةً، [وكُلِّ تحميدَةٍ صدقةً]
(2)
، وكُلِّ تهليلَةٍ صَدَقَةً؛ وأَمْرٌ بالمعروفِ صدَقَةٌ، ونَهْيٌ عن مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ؛ وفي بُضْعِ أَحَدِكُم صَدَقَةٌ"
(3)
.
وفي "المسند"
(4)
عنه أنَّه قال: يا رسولَ الله! الأغنياء يتصدَّقون ولا نتصدَّقُ. قال: "وأنتَ فيك صدقة؛ رفعُكَ العَظْمَ عن الطَّريق صدقةٌ، وهِدايتُكَ الطريقَ صدقةٌ، وعونُك الضعيفَ بفضل قوَّتك صدقَةٌ، وبيانُكَ عن الأَرتَمِ
(5)
صدقة، ومُباضعَتُكَ امرأتَكَ صدقَةٌ".
وفي المعنى أحاديث كثيرة جدًّا يطول ذكرها.
واعلم أنَّ من عَجَزَ عن عَمَلِ خيرٍ، وتأسَّفَ عليه، وتمنَّى حُصُولَهُ، كان شريكًا لفاعله في الأجر، كما تقدَّم
(6)
في الذي قال: "لو كان لي مالٌ لعمِلْتُ فيه ما عمِلَ فلانٌ
…
" أنَّهما سواءٌ في الأجر والوِزْر. وقد قيل: إِنَّهما سواءٌ في أصل الأجر دون المضاعفة؛ فإِنَّها تختصُّ بالعامل، فمن هنا كان أربابُ الهِمَمِ العالية لا يَرضَوْنَ بمجرَّد هذه المشارَكَةِ، ويطلبون أن يعملوا أعمالًا تقاوم الأعمالَ التي عَجَزُوا عنها؛ ليفوزوا بثوابٍ يقاومُ ثوابَ تلك الأعمال، ويضاعَفُ لهم كما يضاعف لأولئك، فيستووا هم وأولئك العُمَّال في الأجر كُلِّه.
(1)
يبدأ من هنا سقط في المطبوع، وينتهي عند قوله:"وقال عقبة بن عبد الغافر" ص 442.
(2)
تكملة من صحيح مسلم.
(3)
وتمامه: "قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوتَه، ويكونُ له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ، أكان عليه وِزْرٌ؟ فكذلك إِذا وضعها في الحلال، كان له أجرٌ".
(4)
5/ 154.
(5)
وكذا في آ، ب والمسند بالتاء، وفي ب، ع:"الأرثم" بالثاء. قال ابن الأثير: في حديث أبي ذر: "في كل شيء صدقة، حتى في بيانك عن الأرتم"، كذا وقع في الرواية، فإِن كان محفوظًا فلعله من قولهم: رتمت الشيء إِذا كسرته، ويكون معناه معنى الأَرَت، وهو الذي لا يفصح الكلام ولا يصححه ولا يبينه. وإِن كان بالثاء، فهو الذي لا يصحح كلامه ولا يبينه لآفةٍ في لسانه أو أسنانه، وأصله من رَثِيم الحصى، وهو ما دُقَّ منه بالأخفاف، أو من رَثَمْتُ أنفه، إِذا كسرته حتى أدميته، فكأن فمه قد كسر فلا يفصح في كلامه. (النهاية 2/ 194 و 196).
(6)
في آ: "كما تقدم في الحديث الذي
…
".
وقد كان بعضُ من يقعُدُ عن الجهاد من امرأةٍ وضعيفٍ في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألُه عن عَمَلٍ يَعدِلُ الجِهادَ.
وفاتَ بعضَ النساءِ الحجُّ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا قدِمَ سألَتْهُ عمَّا يجزئُ من تلك الحجَّةِ، قال:"اعْتَمِري في رَمَضَانَ؛ فإِنَّ عُمْرَةً في رَمَضان تعدِلُ حجَّةً، أو حجَّةً معي"
(1)
.
وقالت عائشة: "يا رسولَ الله! نَرَى الجهادَ أفضَلَ العَمَلِ، أفلا نجاهِدُ؟ قال: جهادُكُنَّ الحَجُّ والعُمْرَةُ"
(2)
.
وكان منهم من إِذا تخلَّف عن الغزو، واجتهَدَ في مشاركة الغُزاةِ في أجرهم؛ فإِمَّا أن يُخرِجَ مكانه رَجُلًا بمالِهِ؛ وإِمَّا أن يُعينَ غازيًا؛ وإِمَّا أن يَخْلُفَه في أهلِهِ بخيرٍ. فإِنَّ. مَن فَعَلَ هذا كُلَّه فقد غَزَا.
تصدَّق بعضُ الأغنياء بمالٍ كثيرٍ، فبلَغَ ذلك طائفةً من الصَّالحين، فاجتمعوا في مكانٍ، وحسِبوا ما تصدَّق
(3)
بهِ من الدَّراهم، وصلّوا بَدَلَ كُلِّ درهمٍ تصدَّقَ به لله ركْعَةً. هكذا يكونُ اسْتِباقُ الخيرات والتنافسُ في عُلُوِّ الدرجات.
كَذَاكَ الفَخْرُ يا هِمَمَ الرِّجالِ
…
تَعَالَيْ فاَنْظُري كيفَ التَّغالي
سبحان مَن فَضَّلَ هذه الأمَّة وفَتَحَ لها على يَدَيْ نبيِّها، نبيِّ الرَّحمة، أبوابَ الفضائل الجمَّة؛ فما مِن عَمَلٍ عظيمٍ يقومُ به قومٌ ويعجِزُ عنه آخرون، إِلَّا وقد جَعَلَ اللهُ عَمَلًا يُقاوِمُه، أو يفضُلُ عليه، فتتساوى الأُمَّةُ كُلُّها في القُدرة عليه.
لمَّا كان الجهادُ أفضَلَ الأعمالِ ولا قُدرَةَ لكثيرٍ من النَّاسِ عليه، كان الذِّكْرُ الكثيرُ الدَّائمُ يُساويه ويفضُلُ عليه، وكان العملُ في عَشْر ذي الحجَّةِ يفضُلُ عليه، إِلَّا مَن خَرَجَ بنفسِهِ ومالِهِ ولم يرجِعْ منهما بشيء.
(1)
أخرجه الشيخان وغيرهما، وانظر رواياته وتخريجها في "جامع الأصول" 9/ 463 - 466.
(2)
أخرجه البخاري 6/ 75 و 76 في الجهاد: باب جهاد النساء، وليس فيه:"والعمرة"، وفي مسند أحمد 6/ 75 عن عائشة:"الحج والعمرة هو جهاد النساء". وبنحوه ابن ماجه رقم (2901) في المناسك: باب الحج جهاد النساء.
(3)
في ش: "ما تصدقوا".
لمَّا كان الحجُّ من أفضَلِ الأعمال، والنُّفوسُ تتوقُ إِليه؛ لِما وَضَعَ اللهُ في القلوب من الحنين إِلى ذلك البيت المُعَظَّم
(1)
، وكان كثير من النَّاسِ يعجِزُ عنه، ولا سيما كُلَّ عامٍ، شَرَعَ الله لعبادِهِ أعمالًا يبلُغُ
(2)
أجرُها أَجْرَ الحجِّ، فيتعوَّضُ بذلك العاجزون عن التطوُّع بالحجِّ.
ففي الترمذيِّ
(3)
، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: "مَن صلَّى الصُّبْحَ في جماعةٍ
(4)
، ثمَّ جَلَسَ في مُصَلَّاه يذكُرُ اللهَ حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ، ثم صلَّى ركعتين، كان له مثلُ أَجْرِ حجةٍ وعُمرةٍ تامَّةٍ. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: تَامَّةٍ، تامَّةٍ، تامَّةٍ".
شُهُودُ الجُمُعة يَعْدِلُ حجَّةَ تطوُّعٍ؛ قال سعيد بن المسيِّب: هو أحبُّ إِليَّ من حجَّةٍ نافلةٍ؛ وقد جَعَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المبكِّرَ
(5)
إِليها كالمُهْدِي هديًا إِلى بيت الله الحرام. وفي حديث ضعيفٍ: "الجمعة حجُّ المساكين".
وفي تاريخ ابن عساكر: عن الأوزاعي، قال: مَرَّ يونس بنُ مَيْسَرَة بنِ حَلْبَسَ بمقابِرِ "باب توما"، فقال: السَّلام عليكم يا أهلَ القبور، أنتم لنا سَلَفٌ، ونحن لكم تبَعٌ، فرحمنا الله وإِياكم، وغَفَرَ لنا ولكم، فكأنْ قد صِرْنا إِلى ما صِرْتم إِليه. فردَّ اللهُ الرُّوح إِلى رجُلٍ منهم، فأجابَه، فقال: طوبى لكم يا أهلَ الدنيا حين تحجُّون في الشهر أربع مِرارٍ
(6)
. قال: وإِلى أين يرحَمُكَ .. اللهُ؟ قال: إِلى الجمعة، أَمَا تعلمون أنَّها حجَّةٌ مبرورةٌ متقبَّلةٌ. قال: ما خير ما قدَّمتم؟ قال: الاستغفار يا أهلَ الدنيا. قال: فما يمنعك أن ترُدَّ السَّلامَ؟ قال: يا أهلَ الدنيا، السَّلام والحَسَنَاتُ قد رُفِعَتْ عنَّا، فلا في حَسَنةٍ نزيدُ، ولا في سيئةٍ ننقص؛ غَلِقَتْ
(7)
رُهُونُنا، يا أهلَ الدنيا.
(1)
في آ: "العظيم".
(2)
في آ: "لا يبلغ".
(3)
رقم (586) في الصلاة: باب ذكر ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وقال الترمذي: حسن غريب. والحديث حسن بشواهده إِن شاء الله. وفي الباب أحاديث عديدة ذكرها المنذري في "الترغيب" 1/ 294 - 302.
(4)
قوله: "في جماعة" لم يرد في ب، ش، ع، وفي الترمذي:"من صلى الغداة في جماعة" وفي هامشه عن نسخة "الفجر".
(5)
في آ: "التبكير".
(6)
في ب، ع:"مرات".
(7)
الغَلَقُ في الرهن: ضد الفك. وغلِق الرهنُ في يد المرتهن، إِذا لم يقدر على افتكاكه.
في سنن أبي داود
(1)
، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مَن تطَهَّر في بيتِهِ، ثم خَرَجَ إِلى المسجد لأداءِ صَلاةٍ مكتوبةٍ، فأجرُه مثلُ أجرِ الحاجِّ المحرِمِ. وَمَنْ خَرَجَ لصلاة الضحى، كان له مثلُ أجرِ المعتمِر".
وفي حديث أنس: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وصَّي رجلًا ببِرِّ أُمِّه، وقال له: أنت حاجُّ ومعتمِرٌ ومجاهِدٌ، يعني إِذا برَّها.
وقال بعضُ الصحابة: الخروج إِلى العيد يومَ الفِطر يعْدِلُ عُمْرَةً، ويومَ الأَضْحَى يعْدِلُ حجَّةً.
قال الحسن: مَشْيُكَ في حاجةِ أخيكَ المسلمِ خيرٌ لكَ من حجَّةٍ بعد حجَّةٍ.
وقال عقبة بن عبد الغافر
(2)
: صلاةُ العِشاء في جماعة تَعْدِلُ حجَّةً، وصلاةُ الغدَاة في جماعةٍ تَعْدِلُ عُمْرَةً. وقال أبو هريرة لرجلٍ: بُكُورُكَ إِلى المسجد أحَبُّ إِليَّ من غزوتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الإِمامُ أحمد.
أداءُ الواجبات كلِّها أفضَلُ من التنفُّلِ بالحجِّ والعُمْرَةِ وغيرِهما؛ فإِنَّه ما تقرَّبَ العِبادُ إِلى الله تعالى بأحَبَّ إِليه مِن أداءِ ما افترضَ عليهم. وكثيرٌ من الناس يَهُونُ عليه التنفُّلُ بالحَجِّ والصَّدَقة ولا يهُون عليه أداءُ الواجبات من الديون وَرَدِّ المظالم، وكذلك يثقُلُ على كثيرٍ من النُّفوس التنزُّه عن كَسْبِ الحرامِ والشبهاتِ، ويَسْهُلُ عليها إِنفاق ذلك في الحَجِّ والصَّدقة. قال بعضُ السَّلفِ: تَرْكُ دانِقٍ
(3)
مِمَّا يكرَهُهُ اللهُ أَحَبُّ إِليَّ من خمسمائة حجَّةٍ. كَفُّ الجوارِحِ عن المُحرَّمات أفضَلُ من التطوُّع بالحَجِّ وغيرِه، وهو أشَقُّ على النفوس. قال الفُضيل بن عياض: ما حَجٌّ ولا رِباطٌ ولا جهادٌ أشَدُّ مِن
(1)
رقم (558) في الصلاة: باب ما جاء في فضل المشي إِلى الصلاة، عن أبي أمامة رضي الله عنه، وإِسناده حسن. ولفظه فيه:"من خرج من بيته متطهِّرًا إِلى صلاة مكتوبةٍ، فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إِلى تسبيح الضُّحى، لا يُنصِبُه إِلا إِياه، فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إِثر صلاة، لا لغو بينهما، كتاب في علِّيين".
(2)
عقبة بن عبد الغافر الأزدي العَوْذي، أبو نَّهار البصري، ذكره ابن حبان في الثقات، قتل يوم الزاوية سنة 82 هـ، وقيل: قتل في الجماجم سنة 83 هـ. (تهذيب التهذيب 7/ 246).
(3)
الدَّانق: سُدس الدرهم، جمع دوانق ودوانيق.
حَبْس اللسان، ولو أصبحْت يهمُّكَ لسانُكَ أصبحْت في هَمٍّ شديدٍ. ليس الاعتبار بأعمال البِرِّ بالجوارح، إِنَّما الاعتبار بِبِرِّ
(1)
القلوب وتقواها، وتطهيرها عن الآثام. سَفَرُ الدنيا يقطعُ
(2)
بسير الأبدان، وسَفَرُ الآخرة يقطع
(2)
بسير القلوب.
قال رجلٌ لبعض العارفين: قد قطعْتُ إِليك مسافةً، قال: ليس هذا الأمر بقطْعِ المسافات، فارِقْ نفسَكَ بخُطْوَةٍ وقد وصَلْت إِلى مقصودِك. سيْرُ القلوب أبلَغُ من سَيْر الأبدان. كم من واصلٍ ببدنه إِلى البيت وقلبُهُ منقطِعٌ عن رَبِّ البيت، وكم مِن قاعدٍ على فراشِهِ في بيته وقلبُه متَّصِلٌ بالمحلِّ الأعلى.
جِسمى معي غيرَ أنَّ الرُّوحَ عِندَكُمُ
…
فالجِسْمُ في غُرْبَةٍ والرُّوحُ في وَطنِ
قال بعضُ العارفين: عجبًا لمن يقطَعُ المفاوِزَ والقِفار؛ ليصِلَ إِلى البيت فيشاهِدَ فيه آثارَ الأنبياء، كيف لا يقطَعُ هواهُ ليصِل إِلى قلبه فيَرَى فيه أثَرَ "ويسمعني قلبُ عَبْدِي المؤمن". أيُّها المؤمنُ، إِنَّ لله بين جنبيك بيتًا لو طَهَّرْته لأشرَقَ ذلك البيتُ بنورِ رَبِّه وانشرح وانْفَسَحَ. أنشد الشِّبْلِيُّ
(3)
:
إِنَّ بيتًا أَنْتَ ساكِنُهُ
…
غَيْرُ مُحْتاجٍ إِلى السُّرُجِ
ومريضًا
(4)
أنْتَ عائِدُهُ
…
قَدْ أَتَاهُ الله بالفَرَجِ
وَجْهُكَ المأمُولُ حُجَّتُنا
…
يومَ يأتي النَّاسُ
(5)
بالحُججِ
تطهيرُه
(6)
: تفريغُه مِن كُلِّ ما يكرَهُهُ اللهُ تعالى من أصنامِ النَّفس والهَوَى، ومتَى بقيَتْ فيه مِن ذلك بقيَّةٌ، فاللهُ أغنَى الأغنياء عن الشِّرْك، وهو لا يرْضَى بمزاحمة الأصنام. قال سهل بنُ عبد الله
(7)
: حرامٌ على قلبٍ أن يدخُلَهُ النُّورُ وفيه شيء مِمَّا يكرهُهُ اللهُ.
(1)
في ب، ط:"بلين القلوب".
(2)
في ب، ط:"ينقطع".
(3)
ديوان الشبلي ص 139 ضمن أبيات خمسة فيما نسب إِليه من شعر.
(4)
في الديوان: "وعليلًا".
(5)
في ع: "تأتي النفوس"، وفي ب:"يأتي الله"، وفي هامش:"الناس".
(6)
في ش، ع:"تطهير القلب".
(7)
سهل بن عبد الله بن يونس، أبو محمد التُّسْتُري، الصوفي الزاهد، شيخ العارفين، لقي في الحج ذا النون المصري، وصحبه. له كلمات نافعة، ومواعظ حسنة، وقدَم راسخ في الطريق، توفي سنة 283 هـ. (سير أعلام النبلاء
أردناكُمُ صِرْفًا فلمَّا مُزِجْتُمُ
…
بعُدْتُمْ بمقدارِ التِفاتِكُمُ عنَّا
وقُلْنا لَكُمْ لا تُسْكِنُوا القَلْبَ غَيْرَنا
…
فأَسْكَنْتُمُ الأَغْيَارَ ما أَنْتُمُ مِنَّا
إِخواني، إِنَّ. حُبِسْتُم العامَ عن الحَجِّ فاَرْجِعُوا إِلى جهادِ النُّفوس، فهو الجهاد الأكبر، أو أُحْصِرْتُم عن أداءِ النُّسُك فأرِيقُوا على تخلُّفكم من الدُّموع ما تيسَّر؛ فإِنَّ إِراقة الدِّماء لازمة
(1)
للمُحْصَر. ولا تحلِقُوا رؤوس أديانكم بالذنوب؛ فإِنَّ الذنوب حالِقَةُ الدِّين ليست حالِقَةَ الشعر. وقوموا لله باسْتِشْعار الرَّجاء والخوف مقامَ القيام بأرجاء الخَيفِ
(2)
والمَشْعَرِ. ومن كان قد بَعُدَ عن حَرَم الله، فلا يُبعِد نفسَه بالذنوب عن رحمة الله، فإِنَّ رحمةَ الله قريبٌ مِمَّن تاب إِليه واستغفر. ومن عَجَزَ عن حَجِّ البيت أو البيت
(3)
منه بعيد، فليقصد رَبَّ البيت؛ فإِنَّه ممن دَعَاهُ ورَجَاه أقرَبُ مِن حَبْل الوريد.
إِليكَ قَصْدِيَ رَبَّ البيتِ والحَجَرِ
…
فأنْتَ سُؤليَ مِن حَجِّي ومِن عُمَرِي
وفيكَ سَعْيي وتَطْوَافِي ومُزْدَلفي
…
والهَدْيُ جِسْمِي الذي يُغني عن الجُزُرِ
ومسجِدُ الخَيفِ خَوْفي مِن تباعُدِكُم
…
وَمَشْعَري ومُقامي دونَكم خَطَرِي
زادِي رَجَائي لكُم والشَّوقُ راحِلتي
…
والماءُ من عَبَراتِي والهَوَى سَفَري
* * *
(1)
في ش، ع:"لازم".
(2)
كنّى به عن الحج. والخيف: مسجد الخيف في منى. والمَشْعَر: هو المَشْعَرُ الحرام، وهو مُزْدَلفة.
(3)
في آ، ش:"لين البيت"، وفي ع:"لأن كان البيت".
وظيفة شهر ذي القَعْدَة
(1)
خرَّج الإِمام أحمد
(2)
بإِسناده عن رَجُلٍ من باهِلَةَ، قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لحاجةٍ مَرَّةً، فقال: مَن أنْتَ؟ قلْتُ: أما تعرِفُني؟ قال: ومن أنتَ؟ قلْت: أنا الباهِليُّ الذي أتيتُك عامَ أوَّل. فقال: أنَّك أتيتني وجسمُكَ ولونُّك وهيئتُك حَسَنةٌ، فما بَلَغَ بك ما أرى؟ قُلْتُ: واللهِ ما أفطرْتُ بعدَك إِلَّا ليلًا
(3)
. قال: مَنْ أمَرَكَ أن تعذِّبَ نفسَك؟ من أمَرَك أن تُعذِّبَ نفسك؟ ثلاث مراتٍ، صُمْ شهرَ الصَّبْرِ [رمضان]. قلْتُ: إِنِّي أجِدُ قُوَّةً، وإِنِّي أحِبُّ أن تزِيدَني. قال: صُمْ يومًا من الشهر. قلْتُ: إِنِّي أجِدُ قُوَّةً، وإِنِّي أحِبُّ أن تزيدَني. قال: فيومين من الشهر. قلت: إِنِّي أجِدُ قُوَّةً، وإِني أحِبُّ أن تزيدني. قال: فثلاثة أيامٍ من الشهر. قال: وألَحَّ عند الرابعة
(4)
فما كاد. فقلْتُ: إِنِّي أجِدُ قُوَّةً وإِني أحِبُّ أن تزيدَني. قال: فمِن الحُرُمِ وأفطِر. وخرَّجه أبو داود
(5)
والنسائي وابن ماجه بمعناه، وفي ألفاظهم زيادةٌ ونقصٌ.
وفي بعض الروايات "صُم الحُرُمَ وأفطِر".
(1)
هو شهر كانت العرب تَقْعد فيه وتحج في في الحجّة. وقيل: سمي بذلك لقُعُودهم في رحالهم عن الغزو والميرة وطلب الكلأ، والجمع ذوات القَعْدَة. (اللسان: قعد).
(2)
مسند أحمد 5/ 28، والزيادة منه.
(3)
في آ: "قليلًا".
(4)
في المسند: "الثالثة".
(5)
أخرجه أبو داود رقم (2428) في الصوم: باب في صوم أشهر الحرم، وابن ماجه رقم (1741) في الصيام: باب صيام أشهر الحرم. قال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" 3/ 306: أخرجه النسائي وابن ماجه، إِلا أن النسائي قال فيه:"عن مجيبة الباهلي عن عمه"، وقال ابن ماجه:"عن أبي مجيبة الباهلي عن أبيه، أو عن عمه". وذكره أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة، وقال فيه:"عن مجيبة - يعني الباهلية - قالت: حدثني أبي أو عمي"، وسمي أباها:"عبد الله بن الحارث"، وقال: سكن البصرة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا
…
وذكر هذا الحديث، إِلى أن قال المنذري: أشار بعض شيوخنا إِلى تضعيفه من أجل هذا الاختلاف، وهو متوجه.
في هذا الحديث دليلٌ على أنَّ من تكلَّف مِن العبادة ما يشقُّ عليه حتَّى تأذَّى بذلك جسَدُه؛ فإِنَّه غيرُ مأمورٍ بذلك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم له:"مَنْ أمرَكَ أن تعذِّب نفسَك؟ "، وأعادَها عليه ثلاث مرارٍ. وهذا كما قال لمن رآه يمشي في الحجّ وقد أجهَدَ نفسَه:"إِنَّ الله لغنِيٌّ عن "تعذيبِ هذا نفسَه، فَمُروه فلْيَرْكَب"
(1)
.
وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص حيثُ كان يصُومُ النَّهار، ويقومُ الليلَ، ويختم القرآن في كُلِّ ليلةٍ ولا ينام مع أهله، فأمَرَه أن يصومَ ويفطِرَ، ويقرأَ القرآن في كُلِّ سَبْعٍ. وقال له:
"إِنَّ لنفسك عليك حقًّا، وإِنَّ لأهلك عليك حقًّا، فآتِ كُلَّ ذي حَقٍّ حقَّه"
(2)
.
ولمَّا بلَغه عن بعض أصحابه أنه قال: أنا أصومُ ولا أُفطِر، وقال آخر منهم: أنا أقوم ولا أنام، وقال آخر منهم: لا أتزوَّج النِّساء. فخطَبَ، وقال:"ما بالُ رجالٍ يقولون كذا وكذا، لكنِّي أصومُ وأفطِرُ، وأقومُ وأنام، وآكلُ اللَّحْمَ، وأتزوَّج النساء؛ فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي"
(3)
. وسببُ هذا أنَّ الله تعالى خَلَقَ ابنَ آدم محتاجًا إِلى ما يقوم به بدنُه؛ من مأكلٍ ومَشْرَبٍ ومنكِحٍ وملبسٍ، وأباح له من ذلك كُلِّه ما هو طيِّبٌ حلالٌ، تقوَى
(4)
به النفسُ ويصحُّ به الجسَدُ، ويتعاونان على طاعة الله عز وجل، وحرَّم من ذلك ما هو ضارٌّ خبيثٌ يوجبُ للنفس طغيانَها وعَمَاهَا وقسوتَها وغفلَتها وأشَرَها وبَطَرَها، فمن أطاعَ نفسَه في تناول ما تشتهيه مِمَّا حرَّمه الله عليه، فقد تعدَّى وطَغَى وظلَم نَفْسَه، ومَن مَنَعها حقَّها من المباح حتى تضرَّرت بذلك، فقد ظلمها ومنعها حقَّها؛ فإِنْ كان ذلك سببًا لضعفها وعجزها عن أداء شي من فرائض الله عليه، ومن حقوق الله عز وجل أو حقوق عبادِه، كان بذلك عاصِيًا، وإِن كان ذلك سببًا للعجز
(1)
رواه البخاري رقم (6701) في الإِيمان والنذور: باب النذور فيما لا يملك وفي معصية، ومسلم رقم (1642) في النذور: باب من نذر أن يمشي إِلى الكعبة، وأبو داود رقم (3301)، والنسائي 7/ 30.
(2)
جزء من حديث طويل له روايات متعددة، أخرجه البخاري وغيره من أصحاب السنن.
(3)
أخرجه البخاري رقم (5063) في النكاح: باب الترغيب في النكاح؛ ومسلم رقم (1401) في النكاح أيضًا: باب استحباب النكاح؛ والنسائي 6/ 60 في النكاح: باب النهي عن التبتل. وانظر "جامع الأصول" 1/ 293.
(4)
في آ: "يقوِّي النفس".
عن نوافِلَ هي أفضَلُ مِمَّا فعَلَه، كان بذاك مفرِّطًا
(1)
مغبُونًا خاسِرًا.
وقد كان رجلٌ في زمن التابعين يصومُ ويواصِلُ حتى يعجِزَ عن القيام؛ فكان يُصلِّي الفرْضَ جالسًا، فأنكروا ذلك عليه، حتى قال عمرو بن مَيْمون
(2)
: لو أدرَكَ هذا أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم لرجموه. وكان ابن مسعودٍ يقِلُّ الصِّيامَ، ويقول: إِنَّه يُضعِفني عن قراءة القرآن، وقراءةُ القرآن أحَبُّ إِليّ.
وأَحْرَمَ رَجُلٌ مِن الكوفة، فقدِمَ مكَّة وقد أصابَه الجهدُ، فرآه عمر بن الخطاب وهو سيئ الهيئة، فأخذ عمرُ بيده وجَعَلَ يدور به الحَلَقَ، ويقول للناس: انظروا إِلى ما يصنَعُ هذا بنفسه وقد وسَّع الله عليه!. فمن تكلَّفَ مِن التطوُّع ما يتضرَّرُ به في جسمِه، كما فعل هذا الباهِليُّ، أو منع به حقًّا واجبًا عليه، كما فعل عبدُ الله بن عمرو بن العاص وغيرُه ممن عزم على ترك المباحات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإِنَّه يُنْهَى عن ذلك. ومن احتمَلَ بدنُه ذلك ولم يمنَعْهُ مِن حقٍّ واجبٍ عليه لم يُنْهَ عن ذلك إِلَّا أن يمنَعَه عمَّا هو أفضَلُ من ذلك من النوافل؛ فإِنَّه يرشَدُ إِلى عَمَلِ الأفضَلِ. وأحوالُ الناس تختلف فيما تحمل
(3)
أبدانُهم من العمل.
كان سفيان الثوري يَصُوم ثلاثة أيامٍ من الشهر فيُرى أثرُ ذلك عليه، وكان غيرُه في زمنه يصومُ الدَّهْرَ فلا يظهرُ عليه أثرُه. وكان كثير من المتقدِّمين يحمِلون على أنفسهم من الأعمال ما يُضِرُّ بأجسادِهم ويحتسبون أجرَ ذلك عند الله، وهؤلاء قومٌ أهلُ صِدْقٍ وجدٍّ واجتهادٍ فيُحَيّون
(4)
على ذلك، ولكن لا يُقْتدَى بهم، وإِنَّما يُقْتدَى بسنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإِنَّ خيرَ الهَدْي هَدْيُهُ، ومن أَطاعه فقد اهتدَى، ومن اقتدَى به وسَلَكَ وراءه وَصَلَ إِلى الله عز وجل.
(1)
مُفْرِط أو مفرِّط: هو بالتخفيف المسرف في العمل، وبالتشديد المقصِّر فيه. (اللسان: فرط).
(2)
عمرو بن مَيْمون الأودي المَذْحجِي الكوفيّ، أبو عبد الله، أدرك الجاهلية، وأسلم في الأيام النبوية، وقدم الشام مع معاذ بن جبل، ثم سكن الكوفة، مات نحو سنة 75 هـ. (سير أعلام النبلاء 4/ 158).
(3)
في آ: "تحتمل".
(4)
في آ، ش:"فيُحَبُّون"، وفي ط:"فيُحثون". وفي ع غير واضحة، وأثبت ما جاء في (ب) ولعله الصواب.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التعسير ويأمر بالتيسير، ودينُه الذي بُعِثَ به يُسْر. وكان يقولُ: خيرُ دينِكم أيسَرُه. ورأى رجُلًا يُكثِر الصَّلاة، فقال: إِنَّكم أمَّةٌ أريدَ بكم اليُسْر. ولم يكن أكثرُ تطوُّعِ النبي صلى الله عليه وسلم وخواصّ أصحابه بكثرة الصَّوم والصَّلاة، بل بِبِرِّ القلوب وطهارتِها وسلامتها وقوَّة تعلُّقها بالله، خشيةً له ومحبَّةً، وإِجلالًا وتعظيمًا، ورغبةً فيما عنده، وزُهدًا فيما يفنَى.
وفي "المسند"
(1)
عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إِنِّي أعلَمُكُم بالله وأتقاكُم له قلبًا".
قال ابنُ مسعود رضي الله عنه لأصحابه: أنتم أكثرُ صلاةً وصيامًا من أصحاب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيرًا منكم. قالوا: ولِمَ؟ قال: كانوا أزهَدَ منكم في الدُّنيا وأرغَبَ في الآخرة. وقال بكر المزنِيُّ
(2)
: ما سبَقَهم أبو بكرٍ بكثرة صيامٍ ولا صلاةٍ، ولكن بشيءٍ وَقَرَ في صَدْرِه. قال بعضُ العلماء المتقدِّمين: الذي وَقَرَ في صَدْرِه هو حُبُّ اللهِ والنصيحةُ لخلْقِه. وسئلت فاطمةُ بنتُ عبد الملك زوجَةُ عمر بن عبد العزيز بعدَ وفاته عن عمله، فقالت: والله، ما كان بأكثَرَ الناسِ صلاةً ولا بأكثرِهم صِيامًا، ولكن والله، ما رأيتُ أحدًا أخوَفَ لله من عُمَرَ، لقد كان يذكُر الله في فراشه فينتفِضُ انتفاضَ العصفور من شِدَّة الخوف، حتى نقولَ: ليُصْبِحَنَّ الناسُ ولا خليفَةَ لهم.
قال بعضُ السلف: ما بلغ مَنْ بلَغَ عندنا بكثرةِ صلاةٍ ولا صيامٍ، ولكن بسخاوَةِ النفوسِ، وسَلامةِ الصُّدور، والنُّصحِ لِلأمَّة. وزاد بعضُهم: واحتقار أنفسِهم. وذُكِرَ لبعضهم شِدَّةُ اجتهادِ بني اسرائيلَ في العبادة، فقال: إِنَّما يريد الله منكم صِدْقَ النِّيَّة فيما عنده. فمن كان بالله أعرَفَ، وله أخوَفَ، وفيما عندَه أرغَبَ؛ فهو أفضَلُ مِمَّن دونه في ذلك، وإِن كَثُرَ صومُه وصلاتُه. قال أبو الدَّرداء رضي الله عنه: يا حبَّذا نوم
(1)
مسند أحمد 6/ 61.
(2)
هو بكر بن عبد الله بن عمرو المزني، أبو عبد الله، البصري، أحد الأعلام، يذكر مع الحسن البصري وابن سيرين. كان ثقة ثبتًا، كثير الحديث، حجَّة، فقيهًا، مات سنة 106 هـ. (طبقات ابن سعد 7/ 209، سير أعلام النبلاء 4/ 532).
الأكياس
(1)
وفِطرُهم، كيفَ يسبِقُ سَهَرَ الجاهلين وصيامَهم. ولهذا المعنى كان فَضْلُ العلم النافع الدَّالِّ على معرفة الله وخشيته ومحبَّته ومحبَّةِ ما يُحبُّه وكراهة ما يكرهُهُ، لا سيما عند غلبة الجَهْلِ، والتعبُّد به، أفضَلَ من التطوُّع بأعمال الجوارح.
قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: أنتم في زمانٍ العمَلُ فيه أفضَلُ من العلم، وسيأتي زمانٌ العِلْمُ فيه أفضَلُ مِن العمل. وقال مطرِّف: فَضْلُ العِلْم أحَبُّ إِليَّ مِن فَضْلِ العِبادة؛ وخيرُ دينكم الوَرَعُ.
وخرَّجه الحاكم
(2)
وغيرُه مرفوعًا. ونصَّ كثير من الأئمة على أنَّ طلبَ العلم أفضَلُ مِن صلاة النَّافِلَة، وكذلك الاشتغالُ بتطهير القلوب أفضَلُ من الاستكثار مِن الصَّوْم والصَّلاة مع غِشّ القلوب ودَغَلِها
(3)
. ومَثَلُ مَن يستكثِرُ مِن الصَّوم والصَّلاة مَعَ دَغَلِ القَلْب وغِشِّه، كمثَلِ مَن بَذَرَ بَذْرًا في أرضٍ دَغِلةٍ
(4)
كثيرةِ الشَّوك، فلا يزكو ما ينبُتُ فيها مَن الزرع بل يمحَقُهُ دَغَلُ الأرض ويُفسِدُه، فإِذا نُطِّفَت الأرضُ من دَغَلِها زكا ما ينبُتُ فيها ونما.
قال يحيى بن معاذ: كم من مستغفرٍ ممقوتٍ وساكتٍ مرحومٍ؛ هذا استغفَرَ وقلبُه فاجرٌ، وهذا سَكَتَ
(5)
وقلبُه ذاكر. وقال غيرُه: ليس الشأن فيمن يقوم الليل، إِنَّما الشأنُ فيمن ينام على فراشِهِ ثم يصبح وقد سَبَقَ الركبَ. مَن سار على طريق الرسول صلى الله عليه وسلم -ومنهاجه وإِن اقتصد، فإِنَّ يسبِقُ مَن سَارَ على غير طريقه وإِن اجتهَدَ.
مَن لي بمثْلِ سَيْرِك المذلَّل
…
تمشِي رُويدًا وتجِي في الأوَّلِ
والمقصود أنَّ هذا الباهلِيَّ لمَّا رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أَنهَكَهُ الصَّومُ وغيَّر هيئتَه، وأضرَّ به في جسَدِه، أمَرَهُ أوَّلًا أن يقتصِرَ على صيام شهر الصَّبْر، وهو شهرُ رمضانَ؛ فإِنَّه الشهرُ الذي افترضَ الله صيامَهُ على المسلمين، واكتفَى منهم بصيامه من السَّنَة كُلِّها؛
(1)
الكَيْس: الخفَّة والتوقُّد، والجمع أكياس.
(2)
1/ 92، وله شواهد عدة، منها الحديث الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فضل العلم أحبُّ إِليَّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع". رواه الطبراني في الأوسط، والبزار، والحاكم، كما في "الترغيب" 1/ 93 و"مجمع الزوائد" 1/ 120، و"صحيح الجامع الصغير" للألباني رقم (4214).
(3)
دغل القلوب: خداعها.
(4)
أرض دَغِلة: أي ذات دَغَل، وهو الشجر الملتف.
(5)
في ع: "ساكت".
وصيامُه كفَّارةٌ لِمَا بينَ الرَّمضانين إِذا اجتنبتِ الكبائرُ. فطلبَ منه الباهِليُّ أن يزيدَه من الصِّيام ويأمرَه بالتطوُّع، وأخبَرَه أنَّه يجِدُ قوَّةً على الصِّيام، فقال له: صُم يوماً مِن الشهر، فاستزادَهُ، وقال: إِنِّي أجِدُ قوَّةً، فقال: صُم يومين مِن الشهر، فاستزاده، وقال: إِني أجِدُ قوَّةً، فقال: صُم ثلاثة أيَّامٍ من الشهر. قال: وألحَّ عند الثالثة فما كاد، يعني ما كاد يزيدُه على الثلاثة أيَّامٍ من الشهر.
وهكذا قال لعبد الله بن عمرو بن العاص أيضًا؛ ففي "صحيح مسلم"
(1)
عنه: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: صُم يوماً، يعني من الشهر، ولكَ أجْرُ ما بقي، قال: إِنِّي أطيقُ أكثرَ من ذلك، قال: صُم يومين ولك أجرُ ما بقي، قال: إِنِّي أطيقُ أكثَرَ من ذلك، قال: صُم ثلاثة أيام ولكَ أجرُ ما بقي. ففي هذا أنَّ صيام
(2)
ثلاثة أيام من الشهر يحصُل به أجرُ صيامِ الشهر كُلِّه، وكذلك صيامُ يومين منه. ووجْهُ ذلك أنَّ الصِّيامَ يُضاعَفُ ما لا يُضاعَفُ غيرُه من الأعمال، وقد سبَقَ ذكرُ ذلك عند الكلام على حديث (كُلٌّ عملِ ابن آدم له الحسنة بعَشْرِ أمثالها إِلى سبعمائة ضعفٍ. قال الله عز وجل: إِلاَّ الصِّيام فإِنَّه لي وأنا أجزي به"
(3)
.
فالصِّيام لا يعلم منْتَهَى مضاعَفَتِه إِلاَّ الله عز وجل. وكلَّما قوِيَ الإِخلاصُ فيه وإِخفاؤه وتنزيهه من المحرَّمات والمكروهات كثُرَتْ مضاعفَتُه، فلا يستنكر أن يصومَ الرجلُ يوماً من الشهر فيضاعَف له بثواب ثلاثين يومًا، فيكتب له صيام الشهر كلِّه. وكذلك إِذا صَامَ يومين من الشهر. وأمَّا إِذا صَامَ منه ثلاثة أيام فهو ظاهر؛ لأنَّ الحسنة بعشر أمثالها.
وخرَّج الترمذي
(4)
والنسائي عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1)
رقم (1159) في الصيام: باب النهي عن صوم الدهر. وللحديث روايات عدة أخرجها البخاري أيضًا، وأبو داود، والنسائي، والترمذي. وانظر "جامع الأصول" 1/ 297 - 302.
(2)
في آ، ع:"صيام يوم من الشهر".
(3)
رواه الشيخان وغيرهما من أصحاب السنن، وله روايات متعددة، انظرها في "جامع الأصول" 9/ 450 - 453.
(4)
أخرجه الترمذي رقم (761) في الصوم: باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، والنسائي 4/ 219 في الصوم: باب في صيام ثلاثة أيام من كل شهر. وقال الترمذي: وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة.
"مَن صام من كل شهر ثلاثة أيام كان كمن صام الدهرَ، فأنزل الله عز وجل تصديقَ ذلك:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}
(1)
، اليومُ بعشرة أيام".
وفي "الصحيحين"
(2)
عن عبد الله بن عمرو
(3)
رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "صُم مِن الشَّهْر ثلاثةَ أيَّام؛ فإِنَّ الحسنة بعشْرِ أمثالها، وذلك مثلُ صِيام الدَّهرِ". وفي رواية فيهما أيضًا: "إِنَّ بِحَسْبِك أن تَصُومَ من كُلِّ شهر ثلاثةَ أيامٍ؛ فإِنَّ لك بكُلِّ حسنةٍ عشْرَ أمثالها، فإِذن ذلك صيامُ الدَّهر كلِّه".
وفي "المسند"
(4)
عن قرَّة المزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"صيامُ ثلاثة أيامٍ من كُلِّ شهر صيامُ الدَّهرِ وإِفطاره". يعني صيامَه في مضاعفة الله، وإِفطاره في رخصة الله، كما كان أبو هريرة وأبو ذَرٍّ رضي الله عنهما يقولان ذلك، وكانا يصومان ثلاثة أيام من كُلِّ شهر، ويقولان في سائر أيام الشهر: نحن صيام، ويتأوَّلان أنَّهما صيامٌ في مضاعفَةِ الله، وهما مفطران في رُخْصَة الله. وقد وصَّى النبي صلى الله عليه وسلم جماعةً من أصحابه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ منهم أبو هريرة وأبو الدَّرداء وأبو ذَرٍّ وغيرهم.
وفي المسند أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في صيام ثلاثة أيامٍ من كُلِّ شهرٍ: "هو صَوْمٌ حَسَنٌ". وفيه
(5)
أيضًا عن أبي ذَرٍّ، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صومُ شهرِ الصَّبْرِ وثلاثةِ أيامٍ من كُلِّ شهرٍ صومُ الدَّهْر، ويُذهِبُ مَغَلَةَ الصَّدر. قلْتُ: وما مَغَلَةُ الصدر؟ قال رجسُ الشيطان. وفيه
(6)
أيضًا: عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"صيامُ شهرِ الصَّبْرِ وثلاثةِ أيامٍ من كُلِّ شهرٍ يُذْهِبْن كثيرًا من وَحَرِ الصَّدْر". وفي غير هذه
(1)
سورة الأنعام الآية 160.
(2)
جزء من حديث طويل أخرجه البخاري رقم (1976) في الصوم: باب صوم الدهر، وفي غيره من الأبواب. ورواه مسلم رقم (1159) في الصيام: باب النهي عن صوم الدهر. وأبو داود رقم (2425). والنسائي 4/ 209 - 215. والترمذي رقم (770).
(3)
في ط: "عمر".
(4)
مسند أحمد 4/ 19 و 5/ 34. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 196 وقال: "رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير، ورجال أحمد رجال الصحيح". وانظر "الترغيب" 2/ 121.
(5)
المسند 5/ 154.
(6)
مسند أحمد 5/ 363، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 196 وقال:"رواه أحمد والطبراني في الكبير، إِلا أنه قال: ثنا رجل من عكل، ورجال أحمد رجال الصحيح. ولم يرد فيها لفظ "كثيرًا".
الرواية: "وَغْرَ الصَّدْر"، وهما بمعنىً واحدٍ، يقال: وحَرَ صدْرُه وَوَغَر، إِذا كان فيه غلٌّ وغِشٌّ. وقيل: الوَحَر: الغِلُّ، والوَغَرُ: الغَيْظُ. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صيامَ ثلاثة أيامٍ من كُلِّ شهرٍ، وكذلك كان إِبراهيم عليه السلام. كما خرَّجه ابنُ ماجة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا، قال: صيامُ إِبراهيمَ ثلاثة أيام مِن كُلِّ شهرٍ، صام الدَّهْرَ وأفطَر الدَّهرَ.
وفي السنن
(1)
عن حفصة رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم العَشْرَ وعاشُوراءَ وثلاثَةَ أيَّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ؛ وفي إِسناده اختلافٌ.
وفي "صحيح مسلم"
(2)
عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كُلِّ شهرٍ. قيلَ لها: مِن أيِّهِ كان يصوم؟ قالت: كان لا يبالي من أيِّهِ صَامَ. ففي هذا الحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يبالي من أيِّ الشهر صَامَ الأيام الثلاثة. وقد رُوي في صفة صيام النبي صلى الله عليه وسلم للأيام الثلاثة من الشهر أنواع أُخَرُ:
أحدها: ما خرَّجه الترمذي
(3)
من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومُ من الشهر السبت والأحَدَ والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس. وقال: حديث حسنٌ. وذكر أنَّ بعضهم رواه موقوفًا، يعني من فعل
(4)
عائشة رضي الله عنها، غيرَ مرفوعٍ
(5)
.
الثاني: ما خرَّجه أبو داود
(6)
وغيرُه من حديث حفصَةَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم "كان يصوم
(1)
أخرجه النسائي 4/ 220 في الصوم: باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وفي سنده أبو إِسحاق الأشجعي الكوفي، وهو مجهول. ونص الحديث، عن حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، قالت: أربَعٌ لم يكن يَدَعُهُنَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الفجر.
(2)
أخرجه مسلم رقم (1160) في الصيام: باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس. ورواه ابن ماجة رقم (1709) في الصيام: باب ما جاء في صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
(3)
رقم (746) في الصوم: باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس. وقال الترمذي: هذا حديث حسن.
(4)
في ط: "من قول".
(5)
قال الترمذي: وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث عن سفيان، ولم يرفعه. وقال الحافظ في "الفتح": وهو أشبه.
(6)
أخرجه أبو داود رقم (2451) في الصوم: باب من قال: الاثنين والخميس، والنسائي 4/ 203 و 204 في الصوم: باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث حسن.
ثلاثة أيامٍ من كُلِّ شهرٍ؛ الاثنين والخميس، والاثنين من الجمعة الأخرى". فعلى هذه الرواية كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعلها من أوَّل الشهر ولا يوالي بينها. بل كان يتحرَّى بها يومَ الاثنين مرتين والخميس مرة.
الثالث: عكسُ الثاني؛ خرَّجه النسائي
(1)
من حديث حفصة أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يصومُ من كُلِّ شهر ثلاثة أيام؛ أوَّل اثنين من الشهر، ثم الخميس، ثم الخميس الذي يليه".
وفي رواية له
(2)
أيضًا: أول اثنين من الشهر، وخميسين. وخرَّج أبو داود
(3)
من حديث أم سَلَمَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم معنَى ذلك. وفي رواية في المسند
(4)
"الاثنين والجمعة والخميس"؛ وكأنها غيرُ محفوظةٍ، فإِن كانت محفوظةً فهي نوعٌ رابعٌ.
والنوع الخامس: ما خرَّجه أبو داود
(5)
والنسائي والترمذي من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَصومُ من غُرَّةِ كُلِّ شهر ثلاثةَ أيامٍ، وحَسَّنه الترمذي، وذَكَر أنَّ بعضَهم لم يرفعه، يعني أنَّه وقَفَه على ابن مسعود. وظاهر هذا أنَّه كان يوالي بين الأيَّام الثلاثة من أَوَّل كُلِّ شهرٍ.
والنوع السادس: أنَّه كان يصوم أيَّام البيض، فخرَّج النسائي
(6)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم "كان لا يدَعُ صِيامَ أيام البيض في حَضرٍ ولا سَفَرٍ". وخرَّج الترمذيُّ
(7)
والنسائي عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أمرَه بصيام أيام
(1)
4/ 220 - في الصوم: باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر.
(2)
النسائي 4/ 220 عن ابن عمر.
(3)
رقم (2437) في الصوم: باب في صوم العشر، من حديث هُنَيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ المنذري في "مختصر سنن أبي داود" 3/ 320:"واختلف على هنيدة ابن خالد في إِسناده، فروي عنه كما أوردناه، وروي عنه عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنه عن أمه، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم". وهو حديث حسن.
(4)
رواية الإِمام أحمد في "المسند" 5/ 271 و 6/ 288 و 423: "أول اثنين من الشهر وخميسين".
(5)
أخرجه أبو داود رقم (2450) في الصوم: باب في صوم الثلاث من كل شهر، والترمذي رقم (742) في الصوم: باب ما جاء في صوم يوم الجمعة، والنسائي 4/ 204 في الصوم: باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم. وإِسناده حسن.
(6)
4/ 198 في الصوم: باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم، وإِسناده حسن. وفيه:"كان لا يفطر أيام البيض".
(7)
أخرجه الترمذي رقم (761) في الصوم: باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، والنسائي 4/ 222 - 223 في الصوم: باب ذكر=
البيض؛ ثلاثَ عَشْرَةَ، وأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وخَمْسَ عَشْرَة. وفي السُّنن الأربعةِ
(1)
خلا الترمذي، عن قتادَةَ بن مِلْحان، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وخرَّج النسائي
(2)
من حديث جابر البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوَه أيضًا.
وقد رُوي عن الحسن أنَّه كان يصومُ خمسةَ أيامٍ من أوَّل الشهر، ويقول: ما يدريني لعلي لا أدرِكُ البيضَ. وفي كتاب "مناقب الحسن" لأبي حيان التوحيدي أنَّ رجلًا سأل الحَسَن: لأيِّ شيءٍ استُحِبَّ صِيامُ أيَّامِ البيض؟ فلم يَدْرِ ما يقولُ. فقال أعرابي عنده
(3)
: لأنَّ القمر ينكسِفُ في لياليهنَّ، فيَكون الناسُ عند حدوث الآيات
(4)
على عبادة. فقال الحسَن: خُذُوها من غير فقيهٍ. وفي حديث الباهلي
(5)
أنَّه قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: إِنِّي أجدُ قُوَّةً وإِني أُحِبُّ أن تزيدني، فقال له:"فمن الحُرُمِ وأفطِر". وفي رواية: "صُمْ الحُرُمَ وأفطِر". وفي روايةٍ، قال:"صُم الأشهرَ الحُرُمَ". فهذا دليلُ على فَضْلِ صيام الأشهر الحرم الأربعة التي ذكرها الله تعالى في كتابه بقوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم}
(6)
، وقد فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بَكْرة بأنَّها ثلاثةٌ متوالياتٌ؛ ذو القَعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ وشهر رجب. وقد ذكرناه في وظيفة شهر رجبٍ، وذكرنا عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ العمل الصالح والأجْرَ في هذه الحُرُمِ أعظَمُ. وذكرنا في وظائف المحرَّم قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضَلُ الصِّيام بعد رمضانَ
= الاختلاف على موسى بن طلحة في الخير في صيام ثلاثة أيام من الشهر، وإِسناده حسن. قال ابن الأثير: أيام البيض من كل شهر: ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر، وسميت بيضًا لأن لياليها بيضٌ؛ لطلوع القمر فيها من أولها إِلى آخرها، ولا بد من حذف مضاف، تقديره: أيام الليالي البيض.
(1)
أخرجه أبو داود رقم (2449) في الصوم: باب في صوم الثلاث من كل شهر، والنسائي 4/ 224 - 225 في الصوم: باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وابن ماجة رقم (1707) في الصيام: باب ما جاء في صيام ثلاثة أيام من كل شهر". ورواه أحمد في "مسنده" 25/ 27. وأخرجه المنذري في "الترغيب" 2/ 124 وجاء فيه: وقع في النسائي "عبد الملك بن قدامة". وصوابه "قتادة" كما جاء في أبي داود وابن ماجة، وجاء في النسائي وابن ماجة أيضًا: عبد الملك بن المنهال عن أبيه. وانظر "جامع الأصول" 6/ 325 - 326.
(2)
4/ 221 في الصوم: باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وهو حديث حسن.
(3)
لفظ "عنده" لم يرد في ش، ع.
(4)
في آ: "الآثار".
(5)
مضى تخريجه.
(6)
سورة التوبة الآية 36.
شهرُ الله الذي تدعونه المحرَّم". وسيأتي في وظائف ذي الحجة ذِكْرُ فَضْلِ صيام عشر ذي الحجة إِن شاء الله تعالى. وقد كان كثير من السَّلَف يصومُ الأشهر الحُرُمَ كلَّها؛ رُوي ذلك عن ابن عمر
(1)
والحسن البصريّ وأبي إِسحاق السَّبيعيّ.
وقال سفيان الثوري: الأشهر الحرُمُ أحَبُّ إِليَّ أن أصوم
(2)
منها. وروى خَلَّاد الصَّفَّار عن أبي مسلم، قال: صيام يومٍ مِن أشهُر الحجِّ - أو قال: أشهُر الحرم - يعدِلُ شهرًا، وصيامُ يومٍ من غير الأشهر الحُرُم يعدِلُ عشرًا. ورُوي عن النَّخعي نحوه، لكنه قال: من المحرَّم، فيحتمل أنَّه أراد جنسَ الأشهر المحرَّمة. ورُوي معناه مرفوعًا من حديث أنسٍ، وإِسنادُه ضعيفٌ جدًّا. ويُروى بإِسنادٍ مجهولٍ عن أنسٍ مرفوعًا:"مَن صام من شهر حرامٍ الخميسَ والجمعةَ والسبتَ، كتبَ الله له عبادةَ تسعمائة سنة".
وقال كعب: اختار الله الزمان؛ فأحبُّه إِليه الأشهرُ الحُرمُ. ويُروى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا ولا يصحُّ.
وعن قيس بن عُبَاد أنَّه قال: ليس في الأشهر الحرم شهر إِلَّا في اليوم العاشر منه خيرٌ، قال: ففي ذي
(3)
الحِجَّة في العاشر النَّحْرُ يوم الحجِّ الأكبر، وفي المحرَّم العاشر عاشوراءُ، وفي العاشر من رجب {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}
(4)
. قال الراوي: ونسيتُ ما قال في ذي القَعْدَة.
وقد تقدَّم في ذكر وظيفة رجبٍ أنَّه رُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنَّه ذكر من عجائب الدنيا بأرض عادٍ عمود من نحاسٍ، عليه شجرةً من نحاسٍ؛ فإِذا كان في الأشهر الحُرُم قَطَرَ منها الماءُ، فملؤوا منه حِياضَهم، وسقوا مواشِيَهم وزروعَهم، فإِذا ذهبَت الأشهرُ الحُرُمُ انقطع الماء. وذو القَعْدَة من الأشهر الحرم بغير خلاف، وهو أَوَّل الأشهر الحُرُم المتوالية. وهل هو أولُ الحُرُم مُطلقًا أم لا، فيه اختلاف
(5)
ذكرناه في وظيفة رجب. وهو أيضًا من أشهر الحجّ التي قال الله تعالى فيها: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ
(1)
في آ، ش:"عن عمر"، وانظر "المصنف" لعبد الرزاق 4/ 292.
(2)
في ب، ط:"يصام".
(3)
لفظ "ذي" لم يرد في آ، ب، ط.
(4)
سورة الرعد الآية 39. وعن مجاهد أن ذلك يكون في رمضان. انظر "تفسير القرطبي" 9/ 332.
(5)
في ب، ط:"خلاف".
مَعْلُومَاتٌ}
(1)
. وقيل: إِنَّ تحريم ذي القَعْدَة كان في الجاهلية لأجل السير إِلى الحج، وسُمِّي ذا القَعْدَة لقعودهم فيه عن القتال؛ وتحريم المحرَّم لرجوع النَّاس فيه من الحجّ إِلى بلادهم؛ وتحريم ذي الحِجَّة لوقوع حجِّهم فيه؛ وتحريم رجب كان للاعتمار فيه من البلاد القريبة.
ومن خصائص ذي القَعْدَة: أنَّ عُمَرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلَّها كانت في ذي القَعْدَة، سِوى عُمرتِهِ التي قرنها بحجّته، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم أحرمَ بها أيضًا في ذي القَعْدَة، وفعَلَها في ذي الحجّة مع حجَّته. وكانت عُمَرُه صلى الله عليه وسلم أربعًا: عُمْرَةُ الحُدَيْبِيَة ولم يُتِمَّها
(2)
، بل تحلَّل منها ورجَعَ. وعُمْرَةُ القَضَاءِ من قابل. وعُمْرَةُ الجِعِرَّانة
(3)
، عام الفتح، لمَّا قسم غنائم حُنين؛ وقيل: إِنها كانت في آخر شوال، والمشهور أنها كانت في ذي القَعْدَة، وعليه الجمهور. وعُمْرَتُه في حجَّة الوَدَاع، كما دلَّت عليه النصوص الصحيحة، وعليه جمهور العلماء أيضًا
(4)
.
وقد رُوي عن طائفة من السَّلف؛ منهم ابنُ عمر وعائشة وعطاء، تفضيلُ عُمْرة ذي القَعْدَة وشوَّال على عُمْرة رمضان؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اعتمَرَ في ذي القَعْدَة، وفي أشهر الحجِّ حيث يجبُ عليه الهَدْيُ إِذا حجَّ من عامِهِ؛ لأنَّ الهَدْيَ زيادَةُ نُسُكٍ، فيجتمع نُسُكُ العُمْرَةِ مع نُسُكِ الهَدْي.
ولذي القَعْدَة فضيلةٌ أُخْرَى، وهي أنَّه قد قيل: إِنَّه الثلاثون يومًا الذي واعَدَ اللهُ فيه موسى عليه السلام؛ قال ليثٌ عن مجاهدٍ في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} ، قال: ذو القَعْدَة {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}
(5)
قال: عَشْرُ ذي الحجة.
(1)
سورة البقرة الآية 197.
(2)
اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمرة الحُدَيْبية، ووادع المشركين لمضي خمس سنين وعشرة أشهر للهجرة النبوية. (ياقوت).
(3)
الجِعْرَانة أو الجِعِرَّانة، بالتخفيف والتشديد: ماء بين الطائف ومكة، وهي إِلى مكة أقرب. نزلها النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم غنائم هوازن مرجعه من عزاة حُنين، وأحرم منها صلى الله عليه وسلم، وله فيها مسجد. قال أبو العباس القاضي: أفضلُ العُمْرة لأهل مكة ومن جاورها من الجِعْرانة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر منها. (ياقوت).
(4)
لفظًا "أيضًا" لم يرد في آ، ش.
(5)
سورة الأعراف الآية 142.
يا مَن لا يُقلِعُ عن ارتكاب الحرام؛ لا في شهرِ حلالٍ ولا في شهرِ حرام. يا مَن هو في الطَّاعات
(1)
إِلى وراء، وفي المعاصي إِلى قدَّام. يا من هو في كُلِّ يومٍ من عُمُرِه شرٌّ
(2)
مِمَّا كان قبله من الأيام، متى تستفيقُ مِن هذا المنام؟! متى تتوبُ من هذه الأَجْرام؟! يا من أنذرَهُ الشيب بالموت وهو مقيم على الآثام، أَمَا كفاكَ واعظُ الشَّيْبِ مع واعظِ القرآن والإِسلام؟ الموتُ خيرٌ لكَ من الحياة على هذه الحال، والسَّلام.
يا غاديًا في غَفْلَةٍ ورائحا
…
إِلى مَتَى تستحسنُ القبائحا
وكم إِلى كم لا تخافُ مَوْقِفًا
…
يستنطِقُ اللهُ به الجوارحا
واعجبًا منكَ وأنْتَ مُبْصِرٌ
…
كيفَ تجنَّبْتَ الطَّريقَ الواضِحا
وكيفَ ترضَى أن تكونَ خاسِرًا
…
يومَ يفوزُ مَن يكونُ رابحا
* * *
(1)
قوله: "يا من هو في الطاعات إِلى وراء" تكرر في (ب) ثلاث مرات، وفي (ش) مرتين.
(2)
في ب، ع، ط:"شرّاً".
وظائف شهر ذي الحجَّة
ويشتمل على مجالس:
المجلس الأوَّل
في فضل عشر ذي الحجَّة
خرَّج البخاري
(1)
من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ما مِنْ أيَّام العملُ الصَّالحُ فيها أحَبُّ إِلى الله من هذه الأيام، يعني أيَّامَ العَشْرِ. قالوا: يا رسولَ الله! ولا الجِهادُ في سبيل الله؟ قال: ولا الجِهادُ في سبيل الله، إِلَّا رجل
(2)
خَرَجَ بنفسِه ومالِه، ثم لم يرجعْ من ذلك بشيء".
الكلامُ في فضل عَشْرِ ذي الحِجَّة في فصلين: في فَضْل العَمَل فيه، وعليه دَلَّ هذا الحديث، وفي فَضْله في نفسه.
الفصل الأول
في فضل العمل فيه
وقد دلَّ هذا الحديث على أنَّ العملَ في أيَّامه أحَبُّ إِلى الله من العمل في أيَّام الدنيا من غير استثناءِ شيءٍ منها، وإِذا كان أحَبَّ إِلى الله فهو أفضَلُ عندَه. وقد ورَدَ هذا الحديث بلفظ:"ما من أيامٍ العَمَلُ فيها أفضَلُ من أيام العَشْر". وروي بالشك في لفظة أحَبُّ أو أفضَلُ. وإِذا كان العَمَل في أيَّام العَشْر أفضَلَ وأحَبَّ إِلى الله من العمَل
(1)
أخرجه البخاري رقم (969) في العيدين: باب فضل العمل أيام التشريق. وأخرجه أبو داود رقم (2438) في الصوم، والترمذي رقم (757) في الصوم أيضًا، وابن ماجة رقم (1727) في الصيام: باب صيام العشر.
(2)
في ب، ش، ع، ط:"رجلًا"، والمثبت من (آ) ومصادر الحديث.
في غيره من أيَّام السَّنة كُلِّها، صار العملُ فيه، وإِن كان مفضولًا، أفضَلَ من العمل في غيره وإِن كان فاضِلًا؛ ولهذا قالوا: يا رسولَ الله! ولا الجِهادُ في سبيل الله؟ قال: ولا الجِهادُ، ثم استثنى جهادًا واحدًا هو أفضَلُ الجهادِ؛ فإِنَّه صلى الله عليه وسلم سئل أيُّ الجهاد أفضَلُ؟ قال: مَن عُقِرَ جَوادُه وأُهْرِيقَ دَمُهُ
(1)
، وصاحِبُهُ أفضَلُ الناس دَرَجةً عندَ الله.
سمِعَ النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يدعو، يقول: اللهم، أعطني أفضَلَ ما تعطي عبادَكَ الصالحين. فقال له: اذن يُعْقَرُ جوادُك وتستشهد. فهذا الجهاد بخصوصه يفضُلُ على العمل في العشر.
وأمَّا بقيةُ أنواع الجِهاد فإِنَّ العمل في عشر ذي الحِجَّة أفضَلُ وأحَبُّ إِلى الله عز وجل منها، وكذلك سائرُ الأعمال. وهذا يدلُّ على أنَّ العمَلَ المفضولَ في الوقت الفاضل يلتحقُ بالعمل الفاضِلِ في غيره، ويزيدُ عليه لمضاعفة ثوابه وأجرِه. وقد رُوِي في حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما هذا زيادة "والعَمَلُ فيهن يُضاعَفُ بسبعمائة" وفي إِسنادها ضعفٌ. وقد ورد في قدر المضاعفة روايات متعدِّدة مختلفة، فخرَّج الترمذي
(2)
وابنُ ماجة من رواية النَّهَّاس بن قَهْمٍ، عن قَتَادة، عن ابن المسيَّب، عن أبي هُريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ما مِنْ أيَّام أحَبُّ إِلى الله أن يُتَعَبَّدَ له فيها من عَشْرِ ذي الحِجَّة، يَعْدِل
(3)
صيامُ كُلِّ يومٍ منها بصيام سنةٍ، وقيامُ كلِّ ليْلَةٍ منها بقيام لَيْلَةِ القَدْرِ".
والنَّهَّاسُ بن قَهْم ضعفوه. وذكر الترمذي
(4)
عن البخاري أنَّ الحديث يُروى عن
(1)
جزء من حديث ذكره المؤلف بالمعنى، واخرجه أبو داود رقم (1449) في الصلاة: باب طول القيام، والنسائي 5/ 58 في الزكاة: باب جهد المقل، وإِسناده حسن.
(2)
أخرجه الترمذي رقم (758) في الصوم: باب ما جاء في العمل في أيام العشر، وفي سنده مسعود بن واصل، وهو لين الحديث، والنهَّاس ابن قَهْم، وهو ضعيف. وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وبهذا السند أيضًا أخرجه ابن ماجة رقم (1728) في الصيام: باب صيام العشر.
(3)
في ب، ش، ع، ط:"يعدل صيام كل يوم منها بسنة، وكل ليلة .. "، وأثبت ما جاء في (آ) والترمذي.
(4)
قال الترمذي: "سألت محمدًا عن هذا الحديث فلم يعرفه من غير هذا الوجه، مثل هذا. وقال: قد روي عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، شيء من هذا".
قتادَةَ عن سعيدٍ مرسلًا. ورَوى ثُوَيْر
(1)
بن أبي فاخِتَة - وفيه ضعف - عن مجاهد، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال:"ليس يومٌ أعظم عندَ الله من يوم الجمعة ليس العشر؛ فإِنَّ العمل فيها يعدِلُ عملَ سنةٍ. وروى أبو عمرو النيسابُوري في "كتاب الحكايات" بإِسناده، عن حُميد، قال: سمعت ابنَ سيرينَ وقتادَةَ يقولان: صومُ كُلِّ يومٍ من العَشْر يعدِلُ سنةً. وقد رُوي في المُضاعَفَة أكثرُ من ذلك؛ فرَوَى هارون بن موسى النَّحوي، قال: سمِعْتُ الحسن يحدِّث عن أنس بن مالك، قال: كان يقال في أيَّام العشر: بكُلِّ يومٍ ألفُ يومٍ، ويومُ عرفَةَ عشرةُ آلاف.
قال الحاكم: هذا من المسانيد التي لا يُذكَرُ سَندُها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي في المضاعفة أقلُّ من سنةٍ، قال حُميد بن زَنْجَويه، حدثنا يحيى بن عبد الله الحَرَّاني، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن راشد بن سعدٍ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صيامُ كُلِّ يومٍ من أيَّام العَشْر كصيامِ شَهْر". وهذا مرسَل ضعيفُ الإِسناد. وروى عبد الرزَّاق في كتابه عن جعفرٍ، عن هشامٍ، عن الحسن، قال: صيامُ يوم من العَشْر يعدِلُ شهرين. وقال عبد الكريم
(2)
عن مجاهدٍ: العَمَلُ في العَشْر يضاعَفُ
(3)
.
وفي المضاعَفَة أحاديثُ أُخَرُ مرفوعةٌ، لكنها موضوعة، فلذلك أعرضنا عنها وعمَّا أشبهها من الموضوعات في فضائل العشر، وهي كثيرة. وقد دَلَّ حديثُ ابن عبَّاسٍ على مضاعَفَة جميع الأعمال الصالحة في العَشْر من غير استثناءِ شيءٍ منها.
وقد رُوي في خصوص صيام أيَّامِه وقيام لياليه وكثرةِ الذِّكْر فيه، ما يذكر
(4)
مما يَحسُن ذكره دون ما لا يحسُنُ؛ لِعَدم صحَّتِه. وقد سبَقَ حديثُ أبي هريرة في ذلك، ومرسَلُ راشد بن سعدٍ، وما رُوي عن الحسن، وابن سيرين، وقتادة في صومه.
(1)
في ع: "ثور"، وهو ثُوَيْر بن فاخَتة، واسمه سعيد بن عِلاقة القرشي الهاشمي، أبو الجهم الكوفي، ضعيف، رمي بالرفض، وهو من الرابعة. (تهذيب الكمال 4/ 429).
(2)
هو عبد الكريم بن مالك الجزري، أبو سعيد، مولى بني أمية، وهو الخضري، نسبة إِلى قرية من اليمامة، ثقة، روى له الجماعة، مات سنة 127 هـ. (التقريب).
(3)
في آ: "مضاعف".
(4)
في شيء: "ما لا يحسن ذكره، لعدم صحته".
وفي المسند
(1)
والسُّنن عن حفصة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم "كان لا يَدَعُ صيامَ عاشوراءَ، والعَشْر، وثلاثةِ أيام من كُلِّ شهرٍ"؛ وفي إِسناده اختلاف. ورُوي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم "كان لا يدَعُ صِيام تسعِ ذي الحجَّة"
(2)
. وممن كان يصومُ العَشْرَ عبدُ الله بنُ عمر رضي الله عنهما. وقد تقدَّم عن الحسن وابن سيرين وقتادَةَ ذِكْرُ فَضْل صيامِه، وهو قولُ أكثر العلماء، أو كثيرٍ منهم.
وفي صحيح مسلم
(3)
عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"ما رأيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم صائمًا العَشْرَ قَطُّ". وفي رواية "في العَشْر قَطُّ". وقد اختلف جوابُ الإِمام أحمد عن هذا الحديث؛ فأجابَ مرَّةً بأنَّه قد رُوي خلافُه، وذَكَر حديثَ حَفْصَةَ، وأشار إِلى أنَّه اختُلِفَ في إِسناد حديث عائشة؛ فأسنَدَهُ الأعمشُ، ورواه منصورٌ عن إِبراهيم مرسلًا، وكذلك أجاب غيرُه من العلماء بأنَّه إِذا اختلَفَتْ عائشة وحفصَةُ في النفي والإِثبات أُخِذَ بقول المثبت؛ لأنَّ معه عِلْمًا خفِيَ على النَّافي. وأجاب أحمد مرَّةً أخرى بأنَّ عائشة أرادت أنَّه لم يَصُم العَشْرَ كاملًا، يعني وحَفْصَة أرادت أنَّه كان يصوم غالبَه؛ فينبغي أن يُصَامَ بعضُه ويُفْطَرَ بعضُه. وهذا الجمع يصحُّ في رواية مَن رَوَى "ما رأيتُه صائمًا العَشْرَ". وأمَّا من رَوَى:"ما رأيتُه صائمًا في العَشْر" فيبعدُ أو يتعذَّر هذا الجَمْعُ فيه. وكان ابن سيرينَ يكرَهُ أن يقالَ: صَامَ العَشْرَ؛ لأنه يُوهم دخُول يوم النَّحْر فيه، وإِنَّما يقال: صَامَ التِّسْعَ، ولكنَّ الصِّيام إِذا أضيفَ إِلى العَشْر فالمرادُ صيامُ ما يجوزُ صومُهُ منه. وقد سَبَقَ حديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومُ العَشْرَ. ولو نذر صيام العَشْر، فينبغي أن ينصرفَ إِلى التسع أيضًا، فلا يَلْزَمُ بفِطْر يومِ النَّحْر قضاءٌ ولا كفَّارةٌ؛ فإِنَّه غلبَ استعمالُه عُرفًا في التسع، ويحتمل أن يُخرَّجَ في لُزومِ القضاءِ والكفَّارة خلافٌ؛ فإِنَّ
(1)
رواه أحمد في "المسند" 6/ 287، والنسائي 4/ 220 في الصوم: باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وفي سنده أبو إِسحاق الأشجعي الكوفي، وهو مجهول.
(2)
تقدم حديث بهذا المعنى أخرجه أبو داود رقم (2437) في الصوم: باب في صوم العشر، عن هُنَيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسعَ ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر، والخميس".
(3)
رقم (1176) في الاعتكاف: باب صوم عشر ذي الحجة، وأبو داود رقم (2439) في الصوم، والترمذي رقم (756) في الصوم أيضًا.
أحمد قال فيمن نَذَرَ صَوْمَ شَوَّالٍ فأفطر يومَ الفِطْر وصَامَ باقيَهُ، أنَّه يلزمه قضاءُ يومٍ وكفَّارةٌ. وقال القاضي أبو يَعْلى
(1)
: هذا إِذا نوى صومَ جميعه، فأمَّا إِن أطلق لم يلزمْهُ شيءٌ، لأنَّ يومَ الفِطْر مستثنًى شرعًا. وهذه قاعدةٌ مِن قواعد الفقه، وهي أنَّ العمومَ هَلْ يُخَصُّ بالشرْعِ أم لا؛ ففي المسألة خلافٌ مشهور.
وأمَّا قيام ليالي العَشْر فمستحَبٌّ، وقد سَبَقَ الحديثُ في ذلك، وقد ورد في خصوص إِحياء ليلتي العيدين أحاديثُ لا تصِحُّ، وورَدَ إِجابةُ الدُّعاءِ فيهما، واستحبَّه الشافعِيُّ وغيرُه مِن العلماء. وكان سعيدُ بن جُبَير، وهو الذي رَوَى هذا الحديث عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما، إِذا دَخَلَ العَشْرُ اجتهَدَ اجتهادًا حتَّى ما يكاد يُقْدَرُ عليه. ورُوي عنه أنَّه قال: لا تطفئوا سُرُجَكم لياليَ العَشْرِ؛ تعجبُه العبادة. وأمَّا استحبابُ الإِكثار مِن الذكر فيها فقد دَلَّ عليه قول اللهِ عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}
(2)
، فإِنَّ الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جُمهور العلماء. وسيأتي ذكرُ ذلك فيما بعد إِن شاء الله تعالى.
وفي مسند الإِمام أحمد
(3)
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ما من أيامٍ أعظمُ عند الله ولا أحَبُّ إِليه العملُ فيهن من هذه الأيام العشر". فأكثِروا فيهن من التَّهليل والتكبير والتحميد. فإِن قيل: فإِذا كان العملُ في أيام العَشْرِ أفضَلَ من العمل في غيرها، وإِن كان ذلك العملُ أفضَلَ في نفسه مِمَّا عُمِلَ في العشر؛ لفضيلةِ العَشْر في نفسِه، فيصيرُ العملُ المفضولُ فيه فاضلًا حتى يفضُلَ على الجهاد الذي هو أفضلُ الأعمال، كما دَلَّت على ذلك النُّصوصُ الكثيرة، وهو قولُ الإِمام أحمد وغيرِه من العلماء، فينبغي أن يكون الحجُّ أفضَلَ من الجهاد؛ لأنَّ الحجَّ مخصوصٌ بالعَشْر، وهو من أفضل ما عُمِلَ في العشر، أو أفضل
(4)
ما عمل فيه.
فكيف كان الجهادُ أفضَلَ من الحج؟ فإِنه ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة
(1)
هو محمد بن الحسين بن محمد، ابن الفراء، أبو يعلى، عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون، من أهل بغداد، ولي قضاء دار الخلافة وغيرها، توفي سنة 458 هـ.
(2)
سورة الحج الآية 28.
(3)
مسند أحمد 2/ 75 و 131.
(4)
في آ: "وأفضل"، وفي ب:"وأفضل مما عمل فيه".
رضي الله عنه أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ الله! أيُّ الأعمال أفضَلُ؟ قال: إِيمان بالله ورسوله، قال: ثم ماذا؟ قال: جِهادٌ في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: حَجٌّ مبرورٌ
(1)
.
قيل: التطوُّع بالجهاد أفضَلُ من التطوُّع بالحَجِّ عندَ جمهور العلماء، وقد نَصَّ عليه الإِمام أحمد، وهو مروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص. ورُوي فيه أحاديث مرفوعة، في أسانيدها مقالٌ. وحديثُ أبي هريرة هذا صريحٌ في ذلك.
ويمكن الجمع بينه وبين حديث ابن عبَّاسٍ بوجهين:
أحدهما: أنَّ حديثَ ابن عبَّاسٍ قد صرَّحَ فيه بأنَّ جهادَ مَن لا يرجعُ من نفسِه ومالِه بشيءٍ يفضُلُ على العَمَلِ في العَشْر، فيمكن أن يقالَ: الحجُّ أفضَلُ من الجهاد، إِلَّا جهادَ مَن لم يرجع من نفسِه ومالِه بشيءٍ، ويكون هو
(2)
المراد من حديث أبي هريرة، ويجتمع حينئذٍ الحديثان.
والثاني: وهو الأظهر أنَّ العَمَلَ المفضُولَ قد يقترِنُ به ما يصيرُ أفضَلَ من الفاضِل في نفسِه، كما تقدَّم. وحينئذٍ فقد يقترِنُ بالحَجِّ ما يصيرُ به أفضَلَ من الجهاد، وقد يتجرَّدُ عن ذلك، فيكون الجهادُ حينئذٍ أفضَلَ منه، فإِن كان الحَجُّ مفروضًا فهو أفضَلُ من التطوُّع بالجهاد؛ فإِنَّ فروضَ الأعيان أفضَلُ مِن فُروض الكفاياتِ عند جمهور العلماءِ. وقد رُوي هذا في الحَجِّ والجهاد بخُصُوصهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وروي مرفوعًا من وجوهٍ متعدِّدَةٍ، في أسانيدِها لين. وقد دَلَّ على ذلك ما حكاهُ النبي صلى الله عليه وسلم عن رَبِّه عز وجل، أنَّه قال:"ما تقرَّب إِليَّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افْتَرَضْتُ عليه"
(3)
.
وإِن كان الحاج ليس من أهل الجهاد فحجُّه أفضَلُ من جهاده، كالمرأة.
(1)
أخرجه البخاري رقم (26) في الإِيمان: باب من قال: إِن الإِيمان هو العمل، وفي الحج: باب فضل الحج المبرور؛ ومسلم رقم (83) في الإِيمان: باب بيان كون الإِيمان بالله تعالى أفضل الأعمال. ورواه الترمذي رقم (1658) في فضائل الجهاد، والنسائي 5/ 113 في الحج.
(2)
في ش، ع:"هذا المراد".
(3)
بعض حديث طويل أخرجه البخاري 11/ 340 - 347 في الرّقاق: باب التواضع، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي "صحيح البخاري"
(1)
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "يا رسولَ الله، نَرَى الجهادَ أفضَلَ العَمَلِ، أفلا نجاهِدُ؟ قال: أفضَل الجهاد حَجٌّ مَبْرورٌ. وفي رواية له: "جهادُكُنَّ الحجُّ".
وفي رواية له أيضًا: "نِعم الجهادُ الحَجُّ". وكذلك إِذا استغرق العَشْرُ كلُّه عملَ الحَجِّ وأتى به على أكمل وجوه البِرِّ من أداءِ الواجبات واجتناب المحرَّمات، وانضَمَّ إِلى ذلك الإِحسانُ إِلى الناس ببذْلِ السَّلام وإِطعام الطعام، وضَمَّ إِليه كثرةَ ذكر الله عز وجل، والعجَّ والثَّجَّ، وهو رَفْعُ الصَّوْت بالتلبية وسَوْقُ الهَدْي؛ فإِنَّ هذا الحجَّ على هذا الوَجْه قد يفضُلُ على الجهادِ. وإِن وَقَعَ عملُ الحَجِّ في جزءٍ يسيرٍ من العَشْر ولم يؤتَ به على الوجْهِ المبرور، فالجهادُ أفضَلُ منه. وقد رُوي عن عُمَرَ وابن عمر وأبي موسى الأشعري ومجاهدٍ ما يدلُّ على تفضِيل الحَجِّ على الجهاد وسائر الأعمال. وينبغي حملُه على الحَجِّ المبرور الذي كَمُلَ بِرُّه واستوعَبَ فِعْلُه أيَّام العَشْر، والله أعلم
(2)
.
فإِن قيل: قولُه صلى الله عليه وسلم: "ما مِن أيامٍ العَمَلُ الصَّالحُ فيها أحَبُّ إِلى الله من هذه الأيام"، هل يقتضي تفضيل كُلِّ عملٍ صالح وَقَعَ في شيءٍ من أيام العَشْر على جميع ما يقعُ في غيرها، وإِن طالت مدته أم لا؟ قيل: الظاهر - والله أعلم - أنَّ المرادَ أنَّ العَمَلَ في هذه الأيام العَشْر أفضَلُ من العمل في أيامٍ عشرٍ غيرِها، فكُلُّ عَمَلٍ صالحٍ يقعُ في هذا العشر فهو أفضَلُ من عملٍ في عشرة أيامٍ سِواها، مِن أيِّ شَهْرٍ كان، فيكون تفضيلًا للعمل في كُلِّ يومٍ منه على العَمَلِ في كُلِّ يومٍ من أيَّامِ السَّنة غيره.
وقد قيل: إِنَّما يفضُلُ
(3)
العَمَلُ فيها على الجهاد إِذا كان العَمَلُ فيها مستغرقًا لأيام العَشْر، فيفضُلُ على جهادٍ في عدد تلك الأيَّامِ مِن غير العَشْر. وإِن كان العَمَلُ
(1)
رقم (1520) في الحج: باب فضل الحج المبرور، وباب حج النساء، وفي الجهاد: باب فضل الجهاد، وباب جهاد النساء. وأخرجه النسائي 5/ 114 و 115 في الحج: باب ما جاء في فضل الحج وثوابه.
(2)
رواه ابن عباس، وقد أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي، ومضى تخريجه في أول هذا الباب.
(3)
في ب: "يُفَضَّل".
مستغرقًا لبعض أيَّام العشر، فهو أفضَلُ من جهادٍ في نظير ذلك الزمان من غير العَشْر.
واستُدِلَّ على ذلك بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ العَمَلَ الدَّائمَ الذي لا يفتُرُ من صيامٍ وصلاةٍ معادلًا للجهاد في أيِّ وقتٍ كان، فإِذا وقَعَ ذلك العَمَلُ الدَّائم في العشر، كان أفضَلَ مِن الجهاد في
(1)
مثل أيامه، لفضل العَشْرِ وشَرَفِه؛ ففى "الصحيحين"
(2)
عن أبي هريرة، قال: جاء رجلٌ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دُلَّني على عملٍ يَعْدِلُ الجهادَ. قال: لا أجِدُه. قال: هل تستطيعُ إِذا خَرَجَ المجاهِدُ أن تَدْخُلَ مسجدَك، فتقومَ ولا تَفْتُرَ، وتَصومَ ولا تُفطِرَ؟ قال: وَمَنَ يستطيعُ ذلك؟ ". ولفظه للبخاري، ولمسلمٍ معناه، وزاد: ثم قال: "مثلُ المجاهد في سبيل الله كمثل الصَّائم القائم القانت بآيات الله، الذي لا يَفْتُر من صلاةٍ ولا صيامٍ، حتَّى يرجعَ المجاهدُ في سبيل الله". وللبخاري:"مثلُ المجاهد في سبيل الله، - والله أعلم بمن يجاهدُ في سبيله - كمثل الصائم القائم". وللنسائي: "كمثل الصائم القائم الخاشِع الراكع السَّاجد". ويدُلُّ على أنَّ المراد تفضيلُهُ على جهادٍ في مثل أيَّامِه خاصَّةً ما في
(3)
صحيح ابن حِبَّان
(4)
، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ما مِن أيامٍ أفضلُ عند اللهِ من أيام عَشْر ذي الحجة. فقال رجلٌ: يا رسولَ الله، هو أفضَلُ أم عِدَّتُهن جهادًا في سبيل الله؟ قال: هو أفضَلُ من عدتهِنَّ جهادًا في سبيل الله. فلم يُفَضّل العمل في العَشْر إِلَّا على الجهاد في عدَّة أيام العَشْر لا مطلقًا.
وأمَّا ما تقدَّم من أنَّ كُلَّ يومٍ منه يعدِلُ سنةً أو شهرين أو ألفَ يومٍ، فكُلُّها مِن أحاديثِ الفضائل، ليست بقويَّةٍ.
ثم إِنَّ أكثر ما ورد ذلك في صيامها، والصيامُ له خُصُوصيَّة في المضاعَفَة، فإِنَّه لله، واللهُ يجزي به. فإِن قيل: إِنه لا يختص بالصَّوم، بل يعمُّ سائرَ الأعمال،
(1)
في آ، ش:"في سبيل الله".
(2)
أخرجه البخاري رقم (2785) في الجهاد: باب فضل الجهاد والسير، ومسلم رقم (1878) في الإِمارة: باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، والنسائي 6/ 19 في الجهاد: باب ما يعدل الجهاد في سبيل الله عز وجل. وانظر الحديث ورواياته في "جامع الأصول" 9/ 480 - 482.
(3)
في ش: "ما ورد في صحيح".
(4)
صحيح ابن حبان 2/ 562 (1006) موارد.
فإِنَّما يدُلُّ على تفضيل كُلِّ عَمَلٍ في العَشْر على مثل ذلك العمل في غيره سنةً، فلا يدخُل فيه إِلَّا تفضيل مَنْ جاهد في العَشْر على من جاهد في
(1)
غيره سنةً.
وإِذا قيل: يلزم من تفضيل العَمَل في هذا العشر على كُلِّ عَشْر غيرِهِ أن يكونَ صيامُ هذا العَشْر أفضَلَ مِن صَوْم عَشْر رمضانَ، وقيامُ لياليه أفضَلَ من قيام لياليه. قيل: أمَّا صيامُ رمضان فأفضَلُ مِنَ صيامِهِ بلا شَكٍّ؛ فإِنَّ صَوْمَ الفَرْض أفضَلُ من النَّفْل بلا تردُّدٍ، وحينئذٍ فيكونُ المرادُ أنَّ ما فُعِلَ في العشر من فرضٍ فهو أفضَلُ مِمَّا فُعِل في عشر غيره من فرضٍ، فقد تضاعف صلواته المكتوبة على صلوات عشر رمضانَ، وما فُعِل فيه من نفْلٍ فهو أفضلُ مِمَّا فُعِلَ في غيره من نفْلٍ. وقد اختلف عُمَرُ وعلي رضي الله عنهما في قضاءِ رمضانَ في عَشْر ذي الحِجَّة، فكان عمر يستحبه لفضل أيامه، فيكون قضاءُ رمضان
(2)
فيه أفضَلَ من غيره، وهذا يدُلُّ على مضاعَفَةِ الفرض فيه على النَّفْل. وكان عليٌّ ينهَى عنه. وعن أحمد في ذلك روايتان. وقد عُلِّلَ قولُ عليٍّ بأنَّ القضاءَ فيه يفوتُ به فَضْلُ صيامِه تطوُّعًا، وبهذا علَّله الإِمامُ أحمدُ وغيرُه.
وقد قيل: إِنه يحصُل به فضيلةُ صيام التطوُّع أيضًا، وهذا على قول من يقولُ: إِنْ نَذَرَ صيامَ شهرٍ، فصَامَ رمضانَ، أجزأَهُ
(3)
عن نذره فيه، وفرضُه متوجِّهٌ، وقد عُلِّلَ بغير ذلك.
وأمَّا قيامُ لياليه وتفضيلُ قيامِه على قيام عشر رمضان، فيأتي الكلام فيه إِن شاء الله تعالى.
* * *
(1)
في آ: "في غير سُنَّةٍ"، وفي ط:"في غيرها سنة".
(2)
في آ: "في عشر ذي الحجة".
(3)
في ب، ش، ط:"عن نذره وفرضه متوجه"، وأثبت ما جاء في آ، ع.
الفصل الثاني
في فضل عشر ذي الحجّة على غيره من أعشار الشهور
قد سبق
(1)
حديث ابن عمر المرفوع: "ما من أيامٍ أعظَمُ عندَ الله ولا أحبُّ إِليه العَمَلُ فيهِنَّ من هذه الأيام العَشْر". وفي صحيح ابن حبان عن جابرٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ما من أيامٍ أفضلُ عند الله من أيام عشر ذي الحِجَّة"، وقد تقدَّم
(2)
. ورويناه من وجهٍ آخر بزيادةٍ، وهي "ولا لياليَ أفضَلُ من لياليهِنَّ"، قيل: يا رسولَ الله، هُنَّ أفضلُ من عدتِهِنَّ جِهادًا في سبيل الله؟ قال:"هنَّ أفضَلُ من عدتِهِنَّ جِهادًا في سبيل الله، إِلَّا من عُفِّرَ وجهُه تعفِيرًا. وما من يومٍ أفضَلُ مِن يوم عَرَفَةَ". خرَّجه الحافظ أبو موسى المديني من
(3)
جهة أبي نُعيم الحافظ بالإِسناد الذي خرَّجه به ابن حبان. وخرَّج البزار
(4)
وغيرُه من حديث جابر أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أفضَلُ أيام الدُّنيا أيامُ العَشْر". قالوا: يا رسولَ الله، ولا مِثلُهُنَّ في سبيل الله؟ قال:"ولا مِثْلُهُنَّ في سبيل الله، إِلَّا من عُفَّرَ وجهُه بالتراب". ورُوي مُرسلًا، وقيل: إِنه أصحُّ. وقد سَبَقَ ما رُوي عن ابن عمر، قال: ليس يومٌ أعظمُ عند الله من يوم الجُمُعةِ، ليس العَشْرَ. وهو يدُلُّ على أنَّ أيام العَشْر أفضَلُ من يوم الجُمُعة الذي هو أفضَلُ الأيام.
وقال سهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن كعبٍ، قال: اختار الله الزَّمان، فأحبُّ الزَّمان إِلى الله الشهر
(5)
الحرام، وأحبُّ الأشهر الحُرُم إِلى الله ذو الحِجَّة، وأحَبُّ ذي الحِجَّة إِلى الله العَشْرُ الأوَّل. ورواه بعضُهم عن سُهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، ورفعه؛ ولا يصِحُّ ذلك. وقال مسروق في قوله تعالى {وَلَيالٍ عَشْرٍ}
(6)
:
(1)
رواه أحمد في مسنده 2/ 75، 131، وقد سبق في ص 462.
(2)
تقدم تخريجه قبل قليل.
(3)
في ش، ع:"وخرجه أبو نعيم". أخرجه ابن حبان في "صحيحه" 6/ 62 و (1006) موارد، وفي الحلية 3/ 26 عن ابن عمر، و 6/ 116 و 8/ 259 عن عبد الله بن مسعود، بلظ مختلف.
(4)
3/ 253 وزوائده 2/ 28، وقال الهيثمي:"رواه أبو يعلى وفيه محمد بن مروان العقيلي، وثقه ابن معين وابن حبان وفيه بعض كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه البزار، إِلا أنَّه قال: أفضل أيام الدنيا أيام العشر". وقال الهيثمي في كتاب الأضاحي ص 12: إِسناد البزار حسن، ورجاله ثقات. وانظر "الترغيب" 2/ 199.
(5)
في ط: "الأشهر الحرم".
(6)
سورة الفجر الآية 2.
هي أفضَلُ أيَّام السنة. خرَّجه عبد الرزاق
(1)
وغيره. وأيضًا فأيَّام هذا العَشْر يشتمل على يوم عَرَفَة. وقد رُوي أنَّه أفضَلُ أيَّام الدنيا، كما جاء في حديث جابرٍ الذي ذكرناه، وفيه "يوم النَّحْر". وفي حديث عبد الله بن قُرْطٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:"أعظَمُ الأيَّام عندَ الله يومُ النَّحْر، ثم يوم القَرِّ"
(2)
. خرَّجه الإِمام أحمد
(3)
وأبو داود وغيرُهما. وهذا كُلُّه يدُلُّ على أنَّ عَشْرَ ذي الحِجَّة أفضَلُ من غيره مِن الأيام من غير استثناءٍ؛ هذا في أيامه.
فأمَّا لياليه فمن المتأخرين مَن زَعَمَ أنَّ ليالي عَشْر رمضان أفضلُ من لياليه؛ لاشتمالها على ليلة القدر، وهذا بعيدٌ جدًا
(4)
.
ولو صحَّ حديثُ أبي هريرة "قيام كُلِّ ليلةٍ منها بقيام ليلةِ القَدْر"
(5)
لكان صريحًا في تفضيل لياليه على ليالي عَشْر رمضانَ، فإِنَّ عَشْرَ رمضان فُضِّلَ بليلةٍ واحدةٍ فيه، وهذا جميعُ لياليهِ متساوِيةٌ لها في القيام على هذا الحديث. ولكن حديث جابر الذي خرَّجه أبو موسى
(6)
صريح في تفضيل لياليه كتفضيل أيَّامه أيضًا. والأيَّام إِذا أُطلِقَتْ دخلت فيها الليالي تبعًا، وكذلك الليالي تدخُلُ أيَّامُها تبعًا.
وقد أقسَمَ الله تعالى بلياليه، فقال:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} .
(7)
، وهذا يدلُّ على فضيلة
(8)
لياليه أيضًا، لكن لم يثبُتْ أنَّ لياليه ولا شيئًا منها يعدِل ليلةَ القَدْر.
وقد زعم طوائفُ من أصحابنا أنَّ ليلة الجمعة أفضَلُ من ليلة القدر، ولكن لا يصحُّ ذلك عن أحمد؛ فعلى قولِ هؤلاء لا يُسْتَبْعَدُ تفضيلُ ليالي هذا العَشْر على ليلة القَدْر.
(1)
المصنف 4/ 376 برقم (8120).
(2)
في ب، ط، ومسند أحمد:"النفر". والقَرُّ: هو الغد من يوم النحر، وهو حادي عشر ذي الحجة؛ لأن الناس يقرون فيه بمنى، أي يسكنون ويقيمون.
(3)
رواه أحمد في "مسنده" 4/ 350 والحاكم في "المستدرك" 4/ 221 وصححه، ووافقه الذهبي. وأورده الألباني في "صحيح الجامع الصغير" رقم (1064).
(4)
يبدأ هنا سقط كبير في المطبوع استدرك من النسخ الأخرى، ينتهي عند قوله:"فيؤخذ بحديث أم سلمة فيمن يريد أن يضحي في مصره"، ص 475 س 5.
(5)
هو برواية النهَّاس بن قَهْم، وقد سبق تخريجه في ص 459.
(6)
مضى تخريجه أيضًا.
(7)
سورة الفجر الآية 1 و 2.
(8)
في ب: "تفضيل".
والتحقيقُ ما قاله بعضُ أعيان المتأخِّرين من العلماء، أن يقال: مجموعُ هذا العَشْر أفضلُ من مجموع عَشْر رمضان، وإِن كان في عَشْر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرُها، والله أعلمُ.
وما تقدَّم عن كعبٍ يدُلُّ على أنَّ شهر ذي الحجة أفضلُ الأشهر الحُرُم الأربعة، وكذا قال سعيدُ بن جُبَير؛ راوي هذا الحديث عن ابن عبًاسٍ؛ "ما مِن الشهور شهرٌ أعظمُ حُرمةً مِن ذي الحجة".
وفي "مسند البزار"
(1)
عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"سيد الشهور رمضان، وأعظمها حرمةً ذو الحجة". وفي إِسناده ضعفٌ.
وفي "مسند"
(2)
الإِمام أحمد، عن أبي سعيد الخدري أيضًا: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال في حجّة الوَداع في خطبته يوم النَّحْر:"ألا إِنَّ أحرمَ الأيام يومُكُم هذا، ألا وإِنَّ أحرَمَ الشُّهورِ شهرُكُم هذا، ألا وإِنَّ أحرَمَ البلادِ بلدُكُم هذا".
وروي ذلك أيضًا عن جابرٍ، ووابصَةَ بن مَعْبَدٍ، ونُبَيط بن شَريطٍ، وغيرهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ شهر ذي الحِجَّة أفضَلُ الأشهر الحُرُمِ، حيثُ كان أشدَّها حُرمةً. وقد رُوِي عن الحسن أنَّ أفضلَها المحرَّمُ، وسنذكره عند ذكر شهر المحرّم، إِن شاء الله تعالى.
وأمَّا من قال: إِنَّ أفضلَها رجبٌ، فقولُهُ مردودٌ.
ولعشر ذي الحِجَّة فضائلُ أُخَرُ غير ما تقدَّم؛ فمن فضائله: أنَّ الله تعالى أقسَمَ به جملةً، وببعضِهِ خصوصًا. قال تعالى:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ}
(3)
؛ فأمَّا الفجر فقيل: إِنَّه أراد جنس الفجر. وقيل: المرادُ طُلوع الفجر، أو صلاة الفجر، أو النَّهار كلّه؛ فيه اختلاف بين المفسرين. وقيل: إِنه أُريدَ به فجر معيَّنٌ، ثم قيل: إِنَّه أُرِيدَ به
(1)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 140 وقال: "رواه البزار وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي". وفي ميزان الاعتدال 4/ 432: "ضعفه أحمد وغيره". وأورده الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" رقم (3320).
(2)
مسند أحمد 3/ 80.
(3)
سورة الفجر الآية 1 و 2.
فجرُ أوَّلِ يوم من عَشْر ذي الحِجّة. وقيل: بل أُرِيدَ به فجرُ آخرِ يومٍ منه، وهو يومُ النَّحْر. وعلى جميع هذه الأقوال، فالعَشْر يشتمل على الفجْر الذي أقسم الله به.
وأمَّا "الليالي العشر" فهي عشر ذي الحجة؛ هذا الصحيحُ الذي عليه جمهور المفسرين من السَّلف وغيرهم، وهو الصحيح عن ابن عبَّاسٍ؛ روي عنه من غير وجهٍ. والرواية عنه "أنَّه عَشْرُ رمضانَ" إِسنادُها ضعيف.
وفيه حديثٌ مرفوعٌ خرَّجه الإِمام أحمد
(1)
، والنّسائي في التفسير، من رواية زيد بن الحُباب، حدثنا عيَّاش بن عقبة، حدثنا خيرُ بن نُعيم، عن أبي الزُّبير، عن جابرٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"العَشْرُ عَشْرُ الأضحى، والوَتْر يومُ عَرَفة، والشَّفْعُ يومُ النَّحْر"، وهو إِسناد حسن.
وكذا فسَّر "الشَّفْعَ" و "الوَتْرَ" ابنُ عبَّاسٍ في رواية عِكرمة وغيره. وفسَّرهما أيضًا بذلك عِكرمة والضحاك وغيرُ واحدٍ. وقد قيل في "الشَّفع" و"الوَتر" أقوالٌ كثيرة، وأكثرها لا يخرج عن أن يكون العشرُ أو بعضُه مشتملًا على "الشفع" و "الوتر"، أو أحدهما؛ كقول من قال: "هي الصَّلاة، منها
(2)
شَفعٌ ومنها
(2)
وَترٌ"، وقد خرَّجه الإِمام أحمد
(3)
والترمذي من حديث عمران بن حُصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقول من قال: هي المخلوقات، منها شَفْع ومنها وَتْر، يدخل فيها أيام العشر. وقول من قال: الشَّفْع الخَلْقُ كُلُّه، والوترُ الله، فإِنَّ أيام العشر من جملة المخلوقات.
ومن فضائله أيضًا: أنَّه من جملة الأربعين التي واعدها الله عز وجل لموسى عليه السلام، قال الله تعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}
(4)
، لكن
(5)
هل عَشْرُ ذي الحِجّة خاتمة الأربعين، فيكون هو العَشْر
(1)
مسند أحمد 3/ 327، والفتح 8/ 702. وقد أورده الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" رقم (1508) عن جابر، في مسند أحمد.
(2)
في آ: "فيها".
(3)
رواه الإِمام أحمد في "مسنده" 4/ 437 و 438 و 442، والترمذي رقم (3342) في التفسير، باب: ومن سورة الفجر. قال الترمذي: هذا حديث غريب. وانظر الفتح 8/ 702.
(4)
سورة الأعراف الآية 142.
(5)
قوله: "لكن هو" لم يرد في آ.
الذي أُتِمَّ به الثلاثون
(1)
، أم هو أوَّل الأربعين، فيكون من جملة الثلاثين التي أُتِمَّتْ بعَشْرٍ؛ فيه اختلافٌ بين المفسرين.
روى عبد الرزَّاق
(2)
، عن مَعْمَر، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن مجاهدٍ، قال: "ما مِن عملٍ في أيَّام السَّنة أفضَلُ منه في العَشْر من ذي الحِجّة، وهي العَشْر التي أتمَّها الله لموسى
(3)
عليه السلام".
ومن فضائله: أنَّه خاتمةَ الأشهر المعلومات، أشهر الحجّ التي قال الله فيها:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
(4)
؛ وهي شوَّالٌ، وذوالقَعْدَة، وعشر من ذي الحِجَّة. وروي ذلك عن عمر، وابنه عبد الله، وعليّ، وابن مسعودٍ، وابن عبَّاس، وابن الزبير وغيرهم؛ وهو قولُ أكثر التابعين؛ ومذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأبي يوسُف وأبي ثور وغيرهم، لكن الشافعي وطائفة أخرجوا منه يومَ النَّحْر، وأدخلَهُ فيه الأكثرون؛ لأنَّه يومُ الحجِّ الأكبر، وفيه يقع أكثر أفعال مناسِك الحج. وقالت طائفة: ذو الحجة كلُّه من أشهر الحج، وهو قولُ مالك، والشافعي في القديم؛ ورواه عن ابن عمر أيضًا؛ وروي عن طائفة من السَّلف. وفيه حديث مرفوع خرَّجه الطبراني، لكنه لا يصح. والكلامُ في هذه المسألة يطولُ، وليس هذا موضعه.
ومن فضائله: أنَّه
(5)
الأيَّام المعلومات التي شَرَعَ اللهُ ذكرَه فيها على ما رَزَقَ من بهيمة الأنعام، قال الله تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}
(6)
.
وجمهور العلماء على أنَّ هذه الأيام المعلومات هي عَشْر ذي الحِجَّة؛ منهم ابنُ عمَرَ
(7)
وابنُ عبَّاس والحسن وعطاء ومجاهد وعِكرمة وقَتَادة والنَّخعيّ؛ وهو قولُ أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه.
(1)
في ع: "الثلاثين".
(2)
المصنف 4/ 375 في المناسك، برقم، برقم (8119).
(3)
أي في قوله تعالى من سورة الأعراف - الآية 142 - {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} .
(4)
سورة البقرة الآية 197.
(5)
في ش: "أنَّه من الأيام".
(6)
سورة الحج الآية 27 و 28.
(7)
في آ: "ابن عمرو".
وَرُوي عن أبي موسى الأشعري أنَّ الأيَّام المعلومات هي تسعُ ذي الحِجَّة غير يوم النَّحْر، وأنَّه قال: لا يُرَدُّ فيهنَّ الدُّعاءُ. خرَّجه جعفر
(1)
الفِرْيابيّ وغيرُه.
وقالت طائفة: هي أيَّام الذّبح. وروي عن طائفةٍ من السَّلَف، وهو قول مالكٍ، وأيي يوسُف، وجعلوا ذِكْرَ الله فيها ذكْرَه على الذّبح؛ وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما. ونقل المَرُّوْذِيّ
(2)
عن أحمدَ أنَّه استحسنه. والقولُ الأول أظهر.
وذِكْرُ الله على بَهيمة الأنعام لا يختصُّ بحال ذبْحها، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} "
(3)
. وقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}
(4)
. وأيضًا فقد قال الله تعالى بعدَ هذا: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
(5)
. فجعل هذا كلَّه بعدَ ذِكْره في الأيَّام المعلوماتِ وقضاءِ التَّفَثِ، وهو شَعَثُ الحجِّ وغبارُه ونصَبُهُ. والطَّوافُ بالبيت إِنَّما يكون في يوم النَّحْر وما بعدَه، ولا يكون قبلَه. وقد جعل الله سبحانه هذا مرتَّبًا على ذكره في الأيَّام المعلومات بلفظة "ثم"، فدَلَّ على أنَّ المراد بالأيَّام المعلومات ما قبْلَ يوم النَّحْر، وهو عَشْرُ ذي الحِجَّة.
وأمَّا قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}
(6)
، فقيل: إِنَّ المراد ذكرُهُ عند ذَبْحها، وهو حاصلٌ بذكره في يوم النَّحْر؛ فإِنَّه أفضَلُ أيَّام النَّحْر. والأصَحُّ أنَّه إِنَّما أُريدَ ذكرُه شكرًا على نِعْمَةِ تسخير بَهيمة الأنعام لعباده؛ فإِنَّ لله تعالى على عبادهِ في بهيمة الأنعام نِعَمًا كثيرةً قد عدَّد بعضَها في مواضعَ من القرآن. والحاجّ
(7)
لهم خصوصيَّةٌ في ذلك عن غيرهم؛ فإِنَّهم يسيرون
(1)
هو جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض، أبو بكر الفريابي، ارتحل إِلى بلاد كثيرة، وولي قضاء الدينور، وصنَّف التصانيف النافعة، وكان ثقة حجة، من أوعية العلم، مات سنة 301 هـ. (سير أعلام النبلاء 14/ 96 - 106).
(2)
هو أحمد بن محمد بن الحجَّاج المَرُّوْذِي، أبو بكر، صاحب الإِمام أحمد، كان والده خوارزميّاً، وأمُّه مَرُّوذِيَّة، نزل بغداد، وكان إِماماً في السُّنَّة، فقيهًا، ومحدِّثًا، مات سنة 275 هـ. (سير أعلام النبلاء 13/ 173).
(3)
سورة الحج الآية 37.
(4)
سورة الحج الآية 34.
(5)
سورة الحج الآية 28 و 29.
(6)
سورة الحج الآية 28.
(7)
في ش: "والحجاج".
عليها إِلى الحرَم؛ لِقَضَاء نُسُكِهم، كما قال تعالى:{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}
(1)
، وقال تعالى:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ}
(2)
. ويأكلون من لحومها، ويشربون من ألبانها، وينتفِعون بأصوافها وأوبارها وأشعارها.
ويختصُّ عَشْرُ ذي الحِجَّة في حقِّ الحاج بأنَّه زمَنُ سَوْقهم للهَدْي الذي به يكمُلُ فَضْلُ الحجِّ، ويأكلون من لحومِهِ في آخِرِ العَشْر، وهو يومُ النَّحْرِ. وأفضَلُ سَوْقِ الهَدْي مِن الميقات، ويُشعر ويُقلَّد
(3)
عند الإِحرام، وتقارِنُهُ التلبية، وهي من الذِّكْر لله في الأيَّام المعلومات.
وفي الحديث: "أفضَلُ الحَجِّ العَجُّ والثَّجُّ"
(4)
. وفي حديث آخر: "عجُّوا التَّكْبيرَ عَجًّا، وثُجُّوا الإِبلَ ثجًا".
فيكون كثرةُ ذِكْرِ اللهِ في أيَّام العَشْر شكرًا على هذه النّعمة المختصَّة ببهيمة الأنعام، التي بعضُها يتعلَّق بدِين الحاج، وبعضُها بدنياهم. وأفضَلُ الأعمالِ ما كثُر ذِكْرُ الله تعالى فيها؛ منها خصوصًا الحجُّ. وقد أمر الله تعالى بذكره كثيرًا في أيَّام
(5)
(6)
؛ فهذا الذِّكْرُ يكون في عَشْر
(1)
سورة الحج الآية 27.
(2)
سورة النحل الآية 7.
(3)
تقليد البدنة: أن يعلَّق في عنقها شيء ليعلم أنَّها هدي.
(4)
أخرجه الترمذي رقم (827) في الحج: باب ما جاء في فضل التلبية والنحر، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو حديث حسن. وأخرجه أيضًا عن ابن عمر رقم (3001) في التفسير: باب من سورة آل عمران، وكذا ابن ماجة رقم (2896) في المناسك: باب ما يوجب الحج، وفي سنده إِبراهيم بن يزيد الخوزي المكي، كما قال الحافظ في التقريب. وقال الترمذي: هذا الحديث لا نعرفه إِلا من حديث إِبراهيم بن يزيد الخوزي المكي، وقد تكلم بعض أهل العلم في إِبراهيم بن يزيد الخوزي المكي، من قبل حفظه. ولكن للحديث شواهد يرتقي بها إِلى درجة الحسن، منها ما رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي في السنن من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، واستغربه الترمذي. انظر "تلخيص التحبير" للحافظ ابن حجر 2/ 239 - 240.
(5)
لفظ "أيام" لم يرد في ب، ش، ع.
(6)
سورة البقرة الآية 198 و 199.
ذي الحِجَّة. ثمَّ قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}
(1)
، وهذا يقع في يوم النَّحْر، وهو خاتمة العَشْر أيضًا. ثم أمر بذكره بعد العَشْر في الأيام المعدودات، وهي أيَّام التشريق.
وفي "السُّنن" عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إِنَّما جُعِل الطَّوافُ بالبيت، والسعيُ بين الصَّفا والمروة، ورميُ الجمار؛ لِإِقامة ذكر الله عز وجل"
(2)
.
وفي "مسند" الإِمام أحمد
(3)
، عن معاذ بن أنس: أنَّ رجلًا قال: يا رسولَ الله! أيُّ الجهاد أعظمُ أجرًا؟ قال: أكثرُهُم لله ذِكرًا. قال: فأيُّ الصائمين أعظمُ أجرًا؟ قال: أكثرهم لله ذكرًا. قال: ثم ذكر الصَّلاة، والزَّكاة، والحجَّ، والصَّدقَةَ؛ كلُّ [ذلك] ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: أكثرهم لله ذِكْرًا. فقال أبو بكر: يا أبا حفص! ذهبَ الذَّاكرون بكُلِّ خيرٍ. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أجَلْ!.
وقد خرَّجه ابن المبارك، وابن أبي الدنيا من وجوهٍ أخر مرسلةٍ، وفي بعضها: أي الحاج خير؟ قال: أكثرهم ذكرًا لله. وفي بعضها: أيُّ الحاج أعظمُ أجرًا؟ قال: أكثرهم لله ذكرًا، وذكر بقية الأعمال، بمعنى ما تقدَّم. فهذا كُلُّه بالنسبة إِلى الحاج.
فأمَّا أهلُ الأمصار فإِنَّهم يشاركون الحاج في عَشْر ذي الحجة؛ في الذِّكْر، وإِعداد الهَدْي. فأمَّا إِعدادُ الهَدْي فإِنَّ العَشْر تُعَدُّ فيه الأضاحي، كما يَسوق أهلُ الموسم الهَدْيَ، ويشاركونهم في بعض إِحرامهم؛ فإِنَّ من دخل عليه العَشْرُ وأراد أن يضحي، فلا يأخُذْ من شَعره ولا مِنْ أظفاره شيئًا، كما روت ذلك أم سلمةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم. خرَّج حديثها مسلم
(4)
، وأخذ بذلك الشافعي، وأحمد، وعامَّة فقهاء الحديث.
ومنهم من شرط أن يكون قد اشترى هَدْيَه قبلَ العَشْر، وأكثرهم لم يشرطوا ذلك.
(1)
سورة البقرة الآية 200.
(2)
أخرجه الترمذي رقم (902) في الحج: باب ماجاء في كيف يرمي الجمار، وأبو داود رقم (1888) في المناسك: باب في الرمل، وإِسناده حسن.
(3)
مسند أحمد 3/ 438.
(4)
رواه مسلم رقم (1977)(39)(40)(41) في الأضاحي: باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة، وهو مريد التضحية، أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئًا.
وخالف فيه مالك، وأبو حنيفة، وكثيرٌ من الفقهاء، وقالوا: لا يُكره شيء من ذلك. واستدلّوا بحديث عائشة: "كُنْتُ أفْتِلُ قلائدَ الهَدْي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحرّم عليه شيء أحلَّه الله له"
(1)
.
وأجاب كثيرٌ من أهل القول الأول: بأنه يجمع بين الحديثين؛ فيؤخذ
(2)
بحديث أم سَلَمة فيمن يريد أن يضحي في مصره
(3)
. وبحديث عائشة فيمن أرسَلَ بهديه مع غيره، وأقام في بلده.
وكان ابن عُمَر إِذا ضحَّى يومَ النَّحْر حَلَق رأسَه، ونصَّ أحمد على ذلك.
واختلف العلماء في التعريف بالأمصار عشيَّة عرفة، وكان الإِمام أحمد لا يفعله ولا ينكِرُ
(4)
على مَنْ فَعَلَه؛ لأنَّه رُوي عن ابن عباس وغيره من الصحابة. وأما مشاركتهم لهم في الذكر في الأيام المعلومات؛ فإِنَّه يُشرَعُ للنَّاس كلِّهم الإِكثارُ من ذِكر الله في أيام العشر خُصوصًا، وقد سَبَقَ حديثُ ابن عمر المرفوع "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد". واختلف العلماء: هل يُشرَع إِظهارُ التكبير والجهرُ به في الأسواق فىِ العَشْر، فأنكَرَهُ طائفةٌ، واستحبَّه
(5)
أحمدُ والشافعيُّ، لكنَّ الشافعيُّ خصَّهُ بحالِ رؤيةِ بهيمة الأنعام، وأحمدُ يستحبُّه مطلقًا.
وقد ذكر البخاري في "صحيحه"
(6)
عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يخرجان إِلى السُّوق في العَشْر، فيكبِّران ويكبِّرُ الناس بتكبيرهما. ورواه عفان: حدثنا سلام أبو المنذر، عن حُميد الأعرج، عن مجاهدٍ، قال: كان أبو هريرة وابنُ عمر يأتيان السُّوقَ أيَّامَ العَشْر فيكبِّران ويكبِّر الناسُ معهما، ولا يأتيان لشيءٍ إِلا لذلك. وروى جعفر الفريابي في "كتاب العيدين"، حدثنا إِسحاق بن راهَوَيْه، أخبرنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، قال: رأيت سعيدَ بن جبير ومجاهدًا وعبد الرحمن بن أبي ليلى، أو
(1)
رواه أحمد في "المسند" 6/ 35 و 36 و 82 و 85، والحميدي في "مسنده" رقم (208) و (209)، وبنحوه أخرجه مسلم رقم (1321) في الحج.
(2)
في ش: "قالوا: يؤخذ".
(3)
إِلى هنا ينتهي ما سقط من المطبوع.
(4)
في ش: "ولا ينكره".
(5)
في ش: "واستحبه".
(6)
2/ 457 في العيدين: باب فضل العمل في أيام التشريق. وانظر تفسير ابن كثير 3/ 216 - 217.
اثنين من هؤلاء الثلاثة، ومن
(1)
رأينا من فقهاء الناس، يقولون في أيام العشر: الله أكبر، الله أكبر، [الله أكبر،]
(2)
لا إِله إِلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إِلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كُلُّ أحدٍ قادرًا على مشاهدته في كُلِّ عامٍ، فَرَضَ على المستطيع الحجَّ مرَّةً واحدةً في عمره، وجَعَلَ مَوْسِمَ العَشْر مشتركًا بين السائرين والقاعدين، فمن عَجَزَ عن الحجِّ في عامٍ قَدَرَ في العَشْر على عَمَلٍ يعمَلُه في بيته، يكونُ أفضَلَ من الجهاد الذي هو أفضَلُ من الحج.
ليالي العَشْر أوقاتُ الإِجَابَه
…
فبادِرْ رَغْبَةً تَلْحَقْ ثوابَه
ألا لا وقْتَ للعمَّال فيهِ
…
ثوابُ الخَيْرِ أقرَبُ للإِصابَه
(3)
مِنَ أوقات الليالي العَشْر حقًّا .. فَشَمِّرْ وأطْلُبَنْ فيها الإِنابَه
احذروا المعاصي؛ فإِنَّها تحرم المغفرة في مواسم الرَّحمة. روى المَرُّوذِيُّ في "كتاب الورع" بإِسناده عن عبد الملك بن عميرٍ، عن رجلٍ؛ إِمَّا مِن الصحابة أو من التابعين، أنَّ آتيًا أتاه في منامه في العَشْر من ذي الحِجّة، فقال: ما من مسلم إِلَّا يُغفَر له في هذه الأيام، كُلَّ يومٍ خمسَ مرارٍ
(4)
، إِلَّا أصحابَ الشاهِ، يقولون: مات، ما موته؟! يعني أصحابَ الشطرنج. فإِذا كان اللعب بالشطرنج مانعًا من المغفرة، فما الظنُّ بالإِصرار على الكبائر المجمَعِ عليها؟
طاعةُ اللهِ خَيْرُ ما لَزِمَ العَبْدُ
…
فكُنْ طائعًا ولا تعصيَنَّه
ما هلاكُ النُّفوس إِلَّا المعاصِي
…
فاجْتَنِبْ ما نهاكَ لا تقرَبَنَّه
إِنَّ شيئًا هلاكُ نفسِكَ فيهِ
…
ينبغي أن تصونَ نفسَكَ عنَّه
المعاصي سببُ البُعْدِ والطَّرْدِ، كما أنَّ الطاعاتِ أسبَابُ القُرْب والودّ.
أيضمَنُ لِي فتىً تَرْكَ المعاصِي
…
وأرهنَهُ الكَفَالَة بالخلاصِ
(1)
في ب، ط:"وما".
(2)
زيادة لم ترد في آ، ش، ع.
(3)
في ع: "للإِجابة".
(4)
في ع، ش:"مرات".
أطاعَ اللهَ قومٌ فاسْتَرَاحُوا
…
ولم يتجرَّعوا غُصَصَ المعاصي
إِخوانكم في هذه الأيام قد عَقَدُوا الإِحرام، وقصَدُوا البيتَ الحرامَ، وملؤوا الفضاءَ بالتَّلبية والتكبير والتهليل والتحميد والإِعظام، لقد ساروا وقَعَدنا، وقَرُبُوا وبَعُدْنا، فإِن كان لنا معهم نصيبٌ سَعِدْنا.
أتراكم في النَّقا والمنحنى
…
أهلَ سَلْعٍ تذكرُونا ذِكرنا
انقطَعْنا ووصَلْتم فاعْلَمُوا
…
واشْكُروا المنْعِمَ يا أهْلَ مِنى
قد خسِرْنا وربحْتُم فَصِلُوا
…
بفُضُول الرِّبْح مَن قَدْ غُبِنا
سار قلبي خَلْفَ أحمالِكُمُ
(1)
…
غيرَ أنَّ العُذْرَ عَاقَ البَدَنا
ما قطعتم واديًا إِلَّا وقَدْ
…
جئتُه أسعَى بأقدامِ المُنَى
أنا مذْ غبتم علَى تذكاركُمْ
…
أترى عندكُمُ ما عندَنا
القاعدُ لعذرٍ شريك السَّائر، وربما سبق السائرُ بقلبه السَّائرين بأبدانهم. رأى بعضُهم في المنام عشيَّةَ عرفَةَ في الموقف قائلًا يقول له
(2)
: أترَى هذا الزِّحام على هذا الموقف؟ فإِنه لم يحجَّ منهم أحدٌ إِلَّا رجلٌ تخلَّف عن الموقف، فحجَّ بهمَّته فوُهِبَ له أهلُ الموقف.
يا سائرينَ الى البيتِ العَتيقِ لَقَدْ
…
سرْتُمْ جُسُومًا وسِرْنا نحنُ أَرْواحا
إِنَّا أقمْنا علَى عُذْرٍ وقد رَحَلُوا
…
وَمَنْ أقام على عُذْرٍ كَمَنْ رَاحَا
الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عِوضٌ ولا لها قيمة. المبادرةَ المبادرةَ بالعمل، والعجَلَ العجَلَ قبلَ هُجُوم الأجل، قبلَ أن يندَمَ المفرِّطُ على ما فعل، قبلَ أن يسألَ الرجعةَ ليعمل صالحًا فلا يجاب إِلى ما سأل، قبلَ أن يحولَ الموتُ بين المؤمِّل وبلوغ الأمل، قبلَ أن يصيرَ المرء مُرتهنًا في حفرته بما قدَّم من عمل.
(1)
في ب، ش:"أجمالكم".
(2)
لفظ "له" لم يرد في آ، ش، ع.
ليس للميت في قبره
…
فِطْرٌ ولا أضْحَى ولا عَشْرُ
ناءٍ عن الأهل على قُربه .. كذاك مَن مسكنُه القَبْرُ
يا من طلع فَجْرُ شيبِه بعدَ بلوغ الأربعين! يا مَن مَضَى عليه بعد ذلك ليالي
(1)
عَشْر سنين حتى بلغ الخمسين! يا مَن هو في معترك المنايا ما بينَ الستين والسبعين! ما تنتظر بعد هذا الخبر إِلا أن ياتيك اليقين؟ يا مَن ذنوبُه بعدد الشَّفْع والوتر! أَمَا تستحيي من الكرام الكاتبين؟ أم أنت ممن يكذِّبُ
(2)
بيوم الدِّين؟ يا مَن
(3)
ظلمة قلبه كالليل إِذا يسري! أما آن لقلبك أن يستنيرَ أو يلين؟ تعرَّضْ لنَفَحَاتِ مولاكَ في هذا العشر؛ فإِنَّ لله فيه نَفَحاتٍ يُصيبُ بها من يشاء، فمن أصابته سعِدَ بها آخِرَ الدَّهر.
[جَنَحَتْ شمسُ حياتي
…
وتَدَلَّتْ للغروب
وتولَّى ليلُ رأسي
…
وَبَدا فَجْرُ المشيبَ
ربِّ خلِّصني فقد
…
لججت في بحر الذُّنوبِ
وأنلني العَفْوَ يا أقـ
…
ـربَ مِن كلِّ قريبِ]
(4)
* * *
المجلس الثاني
في فضل يوم عرفة مع عيد النَّحْر
في "الصحيحين"
(5)
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ رجلًا من اليهود قال له: يا أميرَ المؤمنين! آيةٌ في كتابكم لو علينا مَعْشَرَ اليهودِ نزلَتْ، لاتَّخذْنا ذلك اليومَ عيدًا. فقال: أيُّ آيةٍ؛ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
(6)
. فقال عمر: إِنِّي لأعلم اليومَ الذي نزلَتْ فيه،
(1)
لفظ "ليالي" لم يرد في (آ).
(2)
في آ، ش، ع:"يكذِّب بالدِّين".
(3)
فىِ ش: "يا من أظلم قلبه وقسى بالمعاصي، أما آن له أن يستنير .. ".
(4)
ما بين قوسين لم يرد في ب، ط.
(5)
أخرجه البخاري رقم (45) في الإِيمان: باب زيادة الإِيمان ونقصانه، وفي المغازي: باب حجة الوداع، وفي تفسير سورة المائدة: باب {اليوم أكملت لكم دينكم} ، وفي الاعتصام، في فاتحته. ورواه مسلم رقم (3017) في أول التفسير، والنسائي 8/ 114 في الإِيمان و 5/ 251 في الحج. وأخرجه الطبري في "تفسيره" 9/ 524 - 525.
(6)
سورة المائدة الآية 3.
والمكانَ الذي نزلت فيه؛ نزلَتْ ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قائِمٌ بِعَرَفَةَ يومَ جُمعةٍ. وخرَّج الترمذي
(1)
عن ابن عباس نحوَه، وقال فيه: نزلت في يوم عيد من يوم جمعة ويوم عرفة
(2)
.
العيدُ هو موسم الفرح والسرور، وأفراحُ المؤمنين وسرورُهم في الدنيا إِنَّما هو بمولاهم، اذا فازوا بإِكمال طاعته، وحازوا ثوابَ أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله ومغفرته، كما قال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
(3)
. قال بعضُ العارفين: ما فرِحَ أحدٌ بغير الله إِلَّا بغفلته عن الله؛ فالغافِلُ يفرَحُ بلهوه وهواه، والعاقلُ يفرَحُ بمولاه. وأنشد سَمْنُون
(4)
في هذا المعنى:
وكان فُؤادِي خاليًا قَبْلَ حُبِّكُم
…
وكان بذِكْرِ الخَلْق يَلْهُو ويمرَحُ
فلمَّا دعا قلبي هواك أجابَهُ
…
فلسْتُ أراهُ عن فنائِكَ يَبْرَحُ
رُمِيتُ ببعدٍ منكَ إِنْ كنْتُ كاذبًا
…
وإِن كنتُ في الدنيا بغيرك أفرَحُ
وإِن كان شيء في البلاد بأسْرِها
…
إِذا غِبْتَ عن عيني لعينيَ يَملُحُ
فإِن شئْتَ واصِلْني وإِن شئْتَ لا تصِلْ
…
فلسْتُ أرَى قلبي لغيرِك يصلُحُ
لمَّا قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ كان لهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "إِنَّ الله قد
(1)
رقم (3046) في التفسير: باب ومن سورة المائدة.
(2)
في هامش نسخة (ع) نقلًا عن تفسير البغوي (2/ 10)، ما نصه:"قال البغوي رحمه الله في قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} - المائدة 3: - نزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها وبركت. قال ابن عباس: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد: جمعة، وعرفة، وعيد اليهود، والنصارى، والمجوس، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يومٍ قبله ولا بعده. وروي أنَّه لما نزلت هذه الآية بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: أبْكاني أننا كنَّا في زيادة من ديننا، فأما إِذا كمل، فإِنَّه لم يكمل شيء ألا نقص. قال: صدقت. فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاش بعدها أحدًا وثمانين يومًا. انتهى كلامه".
(3)
سورة يونس الآية 58.
(4)
هو سَمنون بن عبد الله، ويكنى أبا القاسم، صحب سريًا وغيره، ووسوس فكان يتكلم في المحبة، ثم سمَّى نفسه الكذاب لموضع دعواه في قوله:
فليس لي في سواك حظ
…
فكيف ما شئت فامتحني
فامتحن بحصر البول، فصار يدور في المكاتب ويقول للصبيان: ادعوا لعمكم المبتلى بلسانه. (المنتظم 6/ 108). والأبيات في تاريخ بغداد 9/ 237 وطبقات الصوفية ص 198، وفيهما:"رميت بِبَيّنٍ".
أبدَلَكم يومين خيرًا منهما؛ يومَ الفطر، والأضحى"
(1)
. فأبدل الله هذه الأمة بيومي اللعب واللهو يومي الذِّكْر والشُّكر والمغفرة والعفو. ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعيادٍ: عيدٌ يتكرَّر كُلَّ أسبوعٍ، وعيدان يأتيان في كُلِّ عامٍ مَرَّةً مرَّةً، من غير تكررٍ في السنة. فأمَّا العيدُ المتكرِّرُ، فهو يومُ الجمعة، وهو عيدُ الأسبوع، وهو مترتب على إِكمال الصَّلوات المكتوبات؛ فإِنَّ الله عز وجل فَرَضَ على المؤمنين في كُلِّ يومٍ وليلةٍ خمسَ صلواتٍ، وأيامُ الدنيا تدورُ على سبعةِ أيامٍ، فكلَّما كمُلَ دورُ أسبوعٍ من أيام الدنيا، واستكملَ المسلمون صلواتِهم فيه، شُرِع لهم في يومِ استكمالهم
(2)
، وهو اليوم الذي كمُل فيه الخلْقُ، وفيه خُلِقَ آدمُ وأُدخِل الجنَّة وأخرج منها، وفيه ينتهي أمدُ الدنيا فتزول وتقوم الساعة
(3)
، وفيه
(4)
الاجتماع على سماع الذِّكر والموعظة وصلاة الجمعة، وجُعل ذلك لهم عيدًا؛ ولهذا نُهِي عن إِفراده بالصِّيام.
وفي شهود الجمعة شبَهٌ من الحجِّ، وروي
(5)
أنَّها حجُّ المساكين. وقال سعيد بن المسيِّب: شهودُ الجمعة أحبُّ إِليَّ من حجة نافلةٍ، والتبكير إِليها يقومُ مقام الهَدْي على قدْر السَّبْق؛ فأوَّلهم كالمُهدِي بَدَنةً ثم بَقَرةً، ثم كَبْشًا، ثم دَجَاجةً، ثم بَيْضةً
(6)
.
وشهودُ الجمعة يوجب تكفيرَ الذنوب إِلى الجمعة الأخرى اذا سلِم ما بين الجمعتين من
(1)
رواه النسائي 3/ 179 في العيدين، وأحمد في "مسنده" 3/ 103 و 178 و 235 و 250 بلفظ "ويوم النحر" عند أحمد، والحاكم في "المستدرك" 1/ 294 وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، كلهم من حديث أنس بن مالك.
(2)
بعده في ش: "الاجتماع".
(3)
في هامش نسخة (ع) ما نصه: "في مسلم - رقم 2789 - عن أبي هريرة، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فقال: خَلَقَ الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر في يوم الجمعة في آخر الخلق وآخر ساعة من ساعات الجمعة فيها بين العصر إِلى الليل" وفيها أيضًا: "قال البغوي - 3/ 244 - : فقال قوم في قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]-: معناه خلق الإِنسان، يعني آدم من تعجيل في خلق الله إِيَّاه، لأن خلقه كان بعد خلق كلِّ شئ في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس
…
".
(4)
في ب، ط:"فالجمعة من الاجتماع"، وفي ع:"وسمي يوم الجمعة للاجتماع"، والمثبت من آ، ش.
(5)
في ط: "أو روي". وأورده الهندي في "كنز العمال" برقم (21031) وعزاه إِلى ابن زنجويه في ترغيبه، والقضاعي، عن ابن عباس.
(6)
بعضه من حديث مرفوع أخرجه الشيخان وأصحاب السنن. وانظر "الترغيب" 1/ 498 - 500.
الكبائر، كما أن الحَجَّ المبرور يكفِّر ذنوبَ تلك السنة إلى الحجة الأخرى. وقد رُوِي:"إذا سلمتِ الجمعةُ سلِمَت الأيام"
(1)
. ورُوي: "إن الله تعالى يغفِر يومَ الجمعة لكُلِّ مسلم"
(2)
. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "ما طلعتِ الشمسُ ولا غَرَبت على يومٍ أفضَلَ من يوم الجمعة"
(3)
. وفي "المسند" عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في يوم الجمعة: "هو أفضَلُ عند الله من يوم الفطر ويوم الأضحى". فهذا عيدُ الأسبوع، وهو متعلِّق بإكمال الصلوات
(4)
المكتوبة، وهي أعظمُ أركان الإسلام ومَبَانِيهِ بعدَ الشهادتين.
وأمَّا العيدان اللذان لا يتكرران في كُلِّ عامٍ، وإنما يأتي كُلُّ واحدٍ منهما في العام مرَّة واحدةٌ؛
فأحدُهما: عيدُ الفطر من صوم رمضانَ، وهو مرتب
(5)
على إكمال صيام رمضان، وهو الرُّكن الثالث من أركان الإسلام ومَبَانيه، فإذا استكمل المسلمون صيامَ شهرهم المفروض عليهم، واستوجبوا من الله المغفرة والعِتْقَ من النار؛ فإنَّ صيامَه يوجبُ مغفرةَ ما تقدَّم من الذنوب، وآخره عِتْقٌ من النار، يُعتق فيه من النار من استحقَّها بذنوبه، فشرع الله تعالى لهم عقيب إكمالهم لصيامهم عيدًا يجتمعون فيه
(1)
أخرجه السيوطي في "الجامع الصغير" برقم (685) وعزاه إلى الدارقطني في الأفراد، وابن عدي في الكامل، وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان، عن عائشة. قال المناوي في "فيض القدير" 1/ 377: قال ابن الجوزي: تفرد به عبد العزيز، وهو كذاب، وهو موضوع. وأورده الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" برقم (649) ورمز له بـ "موضوع". وانظر "الإتحاف" للزبيدي 3/ 216 و 5/ 207، والكنز رقم (21049). وتتمته:"وإذا سلم رمضان سلمت السّنَةُ".
(2)
أورد الهندي في "كنز العمال" رقم (21046) عن أبي هريرة: "لا يترك أحدًا يوم الجمعة إلا غفر له"، وعزاه إلى الخطيب البغدادي. وفي "الترغيب" 1/ 492 عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: إن الله تبارك وتعالى ليس بتارك أحدًا من المسلمين يوم الجمعة إلَّا غفر له. قال المنذري: رواه الطبراني في الأوسط مرفوعًا فيما أرى بإسناد حسن.
(3)
أخرجه الترمذي رقم (3336) في التفسير: باب ومن سورة البروج، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعّف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قبل حفظه. وقد روى شعبة وسفيان الثوري وغير واحد من الأئمة عن موسى بن عبيدة. نقول: لكن ثبت في صحيح مسلم رقم (854) في الجمعة: باب فضل يوم الجمعة من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة"، وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة:"إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه" فيتقوى بها بعض حديث الباب. وانظر "جامع الأصول" 2/ 427.
(4)
في آ، ع:"الصلاة".
(5)
في ب، ط:"مترتب".
على شُكر الله وذكره وتكبيره على ما هداهم له. وشرع لهم في ذلك العيد الصَّلاةَ والصَّدَقة. وهو يوم الجوائز يستوفي الصائمون فيه أَجْرَ صيامهم، ويرجعون من عيدهم بالمغفرة.
والعيدُ الثاني: عيدُ النَّحْر، وهو أكبَرُ العيدين وأفضلُهما، وهو مترتب على إكمال الحجِّ، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام ومَبَانيه، فإذا أكمَلَ المسلمون حجَّهم غُفِر لهم. وإنما يكمُلُ الحجُّ بيوم عرفة والوقوف فيه بعرفة؛ فإنَّه ركنُ الحجِّ الأعظم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"الحجُّ عرفة". ويوم عرفة هو يومُ العِتْق من النار، فيعتِقُ الله فيه من النار مَن وقَفَ بعرَفَةَ ومَن لم يقفْ بها من أهل الأمصار من المسلمين، فلذلك صار اليومُ الذي يليه عيدًا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم؛ مَن شهِدَ المَوْسمَ منهم ومَن لم يشهدْه؛ لاشتراكهم في العِتق والمغفرة يومَ عَرَفَةَ. وإنما لم يشترك المسلمون كلُّهم في الحجِّ كُلِّ عامٍ رحمةً من الله وتخفيفًا على عباده، فإنَّه جعل الحجِّ فريضةَ العمر لا فريضة كُلِّ عامٍ، وإنما هو في كل عام فرضُ كفايةٍ، بخلاف الصيام؛ فإنَّه فريضةُ كُلِّ عامٍ على كُلِّ مسلم. فإذا كَمَلَ يومُ عرفة، وأعتَقَ الله عبادَه المؤمنين من النار، اشترك المسلمون كلُّهم في العيد عقب
(1)
ذلك. وشُرع للجميع التقرُّبُ إليه بالنُّسُكِ، وهو إراقة دِماء القرابين.
فأهلُ الموسم يرمون الجمرة، فيشرعون في التحلُّل من إحرامهم بالحجِّ، ويقضون تفثَهُم
(2)
، ويوفون نذورهم، ويقرِّبون قرابينهم من الهدايا، ثم يطوفون بالبيت العتيق. وأهلُ الأمصار يجتمعون على ذكر الله وتكبيره والصلاة له. قال مخنفُ بن سليم
(3)
، وهو معدود من الصحابة: الخروجُ يومَ الفطر يعدِلُ عمرةً، والخروج يوم الأضحى يعدِلُ حجةً. ثم ينسكون عقيب ذلك نُسُكهم، ويقرِّبُون قرابينَهم بإراقة دماءِ ضحاياهم؛ فيكون ذلك شكرًا منهم لهذه النعم. والصلاة والنَّحْر الذي يجتمع في عيد
(1)
في آ، ش، ع:"عقيب".
(2)
التَّفَث في المناسك: ما كان من نحو قص الأظفار والشارب وحَلْق الرأس والعانة ورمي الجمار ونَحْر البُدْن وأشباه ذلك.
(3)
هو مخنف بن سليم بن الحارث بن عوف الأزدي الغامدي، له صحبة، وحديثه في كتب السنن الأربعة. وقد سبقت ترجمته.
النَّحْر أفضلُ من الصَّلاة والصَّدقة الذي في عيد الفطر، ولهذا أُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلَ شكره لربِّه على إعطائه الكوثر أن يُصلِّي لربِّه وينحر، وقيل له:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(1)
. ولهذا ورد الأمر بتلاوة هذه الآية عند ذبْح الأضاحي، والأضاحي سنَّةُ إبراهيمَ عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله شرعها لإبراهيمَ حين فَدَى ولدَه الذي أمره بذَبْحه، بِذِبْحٍ عَظيمٍ
(2)
. وفي حديث زَيد بن أَرْقم، قيل: يا رسولَ الله، هذه الأضاحي؟ قال: سنةُ [أبيكم] إبراهيمَ. قيل له: فما لنا بها؟ قال: بكُلِّ شَعَرَةٍ حَسَنَة. قيل: فالصُّوفُ؟ قال: بكُلِّ شَعَرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةً. خرَّجه ابنُ ماجة
(3)
وغيره. فهذه أعيادُ المسلمين في الدنيا، وكلُّها عند إكمال طاعة مولاهم الملك الوهاب، وحيازتهم لما وعدَهم من الأجر والثواب.
مَرَّ قومٌ براهبٍ في دَيْرٍ، فقالوا له: متى عيدُ أهلِ هذا الدَّيْر؟ قال: يوم يُغفَر لأهله.
ليس العيدُ لمن لبس الجديدَ، إنَّما العيدُ لمن طاعاتُه
(4)
تزيد. ليس العيدُ لمن تجمَّل باللباس والركوب
(5)
، إنَّما العيدُ لمن غفرت له الذنوب. في ليلة العيد تفرَّقُ خِلَعُ العِتْق والمغفرة على العبيد؛ فمن ناله منها شيء فله عيدٌ، وإلَّا فهو مطرود بعيد.
كان بعضُ العارفين ينوح على نفسه ليلة العيد بهذه الأبيات:
بحرمة غربتي كم ذا الصُّدُودُ
…
ألا تعطِفْ عليَّ ألا تَجُودُ
سُرورُ العيدِ قَدْ عَمَّ النَّواحِي
…
وحُزني في ازديادٍ لا يبيدُ
فإن كنْتُ اقْتَرَفْتُ خِلالَ سَوءٍ
…
فعُذْرِي في الهوى أن لا أعودُ
(1)
سورة الأنعام الآية 162.
(2)
راجع الآيات 102 - 107 من سورة الصافات.
(3)
رقم (3127) في الأضاحي: باب ثواب الأضحية. وفي زوائد البوصيري: في إسناده أبو داود، واسمه نفيع بن الحارث، وهو متروك، واتهم بوضع الحديث. وأورده الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجة" برقم (672) ورمز له بـ "ضعيف جدًّا". وبنحوه رواه الإمام أحمد في "المسند" 4/ 368 والحاكم في "المستدرك" 2/ 389 وقال: صحيح الإسناد، فتعقبه المنذري في "الترغيب" 2/ 154 وقال:"بل واهيه، عائذ الله: هو المجاشعي، وأبو داود: هو نفيع بن الحارث الأعمى، وكلاهما ساقط".
(4)
في ب، ط:"طاعاته".
(5)
في ع: "والمركوب"، وفي ش:"والمركب".
وأنشدَ غيره:
للناس عَشْرٌ وعيدُ
…
وأنا فقيرٌ وحيدُ
يا غايتي ومُنَايَ
…
قد لَذَّ لي ما تريدُ
وأنشد الشِّبْليُّ:
ليس عيدُ المحِبِّ قَصْدَ المُصَلَّى
…
وانتظارَ الأمير والسلطان
إنَّما العيدُ أن تكونَ لَدَى الحِـ
…
ـبِّ كريمًا مقرَّبًا في أمانِ
(1)
وأنشد
(2)
:
إذا ما كنت لي عيدًا
…
فما أصنَعُ بالعيدِ
جَرَى حُبُّكَ في قلبي
…
كجري الماءِ في العودِ
وأنشد
(3)
:
قالوا غدًا لعيدُ ماذا أنْتَ لابسُهُ
…
فقلْتُ خِلْعَةَ ساقٍ حُسْنُهُ
(4)
بَرَعَا
صَبْرٌ وفَقْرٌ هما ثَوْبانِ تحتَهُما
…
قَلْبٌ يَرَى إلفَه الأعيادَ والجمُعَا
أَحْرى الملابسِ أن تلْقَى الحبيبَ به .. يومَ التزاورِ في الثَّوْب الَّذي خَلَعا
الدَّهْرُ لي مأتمٌ إن غبْتَ يا أملي
…
والعِيدُ ما كنتَ لي مَرْأَى ومستمَعَا
وأمَّا أعياد المؤمنين في الجنة فهي أيام زيارتهم لربِّهم عز وجل، فيزورونه ويكرمهم غايةَ الكرامةِ، ويتجلَّى لهم فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئًا هو أحبُّ إليهم من ذلك. وهو الزِّيادة التي قال الله تعالى فيها:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}
(5)
. ليس للمحبِّ عيد سوى قرب محبوبه.
إن يومًا جامعًا شَمْلِي بهم
…
ذاكَ عيدٌ ليس لي عيدٌ سِواه
كُلُّ يوم كان للمسلمين عيدًا
(6)
في الدنيا، فإنَّه عيدٌ لهم في الجنَّة، يجتمعون
(1)
في ش: "في المكان".
(2)
في آ: "وأنشد أيضًا"، وفي ش:"وأنشد غيره".
(3)
في ش: "وأنشد آخر".
(4)
في آ، ش، ع:"حُبُّهُ جُرعا".
(5)
سورة يونس الآية 26.
(6)
في ش، ع:"عيد" بالرفع.
فيه على زيارة ربِّهم، ويتجلَّى لهم فيه. ويوم الجمعة يُدعى في الجنَّة يومَ المزيد، ويوم الفطر والأضحى يجتمع أهل الجنة فيهما للزيارة. ورُوي أنَّه يشارك النساءُ الرجالَ فيهما، كما كن يشهدن العيدين مع الرجال دون الجمعة. فهذا لعموم أهل الجنة، فأمَّا خواصُّهُم فكُلُّ يومٍ لهم عيدٌ يزورون ربِّهم كُلَّ يوم مرتين؛ بُكرةً وعشيًا.
الخواصُّ كانت أيامُ الدُّنيا كلُّها لهم أعيادًا، فصارت أيامهم في الآخرة كلُّها أعيادًا.
قال الحسن: كُلُّ يوم لا يُعصَى الله فيه فهو عيد، كُلُّ يومٍ يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكرِه وشكرِه فهو له عيد.
أركان إسلام التي بُني الإسلام عليها خمسةٌ: الشهادتان، والصَّلاة، والزَّكاة، وصِيامُ رمضان، والحجُّ. فأعياد عموم المسلمين في الدنيا عند إكمال دور الصلاة، وإكمال الصيام، والحج، يجتمعون عند ذلك اجتماعًا عامًّا. فامَّا الزَّكاة فليس لها وقتٌ معين لِيُتَّخَذَ عيدًا، بل كُلُّ مَن ملك نصابًا فَحَوْلُه بحسَبِ مُلْكِه. وأمَّا الشهادتان فإكمالُهما يحصُلُ بتحقيقهما والقيام بحقوقهما؛ وخواصُّ المؤمنين يجتهدون على ذلك في كُلِّ وقتٍ، فلذلك كانت أوقاتهم كلُّها أعيادًا لهم في الدنيا والآخرة، كما أنشَدَ الشِّبْليُّ:
عيدِي مقيمٌ وعِيدُ الناسِ منصرفُ
…
والقلْبُ منِّي عن اللذَّات منحرِفُ
ولي قَرينان ما لي منهما خَلَفٌ
…
طولُ الحنين وعينٌ دمعُها يكِفُ
ولمَّا كان عيدُ النَّحْر أكبرَ العيدين وأفضلَهما، ويجتمع فيه شرفُ المكان والزمان لأهل الموسم، كانت لهم فيه معه أعيادٌ قبلَه وبعدَه؛ فقبلَه يومُ عرفة، وبعدَه أيَّامُ التشريق. وكُلُّ هذه الأيَّام
(1)
أعيادٌ لأهل الموسم، كما في حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
(1)
في ب، ط:"الأعياد".
"يَوْمُ عرفةَ، ويومُ النَّحر، وأيام التشريق عيدُنا أهلَ الإسلام، وهي أيام أَكْلٍ وشُرْب". خرَّجه أهل السنن
(1)
وصححه الترمذي. ولهذا لا يُشرَعُ لأهل الموسم صومُ يوم عرفة؛ لأنَّه أوَّلُ أعيادهم وأكبَرُ مجامعِهم، وقد أفطره النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة والناسُ ينظرون إليه. وروي عنه أنَّه نَهى عن صوم يوم عرفة بعرفة. وَرُوي عن سفيان بن عُيَينة أنَّه سئل عن النهي عن صيامِ يوم عرفة بعرفة، فقال: لأنهم زُوَّار اللهِ وأضيافُهُ، ولا ينبغي للكريم أن يجوِّع أضيافَه. وهذا المعنى يوجد في العيدين وأيام التشريق أيضًا؛ فإنَّ الناس كُلَّهم فيها في ضيافة الله عز وجل، لا سيما عيدَ النَّحْر؛ فإنَّ الناس يأكلون من لحوم نُسُكهم؛ أهل الموقف وغيرهم.
وأيام التشريق الثلاثة هي أيام عيدٍ أيضًا، ولهذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم مَن ينادي بمكَّة أنها أيام أكْلٍ وشُرْبٍ وذكرِ الله عز وجل، فلا يصومَنَّ أحَدٌ. وقد يجتمع في يومٍ واحدٍ عيدان، كما إذا اجتمع يوم الجمعة مع يوم عرفة أو يوم النَّحْر، فيزداد ذلك اليوم حُرْمةً وفضلًا؛ لاجتماع عيدين فيه. وقد كان ذلك؛ اجتمع للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة، فكان يوم جمعة، وفيه نزلت هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
(2)
. وإكمال الدين في ذلك اليوم حَصَلَ من وجوهٍ.
منها: أن المسلمين لم يكونوا حجُّوا حجَّةَ الإسلام بعد فرض الحجِّ قبلَ ذلك، ولا أحدٌ منهم؛ هذا قولُ أكثرِ العلماء أو كثيرٌ منهم؛ فكمُل بذلك دينُهم لاستكمالهم عَمَلَ أركان الإسلام كلِّها.
ومنها: أن الله تعالى أعاد الحجَّ على قواعِدِ ابراهيمَ عليه السلام، ونفَى الشرك وأهلَه، فلم يختلطْ بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحدٌ. قال الشعبي: نزلتْ هذه
(1)
رواه أبو داود رقم (2419) في الصوم: باب صيام أيام التشريق، والترمذي رقم (773) في الصوم: باب ما جاء في كراهية الصوم في أيام التشريق، والنسائي 5/ 252 في المناسك: باب النهي عن صوم يوم عرفة، وإسناده حسن. وكذلك رواه الإمام أحمد في "المسند" 4/ 152.
(2)
سورة المائدة الآية 3.
الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة حين وقف موقِفَ إبراهيمَ، واضمحَلَّ الشِّرْكُ، وهُدِّمَتْ منارُ
(1)
الجاهلية، ولم يَطُفْ بالبيت عُريان. وكذا قال قَتَادة وغيرُه. وقد قيل: إنه لم ينزل بعدَها تحليلٌ ولا تحريمٌ؛ قاله أبو بكر بن عياش.
وأمَّا إتمامُ النِّعمة فإنَّما حصل بالمغفرة، فلا تتم النِّعْمَةُ بدونها، كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}
(2)
، وقال تعالى في آية الوضوء:{وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ}
(3)
. ومن هنا استنبط محمد بن كعب القرظيُّ بأنَّ الوضوءَ يكفِّر الذنوب، كما وردت السُّنَّة بذلك صريحًا. ويشهَدُ له أيضًا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يدعو ويقول: للهم إني أسألك تمامَ النِّعمة. فقال له: "تمامُ النِّعْمةِ النجاةُ مِن النَّار، ودخولُ الجنة"
(4)
. فهذه الآية تشهَدُ لما رُوِي في يوم عرفَةَ أنَّه يومُ المغفرة والعِتق من النار.
فيوم عرفة له فضائل متعددة:
منها: أنَّه يومُ إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة. ومنها: أنَّه عيدٌ لأهل الإسلام، كما قاله عُمَرُ بن الخطاب وابنُ عباس؛ فإنَّ ابن عباس قال: نزلَتْ في يوم عيدين؛ يوم جمعة ويوم عرفة
(5)
. ورُوِي عن عمر أنَّه قال: وكلاهما بحمد الله لنا عيد. خرَّجه ابنُ جرير في تفسيره
(6)
. ويشهَدُ له حديثُ عقبة بن عامر المتقدِّم، لكنَّه عيدٌ لأهل الموقف خاصَّةً. ويُشرَعُ صيامُه لأهل الأمصار عند جمهور العلماء، وإن خالف فيه بعض السلف. ومنها: أنَّه قد قيل: إنه الشفْع الذي أقسَمَ الله به في كتابه، وأنَّ الوَتْرَ يومُ النَّحْر. وقد رُوِي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابرٍ. خرَّجه الإمام أحمد
(7)
والنسائي في تفسيره. وقيل: إنَّه الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه، فقال تعالى:
(1)
في ش: "منازل".
(2)
سورة الفتح الآية 2.
(3)
سورة المائدة الآية 6.
(4)
أخرجه الترمذي رقم (3527) باب رقم (94) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفي سنده أبو الورد بن ثمامة بن حزن القشيري البصري، لم يوثقه غير ابن حبان، وباقي رجاله ثقات. وكذلك رواه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 231 ولفظه عند الترمذي:"فإنَّ من تمام النعمة دخول الجنة، والفوز من النار".
(5)
أخرجه ابن جرير في تفسيره 9/ 525 - 526.
(6)
تفسير الطبري 9/ 524 - 525.
(7)
مسند أحمد 3/ 327 وانظر تفسير القرطبي 20/ 40.
{وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}
(1)
. وفي المسند
(2)
عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا: "الشاهد يومُ عرفة، والمشهود يوم الجمعة". وخرَّجه الترمذي
(3)
مرفوعًا. ورُوي ذلك عن علي
(4)
من قوله. وخرَّج الطبراني
(5)
من حديث أبي مالك الأشعريّ مرفوعًا: "الشاهدُ يومُ الجمعة، والمشهود يومُ عَرَفَة". وعلى هذا فإذا وقَعَ يومُ عرفة في يوم جمعة فقد اجتمع في ذلك اليوم شاهدٌ ومشهودٌ.
ومنها: أنَّه روي أنَّه أفضل الأيام؛ خرَّجه ابنُ حبَّان في صحيحه
(6)
، من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أفضَلُ الأيام يومُ عَرَفَةَ". وذهب إلى ذلك طائفة من العلماء. ومنهم من قال: يومُ النَّحْر أفضَلُ الأيام؛ لحديث عبد الله بن قُرْطٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"أعظمُ الأيام عندَ اللهِ يومُ النَّحْرِ، ثم يوم القَرِّ". خرَّجه الإمام أحمد
(7)
وأبو داود والنسائي وابنُ حبان في صحيحه، ولفظه: أفضَلُ الأيَّام.
ومنها: أنَّه رُوِي عن أنس بن مالكٍ أنَّه قال: كان يقال: يومُ عرفَةَ بعشرة آلاف يومٍ، يعني في الفضل. وقد ذكرناه في فَضْل العَشْر. ورُوِي عن عطاء، قال: من صام يومَ عرفة كان له كأجر ألفي يوم.
ومنها: أنَّه يومُ الحجِّ الأكبر عند جماعةٍ من السلف، منهم عُمَرُ وغيرُه. وخالفهم آخرون، وقالوا: يومُ الحجِّ الأكبر يومُ. النَّحر. ورُوِي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن صيامَه كفَّارَةُ سنتين، وسنذكر الحديث في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ومنها: أنَّه يومُ مغفرةِ الذنوب والتجاوز عنها، والعِتقِ من النار، والمباهاةِ بأهل الموقف؛ كما في "صحيح مسلم"
(8)
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
(1)
سورة البروج الآية 3.
(2)
مسند أحمد 2/ 298.
(3)
رقم (3336) في التفسير، وقد مضى تخريجه.
(4)
زاد المسير 9/ 71.
(5)
خرجه الطبراني في الكبير 3/ 298، والهندي في "الكنز" برقم (2939) عنه.
(6)
6/ 62 في الوقوف بعرفة والمزدلفة، و (1006) موارد، وقد سبق ذكر الحديث.
(7)
مسند أحمد 4/ 350، و "صحيح الجامع الصغير" برقم (1064). وقد سبق ذكر الحديث وتخريجه.
(8)
رقم (1348) في الحج: باب في فضل الحج والعمرة يوم عرفة، والنسائي 5/ 251 - 252 في الحج: باب ما ذكر في يوم عرفة.
"ما مِن يَوْمٍ أكثَر مِن أن يُعْتِقَ الله فيه عبيدًا من النَّار مِن يوم عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثم يُباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ ". وفي "المسند"
(1)
عن عبد الله بن عمرٍو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن الله تعالى يُباهي ملائكته عشيَّةَ عَرَفَةَ بأهلِ عَرَفَةَ، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شُعْثًا غُبْرًا". وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ الله يُباهي بأهل عرفات، يقول: انظروا إلى عبادى شعثًا غُبرًا". وخرَّجه ابنُ حبان في "صحيحه"
(2)
.
وخرَّج فيه أيضًا
(3)
من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ما من يوم أفضلُ عند الله من يوم عَرَفَة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السَّماء الدنيا فيُباهي بأهل الأرض أهلَ السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غُبرًا ضاحين، جاؤوا من كُلِّ فجٍّ عميقٍ، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُرَ أكثرُ عتيقًا من النَّار مِن يوم عَرَفَةَ". وخرَّجه ابن منده في "كتاب التوحيد" ولفظُه: "إذا كان يوم عَرَفةَ ينزِلُ الله إلى سماء الدنيا فيُباهي بهم الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أَتَوْني شُعْثًا غُبرًا مِن كُل فَجٍّ عميقٍ، أُشهدُكُمْ أنِّي قد غَفَرْتُ لهم. فتقول الملائكة: يا رَبّ، فلان مُرَهَّقٌ
(4)
، فيقول: قد غفَرْتُ لهم. فما من يومٍ أكثر عتيقًا من النار من يَوْم عرفة"
(5)
. وقال: إسنادٌ حسن متصل، انتهى. ورويناه من وجهٍ آخر بزيادةٍ فيه، وهي "أُشْهِدُكُم يا عبادي أنِّي قد غَفَرْتُ لمحسنهم، وتجاوزت عن مسيئهم"
(6)
. ورويناه من رواية إسماعيل بن رافع، وفيه
(1)
مسند أحمد 3/ 224، و "الترغيب" 2/ 204. قال المنذري:"رواه أحمد والطبراني في الكبير والصغير، وإسناد أحمد لا بأس به".
(2)
مسند أحمد 2/ 305، وصحيح ابن حبان 6/ 61 و (1007) موارد، و "الترغيب" 2/ 188 و 204؛ قال المنذري:"رواه أحمد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما".
(3)
صحيح ابن حبان 6/ 62 و (1006) موارد، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 253. وقال:"رواه أبو يعلى وفيه محمد بن مروان العقيلي، وثقه ابن معين وابن حبان، وفيه بعض كلام، ولقية رجاله رجال الصحيح. وانظر "الترغيب، 2/ 200 - 201 وقد سبق ذكر الحديث.
(4)
مُرَهَّق: أي متّهم بسوء وسفه.
(5)
أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" 4/ 263 في المناسك: باب تباهي الله أهل السماء بأهل عرفات، والبغوي في مصابيح السنة 2/ 254، والهندي في "الكنز" 5/ 71 برقم (12102) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في فضل عشر ذي الحجة، الحجة، والبزار، وابن خزيمة، وقاسم بن أصبغ في مسنده، ومصنف عبد الرزاق وابن عساكر، عن جابر.
(6)
انظر "كنز العمال" 5/ 70 - 71.
مقالٌ، عن أنسٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "يهبِطُ إله إلى السماء الدنيا عشيَّة عرفة، ثم يباهي بكم
(1)
الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثًا مِن كُلِّ فَجٍّ عميقٍ، يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانت ذنوبهم كعدد الرَّمْل لغفرْتُها؛ أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم فيه"
(2)
.
وخرَّجه البزار
(3)
في "مسنده" بمعناه، من حديث مجاهدٍ عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا نعلم له طريقًا أحسَنَ من هذا الطريق. وخرَّجه الطبراني وغيرُه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم مختصرًا. ورويناه من طريق الوليد بن مسلم، قال: أخبرني أبو بكر بن أبي مريم، عن الأشياخ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يدنو إلى السَّماء الدنيا عشيَّةَ غرَفَة، فيُقْبِلُ على ملائكته، فيقول: ألا إنَّ لكُلِّ وفدٍ جائزةً، وهؤلاء وفدي شُعْثًا غُبرًا، أعطوهم ما سألوا، وأخلِفوا لهم ما أنفقوا. حتى إذا كان عند غروب الشمس أقبَلَ عليهم، فقال: ألا إنِّي قد وَهَبْتُ مسيئَكم لمحسنكم، وأعطيتُ محسنَكُم ما سأل، أفيضُوا بسم الله".
وروى إبراهيم بنُ الحكم بن أبان، حدثنا أي، حدثنا فَرْقَد، قال: إنَّ أبواب السماء تفتح كُلِّ ليلةٍ ثلاث مرات، وفي ليلة الجمعة سبع مرات، وفي ليلة عرفة تسع مرات. وروينا من طريق نُفيْع
(4)
أبي داود، عن ابن عمر مرفوعًا وموقوفًا: "إذا كان عشية يوم غرفة لم يبقَ أحدٌ في قلبه مثقال ذرَّةٍ منٍ إيمانٍ إلَّا غُفِر له. قيل له: أللمُعَرَّفِ
(5)
خاصَّةً أم للناس عامَّةً؟ قال: بل للناس عامَّةً".
وخرَّج مالك في "الموطأ"
(6)
من مراسيل طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "ما رؤي الشيطانُ يومًا هو فيه أَصْغَرُ، ولا أَدْحَرُ ولا أَحْقَرُ، ولا أغيَظُ
(1)
في آ، ع:"بهم".
(2)
أخرجه الهندي في "كنز العمال" 5/ 71 - 72 وعزاه إلى ابن عساكر، في حديث أنس.
(3)
انظر "كنز العمال" 5/ 71.
(4)
في ش، ع:"نفيع بن أبي داود". وهو نُفَيع بن الحارث، أبو داود الأعمى، مشهور بكنيته، كوفي، ويقال له: نافع، متروك، وقد كذبه ابن معين. (التقريب 2/ 306).
(5)
المُعَرَّف: أي الموقف بعرفات، وعرَّف القوم: وقفوا بعرفة.
(6)
الموطأ - مرسلًا - 1/ 422 في الحج: باب جامع الحج، قال الزرقاني في "شرح الموطأ": وصله الحاكم في المستدرك عن أبي الدرداء. والدَّحْر: الطرد والإبعاد.
منه يومَ عرفة، وما ذاك إلا لما يُرَى من تَنَزُّل الرحمة، وتجاوزِ اللهِ عن الذُّنوب العِظام، إلَّا ما رؤي يومَ بدرٍ. قيل
(1)
: وما رؤي يوم بدر؟ قال: رأى جبريل عليه السلام وهو يَزَعُ الملائكة".
وروى أبو عثمان الصَّابوني
(2)
بإسنادٍ له عن رجلٍ كان أسيرًا ببلاد الروم، فهرب من بعض الحصون، قال: فكنْتُ أسيرُ بالليل وأكمُنُ بالنَّهار، فبينا أنا ذات ليلةٍ أمشي بين جبال وأشجارٍ إذا أنا بحسٍّ، فراعني ذلك، فنظرْتُ فإذا راكبُ بعيرٍ، فازددت رُعْبًا، وذلك أنَّه لا يكون ببلاد الروم بعير، فقلت: سبحان الله! في بلاد الروم راكبُ بعيرٍ، إنَّ هذا لعجب
(3)
. فلمَّا انتهى إليَّ قلْتُ: يا عبدَ الله! من أنت؟ قال: لا تسأل. قلت: إنِّي أرى عجبًا، فأخبرني. فقال: لا تسأل. فأبيْتُ عليه، فقال: أنا إبليس، وهذا وجهي من عرفات، وافقتهم
(4)
عشيَّة اليوم أطلِعُ عليهم، فنزلَتْ عليهم الرحمة والمغفرة، ووُهِبَ بعضُهم لبعض، فداخلني الهمُّ والحزنُ والكآبة؛ وهذا وجهي إلى قسطنطيَّة أنفرج
(5)
بما أسمعُ من الشرك بالله وادِّعاء أنَّ له ولدًا. فقلْتُ: أعوذ بالله منك. فلمَّا قلْتُ هذه الكلمات لم أرَ أحدًا.
ويشهد لهذه الحكاية حديثُ عبَّاس بن مرداس الذي خرَّجه أحمد وابنُ ماجة
(6)
في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمَّته عشيَّة عَرَفَة، ثم بالمزدلِفَةِ، فأجيبَ فضحِكَ صلى الله عليه وسلم، وقال:"إنَّ إبليسَ حين عَلِمَ أن الله قد غَفَرَ لأمتي واستجاب دعائي أهْوَى يحثي التراب على رأسِه، ويدعو بالوَيلِ والثُّبُور؛ فضحكْتُ من الخبيث مِن جَزَعِه".
ويُروى عن علي بن الموفق أنَّه وقف بعرفة في بعض حجَّاته، فرأى كثرة الناس،
(1)
قوله: "قيل: وما رؤي يوم بدر" لم يرد في آ، ش.
(2)
هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد، أبو عثمان الصابوني، النيسابوري، الحافظ، الواعظ، المفسر، شيخ الإسلام، قدم دمشق حاجًّا سنة 432 هـ، وحدَّث بها، وعقد مجلس التذكير، روى عن جماعة، وروى عنه جماعة كثيرة من أهل نيسابور وغيرهم، توفي سنة 449 هـ. (مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور 4/ 260، سير أعلام النبلاء 18/ 40).
(3)
في آ، ب:"لعجبًا".
(4)
في ط: "رافقتهم".
(5)
في آ: "أتفرج"، وفي ش، ع:"أفرح".
(6)
جزء من حديث طويل رواه ابن ماجة رقم (3013) في المناسك: باب الدعاء بعرفة.
قال البوصيري: في إسناده عبد الله بن كنانة، قال البخاري: لم يصح حديثه. ولم أر من تكلم فيه بجرح ولا توثيق. وانظر "الترغيب" 2/ 202.
فقال: اللهم، إن كنتَ لم تتقبَّلْ
(1)
منهم أحدًا فقد وهبته حجّتي. فرأى ربَّ العِزَّة في منامه، وقال له: يا ابنَ الموفق! أتتسخَّى عليَّ؟ قد غَفَرْتُ لأهل الموقف ولأمثالهم، وشفعت كُلَّ واحدٍ منهم في أهلِ بيته وذريته وعشيرته، وأنا أهلُ التقوى وأهلُ المغفرة
(2)
. ويُروى نحوُه عن غيره أيضًا من الشيوخ. فمن طمِع في العِتْق من النار ومغفرة ذنوبِه في يوم عرفة، فلْيُحَافِظْ على الأسباب التي يُرجى بها العِتْقُ والمغفرة.
فمنها: صيامُ ذلك اليوم؛ ففي صحيح مسلم
(3)
عن أبي قَتَادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"صيامُ يومِ عَرَفَةَ؛ أحتَسِبُ على الله أن يكفَّرَ السَّنَةَ التي قبلَه والتي بعده".
ومنها: حفظُ جوارحه عن المحرَّمات في ذلك اليوم؛ ففي مسند الإمام أحمد
(4)
، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"يومُ عَرَفَةَ، هذا يومٌ مَن ملَكَ فيه سمعَهُ وبصَرَه ولسانَه غُفِر له".
ومنها: الإكثارُ مِن شَهادة التوحيد بإخلاص وصدقٍ؛ فإنَّها أصلُ دِين الإسلام الذي أكمله الله تعالى في ذلك اليوم، وأساسُهُ. وفي "المسند"
(5)
عن عبد الله بن عمرو، قال: كان أكثرُ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: "لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، بيدِه الخيرُ، وهو على كُلِّ شيءٍ قدير". وخرَّجه الترمذي
(6)
،
(1)
في آ، ش، ع:"نقبل".
(2)
صفة الصفوة 2/ 387.
(3)
جزء من حديث طويل رواه مسلم رقم (1162) في الصيام: باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأبو داود رقم (2425) في الصوم: باب في صوم الدهر تطوعًا.
(4)
مسند أحمد 1/ 329، وذكره الهيثي في "مجمع الزوائد" 3/ 251، وقال:"رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير، وقال: كان الفضل بن عباس رديف، ورجال أحمد ثقات". وانظر معجم الطبراني 18/ 289، والفتح 4/ 70، وكنز العمال 5/ 68.
(5)
رواه أحمد في "المسند" 2/ 210 عن عبد الله بن عمرو، وقد تحرفت في المطبوع إلى "عبد الله بن عمر". وفي سنده محمد بن أبي حميد الأنصاري الزرقي، لقبه "حماد"، وهو ضعيف، ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي وغيرهم، وقال أحمد: أحاديثه مناكير. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 252 وقال: "رواه أحمد، ورجاله موثوقون". وانظر "كنز العمال" 7/ 92.
(6)
رقم (3585) في الدعوات، باب رقم (123) في دعاء يوم عرفة. قال الترمذي: حديث غريب، وحمَّاد بن أبي حميد: هو محمد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم الأنصاري المدني، وليس بالقوي عند أهل الحديث. وانظر "الترغيب" 2/ 419، و"مشكاة المصابيح" 2/ 797؛ قال محققه الألباني: "وحسنه - أي الترمذي - في بعض الروايات عنه، وهو كما قال باعتبار شاهده الذي بعده، وهو مرسل، صحيح الإسناد.
ولفظُه "خيرُ الدُّعاءِ دُعاءُ يومِ عَرَفَة، وخيرُ ما قلْتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له المَلك وله الحمد، وهو على كُلِّ شيءٍ قدير". وخرَّجه الطبراني
(1)
من حديث عليٍّ وابن عُمَر مرفوعًا أيضًا.
وخرَّج الإمام أحمد
(2)
من حديث الزبير بن العوام، قال: سمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ}
(3)
. الآية، ويقول:"وأنا على ذلك من الشاهدين، يا رَبّ". ويُروى من حديث عُبادَةَ بن الصامت، قال: شهِدْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يومَ عرفة، فكان أكثَرُ قوله {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، الآية. ثم قال: أي رب! وأنا أشهَدُ. فتحقيقُ كلمة التوحيد يوجبُ العِتْقَ من النار، فإنَّها تعدل عتق الرِّقاب، وعتقُ الرقاب يوجبُ العِتق من النار.
كما ثبت في الصحيح، أن من قالها مائة مرَّة كانت له عِدْلَ عَشْرِ رقابٍ. وثبَتَ أيضًا أن من قالها عَشْرَ مرات كان كمن أعتق أربعةً من ولد إسماعيلَ.
وفي سنن أبي داود
(4)
، وغيره عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"مَن قال حين يُصْبِحُ أو يُمسي: اللهمَّ إنِّي أَصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وملائكتَكَ وَجَميعَ خَلْقِكَ أنك أنتَ الله لا إله إلَّا أنت وأنَّ محمدًا عبدُكَ ورسولُك، أعتقَ الله رُبُعَهُ مِن النَّار، ومن قالها. مَرَّتين أعتَقَ الله نِصْفَه من النار، ومن قالها ثلاث مرات أَعْتَقَ الله ثلاثة أرباعه من النَّار، ومن قالها أربع مرار أعتقَهُ اللهُ مِن النار". ويُروى من مراسيل الزُّهري: "من قال في يومٍ عشرة آلاف مرَّة لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له أعتقَهُ الله من النار". كما أنَّه لو جاء بديةِ من قتله عشرةَ آلافٍ قُبلت منه.
ومنها: أن يُعتِقَ رقبةً إن أمكنه؛ فإنَّ مَن أعتَقَ رقبة مؤمنة أعتَقَ الله بكُلِّ عضوٍ منها
(1)
انظر "الإتحاف" للزبيدي 4/ 373 - 374.
(2)
مسند أحمد 1/ 166، قال الشيخ أحمد شاكر:"إسناده ضعيف، فيه مجاهيل. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 6/ 325 وقال: "رواه أحمد والطبراني، و"في أسانيدهما مجاهيل". وانظر تفسير ابن كثير 2/ 21 (ط. دار الأندلس).
(3)
سورة آل عمران الآية 18.
(4)
رواه أبو داود رقم (5069) في الأدب: باب ما يقول إذا أصبح، والترمذي رقم (3495) في الدعوات، باب رقم (81)، وهو حديث حسن بشواهده.
عُضوًا منه من النار. كان حكيم بن حِزام
(1)
رضي الله عنه يقِفُ بعَرَفَةَ ومعه مائة بَدَنةٍ مقلَّدة، ومائة رقبة، فيعتق رقيقَه، فيضجُّ الناس بالبكاءِ والدُّعاء، ويقولون: ربَّنا، هذا عبدُك قد أعتَقَ عبيدَه، ونحن عبيدُك فاعتقنا. وجَرَى للناس مرَّةً مع الرشيد نحو هذا. وكان أبو قلابة يُعتِقُ جاريةً في عيد الفطر يرجو أن يُعتَقَ بذلك من النار.
ومنها: كثرةُ الدُّعاء بالمغفرة والعِتق؛ فإنَّه يُرجى إجابةُ الدُّعاء فيه. روى ابنُ أبي الدنيا بإسناده عن علي، قال: ليس في الأرض يومُ إلَّا لله فيه عتقاءُ مِن النار، وليس يومٌ أكثَرُ فيه عِتقًا للرقاب من يوم عرفة. فأكثِر فيه أن تقول: اللهم أعتِق رقبتي من النار، وأوسع لي من الرزق الحلال، واصرف عنِّي فسَقَةَ الجِنِّ والإنس، فإنَّه عامَّةُ دعائي اليوم. وليحذَرْ من الذُّنوب التي تمنع المغفرة فيه والعتق:
فمنها: الاختيال؛ روينا من حديث جابرٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ما يُرى يوم أكثر عتيقًا ولا عتيقةٌ من يوم عرفة، لا يغفر الله فيه لمختالٍ". وخرَّجه البزار والطبراني وغيرُهما. والمختال: هو المتعاظِم في نفسه المتكبِّر، قال الله تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
(2)
. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله لا ينظر إلى مَن جَرَّ ثوبه خُيلا"
(3)
.
ومنها: الإصرار على الكبائر، روى جعفر السراج بإسناده، عن يونس بن عبد الأعلى، أنَّه حَجَّ سنةً فرأى أميرُ الحاج في منامِه أن الله قد غفر لأهل الموسم سِوَى رجل فَسَقَ بغلامٍ، فأمر بالنداء بذلك في الموسم. وروى ابن أبي الدنيا
(4)
وغيرُه أن رجلًا رأى في منامه أن الله قد غفر لأهل الموقف كلِّهم، إلَّا رجلًا من أهل
(1)
حكيم بن حِزام بن خويلد بن أسد بن عبد العُزَّى الأصدي، أبو خمالد المكي، ابن أخي خديجة أم المؤمنين، أسلم يوم الفتح، وصحب وله أربع وسبعون سنة، ثم عاش إلى سنة 54 هـ أو بعدها، وكان عالمًا بالنسب، ومن سادات قريش في الجاهلية والإسلام. (سير أعلام النبلاء 3/ 44).
(2)
سورة الحديد الآية 23.
(3)
أخرجه البخاري في "صحيحه" 10/ 258 في اللباس: باب من جر ثوبه من الخيلاء، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ جَرَّ ثوبَه خُيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، إنَّ إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لست ممن يفعله خيلاء". والخيلاء: العجب والكبر.
(4)
أخرجه ابن أبي الدنيا في كتابه "ذم المسكر" الفقرة (57). وقد قمت بتحقيقه وطبعه.
بَلْخ، فسأل عنه حتى وقع عليه، فسأله عن حاله، فذكر أنَّه كان مدمنًا لشرب الخمر، فجاء ليلةً وهو سكران، فعاتبتْه أمُّهُ وهي تسجُرُ تنورًا، فاحتمَلَها فألقاها فيه حتى احترقت.
يا مَن يطمَعُ في العتق من النار ثم يمنعُ نفسَه الرحمةَ بالإصرار على كبائر الإثم والأوزار! تاللهِ ما نصحْتَ نفسَكَ، ولا وقَفَ في طريقك غيرُك، توبقُ
(1)
نفسَك بالمعاصي، فإذا حُرمت المغفرةَ قلْتَ أنَّى هذا؟ قُلْ هو من عند أنفسكم.
فنفسَكَ لُمْ ولا تَلُمِ المطَايا
…
ومُتْ كَمَدًا فليسَ لَكَ اعْتِذارُ
إن كنت تطمع في العِتق فاشْتر نفسَكَ من الله، فـ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}
(2)
. مَن كَرُمَتْ عليه نفسُه هان عليه كُلُّ ما يبذُل في افتكاكِها من النار.
اشترى بعضُ السَّلف نفسَه مِن الله ثلاث مرار أو أربعًا؛ يتصدَّق كُلَّ مرَّةٍ بوزن نفسِه فضة.
واشترى عامر بن عبد الله بن الزبير
(3)
نفسَه من الله بديته ستَ
(4)
مرات تصدَّق بها. واشترى حبيب العجمي نفسَه من الله بأربعين ألف درهم تصدَّق بها. وكان أبو هريرة يسبِّح كُلَّ يومٍ اثنتي عشر ألف تسبيحة بقدر دِيته يَفْتَكُّ بذلك نفسَه.
بِدَمِ المحبِّ يُباعُ وصلُهُمُ
…
فَمَن الذي يَبتاع في الثمن
من عرف ما يطلُب هان عليه كُلُّ ما يبذُل. ويحك! قد رضينا منك في فكاك نفسِك بالنَّدم، وقنعنا منك في ثمنها بالتوبة والحزن. وفي هذا الموسم قد رخُصَ السِّعر، من ملَكَ سمعَه وبصرَه ولسانَه غُفِرَ له. مُدَّ إليه يدَ الاعتذار، وقُمْ على بابه بالذُّلِّ والانكسار، وارفع قصَّةَ ندمِك مرقومةً على صحيفةِ خدِّك بمداد الدُّموع الغِزار،
(1)
في آ: "توثق".
(2)
سورة التوبة الآية 111.
(3)
عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام، أبو الحارث الأسدي المدني، أحد العبَّاد. ثقة، مات سنة 124 هـ. (صفة الصفوة 2/ 130، سير أعلام النبلاء 5/ 219).
(4)
في صفة الصفوة: "بتسع ديات".
(1)
. قال يحيى بن معاذ: العبدُ يوحِشُ فيما بينه وبين سيده بالمخالفات، ولا يُفارق بابه بحالٍ؛ لعلمه بأنَّ عِزَّ العبيد. في ظِلِّ مواليهم. وأنشأ يقول:
قُرَّةَ عيني لا بدَّ لي
(2)
منك وإن
…
أَوْحَشَ بيني وبينك الزَّلَلُ
قرَّة عيني أنا الغريقُ فخُذْ
…
كفَّ غريقٍ عليكَ يتَّكِلُ
كانت أحوال الصَّادقين في الموقف بعرفة تتنوَّع؛ فمنهم من كان يغلِبُ عليه الخوفُ أو الحياءُ. وقف مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، وبكر المزني، بِعَرَفَة، فقال أحدُهما: اللهم، لا تردَّ أهلَ الموقف من أجلي. وقال الآخر: ما أشرفَهُ مِن مَوْقفٍ وأرجَاهُ لأهله، لولا أنِّي فيهم! وقف الفُضيل بعرفة والناسُ يدعون وهو يبكي بكاء الثَّكْلَى المحترِقة، قد حال البكاءُ بينه وبين الدعاء، فلمَّا كادت الشمس أن تغربَ رفَعَ رأسَه إلى السماء، وقال: واسوءتاه منكَ وإن عفوتَ
(3)
!. وقال الفُضَيل أيضًا لشعيب بن حرب بالموسم: إن كنتَ تظنُّ أنَّه شهدَ الموقفَ أحدٌ شرًّا منِّي ومنك فبئس ما ظننت. دعا بعضُ العارفين بعرفة، فقال: اللهم، إن كنتَ لم تقبَلْ حجِّي وتعبِي ونَصَبِي فلا تحرمني أجْرَ المصيبة على تركك القبولَ منِّي. وقَفَ بعضُ الخائفين بعرفة إلى أن قرب غُروب الشمس، فنادى: الأمانَ الأمانَ، قد دنا الانصراف، فليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين!
وإنِّي مِن خَوفِكُم والرَّجا
…
أَرَى الموْتَ والعيشَ فيكم عِيانا
فَمُنُّوا على تائبٍ خائفٍ
…
أتاكُم يُنادِي الأمانَ الأَمانا
إذا طلبَ الأسيرُ الأمانَ من الملكِ الكريم أمَّنَه.
الأمان الأمانَ وِزْرِي ثَقيلُ
…
وَذُنُوبي إذا عُدِدْن
(4)
تطُولُ
أوبقتْنِي وأوثقتْنِي ذنُوبي
…
فترَى لي إلى الخلاص سبيلُ؟
(1)
سورة الأعراف الآية 23.
(2)
لفظ "لي" لم يرد في ب.
(3)
في آ، ش:"غفرت".
(4)
في آ، ش، ع:"عددت".
وقف بعضُ العارفين
(1)
الخائفين بعَرَفَة، فمَنَعَه الحياءُ من الدُّعاء، فقيل له: لِم لا تدعو؟ فقال: ثَمَّ وحْشَةٌ. فقيل له: هذا يومُ العفو عن الذُّنوب، فبسَطَ يديه ووقع ميتًا.
حَدَا
(2)
بها الحادِي إلى نعمانِ
…
فاستذكَرَتْ عَهْدًا لها بالبَانِ
فسالَتِ الرُّوحُ مِنَ الأَجْفانِ
…
تشوُّقًا إلى الزمان الفاني
غيره
(3)
:
قد لجَّ بِيَ الغَرَامُ حتَّى قالوا
…
قد جُنَّ بهم
(4)
وهكذا البَلْبَالُ
الموتُ إذا رضيته سلْسَالُ
…
في مثل هَوَاك ترخُصُ الآجالُ
وقفَ بعضُ الخائفين بعرفات، وقال: إلهي! النَّاسُ يتقرَّبون إليك بالبُدْن، وأنا أتقرَّب إليك بنفسي، ثم خرَّ ميتًا.
للناس حجٌّ وَلِي حَجٌّ إلى سَكَنِي
…
تُهدَى الأضاحي وأهدِي مهجتي ودمي
ما يرضَى المحبُّون لمحبوبهم بإراقة دماء الهدايا، وإنما يُهدون له الأرواح.
أرَى مَوْسِمَ الأعياد أنسَ الأجانب
(5)
…
وما العيدُ عندي غير قُرب الحبائبِ
إذا قرَّبوا بُدْنًا فَقُرْبانيَ الهَوَى
…
فإنْ قَبِلوا قَلْبِي وإلَّا فقالَبِي
وَمَا بَدَمِ الأنعامِ أَقْضِي حُقُوقَهُمْ
…
ولكن بما بينَ الحَشا والتَّرائبِ
كان أبو عُبيدةَ الخوَّاص
(6)
قد غلَب عليه الشوقُ والقلقُ حتى يضرِبَ على صدره في الطريق
(7)
، ويقول: وَاشَوْقَاه إلى مَن يراني ولا أراه. وكان بعدما كبُر يأخُذُ بلحيته ويقول: ياربّ، قد كبُرْتُ فأعتقني. ورؤي بعرفة وقد وَلِعَ به الولَهُ وهو يقول:
(1)
لفظ "العارفين" لم يرد في ب، ط.
(2)
في ب، ط:"جُزْأيها الحادي .. ". وحَدا الإبل: زجرها خلفها وساقها.
(3)
لفظ "غيره" لم يرد في آ، ش، ع.
(4)
في ع: "به"، وفي ط:"فيهم".
(5)
في ب، ط "الحبائب".
(6)
واسمه عبَّاد بن عبَّاد، واشتهر بأبي عُبيدة، وإنما هو أبو عُتبة، كذلك ذكره البخاري وغيره. والخبر مع الأبيات في "صفة الصفوة" 4/ 275 - 276.
(7)
في آ، ش:"الطرق".
سُبْحانَ مَن لو سجدْنا بالعيون لَهُ
…
على حِمَى
(1)
الشَّوْكِ والمُحْمَى من الإبَر
لم نَبْلُغ العُشْرَ مِن مِعْشَارِ نِعْمَتِه
…
ولا العُشَيْرَ ولا عُشْرًا من العُشَر
هو الرفيعُ فَلَا الأبْصَارُ تُدْرِكُه
…
سُبْحانَهُ مِن مليكٍ نافِذِ القَدَرِ
سبحانَ مَن هُو أُنسِي إذْ خَلَوْتُ به
…
في جَوْف ليلي
(2)
وفي الظَّلماء والسَّحَرِ
أنتَ الحبيبُ وأنتَ الحِبُّ
(3)
يا أَمَلِي
…
مَن لي سِواك ومن أرجُوه يا ذُخرِي
ومن العارفين من كان في الموقف يتعلَّق بأذيال الرجاء؛ قال ابنُ المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشيَّة عرَفَةَ، وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه تهمُلان، فالتفت
(4)
إليَّ، فقلت له: من أسوأُ هذا الجمع حالًا؟ قال: الذي يظنُّ أن الله لا يغفر لهم. ورُوي عن الفُضَيل أنَّه نظر إلى نشيج
(5)
الناس وبكائهم عشيَّة عرَفَةَ، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجلٍ فسألوه دانِقًا، يعني سدسَ درهم، أكان يردُّهم؟ قالوا: لا. قال: والله، لَلْمغفرةُ عندَ الله أهوَنُ من إجابة رجلٍ لهم بدانِقٍ.
وإنِّي لأدعو الله أسألُ
(6)
عَفْوَه
…
وأعلَمُ أن الله يعفُو ويغفِرُ
لَئِنْ أعظَمَ النَّاسُ الذُّنوبَ فإنها
…
وإنْ عظُمَتْ في رحمةِ اللهِ تصغُرُ
وعمَّا قليل يقف إخوانكم بعرفة في ذلك الموقف، فهنيئًا لمن رُزِقَهُ، يجأرون إلى الله بقلوبٍ محترقةٍ، ودموع مستبقةٍ؛ فكم فيهم من خائفٍ أزعجَهُ الخوفُ وأقلَقَه، ومحبٍّ ألهبَهُ الشَّوقُ وأحرقَهُ، وراجٍ أحسَنَ الظَّنَّ بوعدِ الله وصَدَّقه، وتائبٍ نَصَحَ لله في التَّوبة وصَدَقَه، وهاربٍ لجأ إلى باب الله وطَرَقَه؛ فكم هنالِك من مستوجبٍ للنار أنقذَه الله وأعتقه، ومن أسيرٍ
(7)
للأوزار فكَّه وأطلَقَه. وحينئذ يطَّلع عليهم أرحَمُ الرُّحماء، ويُباهِي بجمعهم أهلَ السَّماء، ويدنو ثم يقول: ما أراد هؤلاء؟ لقد قطعنا عندَ وصولهم الحرمان
(8)
، وأعطاهم نهاية سؤلهم الرحمان، هو الذي أعطَى وَمنَع، ووَصَلَ وقطَع.
(1)
في ش وصفة الصفوة: "شَبَا".
(2)
في آ: "ليلٍ".
(3)
الحِبُّ، بكسر الحاء: المحبوب.
(4)
قوله: "فالتفت إليّ" لم يرد في ب، ط.
(5)
في ش: "ضجيج"، وفي ط:"تسبيح". والنشيج: أشدّ البكاء.
(6)
في ب، ط:"أطلب".
(7)
في ش: "أسير موثق بالأوزار".
(8)
بعدها في آ، ش، ع:"ومنعنا".
ما أصنَعُ هكذا جَرَى المقدور
…
الجبر لغيري وأنا المكسور
(1)
أسير ذنبٍ مقيد ما سور
…
هل يمكن أن يُبْدَلَ المسطور
(2)
من فاته في هذا العام القيامُ بعرَفَةَ فلْيقُمْ لله بحقِّه الذي عرفَه. من عجِزَ عن المبيت بمزدلفة فليبتَّ عزمه على طاعة الله، وقد قرَّبه وأَزْلَفَه. من لم يمكنه القيام بأرجاء الخَيْفِ، فليقمْ للهِ بحقِّ الرجاءِ والخوف. من لم يقدر على نَحْر هَدْيه بمنىً فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنى. من لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد ربَّ البيت؛ فإنَّه أقرَبُ إلى من دعاه ورجاه من حَبْل الوريد.
نفحت في هذه الأيام نَفْحَة من نَفَحاتِ الأنس من رياض القدس على كُل قلبٍ أجاب إلى ما دُعي. يا هممَ العارفين، بغير الله لا تقنعي. يا عزائمَ الناسكين، لجميع أَنْساك السالكين أجْمعي، لِحُبِّ مولاك افردي، وبين خوفِه ورجائه اقرني، وبذكره تمتعي
(3)
.
يا أسرارَ المحبين، بكعبة الحُبِّ طُوفي وارْكعِي، وبين صفاء الصفا ومروة المروةِ اسْعِي وأسرِعي، وفي عرفات العرفان
(4)
قفي وتضرّعي، ثم إلى مزدلفة الزُّلْفَى فادْفعي، ثم إلى مِنىً نيل المنى فارجعي. فإذا قُرِّب
(5)
القرابين فقرِّبي الأرواح ولا تمنعي؛ لقد وضح اليوم الطريق، ولكن قَلَّ السَّالك
(6)
على التحقيق وكثر المدَّعِي.
لئن لم أحجَّ البيتَ إذْ شَطَّ
(7)
رَبْعُهُ
…
حَجَجْتُ إلى مَنْ لا يَغيبُ عن الذِّكْر
فأحْرَمْتُ مِن وقتِي بخَلْعِ نقائصي
(8)
…
أطوفُ وأسْعَى في اللطائف والبِرِّ
صفايَ صفائي عن صفاتي ومَرْوَتي
…
مروءة قلبٍ عن سِوى حُبِّه قَفْرِ
(9)
وفي عرفات الأُنس بالله موقفي
…
ومُزْدَلفي الزُّلْفَى لَدَيْهِ إلى الحَشْرِ
وَبتَّ المُنَى منِّي مَبيتي في منى
…
وَرَمْيُ جِمارِي جَمْرُ شَوقيَ في صَدْرِي
(1)
في آ، ش:"المهجور".
(2)
لم يرد هذا البيت في آ، ش.
(3)
اقتبسها مني وجوه أداء الحج، وهي التمتع والإقران والقِران.
(4)
في ب، ط:"الغرفات".
(5)
في ش، ع:"تربوا".
(6)
في آ: "السَّالكون".
(7)
في ب، ط:"أو شَطَّ".
(8)
في آ، ش، ع:"شمائلِي".
(9)
في ب، ع، ط:"فَقْر".
وإشعارُ هَدْي ذَبْحُ نفسي بقهرها
…
وحَلْقي بمحق
(1)
الكائنات عن السِّرِّ
وَمَن رَامَ نَفْرًا بعدَ نُسْكٍ فإنَّني
…
مُقِيمٌ على نُسْكِي حَيَاتي بلا نَفْرِ
* * *
المجلس الثالث في أيام التشريق
خرَّج مسلم في "صحيحه"
(2)
من حديث نُبَيْشَةَ الهُذَلي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أَيَّامُ مِنىً
(3)
أيَّامُ أكلٍ وشُرْبٍ، وذِكْرِ الله عز وجل". وخرَّجه أهل السُّنن والمسانيد من طرقٍ متعددةٍ
(4)
عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في أيَّام منىً مناديًا ينادِي: "لا تصوموا هذه الأيام؛ فإنَّها أيام أكْلٍ وشرْبٍ وذِكْرٍ اللُهِ عز وجل". وفي رواية للنسائي
(5)
: "أيَّامُ أكلٍ وشربٍ وصلاةٍ". وفي روَاية للدَّارقطني
(6)
بإسنادٍ فيه ضعفٌ: "أيَّام أَكْلٍ وشُرْبٍ وَبِعَال"
(7)
. وفي رواية للإمام أحمد
(8)
: "مَن كان صائمًا فليفطر؛ فإنَّها أيامُ أكْلٍ وشرْبٍ". وفي رواية "إنها ليسَتْ أيَّامُ صيامٍ".
أيَّام
(9)
مِنىً هي الأيَّام المعدودات التي قال الله عز وجل فيها: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}
(10)
. وهي ثلاثة أيامٍ بعدَ يوم النَّحْر، وهي أيَّام التشريق، هذا قولُ ابن عمر وأكثرِ العلماء. ورُوِي عن ابن عباس وعطاءٍ أنَّها أربعةُ أيامٍ: يومُ النَّحْر، وثلاثةُ أيَّام بعدَه، وسمَّاها عطاء أيَّامَ التشريق؛ والأوَّل أظهر.
(1)
في ب، ط:"وخلْعي بمحو".
(2)
رقم (1141) في الصيام: باب تحريم صوم أيام التشريق.
(3)
في مسلم: "أيام التشريق".
(4)
انظر هذه الطرق في "جامع الأصول" 6/ 347 - 350.
(5)
النسائي 5/ 252 في المناسك: باب النهي عن صوم يوم عرفة.
(6)
سنن الدارقطني 2/ 187 وفيه: "أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل". وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 203 بلفظا فإنها أيام أكل وشرب وبعال"، وقال: "رواه الطبراني في الكبير".
(7)
البِعال: النكاح وملاعبة الرجل أهله. والمباعلة: المباشرة. (النهاية 1/ 141).
(8)
مسند أحمد 5/ 224، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 203 عن حبيبة بنت شريق، وقال:"رواه أحمد والطبراني في الأوسط، إلا أنَّه قال: إنها كانت مع أمها العجماء، وفي إسناد أحمد رجل لم يسم". وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 1/ 250، وليس على شرطهما، كما أخرجه الحافظ ابن حجر في "الإصابة" 4/ 271 ترجمة حبيبة بنت شريق.
(9)
في آ، ش:"فأيام مِنىً".
(10)
سورة البقرة الآية 203.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيَّام مِنىً ثلاثة، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}
(1)
. خرَّجه أهلُ السُّنن الأربعة
(2)
من حديث عبد الرحمن بن يَعْمَر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا صريح في أنها أيام التشريق. وأفضلُها أولُها، وهو يوم القَرِّ؛ لأنَّ أهلَ مِنىً يستقرّون فيه، ولا يجوز فيه النّفر. وفي حديث عبد الله بن قُرْط عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أعظمُ الأيَّام عند اللّه يومُ النَّحْر، ثم يوم القَر"
(3)
. وقد رُوِي عن سعيد بن المسيّب أن يومَ الحجِّ الأكبرِ هو يومُ القَرِّ، وهو غريبٌ. ثم يوم النَّفْر الأَوَّل، وهو أوسَطُها. ثم يوم النَّفْر الثاني، وهو آخرها. قال الله تعالى:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1). قال كثيرٌ من السَّلف: يريد أن المتعجِّل والمتأخِّر يُغفَر له ويَذهبُ عنه الإِثم الذي كان عليه قبل حجِّه، إذا حجَّ فلم يرفُثْ ولم يَفْسُقْ، ورَجَعَ من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه. ولهذا قال تعالى:{لِمَنِ اتَّقَى} ، فتكون التقوى شَرْطًا لذهاب الإِثم على هذا التقدير، وتصير الآية دالَّةً على ما صرَّح به قولُ النبي صلى الله عليه وسلم:"مَن حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رَجَعَ مِن ذُنوبه كيوم وَلَدَتْهُ أمُّه"
(4)
.
وقد أمر اللّه تعالى بذِكْرِه في هذه الأيَّام المعدُودات، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّها أيام أكْلٍ وشُرْبٍ وذِكْرِ الله عز وجل". وذِكْرُ الله عز وجل المأمورُ به في أيَّام التشريق أنواعٌ متعددة:
منها: ذِكْرُ الله عز وجل عقِبَ
(5)
الصَّلواتِ المكتوباتِ بالتكبير في أَدْبَارها، وهو مشروعٌ إلى آخر أيَّام التشريق عند جمهور العلماء. وقد رُوي عن عمر وعلي وابن عباس. وفيه حديثٌ مرفوع في إسناده ضعف.
(1)
سورة البقرة آية 203.
(2)
أخرجه الترمذي رقم (889) في الحج: باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، وأبو داود رقم (1949) في المناسك: باب من لم يدرك عرفة، والنسائي 5/ 264 في الحج: باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بمزدلفة، وابن ماجه رقم (3015) في المناسك: باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، وإسناده حسن.
(3)
رواه الإمام أحمد في "مسنده" 4/ 350 وقد سبق تخريجه.
(4)
أخرجه بهذا اللفظ المنذري في "الترغيب" 2/ 163 وقال: "رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي إلا أنه قال: غفر له ما تقدم من ذنبه". ورواه أحمد بنحوه في "مسنده" 2/ 229. والرَّفَث: ما روجع به النساء، وهي كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. والفسوق: المعصية، والخروج عن الاستقامة.
(5)
في آ، ش، ع:"عقيب"، وهما بمعنى.
ومنها: ذِكْرُه بالتَّسمية والتكبير عند ذَبْح النُّسُك؛ فإنَّ وقت ذبْح الهدايا والأضاحي يمتدُّ إلى آخر أيَّام التشريق عند جماعةٍ من العلماء، وهو قولُ الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، وفيه حديث مرفوع:"كُلُّ أيام مِنىً ذبْح"
(1)
، وفي إسناده مقال. وأكثر الصَّحابة على أنَّ الذبْح يختصُّ بيومين من أيَّام التشريق مع يوم النَّحْر، وهو المشهور عن أحمدَ، وقول مالكٍ، وأبي حنيفة، والأكثرين.
ومنها: ذِكْرُ اللهِ عز وجل على الأكْل والشرب؛ فإنَّ المشروع في الأكل والشرب أن يُسمِّيَ الله في أوله، ويحمَدَه في آخره. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن اللّهَ عز وجل يَرْضَى عن العَبْدِ أن يأكُلَ الأكْلَةَ فيحمَدَهُ عليها، ويشرَبَ الشَّرْبَة فيحمَدَه عليها"
(2)
. وقد رُوي أنَّ من سمَّى على أوَّل طعامه وحمِدَ اللّهَ على آخره، فقد أدَّى ثمنَه، ولم يُسألْ بعدُ عن شكره
(3)
.
ومنها: ذِكْرُه بالتكبير عند رَمْي الجمار في أيَّام التشريق، وهذا يختصُ به أهلُ الموسم.
ومنها: ذِكْرُ الله تعالى المطلقُ؛ فإنَّه يستحبُّ الإكثار منه في أيَّام التشريق، وقد كان عُمَرُ يُكبِّر بمنىً في قبّته، فيسمعه النَّاس فيكبِّرون فترتج منىً تكبيرًا. وقد قال الله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
(4)
. وقد استحَبَّ كثيرٌ من السَّلف كثرةَ الدُّعاء بهذا في أيام التشريق.
(1)
مسند أحمد 4/ 82، وفيه:"كل أيام التشريق ذبح". وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 24 وقال: "رواه أحمد، وروى الطبراني في الأوسط عنه: أيام التشريق كلها ذبح، ورجال أحمد وغيره ثقات".
(2)
رواه مسلم رقم (2734) في الذكر والدعاء: باب استحباب حمد الله بعد الأكل والشرب، والترمذي رقم (1817) في الأطعمة: باب ما جاء في الحمد إذا فرغ من الطعام.
(3)
وفي معناه حديث خرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "الشكر" ص 154 بإسناد منقطع، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أنعم الله على عبد نعمة فحمده عندها، فقد أدَّى شكرها"، وللحديث شواهد تعضده.
(4)
سورة البقرة الآية 200 و 201.
قال عكرمة: كان يُستحَبُّ أن يُقالَ في أيام التشريق: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .
وعن عطاءٍ، قال: ينبغي لكُلٍّ مَن نَفَر أن يقولَ حين ينفِرُ متوجهًا إلى أهله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . خرَّجهما عبدُ بن حُميد في تفسيره. وهذا الدعاء من أجمع الأدعية للخير، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثِرُ منه، ورُوِي أنَّه كان أكثَرَ دعائه، وكان إذا دعا بدعاءٍ جعَلَه معه؛ فإنَّه يجمع خيرَ الدنيا والآخرة. قال الحسن: الحسنة في الدنيا العِلْم والعبادة، وفي الآخرة الجنة. وقال سفيان: الحسنة في الدنيا العلْم والرزق الطيّب، وفي الآخرة الجنة. والدُّعاءُ من أفضل أنواع ذِكْر الله عز وجل. وقد رَوَى زيادٌ الجصَّاص عن أبي كِنانة القرشي أنَّه سمع أبا موسى الأشعري، يقول في خطبته يوم النَّحْر: بعد يوم النَّحر ثلاثة أيام التي ذكر الله الأيام المعدُودات لا يُرَدُّ فيهن الدُّعاء، فارفعوا رغبتكم إلى الله عز وجل.
وفي الأمر بالذكر عند انقضاء النُّسُك معنىً، وهو أنَّ سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها، وذِكْرُ الله باقٍ لا ينقضِي ولا يُفرَغ منه، بل هو مستمر للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
وقد أمر الله تعالى بذكره عند انقضاء الصلاة، قال الله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}
(1)
، وقال تعالى في صَلاة الجمعة:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}
(2)
، وقال الله تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}
(3)
. رُوِي عن ابن مسعود، قال: فإذا فرغْتَ من الفرائض فانْصَبْ.
وعنه في قوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} قال: في المسألة، وأنت جالس. وقال الحسن: أمرَه إذا فرغ من غزوه أن يجتهدَ في الدُّعاء والعبادة، والأعمالُ كلُّها يُفرغ منها، والذِّكر لا فراغ له ولا انقضاء؛ والأعمالُ تنقطع بانقطاع الدُّنيا ولا يبقَى منها
(1)
سورة النساء الآية 103.
(2)
سورة الجمعة الآية 10.
(3)
سورة الشرح الآية 7 و 8.
شيء في الآخرة، والذِّكر لا ينقطع. المؤمنُ يعيش على الذكر، ويموت عليه، وعليه يُبعث.
أحسِبْتُمُ أنَّ الليالي غَيَّرَتْ
…
عَهْدَ الهَوَى لا كانَ مَن يتغيَّرُ
يفنَى الزَّمانُ وليس يفنَى ذِكْركُمْ
…
وعلى محبَّتِكُم أَمُوتُ وأُحْشَرُ
قال ذو النون: ما طابت الدنيا إلَّا بذكره، ولا الآخرة إلَّا بعفوه، ولا الجنَّة إلَّا برؤيته.
بِذِكْرِ اللهِ تَرْتَاحُ القُلُوبُ
…
وَدُنيانا بذِكْراهُ تطيبُ
إذا ذُكِرَ المحبوبُ عندَ حَبِيبِهِ
…
تَرَنَّح نَشوانٌ وحَنَّ طَروبُ
(1)
فأيَّام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيمُ أبدانهم بالأَكْل والشُّرب، ونعيمُ قلوبهم بالذِّكر والشكر؛ وبذلك تتمّ النِّعمة
(2)
، وكلما أحدَثُوا شكرًا على النِّعْمة كان شكرُهم نعمةً أخرى، فيحتاج إلى شكر آخر، ولا ينتهي الشكر أبدًا
(3)
.
إذا كان شُكْرِي نِعْمَةَ اللهِ نِعْمَةً
…
عليَّ لَهُ في مِثْلِها يَجِبُ الشُّكْرُ
فكيفَ بلوغ
(4)
الشُّكْر إلَّا بفضْلِهِ
…
وإنْ طالَتِ الأيَّام واتَّصَلَ العُمْرُ
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنَّها أيام أكْلٍ وشُرْبٍ وذِكْرِ اللهِ عزَّوجلَّ" إشارةٌ إلى أنَّ الأكل في أيَّام الأعياد والشُّربَ إنَّما يُستعانُ به على ذِكْر اللهِ تعالى وطاعتِه، وذلك من تمام شُكْر النَّعمة أن يستعانَ بها على الطاعات. وقد أمر الله تعالى في كتابه بالأكل من الطيِّبات والشكر له، فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كَفَر نِعْمَةَ اللهِ وبدَّلها كُفْرًا، وهو جديرٌ أن يُسْلَبَها، كما قيل:
(1)
لم يرد هذا البيت في ش، وهو بوزن مختلف
(2)
في ب، ط:"النعم".
(3)
البيتان مع آخرين لمحمود الوراق، أوردها ابن أبي الدنيا في كتاب "الشكر" ص 104 بتحقيقنا، والحصري في "زهر الآداب" 1/ 89، وبعدهما.
إذا مَسَّ بالسَّرَّاء عَمَّ سُرورُها
…
وإن مَسَّ بالضَّرَّاء أعقبها الأَجْرُ
وما منهما إلَّا له فيه مِنَّةٌ
…
تضيقُ بها الأوهامُ والبَرُّ والبَحْرُ
(4)
في ب، ط:"وقوع".
إذا كنْتَ في نِعْمةٍ فارْعَها
…
فإنَّ المعاصِي تُزيلُ النِّعم
وداوِمْ عليها بشُكْر الإله
…
فشُكْرُ الإِله يُزيلُ النِّقَم
وخصوصًا نعمة الأكل من لحوم بهيمة الأنعام، كما في أيام التشريق؛ فإنَّ هذه البهائم مُطيعةٌ لله لا تَعصيه، وهي مُسبِّحة له قانتة، كما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}
(1)
، وأنَّها تسجُد له، كما أخبر بذلك في سورة النحل
(2)
وسورة الحج
(3)
، وربما كانت أكثرَ ذكرًا لله من بعض بني آدم. وفي "المسند"
(4)
مرفوعًا: "رُبَّ بهيمةٍ خيرٌ من راكبها، وأكثَرُ للهِ منه ذكرًا". وقد أخبر الله تعالى في كتابه أن كثيرًا من الجنِّ والإنس كالأنعام بل هم أضلُّ. فأباح الله عز وجل ذَبْحَ هذه البهائم المطيعة الذاكرة له لعباده المؤمنين حتى تتقوَّى بها أبدانُهم، وتكمُلَ لذَّاتُهم في أكلهم اللحوم، فإنَّها
(5)
من أجلّ الأغذية وألذّها، مع أنَّ الأبدان تقوم بغير اللحم من النباتات وغيرِها، لكن لا تكمُل القوَّة والعقل واللذةُ إلَّا باللحم، فأباح للمؤمنين قَتْلَ هذه البهائم والأكْلَ من لحومها؛ ليكمِلَ بذلك قوَّةَ عباده وعقولَهم، فيكون ذلك عَوْنًا لهم على علومٍ نافعةٍ وأعمالٍ صالحةٍ يمتاز بها بنو آدم على البهائم، وعلى ذِكْرِ اللهِ عز وجل، وهو أكثر
(6)
من ذكر البهائم، فلا يليق بالمؤمن مع هذا إلَّا مقابلة هذه النِّعم بالشكر عليها، والاستعانة بها على طاعة الله عز وجل، وذِكْرِه حيثُ فضَّلَ الله ابنَ آدم على كثير من المخلوقات، وسخَّر له هذه الحيوانات، قال الله تعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
(7)
. فأمَّا مَن قَتَلَ هذه البهائمَ
(8)
المطيعةَ الذَّاكرة لله عز وجل، ثم استعان بأكْل لحومها على معاصِي الله عز وجل، ونسِي ذكرَ اللهِ عز وجل، فقد قلَبَ الأمرَ وكفرَ النِّعمة، فلا كان من كانت البهائمُ خيرًا منه وأطوَعَ.
(1)
سورة الإسراء الآية 44.
(2)
الآية 49، ونصها:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} .
(3)
الآية 18، ونصها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
…
} إلى آخر الآية.
(4)
مسند أحمد 3/ 439 و 440 و 441.
(5)
في آ، ش، ع:"فإنه".
(6)
في آ: "أكبر".
(7)
سورة الحج الآية 36.
(8)
في ب، ط:"البهيمة".
نهارُك يا مَغْرُورُ سَهْوٌ وغَفْلَةٌ
…
وليلُكَ نَوْمٌ والرَّدَى لكَ لازِمُ
وتتعَبُ فيما سَوْفَ تكْرَهُ غِبَّهُ
(1)
…
كذلك في الدُّنيا تعيشُ البَهائمُ
وإنَّما نُهِيَ عن صيام أيام التشريق؛ لأَنَّها أعيادٌ للمسلمين مع يوم النَّحر، فلا تُصامُ بمنىً ولا غيرِها عندَ جمهور العلماء، خلافًا لعطاء، في قوله: إنَّ النهي مختصٌّ
(2)
بأهل منًى، وإنما نُهِي عن التطوُّع بصيامها، سواء وافَقَ عادةً أو لم يُوافق.
فأمَّا صيامُها عن قضاءِ فرضٍ أو نَذْرٍ، أو صيامُها بمنىً للمتمتع إذا لم يجد الهَدْي، ففيه اختلافٌ مشهورٌ بين العلماء، ولا فرقَ بين يومٍ منها ويومٍ عند الأكثرين، إلَّا عند مالكٍ؛ فإنَّه قال: في اليوم الثالث منها يجوز صيامُه عن نَذْرٍ خاصةً. وفي النهي عن صيام هذه الأيام والأمرِ بالأكْل فيها والشُّرب سِرٌّ حسنٌ، وهو أن الله تعالى لمَّا علِمَ ما يُلاقي الوافِدون إلى بيته من مشاقّ السَّفر وتعب الإِحرام وجهاد النفوس على قضاءِ المناسِك، شَرَعَ لهم الاستراحةَ عقيب ذلك بالإِقامة بمنىً يوم النَّحْر وثلاثة أيام
(3)
بعدَه، وأمرَهم بالأكْل فيها من لحونم نُسُكهم؛ فهم في ضيافة الله عز وجل فيها؛ لطفًا من إله بهم، ورأفةً ورحمةً. وشاركهم أيضًا أهلُ الأمصار في ذلك؛ لأنَّ أهلَ الأمصار شاركوهم في حصول المغفرة والنَّصَبِ لله والاجتهاد في عَشْر ذي الحجّة؛ بالصَّوم والذِّكْرِ والاجتهاد في العبادات، وشاركوهم في حُصول المغفرة وفي التقرُّب إلى الله تعالى بإراقة دماء الأضاحي، فشاركوهم في أعيادهم، واشترك الجميع في الراحة في أيام الأعياد بالأكْل والشُّرْب، كما اشتركوا جميعًا في أيام العَشْر في الاجتهاد في الطاعة والنَّصَب، وصار المسلمون كلُّهم في ضيافة اللهِ عز وجل في هذه الأيام، يأكلون من رزقه، ويشكرونه على فضله.
ونُهوا عن صيامها؛ لأنَّ الكريم لا يليق به أن يُجيعَ أضيافَهُ، فكأنَّه قيل للمؤمنين في هذه الأيام: قد فَرَغَ عملُكم الذي عَمِلْتُموه، فما بقي لكم إلَّا الرَّاحة؛ فهذه الراحة
(1)
غبّ الأمر: عاقبته وآخره.
(2)
في ب، ط:"يختص".
(3)
في ع: "أيام التشريق بعده".
بذلك التعب، كما أريح الصائمون لله في شهر رمضانَ بأمرهم بإفطار يوم عيد الفطر. ويؤخذ من هذا إشارة إلى حال المؤمن في الدنيا؛ فإنَّ الدُّنيا كلَّها أيامُ سَفَرٍ كأيَّام الحجِّ، وهي زمانُ إحرام المؤمن عمَّا حرَّم الله عليه من الشهوات، فمن صَبَرَ في مدَّة سفرِه على إحرامه وكفَّ عن الهوى، فإذا انتهى سفر عمره ووَصَل إلى مِنَى المُنى، فقد قضَى تَفَثَه ووفَّى نَذْره، فصارت أيَّامُه كلُّها كأيَّام مِنىً، أيَّامُ أَكْلٍ وشُربٍ وذِكْرِ اللهِ عز وجل، وصار في ضيافة اللهِ عز وجل في جواره أبدَ الأبد، ولهذا يقال لأهل الجنة:{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
(1)
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}
(2)
. وقد قيل: إنَّها نزلت في الصُّوَّام في الدنيا.
وقد صُمْتُ عن لذات دهريَ كُلّها
…
وَيَوْمَ لقاكُمْ ذَاكَ فِطْرُ صِيامِي
قال بعضُ السَّلف: صُم
(3)
الدنيا وليكن فطرك الموت. [غيره]
(4)
:
فصُمْ يومَكَ الأدنى لَعَلَّكَ في غَدٍ
…
تفوزُ بعيدِ الفِطْرِ والنَّاسُ صُوَّمُ
من صام اليومَ عن شهواته أفطَرَ عليها غدًا بعد وفاته، ومن تعجَّل ما حُرِّم عليه من لذَّاته عُوقِب بحرمان نصيبهِ من الجنة وفواتِهِ؛ شاهدُ ذلك مَن شرِبَ الخمرَ في الدُّنيا لم يشربْها في الآخرة، ومن لبس الحرير لم يلْبَسْه في الآخرة.
أنتَ في دار شَتاتٍ
…
فتأهَّبْ لشَتاتِكْ
واجْعَلِ الدُّنيا كيومٍ
…
صُمْتَه عن شَهواتِك
ولْيكُن فِطْرُك عندَ اللَّـ
…
ـهِ في يَوْمِ وفاتِك
قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
(5)
.
الجنَّة ضيافة اللهِ أعدَّها لعباده المؤمنين نُزُلًا، فيها ما لا عَيْنٌ رأتْ ولا أذنً سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشرٍ. وبُعِثَ
(6)
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدعو إليها بالإِيمان
(1)
سورة الطور الآية 19.
(2)
سورة الحاقة الآية 24.
(3)
في ط: "صم عن الدنيا".
(4)
زيادة من (آ).
(5)
سورة يونس الآية 25.
(6)
في ب، ط:"فبُعث".
والإِسلام والإِحسان، فمن أجابه دخلَ الجنَّة وأَكَلَ من تلك الضيافة، ومن لم يجبْ حُرِم.
خرَّج الترمذي
(1)
عن جابر، قال: "خرج علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: رأيتُ في المنام كأنَّ جبريلَ عند رأسي وميكائيلَ عند رجليَّ، فقال أحدُهما لصاحبه: اضْرِبْ له مثلًا، فقال: اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ
(2)
، واعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُك؛ إنَّما مثَلُكَ ومثَلُ أُمَّتِك كمثل ملِكٍ اتخذ دارًا، ثم بنى فيها بيتًا
(3)
، وجعل فيها مائدة
(4)
، ثم بعث رسولًا يَدْعُو النَّاسَ إلى طعامه؛ فمنهم من أجاب الرسولَ، ومنهم مَن ترَكَه، فاللهُ تعالى: هو المَلِكُ، والدَّارُ هي الإسلامُ، والبيتُ الجنَّةُ، وأنتَ يا محمّد رسولٌ، من أجابك دخَلَ الإِسلام، ومن دخل الإسلامَ دخَل الجنَّةَ، ومَن دَخَلَ الجنَّة أكَلَ مما فيها". وخرَّجه البخاري
(5)
بمعناه، ولفظه:"مثلُهُ كمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دارًا، وجَعَلَ فيها مأدُبَةً، وبَعَثَ داعيًا، فمن أجاب الدَّاعي دَخَلَ الدَّارَ وأَكَلَ مِن المأدُبَة، ومن لم يُجِبِ الدَّاعِي لم يدخُلِ الدَّارَ ولم يأْكُلْ مِنَ المأْدُبَة؛ والدَّارُ الجنة، والدَّاعي محمد صلى الله عليه وسلم ".
في بعض الآثار الإِسرائيلية يقولُ الله تعالى: "ابنَ آدمَ! ما أنصفتني، أذكُرُكَ وتنسَاني، وأدعوك إليَّ فتفرّ منِّي إلى غيري، وأُذْهِبُ عنك البَلايا وأنتَ منعكِف
(6)
على الخطايا، ابنَ آدم! ما يكونُ اعتذارك غدًا إذا جئتني؟ طوبى لمن أجاب دعوة
(7)
مولاه، {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ}
(8)
.
يا نفس ويحكِ قد أتاكِ هُداكِ
(9)
…
أَجيبي فَدَاعِي الحَقِّ قَدْ نَادَاكِ
كم قد دُعِيتِ إلى الرَّشاد فتعرضِي
…
وأَجَبْتِ
(10)
داعِي الغَيِّ حينَ دَعَاكِ
(1)
رقم (2864) في الأمثال: باب ما جاء في مثل الله لعباده، من حديث سعيد بن أبي هلال عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وإسناده منقطع؛ فإنَّ سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله. قال الترمذي: وفي الباب عن ابن مسعود، وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذا الوجه بإسناد أصح من هذا؛ قال الحافظ في "الفتح" 13/ 255 - 356 وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي عند الطبراني بنحوه، فإن سياقه وسنده جيد.
(2)
في ب، ط:"أذناك".
(3)
في آ، ش، ع، ط:"بناء"، والمثبت من ش والترمذي.
(4)
في آ، ش، ع:"مأدبة".
(5)
رواه البخاري رقم (7281) في الاعتصام: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أورده المؤلف مختصرًا.
(6)
في آ، ع:"معتكف".
(7)
لفظ "دعوه" لم يرد في ب، ط.
(8)
سورة الأحقاف الآية 31.
(9)
في ط: "هواكي"، وهو تحريف.
(10)
في ط: "وتجيبي"، وفي ب "وتجيب"، والمثبت من آ، ش، ع.
كُلُّ ما في الدنيا يذكِّر بالآخرة؛ فمواسِمُها وأعيادُها وأَفراحُها تذكِّر بمواسم الآخرة وأَعيادِها وأفراحِها. صنع عبدُ الواحد بن زيد طعامًا لإخوانه، فقام عُتْبَةُ الغُلام على رؤوس الجماعة يخدُمُهم وهو صائم، فجعل عبدُ الواحد ينظرُ إليه ويُسَارِقه النظر ودُموعُ عُتْبَةَ
(1)
تجري، فسأله بعد ذلك عن بكائِه
(2)
حينئذ، فقال: ذكرْتُ موائدَ الجنَّة والولدانُ قائمون على رؤُوسهم؛ فصعق عبدُ الواحد. أَبْدَانُ العارفينَ في الدنيا وقلوبُهم في الآخرة.
جِسْمِي مَعِي غَيْرَ أن الرُّوحَ عندَكُمُ
…
فالجِسْمُ في غُربةٍ والرُّوحُ في وَطَنِ
أعيادُ الناس تنقضِي، فأمَّا أعيادُ العارفين فدائمة. قال الحسن: كُلُّ يومٍ لا تعصِي الله فيه فهو لكَ عيدٌ. جاء بعضُهم إلى بعض العارفين فسلَّم عليه، وقال له: أريدُ أن أكلمك، قال
(3)
: اليوم لنا عيد، فتركه، ثم جاءه يومًا آخر، فقال له مثل ذلك، ثم جاء
(4)
يومًا آخر، فقال له مثل ذلك. فقال له: ما أكثَرَ أعيادَك! قال: يا بطَّال
(5)
! أما علِمْتَ أنَّ كُلَّ يومٍ لا نَعصِي الله فيه فهو لنا عيد. أوقات العارِفين كلُّها فرحٌ وسرورٌ بمناجاةِ مولاهم وذكرِه، فهي أعيادٌ. وكان الشِّبْلِي ينشِدُ:
إذا ما كنْتَ لي عِيدًا
…
فما أصنَعُ بالعِيدِ
جَرَى حُبُّكَ في قلبي
…
كجرْي الماء في العُودِ
وأنشد أيضًا:
عِيدِي مُقيمٌ وَعِيدُ النَّاسِ منصَرفُ
…
والْقَلْبُ منِّي عن اللَّذات مُنحرِفُ
وَلي قرينان ما لي منهما خلَفٌ
…
طُولُ الحَنين وعَيْنٌ دَمْعُها يَكِفُ
* * *
(1)
في آ: "عينيه".
(2)
في ب، ط:"عن ذلك".
(3)
في ب، ط:"فقال".
(4)
لفظ "جاء" لم يرد في آ، ش، ع.
(5)
رجل بطَّال: أي ذو باطل.
المجلس الرابع في ذِكر ختام العام
خرَّج الإِمام أحمد
(1)
من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تتمنَّوا
(2)
الموت؛ فإنَّ هَوْلَ المطّلع شَدِيد، وإنَّ من السَّعادة أن يَطُولَ عُمُرُ العَبْدِ ويرزُقَه اللهُ الإِنابة". تمني الموت
(3)
يقع على وجوهٍ:
منها: تمنيه لضُرٍّ دنيوي ينزل بالعبد، فيُنهَى حينئذ عن تمني الموت.
وفي "الصحيحين"
(4)
: عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يتَمنَّيَنَّ أحدُكُم الموتَ لِضُرٍّ نَزَلَ به، فإنْ كان لا بُدَّ فاعلًا، فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ، أَحْيِني ما كانَتِ الحياةُ خَيْرًا لي، وتوفَّنِي إذا كان الوفاةُ خَيْرًا لي". ووجه كراهته في هذه الحال أنَّ المتمني للموت لِضُرٍّ نزل به، إنَّما يتمنَّاه تعجيلًا للاستراحة من ضُرِّه، وهو لا يدري إلى ما يصير بعدَ الموت، فلعله يصير إلى ضُرٍّ أعظَمَ من ضُرِّه، فيكون كالمستجير من الرَّمضاء بالنار. وفي الحديث: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّما يستريحُ مَن غُفِر له"
(5)
. فلهذا لا ينبغي له أن يدعو بالموت إلا أن يشترط أن يكونَ خيرًا له عندالله عز وجل، وكذلك كُلُّ ما لا يعلم العبدُ فيه الخيرةَ له، كالغنى والفقر وغيرهما، كما يُشرَع له استخارة الله تعالى فيما يريدُ أن يعمله مما لايعلم وجه الخيرة فيه، وإنما يُسأل الله عز وجل على وجه الجزم والقطع مما يُعلَم أنَّه خيرٌ محضٌ، كالمغفرة والرَّحمة والعفو والعافية والتُّقى والهُدَى ونحو ذلك.
(1)
مسند أحمد 3/ 332، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 203 و 334 وقال:"رواه أحمد والبزار وإسنادهما جيد". ورواه المنذري في "الترغيب" 4/ 257 وقال: "رواه أحمد بإسناد حسن والبيهقي".
(2)
في المسند: "لا تمنوا".
(3)
في ب، ط:"فتمني الموت".
(4)
أخرجه البخاري رقم (5671) في المرضى: باب تمني المريض الموت، وفي الدعوات: باب الدعاء بالموت والحياة. ومسلم رقم (2680) في الذكر والدعاء: باب كراهة تمني الموت. والترمذي رقم (971)، وأبو داود رقم (3108) و (3109)، والنسائي 4/ 3.
(5)
مسند أحمد 6/ 69، 102 عن عائشة رضي الله عنها، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 330 وقال:"رواه أحمد والطبراني في الأوسط، وفيه ابن لهيعة وفيه كلام". وقال: "وعنها: توفيت امرأة كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون منها ويمازحونها، فقلت: استراحت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما يستريح من غفر له. رواه البزار ورجاله ثقات".
ومنها: تمنيه خوفَ الفتنة في الدِّين، فيجوز حينئذ. وقد تمنَّاه ودعا به خشيةَ فتنة الدِّين
(1)
خلْقٌ من الصحابة وأئمة الإِسلام. وفي حديث المنام: "وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقْبِضْنِي إليكَ غيرَ مَفْتُونٍ"
(2)
.
ومنها: تمني الموت عند حضور أسباب الشهادة اغتنامًا لحصولها، فيجوز ذلك أيضًا. وسؤال الصحابة الشهادة وتعرُّضُهم لها عندَ حضور الجهاد كثيرٌ مشهور، وكذلك سؤال معاذ لنفسه وأهل بيته الطاعون لمَّا وقع بالشام.
ومنها: تمني الموت لمن وثِقَ بعمله شوقًا إلى لقاء الله عز وجل، فهذا يجوز أيضًا، وقد فعلَه كثير من السَّلف. قال أبو الدَّرداء: أُحِبُّ الموتَ اشتياقًا إلى ربِّي. وقال أبو عِنَبَةَ
(3)
الخولاني: كان مَن قبلكم لقاءُ اللهِ أحبُّ إليه من الشهد. وقال بعض العارفين: طالت عليَّ الأيام والليالي بالشوق إلى لقاء الله عز وجل. وقال بعضُهم: طال شوقي إليك فعجِّلْ قَدومي عليك. وقال بعضُهم: لا تطيبُ نفسِي بالموت إلَّا إذا ذكرت لقاءَ الله عز وجل؛ فإنَّني أشتاق حينئذ إلى الموت، كشوقِ الظمآن الشديدِ ظمؤُه في اليوم الحارّ الشديد حرُّهُ إلى الماء البارد الشديد بردُهُ، وفي هذا يقولُ بعضُهم:
أشتاقُ إليكَ يا قريبًا نائي
…
شوقَ ظام
(4)
إلى زُلال الماءِ
وقد دلَّ على جواز ذلك قولُ الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
(5)
وقوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا
(1)
في ع: "خشية الفتنة في الدين".
(2)
رواه الترمذي رقم (3233) و (3234) في التفسير، باب رقم (39) عن ابن عباس، ورواه الإمام أحمد في المسند 1/ 368، وهو حديث صحيح، وفي الباب عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عائش. وللمؤلف رسالة في شرح هذا الحديث، أسماها:"اختيار الأوْلى شرح حديث اختصام الملأ الأعلى" فراجعه.
(3)
في ط: "أبو عنبسة"، وفي آ، ش، ع:"أبو عتبة"، وأثبت ما جاء في (ب). وهو أبو عِنَبَة الخولاني، قيل: اسمه عبد الله بن عِنبة، أو عمارة، صحابي، له حديث، ويقال: أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، نزل حمص في خلافة عبد الملك على الصحيح، خرج له ابن ماجه. (التقريب 2/ 457).
(4)
في آ، ع:"الظامي".
(5)
سورة البقرة الآية 94.
الْمَوْتَ}
(1)
، فدَلَّ ذلك على أنَّ أولياء الله لا يكرهون الموت بل يتمنونه، ثم أخبر أنهم {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}
(2)
، فدَلَّ على أنَّه إنَّما يكْرَه الموتَ مَن له ذنوبٌ يخاف القدومَ عليها، كما قال بعضُ السلف: ما يكره الموتَ إلا مُريب. وفي حديث عمَّار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أسألُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلى وَجْهِكَ وَشَوقًا إلى لقائِكَ، في غير ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، ولا فِتْنَةٍ مُضِلَّة"
(3)
.
فالشوق إِلى لقاء الله تعالى إنما يكون بمحبة الموت، وذلك لا يقَعُ غالبًا إلَّا عند خوف ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ في الدنيا، أو فتنةٍ مُضِلَّةٍ في الدِّين. فأمَّا إذا خلا عن ذلك، كان شوقًا إلى لقاء الله عز وجل، وهو المسؤول في هذا الحديث. وفي "المسند"
(4)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يتمنين الموتَ إِلَّا مَن وَثِقَ بعمله". فالمطيع لله مستأنسٌ بربِّه، فهو يحبُّ لقاءَ الله، واللهُ يحبُّ لقاءه. والعاصِي مستوحش، بينَه وبينَ مولاه وحشةُ الذُّنوب، فهو يكره لقاءَ ربِّه ولابدَّ له منه. قال ذوالنون: كُلُّ مطيعٍ مستأنِسٌ، وكُلُّ عاصٍ مستوحِشٌ. وفي هذا يقول بعضُهم:
أمستوحشٌ أَنْت مما جنيتَ
(5)
فأحسِنْ إِذا شئْت واسْتأنِسِ
قال أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما في وصيته له عند الموتِ
(6)
: إِن حفِظْت وَصِيَّتي لم يكن غائبٌ أحبَّ إِليك من الموت ولا بُدَّ لك منه، وإن ضيعتَها لم يكن غائبٌ أكرَه إليك من الموت ولن تُعجزَه. قال أبو حازم: كُلُّ عملٍ تكره الموتَ من أجله فاتركْه، ثم لا يضرُّك متى مُتَّ. العاصي يفِرُّ من الموت لكراهية لقاءِ الله، وأين يفِرُّ مَن هو في قبضةِ مَن يطلبُه.
أينَ المَفَرُّ والإِلهُ الطَّالِبُ
…
والمجرِمُ المغلُوبُ ليسَ الغالِبُ
(1)
سورة الجمعة الآية 6.
(2)
سورة الجمعة الآية 7.
(3)
جزء من حديث طويل رواه النسائي 3/ 54، 55 في السهو: باب نوع آخر من الدعاء، وإسناده جيد. ورواه أحمد في "مسنده" 4/ 264، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" 1/ 524 وصححه، ووافقه الذهبي.
(4)
مسند أحمد 2/ 350 ورواه المؤلف هنا مختصرًا. وذكره الزبيدي في "الإتحاف" وقال: "رواه ابن عساكر بلفظ: لا يتمنين أحدكم الموت حتى يثق بعمله".
(5)
في ب: "جنيته".
(6)
في آ، ش، ع:"عند موته".
سئل أبو حازم: كيفَ القدوم على الله؟ قال: أمَّا المطيعُ
(1)
فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه، وأمَّا العاصِي فكقُدوم الآبق على سيِّدِهِ الغضبان. رؤي بعضُ الصالحين في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: خيرًا، لم تَرَ مثلَ الكريم إذا حلَّ به المطيع
(2)
. الدنيا كلُّها شهرُ صيامِ المتقينَ، وعيدُ فطرِهم يومَ لقاءِ ربِّهم، كما قيل:
وقد صُمْتُ عن لذَّاتِ دَهْرِي كلِّها
…
ويومَ لقاكُمْ ذاكَ فِطْرُ صِيامي
ومنها: تمني الموت على غير الوجوه المتقدِّمة، فقد اختلف العلماء في كراهته واستحبابه، وقد رخَّص فيه جماعة من السَّلف، وكرهه آخرون، وحكى بعضُ أصحابنا عن أحمد في ذلك روايتين ولا يصحُّ؛ فإنَّ أحمد إنما نصَّ على كراهة تمني الموت؛ لضرر الدنيا، وعلى جواز تمنيه خشيةَ الفتنة في الدِّين. وربما أدخل بعضُهم في هذا الاختلاف القسمَ الذي قبلَه، وفي ذلك نظر. واستدلَّ مَن كرِهَه بعمُوم النَّهي عنه، كما في حديث جابر الذي ذكرناه، وفي معناه أحاديثُ أُخَرُ يأتي بعضُها إن شاء الله تعالى. وقد عُلِّلَ النهيُ عن تمني الموت في حديث جابر بعلتين: إحداهما: أنَّ هَوْلَ المُطَّلَعِ شديد، وهولُ المُطَّلَعِ هو ما يُكشَفُ للميت عندَ حضور الموت من الأهوال التي لا عهدَ له بشيء منها في الدنيا؛ من رؤية الملائكة، ورؤية أعماله من خيرٍ أو شرٍّ، وما يُبَشَّرُ به عند ذلك من الجنَّة والنار، هذا مع ما يلقاه من شدَّةِ الموتِ وكَرْبِه وغُصَصِه.
وفي الحديث الصحيح
(3)
: "إذا حُمِلَت الجنازة وكانت صالحة، قالت: قدِّموني قدِّموني، وإن كانت غيرَ ذلك، قالت: يا ويلَها! أين تذهبون بها؟ يَسمَعُ صوتَها كُلُّ شيء إلَّا الإِنسانَ، ولو سَمِعَها الإنسانُ لَصعِقَ". قال الحسن: لو علم ابنُ آدمَ أنَّ له في الموت راحةً وفرحًا لشَقَّ عليه أن يأتيَه الموتُ؛ لِما يعلَمُ من فظاعته وشدَّته وهولهِ، فكيف وهو لا يعلَمُ ما لَه في الموت نعيمٌ
(4)
دائمٌ أو عذابٌ مقيمٌ. بكى النَّخعي عند
(1)
في آ، ش، ع:"الطائع".
(2)
في ب، ط:"مطيع".
(3)
أخرجه البخاري رقم (1314). في الجنائز: باب حمل الرجل الجنازة دون النساء، وباب قول الميت وهو على الجنازة: قدموني، وباب كلام الميت على الجنازة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وكذلك رواه النسائي 4/ 41 في الجنائز: باب السرعة بالجنازة.
(4)
في ع: "من نعيم".
احتضاره، وقال: أنتظِرُ ملَكَ الموتِ لا أدري يُبشرني بالجنة أو النار. فالمتمني للموت كأنه يستعجل حلولَ البلاء، وإنما أمرنا بسؤال العافية. وسمعَ ابنُ عُمَرَ رجلًا يتمنَّى الموت، فقال: لا تتمنَّ
(1)
الموت؛ فإنَّك ميت، ولكن سَلِ الله العافيةَ. قال إبراهيم بن أدهم: إن للموت كأسًا لا يقوَى عليها إلا خائفٌ وَجِلٌ مطيعٌ لله كان يتوقَّعُها. وقال أبو العتاهية
(2)
:
أَلا لِلْمَوْتِ كأْسٌ أيُّ كأسِ
…
وأنْتَ لِكَأْسِهِ لا بُدَّ حاسِي
إلى كَمْ والمماتُ
(3)
إلى قريبٍ
…
تُذَكَّر بالممات وأنتَ ناسِي
جَزِعَ الحسنُ بن علي رضي الله عنهما عند مَوْته، وقال: إني أريد أن أُشرِفَ على ما لم أشرِفْ عليه قطُّ. وبكى الحسنُ البصريُّ عندَ موته، وقال: نُفَيْسَةٌ ضعيفةٌ وأمرٌ مهولٌ
(4)
عظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وكان حبيب العجمي عند موته يبكي ويقول: إنِّي أريد أن أسافر سفرًا ما سافرته قطُّ، وأسلُكُ طريقًا ما سلكْتُه قطُّ، وأزورُ سيّدي ومولاي وما رأيتُه قطُّ، وأُشْرِفُ على أهوال ما شاهدْتُها قطُّ. فهذا كلُّه من هَوْل المُطلَع الذي قطَعَ قلوبَ الخائفين، حتى قال عمر عند موته: لو أن لي ما في الأرض لافتديتُ به من هَوْلِ المُطَّلَع. ومن هول المُطَّلَع ما يُكشَفُ للميت عند نزوله قبرَه من فتنةِ القبْر؛ فإنَّ الموتى يُفتنون بالمسالة في قبورهم مثلَ أو قريبًا من فتنة المسيح الدَّجَّال، وما يكشَفُ لهم في قبورهم عن منازلهم من الجنة والنار وما يَلْقَون من ضمَّة القبر وضَيْقَتِه
(5)
وهَوْله وعَذَابِه إن لم يُعافِ الله من ذلك.
ولأبي العتاهية يبكي نفسَه
(6)
:
لأبْكِيَنَّ على نَفسِي وحُقَّ لِيَهْ
…
يا عَيْنُ لا تَبْخَلِي عَنِّي بِعَبْرَتيَهْ
يا هَولَ مُطَّلَعِي، يا ضِيق مُضْطَّجَعِي
…
يا نَأْيَ مُنْتَجَعِي، يا بُعْدَ شُقَّتِيَهْ]
(7)
(1)
في ب، ش، ع، ط:"لا تتمنى"، بإثبات الألف.
(2)
ديوانه ص 195.
(3)
في الديوان: "والمعاذ
…
بالمعاد".
(4)
في آ، ع:"وأمر هولٍ".
(5)
في آ، ش، ع:"وضيقه".
(6)
البيتان في ديوانه ص 435 - 436 من قصيدة طويلة، ورواية البيت الثاني.
يا نأي منتجعي، يا هَوْلَ مُطَّلَعي
…
يا ضِيقَ مُضطَجَعي يا بُعْدَ شُقَّتِيَهْ
(7)
ما بين قوسين زيادة من آ، ع.
رؤي بعضُ الصَّالحين في المنام بعد موته فسئل عن حاله، فأنشد:
وليس يعلَمُ ما في القَبْرِ داخِلُهُ
…
إلَّا الإلهُ وساكنُ الأجداثِ
[كان سفيان ينشد:
إنَّ امرءًا يصفُو لَه عيشُهُ
…
لَغَافِلٌ عمَّا تُجِنُّ القُبورُ
نخن بنو الأرضِ وسُكانُها
…
منها خُلِقْنا وإليها نصيرُ]
(1)
والعلة الثانية: أن المؤمن لا يزيده عمرُه الَّا خيرًا، فمن سعادته أن يطولَ عمره، ويرزقَه الله الإنابة إليه، والتوبةَ مِن ذنوبه السالفة، والاجتهادَ في العمل الصالح؛ فإذا تمنَّى الموت، فقد تمنَّى انقطاعَ عمله الصالح، فلا ينبغي له ذلك. وروى إبراهيم الحربيّ من رواية ابن لَهيعة، عن ابن الهادِ، عن ابن المطلب، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"السَّعَادة كُل السَّعادة طولُ العُمرِ في طاعةِ الله عز وجل"
(2)
. وقد رُوي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوة متعددةٍ، ففي "صحيح البخاري"
(3)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا يتمنَّيَنَّ أحدُكم الموتَ؛ إمَّا مُحْسِنًا، فلعلَّه يزدادَ خيرًا وإمَّا مُسيئًا فلعلَّه أن يَسْتَعْتِبَ". وفي "صحيح مسلم"
(4)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدُكم الموتَ، ولا يدْعُ بهِ من قَبْلِ أن يأتيَهُ، إنَّه إذا ماتَ أحدُكم انقطع عَمَلُه، وإنَّه لا يزيدُ المؤمنَ عُمُرُهُ إلَّا خيرًا".
وفي مسند الإمام أحمد
(5)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
(1)
ما بين قوسين لم يرد في ب، ط.
(2)
ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" رقم (4808) وعزاه إلى القضاعي في مسند الشهاب وللديلمي في "مسند الفردوس"، عن ابن عمر. قال المناوي في "فيض القدير" 4/ 140 وقد رمز له بالحسن: قال الزين العراقي: في إسناده ضعف، وقال شارح الشهاب: غريب جدًّا، وخرجه الخطيب في تاريخه عن ابن عمر وفيه عدي بن إبرهيم البرزوي، وقال: إنَّه لم يكن محمودًا في الرواية، وفيه غفلة وتساهل. والحديث أورده الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" برقم (1343). وانظر "الإتحاف" للزبيدي 9/ 584.
(3)
البخاري رقم (5673) في المرض: باب تمني المريض الموت وفي القال: باب القصد والمداومة على العمل، ورواه النسائي 4/ 2 و 3 في الجنائز: باب تمني الموت". واستعتب الرجلُ: إذا استقال من شيء فعله، أو قاله، يقال: عَتَبَ عليه إذا وجد عليه، إذا فاوضه فيما عتب عليه فيه، قيل: عاتبه.
(4)
مسلم رقم (2687) في الذكر والدعاء: باب كراهة تمني الموت.
(5)
المسند 2/ 350، وفيه:"لا يتمنى". وقد سبق ذكره مختصرًا.
"لا يتمنين أحدُكم الموتَ، ولا يدْعُ به من قبل أن يأتيَه، إلا أن يكونَ قد وثِقَ بعمَلِه؛ فإنَّه إن مات أحدكم انقطَعَ عنه عمله، وأنه لا يزيدُ المؤمنَ عُمُرُه إلَّا خيرًا". وفيه
(1)
عن أُمِّ الفضل
(2)
رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع العباس وهو يشتكي يتمنَّى الموت، فقال:"لا تتمنَّ الموتَ؛ فإنَّك إن كنْتَ محسنًا تزدادُ إحسانًا إلى إحسانك، وإن كنْتَ مسيئًا فإن تُؤَخَّرَ تستعتِبُ من إساءتك خيرٌ لك".
وفيه
(3)
أيضًا: عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكَّرنا ورقَّقَنا، فبكى سعدُ بن أبي وقاص، فأكثَرَ البكاء، وقال: يا ليتني متُّ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا سعدُ! إن كنْتَ خُلِقْتَ للجنَّة فما طَالَ مِن عمرِكَ وحَسُن من عملك، فهو خيرٌ لك".
وفي المعنى أحاديثُ أُخَرُ كثيرة وكلُّها تدلُّ على النَّهي عن تمني الموت بكل حالٍ، وأنَّ طُولَ عُمُر المؤمنِ خَيْرٌ له، فإنَّه يزداد فيه خيرًا. وهذا قد قيل: إنه يدخل فيه تمنيه للشوق إلى لقاء الله، وفيه نظر، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد تمنَّاه في تلك الحال. واختلف السالكون: أيما أفضلُ؛ مَن تمنَّى الموتَ شوقًا إلى لقاءِ الله، أو مَن تمنَّى الحياة رغبةً في طاعة الله، أو مَن فوَّض الأمرَ إلى الله ورضِي باختياره له ولم يختَرْ لنفسه شيئًا. واستدلَّ طائِفةٌ من الصحابة على تفضيل الموت على الحياة بقول الله عز وجل:{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}
(4)
. ولكن الأحاديث الصحيحة تدلُّ على أنَّ عمر المؤمن كلَّما طال ازداد بذلك مالَه عندَ الله من الخير، فلا ينبغي له أن يتمنَّى انقطاعَ ذلك، اللهم إلا أن يخشَى الفتنةَ على دينه؛ فإنه إذا خشِي الفتنةَ على دينه، فقد
(1)
المسند 6/ 339، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 202 وقال:"رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير هند بنت الحارث، فإن كانت هي القرشية أو الفارسية، فقد احتج بها في الصحيح، وإن كانت الخثعمية فلم أعرفها"، وكذلك رواه أبو يعلى في "مسنده" 12/ 503 بسند جيد. وتستعتب: ترجع عن موجب العتب عليك.
(2)
هي لُبَابَة بنت الحارث بن حَزْن الهلاليّة، أم الفضل، زوج العباس بن عبد المطلب، وأخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن حبّان: ماتت بعد العباس في خلافة عثمان. (التقريب 2/ 613).
(3)
المسند 5/ 267، وانظر "الفتح" 10/ 130.
(4)
سورة آل عمران الآية 198.
خشِي أن يفوتَه ما عندَ اللهِ من الخير ويتبدَّل ذلك بالشر، عياذًا بالله من ذلك؛ والموتُ خير
(1)
من الحياة على هذه الحال.
قال مَيْمُون بن مِهْران
(2)
: لا خيرَ في الحياة إلا لتائبٍ أو رجلٍ يعمَلُ في الدَّرَجات. يعني أن التائب يمحو بالتوبة ما سلَفَ من السيئات، والعامل يجتهد في علو الدَّرَجات، ومَن عداهما فهو خاسر، كما قال تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
(3)
. فأقسَمَ الله تعالى أنَّ كلَّ إنسان خاسرٌ إلَّا من اتَّصَف بهذه الأوصاف الأربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصِي بالحق، والتواصي بالصَّبر على الحق. فهذه السورة ميزان للأعمال يَزِن المؤمن بها نفسَه فيبين
(4)
له بها ربحُه من خسرانه، ولهذا قال الشافعي رضي
(5)
الله عنه: لو فكَّر النَّاس كلُّهم فيها لكفتهم.
رأى بعضُ المتقدِّمين النبيَّ صلى الله عليه وسلم في منامه، فقال له: أوصني، فقال له: من استَوى يوماه فهو مَغْبُون، ومن كان يومه شرًّا من أمسه فهو ملعون، ومَن لم يتفقَّدِ الزِّيادةَ في عَمَله فهو في نقصانٍ، ومَن كان في نقصانٍ فالموتُ خيرٌ له. قال بعضُهم: كان الصِّدِّيقون يستحيون من الله أن يكونوا اليومَ على مثل حالهم بالأمس. يشيرُ إلى أنَّهم كانوا لا يَرضون كُلَّ يومٍ إلا بالزِّيادة من عمل الخير، ويستحيون من فقد ذلك ويعدُّونه خسرانًا، كما قيل:
أليس من الخُسْرانِ أن لياليًا
…
تمرُّ بلا نَفْعٍ وتُحسَبُ مِن عُمري
فالمؤمنُ القائمُ بشروط الإِيمان لا يزداد بطول عمره إلَّا خيرًا، ومَن كان كذلك فالحياةُ خيرٌ له من الموت. وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجْعَلِ الحياةَ زِيادةً لي في
(1)
في آ: "خير له".
(2)
هو ميمون بن مِهران الجزري، أبو أيوب، أصله كوفي، نزل الرَّقة، ثقة فقيه، ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، وكان يرسل، مات سنة 117 هـ (التقريب)، والخبر في "صفة الصفوة" 4/ 194.
(3)
سورة العصر الآيات 1 - 3.
(4)
في آ، ش، ع:"فتبين".
(5)
قوله: "رضي الله عنه" لم ترد في آ، ش، ع.
كُلِّ خيرٍ، والموتَ راحةً لي من كُلِّ شرٍّ". خرَّجه مسلم
(1)
. وفي "الترمذي"
(2)
عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه سئل: أيُّ النَّاس خَيْر؟ قال: "مَن طال عُمُره وحسُنَ عملُه". قيل: فأيُّ النَّاس شَرٌّ؟ قال: "مَن طال عُمُرُه وساء عَمَلُهُ".
وفي "المسند"
(3)
وغيره أنَّ نفرًا [من بني عَذْرَةَ] ثلاثةً قدِموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأَسْلَموا، فكانوا عند طلحة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثًا، فخرج فيه
(4)
أحدُهُم فاستُشهد، ثم بَعَثَ بَعْثًا آخَرَ، فخرج آخرُ منهم فاستُشهِد، ثم مات الثالث على فِراشِه. قال طلحة: فرأيتُهم في الجنَّة، فرأيتُ الميِّتَ على فراشِه أمامَهم، ورأيتُ الذي استُشهِد آخِرًا يليه، ورأيتُ الذي استُشهِد أوَّلَهُمْ آخِرَهُمْ. فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكَرْتُ ذلك له، فقال: وما أنكرْتَ من ذلك؟ ليس [أحدٌ] أفضلَ عند الله عز وجل من مؤمنٍ يُعَمَّرُ في الإِسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله.
وفي رواية
(5)
، قال: أليس قد مكثَ هذا بعدَه سنةً؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضانَ فصامَه؟ قالوا: بلى. قال: وصلَّى كذا وكذا سَجْدَةً في السَّنة؟ قالوا: بلى. قال: فلما
(6)
بينَهما أبعدُ ما بينَ السَّماء والأرض. قيل لبعض السَّلف: طاب الموت. قال: لا تفعل، لَساعةٌ تعيش فيها تستغفِرُ الله خيرٌ لك من موت الدَّهر. وقيل لشيخ كبير منهم: تحبُّ الموت؟ قال: لا.
قيل: ولِمَ؟ قال: ذهب الشباب وشرُّه، وجاء الكِبَرُ وخيرُه؛ فإذا قمْتُ قلْتُ:
(1)
رقم (2720)(71) في الذكر والدعاء: باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل.
(2)
رقم (2330) في الزهد، باب رقم 22، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرجه المنذري في "الترغيب" 4/ 254 وقال:"رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والطبراني بإسناد صحيح والحاكم والبيهقي في الزهد وغيره". ورواه أحمد في "المسند" 5/ 40، 43، 47، 48، 49، 50.
(3)
مسند أحمد 1/ 163 والزيادة منه، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 204 وقال:"قلت: لطلحة حديث رواه ابن ماجه في التعبير غير هذا" ثم قال: "رواه أحمد فوصل بعضه وأرسل أوله، ورواه أبو يعلى والبزار فقالا: عن عبد الله بن شداد عن طلحة، فوصلاه بنحوه، ورجالهم رجال الصحيح". وأخرجه المنذري في "الترغيب" 4/ 255.
(4)
في ب، ط:"فيهم".
(5)
رواه ابن ماجه رقم (3925) في الرؤيا: باب تعبير الرؤيا. وفي زوائد البوصيري: رجال إسناده ثقات، إلا أنه منقطع.
(6)
في سنن ابن ماجه: "فما بينهما أبعد مما .. ".
بسم الله، وإذا قعدْتُ قلْتُ: الحمد لله، فانا أحبُّ أَن يبقَى لي هذا. وقيل لشيخ آخر منهم: ما بقي مِمَّا تحبُّ له الحياة؟ قال: البكاء على الذنوب. ولهذا كان السَّلفُ الصالح يتأسَّفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم عنهم بالموت. وبكى معاذٌ عند موته وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حِلَق الذِّكر. وبكى عبد الرحمن بن الأسود عند موته، وقال: وا أسفاه على الصوم والصلاة، ولم يزلْ يتلو القرآنَ حتى مات. وبكى يزيد الرقاشي عند موته، وقال: أبكي على ما يفوتُني من قيام الليل وصِيام النَّهار، ثم بكى وقال: من يصلي لك يا يزيدُ بعدَك؟ ومن يصومُ ومن يتقرَّب لك بالأعمال الصالحة؟ ومن يتوبُ لك من الذنوب السَّالفة؟. وجَزِعَ بعضُهم عند موته، وقال: إنما أبكي على أن يصومَ الصائمون لله ولستُ فيهم، ويصلِّي المصلُّون ولستُ فيهم، ويذكُرَ الذَّاكرون ولستُ فيهم، فذلك الذي أبكاني.
تحمَّلَ أصحابي ولم يجدوا وَجْدِي
…
وللنَّاس أَشْجَانٌ وَلِي شَجَنٌ وَحْدِي
أحبُّكُمُ ما دُمْتُ حَيًّا فإنْ أمُتْ
…
فوا أسَفي مِمَّن يحبُّكُمُ بَعْدِي
في "الترمذي"
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "ما مِن ميت مات إلَّا نَدِمَ؛ إن كان مُحْسِنًا نَدِمَ أن لا يكونَ ازْدَادَ، وإن كان مُسِيئًا ندِمَ أن لا يكونَ استعتبَ"
(2)
. إذا كان المحسن يندَمُ على ترك الزِّيادة، فكيفَ يكون حالُ المسيء؟ رأى بعضُ المتقدِّمين في المنام قائلًا يقولُ له:[قل]
(3)
:
يا خَدُّ إنَّكَ تُوسَّد لَيِّنًا
…
وُسِّدْتَ بَعْدَ المَوْتِ صُمَّ الجَنْدلِ
فاعْمَلْ لنفسِكَ في حياتِكَ صَالحًا
…
فَلَتَنْدَمَنَّ غَدًا إذا لم تفْعَلِ
ورأى آخر في المنام قائلًا يقول له:
إن كنت لا ترتاب أنَّك ميِّتُ
…
ولسْتَ لبَعْدِ الموت ما أنتَ تعمَلُ
(1)
رقم (2403) في الزهد: باب رقم (58).
(2)
في الترمذي: "نَزَع". أي نزع نفسه عن ارتكاب المعاصي.
(3)
زيادة من آ، ع.
فعمرُكَ ما يغني وأنتَ مفرِّط
…
واسْمُكَ في المَوْتى مُعَدٌّ مُحصَّلُ
رُئي بعضُ الموتى في المنام، فقال: ما عندنا أكثرُ من الندامة، ولا عندكم أكثرُ من الغَفْلَة. وُجِدَ على قبرٍ مكتوبٌ:
ندِمْتُ على ما كان منِّي ندامَةً
…
وَمَن يتَّبِعْ ما تشتهِي النَّفْسُ يَنْدَمُ
ألم تَعْلَمُوا أن الحسابَ أمامَكُم
…
وأنَّ وراكُم طالبًا ليسَ يسأمُ
فخافُوا لكيما تأمنُوا بَعْدَ مَوْتِكُم
…
ستلقون ربًّا عادلًا ليس يظلِمُ
فليس لمغرورٍ بدُنياهُ راحَةٌ
…
سَيندَمُ إنْ زلَّتْ به النَّعْلُ فاعْلَمُوا
الموتى في قبورهم يتحسَّرون على زيادةٍ في أعمالهم بتسبيحةٍ أو بركعة، ومنهم من يسأل الرجعة إلى الدنيا لذلك، فلا يقدرون
(1)
على ذلك، قد حيل بينهم وبين العمل، وغلِقت
(2)
منهم الرهون. ورئي بعضُهم في المنام فقال: قدمنا على أمرٍ عظيمٍ، نعلَم ولا نعمَلُ، وأنتم تعملون ولا تعلمون، واللهِ لَتسبيحةٌ أو تسبيحتان، أو ركعةٌ أو ركعتان في صحيفةِ أحدِنا أحبٌ إليه من الدنيا وما فيها. قال بعضُ السَّلف: كُلُّ يومٍ يعيش فيه المؤمن غنيمةٌ. وقال بعضُهم: بقيَّةُ عمر المؤمن لا قيمةَ له، يعني أنه يمكنه أن يمحوَ فيه ما سلَفَ منه من الذنوب بالتوبة، وأن يجتهدَ فيه في بلوغ الدَّرَجات العالية بالعمل الصالح. فأمَّا من فرط في بقية عمره فإنَّه خاسر، فإن ازداد فيه من الذنوب فذلك هو الخسران المبين. الأعمالُ بالخواتيم؛ من أصلح فيما بقي غُفِر له ما مضَى، ومن أساء فيما بقي أُخِذ بما بقي وما مضَى.
يا بائعَ عمره مطيعًا أملَهْ
…
في معصية الله كفعل الجهلَهْ
إن ساوَمَك الجهلُ
(3)
بباقيه فقُلْ
…
باقِي عُمُرِ المؤمنِ لا قيمةَ لَه
ما مضى من العمر وإن طالت أوقاته فقد ذهبت لذَّاته وبقيت تبعاتُه، وكأنَّه لم يكن إذا جاء الموتُ وميقاتُه؛ قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ
(1)
في آ، ش:"فلا يقدرون عليها".
(2)
يقال: غلِق الرهن، إذا استحقه المرتهن.
(3)
في آ: "اللهو".
جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}
(1)
. تلا بعضُ السَّلف هذه الآية وبكى، وقال: إذا جاء الموت لم يُغنِ عن المرء ما كان فيه من اللذَّة والنعيم. وفي هذا المعنى ما أنشدَه أبو العتاهية للرشيد حين بنَى قصرَه واستدعى إليه ندماءه، [ثم قال له: ما تقول فيما نحن فيه؟ فأنشده هذه الأبيات]
(2)
:
عِشْ ما بدا لك سالمًا
…
في ظِلِّ شَاهِقَةِ القُصُورِ
يَسْعَى عليكَ بما اشْتَهَيْـ
…
ـتَ لَدَى الرَّواحِ وفي البُكُورِ
فإذا النُّفوسُ تَقَعْقَعَتْ
…
في ضِيقِ حَشْرَجةِ الصُّدورِ
فهناكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا
…
ما كنْتَ إلَّا في غُرورِ
في "صحيح البخاري"
(3)
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أَعْذَرَ
(4)
اللهُ إلى من بلَّغه ستين من عُمْره". وفي الترمذي
(5)
: "أعمارُ أُمَّتي ما بينَ السِّتِّين إلى السَّبعين، وأقلُّهم مَن يَجُوزُ ذلك". وفي رواية: "حَصَادُ أُمَّتي مَن بلَغَ الخمسين، فقد تنصَّفَ المائة فماذا ينتظر".
لَهْفِي عَلَى خَمْسِينَ عامًا قَدْ مَضَتْ
…
كانَتْ أمامِي ثمَّ خلّفْتُها
لو كان عُمْري مائةً هَدَّني
…
تَذَكُّرِي أنِّي تنصَّفْتُها
في بعض الكتب السَّالفة: إنَّ لله مناديًا يُنادي كُلَّ يومٍ أبناءَ الخمسين: زَرْعٌ دنا حصادُه، أبناءَ السِّتين: هلموا إلى الحساب، أبناء السَّبعين: ماذا قدَّمتم وماذا أخرتم؟ أبناءَ الثمانين: لا عذرَ لكم. ليت الخلْقَ لم يُخلقوا، وليتهم إذ خُلِقُوا علِموا لماذا خُلِقوا، وتجالَسُوا بينهم فتذاكروا ما عمِلوا، ألا أتتكم السَّاعة فخذوا حذرَكم. وقال
(1)
سورة الشعراء الآيات 205 - 207.
(2)
لم ترد الآبيات في ديوانه بتحقيق الدكتور شكري فيصل.
(3)
البخاري رقم (6419) في الرقاق: باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر إلى الله. وفيها "أَعْذَرَ الله إلى امرئٍ أَخَّر أجلَه حتى بلغ ستين سنة".
(4)
الإِعذار: إزالة العذر، والمعنى أنه لم يُبْق فيه موضعًا للاعتذار، حيث أمهلَه طولَ هذه المدة ولم يعتذر. وأعذر إليه: إذا بلغه أقصى الغاية في العذر، ومكنه منه.
(5)
الترمذي رقم (2331) في الزهد: باب ما جاء في فناء العمر، ورقم (3550) في الدعوات، باب رقم (102)، وابن ماجه رقم (4236) في الزهد: باب الأمل والأجل.
وَهْب
(1)
: إن لله مُناديًا ينادي في السَّماء الرابعة كُلَّ صباح: أبناءَ الأربعين: زَرْعٌ دَنَا حصادُه، أبناءَ الخمسين: ماذا قدَّمْتم وماذا أخَّرتم؟ أبناءَ الستين: لا عذرَ لكم. وفي حديثٍ: "إنَّ الله تعالى يقولُ للحَفَظَةِ: ارفقوا بالعَبْدِ ما دامَتْ حداثتُه
(2)
، فإذا بلغ الأربعين حقِّقا وتحفَّظا"
(3)
. فكان بعضُ رواته يبكي عند روايته، ويقول: حين كبِرتِ السِّنُّ، ورَقَّ العَظْمُ، وقَعَ التحفُّظُ.
قال مسروق: إذا أتتك الأربعون فخذ حذرك. وقال النَّخعي: كان يقال لصاحب الأربعين: احتفظ بنفسك.
وكان كثير من السَّلف إذا بلغ الأربعين تفرَّغ للعبادة. وقال عمر بن عبد العزيز: تمَّت حُجَّةُ الله على ابن الأربعين، فمات لها
(4)
. ورأى في منامه قائلًا يقول له:
إذا ما أتتك الأربعون فعندها
…
فاخْشَ الإلهَ وكُنْ للموت حذَّارا
(5)
يا أبناءَ العشرين! كم مات من أقرانكم وتخلفتم. يا أبناء الثلاثين! أُصِبْتم بالشباب على قرب من العهد، فما تأسفتم
(6)
. يا أبناءَ الأربعين! ذَهَبَ الصِّبا وأنتم على اللهو قد عكفتم. يا أبناءَ الخمسين! تنصفتم المائة وما أنصفتم. يا أبناءَ الستين! أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم، أتلهون وتلعبون، لقد أسرفتم!!
وإذا تكامَلَ للفَتَى من عُمْره
…
خَمسونَ وَهْوَ التُّقَى لا يَجْنَحُ
عَكَفَتْ
(7)
عليه المخزياتُ فما لَهُ
…
متأخّرٌ عنها ولا متزحزحُ
وإذا رأَى الشيطانُ غُرَّةَ وَجْهِهِ
…
حيّا وقال فَدَيْتُ من لا يُفْلِحُ
قال الفضيل لرجلٍ: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة. قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى رَبِّك يوشِك أن تصلَ.
(1)
في ب: "وهب بن الورد".
(2)
في آ: "ما دامت حداثة"، وفي ش:"ما دام حداثة"، وفي ع: ما دام في حداثة"، وأثبت ما جاء في ب، ط.
(3)
التَّحفُّظ: التيقُّظ، وقلة الغفلة في الأمور والكلام والتيقُّظ من السَّقْطة، كأنَّه على حذر من السقوط. (اللسان: حفظ).
(4)
مات عمر بن عبد العزيز رحمه الله سنة 101 هـ، وله أربعون سنة.
(5)
البيت مضطرب الوزن في الشطرين.
(6)
في آ: "فما تأسَّيْتُم".
(7)
في آ: "علقت".
وإنَّ امْرأً قد سَارَ ستينَ حِجَّةً
…
إلى مَنْهَلٍ مِن وِرْدِه لَقريبُ
يا من يفرَحُ بكثرة مرور السِّنين عليه، إنما تفرَحُ بنقْص عمرك. قال
(1)
أبو الدَّرداء والحسن رضي الله عنهما: إنما أنتَ أيامٌ، كلَّما مضَى منك يومٌ مضَى بعضُك.
[وأنشد بعضهم]
(2)
:
إنَّا لنفرَحُ بالأيَّام نَقْطَعُها
…
وكُلُّ يومٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَلِ
فاعْملْ لنفسِكَ قبلَ الموتِ مجتهدًا
…
فإنَّما الرِّبْحُ والخسرانُ في العَمَلِ
قال بعضُ الحكماء: كيفَ يفرحُ بالدنيا مَن يومُه يهدِمُ شهرَه، وشهرُه يهدِم سنتَه، وسنتُه تهدِمُ عمرَه؟! كيف يفرح مَن يقودُه عمرُه إلى أجله، وحياتُه إلى موته؟!
نجد
(3)
سرورًا بالهلال إذا بَدَا
…
وما هُوَ إلَّا السَّيفُ للحَتْفِ يُنْتَضَى
إذا قيلَ تمَّ الشَّهرُ
(4)
فهو كنايةٌ
…
وترجمةٌ عن شَطْرِ عُمْرٍ قَد انْقَضَى
قال الحسن: الموتُ معقودٌ بنواصيكم، والدنيا تُطْوَى من ورائكم.
نَسيرُ إلى الآجال في كُلِّ لحظةٍ
…
وأعمارُنا تُطوى وهُنَّ مراحِلُ
(5)
تَرحَّلْ من الدنيا بزادٍ من التُّقَى
…
فعُمْرُك أيَّامٌ وهُنَّ قلائلُ
قال بعضُ الحكماء: من كانت الليالي مطاياه سارتا به وإن لم يَسِر.
وما هذه الأيام إلَّا مراحلُ
…
يحثُّ بها حادٍ إلى الموت قاصِدُ
وأعجَبُ شيءٍ لو تأمَّلْتَ أنَّها
…
منازِلُ تُطْوَى والمسافرُ قاعِدُ
[قال بعضُ الحكماء: قد اعتورَكَ الليلُ والنَّهارُ، يدفعك
(6)
الليلُ إلى النهار، ويدفعك النهارُ إلى الليل، حتى يأتيكَ الموت:
(1)
في آ: "قال الحسن وأبو الدرداء"، وفي ش:"قال الحسن عن أبي الدرداء".
(2)
زيادة من نسخة ش.
(3)
في ش: "تزيد"، وصححت في هامش (ع) بـ"نجدد".
(4)
في ش، ع:"العام".
(5)
بعدها في ب: "وهن مراحل"، وفي ط:"وهي مراحل".
(6)
في ش، ع:"فالليل يدفعك إلى النهار، والنهار يدفعك إلى الليل"، وأثبت ما جاء في (آ).
أَيَا وَيْحَ نَفْسِي مِن نَهَارٍ يَقُودُها
…
إلى عَسْكَرِ المَوْتَى وَلَيْلٍ يَذُودُها]
(1)
يا مَن كلَّما طالَ عمره زاد ذنبُه، يا مَن كلَّما ابيضَّ شعره بمرور الأيام اسودَّ بالآثام قلبُه.
شَيْخٌ كَبِيرٌ لَهُ ذُنوبُ
…
تَعجِزُ عن حَمْلِها المطايا
قَدْ بَيَّضَتْ شَعْرَهُ الليالي
…
وَسَوَّدَت قلبَهُ الخطايا
يا من تمرُّ عليه سنةٌ بعد سنةٍ وهو مستثقل في نوم الغَفْلَة والسِّنَة. يا من يأتي عليه عامٌ بعدَ عام وقد غرِقَ في بحر الخطايا فعام
(2)
. يا من يشاهد الآياتِ والعِبَرَ كلَّما توالتْ عليه الأعوام والشهور، ويسمَعُ الآيات والسور، ولا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور، ما الحيلة فيمن سبق عليه الشقاء في الكتاب المسطور {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
(3)
{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}
(4)
.
خليليَّ كم مِن ميتٍ قد حَضَرْتُهُ
…
ولكنَّني لم أنتفِعْ بحضوري
وكم مِن ليالي قَدْ أرَتْني عَجَائبًا
…
لَهُنَّ وأيامٍ خلَتْ وشهورِ
وكم مِن سنين قد طَوَتْنِي كثيرة
…
وكم من أمورٍ قد جَرَتْ وأمورِ
وَمَن لم يزدْه السِّنُّ ما عَاشَ عِبْرةً
…
فَذَاكَ الَّذي لا يستنِيرُ بنُورِ
* * *
(1)
ما بين قوسين لم يرد في ب، ط.
(2)
في آ: "وعام"، وفي ش:"فهام".
(3)
سورة الحج الآية 46.
(4)
سورة النور الآية 40.
فصل ويلتحق بوظائف شهور السنة الهلالية وظائف فصول السنة الشمسية، وفيه ثلاثة مجالس:
المجلس الأول في ذكر فصل الربيع
خرَّجا في "الصحيحين"
(1)
من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إنَّ أَخْوَفَ ما أخافُ عليكم ما يُخرِجُ الله لكم من بَرَكاتِ الأرض. قيل: ما بركات الأرض؟ قال: زَهرة
(2)
الدنيا. فقال له رجل: هل يأتي الخيرُ بالشَّرِّ؟ فصَمَتَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننتُ أنه سَيُنزَلُ عليه. ثم جَعَلَ يمسَحُ عن جبينه. قال: أين السائلُ؟ قال: أنا. قال: لا يأتي الخيرُ إلَّا بالخير؛ إنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ
(3)
حُلْوةٌ، وإنَّ كُلَّ ما أنبَتَ الرَّبيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا
(4)
أو يُلِمُّ، إلَّا آكِلَةَ الخضِرِ
(5)
، أكلَتْ، حتى إذا امْتَدَّتْ خاصِرَتَاها استقبلت الشمسَ، فاجترَّتْ وَثَلَطَت
(6)
وبالَت، ثم عادَتْ فأكلَتْ؛
(1)
أخرجه البخاري رقم (1465) في الزكاة: باب الصدقة على اليتامى، وفي الجمعة: باب يستقبل الإِمام القوم واستقبال الناس الإِمام إذا خطب، وفي الجهاد: باب فضل النفقة في سبيل الله، وفي الرقاق: باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها. ورواه مسلم رقم (1052) في الزكاة: باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا. والنسائي 5/ 90 في الزكاة: باب الصدقة على اليتيم.
(2)
زهرة الدنيا: حسنها وبهجتها.
(3)
الخضِرة: الناعمة الغَضَّة.
(4)
حَبِطَ بطنه: إذا انتفخ فهلك. وقوله: أو يُلِمّ، من أَلَمَّ به يُلِمُّ، إذا قاربه ودنا منه، يعني: أو يقرب من الهَلاك.
(5)
الخَضِر: ضروب من النبات مما له أصلٌ غامض في الأرض، كالنَّصِيِّ والصّلّيان، وليس من أحرار البقول، وإنما هو من كلأ الصيف في الغيض، والنِّعَم لا تستكثر منه، وإنما ترعاه لعدم غيره. وواحد الخضِر: خَضِرة.
(6)
ثَلَطَ البعيرُ يثلِط: إذا ألقى رجيعَه سهلًا رقيقًا.
وإنَّ هذا المال خَضِرةً حُلوةٌ، مَنْ أَخَذَهُ بحقِّه، ووضَعَهُ في حقِّه، فَنِعْمَ المعونةُ هو، وإن أخذَهُ بغير حقِّه كان كالذي يأكُلُ ولا يشبع"
(1)
.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوَّف على أمَّته من فتح الدنيا عليهم، فيخاف عليهم الافتتان بها. ففي "الصحيحين"
(2)
عن عمرو بن عوفٍ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار لما جاءه مالٌ
(3)
من البحرين: "أَبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ، فوالله ما الْفَقْرَ أَخْشَى عليكم، ولكن أخشَى عليكم أن تُبْسَطَ الدُّنيا عليكم كما بُسِطَتْ على من كان قبلَكم؛ فَتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها؛ فتهلككُم كما أهلكَتْهم". وكان آخر خطبةٍ خطبَها على المنبر حذَّر فيها من زهرة الدنيا، ففي "الصحيحين"
(4)
عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم صَعِدَ المنبر، فقال: "إني لستُ أخشَى عليكم أن تُشركوا بعدي، ولكني أخشَى عليكم الدنيا أن تنافَسُوا
(1)
علَّق ابن الأثير في "جامع الأصول" 4/ 503 على الحديث بقوله: "وفي هذا الحديث مثلان؛ أحدهما: للمفرط في جمع الدنيا، والآخر: للمقتصد في أخذها والانتفاع بها. فأما قوله: وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حَبَطًا أو يُلِمّ، فإنَّه مثلٌ للمفرط الذي يأخذُ الدنيا بغير حقها، وذلك أنَّ الربيع ينبت أحرار البقول، فتستكثر الماشية منه لاستطابتها إياه، حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حدَّ الاحتمال، فتنشقّ أمعاؤها من ذلك فتهلك، أو تقارب الهلاك، وكذلك الذي يجمع الدنيا من غير حقِّها ويمنعها من حقها، قد تعرض للهلاك في الآخرة، لا بل في الدنيا. وأما مثل المقتصد، فقوله: إلا آكلة الخضِر، وذلك أن الخَضِرَ ليس من أحرار البُقول وجيِّدها التي يُنْبِتُها الربيع بتوالي أمطاره فتحسُن وتنعُم، ولكنه من التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويُبْسها، حيث لا تجد سواها، وتسميها العرب: الجَنْبَة، فلا ترى الماشيةَ تُكثر من أكلها ولا تستمرثها، فضرب آكلة الخضر من المواشي مثلًا لمن يقتصِر في أخذ الدنيا وجمعها، ولا يحمله الحرص على أخذها بغير حقها، فهو ينجو من وبالها، كما نجت آكلة الخضِر. ألا تراه قال: أكلتْ، حتى إذا امتدَّتْ خاصرتاها استقبلت عين الشمس، فثلطت وبالت؛ أراد أنها إذا شبعت منها بَرَكَتْ مستقبلة عين الشمس، تستمرئ بذلك ما أكلت، وتجترُّ وتثلِط، فإذا ثلطت فقد زال عنها الحَبَط، وإنما تحبط الماشية لأنها تمتلئ بطونها ولا تثلط ولا تبول، فيعرض لها المرض فتهلك". وسيعود المؤلف إلى الحديث وشرحه أيضًا.
(2)
أخرجه البخاري رقم (6425) في الرقاق: باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، وفي الجهاد: باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، وفي المغازي: باب شهود الملائكة بدرًا. ومسلم رقم (2961) في الرقاق.
(3)
في آ، شر، ع:"مال البحرين".
(4)
أخرجه البخاري رقم (6590) و (6426) في الرقاق: باب في الحوض، وباب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، وفي الجنائز: باب الصلاة على الشهيد، وفي الأنبياء: باب علامات النبوة في الإِسلام، وفي المغازي: باب غزوة أحد، وباب أُحُد، يحبنا ونحبه. ورواه مسلم رقم (2296) في الفضائل: باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته.
فيها، فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم". قال عقبة: فكان آخرَ ما رأيتُ
(1)
رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر.
وفي "صحيح مسلم"
(2)
عن عبد الله بن عمرٍو أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا فُتِحَتْ
(3)
عليكم خَزائنُ فارسَ والروم، أيُّ قومٍ أنتم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: نقولُ كما أمرنا اللهُ عز وجل. فقال رسولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم: أو غيرَ ذلك، تتنافَسُون، ثم تَتَحَاسَدُون، ثم تَتَدَابَرُون، ثم تَتَبَاغَضُون". وفي "المسند"
(4)
عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"لا تُفتَح الدنيا على أحدٍ إلَّا ألقى اللهُ بينهم العداوة والبغضاءَ إلى يوم القيامة. قال عمر: وأنا أشفق من ذلك". وفيه
(5)
أيضًا عن أبي ذرٍّ أنَّ أعرابيًا قال: يا رسولَ الله! أكلتنا الضَّبُعُ، يعني السَّنَةَ والجَدْبَ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غيرُ ذلك أخوفُ منِّي عليكم حين تُصَبُّ عليكم الدنيا صَبًّا، فليتَ أمتي لا يلبَسُون الذَّهَبَ.
وفي روايةٍ
(6)
: الديباج. وفيه
(7)
أيضًا: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ما أخْشَى عليكم الفَقْرَ، ولكنِّي أخْشَى عليكم التكاثر".
ويُروى من حديث عوف بن مالكٍ وأبي الدَّرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الفقرَ تخافون؟ والذي نفسي بيدِه، لَتُصَبَّنَّ عليكم الدنيا صبًّا حتى لا يزيغَ قلبُ أحدِكم إن أزاغه إلَّا هي"
(8)
.
(1)
في ب، ط: "ما رأيت من رسول الله
…
".
(2)
(2962) في الزهد والرقائق، في فاتحته. وفي آخره زيادة:"ثم تنطلقون إلى مساكين المهاجرين، فتجعلون بعضهم على رِقاب بعض".
(3)
في ب، ع، ط:"افتتحت".
(4)
مسند أحمد 1/ 16، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 236 وقال:"رواه أحمد والبزار وأبو يعلى في الكبير، وإسناده حسن". ومثله في "الترغيب" 4/ 183.
(5)
مسند أحمد 4/ 153، 155، 178، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 147 و 10/ 237، وقال:"رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح" وانظر "الترغيب" 4/ 183.
(6)
ذكرها الهيثمي في "مجمع الزوائد" 5/ 143 وقال: "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عبيدة بن معتب، وهو متروك.
(7)
مسند أحمد 2/ 308، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 121 و 10/ 236، وقال:"رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح".
(8)
مسند أحمد 6/ 24 عن عوف بن مالك، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 245، وقال:"رواه الطبراني والبزار بنحوه، ورجاله وثقوا، إلا أنَّ بقية مدلس وإن كان ثقة. وكذلك رواه المنذري في "الترغيب" 4/ 181 وقال: "رواه الطبراني وفي إسناده بقية".
وفي رواية عوفٍ: "فإنَّ الله فاتحٌ عليكم فارسَ والروم"
(1)
. وفي المعنى أحاديث أخر.
وفي "الترمذي"
(2)
أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المالُ". فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيدٍ: "إن أخوفَ ما أخافُ عليكم ما يُخرِجُ الله لكم من بركات الأرض"، ثم فسَّره بزهرة الدنيا؛ ومراده: ما يُفْتَحُ على أمَّته منها من مُلْكِ فارِسَ والروم وغيرهم من الكفار الذين وَرِثَتْ هذه الأمة ديارهم وأموالَهم وأراضيهم التي تَخرجُ منها زروعُهم وثمارُهم وأنهارُهم ومعادنُهم، وغيرُ ذلك مما يَخرجُ من بَرَكات الأرض، وهذا من أعظم المعجزات، وهو إخباره بظهور أمته على كنوز فارِسَ والروم وأموالِهم وديارهم. ووقع على ما أخبر به؛ ولكنَّه لما سمَّى ذلك "بركاتِ الأرض" وأخبر أنه "أخوَفُ ما يخافُه عليهم" أشكَلَ ذلك على بعض مَن سمِعه حيثُ سمَّاه بَرَكَةً، ثم خاف منه أشدَّ الخوفِ؛ فإنَّ البركة إنَّما هي خيرٌ ورحمةٌ.
وقد سمَّى اللّه تعالى المالَ خيرًا في مواضِعَ كثيرةٍ من القرآن، فقال تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}
(3)
، وقال:{إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}
(4)
، وقالَ تعالى عن سليمان عليه السلام:{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}
(5)
. فلمَّا سأله السائل: هل يأتي الخيرُ بالشر؟ صَمَتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتَّى ظنُّوا أنَّه أُوحِي إليه، والظاهر أنَّ الأمر كان كذلك، ويدُلُّ عليه أنَّه ورد في روايةٍ لمسلم في هذا الحديث:"فأَفَاقَ يمسَحُ عنه الرُّحَضَاءَ"
(6)
وهو العَرَقُ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوحِي إليه يتحدَّرُ منه مثلُ الجُمان من العَرَقِ من شدَّة الوَحْي وثقله عليه؛ وفي هذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سُئل عن شيءٍ لم يكن أوحِي إليه فيه شيء انتظر الوحيَ فيه، ولم يتكلَّمْ فيه بشيءٍ حتى يُوحَى إليه فيه، فلمَّا نزل عليه جوابُ ما سئل عنه، قال: أين
(1)
مسند أحمد 6/ 24.
(2)
رقم (2337) في الزهد: باب ما جاء أن فتنة هذه الأمة المال، من حديث كعب بن عياض رضي الله عنه، وإسناده حسن. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وصححه الحاكم وأقره الذهبي. ورواه أحمد في "المسند" 4/ 160.
(3)
سورة العاديات الآية 8.
(4)
سورة البقرة الآية 180.
(5)
سورة ص الآية 32.
(6)
رواه مسلم رقم (1052)(123) في الزكاة: باب تخوّف ما يخرج من زهرة الدنيا.
السائل؟ قال: ها أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الخير لا يأتي إلَّا بالخير". وفي رواية لمسلم، فقال:"أوَخيرٌ هو "
(1)
؟ وفي ذلك دليل على أنَّ المال ليس بخيرٍ على الإِطلاق، بل منه خيرٌ ومنه شرٌ.
ثم ضرَبَ مثلَ المال ومثلَ مَن يأخُذُه بحقِّه ويصرِفُه في حقه، ومَن يأخذُه من غير حقِّه ويصرفه في غير حقِّه؛ فالمالُ في حقِّ الأوَّل خيرٌ، وفي حقِّ الثاني شرٌّ، فتبيَّن بهذا أنَّ المال ليس بخير مُطلقٍ، بل هو خيرٌ مقيَّدٌ، فإنْ استعان به المؤمنُ على ما ينفعُه في آخرته كان خيرًا له، وإلَّا كان شرًّا له.
فأمَّا المالُ، فقال: إنه خضِرَة حُلْوةٌ، وقد وُصِفَ المالُ والدنيا بهذا الوصف في أحاديثَ كثيرةٍ؛ ففي "الصحيحين"
(2)
عن حكيم بن حِزام، أنَّه سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا حكيم! إنَّ هذا المال خضِرَةٌ حلوةٌ، فَمَنْ أَخَذَه بسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ له فيه، ومَن أخذَه بإشرافِ نَفْسٍ لم يُبَارَكْ له فيه؛ وكان كالذي يأكلُ ولا يشبَعُ".
وفي "صحيحِ مسلم"
(3)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ الدُّنيا خَضِرةٌ حُلْوةٌ، وإنَّ اللّهَ مُسْتَخْلِفُكم فيها، فناظِرٌ كيفَ تعملون؛ فاتَّقُوا الدنيا، واتقوا النِّساء؛ فإنَّ أوَّلَ فتنةِ بني إسرائيل كانت في النساء". واستخلافُهم فيها هو ما أورثهم اللهُ منها مما كان في أيدي الأمم من قبلهم كفارِسَ والروم، وحذَّرهم من فتنة الدنيا، وفتنة النِّساء خُصوصًا؛ فإنَّ النِّساءَ أوَّلُ ما ذكره اللّه تعالى من شهواتِ الدنيا
(1)
مسلم رقم (1052)(121) في الزكاة.
(2)
قطعة من حديث أخرجه البخاري رقم (1472) في الزكاة: باب الاستعفاف عن المسألة، وفي الوصايا: باب تأويل قول الله عز وجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} ، وفي الجهاد: باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم، وفي الرقاق: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا المال خضرة حلوة". ورواه مسلم رقم (1035) في الزكاة: باب أن اليد العليا خير من اليد السفلى.
(3)
رقم (2742) في الذكر: باب أكثر أهل الجنة الفقراء. وهو عند الترمذي رقم (2192) بعض حديث طويل في الفتن: باب ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة.
(1)
.
وفي "المسند"
(2)
و"الترمذي" عن خولةَ بنت قيس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ هذا المالَ خضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فمن أصابَه بحقِّه بُورِك له فيه، وَرُبَّ متخوِّض فيما شاءت نفسُهُ من مال اللهِ ورسولِه ليس له يوم القيامة إلَّا النار". وفي "المسند"
(3)
أيضًا عن خولة بنت تامر الأنصارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إنَّ الدُّنيا خَضِرةٌ حُلْوَةٌ، وإنَّ رجالًا يتخوَّضون
(4)
في مال الله بغير حقٍّ، لهم النَّارُ يومَ القيامة". وخرَّج البخاري
(5)
من قوله
"إنَّ رجالًا"، إلى آخره. وفي "المسند"
(6)
أيضًا عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن هذه الدنيا خضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فمن آتيناه منها شيئًا بطيب نفس أو طيب طعمة ولا إشراف
(7)
، بُورِك له فيه، ومن آتيناه منها شيئًا بغير طيبِ نَفْس منَّا وغير طيب طعمةٍ وإشراف منه لم يبارَكْ له فيه". وفي المعنى أحاديثُ أخر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن مما يُنبت الربيع يقتُلُ حَبَطًا، أو يُلِمُّ، إلَّا آكِلَةَ الخَضِرِ"، مَثَلٌ آخَرُ ضرَبَه صلى الله عليه وسلم لزهْرة الدُّنيا وبهجةِ منظرِها وطيبِ نعيمها وحلاوته في النفوس، فمثله كمثل نبات الربيع، وهو المرعى الخضر الذي ينبتُ في زمان الربيع؛ فإنَّه يُعجِبُ الدَّوابّ التي ترعَى فيه وتستطيبه وتكثر
(8)
من الأكل منه أكثَرَ من قدر حاجتها؛ لاستحلائها له؛ فإمَّا أن يقتلَها فتهلك وتموت حَبَطًا؛ والحَبَطُ: انتفاخُ البطن مِن كثرة الأَكْل، أو يقاربُ
(1)
سورة آل عمران الآية 14.
(2)
رواه أحمد في "المسند" 4/ 366، 378، والترمذي رقم (2374) في الزهد: باب ما جاء في أخذ المال بحقه. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(3)
مسند أحمد 6/ 410.
(4)
في ب، ش، ط:"سيخوضون". وَيتخَوَّضون: من الخوض، وهو المشي في الماء وتحريكه. وأراد هنا التخليط في المال وتحصيله من غير وجهه كيف أمكن.
(5)
رقم (3118) في الجهاد: باب قول الله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} .
(6)
لم أجده في المسند، وذكر بعضه الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 99 و 10/ 246 وقال:"رواه البزار ورجاله ثقات". وأورده في "كشف الأستار" 1/ 435، قال: قال البزار: لا نعلم أسنده إلا شريك، ورواه غيره عن عروة مرسلًا.
(7)
في ط: "إسراف". والإشراف: التطلع إلى المال والطمع فيه.
(8)
في آ، ع:"وتكثر الأكل منه".
قتلَها، ويُلِمُّ به، فتمرض منه مَرَضًا مخوفًا مقاربًا للموت، فهذا مَثَلُ مَن يأخُذ من الدنيا بشَرَهٍ وجُوعِ نَفْسٍ من حيثُ لاحَتْ له، لا بقليلٍ يقنع، ولا بكثيرٍ يشبع، ولا يحلل ولا يحرِّمُ، بل الحلال عنده ما حلَّ بيده وقَدَرَ عليه، والحرام عنده ما مُنِعَ منه وعَجَزَ عنه. فهذا هو المتخوِّضُ في مال الله ورسوله فيما شاءت نفسُه، وليس له إلَّا النَّار يومَ القيامة، كما في حديث خَوْلَةَ المتقدِّم.
والمراد بمال الله ومالِ رسوله الأموالُ التي يجب على وُلاة الأمور حِفظُها وصَرفُها في طاعة الله ورسوله من أموال الفيء والغنائم، ويتبع ذلك مالُ الخراج والجزية، وكذلك أموالُ الصَّدقات التي تُصرف للفقراء والمساكين، كمالِ الزَّكاة والوقف ونحو ذلك. وفي هذا تنبيهٌ على أنَّ من تخوَّض من الدُّنيا في الأموال المحرَّمِ أكلُها، كمالِ الرِّبا، ومال الأيتام الذي مَن أكله أَكَلَ نارًا، والمغصوب، والسَّرقة، والغشِّ في البيوع، والخِداع والمكر وَجَحْد الأمانات والدَّعاوَى الباطلة، ونحوِها من الحيل المحرمة، أولى أن يتخوَّض صاحبُها في نار جهنم غدًا. فكلُّ هذه الأموال وما أشبهَها يتوسَّع بها أهلُها في الدنيا ويتلذَّذون بها، ويتوصَّلون بها إلى لذَّات الدنيا وشهواتها، ثم ينقلب ذلك بعد موتهم فيصيرُ جَمْرًا من جَمْر جهنَّم في بطونهم، فما تفي لذَّتُها بتبعتها، كما قيل:
تَفْنَى اللَّذاذَةُ مِمَّن نَالَ لَذَّتَها
…
مِنَ الحَرَامِ ويَبْقَى الإِثْمُ والعَارُ
تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ مِن مغبَّتِها
…
لا خَيْرَ في لذَّةٍ مِن بَعْدِها النَّارُ
فلهذا شَبَّهَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَن يأخُذ الدنيا بغير حقِّها، ويضعُها في غير حقِّها، بالبهائم الراعِية من خضراء
(1)
الربيع حتى تنتفخَ بطونُها من أكلِه؛ فإمَّا أن يقتلَها، وإمَّا أن يقارِبَ قتلها. فكذلك مَن أخذ الدنيا من غير حقِّها ووضَعَها في غير وجهها
(2)
؛ إمَّا أن يقتُلَه ذلك فيموتَ به قلبُه ودينُه، وهو من مات على ذلك من غير توبة منه وإصلاحِ حال، فيستحقُّ النَّارَ بعمله؛ قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا
(1)
في آ، ش، ع:"خضر".
(2)
في ش، ع:"حقِّها".
تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}
(1)
. وهذا هو الميتُ حقيقةً؛ فإنَّ الميت من مات قلبه، كما قيل
(2)
:
لَيْسَ مَن ماتَ فاسْتراحَ بميْتٍ
…
إنَّما المَيْتُ ميِّتُ الأَحْيَاءِ
وإمَّا أن يقاربَ موته ثم يُعافَى، وهو مَن أفاق من هذه السكرة وتاب، وأصلح عمله قبلَ موته. وقد قال عليّ رضي الله عنه في كلامه المشهور في أقسام حَمَلَةِ العلم: أو منهومٌ باللذات سلِسُ القياد للشهوات، أو مُغْرًى بجمع الأموال والادخار، وليسوا
(3)
من رعاة الدين أقربُ شبهًا بهم الأنعامُ السارحة. وفي الأبيات المشهورة التي كان عمر بن عبد العزيز ينشدها كثيرًا:
نَهَارُكَ يا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلةٌ
…
ولَيْلُك نومٌ والرَّدَى لَكَ لازِمُ
[تُسَرُّ بما يفنَى وتفرحُ بالمنى
…
كما سُرَّ باللَّذات في النوم حالِمُ]
(4)
وتتعبُ فيما سوْفَ تكرَهُ غِبَّهُ
…
كذلك في الدُّنيا تَعِيشُ البَهَائمِ
وأمَّا اسْتثناؤه صلى الله عليه وسلم من ذلك "آكِلةَ الخَضِرِ" فمرادُه بذلك مثل المقتصد الذي يأخذ من الدنيا بحقِّها مقدارَ حاجته، فإذا نفِد واحْتاج عاد إلى الأَخْذ منها قَدْرَ الحاجة بحقِّه. وآكِلةُ الخَضِر: دُوَيْبَّةٌ تأكُل من الخضر بقدر حاجتها إذا احتاجت إلى الأكل، ثم تصرِفُه عنها فتستقبل عينَ الشمس، فتصرف
(5)
بذلك ما في بطنها وتخرج
(6)
منه ما يؤذيها من الفضلات. وقد قيل: إنَّ الخَضِر ليس من نبات الربيع عند العرب، إنما هو مِن كلإِ الصيف بعدَ يَبْسِ العُشب وهَيْجه واصْفرارِه، والماشية من الإِبل لا تستكثر
(1)
سورة محمد الآية 12.
(2)
هذا البيت شاهد على الجمع بين التشديد والتخفيف في لفظ "ميت"، وقد فرقوا بينهما في المعنى، فقيل: الميْت للذي مات، والميِّت والمائت للذي لم يمت بعد. والبيت أحد أبيات ثلاثة لعدي بن الرَّعلاء، ذكرها صاحب اللسان والتاج (موت)، وهي:
ليس من مات فاسْتراح بمَيْت
…
إنما المَيْت مَيِّتُ الأحياءِ
إنَّما المَيْتُ مَن يعيشَ شقيًّا
…
كاسفًا بالُه قليل الرَّجاءِ
فأناسٌ يُمَصِّصُون ثِمادًا
…
وأناسٌ خُلُوقُهم في الماءِ
(3)
في آ: "وأما"، وفي ب:"وليسا"، وفي ع:"ولسنا"، وفي ش:"وليس"، وأثبت ما جاء في ط.
(4)
زيادة من نسخة (آ).
(5)
في آ، ش:"فيصرف".
(6)
في آ، ش:"ويخرج".
منه، بل تأخذ منه قليلًا قليلًا، ولا تَحْبَطُ بطونُها منه. فهذا مثل المؤمن المقتصِد من
(1)
الدنيا؛ يأخُذُ من حلالها وهو قليل بالنسبة إلى حرامها، قَدْرَ بُلْغَتِه وحاجتِه، ويجتزِئ من متاعِها بأدونِه وأخشنِه، ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلَّا إذا نفِدَ ما عندَه وخرجَت فضلاته، فلا يوجِبُ له هذا الأخْذُ ضَررًا ولا مَرَضًا ولا هلاكًا، بل يكون ذلك بلاغًا له، ويتبلَّغ به مُدَّة حياته، ويعينُه على التزوُّد لآخرته. وفي هذا إشارة إلى مدح مَن أخذ من حلال الدنيا بقدر بُلْغَتِه وقنعَ بذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم:"قد أَفْلَحَ مَن هَدَاهُ اللهُ إلى الإسلام، وكان عيشُه كفافًا فقنِعَ به"
(2)
. وقال صلى الله عليه وسلم: "خيرُ الرِّزْقِ ما يكفي "
(3)
. وقال: "اللهم! اجْعَلْ رِزْقَ آلِ محمَّد قُوتًا"
(4)
.
خُذْ مِن الرِّزق ما كَفَى
…
وَمِنَ العَيْشِ ما صَفَا
كُلُّ هذا سينقضِي
…
كسِراجٍ إذا انْطَفا
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذا المال خَضِرة حُلْوةٌ" فأعاد مرةً ثانية تحذيرًا من الاغترار به، فخضرته بهجةُ منظرِه، وحلاوتُه طِيبُ طَعْمِه؛ فلذلك تشتهيه النفوس وتسارع إلى طلبه، ولكن لو فكرتْ في عواقبه لهربَت منه. الدنيا في الحال حُلوة خضِرةٌ، وفي المآل مُرَّةٌ كدِرَةٌ؛ نعمَتْ المرضِعَةُ، وبئست الفاطمةُ!
(1)
في آ، ش:"في الدنيا".
(2)
رواه مسلم رقم (1054) في الزكاة: باب في الكفاف والقناعة، والترمذي رقم (2349) في الزهد: باب ما جاء في الكفاف، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ولفظه:"قد أفلح من أسلم، وَرُزِق كفافًا". وأخرجه الترمذي أيضًا رقم (2350) من حديث فضالة بن عبيد، ولفظه:"طُوبى لمن هُدِي للإِسلام، وكان عيشه كفافًا وقَنِع". وابن ماجه رقم (4138) في الزهد: باب القناعة، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ولفظه:"قد أفلح من هُدي إلى الإسلام، ورُزق الكفاف، وقَنع به". ورواه أحمد في "المسند" 2/ 168، 173 بنحو رواية مسلم.
(3)
رواه أحمد في "المسند" 1/ 172، 180، 187، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 81 وقال:"رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن لبينة، وقد وثقه ابن حبان، وقال: روى عن سعد بن أبي وقاص، قلت: وضعفه ابن معين، وبقية رجالهما رجال الصحيح". وفي "الترغيب" 4/ 161: "رواه أبو عوانة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي". وقد صححه ابن حبان (2323) موارد.
(4)
وفي رواية أخرى: "كفافًا". أخرجه البخاري رقم (6460) في الرقاق: باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم رقم (1055) في الزهد، والترمذي رقم (2362) في الزهد: باب ما جاء في معيشة النبي صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه رقم (4139) في الزهد: باب القناعة.
إنَّما الدُّنيا نَهَارٌ
…
ضَوْؤه ضَوْءٌ مُعَارُ
بينما عَيْشُكَ غَضٌّ
…
ناعِمٌ فيه اخْضِرارُ
إذْ رَمَاهُ زَمَناهُ
…
فإذا فيه اصْفِرارُ
وكذاكَ اللَّيلُ يأتي
…
ثم يمحُوه النَّهارُ
مَثَلُ حرامِ الدُّنيا كشجرة الدِّفْلَى
(1)
، تعجِبُ من رآها، وتقتُلُ مَن أكلَها.
نَرَى الدُّنيا وَزَهْرَتَها فنصْبُوا
…
وما يَخْلُو مِنَ الشَّهوَاتِ قَلْبُ
فُضُولُ العَيْشِ أكثَرُهُ همومٌ
…
وأكثَرُما يضرُّكَ ما تُحِبُّ
إذا اتفَقَ القليلُ وفيه سِلْمٌ
…
فلا تُرِدِ الكَثيرَ وفيه حَرْبُ
الذي بشَّر أمَّته بفتح الدنيا عليهم حذَّرهم من الاغترار بزهرتها، وخوَّفهم من خُضْرتِها وحلاوتِها، وأخبرَهم بخرابها وفنائها، وأنَّ بين أيديهم دارًا لا تنقطع خُضْرَتُها وحلاوتُها؛ فمن وقف مع زَهْرةِ هذه العاجِلة انقطَعَ وهَلَكَ، ومَن لم يقفْ مَعَهَا وسار إلى تلك
(2)
، وَصَلَ ونجا. في "المسند"
(3)
عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يَرَى النائمُ مَلَكانِ، فقعد أحدُهما عند رأسه، والآخرُ عند رجليه، فقال
(4)
أحدُهما للآخر: اضرِبْ له مثَلًا، فقال: إنَّ مَثَلَهُ ومَثَلَ أُمَّتِه كمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ انْتَهَوْا إلى رأسِ مَفَازَةٍ، فلم يكنْ معهم من الزَّاد ما يقطعون به المفازَةَ، ولا ما يرجعون به، فبيما هم كذلك إذْ أتاهم رجلٌ في حُلَّةٍ حِبَرَةٍ، فقال: أرأيتم إنْ وَرَدْتُ بكم رياضًا مُعْشِبةً وحِياضًا رُوَاءً، أَتَتْبعوني؟ قالوا: نعم. قال
(5)
: فانطلق بهم فأوردهم رياضًا معشِبةً وحياضًا رُواءً، فأكلوا وشربوا وسَمِنوا، فقال لهم: ألم أَلْقَكم على تلك الحال فجعلتم لي إنْ وردت بكم رياضًا معشِبةً وحياضًا رُواءً أن تَتَّبعوني؟ قالوا: بلى. قال: فإنَّ بين أيديكم رِياضًا
(1)
الدِّفْلَى: شجر مرٌّ أخضر حسن المنظر، يكون في الأودية .. (اللسان: دفل).
(2)
بعده في ش: "الآجلة".
(3)
مسند أحمد 1/ 267، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 8/ 260 وقال:"رواه أحمد والطبراني والبزار، وإسناده حسن". وحُلَّة حبرة: ضرب من برود اليمن منمر. والرُّواء: المنظر الحسن.
(4)
في المسند: "فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مَثَلَ هذا وَمَثَل أمته، فقال .. ".
(5)
من هنا حتى قوله: "قالوا: بلى" مكرر في المطبوع، وكذا هي في (ب)، إلا أنها شطبت.
هي أعْشَبُ من هذه، وحِياضًا هي أَرْوَى مِن هذه، فاتَّبعوني. قال: فقالت طائفةٌ: صَدَقَ واللهِ، لنتَّبِعَنَّه. وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نُقيمُ عليه. وقد خرَّجه ابن أبي الدنيا وغيرُه عن الحسن مرسلًا بسياقٍ أبسَطَ من هذا، وفيه أنَّهم لما رَتَعوا وسَمِنوا وأعجَبَهم المنزلُ صاح بهم، فقال: ارتحلوا؛ فإنَّ هذه الروضة ذاهِبةٌ، وإنَّ هذا الماء غائرٌ ذاهبٌ، وإنَّ أمامكم روضَةٌ أعشَبُ من هذه، وماءٌ أَرْوَى من هذا الماء. فكرِه ذلك عامَّةُ الناس، وقالوا: ما نريد بهذه
(1)
بدلًا، وهم أكثر الناس. وقال آخرون: والله إنَّ آخر قوله كأوَّله، ارتحلوا، فأبوا، فارتحل قوم فنجَوا، ولم يشعر الذين أقاموا حتى طرقَهُم العدوُّ ليلًا، فأصبحوا من بين قتيل وأسير.
الدنيا خَضْرَاءُ الدِّمَن
(2)
. ومعنى ذلك أن خُضْرتَها نابتة على مَزْبَلَةٍ منتنةٍ. يا دَني الهِمَّة، قنِعْتَ بروضةٍ على مَزْبَلةٍ، والملِكُ يدعوك إلى فردوسه الأعلى؛ {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}
(3)
، أرضيتم بخرابات البِلى من
(4)
الفردوس؟ يا لها صفقة غبن ما أخسرها
(5)
! أتقنَعُ بخسائسِ الحشائش والرِّياضُ معشِبةٌ بين يديك؟
فإنْ حَنَنْتَ لِلْحِمَى وَرَوْضِهِ
…
فبالغَضَى ماءٌ وَرَوْضَاتٌ أُخَر
(6)
وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أخذَهُ بحقِّه ووضَعَه في حقِّه، فنِعْمَ المعونة هو؛ ومَن أخذَهُ بغير حقِّه كان كالذي يأكل ولا يشبع" تقسيمٌ لمن يأخذُ المالَ إلى قسمين:
فأحدهما: يُشبِه حالَ آكلةِ الخَضِر، وهو مَن أخذَه بحقِّه ووضَعَه في حقِّه؛ وذكر أنه نِعْم المعونةُ هو؛ فإنَّه نعم العونُ لمن هذه صفته على الآخرة، كما في حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"نعم المالُ الصَّالح للرجُل الصَّالح"،
(7)
وهو الذي يأخذُه بحقِّه ويضعه في حَقِّه، فهذا يوصِله مالُه إلى الله عز وجل، فمن أخَذَ من
(1)
في آ، ش، ع:"بهذا".
(2)
وفي الحديث: "إياكم وخضراءَ الدِّمَن، قيل: وما ذاك؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء".
(3)
سورة التوبة الآية 38.
(4)
في ط: "في الفردوس الأعلى"، وفي ب:"في الفردوس".
(5)
"ما أخسرها" زيادة من ع، ش.
(6)
هذا البيت لم يرد في ب، ط.
(7)
مسند أحمد 4/ 197، وانظر "الفتح" 8/ 75.
المال بحقِّه ما يقوِّيه على طاعة الله، ويستعين به عليها، كان أخذُه طاعةً، ونفقتُه طاعةً. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّكَ لن تُنْفِقَ نفقةً تبتَغي بها وَجْهَ الله إلا أُجِرْتَ عليها، حتى اللقمةُ ترفَعُها إلى فِي امرأتِك"
(1)
. وفي حديث آخر: "ما أطعمْتَ نفسَكَ فهو لَكَ صَدَقَةٌ، وما أطعمْتَ أهلَكَ فهو لك صَدَقة، وما أطعمْتَ ولَدَكَ فهو لك صَدَقَة، وما أطعمْتَ خادِمَكَ فهو لك صَدَقة"
(2)
. فما أخِذَ من الدُّنيا بنيَّة التقوِّي على طلب الآخرة فهو داخِلٌ في قسم إرادة الآخرة والسَّعي لها، لا في إرادة الدنيا والسعي لها؛ قال الحسن: ليس من حُبِّ الدنيا طلبُكَ ما يُصلحك فيها، ومن زُهدك فيها تركُ الحاجة يسدُّها عنك تَرْكها. ومَن أحبَّ الدنيا وسرَّته ذهب خوفُ الآخرة من قلبه.
وقال سعيد بن جُبَيرٍ
(3)
: متاع الغرور ما يُلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يُلْهِك فليس بمتاع
(4)
الغرور، ولكنَّه بلاغٌ إلى ما هو خير منه. وقال بعضُ العارفين: كُلُّ ما أصبْتَ من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكُلُّ ما أصبْتَ منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا. وقال أبو سليمان: الدنيا حجابٌ عن الله لأعدائه، ومطِيَّةٌ موصِلَةٌ إليه لأوليائه، فسبحان مَن جَعَلَ شيئًا واحدًا سببًا للاتصال به والانقطاع عنه.
والقسم الثاني: يشبه حالُه حالَ البهائم التي ترعى مما ينبت الربيع، فيقتلها حَبَطًا أو يُلِمُّ، وهو من يأخذ المالَ بغير حقِّه، فيأخذه من الوجوه المحرمة، فلا يقنع منه بقليل ولا بكثير، ولا تشبع نفسُه منه، ولهذا قال:"وكان كالَّذي يأكُلُ ولا يشبَعُ". وكان النبي صلى الله عليه وسلم "يتعوَّذ من نفسٍ لا تشبع"
(5)
.
(1)
قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري رقم (1295) في الجنائز: باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، وفي الإيمان، وفي الوصايا وغيرها، ومسلم رقم (1628) في الوصية: باب الوصية بالثلث، والموطأ 2/ 763، والترمذي رقم (975)، وأبو داود رقم (2864)، والنسائي 6/ 241.
(2)
مسند أحمد 4/ 131 و 132 من حديث المقام بن معد يكرب. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 3/ 119 وقال: "رواه أحمد، ورجاله ثقات". وقال المنذري في "التركيب" 3/ 62: "رواه أحمد بإسناد جيد".
(3)
سعيد بن جُبَير الأسدي الكوفي، أبو عبد الله، من التابعين، كان أعلمهم على الإطلاق. وهو حبشي الأصل من موالي بني والبة بن الحارث من بني أسد، أخذ العلم عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر، قتله الحجاج بواسط سنة 95 هـ، لخروجه مع محمد بن الأشعث.
(4)
في ب، ط:"متاع".
(5)
من حديث أخرجه مسلم وغيره.
وفي حديث زيد بن ثابتٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"من كانَت الدُّنيا همَّه، فرَّقَ اللهُ عليه أمرَه، وجعَلَ فَقْرَه بين عينيه، ولم يأتِه من الدَّنيا إلَّا ما كُتِبَ لَهُ"
(1)
. فمن كان فقرُه بين عينيه لم يَزَلْ خائفًا من الفقر، لا يستغني قلبُه بشيءٍ، ولا يشبَعُ من الدنيا؛ فإنَّ الغِنَى غِنَى القلب، والفقر فقر النفس. وفي حديث خرَّجه "الطبراني"
(2)
مرفوعًا: "الغِنَى في القَلْب، والفَقْرُ في القَلْب، ومَن كان الغِنَى في قلبه فلا يضرّه ما لقِي من الدُّنيا، ومَن كان الفقرُ في قلبه فلا يغنيه ما أُكثر له منها، وإنما يضُرُّ نفسه [شحُّها] ". وعن عيسى عليه السلام، قال: مَثَلُ طالبِ الدنيا كشارب البحر، كلما زاد شرْبًا منه زاد عطشًا حتى يقتلَه. قال يحيى بن معاذ: مَن كان غِناهُ في قلبه لم يزل غنيًا، ومَن كان غناه في كسْبه لم يزل فقيرًا، ومن قَصَدَ المخلوقين لحوائجه
(3)
لم يزلْ محرومًا، ويشهدُ لذلك كلِّه الحديثُ الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كان لابن آدَمَ وادِيان مِن ذَهَبٍ لابْتَغَى لهما ثالثًا، ولا يملأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، وَيتُوبُ اللّهُ على مَن تاب"
(4)
. لو فكَّر الطامع في عاقبة الدنيا لقنِع، ولو تذكَّر الجائع إلى فضول مآلها لشبع.
هَب انَّكَ قَدْ مَلَكْتَ الأَرْضَ طُرًّا
…
وَدَانَ لَكَ العِبادُ فكان ماذا
أليس إذًا مَصِيرُكَ جَوْفَ قَبْرٍ
(5)
…
ويحثي التُّرْبَ هذا ثمَّ هذا
وقد ضرب الله تعالى في كتابه مثلَ الدنيا وخُضرتها ونضرتها وبهجتها وسُرعة تقلُّبها وزوالها، وجعل مثَلها كمثل نباتِ الأرض النابت من
(6)
مطر السماء في تقلُّب أحواله ومآله.
(1)
قطعة من حديث رواه الإمام أحمد في "مسنده" 5/ 183 وفيه: "ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته .. ". وذكره الهيثمي بنحوه في "مجمع الزوائد" 10/ 247 وقال: "رواه الطبراني في الأوسط ورجاله وثقوا". وبنحوه رواه الترمذي رقم (2465) في صفة القيامة، من حديث أنس بن مالك.
(2)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 237 عن أبي ذر، مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزيادة منه، وقال:"رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفه".
(3)
في آ، ش:"بحوائجه".
(4)
أخرجه البخاري 11/ 253 في الرقاق: باب ما يتقى من فتنة المال، ومسلم رقم (1048) في الرقاق: باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثًا، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(5)
في ع: "أليس مصير روحك جوف ترب"، وفي هامشها:"جسمك" وفي آ، ب:"جوف ترب". والبيت بتمامه لم يرد في نسخة (ش).
(6)
في آ، ش:"عن مطر السماء".
(1)
(2)
(3)
(4)
.
فالدُّنيا وجميعُ ما فيها من الخُضْرة والبَهْجة والنَّضْرة تتقلَّب أحوالُه وتتبدَّل، ثم تصيرُ حُطامًا يابسًا. وقد عدَّدَ اللهُ سبحانه زِينةَ الدُّنيا ومتاعَها المبهج في قوله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}
(5)
. وهذا كلُّه يصيرُ ترابًا، ما خلا الذهب والفضة، ولا ينتفع بأعيانهما، بل هما قيم الأشياء، فلا ينتفع صاحبُهما بإمساكهما، وإنما ينتفعُ بإنفاقهما
(6)
، ولهذا قال الحسن: بئس الرفيقُ الدِّرهم والدِّينار، لا ينفعانك حتى يفارقانك.
وأجسام بني آدم، بل وسائرُ الحيوانات، كنباتِ الأرض تتقلَّب من حالٍ إلى حال، ثم تجِفُّ وتصيرُ ترابًا، قال الله تعالى:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا}
(7)
.
(1)
سورة الكهف الآية 45.
(2)
سورة يونس الآية 24.
(3)
سورة الحديد الآية.2.
(4)
سورة الزمر الآية 21.
(5)
سورة آل عمران الآية 14.
(6)
بعده في آ: "في وجوه الخير".
(7)
سورة نوح الآية 17 و 18.
وما المرءُ إلَّا كالنَّبَاتِ وَزَهْرُه
…
يَعُودُ رُفاتًا بَعْدَ ما هُوَ سَاطِعُ
فينتقل ابنُ آدم من الشباب إلى الهرم، ومن الصحة إلى السَّقَم، ومن الوجود إلى العدم
(1)
، كما قيل:
وما حالاتُنا إلَّا ثلاثٌ
…
شَبَابٌ ثُمَّ شَيْبٌ ثمَّ مَوْتُ
وآخرُ
(2)
ما يُسَمَّى المرءُ شيخًا
…
ويتلُوهُ مِنَ الأسْماءِ مَيْتُ
مدة الشباب قصيرة كمدّة زَهْر الربيع وبهجته ونَضَارته، فإذا يَبِسَ وأبْيضَّ فقد آن ارتحالُه، كما أن الزرْع إذا ابْيضَّ فقد آن حصادُهُ. وأَجَلُّ زهور الربيع الوردُ، ومتى كثُر فيه البياضُ فقد قرُبَ زمنُ انتقالِه. قال وهيب بن الوَرْد: إنَّ لله مَلَكًا يُنادِي في السَّماء كُلَّ يومٍ: أبناءَ الخمسين، زرْعٌ دَنَا حَصَادُه. وفي حديث مرفوعٍ:"إنَّ لِكُلِّ شيءٍ حصادًا، وحصادُ أمَّتي ما بينَ السِّتِّين إلى السَّبعين"
(3)
.
قَدْ يَبْلُغُ الزَّرْعُ مُنْتَهاهُ
…
لا بُدَّ للزَّرْعِ مِن حَصَادِ
وقد يدرك الزرعَ آفةٌ قبلَ بلوغ حصادِه فيهلِك، كما أشير إليه في قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}
(4)
، الآية. قال ميمون بن مهران لجلسائه: يا معْشرَ الشيوخ! ما يُنتظَرُ بالزَّرع إذا ابيضَّ؟ قالوا: الحصادَ، فنظر إلى الشباب، فقال: يا معشرَ الشباب! إنَّ الزَّرْع قد تدركه الآفةُ قبلَ أن يُسْتَحْصَدَ.
وقال بعضُهم: أكثَرُ مَن يموتُ الشبابُ، وآيةُ ذلك أن الشيوخ في الناس قليل.
أيا ابْنَ آدَمَ لا تغرُرْكَ عافيةٌ
…
عليكَ ضافيةٌ
(5)
فالعمر معدودُ
ما أنْتَ إلَّا كزرْعٍ عندَ خُضرتِه
…
بكُلِّ شيءٍ مِن الآفاتِ مَقْصُودُ
فإنْ سَلِمْتَ مِن الآفاتِ أجمعِها
…
فأنْتَ عِنْدَ كمالِ الأَمْر مَحْصُودُ
(1)
بعده في ش: "ثم إذا شاء الذي أنشاه أعاده كما بدأه".
(2)
في آ، ع:"وآخرها يُسمَّى".
(3)
رواه ابن عساكر، عن أنس، وله شواهد في معناه. انظر "كنز العمال" 15/ 67.
(4)
سورة يونس الآية 24.
(5)
في آ: "صائنة"، وفوقها:"شاملة".
كُلُّ ما في الدنيا فهو مذكِّر بالآخرة، ودليلٌ عليه؛ فنباتُ الأرض واخضِرارها في الربيع بعدَ مُحُولها
(1)
ويُبْسها في الشتاء، وإيناعُ الأشجار واخضِرارها
(2)
بعد كونِها خشبًا يابسًا يدُلُّ على بعث الموتى من الأرض، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه في مواضعَ كثيرةٍ، قال الله تعالى:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}
(3)
(4)
(5)
.
قال أبو رَزِين
(6)
للنبي صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ يُحيي الله الموتى؟ وما آيةُ ذلك في خَلْقه؟ قال: "هل مررتَ بوادٍ أُهلك مَحْلًا، ثم مررت به يهتزُّ خَضِرًا"؟ قال: نعم. قال: "كذلك يُخرِجُ الله الموتى، وذلك آيته في خلْقه". خرَّجه الإِمام أحمد
(7)
.
وقِصَرُ مدَّةِ الزَّرْع والثمار وعَوْدُ الأرض بعد ذلك إلى يُبْسها، والشجر إلى حالها الأول، كعودِ ابن آدم بعد كونه حيًّا إلى التراب الذي خُلق منه.
وفصول السنة تذكِّر بالآخرة؛ فشِدَّةُ حرِّ الصيف يذكِّر بحرِّ جهنم، وهو من سمومها؛ وشدة برد الشتاء يذكِّر بزمهرير جهنَّم وهو من زمهريرها، والخريف يكمُلُ فيه اجْتناءُ [الثمرات التي تبقى وتُدَّخَر في البيوت، فهو مُنَبِّهٌ على اجتناءِ]
(8)
ثمراتِ
(1)
في آ: "قحولها"، وفي ع:"قحولتها"، وفي ش:"تحولها".
(2)
في ع: "وزهوها"، وفي ش:"وزهورها".
(3)
سورة الحج الآيات 5 - 7.
(4)
سورة ق الآيات 9 - 11.
(5)
سورة الأعراف الآية 57.
(6)
هو لقيط بن صبرة، أو لقيط بن عامر بن صبرة، أبو رَزين العقيلي. روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه عاصم.
(7)
مسند أحمد 4/ 11، وانظر "زاد المسير" 6/ 476 وثم تخريجه.
(8)
ما بين قوسين لم يرد في ب، ط.
الأعمال في الآخرة. وأمَّا الرَّبيع فهو أطيبُ فصولِ السَّنة، وهو يذكِّر بنعيم الجنة وطيب عيشها، فينبغي أن يحثَّ المؤمن على الاستعداد لطلب الجنة بالأعمال الصَّالَحة. كان بعضُ السَّلف يخرج في أيام الرَّياحين والفواكه إلى السوق، فيقفُ وينظر ويعتبر، ويسألُ الله الجنَّةَ. وَمَرَّ سعيد بن جبير بشبابٍ من أبناء الملوك جُلوس في مجالسهم في زينتهم، فسلَّموا عليه، فلمَّا بَعُدَ عنهم بكى واشتدَّ بكاؤه، وقال: ذكَّرني
(1)
هؤلاء شبابَ أهل الجنَّة.
تزوَّجَ صِلَةُ بن أَشْيَم
(2)
بمُعاذَةَ العدويَّةِ، وكانا من كبار الصالحين، فأدخله ابنُ أخيه الحمّام، ثم أدخلَه على زوجته في بيت مطيَّبٍ منجَّدٍ، فقاما يصليان إلى الصباح، فسأله ابن أخيه عن حاله، فقال: أدخلْتنِي بالأمس بيتًا أذكرْتني به النَّارَ، يعني الحمّام، وأدخلْتني الليلةَ بيتًا أذكرْتني به الجنَّة، فلم يزلْ فكري في الجنة والنار إلى الصباح.
دعا عبدُ الواحد بن زيد إخوانَه إلى طعامٍ صنعَه لهم، فقام على رؤوسهم عُتبةُ الغُلام يخدُمُهم وهو صائم، وهم يأكلون، فجعلَتْ عيناه تهملان. فسأله عبد الواحد عن سبب بكائه، فقال: ذكرْت موائدَ أهل الجنَّة إذا أكلوا وقام الولدانُ على رؤوسهم، إنما خُلِقت الدُّنيا مرآةً لننظر
(3)
بها إلى الآخرة لا لننظر إليها ونُوقَفَ معها.
كَفِى حَزَنًا أن لا أعاينَ بُقْعَةً
…
مِنَ الأرْض إلَّا ازْدَدْت شوقًا إليكُمُ
وإنِّي متى ما طابَ لي خفْضُ عِيشةٍ
…
تذكرْتُ أيَّامًا مَضَتْ لي لَديكُم
تدقيقُ النظر والفكر في حال النبات يَستدِلُّ به المؤمن على عظمةِ خالقِه وكمالِ قدرته ورحمته، فتزداد القلوبُ هَيَمانًا في محبَّته، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
(1)
في آ: "ذكرت بهؤلاء"، وفي ش، ع:"ذكرني هؤلاء بشباب".
(2)
هو صلة بن أَشْيَم، أبو الصهباء العدوي البصريّ، الزاهد العابد، زوج العالمة معاذة العدوية، من رجال "التهذيب"، وحديثها في الكتب الستة. استشهد بسجسستان سنة 62 هـ. والخبر في "صفة الصفوة" 3/ 219.
(3)
في آ "لِيُنْظَرَ
…
ويُوقَف".
مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
(1)
.
زمانُ الربيع كلُّه واعظٌ يذكِّر بعظمةِ مُوجِدِه وكمالِ قُدْرتِه، ويُشوِّقُ إلى طِيب مجاورته في دار كرامته، كما قال ابن سَمْعُون
(2)
في وصف الربيع: أرضُهُ حريرٌ، وأنفاسُهُ عبيرٌ، وأوقاتُه كلُّها وعظٌ وتذكير.
وقال
(3)
غيره: الأرضُ فيه زُمُرُّدَةٌ، والأشجار حُلَلٌ وَوَشْيٌ، والهواء مسْكٌ، والنَّسيم عبيرٌ
(4)
، والماء راحٌ، والطير قِيانٌ
(5)
، والكُلُّ دالٌّ على كمالِ الصَّانع، شاهدٌ له بالوحدانية.
[أنشد بعضهم في زمان الربيع]
(6)
:
يا قوْمَنا فَاحَ الرَّبيع
…
ولاحَ للأحباب نجدُ
(7)
الزَّهْرُ مِسْك والرِّيا
…
ضُ أرِيضَةٌ والمَاءُ جَعْدُ
(8)
والظِّلُّ منثورٌ وفي
…
جِيدِ الشقائق منه عِقْدُ
هذا النَّسيمُ مُعَنْبَرٌ
…
وضَبَابُ هذا النَّوْءِ ندّ
(9)
والغُصْنُ يرْقُصُ والغَديـ
…
ـرُ مصفِّق والوُرْقُ تشدُو
والجوُّ بعضٌ منه يا
…
قُوتٌ وبَعْضٌ لازَوَرْدُ
والكُلُّ يشْهَدُ أنَّ صا
…
نِعَهُ قدير وَهْوَ فَرْدُ
وأنشد
(10)
آخر:
الطَّلُّ في سلكِ الغُصون كلؤلؤٍ
…
رَطْبٍ يصافِحُه النَّسيمُ فيسقُطُ
(1)
سورة الأنعام الآية 99.
(2)
هو محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عَنْبَس البغدادي، أبو الحسين. وسمعون: لقب جدِّه إسماعيل. الشيخ الواعظ الكبير المحدِّث، شيخ زمانه ببغداد، كان خادم الشبلي، وكان يلقب الناطق بالحكمة. مولده سنة ثلاثمائة، وتوفي سنة 387 هـ. (صفة الصفوة 2/ 471، سير أعلام النبلاء 16/ 505).
(3)
حتى قوله: "بالوحدانية" لم يرد في ب، ط.
(4)
في ع: "عنبر".
(5)
القيان: جمع قَيْنة، وهي المغنّية.
(6)
زيادة من ش، ع، وستأتي في باقي النسخ بعد الأبيات.
(7)
في ط: "يحدو".
(8)
الرياض الأريضة: الزكيَّة الكريمة.
(9)
في آ، ش:"هذا اليوم نِدّ".
(10)
في آ، ب، ط:"ولبعضهم في وصف زمان الربيع".
والطَّيرُ يقرأ والغديرُ صحيفة
…
والرِّيح يكتبُ والغمامُ يُنَقِّطُ
رُؤي بعضُ الشعراء المتقدِّمين في المنام بعد موته، فسُئل عن حاله، فقال: غُفِرَ لي بأبياتٍ قلتها في النَّرجس، وهي:
تَفَكَّرْ في نباتِ الأَرْضِ وانْظُرْ
…
إلى آثارِ ما صَنَعَ المليكُ
عيونٌ من لُجينٍ ناظِراتٌ
…
بأحداقٍ هِيَ الذَّهبُ السَّبيكُ
على قُضُبِ
(1)
الزَّبَرْجَد شاهدات
…
بأنَّ الله ليس له شَريكُ
سبحان مَن سبَّحت المخلوقاتُ بحمده، فملأ الأكوانَ
(2)
تحميدُه، وأفصحت الكائنات بالشهادة بوحدانيته، فوَضَحَ توحيدُه، يُسبِّحه النباتُ جمعُه وفريدُه، والشَّجرُ عتيقُه وجديدُه، ويمجِّدُه رُهبان الأطيار
(3)
في صوامع الأشجارِ، فيطرِبُ السَّامعَ تمجيدُه، كلَّما دَرَّسَ الهَزَارُ
(4)
درس شكره فالبلبلُ بالحَمْدِ مُعِيدُه، وكلَّما أقام خطيبُ الحمام النَّوح على منابر الدَّوْحِ هيَّجَ المستهامَ نوحُهُ وتغريدُه، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}
(5)
.
واعجبًا للمتقلِّب بين مشاهدة حِكَمه وتناولِ نعمه، ثم لا يشكر نِعمَه ولا يُبصِر حِكَمه، وأعجَبُ
(6)
من ذلك أن يُعصَى المنعِمُ بِنِعَمِه، هذا عُودُ شجرِ الكَرْم يكونُ يابسًا طولَ الشتاء، ثم إذا جاء الرَّبيعُ دَبَّ فيه الماءُ واخضرّ، ثم يُخرِج الحِصْرِمَ فينتفعُ الناسُ به حامِضًا، ويتناولون منه طبخًا واعتصارًا، ثم ينقلِبُ حلوًا فينتفع الناس به حُلوًا رطْبًا ويابسًا، ويستخرجون منه ما ينتفعون بحلاوته طولَ العام، وما يأتدِمُون بحمْضه وهو نِعْمَ الإِدام. فهذه التنقُّلاتُ
(7)
توجِبُ للعاقل الدَّهْشَ والتعجُّبَ مِن صُنع صانعه وقدرة خالقه، فينبغي له أن يُفرِّغ عقلَه للتفَكُّر في هذه النِّعَم والشكر عليها. وأمَّا
(1)
في آ، ش:"على قصب".
(2)
في آ، ع:"الكون"، وفي ش:"الملكوت".
(3)
في ب، ط:"الطيور"، وكلاهما جائز.
(4)
الهَزَار: طائر حسن الصوت، فارسي معرب. ودرَّس: كرر وأعاد.
(5)
سورة العنكبوت الآية 19.
(6)
في ش، ع:"وأعجب من ذلك مَن تراكم عليه الجهل بظلمته، فعصى المنعم بنعمه".
(7)
التنقُّلات: هو ما يُتنقَّل به على الشراب من فواكه وكوامخ وغيرها، وما يُتفكَّه به من جوز ولوز وبندق ونحوها.
الجاهل فيأخذ العِنَبَ فيجعلُه خمرًا فيغطِّي به العَقْلَ الذي ينبغي أن يُستعمَلَ في الفكر
(1)
والشُّكر، حتى ينسَى خالِقَهُ المنعِمَ عليه بهذه النِّعم كلِّها، فلا يستطيع بعد السُّكْر أن يذكره ولا يشكره، بل ينسى مَن خلَقه ورَزَقه، فلا يعرِفُه في سُكْره بالكُلِّيَّة، وهذه نهاية كُفْران النِّعم
(2)
.
فواعجبًا كيف يُعصَى الإِلهُ
…
أَمْ كَيْفَ يجحَدُهُ الجاحِدُ
وللُه في كُلِّ تحريكةٍ
…
وتسكينةٍ أبدًا شاهِدُ
(3)
وفي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيةٌ
…
تَدُلُّ على أنَّهُ واحِدُ
ومن وجوه الاعتبار في النَّظر إلى الأرض التي أحياها الله بعدَ مَوْتها في فصل الربيع بما ساق إليها من قطر السماء، أنه يُرجَى من كَرَمِه أن يحيى القلوبَ الميّتة بالذنوب وطول الغَفْلة، بسماع الذِّكر النازل من السماء، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} إلى قوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}
(4)
، ففيه إشارة إلى أنَّ مَن قَدَرَ على إحياء الأرض بعد مَوْتها بوابل القَطْر، فهو قادر على إحياء القلوب الميتة القاسية بالذِّكر. عسى
(5)
لمحة من لمحات عطفه، ونفحة من نفحات لطفه، وقد صَلَحَ من القلوب كل ما فسد، [فهو اللطيف الكريم]
(6)
.
عَسَى فَرَجٌ يأتي بهِ اللهُ إنَّه
…
لَهُ كُلَّ يومٍ في خليقته أَمْرُ
إذا اشْتَدَّ عُسْرٌ فارْجُ يُسرًا فإنَّه
…
قَضَى الله أنَّ العُسْرَ يتبعه اليُسْرُ
(7)
عسى مَن أحيا الأرض الميتة بالقطر أن يُحيي القلوب الميتة بالذِّكر. عسى نفحةٌ من نَفَحاتِ رحمته تهب؛ فمن أصابته سعِدَ سعادةً لا يشقى بعدَها أبدًا.
(1)
في ش، ع:"التفكر".
(2)
بعدها في ش، ع:"الوقوع في هذه البلية".
(3)
في آ، ش، ع:"وفي كل تسكينةٍ شاهد".
(4)
سورة الحديد الآية 16 و 17.
(5)
لفظ "عسى" لم يرد في آ، ش، ع.
(6)
زيادة من ش، ع.
(7)
في ب، ط:"يسر"، ولم يرد البيت الثاني في نسخة (آ). وهما في كتاب "الفرج بعد الشدة" لابن أبي الدنيا بتحقيقنا، الفقر 81 و 100 و 114، وكذلك في "الفرج بعد الشدة" للتنوخي 4/ 114.
إذا ما تجدَّدَ فَصْلُ الرَّبيعِ
…
تجدَّدَ للقلب فَضْلُ الرَّجاءِ
عَسَى الحالُ يصلحُ بَعْدَ الذنوبِ
…
كما الأرضُ تهتزُّ بَعْدَ الشتاءِ
ومن ذا الذي ليس يرجوك ربّ
(1)
.... وَرَبْعُ عطائِكَ رَحْبُ الفِنَاءِ
* * *
المجلس الثاني في ذكر فصل الصيف
خرجَّا في "الصحيحين"
(2)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّها، فقالت: يارَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لها بنَفَسَيْنِ؛ نَفَسٍ في الشِّتَاء، وَنَفَسٍ في الصيف، فأشَدَّ ما تجدون من الحَرِّ من سَمُوم جهنَّم، وأشَدُّ ما تجدون من البَرْدِ مِن زَمْهَرير جهنَّم". لا شكَّ أن الله تعالى خلق لعباده دارين يجزيهم فيهما بأعمالهم، مع البقاء في الدَّارين من غير موتٍ؛ وخَلَقَ دارًا معجَّلةٌ للأعمال وجَعَلَ فيها موتًا وحياةً، وابتلَى عبادَه فيها بما أمرَهم به ونهاهم عنه، وكلَّفهم فيها الإيمان بالغيب؛ ومنه الإيمانُ بالجزاء والدَّارين المخلُوقتين له، وأنزل بذلك الكتُبَ، وأرسَلَ به الرُّسُلَ، وأقامَ الأدِلَّةَ الواضِحَةَ على الغيب الذي أمر بالإيمان به، وأقام علاماتٍ وأماراتٍ تدُلُّ على وجود دارَي الجزاءِ؛ فإنَّ إحدى الدَّاريْن المخلوقتين للجزاءِ دارُ نَعيمٍ محضٍ لا يشُوبُه ألَمٌ، والأخرى دارُ عذابٍ محضٍ لا يشُوبُه راحَةٌ.
وهذه الدار الفانية ممزوجةٌ بالنِّعيم والألم؛ فما فيها من النَّعيم يُذكِّر بنعيم الجنة، وما فيها من الألم يُذكِّرُ بألم النار، وجَعَلَ الله تعالى في هذه الدار أشياءَ كثيرةً تُذكِّرُ بدار الغيب المؤجَّلة الباقية.
(1)
في ط: "ربي".
(2)
رواه البخاري رقم (3260) في بدء الخلق: باب صفة النار وأنها مخلوقة، ومسلم رقم (617) في المساجد: باب استحباب الإبراد بالظهر من شدة الحر، والترمذي رقم (2595) في صفة جهنم: باب ما جاء أن للنار نفسين، وابن ماجة رقم (4319) في الزهد: باب صفة النار.
فمنها: ما يُذكِّر بالجنَّة من زمانٍ ومكانٍ: أمَّا الأماكنُ فَخَلَقَ الله تعالى بعضَ البلدان؛ كالشام وغيرها، فيها من المطاعِم والمشارِب والملابِس وغيرِ ذلك من نعيم الدنيا ما يُذكِّر بنعيم الجنَّة. وأمَّا الأزمانُ فكزمن الرَّبيع؛ فإنَّه يذكِّر طيبُهُ بنعيم الجنَّة وطيبها، وكأوقات الأسحار؛ فإنَّ بَرْدَها يُذكِّر ببرد الجنة.
وفي الحديث الذي خرَّجه الطبراني: "إنَّ الجنَّة تُفتَح في
(1)
كُلِّ ليلةٍ في السحر، فينظرُ الله إليها، فيقول لها: ازدادي طيبًا لأهلك، فتزدادُ طيبًا، فذلك بَرْدُ السَّحَر الذي يجده الناس". وروى سعيد الجُرَيريُّ
(2)
، عن سعيد بن أبي الحسن
(3)
، أن داود عليه السلام قال: يا جبريلُ! أيِّ الليل أفضَلُ؟ قال: ما أدري، غيرَ أن العرش يهتزُّ إذا كان من
(4)
السَّحَر، ألا ترى أنَّه يفوح ريحُ كُلِّ الشجر.
ومنها: ما يُذكِّر بالنَّار؛ فإنَّ الله تعالى جَعَل في الدنيا أشياءَ كثيرةً تُذكِّرُ بالنَّار [المُعَدَّة لمن عصاه وبما فيها]
(5)
من الآلام والعقوبات من أماكنَ وأزمانٍ وأجسامٍ وغيرِ ذلك. أمَّا الأماكنُ فكثيرٌ من البلدان مُفرِطَةُ الحَرِّ أو البَردِ، فبردُها يُذكِّرُ بزمْهَرير جهنَّم، وحرُّها يُذكِّرُ بحَرِّ جهنَّم وسَمومِها، وبعضُ البقاع يُذكِّرُ بالنار، كالحمَّام. قال أبو هريرة: نِعْمَ البيتُ الحمَّامُ يدخُلُه المؤمن فيُزيلُ به الدَّرَنَ ويستعيذُ بالله فيه من النَّار
(6)
. كان السَّلَفُ يذْكُرُون النَّار بدخول الحمَّام، فيُحْدِثُ ذلك لهم عبادَةً. دخَلَ ابنُ وَهْبٍ الحمَّامَ، فسمِعَ تاليًا يتلو:{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ}
(7)
، فغُشِي عليه.
وتزوَّجَ صِلَةُ بنُ أَشْيَم، فدخَلَ الحمَّامَ، ثم دخل على زوجته تلك الليلة، فقام يصلِّي حتى أصبَحَ، وقال: دخلْتُ بالأمس بيتًا أذكرني النَّارَ، ودخلْتُ الليلةَ بيتًا ذكرْتُ
(1)
لفظ "في" لم يرد في ب، ط.
(2)
هو سعيد بن إياس الجُرَيْري، أبو مسعود البصري، ثقة، محدِّث أهل البصرة، روى له الجماعة، مات سنة 144 هـ. (تهذيب الكمال 10/ 338).
(3)
هو سعيد بن أبي الحسن البصري، أخو الحسن البصري، ثقة، من قرَّاء أهل البصرة، روى له الجماعة، مات سنة 100 هـ قبل الحسن بسنة. (تهذيب الكمال 10/ 385).
(4)
في ش، ع:"وقت السحر".
(5)
زيادة من ب، ط.
(6)
المطالب العالية رقم (184) صحيح موقوف، باب الحمام وكراهية التعري. وأخرجه ابن أبي شيبة عن جرير عن عمارة 1/ 109. وانظر "إتحاف السادة المتقين" 2/ 400.
(7)
سورة غافر الآية 47.
به الجنَّة، فلم يزل فكري فيهما حتى أصبحت. كان بعضُ السَّلف إذا أصابه كرْبُ الحمَّامِ، يقول: يا بَرُّ يا رَحِيمُ! مُنَّ علينا وقِنا عذابَ السَّمُوم.
صَبَّ بعضُ الصالحين على رأسه ماءً مِن الحمَّامِ فوجدَه
(1)
شديدَ الحَرِّ، فبَكَى، وقال: ذكرْتُ قولَه تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}
(2)
. كل ما في الدنيا يدُلُّ على صانعِهِ، ويُذكِّرُ به، ويدُلُّ على صفاته؛ فما فيها مِن نعيمٍ وراحةٍ يَدُلُّ على كرمِ خالقِهِ وفضْلِهِ وإحسانِهِ وجودِهِ ولطفِهِ، وما فيها مِن نِقْمَةٍ وشدَّةٍ وعذابٍ يَدُلُّ على شِدَّةِ بأسه وبطشِهِ وقهرِهِ وانتقامِهِ. واختلافُ أحوال الدُّنيا من حَرٍّ وبَرْدٍ وليلٍ ونهارٍ وغيرِ ذلك يَدُلُّ على انقضائِها وزوالِها. قال الحسن: كانوا
(3)
- يعني الصحابة - يقولون: الحمدُ للّه الرفيق الذي لو جعل هذا الخَلْقَ خلْقًا دائمًا لا يتصرف
(4)
، لقال الشاك في الله: لو كان لهذا الخلق رَبٌّ لحادَثَهُ وإن اللّه قد حادث بما ترون من الآيات، إنَّه جاء بضَوْءٍ طَبَّقَ ما بين الخافقين، وجعل فيها معاشًا وسراجًا وهَّاجًا، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلْق وجاء بظُلمةٍ طبَّقَتْ ما بين الخافقين، وجعل فيها سَكَنًا ونجومًا وقمرًا منيرًا، وإذا شاء بَنَى بناءً جَعَلَ فيه المطرَ والبرق والرَّعْدَ والصَّواعِقَ ما شاء، وإذا شاء صرف ذلك الخلْقَ، وإذا شاء جاء ببردٍ يُقَرْقِفُ
(5)
النَّاسَ، وإذا شاء ذهبَ بذلك وجاء بحَرٍّ يأخذ بأنفاس النَّاس؛ ليعلمَ الناسُ أن لهذا الخلق ربًّا هو يحادثه بما ترون من الآيات، كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة.
وقال خليفة العبدي
(6)
: لو أن الله لم يُعْبَدْ إلَّا عن رؤيةٍ ما عبدَه أحدٌ، ولكنَّ المؤمنين تفكَّروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فطبَّقَ كُلَّ شيءٍ، وملأ كُلَّ شيء، ومُحيَ سلطانُ النهار؛ وتفكَّروا في مجيء النَّهار إذا جاء، فملأ كُلَّ شيءٍ، وطبَّقَ كُلَّ شيءٍ؛ ومحي سلطان الليل؛ وتفكَّروا في {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}
(7)
؛ وتفكَّروا في {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}
(7)
؛ وتفكَّروا في مجيء
(1)
في ش، ع:"فوجده حارًا".
(2)
سورة الحج الآية 19.
(3)
في ش، ع:"كان الصحابة رضي الله عنهم يقولون".
(4)
في ب، ط:"لا ينصرف".
(5)
أي يُرْعَدُ الناس من البرد.
(6)
من العباد الزهاد في البحرين، وكان ممن ينظر بنور الله وينطق بحكمته. ترجم له ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 4/ 71.
(7)
سورة البقرة الآية 164.
الشتاء والصيف، فواللهِ ما زال المؤمنون يتفكَّرون فيما خلَقَ لهم ربُّهم حتى أيقنَتْ قلوُبهم، وحتى كأنَّما عبَدُوا الله عن رؤيته. [يذكِّرُنيك الحرُّ والبردُ، والذي أخاف وأرجو، والذي أتوقَّع]
(1)
. ما رأى العارفون شيئًا من الدُّنيا إلَّا تذكروا به ما وعَدَ الله به من جنسِه في الآخرة [من كُلِّ خير وعافية]
(2)
.
قلوبُ العارِفينَ لها عُيونٌ
…
تَرَى ما لا يَرَاهُ النَّاظرونا
وأمَّا الأزمان فشدَّةُ الحَرِّ والبَرْد يذكِّر بما في جهنَّم من الحَرِّ والزمهرير، وقد دَلَّ هذا الحديثُ الصحيح
(3)
على أنَّ ذلك من تنفس النار في ذلك الوقت. قال الحسن: كُلُّ برد أهلك شيئًا فهو من نَفَس جهنَّم، وكُلُّ حَرٍّ أهلك شيئًا فهو من نَفَس جهنَّم. وفي الحديث الصحيح
(4)
أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا اشْتدَّ الحَرُّ فأبْرِدوا بالصَّلاة
(5)
، فإنَّ شِدَّة الحَرِّ من فَيْح جَهَنَّم". وفي حديث مرفوعٍ خرَّجه عثمان الدارِمِيُّ
(6)
وغيرُه: "إذا كان يومٌ شديد الحَرِّ، فقال العبدُ: لا إله إلا الله، ما أشدَّ حَرَّ هذا اليوم! اللهم، أجرني من حَرِّ جهنَّم، قال الله لِجهنَّمَ: إنَّ عبدًا من عبادي قد استجار بي منكِ، وقد أجرْتُه. وإذا كان يومٌ شديدُ البرد، فقال العبد: لا إله إلا الله، ما أشدَّ برد هذا اليوم! اللهم، أجِرْني من زمهرير جهنَّم، قال الله لجهنَّم: إنَّ عبدًا مِن عبادي قد استجارَ بي من زمهريرك، واني أُشهِدُك أنِّي قد أجرته. قالوا: وما زمهرير جهنَّم؟ قال: بيتٌ يُلقى فيه الكافِرُ فيتميَّزُ من شِدَّة بَرْدِه".
أبوابُ النار مغلقة، وتُفتح أحيانًا؛ فتفتح أبوابها كلها عند الظهيرة، فلذلك يشتدُّ
(1)
ما بين قوسين لم يرد في ب، ط.
(2)
زيادة من (ط) فقط.
(3)
أخرج الشيخان من حديث أبيِ هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اشتكت النار إلى ربها، فقالت: ربِّ، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشدَّ ما تجدون من الحَرِّ، وأشدّ ما ترون من الزمهرير".
(4)
أخرجه الجماعة، من حديث أبي هريرة. وانظر "جامع الأصول" 5/ 235 - 237.
(5)
في ب، ط:"عن الصلاة"، وهو رواية ثانية في الترمذي والموطأ.
(6)
هو عثمان بن سعيد بن خالد الدارمي السجستاني، أبو سعيد، محدِّث هراة، له تصانيف في الرد على الجهمية، توفي في هراة سنة 280 هـ، وليس هو صاحب "سنن الدارمي".
الحَرُّ حينئذٍ فيكون في ذلك تذكرة بنار جهنَّم. وأمَّا الأجسام المشاهَدة في الدنيا المذكِّرة بالنَّار فكثيرة.
منها: الشمسُ عند اشتداد حَرِّها، وقد رُوي أنَّها خُلِقت من النَّار وتعودُ إليها.
وخرَّج الطبراني
(1)
بإسناده أن رجلًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نزَعَ ثيابَه، ثم تمرَّغ في الرَّمْضاء
(2)
وهو يقول لنفسه: ذوقي، نارُ جهنَّم أشدُّ حرًّا؛ جيفةٌ بالليل، بطَّالٌ بالنَّهار. فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللّه، غلبتني نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لقد فُتِحت لَكَ أبوابُ السَّماء، وباهَىَ الله بكَ الملائكةَ": وأمَّا البروز للشمس تعبُّدًا بذلك
(3)
فغيرُ مشروع؛ فإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي إسرائيل
(4)
لما رآه قائمًا في
(5)
الشمس، فأمره أن يجلسَ ويستظل، وكان نَذَرَ أن يقومَ في الشمس مع الصَّوم، فأمره أن يتمَّ صومَه
(6)
فقط. وإنما يشرع البروز للشمس للمحرِم، كما قال ابنُ عمر رضي الله عنهما لمحرمٍ رآه قد استظلَّ: "إضْحَ
(7)
لِمَنْ أحْرَمْتَ له"، أي ابرُزْ إلى الضَّحَاء
(8)
، وهو حَرُّ الشمس. كان بعضُهم إذا أحرَمَ لم يستظِلَّ، فقيل له: لو أخذْتَ بالرُّخصة؛ فأنشَدَ:
(1)
قال الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" 10/ 117: "قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس، من رواية ليث بن أبي سليم، وهذا منقطع أو مرسل، ولا أدري مَن طلحة هذا، إلا أن يكون طلحة بن مصرف، وإلا فهو مجهول"، ثم قال: "وقد أخرجه الطبراني من حديث بريدة متصلًا نحوه
…
". وقد أخرجه ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" ص 94 بتحقيق مصطفى بن علي، وص 66 بتحقيق عبد الله الشرقاوي.
(2)
الرمضاء: الأرض التي حميت من شدة وقع الشمس.
(3)
بعدها في ع، ش:"مطلقًا".
(4)
هو أبو إسرائيل الأنصاري أو القرشي العامري، ذكره البغوي وغيره في الصحابة، ترجم له ابن حجر في "الإصابة" 1/ 6، وذكر الحديث.
(5)
في ط: "نائمًا"، وهو تحريف.
(6)
في آ، ش، ع:"الصوم". والحديث أخرجه البخاري عن ابن عباس رقم (6704) في الإِيمان والنذور: باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، والموطأ، 2/ 475 في الأيمان والنذور: باب ما لا يجوز من النذور في معصية اللّه، وأبو داود رقم (3300) في الأيمان والنذور: باب ما جاء في النذر في المعصية - ونصه: "بينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائمٍ، فسأل عنه؛ فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد، ويصوم ولا يفطر بنهار، ولا يستظلّ، ولا يتكلّم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مروه فليستظلّ، وليقعدْ، وليتكلَّمْ، وليتمَّ صومه".
(7)
قال الجوهري (ضحا): يرويه المحدِّثون "أضْحِ" بفتح الألف وكسر الحاء، من أضحيت. وقال الأصمعي: إنما هو "اِضْحَ لمن أحرمت له" بكسر الألف وفتح الحاء. واللفظة في الهروي "إضْحَ" ضبط قلم، وفي الفائق "اضْحَ".
(8)
الضَّحاء: إذا ارتفع النهار واشتد وقع الشمس.
ضَحَيْتُ له كي أستظِلَّ بظِلِّه
…
إذا الظلُّ أَضْحَى في القيامة قالِصا
فوا أسَفا إنْ كان سَعْيُكَ خائبًا
…
ووا أسَفا إن كان حظُّك ناقصا
وممَّا يُؤمَر بالصَّبر فيه على حَرِّ الشمس النفيرُ
(1)
للجهاد في الصيف، كما قال تعالى عن المنافقين:{وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}
(2)
. وكذلك في المشي إلى المساجد للجُمَعِ والجماعاتِ، وشهودِ الجنائزِ ونحوها من الطاعات، والجلوس في الشمس لانتظار ذلك، حيث لا يوجد ظِلٌّ. خرج رجلٌ من السلف إلى الجُمعة، فوجَدَ الناسَ قد سبقوه إلى الظِّلِّ، فقعد في الشمس، فناداه رجلٌ مِن الظِّلِّ أن يدخُلَ إليه، فأبَى أن يتخطَّى الناسَ لذلك، ثم تلا:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}
(3)
. كان بعضُهم إذا رجع من الجُمعة في حَرِّ الظهيرة يذكرُ
(4)
انصرافَ النَّاس مِن موقف الحساب إلى الجنَّة أو النار؛ فإنَّ السَّاعة تقومُ يوم الجمعة، ولا ينتصِف
(5)
ذلك النَّهار حتى يَقِيلَ أهلُ الجنَّة في الجنَّة، وأهلُ النَّار في النار؛ قاله ابنُ مسعود، وتلا قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}
(6)
. وينبغي لمن كانَ في حَرِّ الشمس أن يتذكَّر حَرَّها في الموقف؛ فإنَّ الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة ويُزاد في حَرِّها، وينبغي لمن لا يصْبرُ على حَرِّ الشمس في الدنيا أن يجتنبَ من الأعمال ما يَسْتَوجبُ صاحبه به دخولَ النار؛ فإنَّه لا قُوْةَ لأحدٍ عليها ولا صبْر.
قال قتادة، وقد ذكر شرابَ أهلِ جهنَّم، وهو
(7)
ما يسيلُ من صَديدِهم من
(8)
الجلد واللحم، فقال: هل لكم بهذا يَدَانِ أم لكم عليه صبْرٌ؟ طاعةُ اللهِ أهونُ عليكم يا قوم، فأطِيعوا اللّهَ ورسولَه.
نسيتَ لَظَى عندَ ارْتكابك
(9)
للهوى
…
وأنتَ تَوَقَّى حَرَّ شمسِ الهواجِرِ
(1)
في ب، ط:"النَّفْر".
(2)
سورة التوبة الآية 81.
(3)
سورة لقمان الآية 17.
(4)
في آ، ش:"تذكر".
(5)
في آ، ش:"يتنصَّف".
(6)
سورة الفرقان الآية 24.
(7)
في ب، ط:"وهو ماء يسيل".
(8)
في آ، ش، ع:"بين الجلد واللحم".
(9)
في ط: "ارتكانك".
كأنَّكَ لم تدفِنْ حَميمًا ولم تَكُنْ
…
لَهُ في سِياقِ المَوْتِ يومًا بحاضِرِ
رأى عمر بن عبد العزيز قومًا في جنازة قد
(1)
هربُوا من الشمس إلى الظِّلِّ، وتوقَّوا الغبارَ، فبكى، ثم أنشد:
مَنْ كانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جبْهَته
…
أو الغُبارُ يخافُ الشَّيْنَ
(2)
والشَّعثَا
ويألفُ الظِّلَّ كي تَبْقَى
(3)
بشاشتُهُ
…
فسوفَ يسكنُ يومًا راغمًا جَدَثا
(4)
في ظِلِّ مُقْفِرةٍ غبْراءَ مُظْلِمَةٍ
…
يُطيلُ تحت الثرى في غَمِّها
(5)
اللَّبثَا
(6)
تجهَّزِي بجَهازٍ تبلُغينَ بهِ
…
يا نفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لم تُخْلَقي عَبَثا
وممَّا يُضَاعَفُ ثوابُه في شدَّة الحَرِّ مِن الطَّاعات الصِّيامُ؛ لما فيه من ظمأ الهواجِر؛ ولهذا كان معاذ بن جَبَل يتأسَّف عند موته على ما يفوتُه من ظمأِ الهواجر، وكذلك غيرُه من السَّلف. ورُوي عن أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه أنه كان يصوم في الصّيف ويُفطِر في الشتاء.
ووصَّى عمر رضي الله عنه عند موته ابنَه عبدَ الله، فقال له: عليك بخصالِ الإيمان، وسمَّى أوَّلَها الصَّوم في شدَّة الحر في الصيف. قال القاسم بن محمد: كانت عائشة رضي الله عنها تصوم في الحَرِّ الشديد. قيل له: ما حمَلَها على ذلك؟ قال: كانت تبادِرُ الموتَ.
وكان مُجمِّع
(7)
التيميُّ يصوم في الصيف حتى يسقُطَ.
كانت بعضُ الصَّالحات تتوخَّى أشدَّ الأيام حَرًّا فتصومُه، فيقال لها في ذلك، فتقول: إنَّ السِّعر إذا رَخُصَ اشتراه كُلُّ أحدٍ؛ تشيرُ إلى أنها لا تؤثِرُ إلَّا العَمَلَ الذي لا يقدِرُ عليه إلَّا قليلٌ من الناس؛ لشدَّته عليهم. وهذا من عُلوَّ الهِمَّة. كان أبو موسى
(1)
في ش، ع:"وقد هربوا".
(2)
الشَّيْن: العَيْب، وهو ضد الزَّيْن.
(3)
في ب، ط:"يبقي".
(4)
الجَدَث: القبر.
(5)
في آ: "عُمَّهِ"، وفي ش، ع:"غمه".
(6)
مصدر لبِثَ لَبْثًا، على غير قياس؛ لأن المصدر من فَعِلَ، بالكسر، قياسه التحريك إذا لم يتعدَّ، مثل تَعِبَ تَعَبًا. (اللسان: لبث).
(7)
هو مُجَمِّع بن يسار أبو حمزة التيمي. قال سفيان الثوري: ليس شيء من عمل أرجو أن يشوبه شيء كحبِّي مجمِّعًا التيمي. دعا مجمع ربَّه عز وجل أن يميته قبل الفتنة، فمات من ليلته، وخرج زيد بن علي من الغد. (صفة الصفوة 3/ 107).
الأشعري في سفينة، فسمعَ هاتفًا يهتِف: يا أهلَ المركب، قفوا، يقولُها ثلاثًا، فقال أبو موسى: يا هذا! كيف نقِفُ؟ أما
(1)
ترى ما نحن فيه، كيف نستطيع وقوفًا؟ فقال الهاتفُ: ألا أخبركم بقضاءٍ قضاهُ الله على نفسِه؟ قال: بلَى، أخبِرنا، قال: فإنَّ الله قضى على نفسه أنَّه من عطَّش نفسَه لله في يومٍ حارٍ؛ كان حقًّا على الله أن يرويَه يومَ القيامة. فكان أبو موسى يتوخَّى ذلك اليومَ الحارَّ الشديدَ الحَرِّ، الذي يكاد الإنسان ينسلِخُ منه، فيصومُه. قال كعب: إنَّ الله تعالى قال لموسى عليه السلام: إنِّي آليت على نفسي أنَّه مَن عطَّشَ نفسَه لي أن أرويَه يومَ القيامة. وقال غيرُه: مكتوبٌ في التوراة: طُوبَى لمن جَوَّع نفسَه ليوم الشبعِ الأكبر، طوبَى لمن عطَّش نفسَه ليوم الرِّيِّ الأكبر.
قال الحسن: تقولُ الحوراء لوليِّ الله وهو متكئ معها على نهر الخمر في الجنَّة تعاطيه الكأسَ في أنعَمِ عيشةٍ: أتدري أيّ يومٍ زوجنيك الله؟ أَنَّه نَظَر إليك في يومٍ صائفٍ بعيدِ ما بينَ الطرفين، وأنتَ في ظمأِ هاجِرةٍ
(2)
مِن جُهدِ العطش، فباهَى بك الملائكة، وقال: انظروا إلى عبدي، ترك زوجتَه ولذَّته وطعامَه وشرابَه من أجلي؛ رغبةً فيما عندي، اشْهَدُوا أنِّي قد غفرْتُ له؛ فغَفَرَ لك يومئذٍ وزوجنيك. لمَّا سار
(3)
عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام كان معاوية يسأله أن يرفَعَ إليه حوائجه فيأبَى، فلمَّا أكثَرَ عليه، قال: حاجتي أن ترُدَّ عليَّ مِن حَرِّ البصرة، لعَلَّ الصَّومَ أن يشتدَّ عليَّ شيئًا؛ فإنَّه يَخِفُّ عليَّ في بلادكم.
نزل الحَجَّاج في بعض أسفاره بماءٍ بين مكة والمدينة، فدعا بغدائه، ورأى أعرابيًا فدعاه إلى الغداء معه، فقال له: دعاني مَنْ هو خيرٌ منك فأجبته. قال: ومَن هو؟ قال: اللهُ تعالى، دعاني إلى الصيام فصُمت. قال: في هذا الحَرِّ الشديد؟ قال: نعم، صُمت ليومٍ هو
(4)
أشدُّ منه حَرًّا. قال: فأفطِر وصُمْ غدًا، قال: إن ضَمِنْتَ لي البقاء إلى غدٍ، قال: ليس ذلك إليّ، قال: فكيف تسألني عاجلًا بآجلٍ لا تقدِرُ عليه. خرَجَ
(1)
في ب، ط:"ألا ترى".
(2)
الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحرّ.
(3)
في آ: "سُيِّر".
(4)
لفظ "هو" لم يرد في ب، ش، ط.
ابنُ عمرَ في سفرٍ مَعَهُ أصحابُه، فوضعوا سُفْرةً لهم، فمرَّ بهم راعٍ فدعوه إلى أن يأكلَ معهم، قال: إنِّي صائم، فقال ابنُ عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حَرُّهُ وأنتَ بين هذه الشِّعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم!؟ فقال: أبادِرُ أيَّامي هذه الخالية. فعجِبَ منه ابنُ عمر، فقال له
(1)
: هل لك أن تبيعنا شاةً من غنمك ونطعمكَ من لحمها ما تفطِر عليه، ونعطيك ثمنَها؟ قال: إنها ليست لي، إنَّها لمولاي. قال: فما عسيتَ أن يقولَ لك مولاك إن قلْتَ: أكلَها الذئب. فمضَى الرَّاعي وهو رافعٌ أصبعَهُ إلى السَّماء، وهو يقول: فأين الله! فلم يَزَلْ ابنُ عمر يردد كلمتَه هذه. فلمَّا قدِمَ المدينة بعث إلى سيد الراعي، فاشترى منه الراعيَ والغنم، فأعتَقَ الراعيَ ووهَبَ له الغَنَمَ.
نزل رَوْح بن زِنْباعٍ
(2)
منزلًا بين مكَّة والمدينة في حَرٍّ شديدٍ، فانقضَّ عليه راعٍ من جبلٍ، فقال له: يا راعي
(3)
، هلُمَّ إلى الغداء، قال: إنِّي صائمٌ، قال: أفتصومُ في هذا الحَرِّ؟ قال: أفأدَعُ أيامي تذهَبُ باطلًا!؟ فقال روحٌ: لقد ضَنِنتَ بأيَّامِكَ يا راعي إذ جاد بها رَوْحُ بن زِنباعٍ.
كان ابنُ عمر يصوم تطوُّعًا فيُغشَى عليه فلا يفطِرُ.
وكان الإمام أحمد يصومُ حتى يكاد يُغمى عليه، فيمسَحُ على وجهه الماء. وسئل عمن يصومُ فيشتدُّ عليه الحَرُّ، قال: لا بأس أن يَبُلَّ ثوبًا يتبرَّدُ به، ويصبّ عليه الماء. "كان النبي صلى الله عليه وسلم بالعَرْج يصُبُّ على رأسه الماء وهو صائمٌ". وكان أبو الدَّرداء يقولُ: صُوموا يومًا شديدًا حَرُّة لِحَرِّ يومِ النُّشورِ، وصَلُّوا ركعتين في ظلمة الليل لِظُلمة القبور.
وفي "الصحيحين"
(4)
عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه، قال: "لقد رأيتُنا مع
(1)
في ب، ط:"فقال له ابن عمر".
(2)
رَوْح بن زِنْباع بن رَوْح بن سلامة، أبو زرعة، أمير فلسطين، وسيد قومه، وكان شبه الوزير للخليفة عبد الملك. توفي سنة 84 هـ. (سير أعلام النبلاء 4/ 251).
(3)
في ب، ط:"يا راع".
(4)
أخرجه البخاري رقم (1945) في الصوم: باب إذا صام أيامًا من رمضان ثم سافر، ومسلم رقم (1122) في الصوم: باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، وأبو داود رقم (2409) في الصوم: باب فيمن اختار الصيام في السفر، وابن ماجه رقم (1663) في الصيام: باب ما جاء في الصوم في السفر.
رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في اليوم الحارِّ الشديد الحَرِّ، وإنَّ الرجُلَ ليضَعُ يدَهُ على رأسه من شِدَّة الحَرِّ، وما في القوم أَحدٌ صائم إلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة". وفي روايةٍ: إنَّ ذلك كان في شهر رمضان.
لمَّا صبَر الصَّائمون لله في الحَرِّ على شدَّة العطش والظمأِ، أفرَدَ لهم بابًا من أبواب الجنَّة، وهو باب الريَّان؛ من دخله شرِب، ومن شرِب لم يظمأْ بعدَها أبدًا، فإذا دخلوا أُغلِق على مَن بعدَهم فلا يدخلُ منه غيرُهم. وقد تحدُث أحيانًا حوادثُ غيرُ مُعتادةٍ تُذكِّرُ بالنَّار، كالصَّواعق، والرِّيح الحارَّة المحرقة للزرع، قال الله تعالى:{وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ}
(1)
. وقد روي أن الصَّواعق قِطعةٌ من نارٍ تطير مِن فِي المَلَكِ الَّذي يزجُرُ السَّحاب عند اشْتِدادِ غضَبه. وقال الله تعالى: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}
(2)
والإعصارُ الرِّيح الشديدةُ العاصِفُ التي فيها نارٌ، والصِّرُّ: الرِّيحُ الشَّديدة البَرْدِ. وقد عذَّبَ الله تعالى قومَ شعيبٍ بالظُّلَّةِ، ورُوي أنه أصابَهم حَرٌّ أخَذَ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت إلى الصحراء فأظلَّتْهم سحابةٌ فوَجَدوا لها بَرْدًا، فاجتمعوا تحتها كلُّهم، فأمطرَتْ عليهم نارًا فاحْترقوا كلُّهم
(3)
. فكل هذه العقوبات بسبب المعاصي، وهي من مقدمات عقوبات جهنم وأنموذجِها.
ومما يدُلُّ على الجنَّة والنار أيضًا ما يُعجِّلُه الله في الدنيا لأهل طاعته وأهل معصيته؛ فإنَّ الله تعالى يُعجِّلُ لأوليائه وأهل طاعته من نفحات نعيمِ الجنَّة ورَوحها ما يجدُونه ويشهدونه بقلُوبهم، ممَّا لا تحيط به عبارة، ولا تحصُره إشارة، حتى قال بعضهم: إنَّه لتمرُّ بي أوقاتٌ أقول: إنْ كان أهلُ الجنَّة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيشٍ طيبٍ. قال أبو سليمان: أهلُ الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم. وقال بعضُهم: الرضا بابُ الله الأعظمُ، وجنةُ الدنيا، ومُستراحُ العابدين. قال الله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}
(4)
. قال
(1)
سورة الرعد الآية 13.
(2)
سورة البقرة الآية 266.
(3)
في ب، ط:"فأحرقوا"، وفي ع: فأحرقتهم".
(4)
سورة النحل الآية 97.
الحسن: يرزُقه
(1)
طاعةً يجدُ لذتها في قلبه. أهلُ التقوى في نعيم حيث كانوا في الدنيا، وفي البَرْزَخ، وفي الآخرة.
العيشُ عيشهُمُ والملكُ ملكهُمُ
…
ما النَّاسُ إلَّا هُمُ بانُوا أو اقتَرَبُوا
وأمَّا أهلُ المعاصي والإعْراض
(2)
عن الله، فإن الله يُعجِّلُ لهم في الدنيا من أنموذج عقوباتِ جهنم ما يُعرف أيضًا بالتجربة والذوق، فلا تسألْ عمَّا هُمْ فيه من ضيق الصَّدرِ وحَرجِهِ ونَكَدِه، وعمَّا يُعجَّلُ لهم من عقوبات المعاصي في الدنيا ولو بعدَ حين من زمن العصيان. وهذا من نفحات الجحيم المعجَّلة لهم، ثم ينتقلون بعد هذه الدار إلى أشدَّ من ذلك وأضيَقَ، ولذلك يضيق على أحدهم قبرُه حتى تختلفَ فيه أضلاعُه، ويُفتح له بابٌ إلى النار، فيأتيه من سَمُومها، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا}
(3)
. وورد في الحديث المرفوع تفسيرُها بعذاب القبر. ثم بعد ذلك يصيرون إلى جهنَّم وضِيقها، قال الله تعالى:{وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}
(4)
.
وممَّا يدُلُّ أيضًا في الدنيا على وجود النار [ويذكر بها]
(5)
الحُمَّى التي تُصيبُ بني آدم، وهي نار باطنةٌ؛ فمنها نفحةٌ من نَفَحات سَموم جهنم، ومنها نفحة من نفحات زمهريرها. وقد روي في حديثٍ خرَّجه الإمام أحمد
(6)
وابنُ ماجه أنها حظُّ المؤمن من النار.
والمراد
(7)
أن الحُمَّى تكفِّر ذنُوبَ المؤمن وتنقِّيه منها، كما ينقي الكيرُ خَبَثَ الحديد. وإذا طُهِّرَ المؤمنُ من ذنوبه في الدنيا، لم يجدْ حَرَّ النَّار إذا مرَّ عليها يومَ القيامة؛ لأنَّ وجدانَ الناس لحرِّها عندَ المرور عليها بحسب ذنوبهم؛ فمن طُهِّرَ من
(1)
في ب، ط:"نرزقه".
(2)
في ش، ع:"والمعرضون".
(3)
سورة طه الآية 124.
(4)
سورة الفرقان الآية 13 و 14.
(5)
زيادة من ش، ع.
(6)
رواه أحمد في "المسند" 2/ 440، وهو حديث حسن، وابن ماجه رقم (3470) في الطب: باب الحمى، من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّه عاد مريضًا، ومعه أبو هريرة، مِن وَعْكٍ كان به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أَبْشِرْ، فإنَّ الله يقول: هي ناري أسلِّطها على عبدي المؤمن في الدنيا؛ لتكون حَظَّهُ من النار في الآخرة".
(7)
في ب، ط:"والمدار".
الذُّنوب ونُقِّي منها في الدنيا، جازَ على الصِّراط كالبَرْق الخاطِف والرِّيح، ولم يجدْ شيئًا من حَرِّ النار، ولم يُحسَّ بها، تقول النار للمؤمن: جُزْ يا مؤمنُ، فقد أطفأ نورُكَ لهبي. وفي حديث جابرٍ المرفوع في "مسند"
(1)
الإمام أحمد أنهم يدخلونها فتكون عليهم بَرْدًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم، حتى إنَّ للنار ضجيجًا مِن بَرْدهم.
ومِن أعظم ما يُذكِّر بنار جهنَّم النَّارُ التي في الدنيا، قال الله تعالى:{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ}
(2)
، يعني أن نار الدنيا جعلَها اللهُ تذكرةً تذكِّر بنار الآخرة
(3)
. مَرَّ ابنُ مسعودٍ بالحدَّادين وقد أخرجُوا حديدًا مِن النار، فوقف ينظر إليه ويبكي.
وروي عنه أنَّه مَرَّ على الذين ينفُخُون الكِير فَسَقَطَ. وكان أويسٌ يقِفُ على الحدَّادين فينظر إليهم كيف ينفخون الكيرَ، ويسمَعُ صوتَ النَّار، فيصرُخُ، ثم يسقُطُ. وكذلك الرَّبيع بن خُثَيم. وكان كثير من السَّلف يخرجون إلى الحدَّادين ينظرون إلى ما يصنعون بالحديد، فيبكون ويتعوَّذون بالله من النَّار. ورأى عطاء السَّلِيمي امرأةً قد سجَرَت تنورَها، فغُشي عليه
(4)
. قال الحسن: كان عمر رُبَّما تُوقَدُ له النار، ثم يُدني يده منها، ثم يقول: يا ابنَ الخطاب! هل لك على هذا صبر؟
كان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضَعُ أُصْبعه فيه، ويقول: حَسِّ
(5)
، ثم يُعاتب نفسه على ذنوبه. أجَّجَ بعضُ العبَّاد نارًا بين يديه وعاتَب نفسَه، فلم يزل يعاتبُها حتى مات. نارُ الدنيا جُزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنَّم، وغُسِلَت بالبحر مرتين حتى أشرقَتْ وخفَّ حرُّها، ولولا ذلك ما انتفع بها أهلُ الدنيا، وهي تدعو
(6)
الله ألا
(1)
قطعة من حديث رواه أحمد في "مسنده" 3/ 329، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 55 و 10/ 360، وقال:"قلت لجابر حديث في الصحيح موقوف غير هذا، رواه أحمد ورجاله ثقات". وقال المنذري في "الترغيب" 4/ 427: "رواه أحمد، ورواته ثقات، والبيهقي بإسناد حسن".
(2)
سورة الواقعة الآية 73.
(3)
في ب، ط:"جهنم".
(4)
صفة الصفوة 3/ 326.
(5)
حَسِّ: كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضه وأحرقه غفلةً، كالجمرة والضَّربة ونحوها. (اللسان: حسس). وبعدها في "صفة الصفوة" 3/ 199: "ثم يقول: يا حُنيف! ما حملك على ما صنعت يومَ كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ".
(6)
في ب، ط:"تدعو إلى الله".
يعيدَها إليها. قال بعضُ السَّلف: لو أُخرِجَ أهلُ النار منها إلى نار الدنيا لقالُوا فيها ألفَيْ عام. يعني أنهم كانوا ينامون فيها ويرونها بَرْدًا. كان عمرُ يقول: أكثِروا ذِكْرَ النَّار؛ فإنَّ حرَّها شديد، وإنَّ قعرها بعيد، وإنَّ مقامِعَها
(1)
حديد. كان ابنُ عمر وغيرُه من السَّلف إذا شرِبوا ماءً باردًا بَكوا وذكروا أمنيَّةَ أهلِ النار وأنَّهم يشتَهون الماء البارِدَ، وقد حيلَ بينهم وبين ما يشتهون، ويقولون لأهل الجنة:{أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ}
(2)
، فيقولون لهم: إنَّ الله قد حرمهما على الكافرين. والمصيبة العُظْمَى حين تطبُقُ النَّارُ على أهلها، وييأسون من الفَرَج، وهو الفزع الأكبر الذي يأمنه أهلُ الجنة {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}
(3)
.
لو أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَهْلَ الشَّقَا
…
سِيقوا إلى النَّار وقَدْ أُحْرِقُوا
شرابُهُمُ المُهْلُ في قَعْرِها
…
إذ خالَفُوا الرُّسْلَ وما صَدَّقُوا
تقولُ أخراهُمْ لأولاهُمُ
…
في لُجج المُهْلِ وقد أُغْرِقوا
قد كُنْتُمُ خُوِّفْتُمُ حَرَّها
…
لكن مِن النِّيران لم تَفْرُقُوا
وَجِيء بالنِّيران مَذْمُومَةً
…
شَرَارُها مِنْ حَوْلها مُحْدِقُ
وقيلَ للنِّيران أَنْ أَحْرِقي
…
وقيلَ للخُزَّان أن أَطْبقُوا
* * *
المجلس الثالث في ذكر فصل الشتاء
خرَّج الإمام أحمد
(4)
من حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الشتاء رَبيعُ المؤمن". وخرَّجه البيهقي
(5)
وغيرُه، وزاد فيه "طال ليلُه فقامَه، وقصُرَ نهارُه فصامَه". إنَّما كان الشتاء ربيعُ المؤمن لأنَّه يرتَعُ فيه في بساتينِ
(1)
المِقْمَعَةُ: واحدة المقامع، وهي سياط تعمل من حديد رؤوسها مُعْوَجَّة. (النهاية 4/ 109).
(2)
سورة الأعراف الآية 50.
(3)
سورة الأنبياء الآية 101.
(4)
رواه أحمد في "المسند" 3/ 75، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، 3/ 200، وقال:"رواه أحمد وأبو يعلى، وإسناده حسن".
(5)
رواه البيهقي في "السنن" 4/ 297، وأورده الألباني في "ضعيف الجامع الصغير" برقم (3429).
الطاعات، ويسرَحُ في ميادين العبادات، وينزِّه قلبه في رياض الأعمال الميسَّرةِ فيه، كما ترتَعُ البهائمُ في مَرْعَى الرَّبيع، فتسمَنُ وتصلُح أجسادُها، فكذلك يصلُح دِين المؤمن في الشتاء بما يسَّر الله فيه من الطاعات؛ فإنَّ المؤمن يقدِرُ في الشتاء على صيام نهارِه من غير مشقَّة ولا كُلفةٍ تحصُلُ له؛ من جوع ولا عَطَشٍ؛ فإنَّ نهاره قصيرٌ باردٌ، فلا يُحِسُّ فيه بمشقَّةِ الصِّيام. وفي "المسند" و"الترمذي"
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"الصِّيامُ في الشِّتاء الغَنيمةُ البَارِدَة".
وكان أبو هريرة رضي الله عنه، يقول: ألا أدُلُّكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى، فيقول: الصِّيامُ في الشتاء. ومعنى كونها غنيمةً باردةً أنها غنيمةٌ حَصَلَتْ بغير قتالٍ ولا تعَبٍ ولا مشقةٍ، فصاحبُها يحوز هذه الغنيمة عفوًا صفوًا بغير كلْفةٍ.
وأمَّا قيامُ ليلِ الشتاء، فلطوله يمكن أن تأخُذَ النفسُ حظَّها من النوم، ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة، فيقرأ المصلِّي وِرْدَه كلَّه من القرآن وقد أخذت نفسُه حظَّها من النوم، فيجتمع له فيه نومُه المحتاج إليه مع إدراك وِرْدِه من القرآن، فيكمُل له مصلحةُ دينه وراحةُ بدنه.
ومن كلام يحيى بن معاذ: الليلُ طويلٌ فلا تقصِّرْه بمنامك، والإسلامُ نَقِيٌّ فلا تدنِّسْه بآثامِك؛ بخلاف ليل الصيف؛ فإنه لقصره وحَرِّه يغلبُ النومُ فيه فلا تكاد تأخذُ النفسُ حظَّها بدون نومِه كَلِّه، فيحتاج القيامُ فيه إلى مجاهدةٍ، وقد لا يتمكَّن فيه لقِصَرِه من الفراغ من وِرْدِه من القرآن. ورُوِي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: مرحبًا بالشتاء تنزِلُ فيه البَرَكَةُ، ويطُولُ فيه الليل للقيام، ويقصُر فيه النهار للصيام. ورُوي عنه مرفوعًا ولا يصحُّ رَفْعُه، وعن الحسن، قال: نِعْمَ زمانُ المؤمن الشتاءُ، ليلُهُ طويل يقومُه، ونهارُه قصير يصومه. وعن عُبيد بن عمير أنَّه كان إذا جاء الشتاء، قال: يا أهلَ القرآن! طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا
(2)
، وقصُرَ النهارُ لصيامكم فصُومُوا.
(1)
رواه الترمذي رقم (797) في الصوم: باب ما جاء في الصوم في الشتاء، من حديث عامر بن مسعود، وهو مرسل كما قال الترمذي؛ لأن عامر بن مسعود لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم. وفي سنده أيضًا نُمَير بن عَريب، لم يوثقه غير ابن حبان. ورواه أحمد في "المسند" 4/ 335.
(2)
لفظ "فاقرؤوا" لم يرد في آ، ش، ع.
قيامُ
(1)
ليلِ الشتاء يعدِلُ صيامَ نهارِ الصيف، ولهذا بكى معاذ رضي الله عنه عند موته، وقال: إنما أبكي على ظمأِ الهواجرِ، وقيام ليلِ الشتاء
(2)
، ومزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حِلَقِ الذكر. وقال معْضَد
(3)
: لولا ثَلاث: ظمأُ الهواجِرِ، وقيامُ ليلِ الشتاء، ولذاذَةُ التهجُّد بكتاب الله، ما باليتُ أن أكونَ يَعْسُوبًا
(4)
. القيامُ في ليل الشتاء يشقُّ على النفوس من وجهين:
أحدُهما: من جهة تألُّم النفس بالقيام من الفراش في شدَّة البرد؛ قال داود بن رُشَيد
(5)
: قام بعضُ إخواني إلى وِرْده بالليل في ليلة شديدة البرد، فكان عليه خُلْقان، فضربَه البَرْدُ فبكَى، فهتف به هاتِفٌ: أقمناك وأنمناهم، وتبكي علينا! خرَّجه أبو نُعيم
(6)
.
والثاني: بما يحصُلُ بإسباغ الوضوء في شدَّة البَرْد من التألُّم، وإسباغُ الوضوءِ في شدَّة البَرْدِ من أفضَل الأعمال. وفي "صحيح مسلم"
(7)
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"ألا أَدُلُّكُم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفعُ به الدَّرجات؟ قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: إسباغُ الوُضوءِ على المكارِهِ، وكثرةُ الخُطَا إلى المساجد، وانتظارُ الصَّلاة بعدَ الصَّلاة، فذلكم الرِّباطُ، فذلكم الرِّباط". وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه رأى ربَّه عز وجل يعني في المنام - فقال له: يا محمد! فِيمَ يختصِمُ الملأُ الأعلى؟ قال: في الدرجات والكفَّارات. قال: والكفَّاراتُ إسباغُ الوُضُوء في الكريهاتِ، ونقلُ الأقدام إلى
(1)
في ش، ع:"وقوموا، لما طال ليل الشتاء كان قيامه يعدِلُ .. ".
(2)
بعدها في ب: "ولذاذة التهجد".
(3)
هو معضد بن يزيد العجليّ، يكنى أبا ذر، لم يحفظ له حديث مسند، وإنما كان مشغولًا بالتعبّد. وفي الحلية:"معضد أبو زيد العجلي"، والخبر في ترجمته في "حلية الأولياء" 4/ 159 و "صفة الصفوة" 3/ 43.
(4)
اليَعسُوب: ذكر النحل.
(5)
داود بن رُشيد، أبو الفضل الخوارزمي البغدادي، صاحب حديث، ثقة، مات سنة 239 هـ. (سير أعلام النبلاء 11/ 133).
(6)
الحلية 8/ 335 ونسب الذهبي الخبر إلى داود نفسه في سير أعلام النبلاء 11/ 134.
(7)
رواه مسلم رقم (251) في الطهارة: باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره، والموطأ 1/ 161 في قصر الصلاة في السفر: باب انتظار الصلاة والمشي إليها، والترمذي رقم (51) في الطهارة: باب ما جاء في إسباغ الوضوء، والنسائي 1/ 89 و 90 في الطهارة: باب فضل إسباغ الوضوء.
الجُمُعاتِ - وفي رواية: "الجماعاتِ" - وانتظارُ الصَّلاة بعدَ الصلاة، مَنْ فعل ذلك عاش بخيرٍ ومات بخيرٍ، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمُّه. والدَّرجاتُ: إطعامُ الطعام، وإفشاءُ السَّلامِ، والصَّلاةُ بالليل والناسُ نيام؛ وذكَرَ الحديث. خرَّجه الإمام أحمد
(1)
والترمذي. وفي بعض الروايات: "إسباغُ الوُضوء في السَّبَرات". والسَّبْرة: شِدَّة البَرْد
(2)
. فإسباغ الوضوء في شِدَّة البَرْدِ من أعلى خِصال الإيمان. رَوَى ابنُ سعدٍ بإسناده: أن عُمَر رضي الله عنه وصَّى ابنَه عبد الله عند موته، فقال له: يا بُني! عليك بخصالِ الإيمان. قال: وما هي؟ قال: الصَّومُ في شِدَّة الحَرِّ أيامَ الصيف، وقَتْلُ الأعداء بالسَّيف، والصَّبْرُ على المصيبة، وإسباغُ الوُضوء في اليوم الشاتي، وتعجيلُ الصَّلاة في يوم الغيم، وتركُ رَدْغَةِ الخَبَالِ. قال: فقال: وما رَدْغَةُ الخَبَالِ؟ قال: شُرْبُ الخَمْرِ.
وروى الأوْزاعيُّ عن يحيى بن أبي كثير
(3)
، قال: ستٌّ مَن كُنَّ فيه فقد استكمَلَ الإيمانَ؟ قتالُ أعداءِ الله بالسيف، والصِّيامُ في الصَّيف، وإسباغُ الوُضُوء في اليوم الشاتي، والتبكيرُ بالصَّلاة في اليوم الغَيم، وتركُ الجدالِ والمِرَاءِ وأنتَ تعلم أنَّك صادِقٌ، والصَّبْرُ على المصيبة. وقد رُوي هذا مرفوعًا. خرَّجه محمَّد بن نصر المروزي في "كتاب الصلاة" له بإسنادٍ فيه ضعف، عن أبي سعيد الخدري
(4)
رضي الله عنه: "سِتٌّ مَن كُنَّ فيه بَلَغَ حقيقةَ الإيمان: ضربُ أعداءِ الله بالسَّيف، وابتِدارُ الصلاة في اليوم الدَّجْن، وإسباغُ الوُضُوء عند المكاره، والصِّيام في الحرِّ،
(1)
رواه أحمد في "المسند" 5/ 243، والترمذي رقم (3235) في تفسير سورة: باب ومن سورة "ص". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وللمؤلف رحمه الله رسالة في شرح هذا الحديث أسماها: "اختيار الأولى: شرح حديث اختصام الملأ الأعلى"، وهي مطبوعة.
(2)
النهاية 2/ 333.
(3)
يحيى بن أبي كثير، أبو نصر الطائي، اليمامي، اختلف في اسم أبيه. كان طلّابة للعلم، حجة، روى له الجماعة، مات سنة 129 هـ. (سير أعلام النبلاء 6/ 27).
(4)
بعدها في آ، ش، ع:"مرفوعًا". والحديث في كنز العمال 15/ 589 و 900 وعزاه إلى الديلمي في "الفردوس"، عن أَبي سعيد. وهو في "الفردوس" 2/ 326، كما أورده السيوطي في "جامعه الصغير" وذكره الألباني في "ضعيفه" برقم 3246 ورمز له بـ "ضعيف جدًّا". قال الزبيدي في "الإتحاف" 7/ 470:"وفي سنده إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وهو متروك واه".
وصبْرٌ عند المصائب، وتَرْكُ المِرَاءِ وأنتَ
(1)
صادق". وفي كتاب "الزهد"
(2)
للإمام أحمد، عن عطاء بن يسار
(3)
قال: قال موسى عليه السلام: ياربّ! من هم أهلُك الذين هم أهلُك، تُظِلُّهم في ظِلِّ عرشِكَ؟ قال: هم البرِيَّةُ أيديهم، الطاهِرةُ قلوبهم، الذين يتحابُّون لجلالي، الذين إذا ذُكِرْتُ ذُكِروا بي
(4)
، وإذا ذُكِرُوا ذُكِرْتُ بذِكْرِهم، الذين يُسْبِغُون الوُضُوءَ في المكاره، ويُنيبون إلى ذكري كما تنيبُ النُّسورُ إلى أوكارها، ويَكلَفُون بحبِّي كما يَكلَفُ الصَّبِيُّ بحبِّ الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استُحِلَّتْ كما يغضَبُ النَّمِرُ إذا حَرِبَ
(5)
.
وقد رُوي عن داود بن رُشَيد، قال: قام
(6)
رجل ليلةً باردةً ليتوضأ للصلاة، فأصاب الماءَ باردًا فبكَى، فنودِي: أما ترضَى أنَّا أنمناهم وأقمناك حتّى تبكي علينا؟. خرَّجه ابنُ السمعاني.
معالجةُ الوُضُوء في جَوْف الليل للتهجُّد موجِبٌ لرضا الربِّ، ومباهاةِ الملائكةِ، ففي شِدَّة البرد يتأكَّد ذلك. ففي "المسند"
(7)
و"صحيح ابن حبان" عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رجلان من أمَّتي؛ يقوم أحدُهما من الليل فيعالج
(8)
نفسَه إلى الطَّهُور وعليه عُقَدٌ، فيتوضأ، فإذا وضَّأَ يديه انحلَّتْ عقدَةٌ، وإذا وضَّأ وجْهَهُ انحلَّت عقدةٌ، وإذا مسَحَ رأسَه انحلَّت عقدَةٌ، وإذا وضَّأ رجليه انحلَّتْ عقدَةٌ؛ فيقولُ الرَّبُّ عز وجل للذين
(9)
وراء الحِجَاب: انظروا إلى عَبْدي هذا يُعَالجُ نفسَه، ما سألني عبدي هذا فهو لَهُ". وفي حديث عطية، عن أبي سعيدٍ، عن
(1)
في ش: "وأنت محق". وفي الفردوس والكنز: "وإن كنت محقًا".
(2)
الزهد ص 95.
(3)
في ب، ط:"رضي الله عنه". وهو عطاء بن يسار الهلالي، أبو محمد المدني، ثقة، فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، مات سنة 94 هـ، وقيل بعد ذلك. (التقريب 2/ 23).
(4)
في ب، ط:"ذكروني".
(5)
أي إذا اشتد غضبه.
(6)
في سير أعلام النبلاء 11/ 134: حدثنا داود بن رشيد، قال: قمت ليلة أصلي، فأخذني البرد لِما أنا فيه من العُري، فأخذني النوم، فرأيت كأن قائلًا يقول: يا داود، أنمناهم وأقمناك فتبكي علينا؟.
(7)
مسند أحمد 4/ 159 و 201، و"صحيح ابن حبان" 3/ 329 - 330 و (168) موارد. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/ 224 وقال:"رواه أحمد والطبراني في الكبير، وله سندان، رجال أحدهما ثقات". وذكره أيضًا في 2/ 264 وقال: "رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام".
(8)
في آ ش: "يعالج" وهي رواية ثانية.
(9)
في آ، ش، ع:"للذي".
النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إنَّ الله ليضحَكُ إلى ثلاثةِ نفرٍ: رجل قام من جوف الليل فأحسَنَ الطَّهُورَ ثم صلَّى، ورجل
(1)
نام وهو ساجد، ورجل في كتيبة منهزمةٍ على فرسٍ جوادٍ لو شاء أن يذهب لذهب"
(2)
.
قال أبو سليمان الداراني: كنت ليلةً باردةً في المحراب، فأقلقني البَرْدُ، فخبَّأْتُ إحدى يديَّ من البرد، وبقِيَتِ الأخرى ممدودةً، فغلبَتْني عيني، فهَتَفَ بي هاتفٌ: يا أبا سليمان، قد وَضَعْنا في هذه ما أصابَها، ولو كانت الأخرى لوضَعْنا فيها. قال: قآليت على نفسي ألَّا أدعُوَ إلَّا ويَدَاي خارجتان؛ حَرًّا كان أو بَرْدًا
(3)
. قال مالك رحمه الله: كان صفوان بن سُليم يصلِّي - يعني بالليل - في الشتاء في السَّطح، وفي الصيف في بطن البيت، يتيقَّظُ بالحَرِّ والبَرْدِ حتى يصبحَ، ثم يقول: هذا الجهدُ من صفوان، وأنتَ أعلمُ به؛ وإنه لَتَرِمُ رِجْلاه حتَّى يعودَ مِثلَ السِّقْطِ من قيام الليل، ثم يظهَرُ فيها
(4)
عروقٌ خُضْرٌ. وكان صفوان وغيرُه من العُبَّاد يُصلَّون في الشتاء بالليل في ثوبٍ واحد، لِيمنعهم البَرْدُ من النوم. ومنهم من كان إذا نَعَسَ ألقَى نفسَه في الماء، ويقول: هذا أهوَنُ من صَديد جهنَّم.
كان عطاء الخراساني ينادِي أصحابَه بالليل: يا فلان، ويا فلان، ويا فلان! قوموا فتوضؤوا وصلُّوا؛ فقيامُ هذا الليل، وصيامُ هذا النهار أهوَنُ مِن شُربِ الصَّديد ومقطعاتِ الحديد غدًا في النار. الوَحَا الوَحَا
(5)
، النَّجاءَ النجاءَ!.
كان قوم من العبَّاد يبيتون في مسجدٍ، وكانوا يتهجَّدون بالليل، فاستيقَظَ واحدٌ منهم ليلةً فوجد إخوانه نيامًا؟ فسمعَ هاتفًا يهتِفُ من جانب المسجد:
(1)
حتى قوله: "لذهب" لم يرد في ا، ش، ع.
(2)
أخرجه ابن ماجه رقم (200) في المقدمة: باب فيما أنكرت الجهمية، من حديث أبي سعيد الخدري، ولفظه:"إنَّ الله ليضحك إلى ثلاثة: للصَّف في الصلاة، وللرجل يصلي في جوف الليل، وللرجل يقاتل - أراه قال - خلف الكتيبة". وفي زوائد البوصيري: في إسناده مقال. أورده الألباني في "ضعيف سنن ابن ماجه" برقم 35، وفي "ضعيف الجامع الصغير" برقم 1656 وانظرا مجمع الزوائد" 2/ 256.
(3)
أخرجه ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 4/ 224.
(4)
في ش، ع:"فيهما"، وفي السير:"فيه". والخبر أخرجه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 5/ 365، وبنحوه ابن الجوزي في "صفة الصفوة" 2/ 153.
(5)
يقال ذلك في الاستعجال، كما تقول: البِدَارَ البِدَارَ. والخبر في "صفة الصفوة" 4/ 150 - 151 و "سير أعلام النبلاء" 6/ 142 - 143.
أيا عَجَبًا للنَّاسِ مَنْ قَرَّتْ
(1)
عيونُهُمْ
…
مطاعِمَ غُمْضٍ بعدَها الموتُ منتَصِبْ
وطولُ قيامِ الليل أيسَرُ مُؤْنَةً
(2)
…
وأهوَنُ مِن نَارٍ تَفُورُ وتلتهِبْ
وفي الحديث الصحيح أن ابن عمر رأى في منامه كأنَّ آتيًا أتاهُ فانطلَقَ به إلى النار حتى رآها، ورأى فيها رجالًا يعرفهم
(3)
معلَّقين بالسلاسل، فأتاه مَلَكٌ، فقال له: لم تُرَع
(4)
، لستَ من أهلها. فقصَّ ذلك على أخته حفصةَ، فقصَّته حفصةُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"نِعْمَ الرجلُ عبدُ الله لو كان يُصلِّي من الليل". فكان ابنُ عمر بعد ذلك لا ينام من الليل إلَّا قليلًا
(5)
. قال الحسن: أفضَلُ العبادة الصَّلاةُ في جَوْف الليل. وقال: هو أقربُ ما يُتَقَرَّبُ به إلى الله عز وجل. وقال: ما وجدْتُ في العبادة أشدَّ منها. ورُؤي سلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ في المنام، فقال: وجدْتُ أفضَلَ الأعمال قيامَ الليل، ما عندَهم أشرفُ منه. ورأى بعضُ السَّلف خِيامًا ضُربت، فسأل: لمن هي؟ فقيل: للمتهجِّدين بالقرآن، فكان بعد ذلك لا ينام.
فما لي بعيدُ الدَّار لا أقرَبُ
(6)
الحِمَى
…
وقد نُصِبَتْ للسَّاهرين
(7)
خِيامُ
علامةُ طَرْدِي طولُ ليليَ نائمٌ
…
وغَيري يَرَى أنَّ المنامَ حَرَامُ
ومن الصالحين مَن كان يلطُفُ به في الحَرِّ والبَرْدِ، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ أن يُذهِبَ الله عنه الحَرَّ والبَرْدَ، فكان يلبَسُ في الشتاء ثيابَ الصيف، وفي الصيف ثيابَ الشتاء، ولا يجدُ حَرًّا ولا بَرْدًا
(8)
. وكان بعضُ التابعين يشتَدُّ عليه الطَّهور في الشتاء،
(1)
في آ، ش:"لذت".
(2)
المُؤْنَة: القوت، جمع مُؤَن.
(3)
في آ، ش:"لا يعرفهم".
(4)
في ب، ط:"لن تُراعَ".
(5)
أخرجه البخاري 12/ 403 في التعبير، باب الاستبرق ودخول الجنة في المنام، وباب الأمن وذهاب الروع في المنام، وفي فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: باب مناقب عبد الله بن عمر، وغير ذلك. وأخرجه مسلم رقم (2478) و (2479) في فضائل الصحابة: باب من فضائل عبد الله بن عمر. وللحديث روايات عدة، انظرها في "جامع الأصول" 2/ 541 - 543.
(6)
في ب، ط:"لم أقرب".
(7)
في ب، ط:"للسائرين".
(8)
من حديث أخرجه ابن ماجه رقم (117) في المقدمة: باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ابن أبي ليلى. وفي زوائد البوصيري: إسناده ضعيف، ابن أبي ليلى شيخ وكيع، وهو محمد، ضعيف الحفظ، لا يحتج بما ينفرد به. غير أن الشيخ الألباني أورده في "صحيح ابن ماجه" برقم 95 ورمز له بالحسن، وذلك بطريقين آخرين، في أوسط الطبراني، وحسنه الهيثمي في "مجمع الزوائد".
فدعا الله عز وجل، فكان يؤتى بالماء في الشتاء وله بخارٌ من حَرِّهِ. رأى أبو سليمان في طريق الحجِّ في شدِّة البَرْدِ شيخًا عليه خُلْقَان
(1)
وهو يرشَحُ عَرَقًا، فعجِبَ منه وسأله عن حاله، فقال: إنَّما الحَرُّ والبَرْدُ خَلْقان لله عز وجل؛ فإنْ أمَرَهما أن يغشياني أَصاباني، وإنْ أمَرَهما أن يتركاني تركاني، وقال: أنا في هذه البَرِّيَّةِ من ثلاثين سنة، يُلْبِسُني في البَرْد فَيْحًا من محبَّته، ويُلْبِسُني في الصيف بَرْدًا من محبَّته. وقيل لآخر وعليه خِرقتان في يَوْمِ بَرْدٍ شديدٍ: لو استترْتَ في موضعٍ يُكِنُّكَ مِن البَرْدِ. فأنشد:
وَيَحْسُنُ ظنِّي أنَّني في فِنائِه
…
وَهَلْ أَحَدٌ في كِنِّهِ يَجِدُ البَرْدَا
وأمَّا من يجد البَرْدَ، وهم عامة الخلق، فإنَّه يُشرَعُ لهم دفعُ أذاهُ بما يدفعُهُ مِن لباسٍ وغيرِه. وقد امتَنَّ الله على عباده بأن خلَقَ لهم من أَصوافِ بهيمةِ الأنعام وأوبارِها وأشعارها ما فيه دِفْءٌ لهم، قال الله تعالى:{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}
(2)
، وقال الله تعالى:{وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}
(3)
. روى ابن المبارك، عن صفوان بن عمرو، عن سُلَيم بن عامر، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاءُ تعاهَدَهُم وكتَبَ لهم بالوصِيَّة: إنَّ الشتاء قد حضَرَ وهو عدُوٌّ فتأهَّبُوا له أُهْبَتَهُ مِنَ الصَّوفِ والخِفَافِ والجوارِبِ، واتخِذُوا الصُّوفَ شعارًا ودِثارًا؛ فإنَّ البَرْدَ عدُوٌّ؛ سريعٌ دخولُه، بعيدٌ خروجُه. وإنما كان يَكتبُ بذلك عُمَرُ إلى أهل الشام لمَّا فُتحت في زمنه، فكان يخشَى على مَنْ بها من الصَّحابة وغيرهم مِمَّن لم يكن له عهد بالبَرْدِ أن يتأذَّى ببردِ الشامِ؛ وذلك من تمام نصيحته وحسْن نظرِه وشفقته وحياطتِه لرعيَّتِه رضي الله عنه.
ورُوي عن كعبٍ، قال: أوحَى الله تعالى إلى داودَ عليه السلام: أن تأهَّبْ لعدُوٍّ قد أظلَّكَ. قال: يا ربّ، مَن عدُوِّي وليس بحضرتي عدُوٌّ؟ قال: بلى، الشِّتاءُ. وليس المأمور به أن يتَّقي البَرْدَ حتى لا يصيبَه منه شيء بالكُلِّيَّة؛ فإنَّ ذلك يَضُرُّ أيضًا. وقد
(1)
في آ، ش، ع:"أخلاق"، وهما بمعنى.
(2)
سورة النحل الآية 5.
(3)
سورة النحل الآية 80.
كان بعضُ الأمراء يصُونُ نفسَه من الحَرِّ والبَرْدِ بالكُليَّة حتى لا يُحِسَّ بهما بدَنُه، فَتَلِفَ باطنُه وتُعجِّل موتُه. فإن الله تعالى بحكمته جَعَلَ الحَرَّ والبَرْدَ في الدنيا لمصالح عِباده؛ فالحَرُّ لتحلُّلِ الأخلاط، والبَرْدُ لجمودِها؛ فمتَى لم يُصبِ الأبدانَ شيء من الحَرَّ والبَرْدِ تعجَّلَ فسادُها، ولكن المأمورُ به اتقاءُ ما يؤذِي البَدَنَ من ذلك، فإن الحَرَّ المؤذِي، والبرد المؤذي معدودان من جملة أعداء بني
(1)
آدم. قيل لأبي حازم الزاهد: إنك لتشدِّدُ، يعني في العبادة. فقال: وكيفَ لا أُشَدِّدُ وقد ترصَّد لي أربعةَ عَشَرَ عدُوًّا. قيل له: لكَ خاصَّةً؟ قال: بل لجميع من يعقِلُ. قيل له: وما هذه الأعداء؟ قال:
أمَّا أربعةٌ فمؤمِنٌ يحسُدني، ومنافِقٌ يبغُضُني، وكافِرٌ يقاتِلُني، وشيطان يُغويني ويُضِلُّني. وأَمَّا العشرَةُ: فالجوعُ، والعطشُ، والحَرُّ، والبَرْدُ، والعُرْيُ، والمَرَضُ، والفاقَةُ، والهَرَمُ، والمَوْتُ، والنَّارُ؛ ولا أطيقُهُنَّ إلَّا بسلاحٍ تامٍّ، ولا أجِدُ لَهُنَّ سِلاحًا أفضَلَ مِن التقوَى. فَعَدَّ الحَرَّ والبَرْدَ من جملة أعدائه.
وقال الأصمعي: كانت العربُ تُسمِّي الشتاءَ الفاضِحَ، فقيل لامرأة منهم: أيُّما أشَدُّ عليكم؛ القيظُ أم القُرُّ؟ قالت: سبحان الله! مَنْ جعل البؤس كالأذى؟ فجعلت الشتاءَ بؤسًا، والقيظَ أذىً. قال بعضُ السَّلف: إن الله تعالى وصَفَ الجنَّة بصفة الصَّيف لا بصفة الشتاء، فقال تعالى:{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ}
(2)
. وقد قال الله تعالى في صفة أهل الجنة: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13]
(3)
؛ فنفَى عنهم شِدَّة الحَر والبَرْدِ. قال قَتَادة: علِمَ الله أن شِدَّةَ الحَر تؤذِي، وشدَّةَ البَرْدِ تؤذِي؟ فوقاهم أذاهما جميعًا.
قال أبو عمرو بن العلاء: إني لأبغُضُ الشتاءَ لنقص الفروضِ، وذهابِ الحقوقِ،
(1)
في ب، ط:"ابن آدم".
(2)
سورة الواقعة الآيات 28 - 32.
(3)
سورة الإنسان الآية 13.
وزيادةِ الكُلْفةِ على الفقراء. وقد روي في حديثٍ مرفوعٍ: أن الملائكة تفرَحُ بذهاب الشتاء؛ لما يدخُلُ فيه على فقراء المؤمنين من الشِّدَّة. ولكن لا يصحُّ إسنادُه. ورُوي أيضًا مرفوعًا: "خيرُ صيفِكُم أشدُّهُ حرًّا، وخيرُ شتائكم أشدُّه بردًا، وإن الملائكة لتبكي في الشتاء رحمةً لبني آدم،. وإسنادُه أيضًا باطل. وقال بعضُ السلف: البَرْدُ عدُوُّ الدِّين. يشير إلى أنَّه يُفتِرُ عن كثيرٍ من الأعمال، ويُثبِّطُ عنها، فتكسَلُ النفوس بذلك. وقال بعضُهم: خُلِقَتِ القلوبُ من طينٍ؛ فهي تلين في الشتاء كما يَلين الطينُ فيه.
قال الحسن: الشِّتاءُ ذَكَرٌ فيه اللّقاحُ، والصَّيفُ أنثى فيه النَّتَاجُ؛ يشيرُ إلى أن الصيف تُنتَجُ فيه المواشي والشجرُ. والصيفُ عند العرب هو الرَّبيع، وأمَّا الذي تسميه الناسُ الصيفَ فالعربُ يسمُّونه القيْظَ. ففي الشتاء تغور الحرارة إلى باطن الشجر فتنعقدُ موادُّ الثمر، فتظهر في الربيع مباديها، فتزهر الشجَرُ، ثم تورِقُ، ثم إذا ظهرت الثمارُ قوِي حَرُّ الشمس؛ لإنضاجها. الإيثارُ في الشتاء للفقراء
(1)
بما يدفع عنهم البَرْدَ له فَضْلٌ عظيمٌ؛ خَرَج صفوان بن سُليم في ليلةٍ باردةٍ بالمدينة من المسجد، فرأى رجلًا عاريًا، فنزع ثوبَهُ وكساه إياه، فرأى بعضُ أهلِ الشام في منامه أن صفوان بن سُلَيمٍ دخل الجنة بقميصٍ كساهُ، فقدِمَ المدينة، فقال: دلوني على صَفوانَ، فأتاه فقصَّ عليه ما رأى
(2)
.
رأي مِسْعَرٌ
(3)
أعرابيًا يتشرَّق
(4)
في الشمس، وهو يقول:
جاء الشتاءُ وليس عندِي دِرْهَمٌ
…
ولقد يُخصُّ بمثلِ ذاكَ المُسْلِمُ
قد قطع النَّاس الجبابَ وغيرَها
…
وكأَنني بِفِناءِ مكة مُحرِمُ
فنزع مِسْعَرٌ جبَّته فألبسَهُ إيَّاها.
(1)
في ش، ع:"والإيثار للفقراء في الشتاء".
(2)
صفة الصفوة 2/ 154.
(3)
هو مِسْعَر بن كِدام بن ظُهَير بن عبيدة، أبو سلمة الهلالي، الكوفي، شيخ العراق، ثقة ثبت فاضل، جمع العلم والورع، توفي سنة 155 هـ. (سير أعلام النبلاء 7/ 163 - 173).
(4)
أي جلس يستدفئ في الشمس وقت الشروق.
رُفع إلى بعض الوزراء الصالحين أن امرأة معها أربعةُ أطفال أيتام وهم عراةٌ جياعٌ، فأمر رجلًا أن يمضيَ إليهم ويحمِلَ معه ما يُصلِحُهم من كسوةٍ وطعامٍ، ثم نزع ثيابَه وحلَفَ: لا لبستها ولا دفيت حتى تعودَ وتخبرني أنك كسوْتهم وأشبَعْتهم، فمضَى وعاد وأخبره أنهم اكتسوا وشبعوا وهو يُرعد من البرد، فلبسَ حينئذٍ ثيابَه، خرَّج الترمذي
(1)
من حديثِ أبي سعيد مرفوعًا: "من أطعم مؤمنًا على جوعٍ أطعَمَهُ الله يوم القيامة مِن ثمار الجنَّة، ومَن سَقَاهُ على ظمإٍ سقاهُ الله يوم
(2)
القيامة من الرَّحيق المختوم، ومَن كَسَاهُ على عُرْيٍ كسَاهُ الله مِن خُضْر الجنة". وروى ابنُ أبي الدنيا
(3)
بإسناده، عن ابن مسعودٍ، قال: "يُحشَرُ الناس يومَ القيامة أعْرَى ما كانوا قَطُّ، وأجوَعَ ما كانوا قطُّ، وأظمأَ ما كانوا قطُّ؛ فمن كَسا لله عز وجل كساهُ الله، ومن أطعم لله أطعمَهُ الله، ومَنْ سَقَى لله سقَاهُ اللهُ، ومن عَفَا لله عَفَا
(4)
الله عنه".
ومِن فضائل الشتاء أنَّهُ يذكِّر بزمهرير جهنَّم، ويوجب الاستعاذةَ منها.
وفي حديث أبى هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا كان يومٌ شديدُ البرد، فإذا قال العَبْدُ: لا إله إلا الله، ما أشَدَّ بَرْدَ هذا اليوم! اللهم، أجِرْني من زمهرير جهنَّم، قال الله تعالى لجهنم: إن عبدًا من عبيدي
(5)
استجار بي من زمهريركِ، وإنِّي أُشهِدُكِ أنِّي قد أجَرْته. قالوا: وما زمهريرُ جهنَّم؟ قال: بيت يُلقى فيه الكافر فيتميَّز من شِدَّة برده". قام زُبَيد الياميُّ ذاتَ ليلة للتهجُّد، فعمَدَ إلى مَطْهَرةٍ له كان يتوضأ منها، فغمَسَ يَدَهُ في المَطْهَرة، فوجد الماءَ باردًا شديدًا كاد أن يجمُدَ من شِدَّة برده؛ فذكر الزمهريرَ ويدُه في المَطْهَرة، فلم يُخرِجْها حتى أصبح. فجاءت جاريته وهو على تلك
(1)
رواه الترمذي رقم (2449) في صفة القيامة، باب رقم 18، وقال الترمذي:"هذا حديث غريب، وقد روي هذا عن عطية عن أبي سعيد موقوفًا، وهو أصح عندنا وأشبه". وبنحوه في "سنن أبي داود" رقم (1682) في الزكاة: باب في فضل سقي الماء. وأخرجه المنذرى في "التركيب" 2/ 66 وقال: "رواه الترمذي واللفظ له، وأبو داود".
(2)
قوله: "يوم القيامة" لم يرد في ب، ط.
(3)
أخرجه المنذري في "الترغيب" 2/ 66 وقال: "رواه ابن أبي الدنيا في كتاب اصطناع المعروف، موقوفًا على ابن مسعود". ثم ذكر لفظه فيه، وقال:"وروي مرفوعًا بهذا اللفظ".
(4)
في ب، ط:"أعفاه الله".
(5)
في ش، ط:"عبادي".
الحال، فقالت: ما شأنُك يا سيدي؟ لم تصلّ
(1)
الليلة كما كنتَ تُصلِّي، وأنت قاعدٌ هنا على هذه الحالة؟ فقال: ويحكِ! إنِّي أَدخلْت يدي في هذه المَطْهَرة فاشتَدَّ عليَّ برْدُ الماء، فذكرْتُ به الزمهرير، فواللهِ ما شعرتُ بشدَّة برْدِه حتَّى وقفْتِ عليَّ، فانْظري، لا تُحدِّثي بهذا أحدًا ما دمتُ حيًّا. فما علِمَ بذلك أَحدٌ حتى مات رحمه الله. في الحديث الصحيح
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إن لجهنم نَفَسَين؛ نَفَسًا في الشتاء، ونَفَسًا في الصيف، فأشَدّ ما تجدون من البرْدِ من زَمهريرها، وأشَدّ ما تجدون مِن الحَرِّ من سَمُومها".
وروي عن ابن عباس، قال: يستغيثُ أهلُ النار من الحَرِّ فيُغاثون بريحٍ باردةٍ يُصَدِّعُ العِظامَ بَرْدُها، فيسألون الحَرَّ. وعن مجاهدٍ، قال: يهربون إلى الزمهرير، فإذا وقَعُوا فيه حَطَّمَ عِظَامَهُم حتى يُسمَعَ لها نَقيضٌ. وعن كعْبٍ، قال: إنَّ في جهنَّم بردًا هو الزَّمهرير، يُسقِطُ اللحمَ حتى يستغيثوا بِحَرِّ جهنَّم.
وعن عبد الملك بن عُميرٍ، قال: بلغني أن أهل النار سألوا خازِنَها أن يخرجَهُم إلى جانبها
(3)
، فأُخْرِجوا فقتلهم البَرْدُ والزمهرير، حتى رجعوا إليها فدخلُوها ممَّا وجدوا
(4)
من البَرْد، وقد قال الله عز وجل:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا}
(5)
. وقال الله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}
(6)
.
قال ابنُ عباس: الغسَّاق: الزَّمْهرير البارِدُ الذي يُحرِقُ مِن بَرْدِه. وقال مجاهد: هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه مِن بردِه. وقيل: إنَّ الغسَّاقَ الباردُ المنتنُ؛ أجارنا اللهُ تعالى من جهنم بفضله وكرمه. يا مَن تتلى عليه أوصافُ جهنَّم، ويشاهِدُ تنفُّسَها كلَّ عامٍ حتى يُحسَّ به ويتألَّمَ وهو مصرٌّ على ما يقتضي دخولها، مع أنَّه يعلم، ستعلم إذا
(1)
في ب، ط:"لِمَ لا تصلِّي"، وفي آ:"لِمَ لم تصلِّ"، وفي ش، ع:"لم تصلي".
(2)
أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجه، وقد سبق ذكره وتخريجه في بداية "المجلس الثاني في ذكر فصل الصيف".
(3)
في آ: "جبالها"، وفي ش، ع:"جنباتها".
(4)
في ب، ط:"وجدوه".
(5)
سورة النبأ الآيات 24 - 26.
(6)
سورة ص الآية 57.
جيء بها تُقاد بسبعين ألف زمامٍ مَن يندَمُ. ألكَ صبرٌ على سَعِيرها وَزَمهريرها؟ قلْ وتكلَّم، ما كان صلاحُك يُرجَى، والله أعلم.
كم يكونُ الشتاءُ ثم المصِيفُ
…
وَرَبيعٌ يَمْضِي وَيأتي الخريفُ
وارْتِحال من الحَرُورِ إلى البَرْ
…
دِ وَسَيْفُ الرَّدَى عليك مُنيفُ
يا قلِيلَ المُقَامِ في هذه الدُّنيا
…
إلى كَمْ يَغُرُّك التَّسويفُ
يا طالبَ الزَّائلِ حتَّى مَتَى
…
قلبُك بالزَّائل مشغُوفُ
(1)
عَجَبًا لامرئٍ يذِلُّ لذي الدُّنيا
…
ويكفِيه كُلَّ يومٍ رغيفُ
* * *
مجلس في ذكر التوبة والحثِّ عليها قبل الموت وختم العمر بها والتوبة وظيفة العمر وهي خاتمة مجالس الكتاب
خرَّج الإِمام أحمد
(2)
والترمذي وابنُ حِبان في "صحيحه" من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ الله عز وجل يقبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ ما لم يُغَرْغِر". وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ. دَلَّ هذا الحديثُ على قبول تَوبةِ الله عز وجل لعبدِه ما دامَتْ روحُه في جَسَدِه لم تبلُغِ الحُلْقُومَ والتراقي. وقد دَلَّ القرآن على مثل ذلك أيضًا؛ قال الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}
(3)
. وعَمَلُ السُّوء إذا
(4)
أفرد دَخَلَ فيه جميعُ السَّيئاتِ؛ صغيرُها وكبيرُها. والمراد بالجهالة الإقدامُ على عمل السُّوء وإن علِمَ صاحبُه أنَّه سُوء؛ فإن كُلَّ مَن عَصَى الله فهو جاهلٌ، وكُلَّ مَن أطاعَه فهو عالم؛ وبيانُهُ من وجهين:
(1)
هذا البيت غير مستقيم الوزن، ولم يرد في نسخة (ش)، وهو مستدرك في هامش نسخة (ع).
(2)
رواه أحمد في "مسنده" 2/ 132 و 153 بسند صحيح. والترمذي رقم (3531) في الدعوات: باب التوبة مفتوح قبل الغرغرة، وإبن ماجه رقم (4253) في الزهد: باب ذكر التوبة، وابن حبان رقم (2449) موارد، وإسناده حسن.
(3)
سورة النساء الآية 17.
(4)
في ب، ط "إذا أفرد دخل فيه".
أحدهما: أنَّ من كان عالمًا بالله تعالى وعظمته وكبريائه وجلاله فإنَّه يَهَابُه ويخشاهُ؛ فلا يقَعُ منه مع اسْتِحضار ذلك عصيانُه، كلما قال بعضهم: لو تفكَّر النَّاس في عظمة الله تعالى ما عصوه. وقال آخر: كَفَى بخشية الله علمًا، وكَفَى بالاغترار بالله جهلًا.
والثاني: أنَّ مَن آثر المعصيةَ على الطَّاعة فإنَّما حَمَلَه على ذلك جهلُه وظنَّه أنَّها تنفَعُه عاجلًا باستعجال لذتها، وإن كان عندَهُ إيمانٌ فهو يرجو التخلُّص من سوء عاقبتها بالتوبة
(1)
في آخر عمره؛ وهذا جَهْلٌ مَحْضٌ؛ فإنه يتعجَّلُ الإِثم والخِزي، ويفوته عِزُّ التقوى وثوابُها ولَذَّةُ الطاعة، وقد يتمكَّن من التوبة بعد ذلك، وقد يعاجله الموت بغتةً، فهو كجائعٍ أَكَلَ طعامًا مسمومًا لدفع جوعِه الحاضِر، ورجا أن يتخلَّص مِن ضرره بشُرْب الدِّرياق
(2)
بعدَه. وهذا لا يفعله إلَّا جاهلٌ، وقد قال تعالى في حقِّ الذين يؤثرون السحر:{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
(3)
.
والمراد: أنَّهم آثروا السحر على التقوى والإيمان؛ لما رجوا فيه من منافع الدنيا المعجلة، مع علمهم أنَّهم يفوتهم بذلك ثوابُ الآخرة، وهذا جهلٌ منهم؛ فإنهم لو علموا لآثروا الإيمان والتقوى على ما عَداهما، فكانوا يُحرزون أجر الآخرة ويأمنون عقابَها، ويتعجَّلون عِزَّ التقوى في الدنيا، وربما وصلوا إلى ما يأمُلُونه في الدنيا أو إلى خيرٍ منه وأنفعُ؛ فإن أكثَرَ ما يُطلبُ بالسَّحر قضاءُ حوائجَ محرَّمةٍ أو مكروهةٍ عند الله عز وجل.
والمؤمن المتقي يُعوِّضُه الله في الدنيا خيرًا مما يطلبُه السَّاحِرُ ويؤثِرُه، مع تعجيله عِزَّ التَّقوى وشرفها، وثوابَ الآخرة وعلُوَّ درجاتها، فتبيَّن بهذا أن إيثار المعصية على
(1)
في ب، ط:"والتوبة".
(2)
الدِّرباق: لغة في التَّرْياق، وهو دواء السُّموم، فارسي معرّب.
(3)
سورة البقرة الآية 102 و 103.
الطاعة إنما يحمِلُ عليه الجهلُ، فلذلك كان كُلُّ مَنْ عَصَى الله جاهلًا، وكُل مَنْ أطاعَه عالمًا. وكَفَى بخشية الله علمًا، وبالاغترار به جَهْلًا. وأمَّا التوبة من قريبٍ فالجمهور على أن المراد بها التوبةُ قَبْلَ الموت؛ فالعمر كله قريبٌ، والدنيا كلُّها قريبٌ. فمن تاب قبل الموت فقد تاب من قريبٍ، ومن مات ولم يتُبْ فقد بَعُدَ كُلِّ البُعد، كما قيل:
[يقولُون لا تَبْعَدْ وَهُم يَدْفِنُونني
…
وأينَ مكانُ البُعْد إلَّا مكانِيا
وقال آخر:
مِن قَبْل أن تلقِي وليـ
…
ـــس النأْيُ إلَّا نأيُ دارِك
وكما قيل]
(1)
:
فهم جِيرةُ الأحياءِ أمَّا مَزَارُهُم
(2)
…
فَدَانٍ وأمَّا المُلْتَقَى فَبَعيدُ
فالحيُّ قريبٌ، والميتُ بعيدٌ من الدنيا على قُربه منها؛ فإنَّ جسمه في الأرض يَبْلَى، ورُوحه عند الله تُنَعَّم أو تُعَذَّب، ولقاؤه لا يرجى في الدنيا، كما قيل:
مقيمٌ إلى أن يبعَثَ الله خَلْقَهُ
…
لقاؤكَ لا يُرجَى وأنتَ قَريبُ
تزيدُ بِلىً في كُلِّ يوم وليلةٍ
…
وتُنْسَى كما تُبْلَى وأنْتَ حَبيبُ
وهذان البيتان سمِعهما داودُ الطائيُّ رحمه الله من امرأةٍ في مقبرةٍ تَنْدُبُ بهما ميّتًا لها، فوقعتا من قلبه موقعًا، فاستيقظ بهما وَرَجَعَ زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة، فانقطَعَ إلى العبادة إلى أن مات رحمه الله. فمن تابَ قبل أن يُغَرْغِر، فقد تاب من قريبٍ، فتقبَلُ توبَتُهُ. ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى {يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}
(3)
، قال: قبل المرض والموت، وهذا إشارة إلى أن أفضل أوقاتِ التوبةِ، وهو أن يبادِرَ الإِنسانُ بالتوبة في صحته قبلَ نُزول المرض به حتَّى يتمكنَ حينئذٍ من العمل الصالح، ولذلك قَرَنَ الله تعالى التوبةَ بالعمل الصالح في مواضِعَ كثيرةٍ من القرآن. وأيضًا فالتوبةُ في الصحة ورجاءِ الحياة تُشبه الصَّدَقَةَ بالمال في الصِّحة ورجاءِ البقاء،
(1)
ما بين قوسين زيادة من نسخة آ، واستدرك البيت الأول "يقولون لا تبعد .. " في هامش نسخة ع.
(2)
في ط: "قرارهم"، وهو تحريف.
(3)
سورة النساء الآية 17.
والتوبة في المرض عند حضور أمارات الموت تشبه الصَّدَقَةَ بالمال عند الموت، فكأنَّ مَن لا يتوبُ إلَّا في مرضه قد اسْتَفْرَغَ صِحَّتَهُ وقوَّتَه في شهواتِ نفسِه وهواه ولَذَّات دنياه، فإذا أيسَ من الدنيا والحياة فيها تابَ حينئذٍ وترك ما كان عليه، فأين توبةُ هذا من توبةِ مَن يتوبُ [من قريبٍ]
(1)
وهو صحيحٌ قويٌّ قادِرٌ على عمل المعاصي، فيتركها خوفًا من الله عز وجل، ورجاءً لثوابه، وإيثارًا لطاعته على معصيته.
دخل قوم على بِشْر الحافي وهو مريضٌ، فقالوا له: على ماذا عَزَمْتَ؟ قال: عَزَمْتُ أني إذا عُوفِيتُ تُبْتُ. فقال له رجلٌ منهم: فهلَّا تُبْتَ السَّاعَةَ؟ فقال: يا أخي! أَمَا عَلِمْتَ أن الملوك لا تقبَلُ الأمانَ ممن في رجليه القيدُ، وفي رقبته الغِلُّ، إنَّما يُقبَلُ الأمانُ ممن هو راكب الفرس والسيفُ مجرَّدٌ بيده، فبكَى القومُ جميعًا. ومعنى هذا أن التائب في صحته بمنزلةِ مَن هو راكبٌ على متن جوادِه وبيدِه سيفٌ مشهور، فهو يقدِرُ على الكَرِّ والفَرِّ والقتالِ، وعلى الهرب مِن الملِكِ وعِصْيانِه، فإذا جاء على هذه الحال إلى بينَ يَدَي الملكِ ذليلًا له، طالبًا لأمانه، صار بذلك من خواصِّ الملِكِ وأحبابه؛ لأنَّه جاءَهُ طائعًا مختارًا له، راغبًا في قربه
(2)
وخدمته.
وأمَّا من هو في أسْرِ الملِك، وفي رِجْلِه قَيْدٌ، وفي رقبتِه غِلُّ، فإنَّه إذا طلب الأمان من الملك فإنَّما طلبه خوفًا على نفسه من الهلاك، وقد لا يكون محبًّا للملك ولا مؤثرًا لرضاه، فهذا مَثَلُ مَن لا يتوبُ إلَّا في مرضه عند موته، والأول بمنزلة مَن يتوبُ في صحَّتِه وقوَّتِه وشبيبته، لكن ملِكُ الملوكِ، أكرمُ الأكرمين، وأرحَمُ الرَّاحمين، وكُلُّ خلْقه أسيرٌ في قبضته، لا يُعْجِزُه
(3)
منهم أحَدٌ؛ لا يُعْجِزُه هاربٌ، ولا يفوتُه ذاهِبٌ، كما قيل
(4)
: لا أَقْدَرُ مِمَّن طلبتُه
(5)
في يدِهِ، ولا أَعْجَزُ مِمَّن هو في يد طالبِهِ، ومع هذا فكُلُّ مَنْ طلب الأمانَ من عذابه من عباده أَمِنَهُ على أي حالٍ كان، إذا علم منه الصِّدْق في طلبه. [أنشد بعض العارفين]
(6)
:
(1)
زيادة من ب، ط، وفي هامش ع:"من قرب".
(2)
حتى قوله: "إذا طلب" لم يرد في آ، ش، ع.
(3)
قوله: "لا يعجزه منهم أحد" لم يرد في ب، ط.
(4)
حتى قوله: "في يد طالبه" لم يرد في ب، ط.
(5)
في آ: "طليبه".
(6)
زيادة من ش، ع.
الأمانَ الأمانَ وِزْرِي ثَقيلُ
…
وَذُنُوبي إذا عَدَدْتُ تَطُولُ
أَوْبَقَتْنِي وَأَوْثَقَتْنِي ذُنُوبي
…
فَتُرَى لي إلى الخلاصِ سَبِيلُ
(1)
، فسَوَّى بين مَن تاب عند الموت ومن مات من غير توبةٍ. والمرادُ بالتوبة عندَ الموت التوبةُ عند انكشافِ الغِطاء، ومعاينةِ المحتضر أمورَ الآخِرة، ومشاهدة الملائكة؛ فإن الإيمان والتوبةَ وسائرَ الأعمال إنَّما تنفع بالغيب، فإذا كُشِفَ الغِطاءُ وصار الغيبُ شهادةً، لم ينفَعِ الإِيمانُ ولا التوبةُ في تلك الحال.
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسناده عن علي، قال: "لا يزالُ العبدُ في مَهَلٍ
(2)
من التَّوبة ما لم يأتِه مَلَكُ الموت يقبِضُ رُوحَه، فإذا نَزَلَ مَلَكُ الموت فلا توبةَ حينئذٍ". وبإسناده عن الثوري، قال: قال ابنُ عمر: التوبةُ مبسوطةٌ ما لم ينزِلْ سلطانُ الموت.
وعن الحسن، قال: التوبةُ معروضةٌ لابن آدمَ ما لم يأخُذِ الموتُ بِكَظَمِه
(3)
. وعن بكر المزني، قال: لا تزال التوبةُ للعبد مبسُوطةً ما لم تأتِه الرسُلُ، فإذا عاينَهم انقطعت المعرفة. وعن أبي مِجْلَزٍ
(4)
، قال: لا يزال العبدُ في توبةٍ ما لم يعاين الملائكة. وروَى أيضًا في "كتاب الموت" بإسناده عن أبي موسى الأشعري، قال:"إذا عايَنَ الميتُ المَلَكَ ذهبَتِ المعرفةُ". وعن مجاهدٍ نحوه.
وعن حصين، قال: بلغني أن مَلَكَ الموتِ إذا غَمَزَ وَرِيدَ الإِنسان حينئذ يشخَصُ بصرُه، ويذهَلُ عن الناس. وخرَّج ابنُ ماجه
(5)
حديثَ أبي موسى الأشعري مرفوعًا، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: متى تنقطع معرفةُ العبد من الناس؟ قال: "إذا عاين". وفي
(1)
سورة النساء الآية 18.
(2)
في ش، ع:"مهله".
(3)
أي عند خروج نفْسه وانقطاع نَفَسه، ومنه حديث النَّخعي "له التوبة ما لم يُؤخَذْ بكَظَمِه". (النهاية 4/ 178).
(4)
هو لاحق بن حُميد بن سعيد السدوسي البصري، أبو مِجْلَز، مشهور بكنيته، ثقة، مات سنة 106 وقيل 109 هـ. (التقريب).
(5)
رقم (1453) في الجنائز: باب ما جاء في المؤمن يؤجر في النزع. وفي سنده نصر بن حمَّاد، كذَّبه يحيى بن معين وغيره، ونسبه أبو الفتح الأزدي لوضع الحديث.
إِسناده مقال. والموقوفُ أشبَهُ. وقد قيل: إنَّه
(1)
إِنَّما مُنع من التوبة حينئذٍ؛ لأنه إذا انقطعَتْ معرفتُه وَذَهِلَ عقلُه، لم يتصوَّر منه نَدَمٌ ولا عَزْمٌ؛ فإنَّ النَّدَمَ والعَزْمَ إِنَّما يصِحُّ مع حضور العَقْلِ، وهذا ملازم لمعاينة الملائكة، كما دَلَّت عليه هذه الأخبار. وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عُمَرَ:"ما لم يُغَرْغِر"، يعني إِذا لم تبلُغْ رُوحُه عند خروجها منه إلى حلْقِه، فشبَّه تردُّدَها في حلق المحتضر بما يتغرْغَرُ به الإنسانُ من الماء وغيره، ويردده في حلقه. وإلى ذلك الإِشارة في القرآن بقوله عز وجل:{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}
(2)
، وبقوله عز وجل:{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}
(3)
، وروى ابنُ أبي الدنيا بإسناده، عن الحسن، قال: أشدّ ما يكون الموت على العبد إِذا بلغت الروح التَّراقي، قال: فعند ذلك يضطرب ويعلو نَفَسُهُ، ثم بَكَى الحسنُ رحمه الله تعالى.
عِشْ ما بَدَا لكَ سالمًا
…
في ظِل شاهِقةِ القُصُورِ
يُسْعَى عليكَ بما اشتهيْتَ
…
لَدَى الرَّواحِ وفي البُكُورِ
فإذا النُّفوسُ تَقَعْقَعَتْ
…
في ضِيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدورِ
فهناكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا
…
ما كنْتَ إِلَّا في غُرور
واعلم أن الإنسان ما دام يؤمّلُ
(4)
الحياةَ فإنَّه لا يقطَعُ أملَه من الدنيا، وقد لا تسمحُ نفسُه بالإقلاع عن لَذَّاتها وشهواتها من المعاصِي وغيرِها، ويُرجِّيه الشيطان التوبة في آخر عُمُرِه، فإذا تيقَّن الموتَ، وأيسَ مِن الحياة، أفاقَ من سكرته بشهواتِ الدنيا، فندِم حينئذٍ على تفريطه ندامةً يكادُ يقتل نفسه، وطلبَ الرجعة إِلى الدنيا ليتوبَ ويعمَلَ صالحًا، فلا يجابُ إِلى شيءٍ من ذلك، فيجتمع عليه سكرةُ الموت مع حَسْرة الفَوْت. وقد حذَّر الله تعالى عِبادَهُ من ذلك في كتابه؛ ليستعدُّوا للموت قبلَ نزولِه، بالتوبة والعملِ الصالح؛ قال الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
(1)
في آ: "إنه منع"، وفي ش، ع:"إن ذلك سبب المنع".
(2)
سورة الواقعة الآية 83.
(3)
سورة القيامة الآية 26.
(4)
في ب، ط:"يأمُل".
الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}
(1)
.
سُمِعَ
(2)
بعضُ المُحتَضرين عند احتضاره يلطِمُ على وجهه، ويقول:{يا حَسْرَتَا عَلى ما فَرَّطتُ في جَنْبِ الله} . وقال
(3)
آخر عند احتضاره: سَخِرتْ بي الدنيا حتى ذهبَتْ أيامي. وقال آخر عند موته: لا تغرنكُم الحياة
(4)
الدنيا كما غرتني. وقال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ
(5)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا}
(6)
(7)
. وقال الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}
(8)
، وفسَّره طائفةٌ مِن السَّلف؛ منهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله، بأنَّهم طلبوا التوبةَ حين حِيلَ بينهم وبينها. قال الحسن: اتقِ الله يا ابنَ آدم، لا يجتمع عليك خَصْلتان؛ سكْرةُ الموت، وحَسْرةُ الفوْت.
وقال ابن السَّمَّاك: احْذر السَّكرةَ والحَسْرة أن يفجأك الموتُ وأنتَ على الغِرَّة، فلا يصفُ واصفٌ قدْرَ ما تلقى ولا قدْرَ ما ترى.
قال الفُضيلُ: يقولُ الله عز وجل: ابنَ آدم! إذا كنتَ تتقلَّبُ في نِعمتي وأنتَ تتقلَّبُ في معصيتي، فاحْذرْني لا أَصْرَعُك بين معاصِيَّ. وفي بعض الإسرائيليات: ابنَ آدمَ! احْذر لا يأخُذك الله على ذنبٍ فتلقاهُ لا حُجَّةَ لك. مات كثير من المُصِرِّين على المعاصي على أقبحِ أحوالهم وهم مباشرون للمعاصِي، فكان ذلك خِزيًا لهم في الدنيا مع ما صاروا إليه من عذاب الآخرة. وكثيرًا ما يقعُ هذا للمصرِّين
(9)
على الخمر المدمنين لشربها، كما قال القائل:
(1)
سورة الزمر الآيات 54 - 56.
(2)
في آ: "سُمع بعض المستحضرين عند استحضاره يقول: سخرت بي الدنيا .. ".
(3)
في ش، ع:"وسُمع من آخر: سخرت .. ".
(4)
لفظ "الحياة" لم يرد في آ، ش، ع.
(5)
في آ، ش، ع:"ارجعوني".
(6)
سورة المؤمنون الآية 99.
(7)
سورة المنافقون الآية 10 و 11.
(8)
سورة سبأ الآية 54.
(9)
في ش: "لمدمني الخمر المصرّين على شربها".
أتَأْمَنُ أيُّها السَّكرانُ جَهْلًا
…
بأَنْ تَفْجَأْكَ في السُّكْر المنِيَّه
فَتَضْحَى عِبْرةً للناس طُرًّا
…
وَتَلْقَى الله مِن شَرِّ البَرِيَّه
سكِرَ بعضُ المتقدِّمين ليلةً، فعاتبته زوجتُه على ترك الصَّلاة، فحلف بطلاقها ثلاثًا لا يُصلِّي ثلاثة أيامٍ، فاشتدَّ عليه فراق زوجته، فاستمَرَّ على ترك الصلاة مدَّةَ الأيام الثلاثة؛ فمات فيها على حاله وهو مصِرٌّ على الخمر، تاركٌ للصلاة.
كان بعضُ المصرِّين على الخمر يُكنى أبا عمرٍو، فنام ليلةً وهو سكران، فرأى في منامه قائلًا يقول له:
جَدَّ بكَ الأمْرُ أبا عمرو
…
وأنْتَ مَعْكُوفٌ على الخَمْرِ
تشرَبُ صَهْباءَ صُرَاحِيَّةً
…
سَالَ بكَ السَّيْلُ ولا تَدْرِي
فاستيقظ منزعجًا وأخبر مَن عندَه بما رأى، ثم غلبَه سُكْرُه فنام، فلمَّا كان وقتُ الصُّبح مات فجأةً. قال يحيى بن معاذٍ: الدنيا خَمْرُ الشيطان، مَن سكِرَ منها لم يُفقْ إلَّا في عَسْكَر الموتى نادمًا مع الخاسرين. وفي حديثٍ خرَّجه "الترمذي"
(1)
مرفوعًا: "ما مِن أحَدٍ يموتُ إلَّا نَدِمَ". قالوا: وما ندامتُه؟ قال: "انْ كان مُحسِنًا نَدِمَ أن لا يكونَ ازدادَ، وإن كان مسيئًا ندِمَ أن لا يكونَ اسْتَعْتَبَ"
(2)
. إذا ندِمَ المحسنُ عند الموت فكيف يكون حالُ المسيء. غايةُ أمنيَّةِ الموتى في قبورهم حياةُ ساعةٍ يستدركون فيها ما فاتهم من توبةٍ وعمل صالحٍ، وأهلُ الدنيا يفرطون في حياتهم فتذهَبُ أعمارهُم في الغَفْلَة ضَياعًا، ومنهم من يقطعُها بالمعاصِي. قال بعضُ السَّلف. أصبحتم في أمنيَّة ناس كثيرٍ، يعني أن الموتى كلَّهم يتمنَّون حياةَ ساعةٍ؛ ليتوبوا فيها ويجتهدوا في الطاعة، ولا سبيلَ لهم إلى ذلك، [وقد أنشد بعضهم]
(3)
:
لو قيل للقومِ ما مُنَاكُم طَلَبُوا
…
حياةَ يومٍ ليتوبُوا فاعْلَمِ
وَيْحَكِ يا نَفْسُ أَلَّا تيقُّظٌ
…
يَنْفَعُ قبلَ أن تزِلَّ قدمِي
(1)
رقم (2405) في الزهد، باب رقم 59، وإسناده ضعيف.
(2)
في الترمذي: "نزع".
(3)
زيادة من ش، ع.
مضَى الزَّمان في تَوَانٍ وَهَوَى
…
فاسْتدْرِكي ما قدْ بقي واغْتنمِي
الناس في التَّوبة على أقسامٍ:
فمنهم: من لا يوفَّقُ لتوبةٍ نَصُوحٍ، بل ييسَّر لَهُ عملُ السَّيِّئات من أوَّل عُمُرِه إلى آخره حتى يموت مُصِرًّا عليها، وهذه حالة الأشقياء. وأقبَحُ من ذلك من يُسِّر له في أول عمره عملُ الطاعات، ثم خُتِمَ له بعملٍ سيِّئٍ حتى مات عليه، كما في الحديث الصحيح
(1)
: "إِنَّ أَحَدَكُم لَيَعْمَلُ بعَمَل أَهْلِ الجنَّةِ، حتَّى ما يكونُ بينَهُ وبينَها إلَّا ذراع، فيسبِقُ عليه الكتابُ فيعمَلُ بعَمَلِ أَهْلِ النَّار فيدخلها".
وفي الحديث الذي خرَّجه أهل السنن: "إنَّ العَبْدَ لَيَعْمَلُ بعَمَلِ أَهلِ الجنَّة سبعين عامًا، ثم يحضُره الموتُ فيجورُ في وصيته فيدخل النار"
(2)
.
ما أصعَبَ الانتقالَ من البَصَر إلى العَمَى، وأصعَبُ منه الضلالةُ بعدَ الهدى، والمعصيةُ بعد التقى. كم من وجوهٍ خاشعةٍ وُقِّعَ على قصصِ أعمالِها:{عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}
(3)
. كم مَن شارَفَ مركَبُهُ ساحِل النَّجاة، فلمَّا هَمَّ أن يَرْتَقي
(4)
لعِبَ به مَوْجُ الهَوَى فغرِق. الخلْقُ كلهم تحتَ هذا الخطر. قلوبُ العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف يشاء.
قال بعضُهم: ما العجَبُ ممن هلك كيفَ هلك، إنما العجَبُ ممن نجا كيف نجا، وأنشد:
(1)
أخرجه البخاري 11/ 477 رقم (6594) في القدر: باب في القدر، وفي بدء الخلق: باب ذكر الملائكة، وفي الأنبياء: باب خلق آدم وذريته، وفي التوحيد: باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، ومسلم رقم (2643) في القدر: باب، كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وأبو داود رقم (4708) في السنة: باب في القدر، والترمذي رقم (2138) في القدر: باب ما جاء أن الأعمال بالخواتيم.
(2)
أخرجه أحمد في "المسند" 2/ 278 وأبو داود رقم (2867) والترمذي رقم (2117) وابن ماجه رقم (2704) في الوصايا.
(3)
سورة الغاشية الآية 3 و 4. وقد أخرج ابن كثير في "تفسيره" 4/ 502، عن أبي عمران الجوني، قال: مَرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدير راهب، قال: فناداه: يا راهب، فأشرف، قال: فجعل عمر ينظر إليه ويبكي، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله عز وجل في كتابه: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}، فذاك الذي أبكاني.
(4)
في ب، ط:"يَرْقَى".
يا قلبُ إلام تطالبُني
…
بلِقا الأحباب وقَدْ رَحَلُوا
أرسلتُكَ في طلبي لَهُمُ
…
لتعودَ فَضِعْتَ وما حَصَلُوا
سَلِّمْ واصْبِرْ واخْضَعْ لَهُمُ
…
كَمْ قَبْلَكَ مِثلكَ قَدْ قَتَلُوا
ما أحسَنَ ما علَّقْتَ بِهِ
…
آمالَكَ مِنْهُمْ لَوْ فَعَلُوا
(1)
وقسمٌ: يفني عمره في الغَفْلَة والبَطالة، ثم يوفقُ لعمل صالحٍ فيموت عليه، وهذه حالة من عَمِلَ بعمل أَهلِ النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبِق عليه الكتابُ فيعمَلُ بعملِ أهل الجنة فيدخلها.
الأعمالُ بالخواتيم، [وفي الحديث]
(2)
: "إذا أرادَ الله بعبْدٍ خَيْرًا عَسَلَه
(3)
، قالوا: وما عَسْلُه؟ قال: يوفِّقه لِعَمَلٍ صالحٍ ثم يقبِضُهُ عليه"
(4)
.
وهؤلاء منهم من يوقَظُ قبل موته بمدَّةٍ يتمكن فيها من التزوُّد بعملٍ صالحٍ يختم به عمرَه. ومنهم من يُوقَظُ عندَ حضور الموتِ فيُوفقُ لتوبةٍ نصوح يموت عليها. قالت عائشة رضي الله عنها: إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا قيَّضَ له مَلكًا قبل موته بعام فيُسدِّدُه وييسِّرُه حتى يموتَ وهو خير ما كان، فيقول الناس: مات فلانً خير ما كان.
وخرجه البزار
(5)
عنها مرفوعًا، ولفظُه: "إذا أراد الله بعبدٍ خَيْرًا بعث إليه ملكًا من عامِهِ الذي يموت فيه فيُسَدِّدُهُ وييسِّرُه، فإذا كان عند موته أتاه مَلَكُ الموت فقعد عند
(1)
هذا البيت ساقط في ب، وتقدم في (ط).
(2)
تكملة من ش، ع.
(3)
تحرفت في المطبوع إلى "غسله" بالغين. والعَسْلُ: طيبُ الثَّناء، مأخوذ من العَسَل. يقال: عَسَلَ الطعامَ يعسِلُه، إذا جَعَلَ فيه العَسَلَ. شبه ما رزقه الله تعالى من العمل الصالح الذي طابَ به ذكره بين قومه بالعسَل الذي يُجْعَل في الطعام فيَحْلَولى به ويطيب. (النهاية 3/ 237).
(4)
رواه أحمد في "المسند" 4/ 200 عن أَبي عنبة، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 215 برواية "غسله" بالغين، وقال:(رواه أحمد والطبراني، وفيه بقية، وقد صرح بالسماع في المسند، وبقية رجاله ثقات". وفي الباب من طريق زيد بن الحباب في "المسند" 5/ 224 وصحيح ابن حبان (1822) موارد، وعن عائشة عند الطبراني في الأوسط، وعن أَبي أمامة عند الطبراني (7522) و (7725). وانظر مجمع الزوائد 7/ 214 - 215 والترغيب 4/ 253 وصحيح الجامع الصغير للألباني رقم 304 - 307.
(5)
كنز العمال 15/ 695 وذكر حديثين في المعنى عن عائشة رضي الله عنها، الأول برقم (42785) مختصرًا، وعزاه إلى الديلمي في مسند الفردوس، والثاني برقم (4278) مطولًا، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في ذكر الموت. وانظر "إتحاف السادة المتقين" 10/ 273 - 274.
رأسه، فقال: أيتها النَّفْسُ المطمئنة أخْرُجي إلى مغفرةٍ من اللهِ ورضوانٍ، فذلك حين يُحِبُّ لقاءَ اللهِ، ويُحِبُّ الله لقاءَه. وإذا أراد الله بعبدٍ شرًّا بَعَثَ إليه شيطانًا من عامِهِ الذي يموت فيه فأغواه، فإذا كان عند موته أتاه مَلَكُ الموت فَقَعَدَ عند رأسِه، فقال: أيتها النفس الخبيثة، اخْرُجي إلى سخطٍ من الله وغَضَبٍ، فتتفرَّق في جسده، فذلك حين يُبغِضُ لقاءَ اللهِ، ويُبْغِضُ الله لقاءَه". وفي الدعاء المأثور: اللهم، اجعَلْ خيرَ عَمَلي خاتمتَه، وخيرَ عُمري آخِرَه.
وفي "المسند"
(1)
عن عبد الله بن عمرو بن العاصِي، قال: "مَن تابَ قَبْلَ مَوْتِهِ عامًا تِيبَ عليه، ومَن تاب قبل موته شهرًا تِيبَ عليه، حتى قال: يومًا، حتى قال: ساعةً، حتى قال: فُوَاقًا
(2)
. قال: قال له إنسانٌ: أرأيتَ إن كان مشركًا فأسلم؟ قال: إنما أحدِّثُكم ما سمِعْتُ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وفيه
(3)
أيضًا، عن عبد الرحمن البَيْلمانِيّ
(4)
، قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل يقبَلُ توبَةَ العَبْدِ قبْلَ أن يموتَ بيومٍ". قال الآخر: أنتَ سمِعْت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعيم. قال: وأنا سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"إن الله عز وجل يقبَلُ توبَةَ العَبْدِ قبْلَ أن يموتَ بنصف يومٍ". فقال الثالث: أنتَ سمِعْتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"إنَّ الله عز وجل يقبَلُ توبَةَ العبْدِ قبل أن يموتَ بضَحْوَةٍ". قال الرابع: أنت سمِعْتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمِعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"إنَّ الله عز وجل يقبَلُ توبَةَ العَبْدِ ما لم يُغَرْغِرْ بنفسِه".
(1)
المسند 6/ 202، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 197 وقال:(رواه) أحمد، وفيه راو لم يسم". وانظر تخريجه في مسند أحمد رقم (6920) بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر.
(2)
الفواق، بضم الفاء وفتحها: ما بين الحلبتين من الوقت.
(3)
مسند أحمد 3/ 425.
(4)
هو عبد الرحمن بن البَيْلماني، من مشاهير التابعين، يروي عن ابن عباس وابن عمر. لينه أبو حاتم، وقال الدارقطني: ضعيف لا تقوم به حجة، وذكره ابن حبان في الثقات. وقيل كان من كبار الشعراء. (ميزان الاعتدال 2/ 551).
وفيه
(1)
أيضًا: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنَّ الشيطان قال: وعِزَّتِكَ يا ربّ، لا أبرَحُ أغوِي عبادَك ما دامَتْ أرواحُهم في أجسادهم. فقال الرَّبُّ عز وجل: وعِزَّتي وجلالي، لا أزالُ أغفِرُ لهم ما استغفروني".
ذكر ابن أبي الدنيا
(2)
بإسنادٍ له: أنَّ رجلًا من ملوك البصرة كان قد تَنَسَّك، ثم مال إلى الدُّنيا والشيطانِ
(3)
، فبنَى دارًا وشيَّدها، وأمر بها ففُرِشَتْ له ونُجِّدَتْ، واتَّخَذَ مأدُبَةً، وصَنَعَ طعامًا وَدَعَا الناسَ، فجعلُوا يدخلون فيأكلون ويشربون وينظرون إلى بنائه ويَعجبون
(4)
منه، ويدْعُون له ويتفرَّقون. فمكَثَ بذلك أيامًا حتى فَرَغَ من أمر الناس. ثم جلس في نفرٍ من خاصَّة إخوانه
(5)
، فقال: قد ترون سُروري بداري هذه، وقد حدَّثت نفسي أن أتخذَ لكُل واحدٍ من ولدي مثلَها، فأقِيموا عندي أيامًا أستمتِع بحديثكم وأشاوِركم فيما أريد من هذا البناء لولدي، فأقاموا عندَه أيامًا يَلْهُون وَيلْعَبُون ويشاوِرُهم كيفَ يَبني لولده، وكيف يُريدُ أن يَصْنَعَ. فبينما هم ذاتَ ليلةٍ في لهوهم إذ سمعوا قائلًا يقول من أقاصي الدَّار:
يا أيُّها البانيُ النَّاسِي مَنِيَّتَهُ
…
لا تأمنَنَّ
(6)
فإنَّ المَوْتَ مكتُوبُ
على الخلائق إن سُرُّوا وإنْ فَرِحوا
…
فالموتُ حَتْفٌ لِذِي الآمالِ مَنْصُوبُ
لا تبنِيَنَّ دِيارًا لسْتَ تَسْكُنُها
…
وَرَاجِعِ النُّسْكَ كيما يُغْفَرَ الحُوبُ
(7)
قال: ففزِعَ من ذلك
(8)
وفزعَ أصحابُه فزعًا شديدًا، وراعَهُم ما سمِعوا من ذلك، فقال لأصحابه: هل سمِعْتم ما سمِعْتُ؟ قالوا: نعم. قال: فهل تجدون ما أجِدُ؟ قالوا: وما تجدُ؟ قال: أجدُ واللهِ مسْكَةً على قلبي
(9)
ما أراها إلا علَّة الموت. قالوا: كلا، بل البقاءُ والعافية. قال: فبكى، وقال: أنتم أخلَّائي وإخواني فما لي عندكم؟
(1)
قطعة من حديث طويل رواه أحمد في "المسند" 3/ 29 والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 134، والحاكم في "المستدرك" 4/ 261 وصححه ووافقه الذهبي.
(2)
أخرج الحكاية ابن قدامة المقدسي في كتابه "التوابين" عن ابن أبي الدنيا، بنحوه.
(3)
في آ، ش، ع:"والسلطان"، والمثبت من ب، ط.
(4)
في ش، ع:"ويتعجَّبون".
(5)
في ش: "وأصحابه".
(6)
في آ، ش:"لا تأمُلَنَّ".
(7)
الحُوب: الإثم.
(8)
في ب، ط:"لذلك"
(9)
في آ، ش، ع:"فؤادي"، وهما بمعنى.
قالوا: مُرْنا بما أحببتَ. قال: فأَمَرَ
(1)
بالشراب فأُهريقَ، وبالملاهي فأُخرجت. ثم قال: اللهم! إنِّي أُشهِدُك ومَنْ حَضَرَ من عبادِك أنِّي تائبٌ إليك من جميع ذُنوبي، نادِمٌ على ما فرطت أيامَ مُهلتي، وإياك أسألُ إن أَقَلْتَنِي
(2)
أن تُتِمَّ عليَّ نعمتَك بالإنابة إلى طاعتك، وإن أنت قبضتني إليك أن تغفِرَ لي ذنوبي تفضلًا منك عليَّ. واشتدَّ به الأمر فلم يزَلْ يقول: الموتُ واللهِ! الموتُ واللهِ! حتى خرجَتْ نفسُه
(3)
. فكان الفقهاءُ يرون أنَّه مات على توبةٍ.
وروى الواحدي
(4)
في كتاب "قتلى القرآن" بإسنادٍ له، أن رجلًا من أشراف أهل البصرة كان مُنحدِرًا إليها في سفينة ومعه جارية له، فشرب يومًا، وغنَّتْهُ جاريتُه بعودٍ لها، وكان معهم في السفينة فقيرٌ صالحٌ، فقال له: يا فتى! تُحسِنُ مثل هذا؟ قال: أحْسِنُ ما هو أحسَنُ
(5)
منه. وكان الفقيرُ حسَنَ الصَّوتِ، فاستفتح وقرأ:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}
(6)
، فرمَى الرجُلُ ما بيدِهِ من الشراب في الماء، وقال: أَشهدُ أن هذا أحسنُ مما سَمِعت، فهل غير هذا؟ قال: نعم، فتلا عليه:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}
(7)
، الآية. فوقعت من
(8)
قلبه مَوْقعًا، ورَمَى بالشراب في الماء، وكسَرَ العُودَ، ثم قال: يا فتى! هل هنا
(9)
(10)
، الآية. فصاح صَيْحَةً عظيمةً، فنظروا إليه فإذا هو قد مات رحمه الله.
(1)
في آ: "فأمرهم"، وفي ش، ع:"فأمرنا".
(2)
في ش، ع:"قبلتني". وأقال الله عثرته: أي صفح عنه وتجاوز.
(3)
في ب، ط:"روحه".
(4)
في آ، ش، ع:"عبد الواحد"، والمثبت من ب، ط. وهو علي بن أحمد بن محمد أبو الحسن الواحدي، مفسر، عالم بالأدب، له عدد كبير من المصنفات. توفي سنة 468 هـ -. (انظر سير أعلام النبلاء 18/ 339 ومصادر ترجمته) ولم تذكر المصادر كتابًا للواحدي بهذا الاسم، وإنما ذكرت له كتابًا في "علم فضائل القرآن".
(5)
في ش، ع "أحسن من هذا".
(6)
سورة النساء الآية 77 و 78.
(7)
سورة الكهف الآية 29.
(8)
في ب، ط:"في قلبه".
(9)
في آ، ط:"ها هنا".
(10)
سورة الزمر الآية 53.
وروى ابنُ أبي الدنيا بإسنادٍ له أن صالحًا المُرِّيَّ رحمه الله كان يومًا في مجلسه يقُصُّ على الناس، فقرأ عنده قارئ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}
(1)
، فذكر صالحٌ النار وحالَ العصاةِ فيها، وصِفَةَ سياقهم إليها، وبالَغَ في ذلك وبكى الناس، فقام فتىً كان حاضرًا في مجلسه، وكان مسرفًا على نفسه، فقال: أكُل هذا في القيامة؟ قال
(2)
صالح: نعم، وما هو أكثر
(3)
منه، لقد بلغني أنهم يصرُخُون في النار حتى تنقطِعَ أصواتُهم فلا يبقَى منهم إلَّا كهيئة الأنين من المريض المدنِفِ، فصاح الفتى: أيا لله
(4)
! وا غفلتاه عن نفسي أيام الحياة! وا أسفاه على تفريطي في طاعتك يا سيداه! وا أسفاه على تضييع عمري في دار الدنيا! ثم استقبل القِبْلَةَ، وعاهَدَ الله على توبةٍ نصوح، ودعا الله أن يتقبَّل منه وبكَى حتى غُشِي عليه، فَحُمِلَ من المجلس صريعًا، فمكث صالحٌ وأصحابُه يعودونه أيامًا، ثم مات، فحضره خَلْقٌ كثير، فكان صالحٌ يذكُرُه في مجلسه كثيرًا، ويقول: وبأبي قتيل القرآن! وبأبي قتيل المواعظ والأحزان! فرآه رجل في منامه، فقال: ما صنعتَ؟ قال: عمَّتْنِي بركةُ مجلسِ صالحٍ فدخلْتُ في سعة رحمة الله التي {وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}
(5)
.
مَن آلمتْهُ سِياطُ المواعظِ فصَاحَ فلا جُناحَ، ومن زاد ألمه فمات فدمُهُ مُبَاح.
قَضَى اللهُ في القَتْلَى قَصَاصَ دِمائِهِمْ
…
ولكِنْ دِمَاءُ العاشِقينَ
(6)
جُبَارُ
وبقي ها هنا قسمٌ آخرُ، وهو أشرفُ الأقسام وأرفعُها، وهو من يفني عمرَه في الطاعة، ثمَّ يُنبَّه على قرْب الأجلِ، لِيَجِدَّ في التزوُّد ويتهيَّأ للرحيل بعمل يصلُحُ لِلِّقاء ويكون خاتمةً للعمل. قال ابنُ عباس: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}
(7)
نُعِيتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسُه، فأخذ في أشدّ ما كان اجتهادًا في أمرِ الآخرة.
(1)
سورة غافر الآية 18.
(2)
في ب، ط:"فقال".
(3)
في ب، ط:"أكبر".
(4)
في آ: "أنا لله"، وفي ش، ع:"إنَّا لله".
(5)
سورة الأعراف الآية 156.
(6)
في آ، ش:"الخائفين". والجُبار من الدم: الهَدَرُ.
(7)
سورة النصر الآية 1.
قالت أم سلمة: كان النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعُد ولا يذهَبُ ولا يجيء إلَّا قال: "سبحان الله وبحمْدِه" فذكرْتُ ذلك له، فقال: "إنِّي أُمِرْتُ بذلك، وتلا هذه السورة.
وكان من عادته أن يعتكِفَ في كُلِّ عامٍ في رمضان عشرًا، ويعرِضُ القرآن على جبريلَ مرّةً، فاعتكَفَ في ذلك العام عشرين يومًا، وعرضَ القرآن مرتين، وكان يقولُ: ما أرى ذلك إلَّا لاقتراب أجلي. ثم حَجَّ حجةَ الوَدَاع، وقال للناس: خذوا عنِّي مناسِكَكَم، فلعلِّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا. وطفِقَ يودعُ الناس، فقالوا: هذه حجَّةُ الوَدَاع. ثم رجع إلى المدينة فخطب قبْلَ وصوله إليها، وقال: أيها الناس! إنَّما أنا بشر، يُوشِكُ أن يأتيَني رسولُ ربِّي فأجيبَ. ثم أمَرَ بالتمسُّك بكتاب الله، ثم توفي بعدَ وصوله إلى المدينة بيسير صلى الله عليه وسلم. إذا كان سيِّدُ المحسنين يُؤمَرُ أن يختِمَ عمرَه بالزِّيادة في الإحسان، فكيف
(1)
يكون حالُ المسيء. [دُو بَيْت]
(2)
.
خُذْ في جِدٍّ فقد تولَّى العُمرُ
…
كم ذا التفريطُ قَدْ تَدَانَى الأمْرُ
أَقبِلْ فعسَى يُقبَلُ منك العُذْر
…
كم تبنِي كم تنقُضُ كم ذا الغَدْرُ
مرِض بعضُ العابدين فوُصِف له دواءٌ يشرَبُه، فأُتي في منامه فقيل له: أتشرَبُ الدواءَ والحورُ العينُ لك تُهيَّأ؟ فانتبَهَ فزِعًا، فصلَّى في ثلاثة أيام حتى انحنى صُلْبُه، ثم مات في اليوم الثالث. كان رجل قد اعتزل وتعبَّد، فرأى في منامه قائلًا يقولُ له: يا فلان! ربُّك يدعوك فتجهَّزْ واخْرُج إلى الحجِّ، ولسْتَ عائدًا؛ فخرَجَ إلى الحج فمات في الطريق. رأَى بعضُ الصالحين في منامه قائلًا
(3)
يُنشِدُه:
تأهَّبْ للذي لا بُدَّ منهُ
…
من الموتِ المُوَكَّلِ بالعِبادِ
(1)
في ش، ع:"فكيف المسيء المفرط في عمره بالأماني والنسيان".
(2)
زيادة من ب، ط. والدُّوبَيْت: فن من فنون الشعر المعربة الخارجة على وزن أو تركيب البحور الستة عشر، نقل من الفارسية إلى العربية. وهي كلمة من كلمتين، الأول بمعنى اثنين، والثاني بمعناها العربي. ولا يقال منه إلا بيتان بيتان في أي معنى يريده الناظم.
(3)
في ع: "من ينشده"، وفي ش:"من ينشد"، وفي آ:"قائلًا ينشد".
أترضَى أن تكونَ رَفِيقَ قَوْمٍ
…
لَهُمْ زادٌ وأنتَ بغيرِ زادِ
(1)
خرَّج ابن ماجه من حديث جابرٍ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خَطَبَ، فقال في خطبته:"أيُّها الناس! توبوا إلى ربِّكم قبلَ أن تموتوا، وبادِروا بالأعمال الصالحة قبل أن تُشْغَلُوا". [وفي سنده ضعف]
(2)
. فأمر بالمبادرة بالتوبة قبل الموت. وكُلُّ ساعةٍ تمرُّ على ابن آدم فإنَّه يمكن أن تكونَ ساعةَ موتِه، بل كُلُّ نفسٍ، [كما قيل]
(3)
:
لا تأمَنِ الموتَ في طَرْفٍ ولا نَفَسٍ
…
ولو
(4)
تمنعْتَ بالحُجَّابِ والحَرَسِ
قال لقمان لابنه: يا بني! لا تؤخِّر التوبة؛ فإن الموت يأتي بغتة. وقال بعضُ الحكماء: لا تكن ممن يرجُو الآخرةَ بغير عَمَل، ويؤخرُ التوبَةَ لطول الأمَل.
إلى الله تب قبل انْقِضاءٍ
(5)
من العمر
…
أُخَيَّ ولا تأمَنْ مفاجأَةَ الأمر
(6)
ولا تستَصِمَّنْ عن دُعائي فإنَّما
…
دَعوتُك إشفاقًا عليك من الوِزرِ
فقد حَذَّرَتْكَ الحادِثاتُ نزولَها
…
ونادَتْكَ إلَّا أن سَمْعَكَ ذو وَقْرِ
تَنُوحُ وتبكي للأحبَّة إن مَضَوْا
…
ونَفْسَكَ لا تبكي وأَنْتَ على الإثْرِ
قال بعضُ السَّلف: أَصْبِحُوا تائبين، وأمسُوا تائبين. يشير إلى أنَّ المؤمن لا ينبغي أن يُصبحَ ويُمسِي إلَّا على تَوبةٍ؛ فإنَّه لا يدري متى يفجأه الموتُ صباحًا أو مساءً. فمن أصبَحَ أو أمسَى على غير توبةٍ، فهو على خَطَرٍ؛ لأنه يُخشَى أن يلقَى الله غيرَ تائبٍ، فيُحشَرَ في زمرة الظالمين، قال الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
(7)
.
[تُبْ من خطاياكَ وابْكِ خَشْيَةً
…
ما أثبت منها عليك في الكُتُبِ
(1)
لم يرد هذا البيت في ش، ع.
(2)
زيادة من المطبوع. وهو قطعة من حديث طويل عند ابن ماجه رقم (1081)، وإسناده ضعيف؛ لضعف على بن زيد بن جدعان وعبد الله بن محمد العدوي.
(3)
زيادة من ب، ط.
(4)
في ب، ط:"وإن".
(5)
في آ، ش، ع:"انقضائك للعمر".
(6)
في آ، ش:"ولا تأمنَنْ يومًا مفاجأة الأمر".
(7)
سورة الحجرات الآية 11.
أيَّةُ حالٍ تكون حال فتًى
…
صار إلى رَبِّه ولم يَتُبِ]
(1)
تأخيرُ التوبة في حال الشباب قبيحٌ، ففي حال المشيب أقبَحُ وأقبَحُ
(2)
.
نَعَى لكَ ظِلَّ الشباب المشيبُ
…
ونادتْكَ باسمِ سِواكَ الخطوبُ
فكُنْ مستعدًّا لداعِي الفَنَا
…
فكُل الذي هو آتٍ قريبُ
ألسْنا نَرَى شَهَواتِ النُّفو
…
سِ تَفْنَى وتبقَى علينا الذُّنوبُ
يخافُ على نفسِهِ مَن يتوبُ
…
فكَيفَ يكنْ حالُ من لا يتوبُ
(3)
فإن نزل المرضُ بالعبد فتأخيرُهُ للتوبة حينئذٍ أقبَحُ مِن كُل قبيحٍ؛ فإن المرض نذيرُ الموت. وينبغي لمن عاد مريضًا أن يذكِّره التوبةَ والاستغفارَ، فلا أحسَنَ من ختامِ العملِ
(4)
بالتوبة والاستغفار؛ فإنْ كان العملُ سيئًا كان كفارة له، وانْ كان حسنًا كان كالطابَع عليه. وفي حديث "سيد الاستغفار" المخرَّج في الصحيح
(5)
أن من قاله إذا أصبح وإذا أمسَى، ثم مات من يومِه أو ليلته، كان من أهل الجنَّة. ولْيُكْثِرْ في مرضِهِ من ذكرِ الله عز وجل، خصوصًا كلمة التوحيد؛ فإنه من كانت آخِرَ كلامِه دَخَلَ الجنة.
وفي حديث أبي سعيدٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنَّه: "مَن قال في مرضه: لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، لا إله إلا الله ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا بالله؛ فإنْ مات من
(6)
مرضه لم تَطْعَمْهُ
(1)
هذان البيتان لم يردا في ب، ط.
(2)
بعدها في ش، ع:"اللهم ألهمنا رشدنا".
(3)
في آ: "يكون الذي لا يتوب"، وفي ش، ع:"فكيف بحال من لا يتوب"، وأثبت ما جاء في ط.
(4)
في ط: "الأعمال".
(5)
"أخرجه البخاري" 11/ 97 رقم (6306) في الدعوات: باب أفضل الاستغفار، وباب ما يقول إذا أصبح، والترمذي رقم (3390) في الدعوات، باب رقم (15)، والنسائي 8/ 279 في الاستعاذة: باب الاستعاذة من شر ما صنع؛ عن شداد بن أوس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"سيِّد الاستغفار: أن يقول العبدُ: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدِك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي ذنوبي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النهار موقنًا بها، فمات من يومه قبل أن يُمسيَ، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة".
(6)
في آ، ش، ع:"في مرضه".
النَّار". خرَّجه النسائي وابنُ ماجه والترمذي
(1)
وحسَّنَه.
وفي رواية للنسائي: "من قالهن في يومٍ أو في ليلةٍ أو في شهرٍ، ثم مات في ذلك اليوم أو في تلك الليلة أو في ذلك الشهر، غُفِرَ له ذنبه". ويُروى من حديث حذيفةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ خُتم له بقولِ لا إله إلَّا الله دخل الجنَّة، ومن خُتِمَ له بصيام يومٍ أراد به وَجْهَ الله أدخلَه الله الجنة، ومَنْ
(2)
خُتِمَ له بإطعام مسكينٍ أراد به وَجْهَ اللهِ أدخلَه الله الجنة"
(3)
.
كان السَّلَفُ يرون أن من مات عقيب
(4)
عمل صالح كصيامِ رمضانَ، أو عقيبَ حجٍّ أو عمرةٍ، أنَّه يرجى له أن يدخلَ الجنة. وكانوا مع اجتهاهم في الصحة في الأعمال الصالحة يجددون التوبة والاستغفار عند الموت، ويختِمُون أعمالَهم بالاستغفار وكلمةِ التوحيد.
لما احتُضِر العلاء بن زيادٍ
(5)
بكَى، فقيل له: ما يُبكيكَ؟ قال: كنْتُ واللهِ أُحِبُّ أن أستقبلَ الموت بتوبةٍ. قالوا: فافعل رحمكَ الله. فدعا بِطَهُور فتطهَّر، ثم دعا بثوب له جديدٍ فلبسه، ثم استقبل القبلة، فأومأ برأسِه مرتين أو نحو ذلك، ثم اضطجع ومات. ولما احتُضِر عامر بن عبد الله بكَى، وقال: لمثل هذا المصرعِ فليعملِ العاملون، اللهم! إنِّي أستغفِرك من تقصيري وتفريطي، وأتوبُ إليك من جميع ذنوبي، لا إله إلَّا الله. ثم لم يزل يردِّدُها حتى مات رحمه الله. وقال عمرو بن العاص
(1)
أخرجه الترمذي رقم (3426) في الدعوات: باب ما يقول العبد إذا مرض، وابن ماجه رقم (3794) في الأدب: باب فضل الذكر، وحسنه الترمذى، ورواه ابن حبان في "صحيحه" رقم (2325) موارد.
(2)
من هنا وحتى قوله: "أدخله الله الجنة" ساقط في، آ، ش.
(3)
رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص 303 - 304. وأورد السيوطي في "الجامع الصغير" قوله: "من ختم له بصيام يوم دخل الجنة"، وعزاه إلى البزار عن حذيفة. وذكره الألباني في "صحيح الجامع". برقم (6224). ورواه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" 1/ 219.
(4)
في ب، ط:"عقب".
(5)
هو العلاء بن زياد بن مطر، أبو نصر العدوي، البصري، القدوة العابد، أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه الحسن البصري. وكان ربَّانيًا تقيًا قانتًا لله، بكَّاءً من خشية الله، مات سنة 94 هـ. (سير أعلام النبلاء 4/ 202، صفة الصفوة 3/ 253).
رحمه الله عند موته: اللهم! أمرتنا فعصَيْنا، ونهيتنا فركبنا، ولا يسَعُنا إلَّا عفوُك، لا إله إلَّا الله. ثم ردَّدها حتى مات. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته: أجلِسُوني، فأجلَسُوه، فقال: أنا الذي أمرْتَني فقصَّرْتُ، ونهيتني فعصيْتُ، ولكنْ لا إله إلَّا الله، ثم رَفَعَ رأسه فأحَدَّ النظر، فقالوا له: إنك تنظر نظرًا شديدًا يا أميرَ المؤمنين، قال: إنِّي
(1)
أرى حضرة ما هم بأنسٍ ولا جنٍّ، ثم قُبِضَ رحمةُ الله عليه. وسمِعوا تالِيًا يتلو:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
(2)
.
يا غافِلَ القَلْبِ عن ذِكْرِ المَنِيَّاتِ
…
عمَّا قليل سَتَثْوِي بينَ أَمْواتِ
فاذكُرْ مَحَلَّكَ مِن قَبْلِ الحُلُول بهِ
…
وتُبْ إلى اللهِ مِنْ لهوٍ ولذَّاتِ
إنَّ الحِمام لَهُ وَقْتٌ إلى أَجَلٍ
…
فاذْكُرْ مَصَائِبَ أيَّامٍ وَسَاعَاتِ
لا تطمئِنَّ إلى الدُّنيا وَزِينتِها
…
قَدْ حَانَ للموْتِ يا ذا اللبِّ أن يأتي
التَّوْبَةَ التَّوْبَةَ قبل أن يصلَ إليكم من الموت النَّوْبَة، فيحصل المفرط على الندم والخيبة.
الإنابةَ الإنابةَ قبلَ غَلْقِ باب الإِجابة. الإفاقةَ الإفاقةَ؛ فقد قَرُبَ وقْتُ الفاقَة. ما أحسَنَ قَلَقَ التُّوَّاب! ما أَحْلَى قدومَ الغُيَّاب! ما أجمَلَ وقوفَهم بالباب!
أَسَأْتُ ولم أُحْسِنْ وجئتُكَ تائبًا
(3)
…
وأَنَّى لعبْدٍ من مواليهِ مَهْرَبُ
يُؤمِّلُ غُفرانًا فإنْ خَابَ ظَنُّه
…
فما أحَدٌ منهُ على الأرضِ أَخْيَبُ
مَن نزل به الشيبُ فهو بمنزلة الحامِل التي تمَّتْ شهورُ حَمْلِها، فما تنتظر إلَّا الولادة، كذلك صاحبُ الشيب لا ينتظر غير الموت؛ فقبيحٌ منه الإصرارُ على الذنب
(4)
.
(1)
في ب، ط:"أتاني حضرة".
(2)
سورة القصص الآية 83.
(3)
ب، ط:"هاريًا".
(4)
بعدها في ش، ع:"حينئذٍ".
أيُّ شيءٍ تُرِيدُ منِّي الذُّنوبُ
…
شَغُفَتْ بي فليس عنِّي تَغِيبُ
ما يَضُرُّ الذُّنوبَ لو أعتقتني
…
رحمةً بي فقد عَلاني المشيبُ
ولكن توبة الشابّ أحسَنُ وأفضَلُ. في حديث مرفوعٍ خرَّجه ابنُ أبي الدنيا: "إنَّ الله يحبُّ الشاب التائب". قال عُمير
(1)
بن هانئٍ: تقولُ التوبةُ للشاب: أهلًا ومرحبًا، وتقول للشيخ: نقبَلُكَ على ما كان منك. الشابُ ترك المعصية مع قوَّة الدَّاعي إليها، والشيخُ قد ضعُفت شهوته وقلَّ داعيه فلا يستويان. وفي بعض الآثار، يقول الله عز وجل: أيُّها الشاب، التارك شهوتَه، المبتذِلُ شبابَه لأجلي، أنتَ عندي كبعض ملائكتي. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعاصِي ولا يعملون بها {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}
(2)
. كم بين حال الذي {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}
(3)
وبين شيخ عِنَينٍ يُدعَى لمثل ذلك فيجيب.
كان عمر يَعُسُّ
(4)
بالمدينة فسمِعَ امرأة غاب عنها زوجُها تقول
(5)
:
تطاول هذا الليلُ واسْوَدَّ
(6)
جانبُهْ
…
وأرَّقنِي أن لا خَلِيل ألاعِبُهْ
فواللهِ لولا اللهُ لا شيءَ
(7)
غيرُهُ
…
لَحُرِّكَ مِن هذا السَّرير جوانِبُهْ
ولكنَ تَقْوَى اللهِ عَنْ ذا تَصُدُّني
…
وحِفظًا لِبَعْلِي أن تنالَ مراكبُهْ
(8)
ولكنَّني أَخْشَى رَقيبًا موكّلًا
…
بأنْفُسِنا لا يَفْتُرُ الدَّهْرَ كاتِبُه
(9)
فقال لها عمر: يرحمك الله! ثم بعث إلى زوجها فأمرَه أَن يقدُمَ عليها، وأمَرَ أن
(1)
هو عُمير بن هانئ العبسي الداراني، أبو الوليد الشامي، تابعي ثقة، سمع معاوية وابن عمر وأبا هريرة، وطائفة، وحديثه عن معاوية في الصحيحين. قال له سعيد بن عبد العزيز: أرى لسانك لا يفتر من ذكر الله عز وجل، فكم تسبِّح كل يوم؟ قال: مائة ألف إلا أن تخطئ الأصابع. قتل عمير صبرًا بداريًا أيام فتنة الوليد؛ لأنه كان يحرِّض على قتله، وذلك سنة 127 هـ. (سير أعلام النبلاء 5/ 421، صفة الصفوة 9/ 214).
(2)
سورة الحجرات الآية 3.
(3)
سورة يوسف الآية 23.
(4)
في آ، ش، ع:"ليس المدينة ليلًا".
(5)
الأبيات مع اختلاف في الرواية في "المستظرف" ص 397، وتفسير القرطبي 3/ 108.
(6)
في آ، ش، ع:"تسري جوانبه".
(7)
في ش، ع:"لا ربَّ".
(8)
هذا البيت لم يرد في آ، ش، ع.
(9)
هذا البيت لم يرد في ب، ط، وهو زيادة من آ، ش، ع.
لا يغيبَ أَحدٌ عن امرأته أكثرَ من أربعة
(1)
أشهر وعشرًا. الشيخ قد تركته الذنوب فلا حمدَ له على تركها، كما قيل:
تارَكَكَ الذنبُ فتارَكْتَهُ
…
بالفِعْل والشَّهوةُ في القلبِ
فالحمْدُ للذَّنْبِ عَلَى تَرْكِهِ
…
لا لَكَ في تركِكَ للذَّنْبِ
أما تستحِي منَّا لما أعرضَتْ لذَّاتُ الدُّنيا عنك فلم يبقَ لك فيها رغبةُ، وصِرْتَ من سَقَطِ المتاع لا حَاجةَ لأحدٍ فيك، جئت إلى بابنا فقلْتَ: أنا تائبٌ، ومع هذا فكُلُّ من أوى إلينا آويناه، وكلّ من استجارَ بنا أجرْناه، ومَن تابَ إلينا أحببناه. أبشر، فربَّما يكون الشَّيبُ شافعًا لصاحبه من
(2)
العقوبات. مات شيخ كان مفرطًا، فرؤي في المنام، فقيل له: ما فَعَلَ الله بك؟ قال: قال لي: لولا أنَّك شيخٌ لعذبتك. وقف شيخٌ بعرفَةَ والناسُ يضِجُّون بالدُّعاء وهو ساكت، ثم قبض على لحيته وقال: ياربِّ، شيخ ياربِّ، شيخ يرجُو رحمتك.
لمَّا أتونا
(3)
والشَّيْبُ شافعُهُمْ
…
وقَدْ تَوالَى عليهم الخَجَلُ
قُلْنا لِسُودِ الصَّحائف انْقَلِبي
…
بِيضًا فإنَّ الشُّيوخَ قد قُبِلُوا
كان بعضُ الصالحين يقول:
إن الملوك إذا شابَتْ عبيدُهُمُ
…
في رِقِّهِم عتقُوهُم عِتْقَ أبرارِ
وأنتَ يا خالِقي أَوْلَى بِذَا كَرَمًا
…
قد شِبْتُ في الرِّقِّ فاعْتِقنِي مِنَ النَّارِ
أيها العاصي، ما يقطعُ من صلاحِك الطمَعْ، ما نصبنا اليوم شَرَكَ المواعِظِ إلَّا لِتَقَعْ. إذا خرجْتَ من المجلس وأنتَ عازِمٌ على التوبة، قالت لك ملائكة الرحمة: مرحبًا وأهلًا
(4)
، فإن قال لك رفقاؤك في المعصية: هلُمَّ إلينا، فقل لهم: كلَّا، ذاك خَمْرُ الهَوَى الذي عهدتموه قد استحال خَلَّا. يا مَن سوَّد كتابَهُ بالسيئات قد آن لكَ
(1)
في آ، ش، ع:"ستة أشهر"، وفي المستظرف "أربعة أشهر"، وليس فيه "وعشر".
(2)
في آ، ش، ع:"في العفو".
(3)
في آ، ش، ع:"لمَّا أتوا".
(4)
في ب، ط:"مرحبًا وسهلًا".
بالتَّوبة أن تمحُو. يا سكرانَ القلبِ بالشهوات أما آن لفؤادِك أن يصحُو.
يا نداماي صَحَا القلب صَحَا
…
فاطرُدُوا عنِّي الصِّبَا والمَرَحا
زَجَرَ الوعْظُ فؤادِي فارْعَوى
…
وَأَفَاقَ القلْبُ منِّي وصَحَا
هَزَمَ العَزْمُ جُنودًا للهوى
…
فاسِدِي لا تَعْجَبُوا إن صَلَحَا
بادِروا التَّوْبَةَ مِن قَبْلِ الرَّدى
…
فمُنَادِيهِ يُنادِينا الوَحَا
(1)
* * *
آخر الكتاب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ووافق الفراغ من كتابته
…
سنة ثلاث وأربعين وثمانمائة للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وذلك على يد
…
سليمان بن حسن بن سليمان العرابي
…
بقرية يَلْدَان من غوطة دمشق المحروسة حماها الله تعالى وسائر بلاد المسلمين بمنّه وكرمه. آمين.
(1)
الوَحَا: السرعة، يمدّ ويقصر، ويقال: الوَحَا الوَحَا، البدارَ البدارَ.